من أسباب صلاح القلوب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 188 - عددالزوار : 17233 )           »          ألا تحب أن تُذكر في الملأ الأعلى؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          شرح وترجمة حديث: ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          التوفيق بين الزهد في الدنيا وإظهار العبد نعم الله عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          بساطة العيش (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          فوائد من التفسير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          أوهام الحياة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          يأخذ بقلبي مطلع سورة صٓ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          ثمرات التقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          الرحمة في الحدود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-02-2025, 11:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,312
الدولة : Egypt
افتراضي من أسباب صلاح القلوب

من أسباب صلاح القلب

(1) المداومة على العمل الصالح

حسان أحمد العماري

الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والكمال، وجَلَّ عن الأشباه والأشكال، أذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضَّل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض، ومفاتيح الأقفال، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه وهو الخالق الفعَّال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٌ؛ عبدُالله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهَديه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين؛ أما بعـــد عبـاد الله:
فإن القلب ملِك والأعضاء جنوده؛ فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبُث الملك خبثت جنوده، والقلب عليه تدور سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن الشقاء والتعاسة التي يعيشها كثير من الناس إنما سببها عدم راحة القلوب، والصراع الذي تعيشه البشرية اليوم أفرادًا وجماعات ودولًا قد لا يدرك الكثير أن سبب ذلك فساد القلوب، والقلق والهموم التي اجتاحت العالم يعود سببها إلى ضيق القلوب وقسوتها، وبُعدها عن غذائها الروحي وأسباب حياتها؛ فالقلب وعاء كل شيء في حياة الإنسان، فكان من أسباب صلاحه المداومةُ على العمل الصالح الذي يمده بأسباب الحياة، والعمل لا يكون صالحًا إلا بأن يكون موافقًا لشرع الله تعالى، وأن يكون خالصًا لوجهه سبحانه، فخرج عن دائرة العمل الصالح كل عمل مخترع لم يأتِ به الشرع، وكل عمل أُريد به غير وجه الله تعالى؛ فقد يُخلص المتعبد في عبادة مخترعة ولا يُقبل ذلك منه؛ كما في الحدث الصحيح: ((من عمِل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رَدٌّ))، وقد يعمل المرء عملًا موافقًا للشرع، لكنه غير مخلص فيه لله تعالى فلا يُقبل منه كذلك: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، وبفقد الإخلاص أو الموافقة يكون العمل فاسدًا؛ فالصلاة والصيام وقراءة القرآن، والحج والعمرة، والذِّكر والدعاء، وبذل المعروف، وتقديم النفع والصدقة، ومساعدة المحتاج، وغيرها، كلها أعمال صالحة، وإن من أعظم آثار المداومة عليها صلاحَ الأحوال، ومنها صلاح القلوب التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، وصلحت أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ [محمد: 2]؛ أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح جميع أحوالهم في الدنيا والآخرة؛ فالمداومة على الصلاة تُصلح القلوب بالنهي عن الفحشاء والمنكر التي مصدرها القلب؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وتزكي أنفسهم، وتقوِّم سلوكهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درَنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مَثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا))؛ [رواه الترمذي]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانًا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول))؛ [رواه أحمد]، والمداومة على الأعمال الصالحات سبب لطهارة القلب من النفاق، ونجاة العبد من النار؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كُتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق))؛ [أخرجه الترمذي].

معاشر المسلمين: ومن ذلك: المداومة على قراءة القرآن واستماعه؛ رغبةً في الهدى، وطلبًا للزلفى، فإن ذلك من أعظم أسباب لين القلوب ورِقَّتِها وصلاحها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الزمر: 23]؛ يقول ابن أبي العز رحمه الله: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدقٍ، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبدًا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهمًا في كتابه"؛ [شرح العقيدة الطحاوية (274)]، ومن ذلك المداومة على ذكر الله، وحضور مجالس الذكر، ومجالس الصالحين، فإنها تجلو عن القلوب صداها، وتذكِّرها بحقوق مولاها، وتحرِّضها على شكر نُعماها، والتوبة إلى الله من خطاياها؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [الرعد: 28، 29]؛ قال ابن القيم رحمه الله: "كان إذا حدق بنا الخصوم، وأرجفوا بنا، وألبوا علينا، واعترتنا المخاوف من كل جانب؛ أتينا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: فوالله ما إن نرَ وجهه حتى يذهب ذلك عنا جميعًا"؛ لما يرَون في وجهه من الإنارة، وما يرون فيه من المعاني الدالة على انشراح الصدر، وثبات القلب والتقى، والرجاء والخوف من الله، فإن الوجه مرآة للقلب؛ ولهذا قيل: "ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه، وفلتات لسانه"، ودخل رجل على عثمان رضي الله عنه، فقال عثمان: أيعصي أحدكم ربه ثم يدخل عليَّ؟ فقال الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني: كيف علمت؟ فأخبره أنها فِراسة المؤمن؛ حيث يكون الوجه مظلمًا لما في القلب من الظلمة، ويكون الوجه مشرقًا لما في القلب من الإشراق.

عباد الله: وإن المداومة على الدعاء باب من أبواب الراحة القلبية، حينما يلجأ العبد إلى ربه ومولاه؛ لأنه على يقين أنه ما بعد الدعاء إلا الإجابة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وليُكثر المؤمن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على الدين؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يلهج دومًا بهذا الدعاء: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))؛ [الترمذي (3522)، عن أم سلمة، بسند حسن)، وليستعِنْ بالله تعالى في دفع خطرات السوء، إذا هيَّجها الشيطان، أو عوارض الدنيا؛ وليقل مع الصحابة والصالحين: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحشر: 10]، واسأل الله دومًا أن يعينك على قلبك.

ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة على القلب بجميع أنواعها، تكاثر الحسنات؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "إن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"، فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى؛ قال سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]؛ أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته، وكان من دعاء السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهَمْلجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"، وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها


قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...

الخطــبة الثانـية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد أيها المؤمنون:
فإن المداومة على العمل الصالح طريق للقلب السليم الذي لا يدخل المرء الجنة إلا به، ومن بدَّل وقصَّر، وفرَّط وغيَّر، ولم يثبت على الخير فلا يلومن إلا نفسه؛ فعن ابن عباس قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا بموعظة، فقال: إنه سيُجاء برجال من أمتي، فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 117، 118]، قال: فيُقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم))؛ [رواه البخاري (6526)، ومسلم (2860)].

والمداومة على العمل الصالح يورث القلب أنسًا بالله وقربًا منه؛ فإن المعاصي تصرف القلب وتُشتته وتُبعده عن الله، وتُوقع الوحشة بين العبد وربه، والعمل الصالح والمداومة عليه يسد على الشيطان مداخله إلى القلب، التي يأتي منها أمراضه، ويحدث من خلالها فساده، ومن ذلك أن المداومة على العمل الصالح نوع من المجاهدة للوصول إلى صلاح القلب واستقامته؛ يقول ابن المنكدر رحمه الله وهو من علماء التابعين: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي"؛ [نزهة الفضلاء (607)]، فصار في حال من العبودية عجيب؛ كان يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولني فينقضي وما قضيت منه أرَبي"، ما معنى هذا الكلام؟ يقول: إذا أقبل الليل ودخلت فيه، وبادرت فيه إلى الصلاة، وخلوت بربي، لم يمضِ إلى شيء حتى انقضى هذا الليل، وتصرمت ساعاته، ولم أشعر بذلك، ولم يحصل ما كنت أؤمله من طول المناجاة، فهي قصيرة في نظره لشدة شغفه وتعلقه بذلك، إننا حينما نصلي كأن الواحد منا طائر في القفص، يبحث عن الحيلة كيف يتخلص، ولو كانت قلوبنا عامرة بمحبة الله والإقبال عليه، لم نشبع من صلاتنا وعبادتنا، وكم رأيت من الصالحين من يتعجب أن فلانًا من الناس لربما بكى في القراءة في الصلاة السرية! وأي عجب في هذا؟ هو يناجي ربه، كيف تعجبون من هذا؟ وأي مقام هو أعظم من مقام العبد بين يدي ربه وخالقه، يناجيه وينطرح بين يديه في أذل الصور، التي يعبِّد بها العبد نفسه، ويذلل جبهته في السجود والركوع، وهل هناك تذلل أكثر من مناجاة الله عز وجل، والخضوع بين يديه والجبهة على الأرض؟

عباد الله: وهناك أعمال صالحة؛ كقيام الليل، والصدقة، ومساعدة اليتيم والمسكين، وإدخال السرور على الآخرين وغيرها، ولا شك أن المداومة عليها تُورث القلبَ اللينَ والطمأنينة، والسعادة والراحة، فأصلحوا قلوبكم عباد الله، وأمدُّوها بأسباب الحياة والصلاح، وحافظوا على الأعمال الصالحة والمداومة عليها.

هذا، وصلوا وسلموا على أُمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-03-2025, 04:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,312
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من أسباب صلاح القلوب




من أسباب صلاح القلوب:

المسارعة في الخيرات (2)

حسان أحمد العماري

الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والكمال، وجَلَّ عن الأشباه والأشكال، أذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضَّل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض، ومفاتيح الأقفال، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه وهو الخالق الفعَّال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدَنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٌ؛ عبدُالله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهَديه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين؛ أما بعـــد أيها المؤمنون:
فإن القلوب تتعرض كل يوم للامتحان والابتلاء، كما تتعرض الأجساد والدول، والشعوب والمجتمعات، فأيما قلب ثبت على الحق والخير، ولم ينحرف إلى الباطل والشر، سواء كان ذلك في الإيمان والصلة بالله، أو في العبادات، أو في السلوك والأخلاق والمعاملات، فذاك قلب المؤمن، يجد به سعادة الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((تُعرَض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه))؛ [رواه مسلم (1/ 128، 129)]، وإن من أسباب صلاح القلوب المسارعةَ إلى الخيرات، والتنافس على الطاعات والقُربات؛ فمن ذلك: تلاوة كتاب الله بالتدبر والتفهم لمعانيه، فالقراءة بالتدبر من أعظم ما يصلح القلب ويشفيه من أمراض الشبهات والشهوات؛ لِما في القرآن من البراهين الجلية والمواعظ البليغة، وقد سمَّى الله القرآن روحًا في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52]؛ لأنه تحيا به القلوب، كما أن الروح يحيا بها البدن، وأوصى نبينا صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، وجعله روحًا للمؤمن؛ عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا جاءه فقال: أوصِني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، فقال: ((أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة]؛ قال ابن القيم: "فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن؛ فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصِّل لليقين، الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به"؛ [التفسير القيم].

عباد الله: ومن المسارعة إلى الخيرات دوام ذِكر الله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب، فنصيب المؤمن من حياة القلب وطمأنينته ومحبته لربه على قدر نصيبه من الذكر؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((مَثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت))؛ [رواه البخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه لَيُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة))؛ [رواه مسلم]؛ يقول ابن القيم: "وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوامَ الذكر، فمن أراد محبة الله عز وجل، فليلهج بذكره... وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف حال السمك إذا فارق الماء؟... والذكر قوت القلوب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حِيل بينه وبين قوته، وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي"؛ [الوابل الصيب]، وأقل ذلك أن يحافظ المسلم على الأذكار أدبار المكتوبات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال المتنوعة، وهي مدوَّنة في كتب السنة والأذكار، ومن المسارعة إلى الخيرات، المحافظة على الصلوات في أوقاتها، والصوم، وإخراج الزكاة لمستحقيها، والدعاء، ففي ذلك تطهير للقلب من أدران الذنوب والمعاصي، وفي ذلك تزكية للنفس وتطهيرها، وفيه راحة للقلب وطمأنينة للنفس؛ قال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، قال تعالى: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90]، ومن المسارعة إلى الخيرات، بذل المعروف، وتقديم النفع، ومساعدة المحتاج، والعطف على المسكين والأرملة واليتيم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أردت تليين قلبك، فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم))؛ [السلسلة الصحيحة (2/ 533)].

معاشر المسلمين: ومن المسارعة في الخيرات، وأثر ذلك في إصلاح القلوب، أن فِعلَ الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، يمد القلب بأسباب الحياة، وفي ذلك كان التنافس وكانت الدرجات؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بتوجيهاته على إصلاح القلوب، فإذا صلح، صلحت سائر الأعضاء، وكانت الوسائل التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لإصلاح القلوب وتزكية النفوس، الدعوة إلى التنافس والسباق والمسارعة إلى الخيرات، فكان يوجِّه أصحابه إلى التنافس في فضائل الأعمال والعبادات والطاعات، وما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمة والصبح، لأتَوهما ولو حبوًا))؛ [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزلًا من الجنة، كلما غدا أو راح))؛ [البخاري، الفتح (2/ 173) برقم: (662)]، وعن عبدالله بن عمرو وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن وَدعِهمُ الجُمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، وليكونن من الغافلين))؛ [رواه مسلم]، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين))؛ [رواه أبو داود، وصححه الألباني]، وكان صلى الله عليه وسلم يحذر من انحراف النفوس عن هذا الطريق؛ فتتحول المنافسة على الدنيا وشهواتها وأموالها ومتاعها، فتضعُف القيم، ويندثر الدين، وتسوء الأخلاق، وتزيد الهموم، وتفسد القلوب، وهذا ما يعيشه كثير من الناس اليوم؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكنِزْ هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب))؛ [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3228)].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه...

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه؛ أما بعد أيها الناس:
فانظــروا إلى هذه الصورة الناصعة، التي تبين كيف كان التنافس بين الصحابة والمسارعة إلى الخيرات، وعلى ماذا كانوا يتنافسون ويتسابقون؟ وماذا أثمرت هذه المنافسة؟ يأتي الفقراء من الصحابة إلى رسول الله يشتكون الأغنياء، هل لأنهم لم يعطوهم مما أعطاهم الله، أو أنهم لم يتفقدوا جائعهم ومحتاجهم، أو لأنهم يأكلون أفضل منهم ويلبسون أحسن منهم؟ كلا، لم يكن ذلك هو السبب، بل قالوا: ((يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ألَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه، سبقتم من قبلكم، ولم يدرككم أحد ممن يجيء بعدكم؟ قالوا: نعم، قال: تُسبحون في دُبُرِ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمَدون ثلاثًا وثلاثين، وتكبِّرون ثلاثًا وثلاثين، إنكم إذا فعلتم ذلك، سبقتم من قبلكم ولم يدرككم أحد ممن يجيء بعدكم))، فرح الفقراء بذلك، فلما قضيت الصلاة، فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد، التفت الأغنياء، فإذا الفقراء يسبحون، سألوهم عن ذلك، فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام، فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء، حتى تسابقوا إليها، وإذا أبو بكر يسبح، وإذا ابن عوف يسبح، وإذا الزبير يسبح، فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام، فقالوا: ((يا رسول الله، سمِع إخواننا الأغنياء بما علمتنا ففعلوا مثلنا، فعلمنا شيئًا آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))؛ [وأصل الحديث في مسلم، ورواه بطرقه ابن حبان، وابن خزيمة]؛ قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يصف الصحابة ومسارعتهم إلى الخيرات: "لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت شيئًا يشبههم، كانوا يُصبحون شعثًا غبرًا صفرًا، بين أعينهم كأمثال ركب المعز من كثرة السجود، قد باتوا لله سُجَّدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر، ذكروا الله، كانوا إذا سمعوا آية من كتاب الله، مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح عاصف، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين"؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]؛ لذلك كانوا أصلحَ الناس قلوبًا، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم أعمالًا، وأقومهم هديًا، وأصلحهم أحوالًا، وأبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالًا.

فأصلحوا قلوبكم - عباد الله - بالمسارعة إلى الخيرات، والتنافس على الطاعات والقربات، والإخلاص لرب الأرض والسماوات، هذا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-04-2025, 08:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,312
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من أسباب صلاح القلوب

من أسباب صلاح القلوب:

(3) الموعظـــــــة الحسنة

حسان أحمد العماري

الحمد لله الداعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابه، الحافظ من توكل عليه ولاذ بجنابه، أحمده على الهدى وتيسير أسبابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجو بها النجاة من عقابه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكملَ الناس عملًا في ذهابه وإيابه، ألَا يا مُحبَّ المصطفى زِدْ صبابةً = وضمخ لسان الذكر منك بطِيبه... ولا تعبأنَّ بالمبطلين فإنما = علامة حبِّ الله حبُّ حبيبه... صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل أصحابه، وعلى عمر الذي أعز الله به الدين واستقامت الدنيا به، وعلى عثمان شهيد داره ومحرابه، وعلى عليٍّ المشهور بحل المشكل من العلوم وكشف نقابه، وعلى آله وأصحابه ومن كان أولى به، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــــــــــد أيها المؤمنون:
فإن الإسلام دين يخاطب العقل والوجدان، ولا يُهمل شيئًا من الجوانب الإنسانية على حساب جوانب أخرى، ولكلٍّ من العقل والوجدان أساليب تناسبه وتنفذ إليه؛ فالدليل والبرهان والمقارنة أساليب تخاطب العقل؛ بقصد تأهيله إلى إدراك المعارف الموصِّلة إلى الله؛ فيقول الله سبحانه وتعالى في خطاب للعقل: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]، وجعل التأمل والنظر وإثارة الشعور أساليب لمخاطبة الوجدان؛ لكي تسمو الروح، وتكتسب القدرة على التذوق الرفيع الذي يوصلها إلى حب الله والاستقامة على شرعه؛ يقول الله سبحانه وتعالى في خطاب الوجدان: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل: 62، 63]، فكان من أساليب إثارة الشعور والوجدان لإصلاح القلوب، المواعظُ والتذكير، والموعظة هي النصح والتذكير بالعواقب، وهي تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب.

عباد الله: إن المواعظ سِياط القلوب، تؤثر في الإنسان كتأثير السياط في الأبدان؛ وفي ذلك يقول ابن رجب رحمه الله: "إن المواعظ سياط تُضرب بها القلوب، فتؤثر فيها كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده"، كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر، خرجوا وعليهم السَّكينة والوقار حتى كأنهم ينسَون دنياهم التي اعتادوا عليها، وكأنهم صاروا في فلك آخر، لا تطأ أرجُلهم الأرض التي تُقلهم، ولا تؤويهم المنازل التي تظلهم، ومما يدل على عِظم شأن الموعظة الحسنة أن الله تبارك وتعالى سمى القرآن الكريم موعظة؛ فقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [النور: 34]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، وقال سبحانه: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138]، وقال جل جلاله: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231]، وجعل الله القرآن موعظةً للمؤمنين بالله واليوم الآخر؛ فقال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 232]، والكافرون هم الذين لا تؤثر فيهم الموعظة؛ فقال سبحانه يحكي مقالة عاد قوم هود لنبيهم: ﴿ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ﴾ [الشعراء: 136]، ومما يدل على عِظم شأن الموعظة، أن الاستجابة للموعظة خير كبير، وقبولها منجاة من عذاب الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [النساء: 66]، وقال في آيات تحريم الربا: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]، وقوله: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾؛ أي: لا يُسترد منه ما أخذه من الربا قبل نزول التحريم، وجاء في كتاب الله أن الذكرى تنفع المؤمنين الذين يخشَون ربهم؛ فقال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وقال: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]، وقال سبحانه: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 10]، والتذكير يكاد يكون مرادفًا للموعظة.

معاشر المسلمين: ﺇﻥ ﻣﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺎ ﻳُﺤﻴﻲ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ، ﻓﺄﻋﻄِﻨﻲ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ، ﻭﺍﻟﺠﻮﺍﺭﺡ ﻭﺍﻷﺭﻛﺎﻥ؛ ﺣﺘﻰ ﻧﻤﺮ بموعظة ﻗﺮﺁﻧﻴﺔ؛ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞ ﻓﻲ ﻋﻼﻩ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5، 6]، ﺗُﺮﻯ ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻏﺮﻫﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻫﺬﻩ ﺳﻬﺎﻣﻬﺎ ﺗُﺼﻴﺐ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺑﺴﻬﻢ، ﻓﺘُﺮﺩﻳﻪ ﻫﺎﻟﻜًﺎ، ﻭﺗﺴﻠﻤﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢ ﺍﻟﻤﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ، ﺳﺎﻟﻜًﺎ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﻦ ﺳﺒﻘﻮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺍﺕ ﺍﻟﻬﺎﻟﻜﻴﻦ، ﻭﻗﺪ ﺧﺮﻗﺖ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ ﻣﻨﻬﻢ ﺍﻷﻛﻔﺎﻥ، ﻭﻣﺰﻗﺖ ﺍﻷﺑﺪﺍﻥ، ﻭﻣﺼﺖ ﺍﻟﺪﻡ، ﻭﺃﻛﻠﺖ ﺍﻟﻠﺤﻢ؟ ﺗُﺮﻯ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺖ ﺑﻬﻢ ﺍﻟﺪﻳﺪﺍﻥ؟ ﺃﻟﻴﺴﺖ ﻗﺪ ﻣﺤﺖ ﺍﻷﻟﻮﺍﻥ، ﻭﻋﻔَّﺮﺕ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺤِﺴﺎﻥ، ﻭﻛﺴﺮﺕ ﺍﻟﻔﻘﺎﺭ، ﻭﺃﺑﺎﻧﺖ ﺍﻷﻋﻀﺎﺀ، ﻭﻣﺰﻗﺖ ﺍﻷﺷﻼﺀ؟! ﺃﻟﻴﺲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳﻮﺍﺀ؟! ﺃﻟﻴﺴﻮﺍ ﻓﻲ ﻣُﺪﻟﻬﻤﺔ ﻇﻠﻤﺎﺀ؟! ﻗﺪ ﻓﺎﺭﻗﻮﺍ ﺍﻟﺤﺪﺍﺋﻖ، ﻓﺼﺎﺭﻭﺍ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺴﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻀﺎﻳﻖ، ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻨﺎﺩﻱ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻳﻨﺎﺩﻱ: ﻳﺎ ﺳﺎﻛﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻏﺪًا، ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻏﺮﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ؟! ﺃﻳﻦ ﺩﺍﺭﻙ ﺍﻟﻔﻴﺤﺎﺀ؟ ﺃﻳﻦ ﺭﻗﺎﻕ ﺛﻴﺎﺑﻚ؟ ﻟﻴﺖ ﺷﻌﺮﻱ! ﻛﻴﻒ ﺳﺘﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺧﺸﻮﻧﺔ ﺍﻟﺜﺮﻯ؟ ﻭﺑﺄﻱ ﺧﺪﻳﻚ ﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﺒِﻠﻰ؟ ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ ﻓﺎﺫﻛﺮﻩ ﻭﻣﺎ ﻭﺭﺍﺀﻩ؛ ﻓﻤﺎ ﻷﺣﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﺮﺍﺀة، ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻠﻔﻴﺼﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺎ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻪ، ﻭﺍﻟﻘﺒﺮ ﺭﻭﺿﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ، ﺃﻭ ﺣﻔﺮﺓ ﻣﻦ ﺣﻔﺮ ﺍﻟﻨﻴﺮﺍﻥ، ﺇﻥ ﻳﻚُ خيرًا، ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ ﺃﻓﻀﻞ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻨﺎ ﻟﻌﺒﺪﻩ، ﺃﻭ ﻳﻚ شرًّا، ﻓﺎﻟﺬﻱ ﺑﻌﺪ ﺃﺷﺪ، ويلٌ ﻟﻌﺒﺪ ﻋﻦ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﺪَّ، ﺇﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﻲ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ؛ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، ﻧﻌﻢ، ﻣﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻫﻲ ﻋﻼﺝ ﻗﺴﻮﺓ ﺍﻟﻘﻠﺐ، وصلاح لفسادها، ﻓﺈﺫﺍ ﻏﻔﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ، ﻓﻼ ﻳﺤﻴﺎ ﺇﻻ ﺑﻤﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﻟﻴﺲ ﺃﺣﺴﻦ ﻟﻠﻘﻠﺐ ﻣﻦ ﻣﺪﺍﻭﻣﺔ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ، ﺑﺸﺮﻁ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﺍﻃﺄ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻟﻠﺴﺎﻥ، ﻭﻻ ﺃﺣﺴﻦ ﻣﻦ ﺳﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﻭﺍﻟﺘﺪﺑﺮ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﺎ ﺗﺴﻤﻊ، ﻭﺣﺘﻰ ﺗﻨﺘﻔﻊ ﺑﺎﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ؛ ﻗﺎﻝﺳﺒﺤﺎﻧﻪ: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68]، ففي اﻻﺗﺒﺎﻉ ﻫﺪًﻯ ﻭﺛﺒﺎﺕ ﻭﺍﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﻭﺣﻴﺎﺓ ﻷﻭﻟﻲ ﺍﻷﻟﺒﺎﺏ.

أيها المؤمنون: لقد كان صلى الله عليه وسلم يحيي النفوس، ويصلح فساد القلوب بالمواعظ، وجعل الموعظة وسيلة من وسائل تزكيتها؛ عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهَد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشيٌّ؛ فإنه من يعِش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))؛ [رواه الترمذي (2676)، وابن ماجه (42)]، نعم، ذرفت العيون ووجلت القلوب، وهذا ما نحتاجه لنُصلح فساد قلوبنا، وحتى نتأسى بالصالحين من قبلنا، إن المواعظ التي ترقِّق القلوب وتجلي همَّ الصدور، لها منازل عليا في تاريخنا البعيد والقريب، قد ضمتها نفائس الأسفار التي خاطبت الأمة، وبلغت أنوارها الدَّهماء والعامة، وقد حُفظت هذه النفائس لتكون للناس الزاد ليوم المعاد.

خرج هارون الرشيد يومًا في رحلة صيد فمرَّ برجل يُقال له: بهلول، قد اعتزل الناس وعاش وحيدًا، فقال هارون: عِظني يا بهلول، قال: يا أمير المؤمنين، أين آباؤك وأجدادك، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك؟ قال هارون: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم، فقال بهلول: تلك قصورهم، وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم، قال: صدقت، زِدني يا بهلول، قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة، فليت قبرك بعد الموت يتسع، فبكى هارون، وقال: زدني، فقال: يا أمير المؤمنين، قد ولَّاك الله فلا يرى منك تقصيرًا ولا تفريطًا، فزاد بكاؤه، وقال: زدني يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ أنك ملكت كنوز كسرى، وعمرت السنين، فكان ماذا؟ أليس القـبر غـاية كـل حي، وتُسأل بعده عن كل هذا؟ قال: بلى، ثم رجع هارون ولم يكمل رحلة الصيد تلك، وانطرح على فراشه مريضًا، ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت.

عباد الله: والناس بعد سماع المواعظ ينقسمون إلى عدة أقسام؛ قال ابن رجب: فمنهم من يرجع إلى هواه، فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر، ولا يزداد هُدًى، ولا يرتدع عن رديء، وهؤلاء شر الأقسام، ويكون ما سمِعوه حُجة عليهم، فتزداد به عقوبتهم، وهؤلاء الظالمون لأنفسهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 108]، ومنهم من ينتفع بما سمعه؛ وهم على أقسام؛ فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات، ويُوجِب له التزام الواجبات؛ وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثار من سلف من السادات؛ وهؤلاء السابقون المقربون.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه؛ أما بعد أيها الناس:
فالموعظة مطلوبة من كل مسلم، حسب علمه وقدرته، وبآدابها وشروطها، فنحتاج للموعظة في البيوت مع الأهل والأولاد، ونحتاجها مع الزملاء والأصدقاء، ونحتاجها في المجالس والمنتديات، ونحتاجها في مساجدنا ومدارسنا، ونحتاجها في التناصح والتذكير متى ما دعت إليها الحاجة، وعلى الإنسان كلما شعر بقسوة قلبه أن يبحث له عن واعظ يذهب إليه ليُذكِّره ويعِظه، كما يذهب إلى الطبيب الماهر ليعالجه من أمراض الجسد، فالمواعـظ تـريـاق الذنـوب، فلا ينبغي أن يسـقي التـريـاق إلا طبيـب حـاذق معـافًى، فأمـا لـديـغ الهـوى فهو إلى شـرب التـريـاق أحوج من أن يـسـقيـه لغيـره:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوى الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المقوم غيره
هلا لنفسك كان ذا التقويم
فابدأ بنفسك فانهَها عن غيها
فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم


اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، هذا وصلوا وسلموا على أُمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-04-2025, 08:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,312
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من أسباب صلاح القلوب

من أسباب صلاح القلوب:

(4) طلب العلم الشرعي

حسان أحمد العماري

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد أيها المؤمنون:
فتُصاب القلوب بأمراض حسية وأمراض معنوية، والأمراض الحسية تؤدي إلى الموت وفقدان الدنيا، أما الأمراض المعنوية - وهي أشد خطورةً - تؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11]، وللأسف فالناس في هذا الزمان يهتمون بعلاج الأمراض الحسية أكثر من اهتمامهم بالأمراض المعنوية، وإن من أسباب صلاح القلوب طلبَ العلم الشرعي؛ قال ابن رجب معرفًا بهذا العلم: "فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسُّنة وفهم معانيها، والتقيُّد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولًا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغلٌ لمن بالعلم النافع عُنِيَ واشتغل..."، وقال ابن حجر: "والمراد العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه".

معاشر المسلمين:
العلم الشرعي هو ميراث النبوة، وعلى قدر حظ الناس منهم يكون حظهم من وراثة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدر ذلك يكون صلاح القلوب والأحوال، ومن هنا فإن طلب العلم أغلى ما أُنفقت فيه أعمار البشر وأموالهم، وإن لحظةً ينفقها الإنسان في عمره لا يستفيد فيها علمًا، ولا يقصد فيها إلى طاعة، لَجدير بأن تطول عليها حسرته؛ ولهذا لم يأمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده أن يزدادوا من شيء شيئًا، إلا أن يزدادوا من العلم؛ فقال جل وعلا في سورة طه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]، ورفع الله أهل العلم على سائر المؤمنين لِما حصَّلوه من العلم؛ فقال جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، فكل مؤمن يرفعه الله جل وعلا بإيمانه، وكل صاحب علمٍ صحيح من أهل الإيمان، فإنه مرفوع على غيره درجاتٍ، وهذا من فضل الله جل وعلا على أهل العلم، ومن وُفِّق لهذا العلم، فقد وُفِّق لأعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة علِم ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 162].

عباد الله:
إن طلب العلم الشرعي والتفقُّه في الدين من أسباب صلاح القلوب، وذلك من عدة أوجه؛ نذكر منها:
إن طلب العلم الشرعي يعصم القلوب بتوفيق الله من الانحراف والضلال، ويحميها من الوقوع في البدع والمحدثات، والشركيات والضلالات، ويحملها على تعظيم الشعائر والحرمات، والتجافي عن المنكرات والموبقات، بخلاف العابد الجاهل، فإنه قد يقع في شيء من هذه المخالفات بسبب جهله، وربما يتقرب إلى الله بما لم يأذَن به الله، كحال عبَّاد النصارى، ومن شابههم من جهلة عبَّاد المسلمين، الذين يتعبدون بالبدع والمحدثات، أو يتقربون إلى أصحاب القبور بأنواع القربات، ويشركون بالله تعالى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28].

ومن ذلك: أن العلم نور يهدي إلى الحق، وينير الطريق للسالكين، وبه يميَّز بين الإيمان والكفر، والمصلحة والمفسدة، والخير والشر، بل يُعرف به خير الخيرين وشر الشرين، وعلى قدر علم الإنسان وفقهه، وقوة بصيرته، وسعة أفقه، ومعرفته بواقعه، يكون حكمه على الأحداث من حوله، وإدراكه لكيفية التعامل معها، ونظره إلى عواقبها ومآلاتها، ومتى يُقدم، ومتى يُحجم، ومن يعادي، ومن يسالم؛ قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين؛ إما عالم أو أعمى؛ فقال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد: 19].

معاشر المسلمين:
وتأملوا المقابلة بين أصحاب القلوب المريضة والقاسية، والذين أوتوا العلم المخبتين؛ في قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج: 53، 54]؛ يقول ابن القيم: "وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يُستغنى عنهم طرفة عين... فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن، وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعُمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم؛ حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصَممها وبكمها: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: 72]، والمراد عمى القلب في الدنيا"؛ [مفتاح دار السعادة].

ومن ذلك: أن طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين يقود قلب صاحبه لأن يكون لله شاكرًا، وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، منعمًا قلبه بمناجاة الرحمن، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئًا مذنبًا، ومع الدأب على حسن العمل مقصِّرًا، لجأ إلى الله عز وجل فقوِيَ ظهره، ووثِق بالله فلم يخَفْ غيره، فهو مستغنٍ بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أُنْسُه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علمًا خاف توكيد الحُجَّة، مُشْفِقٌ على ما مضى من صالح عمله ألَّا يُقبَل منه، همُّه في تلاوة كلام الله الفَهم عن مولاه، وفي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم الفقه؛ لئلا يضيع ما أُمر به، متأدب بالقرآن والسنة، لا ينافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلها، يمشي على الأرض هونًا بالسكينة والوقار، ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار، إن فرغ قلبه عن ذكر الله، فمصيبةٌ عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهمٍ، فخسران عنده مبين؛ قال الله عز وجل: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109]؛ [كتاب أخلاق العلماء للآجري].

ومن ذلك: أن العلم الشرعي مهذِّب للنفوس؛ فالعلم يهذب الأخلاق، ويربي صاحبه على اكتساب الفضائل والآداب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا"، فقال ابن أبي مليكة رحمه الله: "ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته، رأيت أحسن الناس وجهًا، وإذا تكلم فأعرب الناس لسانًا، وإذا أفتى فأكثر الناس علمًا".

ومنها أن العلم الشرعي سبب لحياة القلوب وصلاحها، فهو علم مرتبط بالله وأسمائه وصفاته، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وبمنهجه وسيرته، وأحكام الدين وتشريعاته، وبالعلماء والمحدثين، والدعاة والوعاظ؛ قال لقمان لابنه: "يا بني جالِسِ العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بمطر السماء:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سُنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للدَّيَّانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقانِ
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذَيانِ

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

أما بعد أيها المؤمنون:
فإن طلب العلم الشرعي طريق إلى الجنة، وأي دواء أصلح وأنجع للقلوب من التعلق بالآخرة، وبجنة الله ورضوانه؛ فتستقيم في هذه الحياة؟ وطالب العلم إذا سلك هذا الطريق، فإن الله يسهل له به طريقًا إلى الجنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))، وذلك أن طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد، ويكون بصحة العمل، وصحة الاعتقاد لا تكون إلا بعلم، وصحة العمل لا تكون إلا بعلم؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم))؛ [صحيح الجامع]؛ قال عليٌّ رضي الله عنه لكميل بن زياد: "يا كميل، العلمُ خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه".

فاحرصوا - رعاكم الله - على طلب العلم والتفقه في الدين، تصلح قلوبكم وتستقِم حياتكم، وتُرفع درجتكم، وتسلكوا الطريق إلى جنة ربكم، هذا، وصلوا وسلموا على أُمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 116.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 113.19 كيلو بايت... تم توفير 3.01 كيلو بايت...بمعدل (2.59%)]