|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 161 الى صـ 165 الحلقة (31) والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين [ ص: 161 ] والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون "يهبط" بمعنى "هبط" كقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقا إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وقوله تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا . وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) . وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط -ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : يهبط من خشية الله [ ص: 162 ] كقوله : جدارا يريد أن ينقض ولا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله . قالزيد الخيل : بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدا للحوافر وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوا له : ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع يريد أنه ذليل . [ ص: 163 ] وكما قال جرير بن عطية : لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقال آخرون : معنى قوله "يهبط من خشية الله" أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية : وأعور من نبهان ، أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهنا عليه . [ ص: 164 ] ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وقال : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله والنجوم والجبال والشجر والدواب وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب : الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما . والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرفه . وليس ذلك إلا للإنسان . والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها . والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها . والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في [ ص: 165 ] طلب العلو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا ، أبى إلا العود إليه طوعا . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه . فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . (انتهى قول الراغب) . وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات . وقوله تعالى : وما الله بغافل عما تعملون فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه ، مطلعا عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بين سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم ، والتبكيت لهم ، منكرا للطمع في إيمانهم فقال :
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 166 الى صـ 170 الحلقة (32) القول في تأويل قوله تعالى : [75 ] أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "أفتطمعون" أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم "أن يؤمنوا" أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . (واللام في قوله) "لكم" لتضمين [ ص: 166 ] معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : فآمن له لوط أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : وقد كان فريق منهم أي طائفة فيمن سلف منهم : يسمعون كلام الله وهو ما يتلونه من التوراة "ثم يحرفونه" قال ابن كثير : أي يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله "يحرفونه" يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه ، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله "يحرفونه" أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : من بعد ما عقلوه أي فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله . قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسوي بغيا وحسدا . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : واشتروا به ثمنا قليلا وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ ص: 167 ] ولقائل أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره . ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك ; إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عنادا وغلبة شهوة . (تنبيه) ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير "ثم يحرفونه" هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ; فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه ، وأولوا بعضا منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه (إظهار الحق): أن أهل الكتاب سلفا وخلفا ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، [ ص: 168 ] ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضا منها فانظره . وفي (ذخيرة الألباب) ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضا : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ . فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بين . وفيه أيضا في الفصل (31): أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها . وهو المقصود . وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : بل هو قرآن مجيد إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية . ومن ذلك [ ص: 169 ] قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه . ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى : [ ص: 170 ] القول في تأويل قوله تعالى : [76 ] وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون "وإذا لقوا الذين آمنوا" أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا آمنا" أي بأنكم على الحق ، وأن محمدا هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها . "وإذا خلا بعضهم" يعني الذين لم ينافقوا "إلى بعض" أي الذين نافقوا "قالوا" أي عاتبين عليهم : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما بين لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ، ونصره . قال ابن إسحاق : أي أتقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به . قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة. اهـ. "ليحاجوكم" متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة "به عند ربكم" أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقية ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف . لأنه ليس من اعترف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار .
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 171 الى صـ 175 الحلقة (33) وتأول الراغب الأصفهاني قوله تعالى "عند ربكم" أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون أي في [ ص: 171 ] حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله "أفلا تعقلون" من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة (الالتفات) . ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين ، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون . القول في تأويل قوله تعالى : [77 ] أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون أي يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره "وما يعلنون" أي يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية . ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوام الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ; لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال : القول في تأويل قوله تعالى : [78 ] ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون "ومنهم أميون" أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا . "لا يعلمون الكتاب" أي التوراة ، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق "إلا أماني" بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أمنوية (أفعولة) فأعلت إعلال سيد ، وميت. مأخوذة من تمنى الشيء : قدره وأحب أن يصير إليه . أو من تمنى : كذب . أو من تمنى الكتاب : قرأه . وعلى كل فالاستثناء منقطع ; إذ ليس ما يتمنى ، وما يختلق وما يتلى ، من جنس علم الكتاب . أي لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون [ ص: 172 ] أماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم . وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم . فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه . قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله "إلا أماني" أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئا . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعد : وإن هم إلا يظنون فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ، لا يقينا . وقال أبو مسلم الأصفهاني : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به وقال : تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون بمعنى يقدرون ويخرصون . ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : [ ص: 173 ] إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذ في الاستثناء ، حينئذ ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليق في طريقة الاستثناء . و "وإن هم إلا يظنون" ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟ (تنبيه) قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ; فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحري الصدق وتجنب الإضلال ; إذ هو أعظم من الضلال. اهـ. ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم . القول في تأويل قوله تعالى : [79 ] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون "فويل" فإن أضيف ، نصب . نحو : ويلك وويحك -وإذا فصل عن الإضافة ، [ ص: 174 ] رفع . نحو : ويل له . الويل : الهلاك وشدة العذاب "للذين يكتبون الكتاب" أي المحرف . أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة "بأيديهم" تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة "ثم يقولون" لما كتبوه ، كذبا وبهتانا "هذا من عند الله ليشتروا به" أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته "ثمنا قليلا" أي عرضا يسيرا . ويجوز في الآية معنى آخر ; أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك . وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله -الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالا لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه . ولكن لم يكن ذلك منهم . بل كان أن حرفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى "ليشتروا به" تعليلا لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية "يحرفون الكلم عن مواضعه" وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : فويل لهم مما كتبت أيديهم أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم "وويل لهم مما يكسبون" يصيبون من الحرام والسحت . قال الراغب : إن قيل : لم ذكر "يكسبون" بلفظ المستقبل و "كتبت" بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيها على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سن سنة سيئة فعليه وزرها [ ص: 175 ] ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فنبه بالآية أن ما أصلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا (إن قيل) لم ذكر الكتابة دون القول . (قيل) لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ; إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ . لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره . (إن قيل) : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ (قيل) : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده ، فإنه أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات . ولو كان ذلك متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه . ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان ; من العبراني إلى السرياني إلى العربي . وقد ذكر المحصلة ألفاظا من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامة خفي . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعا في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت . لقوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل اهـ كلام الراغب رحمه الله .
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 191 الى صـ 195 الحلقة (37) القول في تأويل قوله تعالى : [91 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "وإذا قيل لهم" أي لليهود "آمنوا بما أنزل الله" على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه قالوا نؤمن بما أنـزل علينا من التوراة ، ولا نقر إلا بها "ويكفرون بما وراءه" حال من ضمير "قالوا" بتقدير مبتدأ . أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده وهو الحق مصدقا لما معهم منها غير مخالف له . وفيه رد لمقالتهم . لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها "قل" تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم . قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله . فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على [ ص: 192 ] طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم . ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز . ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك . وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام. فقال تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [92 ] ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ولقد جاءكم موسى بالبينات من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله "ثم اتخذتم العجل" معبودا من دون الله "من بعده" أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل . كما قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار وقوله تعالى "وأنتم ظالمون" أي بعبادته . واضعين لها في غير موضعها . أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى . أو هو اعتراض . أي وأنتم قوم عادتكم الظلم. ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال : القول في تأويل قوله تعالى : [ ص: 193 ] [93 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين "وإذ أخذنا ميثاقكم" على الإيمان والطاعة . "ورفعنا فوقكم الطور" قائلين "خذوا ما آتيناكم" أي ما أمرتم به في التوراة "بقوة" بجد "واسمعوا" أطيعوا "قالوا سمعنا" قولك "وعصينا" أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة . قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان . فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه . كقوله تعالى أن يقول له كن فيكون وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه على حذف المضاف . وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كل ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ -أي تداخله فيه- أو من إشراب الماء -أي تداخله أعماق البدن- والجامع السراية في كل جزء . وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب . ثم بين بقوله "في قلوبهم" للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو : وأشرب قلوبهم العجل "بكفرهم" بسبب كفرهم . قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين أي كما زعمتم، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب أصلاتك تأمرك [ ص: 194 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله "إن كنتم مؤمنين" قدح في صحة دعواهم . فإن الإيمان إنما يأمر بعبادة الله وحده لا بشركة العباد لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها . وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا . فجواب الشرط محذوف كما ترى ، لدلالة ما سبق عليه . القول في تأويل قوله تعالى : [94 ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين "قل" كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم . وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس . لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة نصب على الحال من الدار الآخرة . والمراد الجنة . أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا "من دون الناس" اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون "فتمنوا الموت" فسلوا الموت "إن كنتم صادقين" لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا ، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب . وثم تفسير آخر للتمني [ ص: 195 ] بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . وقوله: القول في تأويل قوله تعالى : [95 ] ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولن يتمنوه أبدا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب . وكان كما أخبر به . كقوله ولن تفعلوا "بما قدمت أيديهم" بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الإنسان ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء والله عليم بالظالمين أي بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ "لن" هنا ، و "لا" في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ "لن" لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت [ ص: 196 ] الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ "لا" لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . والله أعلم .
