المرحلة الأولى في قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4413 - عددالزوار : 850961 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3944 - عددالزوار : 386958 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 211 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28455 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60074 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 847 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-04-2021, 03:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي المرحلة الأولى في قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام

المرحلة الأولى في قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام


د. محمد منير الجنباز


إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الله ورسوله، نبي مرسل، له تاريخ كفاح طويل في الدعوة، لم يخشَ الطواغيت، بل تحداهم وتحدى عقائدهم وأصنامهم، أتاهم بالحجة والبرهان على عبادة الله الواحد الأحد خالق البشر والأكوان، فأبَوْا رؤية النور وتحرير أفكارهم من الدنيَّة والصَّغار والخضوع إلى أصنام نحتوها بأيديهم، والعكوف عليها يقدسونها ويقدمون لها القرابين بمهابة، وخشوع، وهالَه ضعفُ العقول واختلاطها وعدم التمييز بين الخالق القوي والصنم المصنوع الذي لا يضر ولا ينفع، بل هو مشكَّل بأيديهم وفق تصورهم وخيالهم، غير أن الشيطان استحوذ على عقولهم فضلوا الطريق، وقد ساعدهم على هذا الضلال ذوو النفوذ المسيطرون على الجاه والمال والسلطان، وهم الذين يهمهم أن يبقى الناس منقادين لهذا الخط، مقدسين له؛ لتظل السيطرة لهم على الدوام، وإن أي تصحيح لهذا المسار والاتجاه إلى دعوة إبراهيم عليه السلام سيُفقد هؤلاء السيطرة والنفوذ، وهذا لا يرضيهم؛ لذلك فإن كل ما يهمهم هو بقاء الوضع على ما هو عليه، شعب سادر غارق في الوهم، لا يتطلع إلى الحياة السوية التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان، ولا ينظر إلى التحرر من ربقة القيود والأصفاد التي كبلت عقله وأقعدته رهين إملاءات ذوي النفوذ والسلطان ليستكملوا بناء عروشهم فوق جباه البسطاء من الناس، ويستمر تسخيرهم بلا هوادة باسم الآلهة والتقرب إليها، فأيُّ صحوٍ لهؤلاء البسطاء يعني فَقْدَ ميزة العلو والتسخير والنزول من عل لتتحقق المساواة، ويعمل الجميع بروح الفريق بلا سيد أو مسود، لأجل ألا يصل هؤلاء المنتفعون إلى هذه المرحلة عملوا جهدهم وسخروا قوى شرهم لمنع وصول النور ودعوة الأنبياء التي أتت لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الخالق التي يتساوى فيها الجميع في القيمة الإنسانية، ويتفاضلون في الطاعة والولاء له - جل علاه - وبهذا وحده يستحقون السعادة في الدنيا والآخرة.

الدعوة في العراق:
وُلد إبراهيم عليه السلام في مدينة (أور)، ووالده آزر صانع الأصنام الشهير، وورد أن اسم والده تارخ أو تارح عند المؤرخين، لكن هذا لا يردُّ صريحَ النص القُرْآني: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]، وكانت نشأةُ إبراهيم عليه السلام نشأة منكرة لعادات قومه منذ صباه، وإن عقله المتنور لم يقبل ما كان عليه قومه من الخضوع لهذه الأصنام، وكان دائم التفكير والتأمل في هذا الكون وخالقه، إنه كون واسع كبير فوق قدرة الإنسان وتخيله، تأمَّل وفكَّر وقال: من أجرى هذه الشمس ونور ذاك القمر، ونثر هذه النجوم على صفحة السماء وفيها مجموعات متميزة سابحة لا تود تغيرًا أو انفكاكًا؟ هذا الليل بصمته وسكونه ولمع كواكبه ونجومه، وهذا النهار بوضوحه وضياء شمسه وحركته ودأبه ونضرة حياته، وهذه الجبال الرواسي على الأرض، وهذه الأنهار الجارية بعذب المياه، والشجر والطير والسباع، تأملٌ أثقل تفكيره، ولا جواب عند قومه على ما يعتمل في صدر إبراهيم سوى عكوفهم على الأصنام وتقديسها، وأمام هذا الجواب التافه الذي لا يمكنه أن يقف أمام تساؤلات إبراهيم، أو أن يصمد إزاء أسرار هذا الكون الرهيب الواسع نفَر إبراهيم عن قومه وما هم عليه، وراح في تأملاته ليصل بالفكر النقي إلى الحقيقة التي ارتاح لها فؤاده، فأشرق النور فيه، وانبعث فيه حياة جديدة أوصلته إلى أن هذا الكون من صنع إلهٍ واحد لا شريك له، ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 75 - 78]، لقد بدأ إبراهيم مع قومه بداية عقلانية، فيها مبدأ التسليم لما يقولون ثم نقضه بالدليل والبرهان، وقد كانوا يعبدون الكواكب والشمس والقمر، حيث مثلوا لكل منها شكلًا معينًا من الأصنام، والكواكب التي كانوا يعبدونها هي الكواكب المضيئة السيارة، مثل: الزُّهَرة، وتظهر في أول الليل عند الغروب، وكانت المقصد الأول، ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 76]، والزُّهَرة شديدة اللمعان متلألئة، تغرب بعد غروب الشمس بساعة أو أكثر قليلًا، فقال لهم: تعبدونها على أنها إله، انتظِروا، وما هي إلا ساعة حتى أفَلَتْ وغابت عن الأنظار، فالتفت إلى قومه وقال: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، فلو كانت إلهًا لما غابت، وبعد غيابها بقليل ظهر القمر بدرًا، والقمر يكون مكتملًا في ليالي أربعَ عشرة، وخمس عشرة، وست عشرة، ثم فيما بعد من الليالي يبدأ بالتناقص رويدًا رويدًا، لكن في ليلة أربعة عشر يظهر القمر من الشرق قبل غروب الشمس، وفي ليلة خمسة عشر يظهر القمر بعد الغروب، وفي ليلة ستة عشر يظهر القمر بعد الغروب بأكثر من ساعة، والظاهر أن إبراهيم عليه السلام كان مع قومه في هذه الليلة، بحيث ما كادت الزهرة تغيب حتى ظهر القمر من الشرق، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 77]، فأشار إلى القمر بعد أن أسقط بالبرهان كوكب الزهرة، وهكذا ظهر القمر بنوره الوضيء، بحيث خفت بالنسبة لضيائه ضوء النجوم، واستمر القمر مبحرًا من شرقي السماء إلى غربيها، ثم غاب ضوءُه قبل بزوغ الشمس، وعم الظلام في الأرض، وبرهن لهم أن من يزول لا يكون إلهًا، فأسقط عبادة القمر، وفي الصباح بزغت الشمس، وظهرت عند الأفق الشرقي بحجم كبير مذهل، ثم ارتفعت واشتد ضياؤها، فقال: هذه الشمس أكبر وأشد ضوءًا، فلتكن عند زعمكم ربًّا، وانتظروا، وعند الغروب ضعف الضوء، ثم هوت للمغيب، وعاد الظلام حالكًا، فالقمر ليلة سبع عشرة لن يظهر ليضيء الكون إلا بعد أكثر من ساعتين، حيث يتأخر ظهور القمر كل ليلة عن التي قبلها بمقدار أربعٍ وخمسين دقيقة، وهنا صرخ إبراهيم بأعلى صوته: ﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]، هذه كلها مخلوقات، ومن الخطأ الفادح توجيه العبادة لها، وإنما العبادة الخالصة لخالقها خالق هذا الكون وما فيه، والظاهر أن هذه البراهين ذهبت أدراج الرياح؛ لعدم اقتناع العقول المتحجرة بما نقضه من ضعف آلهتهم وتلاشيها؛ لذلك أخبرهم بأنه مخالف لهم، ومفارقهم في العبادة، فقال: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، وفي فترة هدوء وتأمل في هذا الكون البديع، وقد تجلت قدرة الخالق فيما خلق، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، لم يتأخر إبراهيم في القيام بهذا العمل ليرى عيانًا قدرة الله على إحياء الموتى، لا لشك في قدرة الله؛ فقد أوتي إيمانًا لا يرقى إليه شك، تزول الأرض والجبال ولا يزول، وذكر أنه أخذ أربعة طيور: طاوس، وديك، وحمامة، وغراب، فذبحهن ومزق لحومهن وخلطها بعضها ببعض، ثم نثرها فوق أربعة جبال، ووقف بعيدًا فناداهن، وقيل: حبس رؤوسها عند قدمه، ثم دعاهن - أي قال لها أن تعود كما كانت باسم الله الأعظم - فاجتمعت أجزاؤها متناثرة في الفضاء حتى تشكلت كما كانت، ولكن بغير رؤوس، فاقتربت من إبراهيم وأفرج عن الرؤوس فانطلق كل رأس إلى جسمه المحدد، وعادت كما كانت حية تطير، وهنا فإن إبراهيم لعِظَم ما شاهد انطلق في الدعوة قويًّا، مطمئن القلب، موقنًا بنصر الله، وعبارة: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ [البقرة: 260]، ليست شكًّا في إيمان إبراهيم، والهمزة هنا ليست للاستفهام الذي يفيد الشك، ولكنها استفهام يفيد اليقين، وسماها بعضهم ألف الإيجاب، تمامًا مثل قول الشاعر مادحًا:

ألستم خيرَ مَن ركب المطايا *** وأندى العالمين بطونَ راحِ

لذلك قال: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43].

مِن هذه البداية بدأ الصراع العقدي بين إبراهيم وقومه، وعُرف عنه مخالفتهم ومفاصلتهم في هذه الناحية، ومع ذلك كان يقوم بواجبه في تبليغ الدعوة، وعدم السكوت عما يقترفونه من مخالفات: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 51، 52]؛ فالله - سبحانه وتعالى - وهَبَه النُّضج العقلي والرشد والإقناع، فانطلق نحو أبيه مخاطبًا له برقة، ويطرح عليه أسئلة فيها عتاب واستنكار، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 41، 42]، هذه الأصنام أنت تنحتها وتشكلها بيديك، من خشب أو صخر، وأنت تعرف أنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عنها ولا عن غيرها شرًّا ولا أذى، وقد ألان له القول ورقق العبارة في مخاطبته، متخذًا الأبوة مقدمة لخطابه؛ ليكسب عطفه وسرعة الاستجابة لدعوته، مخبرًا إياه أنه مكلف من الله تعالى بهذه الدعوة؛ ليوصلهم إلى الصراط السوي، وينقذهم من سوء العذاب: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43]، وكان وقع الكلام على والده قويًّا ومزلزلًا، لم يكن يستطيع أن يجمع قواه وفكره للرد أو التصدي، بل كان يستمع شبه مندهش للنصح ولهذه الأقوال التي لم يكن ليسمعها من قبل، خصوصًا من إبراهيم، فما الذي دهاه يشن هذا الهجوم على المقدسات ويعرِّيها ويكشف وهنها؟ واستمر يذكر الأبوة لتحريك وجدان والده: ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴾ [مريم: 44]، وبعد تعرية الأصنام أشار إلى غَواية الشيطان وعداوته للإنسان وعصيانه للرحمن، وأن عبادة الأصنام هي طاعة للشيطان وعبادة له؛ لأن مراده إغواء بني آدم وإبعادهم عن رضوان الله، وسوقهم زمرًا زمرًا إلى النار: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 45]، وتابَع إبراهيم تصعيد الخطاب شيئًا فشيئًا، وفي كل جولة كان يعري الأصنام ويكشف زيفها وبطلان عبادتها، هل اقتنع والده بهذا الخطاب، وعدَّ وَصْف الأصنام الذي وصفها به إبراهيم صحيحًا، وقرر العودة إلى الرشاد والصواب؟ ما هذه التماثيل التي تحيطونها بهالات التقديس وتتجمعون حولها للعبادة؟ ماذا جلبت لكم من الخير والسعادة حتى تستحق منكم هذا العكوف والتقديس؟ لم يكن عند آزر جواب مقنع وجدال يقارع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وإنما كان التعصب باديًا في لهجة خطابه: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، كان الرد عنيفًا وغير مبني على جدال منطقي فيه إقناع، بل لعله أراد أن يسكت ابنه؛ لاعتقاده أنه تطاول على الأصنام، مهددًا إياه بالرجم والطرد والمفارقة، لم ييئَس إبراهيم من موقف والده، فليست سوى جولة واحدة ستعقبها جولات، ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47]؛ لذلك أبقى على خيوط الود موصولة مع والده على أمل العودة، لكن هذا الصد لم يَثْنِه عن الاستمرار في دعوته، بأن يتخذ صدود والده ذريعة للكف عن الدعوة، على اعتبار أن أقرب المقربين إليه رفضها، فمن باب أولى أنهم سيرفضونها، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، بل زاد إصرارًا على السير بطريق الدعوة؛ إنقاذًا لهؤلاء الجاهلين من النار، فلنتابع هذا الموقف الرائع في الجدل بين إبراهيم عليه السلام وقومه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]، سؤال استنكاري - وهو يعرف ما هي - يريد أن يدخل معهم في حوار من خلال إجابتهم؛ كي يعريها أمامهم من أية هالة قدسية أضفوها عليها؛ ليظهر بعد ذلك عجزها، فكانت الإجابة: ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، أهذا ما دعاكم لعبادتها؟ هل فكرتم فيما كان عليه آباؤكم من صواب أو خطأ؟ وهل عبدوها لميزة ما؟ أكانت تمنحهم الرزق وتشفيهم من المرض وتسبغ عليهم النعيم والهناء والسرور؟ أجربتم في سنة جدباء أن تستغيثوا بها فساقت لكم الأمطار مدرارًا؟ ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]، ضلال وتِيهٌ واضح، فما الذي جعلكم تستمرون على هذا الخطأ؟! ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 55]، لقد دهشوا لقوله، وظنوا أنه يمازحهم؛ لأن هذا الذي هم عليه من العكوف على التماثيل مقدَّس، لا يجرؤ أحد على الخوض فيه، فكانوا إلى ذلك الوقت مقتنعين بما هم عليه من تقليد الآباء، لكن الرد الجاد من إبراهيم عليه السلام كان مؤكدًا على خطئهم وموضحًا لهم الطريق الحق الذي ينبغي أن يسلكوه، ﴿ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]، الله هو الذي خلق هذه السموات وهذه الأرض، وليس - كما تزعمون - هذه الجمادات التي تصنعونها وتضعونها في المعابد، وأنا شاهد على ذلك، وعندي البراهين لو شئتم، لقد أرسلني الله إليكم؛ لأبين لكم هذه الحقائق التي غابت عنكم بسبب عمى القلوب، وتقليد الآباء بلا تمييز أو مناقشة عقلانية بما يفعلونه، وطلبوا منه بيان المزيد عن ربه الذي أرسله إليهم، فقال: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 75 - 80]، هذه قناعتي، وهذا هو ربي الواحد الأحد، خالق هذا الكون وخالقي وخالقكم، مَن له هذه الصفات هو الذي يستحق العبادة لا أصنامكم، فعندما سألتكم: ما تعبدون؟ كان جوابكم: ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ [الشعراء: 71]، وهنا انبرى لهم معنفًا على سوء جهلهم وعدم تمييزهم بين من يستحق العبادة ومن هو جماد لا يحس ولا ينطق، ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، يا خيبة لكم على هذا التفكير وهذه العقول التي هي أدنى مرتبة من الحيوان، ولما تبين له هذا العناد وانغلاق الفهم والإصرار على التمسك بما ورثوه عن الأجداد، أراد أن يبرهن بالدليل القاطع على ضعف هذه الأصنام ووهنها أمام قاصديها بالعدوان: ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 57]، فتوعَّد أصنامهم بالكيد لها، ومعنى هذا أنه سيحطمها ويدخل مع قومه في صراع عنيف ومواجهة خطيرة وهو ما زال وحيدًا في الميدان، ولكن إيمانه بربه قوي راسخ لا يتزعزع مهما تمادى قومه في الإيذاء، وانتظر فرصة مواتية يغادر فيها قومه المعبد، وتحيَّن بفارغ الصبر انفراده بأصنامهم، فجاء عيدهم وهلت احتفالاتهم به، وفيه يجتمعون في ساحة عامة لإقامة مهرجانهم ثم يختمون عيدهم بتقديم القرابين لآلهتهم، فكانت هذه فرصة إبراهيم للكيد من أصناهم مثلما توعدهم به، ولم ينسوا دعوته في العيد ليخرج معهم ويشاركهم أفراحهم، ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾ [الصافات: 88 - 90]، فتذرَّع بالمرض كيلا يخرج معهم؛ وذلك لأمرين، أولهما: أنه لا يريد مشاركتهم في عيد الضلال، والثاني: تنفيذ ما عزم عليه بالكيد للأصنام، ﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 91 - 93]، يا لها من جرأة فيها قوة وعزم يريد بها أن يصدم هؤلاء السادرين في سباتهم الفكري العميق، فلعله يوقظهم ويُحدِث عندهم صحوة في التفكير، فيصِلون إلى الحقيقة؛ ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]، لقد حطمها وفق خطة مدبرة وحكمة بالغة لها ما بعدها؛ لذلك أبقى على أكبرها حجمًا، لا لعجز عن تحطيمه، وإنما لاستخدامه ورقة برهان على تسفيه عقولهم، ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 59]، لقد دخل القومُ مبتهجين حاملين القرابين لآلهتهم وهم يتضاحكون ويترنمون بالأهازيج الدينية التي تقربهم من الآلهة، وإذا بهم يجِدون المعبد على حالة أطارت عقولهم نتيجة الفوضى وتناثر الحطام، وأيقنوا أن أحدًا قد عبث بمعبدهم، وارتكب بحقه جرمًا عظيمًا، وإنه لمن الظالمين، لكن غرابتهم كانت أشد عندما رأوا كبيرهم سالمًا وفي يده أو عنقه الفأس أداة الجريمة التي حطمت الأصنام، ثم بدؤوا يناقشون الأمر ويتساءلون: من هو مرتكب الجريمة يا ترى؟ من أقدم على هذا الفعل، ومن له مصلحة في إيذاء الآلهة؟ بالطبع لا يوجد إلا متهم واحد عاب الأصنام وذكرها بسوء وطلب نبذها وتحطيمها، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60]، ومعنى يذكرهم: يعيبهم ويستهزئ بهم ويدعو إلى تحطيمهم ووأدهم، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 60، 61]، وعمل هنا نظام الملك على بث عيونه لإحضار إبراهيم ومساءلته عن حادث المعبد، وفي الحال أحضر إبراهيم إلى المعبد وقد تجمع الناس في حشد كبير وهم مترقبون ومتلهفون لمعرفة اليد الآثمة التي امتدت بالعنف إلى آلهتهم، فكنت تراهم ما بين مستنكر وغاضب ومتحمس ينادي بالانتقام من الفاعل، ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 62، 63]، ألا ترون الجاني؟ هو هذا الذي لا يزال يمسك بالفأس، كل الأصنام محطمة إلا هو، ولو كان الجاني غير هذا لشمله التحطيم، فاعتذروا من إبراهيم عن شكهم به، وقالوا: نعم، هذا كبير الآلهة، علينا أن نتجه إليه ونسأله عما حدث، ولما اقتربوا منه صدمهم الواقع، هذا جماد لا روح فيه، ولا حس له، ولم يحدث في يوم من الأيام أن تكلمت الأصنام، بل سدنتها هم الذين يتكلمون باسمها ويفرضون الأتاوى والقرابين على الشعب ليقدموها لها بزعمهم، ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الأنعام: 136]، فسدنة الأصنام هم الذين كانوا يوهمون الناس بأنها تمنح وترضى وتغضب وتمنع، لكن الحقيقة أمام هذه الحادثة التي هزت كيانهم نطقوا بالحق، ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 65]، وكان ينتظر منهم هذا الاعتراف، وكانت خطته مبينة للوصول إلى هذه الحقيقة لينطقوا بها على ملأ من الناس؛ لذلك انبرى لهم بقوة مستغلًّا هذا التخبط الذي وقعوا فيه، ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66، 67]، ألم تعترفوا بأنهم لا ينطقون؟ أليس هذا من صفات الجماد؟ أين عقولكم لكي تميز؟ فلماذا تحطون من شأنكم بهذا الاعتقاد الدنيء؟ عليكم أن ترتقوا بالتفكير، وهذا يكون بتحرير العقل من أَسْر هذه الأصنام؛ لتنعموا بقيمة الاعتقاد السليم، وعندها ستشعرون بلذة العبادة لله الواحد الأحد، لكن كلمات الحق دائمًا تضيع أمام الغوغاء والمتنفذين الذين يحققون مكاسبهم وزعاماتهم من طمس الحقيقة، والعمل على توجيه الغوغاء للعبِّ من شراب الخبال، فيرى الباطل حقًّا، والحق باطلًا، وهكذا انطلق صوت المنتفعين ومن ورائهم الغوغاء ليطمس صياحهم وضجيجُهم كلَّ كلمة حق تقال، فقد عرفوا لعبة الهيمنة ووأد الحق في مهده، فانطلق صوتهم قاطعًا كل حوار: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، وانطلقت هذه الصيحات الرعناء التي خفَتَ معها صوت الحق، وضاعت معها خطط إبراهيم في إنقاذ هؤلاء العُمْي من النار، فكان جزاؤه منهم الإحراق بالنار، ولكن رب إبراهيم القادر على كل شيء لم ينسَ إبراهيم من رحمته؛ فهو الحامي له، فلن يترك إبراهيم ليحرقه أهل الضلال، وكانت المعجزة الكبرى أمام الخَلْق، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، وتتجلى قدرة الله في حماية عبده ونبيه إبراهيم، فكانت كلمة (كن)، التي حوَّلت ضرام النار إلى برد وسلام، أي: برد غير مؤذٍ، فالله الذي أعطى للنار حرارتها لحاجة أهل الدنيا إليها سلبها هذه القوة لحاجة إبراهيم إليها، فكانت عليه بردًا وسلامًا، لقد سعى عباد الوثن إلى جمع الحطب لإحراق الحق انتصارًا للباطل، فشارك في جمعه الكبير والصغير حمية للأصنام وتقربًا منها وانتصارًا لها، وهكذا كان للباطل صولة، أغلبية ساحقة انتصرت للشر ضد نبي مصلح، همه إنقاذ الناس مما هم فيه من الضلال ومن عذاب النار، هكذا كان قرار الأغلبية التحريق والتخلص من النبي المصلح، وهل قرار الأغلبية يكون دائمًا لصالح الخير؟ إنهم يجهِزون على الخير ويعينون قوى البغي والشر، فالمنهج هو الأهم لا قرار الأغلبية، ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 70]، وهل يربح مَن يكون مصيره إلى النار، ولم يقل: الخاسرين، بل جاءت بصيغة المبالغة؛ لأنها خسارة عظمى، فلو خسر الإنسان شيئًا دنيويًّا لكان خاسرًا، أما خسارته الجنة فهو الأخسر، ولما رأى ملك الضلال نمرود الذي أمر بإحراقه أن إبراهيم قد مكث في النار مدة قاربت الشهرين ريث أن خمدت وتكشفت عن روضة كان فيها إبراهيم منعمًا فخرج منها سليمًا معافى، بهت النمرود، وقال لإبراهيم: إن إلهك الذي بلغت قدرته وعزته ما أرى لكبير، خبرني ما هو؟ ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، وهو يقصد الإحياء ابتداءً والإماتة التي كتبها على كل إنسان بأجل معلوم، فكان رد نمرود وفق فهمه السقيم، ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، فهذا كما ادعى سهل، فأحضر اثنين من السجناء محكوم عليهما بالموت، فقال لأحدهما: اذهب فقد عفوت عنك، وقدم الآخر فقتله، وفهم إبراهيم مدى جهله في التفكير، فقال للنمرود: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]، لم يقُلْ له في الأولى: أنت جاهل لا تفقه معنى ما أقول، فكأنه سلم له في الأولى، ثم جرَّه إلى الأمر الأصعب؛ ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، ثم كف عن إبراهيم، ومنعه الله منه، وغادر إبراهيم العراق ولم يؤمن معه بعد كل هذا الجهد إلا ابنُ أخيه لوط عليه السلام.

أهم ما ورد في إبراهيم:

أخرج البخاري عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيَني يوم يبعثون، فأي خزي من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار))، فهذا هو مقام والده، أضحى مثل ذكر الضباع المتلطخ، فألقي في النار.

وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت - أي داخل الكعبة حين افتتح مكة - لم يدخل حتى أمر بها فمُحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: ((قاتلهم الله، والله إنِ استقسما بالأزلام قط))؛ أي: رأى - كما ورد في خبر آخر - صورة إبراهيم وإسماعيل على قماش من حرير وقد صوروهما وهما يستقسمان بالأزلام - قداح يلقونها فيها رابح وخاسر، مثل لعب القِمار في العصر الحديث - كما يفعل أهل الجاهلية، فأقسم عليه الصلاة والسلام أنهما لم يفعلا ذلك أبدًا، وهذه الصورة من افتراء الجاهليين عليهما، وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 72.30 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]