|
|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (11) من صــ 310 الى صــ 317 فَصْلٌ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ. وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ بَلْ عَبَّرُوا عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَاتِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا آدَمُ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ. وَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ الْأَلْفَاظِ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتُ؛ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولكن هؤلاء الذين أطلقوا من الجهمية والمعتزلة أن الاسم غير المسمى مقصودهم أن أسماء الله غيره؛ وما كان غيره فهو مخلوق. ولهذا قالت الطائفة الثالثة: لا نقول هي المسمى ولا غير المسمى. فيقال لهم: قولكم إن أسماءه غيره مثل قولكم إن كلامه غيره وإن إرادته غيره ونحو ذلك وهذا قول الجهمية نفاة الصفات وقد عرفت شبههم وفسادها في غير هذا الموضع؛ وهم متناقضون من وجوه كما قد بسط في مواضع. فإنهم يقولون: لا نثبت قديما غير الله؛ أو قديما ليس هو الله حتى كفروا أهل الإثبات وإن كانوا متأولين كما قال أبو الهذيل: إن كل متأول كان تأويله تشبيها له بخلقه وتجويزا له في فعله وتكذيبا لخبره فهو كافر؛ وكل من أثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو كافر ومقصوده تكفير مثبتة الصفات والقدر ومن يقول إن أهل القبلة يخرجون من النار ولا يخلدون فيها. فمما يقال لهؤلاء: إن هذا القول ينعكس عليكم فأنتم أولى بالتشبيه والتجويز والتكذيب؛ وإثبات قديم لا يقال له الله فإنكم تشبهونه بالجمادات بل بالمعدومات بل بالممتنعات وتقولون إنه يحبط الحسنات العظيمة بالذنب الواحد؛ ويخلد عليه في النار وتكذبون بما أخبر به من مغفرته ورحمته وإخراجه أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وإنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأنتم تثبتون قديما لا يقال له الله فإنكم تثبتون ذاتا مجردة عن الصفات ومعلوم أنه ما ليس بحي ولا عليم ولا قدير؛ فليس هو الله فمن أثبت ذاتا مجردة فقد أثبت قديما ليس هو الله وإن قال أنا أقول إنه لم يزل حيا عليما قديرا فهو قول مثبتة الصفات؛ فنفس كونه حيا ليس هو كونه عالما ونفس كونه عالما ليس هو كونه قادرا ونفس ذلك ليس هو كونه ذاتا متصفة بهذه الصفات فهذه معان متميزة في العقل ليس هذا هو هذا. فإن قلتم هي قديمة فقد أثبتم معاني قديمة؛ وإن قلتم هي شيء واحد جعلتم كل صفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف فجعلتم كونه حيا هو كونه عالما وجعلتم ذلك هو نفس الذات ومعلوم أن هذا مكابرة وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى وهو سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء. فهو المسمي نفسه بأسمائه الحسنى كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه لما سئل عن قوله: {وكان الله عزيزا حكيما} {غفورا رحيما} فقال هو سمى نفسه بذلك وهو لم يزل كذلك؛ فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى وأنه هو الذي سمى نفسه بها. فإذا قلتم إن أسماءه أو كلامه غيره فلفظ " الغير " مجمل؛ إن أردتم أن ذلك شيء بائن عنه فهذا باطل؛ وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر فقد يذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ بكل معاني أسمائه؛ بل ولا يخطر له حينئذ أنه عزيز وأنه حكيم فقد أمكن العلم بهذا دون هذا؛ وإذا أريد بالغير هذا فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان؛ لكونه قد يعلم هذا دون هذا وذلك لا ينفي التلازم في نفس الأمر فهي معان متلازمة لا يمكن وجود الذات دون هذه المعاني ولا وجود هذه المعاني دون وجود الذات. واسم " الله " إذا قيل الحمد لله أو قيل بسم الله يتناول ذاته وصفاته لا يتناول ذاتا مجردة عن الصفات ولا صفات مجردة عن الذات وقد نص أئمة السنة - كأحمد وغيره - على أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه فلا يقال: إن علم الله وقدرته زائدة عليه؛ لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات. وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة فهو صحيح؛ فإن أولئك قصروا في الإثبات فزاد هذا عليهم وقال الرب له صفات زائدة على ما علمتموه. وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر فهو كلام متناقض؛ لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال إن الصفات زائدة عليها؛ بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتا من الصفات ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات فتخيل وجود أحدهما دون الآخر ثم زيادة الآخر عليه تخيل باطل. وأما الذين يقولون: إن " الاسم للمسمى " كما يقوله أكثر أهل السنة فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} وقال: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " {وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لي خمسة أسماء: أنا محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب} " وكلاهما في الصحيحين. وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا؛ فقالوا: ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى؛ وإذا قيل إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا له فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق وأسماؤه من كلامه؛ وليس كلامه بائنا عنه ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا مثل أن يسمي الرجل غيره باسم أو يتكلم باسمه. فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى؛ لكن المقصود به المسمى فإن الاسم مقصوده إظهار " المسمى " وبيانه. وهو مشتق من " السمو " وهو العلو كما قال النحاة البصريون وقال النحاة الكوفيون هو مشتق من " السمة " وهي العلامة وهذا صحيح في " الاشتقاق الأوسط " وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما فإنه في كليهما (السين والميم والواو والمعنى صحيح فإن السمة والسيما العلامة. ومنه يقال: وسمته أسمه كقوله: {سنسمه على الخرطوم} ومنه التوسم كقوله: {لآيات للمتوسمين} لكن اشتقاقه من " السمو " هو الاشتقاق الخاص الذي يتفق فيه اللفظان في الحروف وترتيبها ومعناه أخص وأتم فإنهم يقولون في تصريفه سميت ولا يقولون وسمت وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصغيره سمي لا وسيم. ويقال لصاحبه مسمى لا يقال موسوم وهذا المعنى أخص. " فإن العلو مقارن للظهور " كلما كان الشيء أعلى كان أظهر وكل واحد من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء} " ولم يقل فليس أظهر منك شيء؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية؛ فقال: " فليس فوقك شيء ". ومنه قوله: {فما اسطاعوا أن يظهروه} أي يعلوا عليه. ويقال ظهر الخطيب على المنبر إذا علا عليه. ويقال للجبل العظيم علم؛ لأنه لعلوه وظهوره يعلم ويعلم به غيره. قال تعالى: {ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام}. وكذلك " الراية العالية " التي يعلم بها مكان الأمير والجيوش يقال لها علم وكذلك العلم في الثوب لظهوره كما يقال لعرف الديك وللجبال العالية أعراف لأنها لعلوها تعرف فالاسم يظهر به المسمى ويعلو؛ فيقال للمسمى: سمه: أي أظهره وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به؛ لكن يذكر تارة بما يحمد به ويذكر تارة بما يذم به كما قال تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وقال: {ورفعنا لك ذكرك} وقال: {وتركنا عليه في الآخرين} {سلام على نوح في العالمين}. وقال في النوع المذموم: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} وقال تعالى: {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون}. فكلاهما ظهر ذكره؛ لكن هذا إمام في الخير وهذا إمام في الشر. وبعض النحاة يقول: سمي اسما لأنه علا على المسمى؛ أو لأنه علا على قسيميه الفعل والحرف؛ وليس المراد بالاسم هذا بل لأنه يعلى المسمى فيظهر؛ ولهذا يقال سميته أي أعليته وأظهرته فتجعل المعلى المظهر هو المسمى وهذا إنما يحصل بالاسم. ووزنه فعل وفعل وجمعه أسماء كقنو وأقناء وعضو وأعضاء. وقد يقال فيه سم وسم بحذف اللام. ويقال: سمى كما قال: والله أسماك سما مباركا. وما ليس له اسم فإنه لا يذكر ولا يظهر ولا يعلو ذكره؛ بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف؛ ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمى وعلم على المسمى ونحو ذلك. ولهذا كان " أهل الإسلام والسنة " الذين يذكرون أسماء الله يعرفونه ويعبدونه ويحبونه ويذكرونه ويظهرون ذكره. " والملاحدة ": الذين ينكرون أسماءه وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته ومحبته وذكره؛ حتى ينسوا ذكره {نسوا الله فنسيهم} {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}. والاسم يتناول اللفظ والمعنى المتصور في القلب وقد يراد به مجرد اللفظ وقد يراد به مجرد المعنى فإنه من الكلام؛ " والكلام " اسم للفظ والمعنى، وقد يراد به أحدهما؛ ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره لكن ذكره بهما أتم. والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه وأمر بالتسبيح باسمه كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى؛ فيدعى بأسمائه الحسنى ويسبح اسمه وتسبيح اسمه هو تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم المسمى؛ كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى. قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. والله تعالى يأمر بذكره تارة وبذكر اسمه تارة؛ كما يأمر بتسبيحه تارة وتسبيح اسمه تارة؛ فقال: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} {واذكر ربك في نفسك} وهذا كثير. وقال: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} كما قال: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه}. لكن هنا يقال: بسم الله؛ فيذكر نفس الاسم الذي هو " ألف سين ميم " وأما في قوله: {واذكر اسم ربك} فيقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. وهذا أيضا مما يبين فساد قول من جعل الاسم هو المسمى. وقوله في الذبيحة {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} كقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وقوله: {بسم الله مجراها ومرساها} فقوله: {اقرأ باسم ربك} هو قراءة بسم الله في أول السور.