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 196 الى صـ 200 الحلقة (38) ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله : القول في تأويل قوله تعالى: [96 ] ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون ولتجدنهم أحرص الناس على حياة التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي : على الحياة "ومن الذين أشركوا" عطف على ما قبله بحسب المعنى ؛ كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار . ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه ; أي وأحرص من الذين أشركوا . وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله : "على حياة" تقديره "ومن الذين أشركوا" ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقول أبي مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : يود أحدكم لو يعمر ألف سنة -فلا يخفى بعده . لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: [ ص: 197 ] ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم . "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و "لو" مصدرية ، بمعنى "أن" مؤول ما بعدها بمصدر ، مفعول يود . أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر "ما" حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول والله بصير بما يعملون فسوف يجازيهم عليه . وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حمل هذا البصر على العلم- هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهي البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الكافية الشافية: وهو البصير يرى دبيب النملة الس وداء تحت الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى عروق بياضها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها ويرى ، كذاك ، تقلب الأجفان وقوله تعالى : [ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى : [97 ] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين [98 ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : « أخبرني بهن جبريل آنفا » ، قال : جبريل ؟ قال : « نعم » ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك « أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أي رجل عبد الله فيكم»؟ قالوا : [ ص: 199 ] خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام» ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه. قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله . وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. وساق نحوا مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : « فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط ، إلا وهو وليه » . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عز وجل : قل من كان عدوا لجبريل إلى قوله : لو كانوا يعلمون فعندها باؤوا بغضب على غضب . وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : « جبريل عليه السلام » . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبي قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق [ ص: 200 ] التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة . وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا: عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
__________________
|
#39
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
__________________
|
#40
|
||||
|
||||
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 206 الى صـ 210 الحلقة (40) القول في تأويل قوله تعالى : [101 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون تصريح بما طوى قبل . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية ، فتنكير "رسول" للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله "كتاب الله" يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل "كتاب الله" القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله "وراء ظهورهم" مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفات إليه ، وقوله "كأنهم لا يعلمون" جملة حالية ، أي نبذوه وراء ظهورهم ، مشبهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون . أو كأنهم [ ص: 207 ] لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلا ، كما إذا أريد بهم الكل . وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة . وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفي في "كأنهم لا يعلمون" هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا ، وقوله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [102 ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم . وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر . وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجا [ ص: 208 ] و "تتلو" بمعنى تقص وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ، قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه "ويقولون على الله الكذب". وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرصوه عليه اهـ. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا ، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في "إظهار الحق" . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل . وقوله "على ملك سليمان" أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى "وما كفر سليمان" تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقولها . وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه . وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى . [ ص: 209 ] والمعنى الأول أصرح وأوضح . وقوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر عنى بالشياطين من ذكرناهم قبل وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما في قوله تعالى : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقوله : شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض والذي يعين هذا المعنى قوله "تتلو" لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى "تتلو" تقص كما تقدم . وقوله "يعلمون الناس السحر" يعين هذا المعنى أيضا ، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس . والمراد بقوله "كفروا" كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله "يعلمون الناس السحر" حالية من ضمير "كفروا" ، أو خبر ثان لـ "لكن" ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل "اتبعوا" فهي إما حال منه أو استئنافية. وقوله تعالى : وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون اعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوها كثيرة ، وأقوالا عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخباريين نقلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع [ ص: 210 ] ظاهرها البحت وتمحل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير ورد آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها . والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل -وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات- وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله . وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما "إنما نحن فتنة فلا تكفر" ، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء . ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله . وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر، ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين الآية ، فـ "ما" هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ "الملكين" هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك .
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |