يوسف بن يعقوب بن إسحاق - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213355 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-04-2021, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي يوسف بن يعقوب بن إسحاق

يوسف بن يعقوب بن إسحاق (1)












د. محمد منير الجنباز




يوسف بن يعقوب، النبي الذي أوتي حظًّا من الجمال الندي والذكاء الوقاد منذ الصغر، وكان محبوب والده والأثير لديه، تبدأ قصته في القُرْآن الكريم بالرؤيا العظيمة التي قصها على والده: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وقد كان إخوة يوسف أحد عشر، والشمس أمه؛ فقد كانت رائعة الجمال، والقمر أبوه، وهو حفيد إبراهيم الخليل المحبوب الذي له ضياء القلب وإشراقة الوجه، وفي هذه الرؤيا اصطفاء من الله تعالى ليوسف، وتفضيله على كافة إخوته، بل على أمه وأبيه؛ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]؛ فالوالد بالطبع يحب لابنه أكثر مما يحبه لنفسه.







والأمر هذا سيسره كثيرًا، لكنه خاف غيرة الإخوة، والكيد ليوسف لنيله هذه المكانة: ﴿ قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]، لقد عرَف يعقوب عليه السلام أنه سيكون للشيطان دور في هذا الحدَث، وأن الفتنة بين الإخوة ويوسف ستقع، ربما لأنه لاحظ شيئًا من الحسد بدأ يدب في أبنائه العشرة من إخوة يوسف لأبيه، لقد استأثر يوسف بنصيب كبير من حب والده، فكان قرة عينه، وسلوة أحزانه، وإيناس روحه.







وفي هذه المناسبة فهناك قاعدة أخذت من هذه القصة وما قبلها قصة إبراهيم مع إسماعيل وما بعدها قصص كثيرة: أن أنبياء الله وأولياءه وعباده المقربين إن شغلوا طرفة عين عن ذكر ربهم وتعلَّق القلب بحب الولد أو البلد أو أي شيء آخر زيادة عن المألوف، فإن هؤلاء الأنبياء والمقربين يصيبهم ابتلاء من الله تعالى فيمن أحبوا بما أراده الله وقدره، وبما أراد أن يحدث من أمر نتيجة هذا الابتلاء، ففي ابتلاء إبراهيم بإسماعيل كان التوجه إلى تلك البقاع المهجورة في مكة وإبعاده عن ابنه إسماعيل فترة ليست بالقصيرة، ثم التعريف بتلك البقاع وقصة الذبح وبناء الكعبة ثم الدعوة إلى الحج وما فيه من نسك مثل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار رمز الحرب على الشيطان، والنحر تقربًا إلى الله، فعمرت تلك الديار وتوجه الناس طاعة لله لأداء نسك الحج، وفي ابتلاء يعقوب بيوسف، كان الإبعاد الطويل الذي أضر بيعقوب حزنًا وألمًا وذهاب بصر، وكان من وراء ذلك فتح مصر لبني يعقوب وعشيرته وسكنى هذه البلاد ذات الجنات والأنهار.







وتعد رؤيا يوسف بداية لتطمينه بأن الله سيجتبيه ويختاره نبيًّا، وقد أمده منذ الصبا بمعرفة تأويل الرؤيا: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6]، والاجتباء: الاصطفاء والاختيار للنبوة، وهذا كائن له عند الأربعين وتمام النعمة على يوسف حين يجمع الله له الملك مع النبوة بعد رحلة الامتحان الطويلة الشاقة وتبيُّن صبره وجلَده وقوة إيمانه، ليفوز بهذا الامتحان عن مقدرة وجدارة - والله عالم بذلك - لكن لا بد لهذه المسيرة أن تكون عبر حقبة شاقة من حياته، فهؤلاء إخوة يوسف يلاحظون المحبة التي يخص بها والدهم يوسف وأخاه بنيامين وأمهما راحيل الجميلة المحبوبة ليعقوب، ولربما زاد حب يعقوب ليوسف بعد الرؤيا، فلاحظ ذلك بقية الأبناء: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ [يوسف: 8]، وقد عنَوْا بعصبة؛ أي: جماعة لنا قوة يعتز بنا أبونا؛ لأننا نمنعه من عدوه عند الشدة، وربما عنوا بذلك جميع أبنائه أنهم عصبة كالحلقة لا يعرف طرفاها، وبهذا تتساوى كافة عناصرها، فلا مجال لتفاوت المحبة، فلماذا يفعل والدنا هذا؟ ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8] إن فعله هذا خطأ كبير، وهو بعيد عن الرشد في معاملة الأولاد، وما حيلتنا إن استأثر يوسف بقلب الوالد، أنتركه يفوز به دوننا؟ ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ﴾ [يوسف: 9]، ليس سوى التخلص من يوسف بالقتل أو بإلقائه في أرض قَفْر بعيدة لا يمكنه العودة منها إلى أبينا، فنتركه لقدره، إن عاش عاش بعيدًا، وإن هلك هلك وحيدًا، فلعل هذا الرأي هو من تدبير أخيهم الكبير، وقالوا: إن أبعدتم يوسف عن أبيه إلى الأبد: ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 9]، عند ذلك تصلح أمورنا، ويلتفت إلينا أبونا، ويهتم لأمرنا، فقد تخلَّصنا ممن كان آسرًا لقلبه وحبه، وبعد هذه الفَعلة نتوب إلى الله ونستغفره وهو الغفور الرحيم.







لكن هناك رأي آخر من أوسطهم، الذي لم يرد الهلاك ليوسف، وإنما الإبعاد عن أبيهم: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]، فإن كنتم لا بد تريدون إبعاده فالرأي أن تلقوه في بئر بعيدة تكون على طريق سفر؛ فلعل بعض المسافرين يلتقطه فيأخذه رقيقًا، وبذلك يبتعد عنا، فاتفقوا على هذا الرأي؛ لأنه يحقق ما يريدون مع وجود ثغرات في هذه الخطة، فالخلاف بينهم يكشف ما تواطؤوا عليه، فتفشل خطتهم في الإبعاد، وهكذا انتصر الرأي الذي لا يحبذ القتل والدماء حقيقة، بل جعلوه في الخطة خطة الدم الكاذب، وقد كانوا من قبل يخرجون للنزهات في البر، ويبتعدون أيامًا، وكانت هذه عادة الحضر بأن يتروضوا في البراري لأيام؛ ليشتد عودهم، ويتعودوا المخاطر ومواجهة الصعاب، فلا يخيفهم وحشٌ كاسر، ولا عدو غادر، وكانوا إذا أرادوا الخروج طلبوا يوسف ليخرج معهم، فلا يأذن في ذلك والده، وهذه عادة الأب مع الابن المدلل، يخشى عليه من النسمة، فيقيه بهدب العين، ومن السقطة فيحميه بالقلب واليدين، ومن الجوع فيطعمه الفؤاد إذا أراد، وإن مرض كانت الروح بلسمًا لشفائه، والصدر دفئًا لأحشائه، فلما دبروا مكرًا وأرادوا بيوسف شرًّا، ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11]، وهنا أفصح يعقوبُ عن سبب المنع: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف: 13]، فكان سببَ المنع أمرانِ:



أنه لا يطيق مفارقته، والبعد عن نظره، فهو موله به.







والثاني: خشيته من غفلة إخوته عنه، وبالتالي سينفرد الذئب به ويأكله.







هذه هي حجته في حبسه عنده، وهذا كله من فرط الحب، ويعقوب نبي الله لم يغِبْ عن اعتقاده يومًا أن الله هو الحافظ، وهو الذي يحيي ويميت، ولكن هناك شيء أسر قلبه تجاه يوسف، فكان دائم الخوف عليه، ويعقوب إنسان، وهذه نقطة ضعف على ما يبدو عنده، وألح الإخوة على أبيهم على غير مألوف العادة: ﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [يوسف: 14]؛ أي: لضعفاء عاجزون، وأنت تعرف أننا نملك الشجاعة والقوة، وخبرنا البراري، أيعقل ونحن عصبة قوية أن نخشى الذئاب؟ ولعل والدهم بخشيته على ابنه من الذئاب قد سهل مهمتهم في الكذب والتلفيق، فقد فتح لهم بابًا لم يكن قد خطر ببالهم باتهام الذئب وتحميله وزر دمه، فهل كان عنده علم مسبق عن طريق الوحي بأنهم سيدعون بأن الذئب أكله؟ أم أنه ذكر الذئب مصادفة عن غير معرفة بنواياهم؟!







لقد اقتنع يعقوب بحرص أبنائه على حماية يوسف والمحافظة عليه، وأنهم يقصِدون أن يستبق معهم، وينشط ويتعود حياة البر وعيشة الصحراء؛ ليشتد ويقوى، ويمتلك الجرأة والشجاعة، فوافَق على ذهابه معهم، ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]، فلما ابتعدوا وهم يتريَّضون وقد وصلوا إلى بئر بعيدة، قبضوا على يوسف وهم مجمعون على إلقائه في البئر، وشعَر يوسف بغدرهم، فاستسلم لقضاء الله فيما عزموا عليه، وهو مدرك تمامًا ما رآه في الرؤيا أنه كائن، وسيحصل يومًا ما، وزاد من هذا اليقين أن الله تعالى قد أوحى إليه وحي يقين في القلب أنه سيخبرهم يوم يأتونه ساجدين له سجود تكريم واحترام، وسوف يعاتبهم عتابًا يخجلهم، ويذلُّ موقفهم، ويكشف ما اقترفوه بحق يوسف أمام أبيهم، فدلوه في البئر وتركوه لمصيره بعد أن نزعوا قميصه، ثم قفلوا راجعين إلى أبيهم باكين مع حبك كذبة تنطلي على أبيهم: ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 16، 17]، والدموعُ دائمًا مؤثرة في الآخرين، فما كان ليعقوب إلا تصديق أبنائه على مضضٍ، وهو مدرك أنهم فعلوا مع ابنه أمرًا ما، فقد ظهر تصنُّع تصديقهم على ملامح يعقوب، وقرأه بالطبع أبناؤه، ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17] لم يكن ليصدق ما زعموا من قصة الذئب، وقد كانوا يتحدَّوْن أن يأكله الذئب أو أن يقترب منه؛ لأنهم عصبة متمرسون على مقارعة الذئاب، ولكي يثبتوا لأبيهم صدقَ دعواهم: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18] على أنه شاهد إثبات لما حدث ليوسف بأن الذئب قد أكله، ولم يبقَ منه سوى قميصه، أيعقل هذا؟ ويعقوب ينظر إلى أولاده بحزن وأسى وهو يأسف على تربيته لهم، وملامح وجوههم تظهر كذب دعواهم، ألم يعلَموا أن أباهم نبي، وأنه حتى وإن لم يكشف له الوحي ما صنعوا بيوسف، فإنه مؤمن ذو فراسة ينظر بنور الله؟ ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].







لم يُسلِّم يعقوب عليه السلام بما زعمه أبناؤه المتآمرون، لقد أتوه بأمر جللٍ؛ لذلك تذرَّع بالصبر، واستعان على ذلك بالله؛ لأنه تجاه هذا الأمر ضعيف، وأنى له الصبر على فَقْد حبيبه يوسف إن لم يُعِنْه ربه على ذلك؟







وينتقل المشهد إلى يوسف وما سيحل به في الجُب: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ﴾ [يوسف: 19]، وذكَرْنا أن الجب الذي ألقي فيه يوسف كان على طريق المسافرين من أرض مدين إلى مصر عبر فلسطين، أو العائدين من مصر إلى مدين، وكانت هذه السيارة - القافلة - متوجهة إلى مصر، فتوقفت قرب الجب تستريح من عناء السفر، وترتوي من ماء هذا الجب، فأرسلوا السَّقَّاء القائم على تزويد القافلة بالماء وملء ما معهم من أوعية جلدية يحملون فيها الماء لاجتياز صحراء سيناء، فألقى هذا السَّقَّاء دلوه في البئر ليغرف الماء، فتعلق به يوسف، وجذب السَّقَّاء الدلو الذي أحس بثقله، ولكنه بذل الجهد فأصعده، ولما نظر في الدلو صاح من هول المفاجأة: ﴿ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ ﴾ [يوسف: 19]، أن يخرج أحدهم غلامًا بدل الماء يُعَد هذا ربحًا وافرًا؛ لذلك أطلق صيحة الفرح هذه، فقد كان الرقيق تجارة رائجة رابحة، ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 19] فقد أخرجوه وأخفَوه عن العيون ليكون لهم رقيقًا يتجرون به، ولكن كل هذا الذي يحصل ليوسف يجري بتقدير الله، وهو عالم به، وهو الحافظ له، ولعل هذا إنقاذٌ ليوسف من نقمة إخوته، مع الحفاظ على وحدة بيت يعقوب، فقد أخرجه الله من بينهم إلى حين، ريثما يهدأ طغيان إخوته، ويعودون إلى اتزانهم ورشدهم، متغلِّبين على شيطانهم الذي سيطر على عقولهم، ووافقوه وساروا في طريق الشر، ولكن إلى حين، أليسوا هم أبناء نبي؟ وهم باقون على الإسلام برغم ما فعلوه، فلم يخرجوا من ملة الإسلام، ولكن في الإنسان ثغرات لا يزال يهجم من خلالها الشيطان، ولا معصوم إلا من عصمه الله، وابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فكانت حكمة الله في هذا المسار الذي يحفظ ليعقوب كافة أبنائه في إطار من الإيمان، بحيث لا يفجع بفقد أحد، وإن كان هذا على حساب حزن يعقوب العارم وقلقه على ولده يوسف إلى حد فقدان البصر، وتشرد يوسف وعبوديته، لكن لكل شيء في الحياة ثمن يدفع لقاء درس مستفاد، ألم تكن هذه السياحة ليوسف نوعًا من التغيير في طريقة الحياة المحدودة بين أهله؟ فاطلع على حياة جديدة في بلد كبير مثل مصر في ظل حماية من عزيزها، ورفاهية في العيش برغم رقه الذي كان فيه، ولعل هذا الرق كان نوعًا من الحماية ليوسف، وتمكينه من الاطلاع على ما يجري عند علية القوم وملوك البلد، ولولا هذا لما انطلق يوسف في الخبرة والمعرفة، ولا نريد الاستطراد أكثر من هذا ونستبق الأحداث؛ فإن القصة انطلقت متتالية كحبات العِقد التي كانت مسلوكة في نظام فانقطع، ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]، وشرَوْه من الأضداد؛ أي بمعنى باعوه بثمن بخس قليل لا يتناسب مع قيمة يوسف لو عرفوه، هذا من وجه، وقد يكون هذا الثمن لا يتناسب مع فرحة السقَّاء عندما استخرجه من البئر، وربما كان ثمن البيع زهيدًا؛ لأن السيارة التي أخذته رقيقًا إنما أخذته بغير حق، ودائمًا يباع الغرض المسروق بثمن بخس، بخلاف المملوك بحق، فالسارق حتى ولو سرق ذهبًا وجوهرًا لا يستطيع بيعها بالثمن المناسب لها فيما لو كانت ملكه حقيقة؛ لذلك دائمًا تباع بثمن بخس، ولا أدري كيف فسر المفسرون بأن إخوته هم الذي باعوه بثمن بخس؟ فسياق القصة يأبى هذا، إخوته رموه في الجب ومضوا إلى أبيهم يخبرونه بأن الذئب قد أكله، ولو علموا بأمر السيارة التي أخذته إلى مصر لعرفوه، ولو ظنًّا، عندما التقوه في مصر وهو عزيزها، ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21]، لقد كان المشتري رجلًا مهمًّا، عزيز مصر، واسمه "قطفير"، وكان عقيمًا لم يرزق بالذرية؛ لذلك أوصى زوجته "زليخا" بأن تحسن إليه وتكرمه، ولا تعامله معاملة الرقيق؛ فقد توسم فيه الخير، ورأى فيه سيما أصل طيب، ولسبب لم يدركه بِيعَ رقيقًا، وهذا من نعم المولى على يوسف، قدر عليه الرق، ولكن لم ينزله إلى مهانة الرقيق، فهذا السيد عزيز مصر، يوصي زوجته بإكرامه؛ لأنه سيتبناه: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]؛ فكونه عند العزيز هو بداية التمكين له في الأرض، وعلى يوسف أن يثبت جدارته في التقرب إلى العزيز، واكتساب الخبرة السياسية من خلال مركز العزيز، مع نسيان أنه مؤمن موحِّد، صلته الأولى مع الله مراقبة وعبادة وذكرًا، فقد زوده الله بسلاح سلمي قوي، وهو هدايتُه إلى تأويل الرؤى بشفافية عالية، تكاد لا تخرم أو تخطئ، والله حافظه وراعيه، وأكثر الناس لا يدركون هذا؛ لبُعدهم عن الإيمان، وقلة منهم يعرفون هذا، وعلى رأسهم والده يعقوب، وعاش فترة صباه اليانعة في بحبوحة من العيش، مدللًا من زليخا وزوجها، وبدأت فتوته تظهر، وعذاراه يظهران، وشارباه يخطان، والفتى في مثل هذه السن يتألق نضارة وجمالًا، فكيف بيوسف الذي أوتي شطر الحسن؟! فقد كان آية في الجمال، يأسر قلوب الصبايا، وتشتاقه الكواعب، ولا تمل أنسه أو النظر إليه: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، وبلوغ الأشد يكون عادة بعد البلوغ إلى سن الثلاثين، وعندما وصل إلى هذه السن تفتَّق حكمة وعلمًا وبيانًا، أعجب سيده، وقدَّمه معه في المناسبات، فتعرف على شخصيات المجتمع في مصر، ولكن هذه النضارة والشخصية الخلابة كانت تأسر أقرب الناس إليه (زليخا)، وتلهب فيها المشاعر حبًّا آسرًا ليوسف من نوع العشق والهيام، فتضرم في قلبها الغرام الذي أخذ عليها لبها وتفكيرها، فلا يكاد يفارقها ليل نهار: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ [يوسف: 23]، ويبدو أن الغرامَ قد أخذ منذ فترة مأخذه في قلبها، وملَك عليها عقلها ونفسها وهي تكتمه وتخفيه، إلى أن فاض بها، فلم يعد يحتمله قلب ولا تطيقه نفس، فجاش بقوته، وعصف في النفس بعنفوانه، فأرادت أن تملأ النفس بالهوى، وقد فرغت منذ فترة لشيخوخة قطفير وفتور لهيب الحب في فؤاده الذي استكان، فخططت ودبرت للخَلوة وقطاف اللذة، فتزينت بأحلى زينة، وضمخت جسدها وشعرها بفاتن العطر حتى غدت أنفاسها عبيرًا، ولبست شفيف الثياب، فأبان عن جمال خلاب، لقد أعملت كل ما أتقنته من فن التجمل حتى خيل لها أنها في يوم زفاف حقيقي وعرس خيالي وجلسة مخملية بَنَتْها في مخيلتها الحالمة، تتناسب مع مكانتها سيدة لمجتمعها، فلا تريد لذة السوقة المبتذلة الساقطة، وهي مع كل هذه الأناقة جميلة فاتنة بفطرتها التي خلقت عليها من غير تجمل ولا زينة، فنادت يوسف العفيف وهي تعرف فيه هذه العفة، فقد عاش معها زمنًا، ولكنها الفتنة وإبليس وإغراء الجنس الذي يحسه كل شاب فطرة تدغدغ نفسه، وتهيج شهوته، وقد يسرت له كل أمر؛ فهي الطالبة الراغبة، وليس هو المحاول الذي قد يجد الصد أو التعنيف إن كان البادئ المباشر، وزيادة في الإغراء وتوقع الاستجابة وضعته تحت الأمر الواقع بأن غلقت عليه الأبواب، وأظهرت شفيف الثياب، وخلعت بعضًا منها، وقالت: هيت لك، أنت في مأمن وخلوة لا رقيب فيها، وأنا الراغبة فيك فتعال، ألست شابًّا وهذا ما يطمح إليه الشباب، وأنا امرأة العزيز ذات الكبرياء، لست واحدة من تلكم الساقطات بائعات الهوى، لقد هئت لك وتهيأت لك، قال بلغة المؤمن بربه القالي للرذيلة وخيانة مَن آواه وعطف عليه واسأمنه على عِرضه وشرفه: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23] إنك تدعينني لإثم ورذيلة لا تنبغي لي ولا لك، أنت زوجة سيدي الذي أحسن إليَّ وآواني وأكرمني، ولك أنت أيضًا شرف المشاركة في تربيتي، عشتُ هنا معكم كأنني واحد منكم، فهذه خيانة لا تنبغي لمثلي ولا تليق بي، لا، بل حتى ولو كانت التي تدعوني إلى هذه الفاحشة ليست لها صلة قرابة بسيدي فلن أقبل دعوتها لفعل الفاحشة، فأُغضِب بفعلتي هذه ربي بارئي وخالقي، فأبوء بإثم الزنا، ليست هذه أخلاقي، وليس هذا ما أخذته عن والدي، واعلمي يا عزيزتي أن الظالم لا يفلح أبدًا، لا.. وألف لا، لكن من عاشت على حلم بالوصال من هذا الفتى الندي الفاتن، لا يمكن لها أن تقنع بمحاضرة تهدم لها ما بَنَتْه في الخيال، وعلقت عليه الآمال، فما في فكرها غير قابل للإصغاء والنصائح؛ لأنها عندما خططت لهذا الأمر رمت خلف ظهرها كل القيم؛ لذلك لم تستمع إليه، وقدمت له مزيدًا من الإغراء والإصرار على نيل اللذة التي خططت لها، ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24]، ووصل الأمر في الإغراء ذروته، فكان الهم منها ومنه في إرادة ذلك الفعل، وهذه خطوة من يوسف الشاب قرَّبته من الاستجابة بعد الرفض، فهو بشر له طاقة في تحمُّل الصد، والمقاومة لها حد تهوي بعده المقاومة؛ ولهذا منع الإسلام الخلوة بالمرأة؛ فالخلوة الطويلة تضعف المقاومة، وتفسح المجال للشيطان ليتحرك بفاعلية أكثر للإغراء والإغواء، وبعدها تأسره الشهوة المغروسة في النفس فطريًّا، وعندها يصل حد التمنع إلى نهايته، ويعجز الإنسان عن كبح الشهوة أو السيطرة عليها، ويفلت منه زمام المقاومة مهما أوتي من مقومات الصد، فإنه في نهاية المطاف لا بد من العناية الربانية التي تحُول بينه وبين ما ضعُف عن مواجهته، فقد أراه الله برهان التقى وصورة والده يعقوب فنزعت من نفسه سيطرة الهوى، وصحا من خدر الجنس وطغيان الشهوة، ولقد أعجبني قول لأبي عبيدة في غريب القُرْآن؛ أن في هذه العبارة تقديمًا وتأخيرًا، بمعنى: همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، لقد أعدَّه الله تعالى للنبوة، والأنبياء أطهرُ أهل الأرض على الأرض، وصفوة خلقه؛ نزاهة وعفافًا، والموقف الذي تعرض له يوسف كان صعبًا وامتحانًا قاسيًا، وقى الله منه يوسف، وأخرجه طاهرًا نظيفًا عفيفًا، فانتفض بعد تذكُّر، وصحا بعد خدر الهيام، ورنا بنظره نحو الباب، فابتدر إليه يطلب النجاة من هذا الموقف العصيب: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾ [يوسف: 25] لقد تنمَّرت وخرجت عن دلها، وسقطت هالة حسنها، فإذا هي لبؤة ذات مخالب وأنياب تجيد الفتك والخمش، فانقضَّتْ عليه مسرعة من الخلف تجذبه كيلا يهرب، وكلاهما يريد الباب، هو يستبق إليه للنجاة من هذه الكاسرة المتنمرة، وهي تستبق إليه لتقف دونه حائلًا فلا يخرج منه إلا بعد تحقيق مُنْيتها، فأمسكت قميص يوسف فقطعته، ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25] يا لهول هذه المفاجأة! فهذا هو العزيز عند الباب قد سمع المدافعة، وكان قدومه غير متوقع منها، لكن كان بالنسبة ليوسف أمل النجاة من براثنها، وهو الذي يحسم هذا الصراع الغاضب، لكن لما سُقِط في يد (زليخا) بحضور سيدها، ابتدرت بلغة المظلوم المعتدى عليه: ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]، وهكذا فإن كيد النساء عظيم، تظهر بعد التنمر ضعفها، وتنهلُّ سريعًا دموعها، فتضحي بطرفة عين مظلومة معتدى عليها تطلب النصير، لقد خلبَتْ لبَّ زوجها بهذا الظهور البريء الضعيف المعتدى على شرفها، وطلبت من زوجها أن يزجه في السجن بعد التنكيل به، وكان من أكبر الكبائر أن يعتدي عبدٌ على سيدته جنسيًّا، وهذا أيضًا في الإسلام، فالمملوك يعد واحدًا من أهل البيت، وسيدته لا تحتجب منه؛ لذلك وجهت له هذه التهمة الخطيرة، ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ﴾ [يوسف: 25]، وتابعت لكي توحي له بالعقاب الذي ينبغي أن يكون ﴿ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]، ونطق المظلوم؛ لأنه لو سكت على التهمة للزمته، وقامت عليه الحجة: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 26] هي المعتدية علي، وهي التي أعدت لهذا الأمر عُدَّته من مكانٍ وزينةٍ وإغراء وصرف للخدم، ولما كثر الجدل وحار العزيز من يصدق، أيصدِّق زوجته التي يحبها ولكنه يعرف مشكلتها ودافعها للوقوع في هذه الخطيئة، فهو مقصر جنسيًّا معها، فلم تنَلْ منه منذ زمن ما تنال الزوجة من زوجها ليروي فيها ثائرتها الجنسية، وكل هذه الرفاهية التي تعيشها في ظلال العزيز لم تحقق لها السعادة الكاملة؛ لأنها لم تكتمل في شقها الأقوى المفقود، وإشغال المرأة بنشاطات اجتماعية وسهرات ترفيهية وإضفاء الألقاب التي ترضي غرور المرأة كأن تكون السيدة الأولى في مجتمعها - لم يقنعها للتخلي عن إرواء غريزتها إلا إلى حين، كل هذا كان يجول في خاطر العزيز الذي يعرف تمامًا السبب الذي دفع زليخا إلى التفكير بهذا الأمر وسلوك درب الخطيئة، وهو تجاه الطرف الآخر المتَّهَم بالاعتداء يعرف تمامًا براءته، وأنه لا يمكن أن يصدر عنه هذا السوء، وقد عايشه نظيفًا عفيفًا طاهرًا قانتًا لله عابدًا، يشع من جبينه ضياء النبوة وإشراقة الوجدان، ولكن ماذا يفعل بعد صبر زوجته عليه وكتمها ضعفه الجنسي كل هذه المدة، الذي ينبغي أن يبقى سرًّا مدى الحياة، وألا يكشف ما دام حيًّا؟! فهو بحق العزيز كبير وخطير، وعليه يجب عليه أن يميل لرأي الزوجة بلا تردد، وإن جار وخالف ضميره، وبالرغم من تدخل طرف حصيف ثالث كان من أهلها نطق حينها بالحق وفق منطق معقول: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]، أمر فيه منتهى الذكاء والحكم بالقرينة، ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، فقد عرَف براءة يوسف، وأن التدبير كان تدبيرها بلا أدنى شك في ذلك، فهن صاحبات تدبير المكائد، ولا يجيد ذلك إلا النساء، وإذا ما فشلن فإن الدموع حاضرة، وتصنُّع المقهورة الضعيفة ماثل، لا أقول كلهن، ولكن مَن سلك سلوك امرأة العزيز في التدبير والتخطيط فإنهن لا يعدمن مثل هذا التصرف في كل زمان ومكان، فذلك كيدهن، وتلك فطرتهن، ويحمي الله من ذلك المسلمة التقية العفيفة التي تبتغي على صبرها وتصوُّنها من الفاحشة أجر الله وثوابه.







﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]، وهنا لجأ إلى أخلاق يوسف وما تمتع به من طيب الخصال والأخلاق، أن يصفح ويكتم هذا الأمر فلا يخرجه خارج بيت العزيز؛ كيلا يشيع الأمر ويلوكه الناس، تزيدًا ومبالغة، فيخرج عن قصد المحاولة إلى أكذوبة الممارسة، وفيه ما فيه على سمعة العزيز تجاه المجتمع، كما قال لها بأن تندم وتكفر بالتوبة ما حاولته، وبألا تعود ثانية، وقيل: هذه النصيحة انطلقت من الشاهد الذي هو من أهلها؛ حفاظًا على سمعة زليجا قريبته.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-04-2021, 03:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: يوسف بن يعقوب بن إسحاق

يوسف بن يعقوب بن إسحاق (2)

د. محمد منير الجنباز


﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30] وبالرغم من التكتيم عما حدث فإن ما يجري في البيوت الكبيرة ودور المسؤولين لا يبقى طي الكتمان، فلا بد من تسرُّبه؛ لأنها دائمًا محط أنظار كثير من الناس، وتسلط عليها الأضواء؛ ليصنع من حركاتها الخبر، وتكون للعامة ملح التندر والسهر، "قال الملك، وفعل الملك، وقالت زوجة الملك، وابنة الملك الوحيدة المدللة، وكل حكايات الناس عن الملك وحاشية الملك".



وشاع خبر امرأة العزيز في عشقها لفتاها؛ أي: مملوكها، وقالوا: قد شغفها حبًّا، وهذه العبارة تمثل قيمة البلاغة في التعبير عن تملك الحب في القلوب بأنه دخل في شغاف القلب وغلب عليه، فهذه لوعة الحب، وإذا وصل الحال بالمرأة إلى هذا الحد فقد خضعت المرأة بلا إرادة لهذا العشق الذي لا فكاك منه، فلا ترى الحبيب إلا من خلاله، ولا تسعد إلا به، حتى ولو اكتوت بناره التي تراها بردًا وسلامًا، وذكر أن من نشر الخبر نسوة ممن كن يعملن داخل القصر، وهن "امرأة ساقي العزيز، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه، وامرأة خبازه"، فكن خمسة نسوة خرج السر من عندهن وشاع في المدينة، وقد خطأها الجميع ولم يعذِرْنها، ولا أظن أنهن كن سيتصرفن خلاف ما تصرفت لو كن في مثل حالها، والنساء أكثر من يعرف هذا، لكن أردن التشهير ونيل الحكمة والشرف من الحط بها وبما فعلت، لكأن لسان حالهن يقول: لا تستأهل هذا العز ونحن من يستأهله؛ فلسنا مثلها تعشق فتاها الكنعاني، يا ويح ما فعلت! ويا سوء ما اقترفت!.



﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31] ولما شاع الخبر، وبدأت القالة ضدها، واغتَبْنَها أشد الغِيبة، لم ترد القول بالقول، أو تنفِ ما قيل، بل أرادت أن تثبت لهن بالممارسة العملية دون أن يدرين ما ترمي إليه، فدعتهن إلى حفلة، وزادت عدد المدعوات حتى بلغن أربعين، ثم أعدت لهن متكأ ليجلسن جلسات الأكابر المترفات، وأعدت طعامًا وفاكهة لا يصلح تناولها إلا باتخاذ السكين للقطع، ولما اطمأنت إلى أنهن أخذن أماكنهن، قالت: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، وقد ألبسَتْه فاخر الثياب والحُلَل البهية الفاتنة، فكان فتنة للنساء اللاتي يعشقن بفطرتهن جمال الرجال، ويذُبْنَ هوًى وشغفًا في افتتان، ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، وكانت المفاجأة الكبرى، هذا الفتى الذي تكلمن عنه يخرج الآن كأجمل ما يكون عليه الرجال، فلما رأينه أكبرنه وأعظمن شأنه، وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق، وعرَفْنَ من سيما يوسف أنه عريق المحتد، من أصل طيب رفيع، وليس مكانه أن يكون رقيقًا، فهذا الجمال لا شك ملائكي، فقد نزهن الله عن الشريك ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ [يوسف: 31]! ولهول الدهشة قطعن أيديهن؛ أي: جرَحْنها دون شعور بما يفعلن، فلم يحسسن بألم الجراح، فقد خلب اللب بجماله، وفتنت العقول بطلعته الوضاءة، فعذَرْنَ زليخا أن وقعت في غرامه، وهي التي تراه كل يوم ويجاورها في أكلها وشربها ومنامها، أليس غلامها القائم على خدمتها؟! فقد غلبها حبه.



وفي الحديث الشريف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مررتُ بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: يوسف))، فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال: ((كالقمر ليلةَ البدر)).



فهل ستتخلى زليخا عن يوسف - وهو الذي شغفها حبًّا - بعد هذا؟ لقد تمسكت بموقفها أكثر من ذي قبل، وأعلنت بلا خفاء أنها تحبه، وما زال طلبها قائمًا، ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]، وكأن هذه الحفلةَ قد أعطتها المبرر لما أقدمت عليه، فازدادت جرأتها على التصريح بطلب الفاحشة، وقد ضربت بالقيَم والمثل السائدة في مجتمعها عرض الحائط، إنها لا ترى سوى الاستئثار بيوسف والاستمتاع به؛ لذلك التفتت إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن قائلة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ [يوسف: 32]، أألام بعشقه؟ ولم تقل: أهذا، وهو قريب منها مشاهد غير غائب، فأشارت إليه باسم الإشارة للبعيد؛ رفعًا لقدره وشأنه، وأنها عشقت فتى يستحق هذا العشق، وأنه بالرغم مما حدث من ممانعة لما دعوته إليَّ وتكبر على طلبي، فإنه ما زال في شغاف قلبي، يأسره بقوة لا فكاك عنها إلا بأن يستجيب لي، نعم أقول الآن بمنتهى الصراحة: أنا الذي راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع وأبى أشد الإباء، وبعد افتتانكن به علق قلبي به أكثر وأكثر، وإن لم يفعل ما آمره به لأنكلن به فينقلب حبي بغضًا يخالطه الانتقام لكبريائي الذي جرحه، لأسجننه وليكونًا في هذا السجن ذليلًا صاغرًا بعد أن كان في بيتي عزيزًا منعمًا، وهكذا أعادت عليه طلب مواقعتها مع تقديم إغراءات في رفع لمنزلته ليكون وجيهًا من وجهاء بلدها، وقد خيرته بين الأمرين، فقال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، لقد فضَّل السجن على ارتكاب الإثم، وهو هنا أقوى إرادة وتمنعًا مما كان عليه يوم خلت به وقالت: هئت لك، فلما مر ذلك الامتحان الصعب بسلام كان ما بعده أسهل، فليس ما يأتي من كلام في الحب والعشق بعد الصدمة الأولى يثمر مع يوسف، فقد سبق أن قلاه عند قمة الإغراء، وها هو ذا يختار السجن، بل ويقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [يوسف: 33]، لكأنه يستجير بالسجن تخلصًا من إغراء زليخا، وهروبًا من ملاحقتها له، وهو يدرك وحشة السجن وظلمته، لكنه فضله على فعل الفاحشة، أو قل: فضَّل سجن الجسد على سجن النفس، فلو طاوعها لكن سجن نفسه عندها وأصبح رهين هذه المرأة التي لا تعرف إلا إرواء ما تأجج عندها من عُرَام الجنس، ثم شكا أمره إلى الله، وطلب عونه: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، وهنا لم يذكر زليخا بضمير المفرد، ﴿ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 33]، فهل تحول اللاتي قطعن أيديهن كلهن إلى راغبات فيه، طالبات منه اللذة والهوى؟



رُوي أن كل واحدة من النسوة طلبت منه معاشرتها، وقالت: ما لك وزليخا أنا أجمل منها؟! فعلى هذه الرواية يصح شكواه منهن جميعًا، وروي أن النسوة قالوا له: أطِعْ سيدتك، وعلى هذا تصح شكواه منهن، ويصح أيضًا أنه عد زليخا نموذجًا لكل النساء، فكانت شكواه منها تمثل الشكوى من جميع النسوة، لقد طلب المعونة من الله بأن يصرف عنه كيد زليخا ومَن آزرها من النسوة، وإلا يصبُ إليهن؛ أي: يَمِلْ إليهن، وينسَقْ في طريقهن، وهذا ما لا يريده، ويطلب من الله العصمة؛ ليبقى نزيهًا طاهرًا، فلا يهمه غربة السجن ولا ظلماته؛ حبًّا لله وطاعة له: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34]، وجاء عونُ الله يوسفَ، فلم يتخلَّ عن عبده، وهو معه، ولن يجعل لإبليس وأعوانه عليه سلطانًا، وعملت زليخا بعد هذا الصد من يوسف عملها في الكيد له، وانقلب عشقها له بغضًا، وزفراتٍ غضبى، كالنار تود لو تصليه بها، ثم أقنعت زوجها بسجنه متظلمة باكية شاكية؛ فقد أصبحت - بسبب تعرضه لها بالسوء كما ادعت - يلوكها كل لسان، ولن يسكت صوت الناس الغمازين واللمازين لها إلا بالتخلص من يوسف وتغييبه في السجن، ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]؛ فكل الدلالات تظهر عفة يوسف وبراءته، وزوجها يعرف ذلك، ولكن لا يرد لها طلبًا؛ فهو المقصر معها جنسيًّا، وبهذه العلة أصبح مطواعًا لها، وأرى أنه طاوعها على سجن يوسف ليكسب من هذا السجن أمرين، الأول: تنفيذ رغبتها، والثاني: إبعاد يوسف عنها؛ لعلها تنساه، فهو يدرك أنها هي التي تسعى وراءه وتراوده عن نفسه، وأظن أنه لم يخفَ عليه أمر النسوة واجتماعهن وفشو أمرهن وهو الذي له منصب كبير يستوجب أن يكون له عيون تنقل له الأخبار، وهذا سمة لكل صاحب منصب خطير، وبهذا يكون العزيز قد رأى أنه من مصلحة الجميع تغييب يوسف في السجن حتى حين، واستعمال كلمة حين تؤيد هذا الاتجاه؛ لأنها كلمة تتسع وتضيق، وهي لا تحدد مقدار الزمن، وهذا يعني لحين نسيان أمره من قبل زليخا، وينقطع فيه كلام الناس، فقد تطول المدة وقد تقصر، وقد وردت (حين) في القُرْآن بمعنى أربعين سنة: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ووردت بمعنى الدهر بطوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]، ووردت بأنها تساوي سنة: ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]، ووردت بأنها تساوي يومًا: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17]، وكانت تجرِبة قاسية لنبي في السجن، لكن ترافَق دخول يوسف السجن مع اثنين من خدم الملك؛ صاحب خبزه، وصاحب شرابه، وقد نمي إلى الملك أنهما أرادا دس السم في طعامه وشرابه فزجهما في السجن ليرى فيهما رأيه، وربما كان ممن آنسَا يوسف بوجودهما؛ كيلا يستوحش من ظلمات السجن، وكان يوسف كثير الذكر لوالده ولمعتقده ودينه، ويدعو إليه، وكان يعطي الأمل للمسجونين أن مع الصبر الفرَج، ونيل الثواب والأجر، فكانوا يقولون له: ما أحسن وجهك! وما أحسن خُلقك! ويقال: إن رئيس السجانين قد أحبه ورق لحاله، وقال له: لو استطعت خليت سبيلك، وما بمقدوري هو أن أحسن جوارك ومعاملتك، وخيَّره في أي بيوت السجن يحب أن يُقيم فليُقم، وكان يفسر لنزلاء السجن الأحلام مدة إقامته، فسر حلم الفتيين اللذين دخلا السجن معه: ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، فقصَّ كل واحد منهما حُلمه الذي رآه، وانتظرا التفسير؛ ثقة منهما بيوسف وخُلقه ودينه، فقال يوسف بلُغةِ الواثق من تفسير الحلم بالاعتماد على الله تعالى الذي أعطاه هذه الميزة وعلَّمه تفسير الأحلام، ثم قدم لهما مقدمة تعريفية مختصرة عن الإيمان، وأن الله تعالى آتاه تفسير الأحلام وأوحى إليه بالنبوة: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَب ﴾ [يوسف: 37]؛ فالإنباءُ عن المغيَّبات لم يكن ليوسف قبل هذا، ولكن بعد دخوله السجن ذكر النبوة والإنباء، وأن الله علمه ذلك بكشف هذه المغيبات له، فقد أخبر السجينين بأن أي طعام يأتيهما إلى السجن فإنه يستطيع بإذن الله أن يخبرهما بنوع الطعام قبل أن يصل إليهما، وهذا ليس من الرجم بالغيب أو السحر؛ إنه مؤكد؛ لأن الله أخبره به وأطلعه عليه، وهذا العلم هو من الآيات المؤيدة لنبوة يوسف عليه السلام، ثم أخبرهما بأنه ينتمي إلى ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا ينتمي إلى هؤلاء الذين يعيش بينهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، حتى حينما أصبح عزيز مصر فيما بعدُ عمِل بجد وأمانة لصالح أهل مصر، لكنه لم يفلح معهم في نشر دعوة التوحيد؛ حيث أصروا على دينهم، وقد أكد القُرْآن ذلك في سورة (غافر): ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، فهذه الآية أعطت موجزًا عن دعوة يوسف في مصر، التي لا نعرف عنها الكثير، ونعود إلى السجينين، وتركيز يوسف على تعليمهما التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40]، وهنا مال إلى المنطق في عرض دين التوحيد، والمقارنة بين اتخاذ أربابٍ متفرقين من الأصنام التي صنعها البشر بأيديهم بأشكال مختلفة وتصورات خيالية خاطئة بعيدة عن الواقع، وقد منحها الإنسان بنفسه أسماءً وألقابًا، فهل يمكن لهذه المصنوعة الحقيرة أن تكون أربابًا صانعة خالقة؟ لا يقول بهذا إلا ضعيف العقل والتفكير، نزل بفكره إلى درجة منحطة أدنى من الحيوانات، فاعلما أن الحكم لله لا لغيره؛ فهو الذي أمرنا بعبادته وحده؛ لأنه دين الله القيِّم، والناس بغفلتهم منشغلون عنه لاهون، قد غشهم ما عند المعابد الوثنية من هيمنات الكهَّان، وزخرفات الرسامين والنحاتين، الذين خدعوا الناس بهذه البهرجات والطقوس، فمالوا إليها وخدعوا بحقيقتها، وكان هذا الدرس لهما؛ لأنه علم من الرؤيا التي قصاها عليه أن أحدهما هالك، فأراد أن يفيده في آخرته ليسلَم، وهذا من الرحمة التي غرسها الله في الأنبياء، وبعد هذا الدرس الجلي عن التوحيد التفت إلى تفسير رؤيا صاحبيه في السجن: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، وهكذا أبلغ كلًّا منهما عن تفسير حُلمه بمنتهى الصراحة، ولم يُخفِ شيئًا من التفسير، بل قال للذي سينجو: إنك ناجٍ، وستعود لتكون ساقي الملك، وقال للذي سيهلِك: إنك هالك، وستُصلَب حتى الموت، وستأتي الطيور الجارحة لتأكل من رأسك، وأن هذا الأمر قد قدره الله، وحكم به، فهو مَقْضِيٌّ واقع لا محالة، وجاء العفو من الملك للساقي، وأذن له بالعودة إلى عمله، فخرج من السجن فرحًا مغتبطًا، وأوصاه يوسف أن يرفع قضيته إلى الملك ويخبره بأن يوسف سجين مظلوم، فوعده الساقي بإخبار الملك بأمره، واقتيد الخباز إلى خشبة الصَّلب، فصُلب، وأكلت الطير من رأسه، ومضت عدة سنين غرق فيها الساقي بنعيم الملك وأبهة القص،ر فنسي السجن وأيام السجن، ونسي ما وعد به يوسف، وكان ذلك النسيان من عمل الشيطان؛ وذلك للكيد ليوسف العابد الموحد؛ فإن الشيطان عدو الناس، وعدو المؤمنين بشكل أخص، فطال سجن يوسف لهذا النسيان بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث والتسع، ورُوِي أنه مكث سبع سنين، ولم يذكر الساقي يوسف إلا عندما رأى الملك رؤيا هالَتْه وألحت عليه، فاهتم لها وطلب من يعبر له هذه الرؤيا، وكلما أتوه بمعبر عجز عن فهمها، حتى قالوا له: أضغاث أحلام لا تفسير لها؛ أي: إن ما رأيت هو أخلاط وأباطيل، وربما كانت من حديث النفس وأحلام اليقظة ووسوسة الشيطان، وهذه الأنواع من الأحلام لا تفسير لها عندنا، لكن الملك كان مهتمًّا لتفسير هذا الحُلم، وكان يراوده كثيرًا، ويود لو أفلح أحدٌ في تفسيره، لقد شغل به كثيرًا حتى أثر على مزاجه، فلم يعُدْ يطلب الشراب كما كان، وهنا فطن الساقي إلى أمر يوسف وقدرته على تأويل الرؤيا، وعليَّ أن أخبر الملك بأمر يوسف: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]، أرسِلوني إلى يوسف في السجن؛ فهو العالم بتأويل الرؤى، وسُرَّ الملِكُ لهذا الخبر المبشر بتأويل رؤياه، فأذن له، وانطلق سريعًا إلى السجن: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ﴾ [يوسف: 46]، وذلك مِن فرحة الساقي؛ لأنه ذكر يوسف بعد نسيان، فكان هذا النعت ليوسف بالصِّدِّيقية بمثابة اعتذار له عن النسيان؛ لأنه سيحظى عند الملك وترتقي مكانته إن عاد له بتفسير الحُلم: ﴿ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 46]، فما كان من يوسف إلا أن أجاب هذا الساقي لصحبة السجن، ولم يخيِّب أمله، أو يشرط له شروطًا تعجيزية أو مكاسب شخصية؛ لأنه يعُدُّ تأويل الرؤى لمن سأله التعبير واجب الأداء، وبلا مقابل؛ لذلك أسرع إلى الإجابة، فقال: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 47 - 49]، وقد زاد على التأويل علمًا مستنبطًا؛ زيادة في توفية الرؤيا حقَّها، وإيحاءً لهم أنه يؤولها بالوحي، لا بالاجتهاد الشخصي؛ وذلك لبيان أمور لم تكن في الرؤيا لصالح الرؤيا، وكمال الصورة لأحداث هذا الحُلم، ومنها:

﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم بالعمل الجاد وعدم التراخي في العمل لما يرونه من وفرة المحاصيل؛ فإن لها ما بعدها من السنين العِجاف.



﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم كيلا يسوس في مدة التخزين الطويلة فيما لو درسوه.



البشارة بالعام الثامن بأنه عام خير وبركة على غير أعوام الخصب الأخرى؛ لأن الناس فيه سيكونون في بحبوحة ورغد، فيغاثون بالماء، فيزرعون ويحصدون غلالهم ويعصرون عنبهم وزيتونهم وسمسمهم، ويكون هذا العام كأحسن الأعوام خصبًا ووفرة نماء.



وما إن وصل هذا التأويل إلى الملك حتى سُرِّي عنه، وزال عن كاهله حملٌ ثقيل وعبء أطَّ له ظهرُه، وما شعر بالراحة وهدوء البال إلا بعد سماع هذا التأويل؛ لذلك نادى بملء صوته: ائتوني به، ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ [يوسف: 50]، مخاطبًا أعوانه المقربين والساقي معًا؛ لكي يخرجوه بأمر الملك، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﴾ [يوسف: 50]، رسول الملك الذي هو الساقي؛ لأنه هو الواسطة بينهما، جاء يحمل البشارة ليوسف بالعفو عنه والبشر والسرور على محياه، ألم يبشره يوسف برضا الملك عنه وعودته إلى السقاية واسترداد مركزه الذي أحبه وقربه من الملك؟ فجاءه بالبشارة مكفرًا عن نسيانه ومغتبطًا برؤيته يخرج من السجن ليتنسم عبير الحرية، لكن يوسف كان له رأي آخر وهو مظلوم متهم بالتحرش الجنسي بزوجة العزيز، إنه لا يهتم بالحرية - مع أنها غالية ومطلب كل إنسان - إلا أن براءته والاعتراف من المسؤولين عن زجه في السجن ظلمًا دون ذنب جناه، بل كان على هؤلاء المسؤولين أن يكرموه لعفته ونزاهته، فالبراءة مما اتهم به هي الأهم من الخروج من السجن، ولو تنازل عنها لكانت وصمة لا تمحى أبد الدهر، إنه يعرف براءة نفسه، ولكن من يقنع الناس ببراءته وهو النبي الداعية إلى الإيمان وإلى الطهر والعفاف؟ أقلها أن يقول الجاهلون: لولا أنه ارتكب ما يدعو إلى العقاب لما عوقب، وهل يصلح لإصلاح الناس نبي متهم؟ وبماذا يختلف عن بعض قياديي اليوم من ذوي التاريخ الملوث الذين يتصدون للقيادة، حتى وإن كان سجله ملوثًا؟ قد تكون أبواق دعايتهم تعمل لحين ما على تطهيرهم، لكن يوسف ليس أمامه إلا ما أشيع بين الناس: ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 50]، وعلى هذا الجواب ربما يكون قد أطفأ البسمة على شفتي الساقي، ولسان حال يوسف يقول: إذا كنت أنت قد تعجلت في الخروج وفرحت بالعفو فلم تخفِ بالغ سرورك، لهذا لم تسأل الملك: لِم اتهمك وزجك في السجن طالما أنك بريء؟ فأنت لا تهمك سمعتك، فأنا نبي ابن نبي، سمعتي مهمة، ولا بد من البراءة والاعتذار، وإعطائي المكانة التي أستحقها، وعاد الساقي وصحبُه إلى الملك يحملون له هذا النبأ: لن يخرج يوسف إلا بتبرئته مما نسب إليه، وذكر أمر النسوة، ولم يذكر صاحبة المشكلة، قيل: لأنها من الأسرة المالكة؛ كيلا يسيء إليها فيتأثر الملك بذلك، ولكن أرى أنه ذكر النسوة؛ لأنهن الأقدر على قول الحق، ولأنهن سمعن من امرأة العزيز اعترافها بأنها هي التي راودته عن نفسه: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]، وما كان يظن عودة زليخا إلى رشدها؛ لذلك استبعدها من المساءلة، ولأن الملك متمسك بقدوم يوسف إليه ليكرمه على تأويله، جمع النسوة ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾ [يوسف: 51]، وهكذا صدقت النساء، وزكَّيْنَ يوسف، وهذه التزكية تظهر كذب زليخا وتهمتها الباطلة له؛ لذلك ما كان منها إلا أن سارعت وفاهت بالحقيقة، وربما عمم حين سأل كيلا يجرح شعور زليخا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وأخيرًا نطقت بالحق، وبرأت يوسف مما اتهمته، ووصفته بالصدق، وهذا تحول خطير في موقفها، فما الذي طرأ عليها؟ لعله عامل السن وتقدمها في العمر قد كبح من عنفوان جماحها، وفتَّ من دفق شهوتها، فعادت لتُعمِل العقل بدل العاطفة: ﴿ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ [يوسف: 51] ظهَر ووضح، ﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [يوسف: 51]، اعتراف صريح أرادت به تطهير نفسها من الذنب، وبه برأت يوسف منه أمام الناس، وهذا ما كان يريده ويستعين بالله على نيله، حقًّا لقد صبر ودفع ثمن الصبر والحصول على هذه البراءة، التأخر في الخروج من السجن، وكان ربما لن يخرج منه لو تراجع الملك عن طلبه لسبب ما، وأردفت زليخا بعد هذا الاعتراف بكلام قد يرقق قلب يوسف عليها فلا توصد الباب للأبد: ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وهنا وقف يوسف بعزة المسلم القوي في دينه وإيمانه ليقول بعدما بلغته هذه البراءة: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52]، وهذا خطاب للعزيز زوج زليخا بأن يوسف لم يخُنِ العزيز في غيابه، وأنه حافظ على طهر بيته، ويرجع هذا إلى أن يوسف مؤمن ينتسب إلى بيت النبوة الطاهر، وأنه نبي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو رد للجميل والمعاملة الطيبة والعز الذي لقيه من العزيز، فقد أبى عليه هذا الكرم وهذه المعاملة أن يكون ذئبًا غادرًا لا ينفع معه الجميل، ثم أردف يوسف يقول: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]؛ فالنفس تستجيب للشهوات؛ فهي أمارة بالسوء ﴿ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]؛ فقد كبح جماح نفسي، وعصمني بفضله ورحمته بي، ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وهكذا أظهر عجزه أمام الإغراء، وأن الله تعالى شمله برحمته فعصمه وحماه، وهذه دعوة غير مباشرة للإيمان بالله الواحد القادر، وقيل: هذا الكلام لزليخا بأنها اتهمت نفسها بالمراودة، وهذا توجيه جيد، وقيل: هذا قول العزيز جوابًا على كلام يوسف الذي بين أنه لم يخنه بالغيب، فاتهم العزيز نفسه بأنه شك في صدق يوسف ولام النفس الأمارة بالسوء، وبعد تصفية القلوب لكافة المعنيين والخروج من هذا الاجتماع ببراءة يوسف، ورأى الملك تزكية يوسف من الذين اتهموه سابقًا، فأضاف هذا رصيدًا ليوسف عند الملك عما كان كوَّنه عنه من حدة في الذكاء وأمانة نادرة في هذا المجتمع المادي الذي عزَّت فيه مثل هذه الصفات، فأراد أن يستفيد من هذه الطاقة الشبابية المتوقدة في يوسف، فقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [يوسف: 54]، وهُرع المبشرون إلى يوسف بقرار الملك في طلبه ليكون مستشاره الخاص، ولبى يوسف هذه المرة دعوة الملك فاغتسل ولبس أفضل الثياب ووضع الطيب ثم انتقل إلى الملك، فقربه الملك منه وأجلسه قريبًا على سريره، وبعد الترحيب ورؤية يوسف بهذا البهاء والرزانة، قال له الملك: إني أحب أن أسمع منك تأويل رؤياي، ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ [يوسف: 54] عن الرؤيا بأروع بيان وأفصح عبارة خلبت لب الملك وتمسك بيوسف أكثر، ﴿ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف: 54]، فلما طمأنه برفع مكانته وأعطاه الأمان والتمكين، اختار يوسف أهم منصب يقدم فيه خدمات جليلة للناس؛ لعِلمه بما سيحصل في أعوام المجاعة ليقود الدولة في هذه المرحلة الحساسة فلا يعطي المجال للمحتكرين والانتهازيين الذين يستغلون مثل هذه الأزمات للإثراء على حساب حاجة الناس للأقوات، ويشرف على التوزيع المتكافئ من الغلال، وفي مثل هذه الأزمات يخسر الفقراء، ويكونون هم الضحية الأولى؛ لذلك أراد أن يقف إلى صفهم ويعمل جهده لحمايتهم من المجاعة القادمة، وفي هذه المكانة فرصة مواتية للدعوة إلى الله التي كلف بها يوسف، فقال للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55] بمثابة وزير المالية والزراعة والتموين، فوافق الملك على هذا الطلب، وعيَّنه كما طلب: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]، وبهذا المنصب قوِي مركز يوسف عليه السلام، وأصبحت مصر تحت تصرفه في أمورها كلها، وقيل: حتى الملك كان يصدُرُ عن رأيه، ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، وهذا الإنعام والإحسان من الله تعالى الذي خص به يوسف ورفع مكانته في الدنيا وبوأه هذه المنزلة مع أنه غريب مملوك، فالله سبحانه وتعالى حفه بالعناية والرعاية في كافة أحواله إلى أن أوصله إلى سلَّم المجد، فهذا في الدنيا، ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 57]، وجاءت سنوات الخصب ترفل بهية بالخضرة والنضرة والعطاء السخي، وكانت تجمع بإشراف يوسف، وتخزن في مخازن الطعام التي استُحدثت للتصدي لسنوات الجفاف، وقد جد العاملون والزرَّاع في العمل، وهم في كل عام يشهدون صحة تفسير الحُلم فيرونه تباعًا حسب ما أخبر به يوسف إلى أن مرت هذه السنوات رخية هنيئة تمتع الناس بها وجمعوا مما فاض استعدادًا للآتي، ثم أقبلت السنين العجاف، شح في المياه، وندرة للمطر، وغبار وأتربة ورياح سموم لا تبقي على نبت أخضر إلا جعلته هشيمًا تذروه هنا وهناك، وتقضي عليه، وتحيله هباءً منثورًا، وأمام هذه الشدة والبلوى العامة التي شملت مع مصر ما جاورها من البلدان، اضطر ساكنو الشام وفلسطين للقدوم إلى مصر لشراء القمح والشعير، وقد علموا بوفرة الخير فيها، فهم لم يتخذوا من الإجراءات ما اتخذته مصر؛ لذلك حلَّت عندهم المجاعة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-04-2021, 03:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: يوسف بن يعقوب بن إسحاق

يوسف بن يعقوب بن إسحاق (3)

د. محمد منير الجنباز



﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، فكيف عرَفهم وهم لم يعرفوه؟ فقد فارقهم كبارًا وشبابًا وملامح الكبير تغيرها بطيء مع الحفاظ على السمة العامة، أما الصغير فإن ملامحه سريعة التغير وتختلف عما كانت عليه في صباه.



وربما هم عرَّفوا عن أنفسهم لما سجلوا أسماءهم لكي يعطوا من الغلال، فلم يكن الأمر فوضى في إعطاء الميرة، بل كانت وفق سجلات مضبوطة بمكيال محدد؛ كيلا تستنزف كمية المخزون سريعًا، فلا تكفيهم عندئذ لمؤونة السنوات السبع العجاف.



﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ﴾ [يوسف: 59]؛ أي: قضى حاجتهم وأعطاهم من القمح ما يستحقون من غير أن يشعروا بأنه يوسف، ولم يخطر حتى ببالهم أن يكون يوسف قد وصل إلى هذه المرتبة، وفي ظنهم أنه إن نجا من الموت في البئر فلا يتعدى حاله أن يعيش رقيقًا في أحد البيوت.



وفي أثناء تزويدهم بالميرة، سألهم: من يكونون؟ إمعانًا منه في تضليلهم عن حقيقته، وإبعادهم حتى عن التفكير في أمره، فقالوا: نحن قوم من أهل الشام، قد أصابنا الجدب، فجئنا نمتار.



فقال: لعلكم جئتم عيونًا - جواسيس - تنظرون عورة بلادي؟

قالوا: معاذ الله، نحن إخوة بنو أب واحد، وأبونا شيخ صدِّيق نبي اسمه يعقوب.

فقال يوسف: كم أنتم؟



قالوا: أحد عشر، وكنا اثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه، هو باقٍ عنده يتسلى به.



فقال يوسف: من يشهد أن الذي تقولون حق؟

قالوا: إننا ببلاد لا يعرفنا بها أحد فيشهد لنا، ولما عرف هذه الأخبار، ﴿ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ [يوسف: 59]؛ أي: في المرة القادمة إن أردتم أن تأتوا لتمتاروا من بلادنا فلا تأتوا إلا ومعكم أخوكم من أبيكم؛ لأعلم صدقكم، ﴿ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ﴾ [يوسف: 60]؛ فلا تحاولوا القدوم إلينا ثانية؛ لأنكم لن تناولوا ما نلتموه مني الآن، لذلك إن لم يكن معكم فابقوا في بلادكم ولا تأتوا إلينا.



﴿ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾ [يوسف: 61]، سنحاول بذل الجهد في إقناع والده لكي يرسله معنا، وقالوا هذا، ولم يقولوا سنأتي به معنا؛ لأنهم يعلمون أنه لا يمكن أن يرسله معهم؛ لِما فعلوه بيوسف من قبل، فهو منذ ذلك الحين يقف منهم موقف الشك تجاه ائتمانهم على أخيهم من أبيهم، ولو كان يأتمنهم عليه لأرسله معهم ابتداء، لقد فهم يوسف من قولهم: ﴿ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ﴾ [يوسف: 61] أنهم سيحاولون وقد يخفقون؛ لأن أباهم لن يرسله معهم.



﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون ﴾ [يوسف: 62]، فوجد أن يلجأ إلى هذا التصرف ليضمن عودتهم؛ فإنهم لا يقبلون الصدقة، ومعنى رد بضاعتهم مع إعطائهم الطعام يعني أنه تصدق عليهم، وربما ظنوا أنه نسي أن يأخذ ثمن طعامه، فعادت بضاعتهم معهم، والأمناء لا يجيزون هذا، فعليهم رد الثمن مهما بلغت بهم المشقة، وعليه فقد كان لزامًا على إخوة يوسف - في الحالين - العودة في العام القادم ليسددوا ثمن الطعام الذي أخذوه.



﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ ﴾ [يوسف: 63] وقد عاد الركب إلى الشام، وقصوا على أبيهم خبرهم مع العزيز في مصر وإنزالهم المنزلة الحسنة، خصوصًا لما علِم أنهم من بيت النبوة، وقالوا: لقد طلب منا في المرة القادمة أن نحضر معنا أخًا من أبينا، ولما سمع يعقوب بهذا الطلب الغريب، ظن أنها خدعة جديدة من أبنائه للإيقاع بأخيهم "بنيامين" كما أوقعوا بيوسف من قبل، فلم يعرهم اهتمامًا لهذا الأمر، فأردفوا متابعين القول، ﴿ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 63]، إن لم ترسله معنا فقد أنذرنا العزيز بأنه لن يبيعنا الطعام، فقد أنذرنا بمنع الكيل لنا، وما ندري ما حجته بعد إكرامنا غاية الإكرام؟!



﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، تجرِبتي معكم مريرة، ومواثيقكم خادعة، أتذكرون ماذا قلتم يوم أمنتكم على يوسف؟ وماذا كانت النتيجة؟ لكن الله معي، وهو الحافظ سبحانه، وإرادته فوق كل إرادة، ولا راد لقضائه إن أراد شيئًا، فالتوكل عليه هو الذي ينفعني، وهو أرحم الراحمين بعباده.



وبعد هذه الموافقة المبدئية حدث ما قوى موقفهم، ﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾ [يوسف: 65]؛ أي شيء نبغي من هذا الملك وقد صنع معنا كل معروف؟ فانظر هذه بضاعتنا قد ردها، فهل نستطيع بعد هذا التخلف وعدم العودة أن نأكل الطعام ولم ندفع الثمن؟ لا بد من العودة لدفع الثمن والوفاء بما وعدناه، وإلا منعنا الكيل، وهذه السَّنَة - كما يبدو - قحط، قد استشرت فيها المجاعة، وقلة الأرزاق، فإن عدنا إلى مصر أعدنا بضاعتنا.



فكيف رد إليهم بضاعتهم دون أن يعلموا بها إلا بعد أن وصلوا وفتحوا متاعهم؟ أكانت بضاعتهم دقيقة الحجم لا يشعرون بها إن أعيدت لهم خفية؟ وقد علمنا من المفسرين أنها كانت جلودًا، فهناك أحد احتمالين؛ إما أنها كانت قطعًا ذهبية أو فضية فإذا أعيدت ووضعت ضمن أكياس القمح ففي هذه الحالة لا يشعرون بها إذا دسها عليهم، وإذا كانت جلودًا - كما ذكر المفسرون - فمعنى هذا أن مع إخوة يوسف عبيدًا أو حمالين يقودون الإبل، وإخوة يوسف راكبون على حيوانات أخرى كالخيل أو البغال، وفي هذه الحالة يمكن أن تدس البضاعة في رحالهم دون أن يعلموا بها.



﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ [يوسف: 65]، فإن أخانا في عهدنا وذمتنا، وبذهابه معنا سنزيد حمولة بعير؛ لأن عزيز مصر يعطي لكل فرد حمولة بعير، فقال يعقوب: وما قيمة حمل البعير أمام المخاطرة بإرسال بنيامين معكم؟ ﴿ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ [يوسف: 65] أنا في غنى عنه، وفي راحة بال ما دام ولدي مقيمًا معي، ثم فكر يعقوب في الأمر ووجد نفسه أمام خيار صعب، فالمجاعة قد تهلك الجميع، ولا تموين إلا من مصر، فشرط على أبنائه شرطًا فيه راحة لنفسه، وإن كان يعلم أن المقادير تجري بأمر الله وقضائه، ولكي يأمن في هذا الشرط عدم غدرهم بأخيهم أو خيانته، ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ [يوسف: 66]، والموثق: هو العهد والأيمان المغلظة بأن يحلفوا بالله، ويشهده على ما يقولون، وجعل لهم استثناء؛ لعلمه بضعف الإنسان أمام الظروف القاهرة وما لا حيلة لهم بدفعه، ﴿ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ [يوسف: 66] أن تُغلَبوا بما لا تطيقون دفعه، ﴿ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾ [يوسف: 66] بأن حلفوا له واحدًا واحدًا، وأشهد الله عليهم، ﴿ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].



ثم لزيادة الحرص على سلامتهم وكيلا ترمقهم عين حاسد، فهم عصبة، أحد عشر رجلًا لأب واحد، وهذا نادر أن يكون في ذلك الزمان، زِدْ على ذلك طلعتهم وكأنهم أقمار وسط الدجى، لا يكاد الرائي يراهم فيحسر عنهم بصره، ﴿ وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ [يوسف: 67]؛ أي: حين وصولهم أرض مصر، وكان لمصر أربعة أبواب وفق الجهات، فتفرقوا ودخلوا من تلكم الأبواب؛ طاعة لأبيهم وأخذًا بالأسباب، ألم يعوذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة)).



وأردف يعقوب ليفهمهم الأخذ بالأسباب، وعدم تعلقه بالسبب؛ لأن إرادة الله تعالى هي النافذة، ﴿ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 67]، أنا أرشدكم إلى العمل مع التوكل على الله، والنتائج بيد الله، وهذا ما يطلب من المؤمن عمل وتوكل وترك النتيجة لله، فإن وافقت ما أراده العبد حمِد الله على هذا التوفيق، وإن كانت الأخرى صبر وهو واثق بحكمة الله وعدله، مؤمن بقضاء الله وقدره.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-04-2021, 03:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: يوسف بن يعقوب بن إسحاق





يوسف بن يعقوب بن إسحاق (4)


د. محمد منير الجنباز

﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 68] لقد عملوا بنصيحة والدهم، فهل أغنى عنهم ما كان ينتظرهم بتقدير الله؟

﴿ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾ [يوسف: 68] وهي شفقته عليهم والحرص على سلامتهم.

﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68]؛ فيعقوب نبي مرسل يوحى إليه، وهو بهذا يعلم أن قضاء الله نافذ لا محالة، وأن الحذر لا يدفع القدر، ولكن لا بد من اتخاذ الأسباب، وفي الحديث الذي أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد إلا كتب مقعده من النار أو الجنة))، قالوا: ألا نتكل؟ قال: ((اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّر))، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾ [الليل: 5].

ووصل الإخوة جميعًا إلى باب يوسف وقد وفوا بوعدهم، وأحضروا معهم أخاهم بنيامين، وقد سر يوسف كثيرًا لما رآهم، وكتم حب أخيه في نفسه.

﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾ [يوسف: 69]، فكيف فعل هذا؟ ألم ينتبه إلى ذلك بقية الإخوة؟ قال المفسرون: صنع لهم طعامًا، ثم أنزلهم في غرف تسع الواحدة لاثنين، وبقي لبنيامين غرفة وحده، وهنا دخل إليه يوسف، ﴿ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 69]؛ فالله قد فرج همنا ووسع علينا وأصبحنا في أحسن حال، لقد ولَّت أيام الشقاء وحسد الإخوة، ولكن لا تخبرهم بما حصل الآن، واكتم حديثنا، ودبر أمرًا لاستحواذ أخيه.

﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾ [يوسف: 70]، فالسقاية مكيال لكيل الحبوب، وهي أشبه بالصاع، وفي مصر كان يكال بمكيال موحد منعًا للغش، وهو صواع الملك، له علامات مميزة ومفضض، وهو ذو قيمة مادية ومعنوية، والرحل بمثابة الكيس اليوم، وهو خاص بالإبل، ملائم لحمولتها، فأمر غلمانه بأن يجهزوهم بكافة طلباتهم كأحسن ما يكون الجهاز، وأن يجعلوا مكيال الحبوب في رحل بنيامين، ولما فعلوا ما أمرهم به يوسف، خرجت العير باتجاه الشام، وصبر عليهم يوسف بعضًا من الوقت، ثم أرسل خيالة في طلبهم.

﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، ونزلت هذه العبارة على إخوة يوسف كالصاعقة، إن آخرَ ما توقعوه من العزيز أن يرميهم بهذه التهمة؛ لذلك كان جوابهم ردة فعل لما سمعوه تحمل الغضب والتشنج، فمثلهم من أبناء الأنبياء لا يُرمَون بهذه التهمة، ﴿ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ﴾ [يوسف: 71]، إنهم في أشد العجب لما حصل، فأوقف إخوة يوسف قافلتهم، والتفتوا إلى المؤذن ومن معه متسائلين: ﴿ مَاذَا تَفْقِدُونَ؟ ﴾ [يوسف: 71]، ﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ [يوسف: 72]، أخبروهم بالسرقة التي ادعَوها، وجعلوا لمن يكشف عن السارق جائزة مغرية مؤداة، مقدارها حمل بعير من الطعام، ﴿ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ [يوسف: 72]؛ أي: كافل وضامن لإعطاء هذه الجائزة لمن أدلى بما يفيد كشف السارق.

ورأى إخوة يوسف أن الأمر جد لا هزل، فقال كبيرهم: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف: 73]، قال هذا؛ لأنه متأكد من نظافة أيديهم، ولم يخالجهم أدنى شك في كون الصواع ليس عندهم، والحلف بـ: "تالله" فيه معنى التعجب مما اتهموا به، فرد رسل يوسف بلغة الواثق من تهمة إخوة يوسف: ﴿ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [يوسف: 74]، فأتى الجواب بلغة التهديد، وكأنهم يعلمون أن صواع الملك عندهم بلا أدنى شك، وهنا ارتبك إخوة يوسف في الرد، ﴿ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ [يوسف: 75]؛ أي: يجازى بما هو مقرر في شرعنا الذي ندين به.

تم هذا الجدال قبل وصول يوسف، حيث جاء على أثرهم، وأعطاهم الأمر بالتفتيش، ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ﴾ [يوسف: 76]، وفي هذا الصنيع بُعد عن إثارة الشك فيه، ونظر يوسف إلى إخوته نظرة ريبة وعتب وهو يظهر السقاية لهم وكأنه يقول لهم: أبعد الكرم والتقدير وزعمكم أنكم أبناء نبي تسرقون صواع الملك؟ وفهموا من تلكم النظرة ما أراد أن يكلمهم به يوسف، فقال كبيرهم يتكلم نيابة عنهم وكأنهم كلهم قالوا هذا: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾ [يوسف: 77]، عبارة تظهر ما يخفيه أبناء يعقوب لأخويهم من أبيهم، فما زال القلب يحمل تجاههم حسدًا، وكان الأجدر أن يدافعوا عنه بكلام يبرر وجود هذا الصواع في رحل بنيامين بوصفه بالأمين، وأن أمرًا ما دبر لهذا الغلام، لكن أبى البغض إلا أن يظهر في هذه الساعة الحرجة.

ولكن ما قصة ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [يوسف: 77]؟ وهذا اتهام ليوسف، ذكر أهل التفسير أن عمة يوسف الكبرى ربت يوسف في بيتها لحبها له، ولما كبر طلبه أبوه منها، فامتنعت، وبعد إلحاح يعقوب ردته إليه وحزمته بمنطقة كانت لإسحاق، واتهمته بسرقتها؛ لتأخذه - وفق شريعتهم - عبدًا، فيبقى مقيمًا معها، وقيل: سرق صنمًا من ذهب كان لجده أبي أمه وحطمه؛ عملًا بتغيير المنكر، وقيل: لم يسرق، ولكن تهمة منهم جديدة، فأسر يوسف في نفسه قولهم هذا، ولم يبدِ لهم كذبهم؛ لأنه كان لا يريد كشف أمره بعد، وإلا لرد عليهم افتراءهم هذا، وأضاف هذا الذنب ليكون مع ما اقترفوه من ذنوب، ثم قال في نفسه: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ﴾ [يوسف: 77]؛ أي: أنتم مكان الشر، ومنكم خرج الشر وتأصَّل في قلوبكم، ثم قال لهم: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77]، ذكرتم شيئًا الله أعلم بصحته، والمهم عندي أن السقاية وُجدت في رحل بنيامين، وسنأخذه رقيقًا بها، وهنا عادوا إلى تذكر ميثاقهم مع والدهم بأن يحافظوا على أخيهم، فاستخدموا لغة تستدرُّ عطف يوسف عليهم، ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، ولعلها لحظة صدق منهم بعد الموقف الصعب لأخيهم بنيامين، وأنه لن يعود معهم وسيتركونه في بلاد بعيدة عنهم، وأن أباهم إذا ما وصله النبأ سيكون له وقع أليم عليه، وتقدموا كلهم باذلين أنفسهم ليفدوا به أخاهم، ولكن يوسف الذي خطط لإبقاء أخيه عنده لم يرضَ بأي منهم؛ ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾ [يوسف: 79]، هذا من الإجحاف، أن يسرق ثم نتركه ونأخذ غيره بجريرته، ﴿ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴾ [يوسف: 79] فهذا عينُ الظلم لو فعلنا هذا، ونحن قد وطدنا أحكامنا على العدل، والعدل أن نأخذ بنيامين، فمِن رحله أخرجنا صواع الملك، وذهبت كل جهودهم الرامية لاستنقاذ أخيهم من هذا المأزق الذي وضع فيه أدراج الرياح.


﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف: 80]، فلما يئسوا من الجدال مع يوسف بعد بذل الجهد في استنقاذه، وصمم على تنفيذ الحكم بتهمة السرقة، وقاده الحرس إلى مصيره - أسقط في أيديهم، وعلاهم الهم والحزن، وانتحوا جانبًا يناقشون ما جد من أمرهم بعد هذا الحدث، ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 80] ذكَّرهم أخوهم الأكبر بالموثق الذي التزموا به لوالدهم، فكيف سنقابله وبأي وجه؟ واليوم نخبره بما حدث صدقًا، وما أظن أنه سيصدقنا، وكأننا مسلطون على أولاده، ﴿ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 80]؛ أي: فرطتم بالعهد الذي قطعتموه لأبيكم بأن تحافظوا على يوسف، والآن نحن لم نفرط بالعهد، ولكن من يقنع أباكم بأننا التزمنا بعهدنا، وما حصل لا يد لنا فيه؟ إن المواجهة مع أبيكم صعبة، ولن أحتمل أن أرى وَقْعَ هذا الخبر على أبيكم، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80]، سأبقى في هذا المكان النائي تنهشني الغربة وهي أهون عليَّ من المواجهة، يكفي ما سببناه لأبينا من آلام وهموم، ﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾ [يوسف: 81] أنتم واجهوا أباكم وأخبروه بما رأيتم، وعاد الإخوة وليس معهم بنيامين، ولا أخوهم الكبير، ولما وصلوا ديارهم دخلوا على أبيهم وأخبروه الخبر، ولو نعلم أنه سيسرق ما أخذناه معنا، ﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ [يوسف: 81] فعندما أعطيناك موثقنا لم نكن نعلم ما خبأ لنا القدر وأن بنيامين سيرتكب هذه المخالفة، ولما وجدوا ملامح عدم التصديق لروايتهم على وجه أبيهم أردفوا قائلين: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [يوسف: 82] على تقدير مضاف محذوف؛ أي: اسأل أهل القرية، وأصحاب العير، كما أخبروه عن أخيهم الكبير، وأنه لن يبرح مصر حتى يأذن له بالعودة، أو الحكم فيه بأن يرسله لقتال العدو حتى يستشهد، ولما قدموا هذه البراهين، وكان أقربها أن يسأل يعقوب أصحاب القافلة العائدة عما شاهدوه، لكنه اكتفى بتنهيدة كبيرة، وزفرة حزينة، فيها معنى الرجاء والأمل، ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 83]، والصبر الجميل: هو مَن يكتم ما به مِن حزن فلا يبوح به لأحد، وإنما البوح وتفويض الأمر القلبي لله تعالى، فما من أحد سواه قادر على جبر ما أصاب يعقوب، ورد أبنائه إليه سالمين، ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ [يوسف: 83]، وعسى في القُرْآن تفيد التحقيق، فكان هذا رجاء يعقوب وتعلق قلبه بالله، وأن قلبه الشفيف لم يكن موقنًا بفقد أبنائه يوسف وبنيامين وبكره "روبيل" الذي تخلف في مصر خوف مواجهة والده فيما حصل لبنيامين؛ لذلك كان قلبه المتعلق بالله يشعره باجتماع شمل الجميع، وأنهم سيأتونه في الوقت المناسب، ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]؛ فالله عليم بما هم عليه، وأين مكانهم؟ ولحكمة هو يعلمها جل شأنه وعظمت قدرته جرت الأمور على ما جرت عليه، وها بدأت تتكشف ليعقوب الأمور بعدما تغيبت عنه لفترة ما، ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ ﴾ [يوسف: 84] ثم ابتعد عن أولاده متذكرًا يوسف وأيام صباه، والسنين التي مرت وفِلذة كبده بعيد عنه وهو لا يطيق عن بعده صبرًا، ﴿ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84]، وبلغ الحزن منه مبلغه في قوله: ﴿ يَا أَسَفَا ﴾، وقد أودى الحزن بسواد عينيه ففقد البصر، فلمَ كل هذا الحزن على يوسف وعنده من اليقين أنه حي؟ ألا يملك مزيدًا من الصبر بلا شائبة الحزن أم ترى اختلط عليه الأمر؟ إنه نبي الله، وكان حزنه الكبير على البعد والفراق الطويل، وعلى عيش يوسف في بيئة ملحدة، فخشي من طول المقام ليوسف أن يتأثر بها، وتبعه أولاده يواسونه وهو بحالته المحزنة، فلما سمعوا ذكره ليوسف ولم تنسه إياه السنون، خافوا غطرفته وذهاب عقله لما يعانيه من كبت الحزن، وكان من الغرابة أن يذكر فقد يوسف الذي طواه الزمن من سنين، وألا يذكر فقد بنيامين وهو لا يزال حديث الساعة، ولم يدركوا أن مصيبة اليوم نبشت من الذاكرة مصيبة الماضي فأججت عرام الفقد ومواجع الفراق، فقالوا له مشفقين لما وصل إليه حاله: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ [يوسف: 85]، فقالوا: يمين الله لا زلت تذكر يوسف فلم تنسه، إلى متى يا والدنا؟ إلى أن تشرف على الهلاك ويهزل جسمك وتعتريك الأمراض البدنية والعقلية؟! نخشى عليك يا أبانا أن تهيم على وجهك من هذا الذي يعتريك فتكون من الهالكين، لكن يعقوب كان أكثر صمودًا منهم، وأشد رباطة جأش، وهذا لا يمنعه من بث شكواه وحزنه إلى ربه، وفي ذلك سلوان له وبرهان على صادق العبودية والالتجاء إلى الله، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86] أتشكُّون في نبوتي وصلتي بربي؟ إن ربي لم يتخلَّ عني؛ فأنا أعلم منه عن طريق الوحي ما لا تعلمونه أنتم، وأعلم أن ما أصاب أسرتي هو امتحان وابتلاء وأنا صابر محتسب، ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 87]، وبعد أن تجلى له الأمر ووضح دعا أبناءه للبحث عن أخويهم يوسف وبنيامين، وقد أسقط ذكر ولده الأكبر روبيل؛ لأنه اختار البعد اختيارًا، وربما يكون قد رجع إلى أبيه بعد أن بلغه خبر بنيامين وكان تغيبه لكيلا يرى أثر وقع الخبر على أبيه؛ لذلك طلب منهم البحث عن يوسف وبنيامين، وشدد على عدم اليأس والقنوط؛ فاليأس يبعث في النفس الغم والهم، كما أن التفاؤل يبعث في النفس الراحة والسكينة، ورَوْح الله رحمته بالعبد وتفريج همه، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، واليأس ليس من صفات المؤمنين؛ لذلك نشط الأبناء وجمعوا على عجل ما عندهم من بضاعة ومال، وقرروا السفر إلى مصر، وفي مصر كانت تبدو عليهم علامات التعب والإرهاق وما قاسَوه من هم أبيهم وفقد أخيهم؛ فالحالة في البيت اليعقوبي لم تكن على ما يرام، فانعكس هذا سلبًا على الجميع، ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]، وقد عرض أبناء يعقوب معاناتهم على يوسف؛ لما لمسوه منه من طيب وخلق رفيع، وشكوا إليه فاقتهم وحاجتهم، وأن ما جلبوه من بضاعة لمبادلتها لشراء الطعام هي بضاعة ليست لها الجودة السابقة، وهذا كل ما يملكونه، وكان طلبهم أن يعطيهم من الرزق كالمرة السابقة دون النظر إلى ما قدموه من بضاعة قليلة أو رديئة، وقد رق يوسف لمنظر إخوته، وكاد يفصح عن نفسه لولا أن تماسك ليعرف المزيد من أخبار أبيه، وأما قولهم: ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88] فقد أشكل هذا الطلب على المفسرين بأن يطلب أبناء يعقوب الصدقة، والمعلوم أن الأنبياء وآلهم لا تحل لهم الصدقة، وتحل لهم الهدية، فكان جواب بعضهم بأن هذا في شرعنا، وربما هو غير موجود في شريعة يعقوب، وقيل: عنَوا بعبارة: ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88] أن يرد عليهم أخاهم بنيامين من أسره وعبوديته؛ فقد تعب أبوهم لفقده، وأتعبهم معه، وهنا أظهر يوسف شخصيته؛ فقد انتهى الدور الذي خطط له، والاستمرار فيه سيجعل النهاية كارثية وقد وصل إلى ما يريد، ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [يوسف: 89]، ووقع هذا السؤال عليهم وقع الصاعقة، استفهام توبيخي وتقريعي؛ لأنهم يعلمون ما فعلوه بيوسف، وأنهم هم أسباب هذه الهموم، وهنا رجعوا إلى أنفسهم، ودققوا النظر في ملامح يوسف، ثم عادوا إلى ذاكرتهم، ﴿ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ﴾ [يوسف: 90]، ووقفوا ينتظرون الجواب وهم في حيرة من أمرهم، بين قلب واجف وآخر راجٍ، فخوفهم أن يكون يوسف وهو في هذا السلطان فينتقم منهم باقتدار، وراجٍ أن يكون هو فيعود للبيت اليعقوبي صفاؤه وبهاؤه، ويلتئم الشمل مع إمكانية الاستفادة من مركز يوسف، ﴿ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 90]، وهنا أخذ الخوف منهم كل مأخذ، وجاءهم ما كانوا يخشونه، وتابع يوسف تذكيرهم ما نسوه من وجوب تعميق الإيمان والتقوى والتوكل على الله؛ ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]؛ فالتعجُّل وسلوك الطرق الملتوية لتحقيق المنافع عاقبته الخسران والضياع ومَقْت الله وغضبه، وهنا عرفوا فضل يوسف عليهم، وأن كل ما فعلوه لقلب الموازين لصالحهم باء بالفشل، ولم يصح إلا الصحيحُ، وإلا الذي كتبه الله من خير ليوسف رغم كل الكيد، ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91]، ولما قرأ في وجوه الإخوة أثر الندم لما فعلوه به، وهم بالتالي أولاد نبي موحِّدون لم يتخلوا عن الإيمان، وإن كانوا قد وقعوا في المعصية في حال التخلص من يوسف، إلا أن يوسف مؤمن بأن ما حدث مكتوب، وأن الحكمة منه عند الله؛ لذلك طمأن إخوته؛ كي يريح بالهم، ويبعد عنهم دوامة الصراع النفسي، ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، عفوٌ ممن يملك القدرة على العقاب، فهم إخوته، فإذا كان الأنبياء يعفون عن خصومهم الغرباء، وهو من شيمهم، فهل تراهم ينتقمون من إخوتهم؟ وهذا ما يميزهم عن بقية الناس، قلوب رحيمة، وصدور رحبة فسيحة، هم المثل والقدوة، وهم الرحمة المهداة للأمة؛ ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾ [يوسف: 93]، ورأى يوسف أنه باستبقاء بنيامين عنده قد تسبب في ذهاب بصر أبيه، وكان يرجو من الله تعالى أن يجد الوسيلة في مداواته ليرتد إليه بصره، وأتاه جبريل فأخبره بالوسيلة المناسبة، لقد كان مع يوسف قميص إبراهيم وهو حرير من الجنة ألبسه الله إبراهيم حين ألقي في النار، فحماه الله بقدرته من لهيبها، ثم تداوله أبناؤه من بعده، فآل إلى يعقوب الذي أعطاه يوسف، فأخبر جبريلُ يوسفَ بأن يرسله إلى يعقوب، وأن يلقوه على وجهه فيرتد بصيرًا، وكان هذا بداية الانفراج عن هذه الأسرة الكريمة، ﴿ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [يوسف: 93]؛ لذلك أحب يوسف أن يلقى أباه - كما تركه - مبصرًا؛ ليرى ما حل عليه من النعيم، ثم طلب أن يأتوه بأهلهم أجمعين؛ ليعيشوا معززين مكرمين مع يوسف ما تبقى من السنين العجاف، فيأمنوا بالعيش في مصر شرَّ القحط والمجاعة، ولما انطلق الأبناء إلى الشام ومعهم قميص يوسف، ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، فهاجت ريح من مصر إلى الشام وهم ما زالوا في أول الطريق فوصلت يعقوب، فقال لمن حوله: إني لأجد ريح يوسف، لولا أن تسفهوا قولي، أو تتهموني بذهاب العقل، وهذه معجزة لنبي الله يعقوب؛ أن تصله ريح قميص يوسف وهو على بعد بضع مئات من الأميال، وكانت هذه الريح من باب الطمأنينة ليعقوب بأن ابنه على قيد الحياة، ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴾ [يوسف: 95]، ومع هذه المقدمة من يعقوب فإنه لم يسلم من اتهامهم، وأنه قد عاد إلى زعمه السابق في تكرار ذكر يوسف، وأنه لا يزال حيًّا يرزق، فهذه نوبات تعاوده بين حينٍ وآخر فهو يرددها ولا يكاد ينساها، واليوم وقد تقدمت به السن يخرج علينا ببدعة جديدة؛ أنه يجد ريح يوسف، لكن يعقوب أصر على زعمه وقال لهم: لن يطول بكم الوقت حتى تعلموا حقيقة ما أقول، ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ [يوسف: 96]، وقصد بالبشير حامل القميص وأحد أبناء يعقوب "يهوذا"، وكان قد حمل من قبل قميص الدم؛ فأحزن والده؛ فأحب أن يحمل قميص البشارة ليفرحه، فألقاه على وجه والده فارتد بإذن الله بصيرًا، ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 96]، ولم ينسَ يعقوب في غمرة فرحه وعودة بصره أن يذكرهم بأنه كان في كامل قواه يحرسه الله؛ لأنه نبيه، فلم يخبرهم إلا بالوحي، وأنه لم يكن يهذي كما ظنوا، وإنما كان كلامه إضاءات وإشارات لما سيحصل مستقبلًا، وقد تحقق ما كان يخبرهم به من أن يوسف حي يرزق، ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97]، ولما وقف يعقوب على الحقيقة الجلية بشأن يوسف، التي ذكرها له إخوته العائدون توًّا من عنده، وقف هؤلاء الإخوة موقفًا لا يحسدون عليه من حيث الخجل مما فعلوا، وأنهم كانوا عصبة فاسدة متآمرة على أخيهم المسكين يوسف لمجرد حب أبيه له لصغر سنه، وقد باؤوا بالفشل والخزي فلم يعد أمامهم سوى التوبة والندم على ما بدر منهم، وأن يعاهدوا أباهم على الاستقامة والبعد عن عمل كل قبيح؛ فهم أبناء نبي، رباهم يعقوب على القيم النبيلة، وأن ما وقعوا فيه من الغدر والكراهية والحقد لا يليق بهم، فقد أغواهم الشيطان في فترة ضعف وغضب، واليوم بعد هذا الدرس الصعب الأليم، يعودون نادمين وقد أعلنوا عن خطئهم ورغبتهم في العودة إلى متابعة حياتهم بقلب طاهر نظيف لا يعرف الكراهية والحقد، وإنما يحمل في أعماقه نصاعة الحب الذي يؤهلهم للقيام بدورهم المهم في هذه الحياة، وهو الدعوة إلى الله، فطلبوا من والدهم الرضا عنهم، والاستغفار لهم؛ ليبدؤوا حياة جديدة يملؤها الإيمان والحب وصفاء القلب ونقاؤه من درن الأخطاء ووساوس الشيطان، فما كان من الأب الشفيق على أبنائه إلا أن وعدهم بالاستغفار، ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يوسف: 98]، واستعمل حرف الاستقبال ﴿ سَوْفَ ﴾ الذي يفيد التريث والتأخير، قال المفسرون: أخَّره إلى آخر الليل ليكون أدعى للإجابة، وأقول: أخره إلى ما بعد الالتقاء بيوسف عندما سيكون استغفاره أكثر رقة وشفقة ونسيانًا لما فعلوه بيوسف، فإذا ما رأى نعم الله على يوسف طابت نفسه عليهم، وزال ما كان يحمله من كره وشك، وانطلق يعقوب وزوجه وأبناؤه وكل أفراد بيته واتجهوا إلى مصر، ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [يوسف: 99]، وهذا السياق القُرْآني يدل على أن يوسف تلقاهم في الضواحي في خيمة ملكية أعدها لاستقبالهم، ومعنى: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ ﴾ انزلوا فيها، أو أقيموا فيها، وجرى استقبال مناسب ليعقوب أمام وجهاء مصر، فتشرفوا بالسلام على نبي الله متبركين به ويوسف في غاية السرور بلقيا والديه وهو يقول: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [يوسف: 99]، ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ [يوسف: 100] أجلس أبويه معه على سرير الملك، وجلس الإخوة أمامه، ثم سجد الجميع ليوسف سجود تحية، وكان هذا جائزًا في شرعهم، لم يُخفِ يوسف الرؤيا التي كان رآها في صغره، وقصها حينها على أبيه، ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100]، وذلك عندما قال: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]؛ فقد تحقَّقت رؤياه بعد هذه المدة الطويلة، ثم قال: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [يوسف: 100] ومنَّ الله عليَّ فأخرجني من السجن، وكثير من السجناء في ذلك الوقت يضرب عليهم النسيان في السجن فلا يفطن لإخراجهم أحد، خصوصًا إذا كانوا غرباء مثل يوسف، فكانت رؤيا الملك سببًا لإخراج يوسف من السجن معززًا مكرمًا، فارتقى بسببها أعلى الدرجات، ﴿ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ [يوسف: 100]، فكان يعدِّدُ آلاء الله ونعمه متجاوزًا عددًا من النعم المهمة، فلم يذكر نجاته من الجب خشية جرح شعور إخوته، ولم يذكر نجاته سليمًا من إغراء زوجة العزيز؛ كيلا تعود من جديد على ألسنة الناس بعد نسيانها، وإثارتها من جديد تسيء إلى زوجة العزيز، ويوسف قد صفح عنها بعد اعترافها بالحق وتبرئته، وبعد عودة المياه إلى مجاريها واستقرار البيت اليعقوبي عاش يوسف ومن أتى من أهله في مصر عيشة هانئة، وقد روي أن يعقوب أقام في مصر حوالي عقدين، كانت سني خير وبركة، ثم حضرته الوفاة، فماذا قال لأبنائه؟! ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وهكذا ذكَّر أبناءه بكلمة التوحيد قبل أن يلقى ربه، فمات وهو يرمقهم بعين الرضا، ثم حمل إلى فلسطين بناءً على وصيته، ودفن قرب قبر أبيه إسحاق، وعاش يوسف في مصر ما شاء الله له أن يعيش، وقيل: عاش بعد وفاة والده ثلاثًا وعشرين سنة، تاقت نفسه بعدها إلى العيش الدائم في رحاب جنات الرحمن، وأن الملك مهما طال في الدنيا فهو زائل، فقال: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]؛ فاستجاب الله ليوسف دعاءه، فتوفي وقد بلغ من العمر مائة وعشرين سنة، ولحب المصريين له جعلوه في صندوق من مرمر، ودفنوه في أعلى النيل؛ لتعمَّ البركة هذا النهر، وسيمر معنا كيف أعادته الملائكة إلى فلسطين في عهد طالوت.

تُعَدُّ قصة يوسف قمة في القصة الطويلة، وقد حوت على كافة عناصرها، وهي الوحيدة التي ذكرت في القُرْآن كاملة في سورة واحدة.

أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أكرم الناس؟ قال: ((أتقاهم لله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرم الناس يوسف، نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، وعن أبي هريرة أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يرحم الله لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي، لأجبته))، وفي هذا القول لنا وقفة:

صحيح أن دعوة الأنبياء واحدة في الأصول مع الاختلاف في بعض الفروع.

الأنبياء خلاصة البشر، وأفضل خلق الله، لكن بينهم أيضًا فروق؛ فهم ليسوا نسخة واحدة مكررة، فسيرتهم تظهر ذلك، حتى الأخوان موسى وهارون كانا بين لين وشديد، وجاء الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ولو لبثت في السجن...)) ليؤكد هذا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم انطلق في هذا من بيئته العربية التي تهتم بالعفو والصفح ونسيان الماضي عندما يشرق لها الحاضر، وكذلك بمبدأ أنه ما كان يغضب إلا لله، وأما ما كان شخصيًّا فقد كان يسامح فيه، فهذا ابن عمه وأخوه في الرضاعة سفيان بن الحارث قد وقف معاديًا له وهاجيًا سنين طويلة، وقبل فتح مكة قرر الدخول في الإسلام فلم يقبله بادئ الأمر عقابًا له على موقفه الذي تخطى المعقول، وعندما قبله وعفا عنه لم يطلب منه أن يعتذر عما قاله بقصيدة أو سواها.

وقد ورث العرب المسلمون هذه الميزة، وهي ميزة الصحراء التي لا تقبل سواها.

بينما نجد قرار يوسف بعدم الخروج من السجن إلا بعد التبرئة، وهذا أيضًا يظهر مدى بيئته التي لا تقبل الصفح إلا بإجراءات معينة، وأمام الشهود، دون الالتفات إلى مدة هذه الإجراءات طالت أو قصرت، ألم يقل يعقوب لأبنائه عندما قالوا له: ﴿ يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ [يوسف: 97]، ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98] طاوَلهم وهم أبناؤه.

هذا اجتهاد في تفسير الموقفين، وكلاهما صواب.

وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام)).

لم يرد في قصة يوسف كلمة (فرعون) لقبًا لملك مصر، بل ورد كلمة (ملك)؛ وذلك لأن قومًا يسمون الهكسوس غزَوْا مصر فاحتلوها وأبعدوا الفراعنة عن الحكم، وقيل: أبعدوهم نحو الصعيد، أما هم فقد حكموا منطقة الشمال؛ لذلك لم تكن ألقابهم (فرعون)، وإنما كان لقب الحاكم منهم "الملك"، وهذه الفترة استمرت مائتي سنة، وكان ضمن الحاكم هذه الفترة حياة يوسف في مصر، ثم استرد الفراعنة ملكهم من الهكسوس.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 151.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 147.85 كيلو بايت... تم توفير 3.28 كيلو بايت...بمعدل (2.17%)]