ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4422 - عددالزوار : 859964 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3954 - عددالزوار : 394306 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216340 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7847 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 70 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 98 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 09-06-2021, 04:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة

ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة
مسفر بن علي القحطاني

إن للنظر والاجتهاد في أحكام النوازل المقام الأسمى في الإسلام لما له من موصول الوشائج بأصوله وفروعه الحظ الأوفى والقدح المعلى، وهو الميدان الفسيح الذي يستوعب ما جدّ من شؤون الحياة والأحياء، وتعرف من خلاله أحكام الشرع في الوقائع والمستجدات الدينية والدنيوية.
ولا يخفى على أهل العلم والإصلاح ما وقع خلال الأسابيع الماضية من عدوان غاشم على العراق استهدف أرضه ومقدراته وانتهك حقوق شعبه وحرماته، فكانت نازلة عظيمة أصيبت بها الأمة العربية و الإسلامية في فؤادها وتأثر لها العالم أجمع، ولعلها بداية السيل الغربي العرم على بلادنا ومقدساتنا وثقافاتنا الإسلامية.
عندها علت صيحات الغيورين محذّرةً من هذه الفتنة ومرشدةً للمخرج الشرعي منها، فخرج على إثرها عدد من الفتاوى الشرعية للجان وهيئات علمية وكذا لأفراد من أهل العلم؛ بيّنت أحكام بعض النوازل التي وقعت في الحرب؛ كحكم جهاد الغزاة من الأمريكان والبريطانيين، والتعاون مع البعثيين في ذلك، وحكم مناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين في هذه الأزمة، وهل يجوز لجيوش المسلمين المشاركة في هذه الحرب بتقديم العون والدعم مهما كان لأولئك المعتدين إلى غيرها من المسائل الواقعة والمتوقعة الحدوث خلال الأيام القادمة.
وقد أدى خروج بعض هذه الفتاوى في الساحة الإسلامية إلى شيءٍ من التباين والاختلاف في أحكامها، والتنافر والتباعد بين أعلامها، إضافة للحيرة والاضطراب التي اعترت كثير من المسلمين من جراء هذا الاختلاف، في حين أننا في أمس الحاجة في هذه الأزمات للتقارب والائتلاف و التعاون وجمع الكلمة على الحق. ومن أجل هذا المقصد العظيم أحببت أن أشارك إخواني الباحثين وطلبة العلم الناصحين بتوضيح أهم ضوابط النظر والاجتهاد في مثل هذه النوازل، وذكر الملامح الهامة لاجتهادٍ أمثل يستند على نصوص الشرع ويتوافق مع مقاصده الكلية وقواعده العامة.
ومن أجل ذلك قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة.
المطلب الثاني: الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة.
المطلب الثالث: الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد أثناء بحث النازلة.
هذا والله أسأل أن يجد القارئ في هذا التأصيل لفقه النوازل ما ينتفع به طلبة العلم والباحثين ويرأب الصدع الذي حدث بين بعضهم من جرّاء أحداث الأزمة الراهنة، ولا أزعم أخواني القراء الإحاطة والإستقصاء وإنما هي محاولة متواضعة أفتح فيها المجال لأهل العلم والفضل لإشباع هذا الجانب المهم من التأصيل ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، كما أود التنبيه أني قد استعنت في بحثي هذا بدراستي الموسعة حول هذا الموضوع في رسالتي للدكتوراه والتي كانت بعنوان: (منهج استنباط الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة، دراسة تأصيلية تطبيقية) والتي سوف تنزل المكتبات قريباً إن شاء الله.

المطلب الأول: مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة
برزت في العصر الحاضر مناهج في النظر فيما استجد حدوثه من نوازل وواقعات وبرز لكل منهج منها علماء ومفتون وجهات تبني اجتهادها في النوازل من خلال رؤية هذه المناهج وطرقها في النظر.
وهذه المناهج المعاصرة في الفتيا والاجتهاد ليست وليدة هذا العصر بل هي امتداد لوجهات نظر قديمة واجتهادات علماء وأئمة سلكوا هذه المناهج وأسسوا طرقها.
فلن يكون مقصود بحثنا تأريخ هذه المناهج ورموزها إلا بقدر ما يوضح مناهج الفتوى والنظر في عصرنا الحاضر إذ هي الوعاء لكل ما يجدَ وينزل بالناس من أحكام وواقعات معاصرة.
ويمكن إجمال أبرز هذه المناهج المعاصرة في النظر في أحكام النوازل إلى ثلاثة مناهج، هي كالتالي: -
أولاً: منهج التضييق والتشديد.
من المقرر شرعاً أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة، فاستقراء أدلة الشريعة قاضٍ بأن الله - عز وجل - جعل هذا الدين رحمة للناس، ويسراً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أصل بعثته الرأفة والرحمة بالناس ورفع الآصار والأغلال التي كانت واقعة على من قبلنا من الأمم، يقول الله - تعالى -: (لَقَدْ جَاءكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(1).
ويقول - عز وجل -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (2)
، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً))(3)
ومن أبرز أوصافه - عليه الصلاة والسلام - ما قاله ربه - عز وجل -: (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(4).
ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يترك بعض الأفعال والأوامر، خشيه أن يشق على أمته كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك))(5)
ونظائره من السنة كثير ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يأمر أصحابه بالتيسير أيضاً على الناس وعدم حملهم على الشدة والضيق، فقد قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ـ - رضي الله عنهما - ـ لما بعثهما إلى اليمن: ((يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا))(6).
إن منهج التضييق و التشدد من الغلو المذموم انتهاجه في أمر الناس سواءً كان إفتاءً أو تعليماً أو تربية أو غير ذلك، وقد يهون الأمر إذا كان في خاصة نفسه دون إلزام الناس به، ولكن الأمر يختلف عندما يُتجاوز ذلك إلى الأمر به، والإلزام به،
ويمكن إبراز بعض ملامح هذا المنهج في أمر الإفتاء بما يلي: -
أ-التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء:
تقوم حقيقة التعصب على اعتقاد المتعصب أنه قبض على الحق النهائي في الأمور الاجتهادية الذي لا جدال ولا مراء فيه، فيؤدي إلى انغلاقٍ في النظر وحسن ظنٍ بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس، مما يولد منهجاً متشدداً يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء و المذاهب؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة.
يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: ((من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم))(7).
مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: - ((وإذا نزلت بالمسلم نازلة يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))(8). ولا يختلف الحال والأثر إذا كان التعصب لآراء وأقوال طائفة أو إمام معين لا يُخرَج عن اجتهادهم وافقوا الحق أو خالفوه.
والناظر في أحوال الناس المعاصرة وما أصابها من تغيّر وتطور لم يسبق له مجتمع من قبل مع ما فيه من تشابك وتعقيد، يتأكد لديه أهمية معاودة النظر في كثير من المسائل الفقهية التي بنيت على التعليل بالمناسبة أو قامت على دليل المصلحة أو العرف السائد؛ كنوازل المعاملات المعاصرة من أنواع البيوع والسلم والضمانات والحوالات وغيرها، أو كنوازل الأزمات والحروب كالتي تمر بالأمة هذه الأوقات، وقد يكون التمسك بنصوص بعض الفقهاء وشروطهم التي ليس فيها نصٌ صريح أو إجماع من التضييق والتشدد الذي ينافي يسر وسماحة الإسلام، وخصوصاً إن احتاج الناس لمثل هذه القضايا أو المعاملات التي قد تدخل في كثير من الأحيان في باب الضرورة أو الحاجة الملحة.
ومن ذلك ما نراه في مجتمعنا المعاصر من شدة الحاجة لمعرفة بعض أحكام المعاملات المعاصرة التي تنزل بحياة الناس، ولهم فيها حاجة ماسة، أو مرتبطة بمعاشهم الخاص من غير انفكاك، والأصل الشرعي فيها الحل، وقد يطرأ على تلك المعاملات ما يخلّ بعقودها مما قد يقربها نحو المنع والتحريم، فيعمد الفقيه لتغليب جهة الحرمة والمنع في أمثال تلك العقود التي تشعبت في حياة الناس، مع أن الأصل في العقود الجواز والصحة(9)، والأصل في المنافع الإباحة (10).
فيصبح حال أولئك الناس إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في معاملاتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسَّع الفقهاء على الناس في أمثال تلك العقود وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك العقود النازلة. (11)
ومن الأمثلة في هذا المجال أيضاً ما يقع في الآونة الأخيرة أيام الحج من تزايد مطرد لأعداد الحجاج وما ينجم عنه من تزاحم عنيف ومضايقة شديدة أدت إلى تغير اجتهاد كثير من العلماء المفتين في كثير من المسائل، ومخالفة المشهور من المذاهب تخفيفاً على الناس من الضيق والحرج، وكم سيحصل للناس من شدة وكرب لو تمسك أولئك العلماء بأقوال أئمتهم أو أفتوا بها دون اعتبار لتغير الأحوال والظروف واختلاف الأزمنة والمجتمعات.
فرمي الجـمار في أيام التشريق يبدأ من زوال الشمـس حتى الغـروب، وعلى رأي الجمهور لا يجزئ الرمي بعد المغرب. (12)
ومع ذلك اختار كثير من المحققين وجهات الإفتاء جواز الرمي ليلاً مراعاة للسعة والتيسير على الحجاج من الشدَّة والزحام. (13)
ولعل الداعي يتأكد لمعاودة النظر في حكم الرمي قبل الزوال وخصوصاً للمتعجل في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ لما ترتب على الرمي بعد الزوال في السنوات الماضية من ضيق وحرج شديد، ولا يخفى أن القاعدة في أعمال الحج كما أنها قائمة على اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمة أيضاً على رفع الحرج والتيسير. وقد أفتى بالجواز بعض الأئمة من التابعين وهو مذهب الأحناف (14).
ب - التمسك بظاهر النصوص فقط
إن تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها، ولكن الانحراف يحصل بالتمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها. ومما يدل على وجود هذا الاتجاه ما ذكره د: صالح المزيد بقوله: ((وقد ظهر في عصرنا من يقول: يكفي الشخص لكي يجتهد في أمور الشرع يقتني مصحفاً مع سنن أبي داود، وقاموس لغوي))(15).
وهذا النوع من المتطفلين لم يشموا رائحة الفقه فضلاً أن يجتهدوا فيه، وقد سماهم د. القرضاوي (بالظاهرية الجدد) ـ مع فارق التشبيه في نظري ـ حيث قال عنهم: ((المدرسة النصية الحرفية، وهم الذين أسميهم (الظاهرية الجدد) وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث، ولم يتمرسوا الفقه وأصوله، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال))(16).
وهؤلاء أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة التحريم دون مراعاة لخطورة هذه الكلمة ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سنداً للتحريم وحملاً للناس على أشد مجاري التكليف، والله - عز وجل - قد حذر من ذلك حيث قال - سبحانه -: (وَلا تَقُـولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِـنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَـلالٌ وَهَذَا حَـرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَـذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْـتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَـذِبَ لا يُفْلِـحُونَ)(17).
فكم من المعاملات المباحة حرمت وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأُخرج أقوام من الملَّة زاعمين في ذلك كله مخالفة القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة؛ وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته..قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرّم كذا، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا، ولم أحرمه))(18).
وهذا التحذير من إصدار أحكام الله - تعالى -قاطعة في النوازل والواقعات من دون علم راسخ لا شك أنه يفضي إلى إعنات الناس والتشديد عليهم بما ينافي سماحة الشريعة ورحمتها بالخلق.
وقد وقع في العصور الأخيرة من كفّر المجتمعات والحكومات حتى جعلوا فعل المعاصي سبباً للخروج عن الإسلام، ومن أولئك القوم؛ ما قاله ماهر بكري أحد أعضاء التكفير والهجرة: ((إن كلمة عاصي هي اسم من أسماء الكافر وتساوي كلمة كافر تماماً، ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء، إنه ليس في دين الله أن يسمى المرء في آنٍ واحد مسلماً وكافراً (19)!!؟
وكما حدث من بعض طلبة العلم في الأزمة الأخيرة في العراق من التكفير والإخراج من الملة لكل من ظاهر الكفار فقط؛ دون التفريق بين التولي و الموالاة أو دون النظر في حال المعين وما قد يشوبه من إكراه أو تأويل أو غير ذلك
إن هذا المنهج القائم على النظر الظاهر للنصوص دون معرفة دلالاتها أعنت الأمة وأوقع المسلمين في الشدة والحرج ولعله امتداد للخوارج في تشديدهم وتضييقهم على أنفسهم والناس، أو الظاهرية في شذوذهم نحو بعض الأفهام الغريبة والآراء العجيبة.
ج ـ الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف.
دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد. ولله در ابن القيم - رحمه الله - إذ يقول: - ((فإذا حرّم الرب - تعالى -شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به))(20).
ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده، لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة. (21)وقد يحصل لبعض متفقهة العصر الحاضر المبالغة في رفض الاقتباس من الأمم الأخرى فيما توصلت إليه من أنظمة وعلوم ومعارف ومخترعات؛ معتبرين ذلك من الإحداث في الدين والمخالفة لهدي سيد المرسلين (22).
والناظر في كثير من النوازل المعاصرة في مجال الاقتصاد والطب يرى أنها في غالبها قادمة من الدول الكافرة وأن تعميم الحكم بالرفض بناءً على مصدره ومنشأه تحجر وتضييق. ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلَق المفتي فيه على الناس الحكم وشدّد من غير دليل وحجة؛ لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وإن كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة (23).
ومن ملامح منهج التضييق والتشدد في الفتوى في النوازل:
الأخذ بالاحتياط عند كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سدّاً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمرٍ فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف.
فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه (24).
وكذلك تحريم كافة أنواع التصوير الفوتغرافي والتلفزيوني مع شدة الحاجة إليه في أوقاتنا المعاصرة (25)إلى غيرها من المسائل التي أثبت جمهور العلماء جوازها بالضوابط والشروط الصالحة لذلك.
ويجب التنبيه ـ في هذا المقام ـ على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى وضع الحرج عليهم(26).
وقاعدة: استحباب الخروج من الخلاف (27)؛ ليست على إطلاقها بل اشترط العلماء في استحباب العمل بها شروطاً هي كالتالي:-
أ ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في محذور شرعي من ترك سنة ثابتة أو اقتحام مكروه أو ترك للعمل بقاعدة مقررة.
ب ـ أن لا يكون دليل المخالف معلوم الضعف فهذا الخلاف لا يلتفت إليه.
ج ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر.
د ـ أن لا يكون العامل بالقاعدة مجتهداً؛ فإن كان مجتهداً لم يجز له الاحتياط في المسائل التي يستطيع الاجتهاد فيها بل ينبغي عليه أن يفتي الناس بما ترجح عنده من الأدلة والبراهين (28).
يقول د: الباحسين في بيان بعض آثار العمل بالاحتياط في كل خلاف حصل:
((ووجه الشبه في معارضة هذه القاعدة لرفع الحرج، هو أنه إذا كان وجوب الاحتياط يعني وجوب الإتيان بجميع محتملات التكليف، أو اجتنابها عند الشك بها، فإن في ذلك تكثيراً للأفعال التي سيأتي بها المكلف أو سيجتنبها، وفي هذه الزيادة في الأفعال ما لا يتلاءم مع إرادة التخفيف والتيسير ورفع الحرج، بل قال بعض العلماء: إنه لو بنى المكلف يوماً واحداً على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره مما خرج من موارد الأدلة القطعية لوجد من نفسه حرجاً عظيماً، فكيف لو بنى ذلك جميع أوقاته، وأمر عامة المكلفين حتى النساء وأهل القرى والبوادي فإن ذلك مما يؤدي إلى حصول الخلل في نظام أحوال العباد، والإضرار بأمور المعايش))(30).
ثانياً: منهج المبالغة في التساهل والتيسير
ظهر ضمن مناهج النظر في النوازل المعاصرة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه.
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم(31).
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع.
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات أو التنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان.
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - في ذلك: ((فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية؛ وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:
الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر …
الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة))(32).
فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصداً مُهِّماً في النظر والاجتهاد.
ولعل من الدوافع لهذا الاتجاه الاجتهادي؛أن أصحاب هذه المدرسة يريدون إضفاء الشرعية على هذا الواقع، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية، تعطيه سنداً للبقاء. وقد يكون مهمتهم تبرير، أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة.
ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصاً مقتنعاً لا يبتغي زلفى إلى أحد، ولا مكافأة من ذي سلطان ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته.

ومنهم من يفعل ذلك، رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو مَن وراءهم من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار، أو حباً للظهور والشهرة على طريقة: خالف تعرف، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب أو الخوف والطمع التي تحرك كثيراً من البشر، وإن حملوا ألقاب أهل العلم وألبسوا لبوس أهل الدين.
ولا يخفى على أحد ما لهذا التيار الاجتهادي من آثار سيئة على الدين وحتى على تلك المجتمعات التي هم فيها، فهم قد أزالوا من خلال بعض الفتاوى الفوارق بين المجتمعات المسلمة والكافرة بحجة مراعاة التغير في الأحوال والظروف عما كانت عليه في القرون الأولى(33).
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 128.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 127.16 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]