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (14) من صــ 332 الى صــ 338 وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره؛ لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ وهذا لما صنف الدارقطني مصنفا في ذلك قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائما لكان الصحابة ينقلون ذلك ولكان الخلفاء يعلمون ذلك ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر ولما كان أهل المدينة - وهم أعلم أهل المدائن بسنته - ينكرون قراءتها بالكلية سرا وجهرا والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله وليست من الفاتحة ولا غيرها. وقد تنازع العلماء: هل هي آية أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال. والقول الثالث: هو أوسط الأقوال وبه تجتمع الأدلة فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها}. وثبت في الصحيح {أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} فهذا أول ما نزل ولم ينزل قبل ذلك بسم الله الرحمن الرحيم. وثبت عنه في السنن أنه قال: {سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تبارك الذي بيده الملك} وهي ثلاثون آية بدون البسملة}. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: {يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}. فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة ولم يعارضه حديث صحيح صريح. وأجود ما يرى في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة لا يدل على أنها منها؛ ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة ومنهم من لا يقرأ بها. فدل على أن كلا الأمرين سائغ لكن من قرأ بها كان قد أتى بالأفضل وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن حتى أنهم لم يكتبوا التأمين ولا أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا غير ذلك. مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن فإذا جمع بين الأدلة الشرعية دلت على أنها من كتاب الله وليست من السورة. والحديث الصحيح عن {أنس ليس فيه نفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} أو فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم} ورواية من روى " فلم يكونوا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا آخرها " إنما تدل على نفي الجهر لأن أنسا لم ينف إلا ما علم وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم سرا. ولا يمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت؛ بل يصل. التكبير بالقراءة فإنه قد ثبت في الصحيحين {أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول}. ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور وهذا أيضا ضعيف فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرءون الفاتحة قبل السورة ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ومن روى عن أنس أنه شك هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ البسملة أو لا يقرؤها فروايته توافق الروايات الصحيحة لأن أنسا لم يكن يعلم هل قرأها سرا أم لا وإنما نفى الجهر. (الحمد لله رب العالمين (2) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: والحمد ضد الذم. والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه ; فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة. وأول ما نطق به آدم: [الحمد لله رب العالمين]، وأول ما سمع من ربه: يرحمك ربك، وآخر دعوى أهل الجنة: أن الحمد لله رب العالمين، وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه، وهو صاحب المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون. فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود. وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده، وآخره عبادته، أوله: {الحمد لله رب العالمين}، وآخره: {إياك نعبد}. كما ثبت في حديث القسمة: " يقول الله - تبارك وتعالى -: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين} ; فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: {الرحمن الرحيم}، فيقول الله تعالى: أثنى علي عبدي، يقول العبد: {مالك يوم الدين} فيقول الله - تبارك وتعالى -: مجدني عبدي، يقول العبد: {إياك نعبد وإياك نستعين}، فيقول الله تعالى: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة. يقول الله تعالى: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» رواه مسلم [في صحيحه]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أفضل ما قلت: أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» " فجمع بين التوحيد والتحميد. كما قال تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} [سورة غافر 65]. وكان ابن عباس يقول: إذا قلت: لا إله إلا الله، فقل: الحمد لله رب العالمين، يتأول هذه الآية. وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» ". وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ". وقال أيضا: " «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» ". فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ; ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين، وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله، وآخره الشهادتان، ولا يكون الثناء إلا على محبوب، ولا التأله إلا لمحبوب، وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة.
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (15) من صــ 339 الى صــ 345 وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه، فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه، كما قال أفضل الخلق: " «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» "فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه، ولا ثناء إلا بحب، ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه، وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه، فهو يحب المقسطين والمحسنين، والصابرين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويفرح بتوبة التائبين، كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه ; فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله ; فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله، فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته؟!. إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه، وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها. فما خلق شيئا إلا لحكمة، وهو سبحانه قد قال: {أحسن كل شيء خلقه} [سورة السجدة: 7]، وقال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [سورة النمل: 88]. وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ; ولهذا كانت كلها حسنى، والحسنى بخلاف السوأى، فكلها حسنة، والحسن محبوب ممدوح. فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه، وذلك أمر ممدوح، ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده ; لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله، فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة، ويمتنع وجود المولود -مع كونه مولودا - بلا ولادة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، حديث الاستفتاح: " «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك» " وقد قيل: في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها، وقد قيل: لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: والحمد مفتاح كل أمر ذي بال: من مناجاة الرب ومخاطبة العباد بعضهم بعضا والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير فهي في الأذان وفي الخطب خاتمة الثناء فتذكر بعد التكبير ثم يخاطب الناس بقول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح وتذكر في الخطب ثم يخاطب الناس بقول: أما بعد وتذكر في التشهد ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق والحمد له الابتداء. فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد فإنه عطس وقال: الحمد لله رب العالمين فقال الله: يرحمك ربك وكان أول ما نطق به الحمد وأول ما سمع من الله الرحمة وبه افتتح الله أم القرآن والتشهد هو الخاتمة. فأول الفاتحة {الحمد لله} وآخر ما للرب {إياك نعبد}. وكذلك التشهد. والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة. فأن يتضمن إلهية الرب وهو أن يكون الرب هو المعبود هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله ويكون من الخلق. وهو باق في الجنة: فآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين بخلاف العبادة. فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة كما يلهمهم النفس. وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام والرب تعالى يحمد نفسه ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية والحمد يفتح به ويختم به. فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} وقال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وقال: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وسئل: عن " الحمد والشكر " ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أي شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، " الحمد " يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وقال: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة} وقال: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء}. وأما " الشكر " فإنه لا يكون إلا على الإنعام فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة: يدي ولساني والضمير المحجبا ولهذا قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا}. و " الحمد " إنما يكون بالقلب واللسان فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه والحمد أعم من جهة أسبابه ومن هذا الحديث {الحمد لله رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} والله أعلم. تلخيص مناظرة في " الحمد والشكر " بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل كان الكلام في الحمد والشكر وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان. فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين - وسماه -: أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد والقول والعمل وبنوا على هذا: أن من ترك الأعمال يكون كافرا. لأن الكفر نقيض الشكر فإذا لم يكن شاكرا كان كافرا. قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكي عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ.
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (16) من صــ 346 الى صــ 352 فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل. قال الله تعالى: {اعملوا آل داود شكرا} {وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا}. قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل وأسلم ضعف هذا القول؛ لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة. قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ فإن القول إذا ثبت ضعفه كيف ينسب إلى أهل الحق؟ ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا}. ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟. قال ابن المرحل: - هذا قد نقل والنقل لا يمنع لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل. قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا أو مذهب أهل السنة كذا قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرا. ألا ترى أن كثيرا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط لا من جهة النص؟. وكذلك هذا لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي والخوارج يكفرون بالمعاصي. ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر -: أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرا لزم انتفاء الشكر بانتفائها ومتى انتفى الشكر خلفه الكفر ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزي إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر. قلت: كما أن كثيرا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة. قال: وهذا خطأ لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله. قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله فمن ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد. ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة - التي هي ذات شعب وأجزاء - زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها. قال الصدر ابن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة كما خالفوا الخوارج في جعله كافرا بالله. قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة حيث أطلقته الشريعة. قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا. قال الشيخ تقي الدين: - ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق - مثل ترك الصلاة. وقتال المسلمين - على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة. فعلم أنهم موافقو الحسن لا مخالفوه. ثم عاد ابن المرحل فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع لكن يستشكل. قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق مع أنهم صرحوا في غير موضع: أن الشكر يكون بالقول والعمل والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه. ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق: إخراج الأعمال أن تكون شكرا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل. وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ " الحمد " " والشكر " مثل كتب التفسير واللغة وشروح الحديث يعرفه آحاد الناس. والكتاب والسنة قد دلا على ذلك. فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا فقال: - الحسن البصري يسمى الفاسق منافقا وأصحابك لا يسمونه منافقا. قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقا النفاق الأصغر لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات. قال له ابن المرحل: - ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟. قال الشيخ تقي الدين: - هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره. وحكوه عن العلماء. وقال غير واحد من السلف " كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك ". وإذا كان النفاق جنسا تحته نوعان فالفاسق داخل في أحد نوعيه. قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس وقد جعلته لفظا مشتركا وإذا كان اسم جنس كان متواطئا والأسماء المتواطئة غير المشتركة فكيف تجعله مشتركا متواطئا ". قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك. وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا والإطلاق أعم. ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئين بطريق التواطؤ وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر وإبطان المعصية تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن عند قوم باعتبار الاشتراك وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمي مشككا. قال ابن المرحل: - كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره. قال له الشيخ تقي الدين: - المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز واللفظ يطلق على كل منهما فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين. فيكون لفظا متواطئا. قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعا للقدر المشترك ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز. وقد يكون قرينة مثل لام التعريف أو الإضافة تكون هي الدالة على ما به الامتياز مثال ذلك: " اسم الجنس " إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة إذا غلب على الفرس قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينها وبين سائر الدواب. فيكون متواطئا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علما بالغلبة: مثل ابن عمرو والنجم فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم ومن بني عمرو.
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (17) من صــ 353 الى صــ 359 فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي. وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام فيكون بطريق التواطؤ وبالوضع الثاني فيصير بطريق الاشتراك. ولفظ " النفاق " من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين. ثم إبطان ما يخالف الدين إما أن يكون كفرا أو فسقا. فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقا. فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ. وعلى هذا؛ فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين مثل قوله {إن المنافقين في الدرك الأسفل} و {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} والمنافق هنا: الكافر. وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {آية المنافق ثلاث} وقوله {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا} وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه " كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقا " فإذا أردت به أحد النوعين. فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد؛ والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئا كما إذا قال الرجل: جاء القاضي. وعنى به قاضي بلده لكون اللام للعهد. كما قال سبحانه: {فعصى فرعون الرسول} أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى لا نفس لفظ " رسول ". وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركا بين اللفظ العام والمعنى الخاص. فكذلك قوله {إذا جاءك المنافقون} فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد والمنافق المعهود: هو الكافر. أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه كان منافقا} يعني به منافقا بالمعنى العام وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن. فإطلاق لفظ " النفاق " على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق. كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ " منافق " بل لام التعريف. وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه إما لغلبة الاستعمال أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع. مثل تعريف الإضافة أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيا على مواطأته. فلهذا صح أن يقال " النفاق " اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئا. وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر. بحث ثان وهو أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص. فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول أو بالاعتقاد. أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجا الحنبلي: أن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته فلا يكون فرقا في الحقيقة والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات لا لما خرج عنها. فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: - المعاني على قسمين: مفردة ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات فتكون المتعلقات جزءا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود. والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلا في حقيقتهما. فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. فلا يكون للحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة. لأن العدم لا يكون جزءا من الوجود. فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. ليس على العموم. بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية. ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها. فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها كالحب والبغض والإرادة والكراهة والقدرة وغير ذلك من الصفات فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية. قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب. قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي. لأن الحب نسبة والنسب عدمية. قال الشيخ تقي الدين: كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمرا عدميا باطل. بالضرورة. وهو خلاف إجماع العقلاء. ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدا من العقلاء قال: إنه عدمي. فأصر ابن المرحل على أن الحب - الذي هو ميل القلب إلى المحبوب - أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي. قال الشيخ تقي الدين: - المحبة هي الحب. فإنه يقال: أحبه وحبه حبا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر. قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي. قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم. وكون الحب والبغض أمرا وجوديا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب. ومن يحس ذلك من نفسه يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه. ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة. ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية ونقيض العدم الإثبات. قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع؛ فإن نقيض الامتناع: لا امتناع. وامتناع صفة عدمية. قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي. حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل.
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (18) من صــ 360 الى صــ 366 وباعتبار كونه معلوما له ثبوت علمي وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة وتقول: هذا الحي صار محبا بعد أن لم يكن محبا. فتخبر عن الوجود الخارجي. فإذا كان نقيضها عدما خارجيا كانت وجودا خارجيا. وفي الجملة: فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية. قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية. ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة. وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة. فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير. وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما. وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما. والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر. قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرا عدميا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب من حيث هو أب. فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرا وجوديا. فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وإن لم يكن هذا المتعلق عارضا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر. فإذا كان فهمها موقوفا على فهم متعلقهما فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق. وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق. فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرا عدميا. والله أعلم. قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: - قوله: {وأحل الله البيع} قد أتبع بقوله {وحرم الربا} وعامة أنواع الربا يسمى بيعا. والربا - وإن كان اسما مجملا - فهو مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا. فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال. وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسما عاما فهو مستثنى من البيع أيضا. فيبقى البيع لفظا مخصوصا. فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق. قال ابن المرحل: - هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة. وإذا كان هذا تخصيصا لم يمنع ادعاء العموم فيه. قال الشيخ تقي الدين: - هذا كلام متصل بعضه ببعض وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناء كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربا. فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعا فهو مخطئ. قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا. قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين. وادعى مدع. أن فيه قولين. أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد. فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد: باطل قطعا فإنا نعلم أن كثيرا من أفراد البيع حرام. فاعترض ابن المرحل: بأن تلك الأفراد حرمت بعدما أحلت. فيكون نسخا. قال الشيخ تقي الدين: - فيلزم من هذا أن لا نحرم شيئا من البيوع بخبر واحد ولا بقياس. فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك. وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة. قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي. قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي؛ لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود مثل الإجارة والرهن والهبة والقرض والنكاح. إذا أريد به العقد وغير ذلك: هي باقية على مسمياتها. والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها. مثل الصلاة والزكاة والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة. قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة. قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي. أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا - مع أنه مكرر - فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية. قال ابن المرحل: - متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعا في اللغة. قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل وإذا كان بيعا في الشرع دخل في الآية. قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول. لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه. وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمي في اللغة صلاة وزكاة وتيمما وصوما وبيعا وإجارة ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار. وعلى هذا التقدير: فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل إذا لم يثبت. بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل. فصل: قال الله عز وجل في أول السورة: {الحمد لله رب العالمين} فبدأ بهذين الاسمين: الله والرب. و " الله " هو الإله المعبود فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر. الحمد لله سبحان الله لا إله إلا الله و " الرب " هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة. ولهذا يقال: {رب اغفر لي ولوالدي} {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب. فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خلق له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله والاسم الثاني يتضمن خلق العبد ومبتداه وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية والربوبية تستلزم الألوهية أيضا. والاسم " الرحمن " يتضمن كمال التعليقين وبوصف الحالين فيه تتم سعادته في دنياه وأخراه.
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (19) من صــ 367 الى صــ 373 ولهذا قال تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} فذكر هنا الأسماء الثلاثة: (الرحمن و (ربي و (الإله وقال: {عليه توكلت وإليه متاب} كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن؛ لكن بدأ هناك باسم الله؛ولهذا بدأ في السورة بـ (إياك نعبد) فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية فإنها علة فاعلية للعلة الغائية. وقد بسطت هذا المعنى في مواضع؛ في أول " التفسير " وفي " قاعدة المحبة والإرادة " وفي غير ذلك. فصل: ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم. وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم. فصل: وذلك أن الإنسان بل وجميع المخلوقات عباد لله تعالى فقراء إليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم وإلههم لا إله إلا هو فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلا؛ بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله والله عز وجل رب ذلك كله ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره. وإذا قلنا ليس له من نفسه إلا العدم فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود؛ بل العدم ليس بشيء وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود؛ بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة وبينهما فرق وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل فإنه يفضي إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزا لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلا وإن كان يعقل أن عدم المقتضي أولى بعدم الأثر من العكس فهذا لأنه لما كان وجود المقتضي هو المفيد لوجود المقتضي صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع. وبعد قيام المقتضي لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين؛ فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافي وهو أمر موجود وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته لا يكون شيء بدونها بحال فليس لنا سبب يقتضي وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لا مانع ومع عدمها لا مقتضى {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}. وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلا؛ بل ما بنا من نعمة فمن الله وإذا مسنا الضر فإليه نجأر والخير كله بيديه كما قال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي في صحيح البخاري: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} وقال في دعاء الاستفتاح الذي في صحيح مسلم:{لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك تباركت ربنا وتعاليت}. وذلك أن الشر إما أن يكون موجودا أو معدوما فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها مثل عدم الحياة أو العلم أو السمع أو البصر أو الكلام أو العقل أو العمل الصالح على تنوع أصنافه مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه ورجائه وخشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة من الأقوال والأفعال. فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات؛ لكن هذا العدم ليس بشيء أصلا حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله وإنما هو من لوازم النفس التي هي حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت؛ فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم وبعد أن خلقت - وقد خلقت ضعيفة ناقصة - فيها النقص والضعف والعجز فإن هذه الأمور عدمية فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته وعدم مقتضيه وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى. و " نكتة الأمر " أن هذا الشر والسيئات العدمية ليست موجودة حتى يكون الله خالقها فإن الله خالق كل شيء. والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها وتارة إلى وجود مانعها فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين: أما " الأول " فلأنه الحق المبين فلا يقال عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها. وأما " الثاني " - وهو وجود المانع - فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضي ولو شاء فعلها لما منعه مانع وهو - سبحانه - لا يمنع نفسه ما شاء فعله؛ بل هو فعال لما يشاء؛ ولكن الله قد يخلق هذا سببا ومقتضيا ومانعا فإن جعل السبب تاما لم يمنعه شيء وإن لم يجعله تاما منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة ولوجود المانع منه أخرى. أما عدم السبب فظاهر فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة ولو كان منه شيء لكان سببا فأضيف إليه لعدم السبب؛ ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له فما لم يصدر منه كان لعدم السبب. وأما وجود المانع المضاد له المنافي فلأن نفسه قد تضيق وتضعف وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة في نفسها متنافية في حقه فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره أو الكلام في شيء أو النظر فيه أو إرادته أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر وإن كان ذلك خيرا لضيقه وعجزه؛ فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعا وصادا عن آخر. والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته فعاد إلى العدم الذي هو منه والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى وأما إن كان الشيء موجودا كالألم وسبب الألم فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شرا على الإطلاق ولا شرا محضا وإنما هو شر في حق من تألم به وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلا {آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره} وفي الحديث الذي رواه أبو داود: {لو أنفقت ملء الأرض ذهبا لما قبله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شرا ومن تنعم به فهو في حقه خير كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من قص عليه أخوه رؤيا أن يقول: خيرا تلقاه وشرا توقاه خيرا لنا وشرا لأعدائنا} فإنه إذا أصاب العبد شر سر قلب عدوه؛ فهو خير لهذا وشر لهذا؛ ومن لم يكن له وليا ولا عدوا فليس في حقه خيرا ولا شرا وليس في مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائما ولا ما يؤلم جمهورهم دائما؛ بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم في أغلب الأوقات كالشمس والعافية فلم يكن في الموجودات التي خلقها الله ما هو شر مطلقا عاما. فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص وفيه وجه آخر هو به خير وحسن وهو أغلب وجهيه كما قال تعالى: {أحسن كل شيء خلقه} وقال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا}. وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئا ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره ولا يكون في المخلوقات شر محض لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله: {والشر ليس إليك} وكون الشر لم يضف إلى الله وحده؛ بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله.
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية سُورَةُ الْفَاتِحَةِ المجلد الثانى الحلقة (20) من صــ 374 الى صــ 380 فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه: إما عدم وإما وجود؛ فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب إذ لا يكون سببه عدما محضا فإن العدم المحض لا يكون سببا تاما لوجود؛ ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد ولا يحصل الشرط فيقع الألم؛ وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم وعدم الصحة والقوة الذي هو سبب الألم والمرض والضعف. فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضا مضافا إلى العدم المضاف إلى العبد حتى يتحقق قول الخليل: {وإذا مرضت فهو يشفين} فإن المرض وإن كان ألما موجودا فسببه ضعف القوة وانتفاء الصحة الموجودة وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه حتى يتحقق قول الحق {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله: {قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب وكذلك قول الصحابي: وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. يبين ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غني عنها امتنع أن يفعلها والجهل أصله عدم والحاجة أصلها العدم. فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى ولهذا يقول في القرآن: {ما كانوا يستطيعون السمع} {أفلم تكونوا تعقلون}؟ {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} إلى نحو هذه المعاني. وأما الموجود الذي هو سبب الشر الموجود الذي هو خاص كالآلام مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذي هو تكذيب أو استكبار والفسوق الذي هو فعل المحرمات ونحو ذلك. فإن ذلك سبب الذم والعقاب وكذلك تناول الأغذية الضارة وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم فهذا الوجود لا يكون وجودا تاما محضا؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيرا كما قلنا إن العدم المحض لا يقتضي وجودا؛ بل يكون وجودا ناقصا إما في السبب وإما في المحل كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه من النظر التام والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه. وسبب عدم النظر والاستماع: إما عدم المقتضي فيكون عدما محضا وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد في النفس {والله لا يحب كل مختال فخور} وهو تصور باطل وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل. و " الحسد " أيضا سببه عدم النعمة التي يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه؛ فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود أو يتفضل عليه. وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك والحاجة مصدرها العدم وهذا يبين - إذا تدبره الإنسان - أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلا بد أن يكون وجودا ناقصا فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط وتارة يضاف إلى وجود ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع والمانع لا يكون مانعا إلا لضعف المقتضي وكل ما ذكرته واضح بين إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان: " أحدهما " أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا. و " الثاني " أن الموجود لا يكون سببا للعدم المحض وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود. ولهذا كان معلوما بالفطرة أنه لا بد لكل مصنوع من صانع كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم؟. ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس وضرب المثال. والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة. والفطرة عند صحتها أشد إقرارا به وهو لها أبده وهي إليه أشد اضطرارا من المثال الذي يقاس به. وقد اختلف أهل الأصول في العلة الشرعية هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي فيها مع قولهم: إن العدمي يعلل بالعدمي؟ فمنهم من قال: يعلل به ومنهم من أنكر ذلك ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود في قياس العلة ويجوز أن تكون علته له في قياس الدلالة فلا يضاف إليه في قياس الدلالة وهذا فصل الخطاب وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءا من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودي يقتضي الحكم. وأما " قياس العلة " فلا يكون العدم فيه علة تامة؛ لكن يكون جزءا من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التي ليست بتامة وقلنا: جزء من العلة التامة. وهو معنى كونه شرطا في اقتضاء العلة الوجودية وهذا نزاع لفظي فإذا حققت المعاني ارتفع. فهذا في بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا. وأما " الطرف الثاني " وهو أن الموجود لا يكون سببا لوجود يستلزم عدما فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود بل يكفي فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلا بد أن يؤثر شيئا والعدم المحض ليس بشيء فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر؛ بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم فإن جعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا أمر معقول أما جعل المعدوم معدوما فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب في عدم العلة وبين فاعل العدم وموجب العدم وعلة العدم. والعدم لا يفتقر إلى الثاني؛ بل يكفي فيه الأول. فتبين بذلك الطرفان وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما: لا سببا ولا مسببا ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سببا لعدم أصلا ولا مسببا عنه ولا فاعلا له ولا مفعولا أما كونه ليس مسببا عنه ولا مفعولا له فظاهر وأما كونه ليس سببا له فإن كان سببا لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لا بد له من سبب ولو كان سببه تاما وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاما والمحل قابلا وجب وجود المسبب فحيث كان فيه عدم فلعدم ما في السبب أو في المحل فلا يكون وجودا محضا. فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعا لضعف السبب وهو أيضا عدم قوته وكماله فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض وظهر بذلك القسمة الرباعية وهي أن الوجود المحض لا يكون إلا خيرا.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |