|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (11) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد بعدَ أن نجَّى الله تبارك وتعالى موسى وهارون وقومهما من الكَرب العظيم، وأغرق فرعون ومن معه من المُكذِّبين، وجاوز اللهُ ببني إسرائيل البحرَ - انتهت متاعب موسى مِن فرعون وقومه، وبدأت متاعبُ موسى وهارون من بني إسرائيل؛ إذ إنهم بعد أن رأوا آيةَ الله الكبرى في فَلْق البحر لهم وإغراق فرعون وجنوده وتمَّت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا - لكنهم ما إن رأوا بعد أن جاوزوا البحر قومًا يعبدون أصنامًا لهم قد عكفوا عليها، حتى قال بعضهم لموسى عليه السلام: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، فأجابهم موسى عليه السلام بأن هذا الطلب جهالة منكم، كيف نسيتم نعمة الله في إنجائكم من عدوِّكم وإغراقه، وأنتم حُدثاء عهد بها؟! إنكم لو كنتم تعلمون لازددتم إيمانًا بالله وحدَه وكفرتم بجميع ما سواه من الأصنام والأوثان والأنداد، ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]؛ أي: هالك فاسد، ومضمحل زائل لا يعود على أهله إلا بالشر ولا يجلبون منه خيرًا، فكلُّ عبادة لغير الله باطلة، ولا تصحُّ العبادة إلا لله وحدَه، والله أغنى الشركاء عن الشِّرك، فمَن أشرك معه غيره ردَّه وشركه وأحبط عمله، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾ [الأعراف: 140]؟! أي: أأطلب لكم شيئًا تعبدونه غير الله؟! وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب والتوبيخ، ثم بيَّن لهم موسى عليه السلام أن الله فضَّلهم على عالَمي زمانهم؛ إذ بعث إليهم رسولَه وكليمَه صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، فلا يليقُ ببعضهم أن يطلب معبودًا غير الله عز وجل ليشابه المشركين عَبَدَةَ الأصنام، ولم يكن كلُّ بني إسرائيل قد طلب إلهًا آخر، وإنما هو طلبُ بعض جَهَلَتِهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 140]. وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين وعلماء السيرة النبويَّة خبرًا من طريق مَعْمَر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حُنين، فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، وإنكم تركبون سنن من كان قبلكم))، قال ابن كثير في تفسيره: أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا؛ اهـ. قلت: "قال الحافظ ابن حجر في التقريب: كثير بن عبدالله بن عمرو المزني المدني ضعيف من السابعة، منهم من نسبه إلى الكذب"؛ اهـ. فإن صحَّ هذا الخبرُ حُمل على أنه قول واحد من حُدثاء العهد بالجاهلية كما جاء مصرَّحًا به في رواية عن أبي واقد الليثي، قالوا: وقد كان لكفَّار قريش ومن سواهم من العرب شجرةٌ عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كلَّ سنة، فيُعلِّقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يومًا. قال أبو بكر الطرطوشي المالكي: فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويُعظِّمُونها، ويرجون البرءَ والشفاء من قبلها، ويضربون بها المساميرَ والخرقَ فاقطعوها. هذا، وقد كان موسى عليه السلام عندما بعثه الله إلى فرعون إنما بعثه بأصول الدين من التوحيد وإقامة الصلاة لذكر الله ووجوب الإيمان بالبعث بعد الموت، ولم يكن قد أنزل عليه التوراة، فلما انتهت مهمَّة موسى عليه السلام الخاصة بفرعون وملئه، وأغرق الله فرعونَ وجنده، وخلص موسى إلى سيناء وصار مختصًّا ببني إسرائيل، وهُم في حاجة ماسَّة إلى نظام يشمل حوائجهم في معاشهم ومعادهم، هيَّأ الله عز وجل موسى عليه السلام ليُلقي عليه التوراةَ المشتملة على الأحكام التي تسلك بأهلها صراط الله المستقيم، وحالة موسى عليه السلام هذه تشبه حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته النبويَّة قبلَ الهجرة وبعدها، فإنَّ القرآنَ المكيَّ كان ينزل لتقرير التوحيد والرسالة والإيمان بالبعث بعد الموت، أما القرآنُ المدنيُّ فإنه زيادة على ذلك جاء بتقرير نظام الدولة الإسلامية والمجتمع السعيد، وما يحتاج كلُّ فردٍ لصلاح معاشِه ومعادِه. ولذلكَ ساقَ القرآنُ العظيم ما أوصى الله به موسى عليه السلام عندما بعثه بالتوحيد والصلاة والإيمان بالبعث بعد الموت؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 11 - 16]، وقال عز وجل: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 19]. ولمَّا أغرق الله فرعونَ ونجَّى بني إسرائيل صار لموسى عليه السلام دولة، فهو في حاجة إلى النظام الشامل، والنور الذي يسلكه؛ ليهتدي به هو والمؤمنون إلى الصراط المستقيم، وقد واعده الله تعالى أربعين ليلة يتهيَّأ فيها لتلقِّي الشريعة، وقد سأله بعضُ قومه من المتعنِّتين المتنطِّعين أن يُريهم اللهَ جهرةً، وأن يسأل ربَّه ذلك، وعندما جاء الميقات قال موسى لأخيه هارون: "أنت خليفتي على بني إسرائيل فأصلح أمورهم، ولْتَكُن سياستُك لهم سياسة رشيدة، واحذر دُعاة الضلالة المفسدين في الأرض"، وما إن انطلق موسى عليه السلام لتلقِّي الشريعة عند الطور حتى أضلَّ السامريُّ بني إسرائيل، فصنع لهم عجلًا من الذَّهب له خُوار؛ أي: صوت يُسمع وصلصلة شبيهة بصوت الثور، وقال لهم: ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ﴾ [طه: 88]، فعبده جلَّةٌ من بني إسرائيل، وحاول هارون عليه السلام صَرْفَهم عن عبادة العجل، وكان اللينُ يغلب عليه صلى الله عليه وسلم، وخشي إذا شدَّد عليهم أن يتفرَّقوا، وقد بارزه عُبَّادُ العجل العداوةَ، وكادوا يقتلونه عندما كان يُحذِّرهم من عبادة العجل، ولم يكن مأذونًا له في قتالهم، فانتظر مجيء موسى عليه السلام بالشريعة من عند الله. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (12) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد عندما جاء موسى لميقاتِ ربِّه، وقد اختار من قومه سبعين رجلًا لهذا الميقات، فلمَّا انتهوا إلى الجبل ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، قال موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143]، فإن كان هذا الطور لا ينهدُّ إذا تجلَّى اللهُ له، فإنك تقدر على رؤيتي، وأرادَ الله عز وجل أن يضرب لموسى وغيره مثلًا على أن الله عز وجل قد احتجَبَ بالنُّور عن خلقه؛ لأنهم لم يُهيَّؤوا في هذه الحياة الدنيا لرؤية الله، وإنما يرونه إذا ماتوا على الإيمان في الدار الآخرة، فإن المؤمنين لن يروا ربهم حتى يموتوا، وحجابه النور أو النار، لو كَشَفَهَ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وقد زعم بعض أهل الأهواء أن قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي ﴾ دليلٌ على استحالة الرؤية؛ بدعوة أن (لن) تفيد تأبيد النَّفي، وجهلوا أن الله عز وجل قال في اليهود: ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 94]، ثم قال: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] مع أنهم يتمنون الموت وهم في جهنم؛ إذ ينادون مع نظرائهم من الكفار: ﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [الزخرف: 77]، ولمَّا تجلَّى الله تعالى للجبل ﴿ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾؛ أي: مدكوكًا مستويًا بالأرض ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، ولمَّا رأى موسى عليه السلام أن السبعين الذين معه لا يزالون في صعقتهم دعا الله عز وجل أن يكشف عنهم، واعتذر إلى الله عز وجل بأنه أرادَ أن يقطع شبهة هؤلاء السفهاء الذين سألوه أن يريهم ربهم جهرةً، وقد أجاب الله تعالى دعوة موسى عليه السلام، وأفاق السبعون من صعقتهم، وقال الحق لموسى عليه السلام: ﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ [الأعراف: 144]، وأعطاه الألواح، وقد كتب له فيها من كل شيء ﴿ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 145] يحتاجه بنو إسرائيل في معاشهم ومعادهم، وقد كان موسى عليه السلام عندما أقبلَ على مكان المناجاة سارعَ إلى جانب الطور الأيمن، فسبق السبعين الذي كانوا معه، فقال له العليم الخبير: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 83، 84]. ومن ثمرات هذا السؤال والجواب تقريرُ أن المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى مرضاة الله من الأمور المحبوبة شرعًا، وليس في كل عجلة ندامة، وبعد أن أعطى الله تعالى موسى التوراةَ أخبره أن قومه عبدوا عجلًا صنعه لهم السامريُّ، فرجع موسى بالتوراة إلى قومه غضبانَ حزينًا على ما فعله قومه، وأخذ يؤنِّبهم ويوبِّخهم على عبادة العجل، وقال لهم: ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ [طه: 86]؟! بإنزال التوراة نورًا لكم، أفطالت غيبتي عليكم أم أحببتم أن ينزل بكم غضبٌ من ربكم فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على الإيمان وإخلاص العبادة لله وحدَه، وكأنَّكم استعجلتم عقوبة الله؟! فحاولوا الاعتذارَ بأنهم ما قدروا على ردِّ ضلال السامري، فإنه سوَّل لهم ما سوَّل، وغَلَبَ على عقولهم، وزعم لهم أنه إله موسى، وأن موسى نسيَ أنه ربُّه، فذهب يطلب ربَّه عند الجبل، وكان هارون عليه السلام قد حذَّر قومه من عبادة العجل وكان قد قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 90 - 93]، بأن تقضي على سبيل المفسدين، وقد بلغ الغضبُ بموسى عليه السلام مبلغًا، فألقى الألواحَ وأخذَ برأس أخيه هارون ولحيته يجرُّه إليه، فقال هارون: ﴿ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، وقال هارون عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94]. وأراد عليه السلام استعطافَ موسى بقوله: يا ابن أم، مع أنه أخوه لأبيه وأمه، وهذا شبيه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))؛ إذ الرابطة بينهما الإسلام، وفاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعضُ أهل الأهواء أن يستدلوا بهذا الحديث على أن عليًّا رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستدلال باطل من وجوه، منها: أن هارونَ مات قبل موسى، ولم يكن خليفةً من بعده، بل الذي كان خليفة بعد موسى هو يُوشعُ بن نون، ومنها أن هذا الحديث ليس نصًّا في كون عليٍّ رضي الله عنه هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب الحديث يوضح مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلَّف عليًّا رضي الله عنه في المدينة المنورة حينما أراد الذهاب إلى تبوك قال بعض المنافقين في المدينة: إنما خلَّف عليًّا لأنه يستثقلُه ولا يحبُّه، فلما علم عليٌّ رضي الله عنه بذلك أخذ سيفَه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، وأخبره بقول المنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا تَرْضَى أن تكونَ منِّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبيِّن لعلي رضي الله عنه أن استخلافه على المدينة كاستخلاف موسى لهارون حينما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، ولم يكن استخلاف موسى لهارون عن البغض أو الاستثقال له كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما أن الحنان الذي يحسُّ به موسى لهارون فيه معنى يوجدُ شبيهه بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين علي رضي الله عنه؛ إذ إن فاطمةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحته، وحنو رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى زوجها وبنيها لا يحتاج إلى دليلٍ. وبعد أن سكت عن موسى الغضب أخذ الألواحَ وفي نسختها - أَيْ في نصِّها وجُملتها وتعاليمها - هدًى ورحمةً للذين يخافون الله عز وجل، ويهتدون بما أنزل من الكتاب، وفي مواعدة موسى لإعطائه التوراةَ واختيار سبعين رجلًا للذهاب معه، واستخلاف موسى هارونَ على بني إسرائيل مدةَ غيبته هذه، ووصايا موسى لهارون عليه السلام، وعبادة بعض بني إسرائيل للعجل الذي أضلَّهم به السامري، وسؤال موسى عليه السلام ربَّه أن ينظرَ إليه، وجواب الله عز وجل له، وصعقة موسى والسبعين الذين معه، وانْدِكَاك الجبل لما تجلَّى الله للجبل، وإخبار الله عز وجل موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده، ورجوعه عليه السلام إلى قومه غضبان أسفًا، وأخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرُّه إليه، وفي اعتذار هارون واستعطافه، وما عاقب به موسى عليه السلام السامريَّ الذي صنعَ العجل، وما فعل موسى عليه السلام بعجل السامريِّ؛ من تحريقِه ونَسْفِه وتذريتِه في البحر - في هذا كلِّه أَنْزَلَ الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ ذلك في كتابه الكريم في مواضع من الذكر الحكيم. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (13) أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن الله تبارك وتعالى ذكر في مواضع من كتابه الكريم قصة مواعدته موسى عليه السلام لإعطائه التوراة واختيار سبعين رجلًا من بني إسرائيل ليذهبوا مع موسى عليه السلام، وما حدث لموسى وللذين معه من الصَّعق، وما كان من عبادة قومه للعجل من بعد ذهابه لتلقِّي التوراة، ورجوعه إلى قومه غضبان أسفًا، وما كان بين موسى وهارون في ذلك، وعقوبة السامري، وتحريق العجل ونسفه في اليم، ففي سورة البقرة يقول الله عز وجل:الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 51 - 56]. ويقول في نفس السورة: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 92، 93]. ويقول تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 142 - 155]. ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 80 - 98]. ويقول عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43 - 46]. هذا، وقد قصَّ الله تبارك وتعالى كثيرًا مما لَقِيَه موسى عليه السلام من بني إسرائيل من الأذى والتنطُّع والتشدُّد؛ كعدم رضاهم بالمَنِّ والسَلْوى، وطلبهم بدلها بُقولًا وثومًا وقثاءً، وعدسًا وبصلًا، وكقولهم لما رأوا موسى عليه السلام حييًّا ستِّيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياءً، فآذاه من آذاه منهم بقولهم فيه: ما يستتر هذا التستر إلا مِنْ عيبٍ بجِلْدِه، إما برص وإما أدرة وإما آفة، ﴿ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (14) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى بعض ما لقيه موسى عليه السلام وأخوه هارون صلى الله عليه وسلم من تنطُّع بني إسرائيل وأذاهم، حتى قال موسى عليه السلام كما حكى الله عز وجل ذلك: ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]. وقد روى البخاري ومسلم، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فقال رجل: إن هذه لَقِسْمةٌ ما أُريد بها وجه الله، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فغضب، حتى رأيت الغضبَ في وجهه، ثم قال: ((يرحمُ اللهُ موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فَصَبر)). كما روى البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا مِن عيب بجلده؛ إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرِّئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحدَه، فوضع ثيابه على الحَجَرِ، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذَها، وإنَّ الحجرَ عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجرَ، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجرُ، فأخذ ثوبَه فلَبِسَه، وطَفِقَ بالحجَرِ ضربًا بعصاه، فوالله إنَّ بالحجر لندبًا من أثر ضربِه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69])). ومن أمثلة شُحِّ نفوسِهم، أنهم لما استسقى موسى لهم أمره الله عز وجل أن يضربَ بعصاه الحجرَ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بِعَددِ أسباطهم، ولو كانوا أهل إحسان وتراحم لَكَفَتْهُم عينٌ واحدة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60]. وكما قال عز وجل: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160]، ومن أمثلة تعنُّتِهم أنهم قد امتنَّ الله عليهم بالمَنِّ والسلوى طعامين شهيين بلا كُلفة ولا مشقة، فما رعوها حقَّ رعايتها، والسلوى طير شهي الطعم سمين، والمَنُّ شبيه بعسل النحل، يجدونهما عند رؤوسهما في الصباح والمساء، ومع ذلك قالوا لموسى عليه السلام: لن نصبر على طعام واحدٍ، نريدُ بقلًا وقثاءً وثومًا وعدسًا وبصلًا، فأجابهم عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]. وقد اغتنم موسى عليه السلام فرصةَ حرصهم على البقول والقثاء والثوم والعدس والبصل، فأمرَهم أن يدخلوا بيت المقدس ليطهِّروه من الكافرين، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، وقالوا لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، وهذا من أبرزِ أمثلة جُبْنِهم وذِلَّتِهم، حتى ورث هذا الجبن مِن بعدهم ذُرِّيَّاتهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]. ولم يزلْ هذا الخُلق الذميم تمتلئ به جوانحهم إلى اليوم، وهم لم ينتصروا على المسلمين ويحتلوا بيت المقدس في عصرنا بشجاعتهم، وإنما بذنوبنا وتفرُّق كلمتنا وحَبْلٍ من الناس، فإنه إذا عصى الله مَن يعرفه سلَّطَ عليه من لا يعرفه، وفي امتناع بني إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة وعصيانهم لموسى عليه السلام يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59]. وقوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59]؛ أي: بدل أن يقولوا: حطَّة، قالوا: حبةٌ في شعرة، وقالوا: حِنْطَة، ودخلوا يزحفون على أستاههم بدل أن يدخلوا الباب ساجدين، وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 161، 162]. وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 20 - 25]. وقد عاقبهم اللهُ عز وجل على هذا العصيانِ بالتِّيه في الصحراءِ أربعين سنةً؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]. ومن أمثلة تنطُّعهم أنهم لما قَتل واحدٌ منهم نفسًا، وتدافعوا وتخاصموا فيمن قتلها؛ حيث لم يُعرف القاتل، أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة بأمر من الله عز وجل، فكان أولُ ردٍّ منهم على موسى كليم الله أن يقولوا: أتستهزئ بنا؟ فلمَّا عرفهم أن الاستهزاء بالناس جهلٌ لا يليق بعبدٍ صالحٍ، قالوا: ما سنُّها؟ فأجابهم موسى عليه السلام: ﴿ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]، وحضَّهم على المسارعة إلى الامتثال، فتنطَّعوا وقالوا: ما لونها؟ فأجابهم بأنها ﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69]، فتنطَّعوا وقالوا: بيِّن لنا ما هي؟ أسائمة أم عاملة؟ إن البقر تشابه علينا، فأجابهم موسى عليه السلام بأنها ﴿ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ ﴾ [البقرة: 71]، أي: غير مذلَّلة بالعمل، فلا تنفع لحرث الأرض ولا لسقي الزرع، خاليةٌ من العيوب واختلاط الألوان، وهنا انقطعوا وكادوا يعجزون عن الحصول عليها، ولو أنهم عندما أمرهم أول مرة سارعوا فذبحوا أيَّ بقرة لكفتهم. وفي قصة بقرة بني إسرائيل يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 67 - 73]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (15) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد روى البخاريُّ ومسلمٌ، واللفظ للبخاري، من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدوُّ الله، حدثنا أُبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبدٌ بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: أي رب، ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتًا فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثَمَّ، وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يُوشع بن نون حتى أتيا الصخرة، ووضعا رؤوسهما، فرَقَدَ موسى واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾ [الكهف: 61] فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فانطلقا يمشيان بقيَّة ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62]، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله، قال له فتاه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ [الكهف: 63]، فكان للحوت سربًا ولهما عجبًا، قال له موسى: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 64]، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجًّى بثوب، فسلَّم موسى فردَّ عليه فقال: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، قال: يا موسى، إني على علم من علم الله، علَّمَنِيه الله لا تعلمُه، وأنت على علم من علم الله علَّمَكَه الله لا أعلمُه، قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 66 - 68] إلى قوله: ﴿ أَمْرًا ﴾، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، كلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نولٍ، فلما ركِبا في السفينة جاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر؛ إذ أخذ الفأس فنزع لوحًا، قال: فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحًا بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟! قومٌ حملونا بغير نولٍ عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ﴿ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 71 - 73]، فكانت الأولى من موسى نسيانًا. فلما خرجا من البحر مرُّوا بغلام يلعبُ مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا كأنه يقطف شيئًا، فقال له موسى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 74 - 76] مائلًا، أَوْمَأَ بيدِه هكذا كأنه يمسَحُ شيئًا إلى فوق، قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت إلى حائطهم ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 77، 78]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَدِدْنا أنَّ موسى كان صبر، فقصَّ الله علينا من خبرهما))، وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحمُ اللهُ موسَى، لو كان صبر يُقصُّ علينا من أمرهما)). ثم سَاقَ البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سُمِّي الخضر؛ أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتزُّ من خلفه خضراء)). وقد سَاقَ الله عز وجل قصةَ موسى مع الخضر عليه السلام في محكم كتابه حيث يقول في سورة الكهف: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 60 - 81]. هذا، وقد فُتِن كثيرٌ من الصوفية، فادَّعوا لأنفسهم علمًا إلهيًّا غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمُّونه "العلم اللَّدُنِّي"، وهذا برهانٌ قاطع على جهلهم بشريعة الله، واللغة العربية؛ فإن قولهم "العلم اللدني" لا معنى له في اللغة العربية، وهم لجهلهم بها وانحرافهم عن دين الإسلام يحسبون أن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ يدل على علم غير شرعي، وينحتون له هذا الاسم، وهو فهم عاطل باطل فاسد كاسد، فإن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ معناه: أعطينَاه علمًا من عندنا، والعلم الذي أعطاه الله تعالى للخضر هو علم شرعيٌّ آتاه الله الخضر عليه السلام واختصَّه به؛ ولذلك قال الخضر لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾. ولا تدلُّ هذه القصة على أن الخضر أفضل من موسى؛ إذ لا شك عند أحد ينتمي للعلم في أن موسى هو من أكابر أولي العزم من المرسلين، وإعطاء الخضر علمًا خاصًّا به وهو ليس من أتباع موسى عليه السلام لا يدلُّ على أنه أفضل من موسى؛ فالمزية لا تنافي الأفضلية، كما ذكرت في فصول سابقة. وقد ذكرَ الله تبارك وتعالى موسى في مقاماتٍ كثيرة يُنوِّه فيها بفضله؛ كقوله تعالى وهو يذكر جملةً من الأنبياء والمرسلين: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 163، 164]. وكقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]. وكقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]. وكقوله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
![]() موسى عليه السلام (16) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد استمرَّ موسى عليه السلام في نَشْرِ النور والهدى الذي أنزله الله تعالى عليه في التوراة، يعاونُه هارون عليه السلام، إلى أن قبض الله عز وجل هارون عليه السلام في حياة أخيه موسى عليه السلام وَهُما في التِّيه مع بني إسرائيل. وقد حجَّ موسى عليه الصلاة والسلام إلى البيت العتيق في مكة المكرمة؛ فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بوادي الأزرق فقال: ((أيُّ وادٍ هذا؟))، قالوا: وادي الأزرق، قال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤارٌ إلى الله عز وجل بالتلبية))، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال: ((أي ثنية هذه؟))، قالوا: هذه ثنية هرشاء، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء، عليه جُبَّةٌ من صوف خطام ناقته خلبةٌ - يعني ليفًا - وهو يلبِّي)). وقد ذكرت عند الحديث عن الخليل إبراهيم عليه السلام بعض صفات موسى عليه السلام، وأنه كان آدم، أي: أسمر، جعد الشعر جسيمًا طوالًا كأنه من رجال أزد شنوءة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلةَ أُسْرِي بي موسى بن عمران رجلًا طوالًا جعدًا، كأنَّه من رجال شنوءة)). كما روى البخاري في صحيحه، من طريق مجاهد أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما وذكروا له الدَّجَّال، وأنه مكتوب بين عينيه كافر أو (ك ف ر)، فقال: لم أسمعه، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم: ((أما إبراهيمُ فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعدٌ آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه انحدر في الوادي)). وقد حضرت الوفاة موسى عليه السلام قبل أن يدخلَ الأرض المقدسة، غيرَ أنه طلب من الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صَكَّه، فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فَقُلْ له: يضع يدَه على متنِ ثور، فله بما غطَّت يدُه بكلِّ شعرةٍ سنةٌ، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآنَ، قال: فسأل اللهَ عز وجل أن يُدْنيه من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبرَه إلى جانبِ الطريقِ عند الكثيبِ الأحمرِ)). ثم قال البخاري رحمه الله قال: وأخبرنا معمر عن همام حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى مسلم في صحيحه من طريق همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَرَ أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّك، قال: فَلَطَمَ موسى عليه السلام عينَ ملكِ الموت فَفَقَأَهَا، قال: فرجع الملَكُ إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت وقد فَقَأَ عيني، قال: فردَّ اللهُ إليه عينَه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياةَ تريدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضعْ يدك على متن ثور، فما توارت يدُك من شَعْرِه فإنك تعيش بها سنةً، قال: ثمَّ مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمِتني من الأرض المقدسة رمية بحجر))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)). وقد استشْكَلَ بعضُ من ينتمي إلى العلم هذا الحديث، وكأنه استغرب كيف يضرب موسى عليه السلام ملكَ الموتِ، وكيف يفقأ عينَه؟ ولا غرابة في ذلك؛ لأن موسى لم يعرف أنه ملَكُ الموت كما لم يعرفْ خليلُ الرحمن أبوه إبراهيم عليه السلام الملائكةَ الذين استضافهم، وقال لهم لمَّا لم يأكلوا طعامه: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الحجر: 62]، ولا سيما أن ملك الموت جاء موسى عليه السلام على طريق لم يُقبض على مثلها الأنبياء؛ فإن اللهَ تبارك وتعالى لا يقبضُ روحَ نبيٍّ من أنبيائه إلا بعد تخييره، كما أُثِر أنه ما من نبي قبض إلا خُيِّر؛ ولذلك لمَّا خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الرفيق الأعلى، أما استغراب فقء عين الملك فهو مبني على تعريف الملائكة بأنهم لا تحكم عليهم الصورة، أي: لو تصوَّر الملك في صورة رجل أو غيره ثم أُريد قتله أو قطعُ عضو منه فإنه لا تتأثَّر صورته بذلك، ولا يتمكن منه، بخلاف الجنِّي؛ فإن الصورة تحكم عليه، فلو تصوَّر الجني في صورة حيوان وقُتل هذا الحيوانُ قُتل الجنِّي، وبالنظر إلى أن هذا التعريف لم يثبت به خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه سلم فإنه لا يحل لمسلم أن يرد به الخبر الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأيت كثيرًا من أهل الأهواء المعادين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبخاري ومسلم وغيرهما من أئمَّة أهل السنَّة والجماعة يدندنون حول هذا الحديث الصحيح للنَّيْلِ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيوخ أهل الحديث، وقد علمتُ أنه لا شبهة في صحَّة هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين. هذا، وقد حرَّف اليهود التوراةَ بعد موسى عليه السلام، ومن أبرز الأدلَّة على ذلك أن اليهود يدَّعون أن التوراةَ كتبَها موسى عليه السلام بيده، وهي مكوَّنة عندهم من أسفارٍ خمسة، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد، وسفر التثنية، وقد جاء في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة الخامسة منه: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب"، وفي الفقرة السادسة: ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرفْ إنسانٌ قبرَه إلى هذا اليوم، فتبيَّن بما لا مجال للشك فيه أن هذا السفرَ مكتوبٌ بعد موسى عليه السلام؛ إذ كيف يَكتب موسى بيده أنه مات ودُفن في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، ومما يؤكِّدُ تحريفهم أنه جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة 24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها - 25 - أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: 26 - خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهدًا عليكم - 27 - لأني عارف تمردكم ورقابكم الصُّلبة، هو ذا وأنا بعد حيٌّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الربَّ، فكم بالحرِيِّ بعد موتي - 28 - اجمعوا إليَّ كلَّ شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض - 29 - لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون من الطريق الذي أوصيتكم. هذا، وليست اليهوديَّة هي دين موسى عليه السلام، بل دينُه الإسلام، واليهودية محدثة بعد موسى؛ ولذلك لم يرد في خبر صحيح أن موسى عليه السلام سمَّاهم يهودًا، وقد تكون اليهوديَّة مأخوذةً من الهود، بمعنى: التوبة، على حد قول موسى عليه السلام ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156]. ويمكن أن تكون مأخوذةً من التَّهويد؛ وهو الترجيع بالصوت في لينٍ والتطريب، وقد كان أحبار اليهود إذا قرؤوا على العامَّة أتوا بنغماتٍ مع غُنَّةٍ شديدة ومدٍّ بالخياشيم، ويمكنُ أن تكون نسبةً إلى يَهُوذا أحد رؤوس أسباط بني إسرائيل، ويكون إطلاقه على جميع بني إسرائيل على سبيل التغليب، وهو بالدال أو الذال كما جاء في القاموس المحيط، يقال: يهوذا ويهودا، كما يقال: يهوذي ويهودي. ولم يرِدْ اسم اليهود في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح قطُّ، وكلُّ ما ورد عنهم في عهد موسى عليه السلام كان باسم بني إسرائيل، كما أنَّ ما ورد في كتاب الله عنهم كان باسم أهلِ الكتاب وقوم موسى وبني إسرائيل، ولم تُذكر اليهوديَّة إلا في مقام الذمِّ، والعلم عند الله، والسلام على موسى وهارون.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |