من عيون الكلام: سفيان الثوري

[ابوالوليد المسلم]

من عيون الكلام: سفيان الثوري (1)
بكر البعداني


الحمد لله الذي رفع بعض خلقه على بعض درجات، وميز بين الخبيث والطيب بالدلائل والسِّمات، وتفرَّد بالملك فإليه منتهى الطَّلبات والرَّغبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الأسماء الحسنى والصفات، الناقد البصير لأخفى الخفيات، الحكم العدل، فلا يَظلم مثقال ذرة، ولا يخفى عنه مقدار ذلك في الأرض والسموات.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات، والحجج النيرات، الآمر بتنزيل الناس ما يَليق بهم من المنازل والمقامات، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه السادة الأنجاب الكُرماء الثقات[1].

أما بعد:
فهذه سلسلة نقف فيها مع عيون الكلام لسلفنا - رحمهم الله أجمعين - وكنا شرَعْنا فيها بالإمام بشر الحافي، ويحيى بن معين، في جملة من الحلقات، ونقف في هذه السلسلة الثالثة مع الإمام سفيان الثوري، ومع الحلقة الأولى له.

وهو سفيان بن سعيدِ بن مسروقِ بن حبيب بن رافع بن عبد الله، أبو عبد الله الثَّوري[2]، الكوفيُّ المجتهد، وُلد سنة سبع وتسعين اتِّفاقًا، وطلب العلم وهو حدَثٌ باعتناء والده، وقال شعبةُ وابنُ عيينةَ وأبو عاصمٍ ويحيى بن مَعينٍ، وغيرُهم: سفيانُ الثوري أمير المؤمنين في الحديث.

وهو شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، وسيِّد العلماء العاملين في زمانه، عالم الأمَّة وعابِدُها؛ روى المرُّوذيُّ عن أحمد بن حنبل، قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدَّمه أحدٌ في قلبي.

مات في سنة إحدى وستين ومائة، بالبصرة[3].

وإلى جملة من عيون كلامه، قال رحمه الله:
الغرض من العلم التقوى:
إنما يطلب العلم ليُتَّقى الله به؛ فمِن ثَم فُضِّل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء[4].

وقال أيضًا: إنما فُضِّل العلم على غيره؛ ليُتَّقى الله به[5].

من صور الذلة:
ما وضَع رجل يده في قصعة رَجل، إلا ذلَّ له[6].

الحكم بالظاهر:
الناس كلهم عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ولا ندرى ما لهم عند الله[7].

ما الزهد؟
وسئل: ما الزهد؟ قال: سقوط المنزلة[8].

حقيقة الزهد:
الزهد في الدنيا: قِصَر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا[9].

ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه: قصر الأمل، وارتقاب الموت[10].

ليس الزهد في الدنيا بأكل الجَشِب[11]، ولبس الخَشِن؛ إنما الزهد في الدنيا: قصر الأمل[12].

أنواع الزهد:
الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة.
فأما الفريضة: فإنه واجبٌ عليك، وهو أن تدَع الفخر والكبر، والعلو والرياء، والسمعة والتزين للناس.

وأما زهد النافلة فهو: أن تدع ما أعطى الله تعالى من الحلال؛ فإذا تركت شيئًا من ذلك صار فريضة عليك ألا تَتركه إلا لله عز وجل، وإن أردتُم أن تدركوا ما عند الله عز وجل فكونوا في هذه الدنيا بمنزلة الأضياف[13].

من ثمار الزهد في الدنيا:
إذا زهد العبد في الدنيا أنبَت الله الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصَّره عيوبَ الدنيا وداءها ودواءها[14].

تحفيز على الزهد:
ازهد في الدنيا ونَم[15].

وصية:
عليك بالزهد؛ يبصِّرك الله عوراتِ الدنيا، وعليك بالورع؛ يخفِّف الله عنك حسابك، ودع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، وادفع الشكَّ باليقين؛ يَسْلم لك دينك[16].

خطوات ودرجات:
إنما هو - يعني: العلم - طلبُه، ثمَّ حفظه، ثم العملُ به، ثم نشره[17].

داء هذه الأمة وطبيبها:
العالم طبيب الدين، والدراهم داء الدين؛ فإذا جذب[18] الطبيبُ الداء إلى نفسِه فمتى يُداوي غيره؟![19].

ولفظه في "السِّيَر": المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جرَّ العالمُ الداء إلى نفسه فمتى يُبْرِئ الناس؟![20].

القصد:
عليك بالقصد في معيشتك، وإياك أن تتشبَّه بالجبابرة، وعليك بما لا يُقرِف من الطعام[21].

أفضل الأعمال:
ما نعلم شيئًا أفضلَ من طلب العلم بنيَّة[22].

نصيحة:
لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكِر معرفة مَن تعرف[23].

الظن ظنَّان:
الظن ظنان: فظن فيه إثم، وظن ليس فيه إثم، فأما الظن الذي فيه إثم فالذي يُتكلَّم به، وأما الظن الذي ليس فيه إثم فالذي لا يُتكلم به[24].

اجتهاد ورؤية:
يمر الرجل يتبختر بين يديَّ وأنا أصلي فأمنعه، ويمر الضعيف فلا أمنعه[25].

احذر سخط الله عز وجل:
احذر سخط الله في ثلاث:
احذر أن تُقصِّر فيما أمرك.
واحذر أن يراك وأنت لا تَرضى بما قسَم لك.
وأن تطلبَ شيئًا من الدنيا فلا تجده؛ أن تَسخط على ربِّك[26].

[1] من مقدمة الحافظ "للتقريب".
[2] قيل: نسبة إلى ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة، وقيل: من ثور همدان؛ قال الحافظ: "والصحيح الأول".
[3] انظر: التاريخ الكبير (4/ 92) البخاري، وتاريخ بغداد (9/ 151) للخطيب، وحِلْية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 356) لأبي نُعيم، وسِيَر أعلام النُّبلاء (7/ 230)، وتذكرة الحفاظ (1/ 203) للذهبي، وتهذيب التهذيب (14/ 169) لابن حجر، ووفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان (2/ 386) لابن خَلِّكان.
[4] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 362).
[5] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 362).
[6] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 59)، وسير أعلام النبلاء (7/ 243)، ورواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (6/ 330) ولفظه: "والله، ما وضع رجلٌ يده قط في قصعة رجل إلا ذلَّت له رقبته، وما أعرف موضعًا لعشرة دراهم ولا لسبع ولا لخمس ولا لدرهم".
[7] معرفة الرجال (1/ 162) ليحيى بن معين.
[8] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 16)، وسير أعلام النبلاء (7/ 260).
[9] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 386)، ومقدمة الجرح والتعديل (1/ 101) لابن أبي حاتم، وكتاب الزهد الكبير (ص: 194) للبيهقي، وقصر الأمل (ص: 42). وانظر: الزهد لوكيع، ومدارج السالكين لابن القيم (2/ 10).
[10] سير أعلام النبلاء (7/ 243).
[11] قال ابن دريد: أهل اليمن يسمون قشور الرمان: الجَشِب؛ تهذيب اللغة (10/ 289) لأبي منصور الأزهري. وقيل: الجشب الغليظ الذي لم يؤدم؛ الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي (ص: 355) للأزهري، وقيل: الغليظ الخَشِن؛ الفائق في غريب الحديث (1/ 215) للزمخشري. قال صاحب النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 755) بعد ذكر القولين: "كل بشِع الطعم جَشِب".
[12] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 386).
[13] شُعب الإيمان (9/ 202) للبيهقي، وسير أعلام النبلاء (7/ 244).
[14] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 389).
[15] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 387).
[16] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 20)، وكتاب الزهد الكبير (ص: 315) للبيهقي، وانظر: الزهد لابن أبي الدنيا.
[17] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 362).
[18] وفي شُعب الإيمان، والتذكرة: "اجترَّ".
[19] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 361)، وشعب الإيمان (3/ 313) للبيهقي، وتذكرة الحفاظ (1/ 204) الذهبي.
[20] سير أعلام النبلاء (7/ 243).
[21] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 12).
[22] سير أعلام النبلاء (7/ 244).
[23] الجرح والتعديل (1/ 100) لابن أبي حاتم، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 8).
[24] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 16). وانظر: الجامع الصحيح سنن الترمذي (4/ 356)، وشرح السنة (13/ 110).
[25] سنن أبي داود (1/ 258).
[26] سير أعلام النبلاء (7/ 244).