تفسير سورة الأعلى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الاعتكاف والنقلة الإيجابية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          قيمة العلماء في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          جُهْدُ اَلطَّاقَةِ فِي بِرِّ الْأُمِّ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          اغتنموا يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2771 )           »          تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2433 )           »          المجموع شرح المهذب للنووي(كتاب الصيام)يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2273 )           »          مواعظ رمضانية... يوميا فى شهر رمضان المبارك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2940 )           »          الهمم الشبابية العالية والنفحات الإلهية والإيمانية في رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2801 )           »          أكلات رمضانية شهية بالصور والمقادير --- وصفات وأطباق رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2023 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-02-2025, 01:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,116
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة الأعلى

تفسير سورة الأعلى

أبو عاصم البركاتي المصري

عدد آياتها: تسع عشرة آية، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

فضلها:
أخرج مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ»، قَالَ: "وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ".

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى".

وأخرج مسلم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ - أَوِ الْعَصْرِ - فَقَالَ: "أَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟" فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا".

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وصححه الألباني عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وصححه الألباني، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسَبِّحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ".

وَفِي صحيح البخاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ رضي الله عنه: "فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ".

مناسبة السورة لما قبلها (سورة الطارق):
سورة الأعلى ورد فيها الأمر بتسبيح الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 2، 3]، وذلك بعد ذكر خلق الإنسان في سورة الطارق ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾ [الطارق: 5 - 8]، وذلك ردًّا على المنكرين للبعث.

وفي سورة الطارق قوله تعالى: ﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾ [الطارق: 12]؛ أي شقها بالنبات، وفي سورة الأعلى ذكر خلق النبات وإخراجه من الأرض في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ﴾ [الأعلى: 4، 5].

مناسبة السورة لما بعدها (سورة الغاشية):
بعدها سورة الغاشية، وفيها بسط لحال المؤمن والكافر والجنة والنار الذي ذكر إجمالًا في سورة الأعلى.

مقاصد السورة:
(1) تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وإثبات صفات الكمال اللائقة به سبحانه.
(2) بيان ربوبية الله تعالى للخلق.
(3) إبرازُ جانبٍ عظيمٍ مِن نِعَمِ الله تعالى.
(4) امتِنانُ اللهِ تعالى على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقرآن، وتأييدُه وتَثبيتُه.
(5) الأمر بالوعظ والتذكير وبيان مصير المنتفعين بالذكرى، والمعرضين عنها.
(6) بيان بعض الأعمال التي تزكِّي النفوس.
(7) بيان اشتمال القرآن على بعض المعاني التي وردت في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.

تفسير سورة الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [سورة الأعلى: 1 – 19].

تفسير الآيات:
قوله تعالى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى: سبِّح أي نَزِّهِ، فالتسبيح تنزيه الله تعالى عن كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، ومثله قوله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]؛ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ في التفسير (20 /14): وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعْلَى؛ انتهى.

والمعنى سبِّح اسم ربك؛ أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ"[1].

والأعلى اسم من الأسماء الحسنى لله تعالى، ويدل على صفة العلو، علو الذات؛ قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿ اسْتَوَى ﴾: «عَلاَ» ﴿ عَلَى العَرْشِ ﴾[2].

واسم الأعلى يدل على علو القدر والشأن؛ قال تعالى: ﴿ ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِل وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَليُّ الكَبِيرُ ﴾ [الحج:62]، وكذلك عُلو القهر؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18].

قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى: فسوَّى؛ أي أحكم وأنشأ في أحسن صورة؛ كقوله تعالى: ﴿ ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 7]، وقوله: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].

وقد بيَّن موسى عليه السلام ذلك في قوله: ‏﴿ ‏‏رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.

قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون ﴾ [المرسلات: 23]؛ قال مجاهد: «قَدَّرَ لِلْإِنْسَانِ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ»، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ فَهَدَى ﴾، فقال مجاهد: «هَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا».

وقيل: قَدَّرَ الإنسان فِي خَلْقِهِ نُطْفَةً، ثمَّ علقَة، ثمَّ مُضْغَة، ثمَّ عَظْمًا، ثُمَّ لَحْمًا، ثُمَّ شَعْرًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُقَال قدر خلقه حسنًا أَو دميمًا أَو طَويلًا أَو قَصِيرًا، ﴿ فَهَدَى ﴾؛ أي: بَيَّنَ لَهُ السَّبِيلَ: سَبِيلَ الْهُدَى، وَسَبِيلَ الضَّلالَةِ، وقيل: «فَهدَى» عرَف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى؛ كما قال تعالى: ﴿ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [طه: 50]؛ أي: الذكر للأنثى.

وقال عطاء: جعل لكل دابَّة ما يُصلحها وهداها له.

قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ ﴾ أنبت بالمطر والمرعى: ما تخرجه الأرض من النبات، والثمار، والزروع، والحشيش والكلأ الْأَخْضَر.

قوله تعالى: ﴿ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أحوى، فجعله بعد اخضراره غثاءً، وهو مَا يَبِسَ وجَفَّ وتَحَطَّمَ من النباتِ، وهو الذي يحمله السيلُ والمطر، "أحْوَى"؛ أي أسْوَدَ؛ لأن الغُثَاءَ إذا قَدِمَ وأصابته الأمطار اسودَّ وتعفَّن.

وقولُهُ تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى؛ أي سنقرئك بالوحي، فعليك بتلاوة القرآن وتعاهَده، أخرج عبد الرزاق في "التفسير" (106) الحاكم برقم (3924) وصحَّحه، ووافقه الذهبي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا قَرَأَ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ قَالَ: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾، قَالَ: "يَتَذَكَّرُ الْقُرْآنَ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَىَ".

وقال مجاهد: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَذَكَّرُ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى"، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾[3]، وهو كقوله تعالى: ﴿ ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 16، 17].

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْهُ»، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ أَخْذَهُ ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، (وَقُرْآنَهُ): فَتَقْرَؤُهُ، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾، قَالَ: أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ لَهُ ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللهُ.

وأخرج أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10 / 270): بسنده عن الْجُنَيْدِ وقد سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾، قَالَ الْجُنَيْدُ: "سَنُقْرِئُكَ التِّلَاوَةَ فَلَا تَنْسَى الْعَمَلَ".

قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾: إلا ما شاء الله أن تنساه، وَالْمرَاد مِنْهُ نسخ التِّلَاوَة، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [البقرة: 106]، وكقوله تعالى: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الإسراء: 86]، وقد حصل نسخ التلاوة لعدد من الآيات.

وقال ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز" (5/ 469): قال بعض المتأولين: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يغلبك النسيان عليه، ثم يذكِّرك به بعدُ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله: «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا[4]»؛ انتهى.

قوله: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى: الجَهْرُ: هو الإعلان من القول والعمل، «وَمَا يَخْفَى» من السر.

قوله: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى؛ أي: لحفظ القرآن في صدرك، وقيل: نيسرك لعمل الجنة، وَقِيلَ: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ الْيُسْرَى وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.

قوله: ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾: فذكِّر؛ أي عِظْ بالقرآن، ﴿ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ﴾: الذكرى الْمَوْعِظَةُ وَالتَّذْكِيرُ؛ أي: إن نفع الوعظ في هؤلاء الطغاة العتاة.

قوله تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى: سيتعظ من يخاف الله ويعظِّمه؛ قال تعالى: ﴿ ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ [يس: 11]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73].

قوله تعالى: ﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى: ويتجنبها؛ أي: لا يقبل الموعظة ويعاندها، والأشقى من الشقاء ضد السعادة؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق ﴾ [هود: 105، 106].

قوله تعالى: ﴿ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى؛ أي: الأشقى، يَصلى؛ أي: يدخل ويقاسي حريق، "النار الكبرى" وهي جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لنار جهنم، أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا».

قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى؛ أي: لا يستريح من العذاب في النار بالموت، ولا يحيا حياة فِيهَا رَاحَةٌ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [طه: 74]، وكَقَوْلِهِ: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [فاطر: 36]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 74 - 77].

قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى؛ أي: نجح وفاز مَن تطهَّر باجتناب الرذائل وبالعمل الصالح، والتوبة من الذنوب؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾، والعمل الصالح يزكي النفس، وعن قَتَادَة: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾، قَالَ: «بِعَمَلٍ صَالِحٍ»[5].

وعَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾، قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»[6].

وقيل: تزكى؛ أي: أخرج زكاة ماله؛ قال سبحانه: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18]، وقال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وقيل "تزكي"؛ أي: أخرج زكاة الفطر من رمضان.

وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: "قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ لِلْفِطْرِ؟ قَالَ: «هِيَ فِي الصَّدَقَةِ كُلِّهَا»[7].

قوله تعالى: ﴿ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، فذِكْر الله تعالى وإقامة الصلاة مما يزكي النفوس، والمعنى: أي صلى الصلوات الخمس، وقيل: صلى صلاة العيد بعدما أخرج زكاة فطره، وقيل: الذِّكْرُ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ وَالصَّلَاةُ صَلَاةُ الْعِيدِ، والسُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عيد ولا زكاة فطر، لكن يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ.

قوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا؛ أي: تفضِّلون الدنيا على الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8].

قوله تعالى: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].

وقوله: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾، ومعنى "وأبقى"؛ أي: دائم؛ قال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 21، 22].

قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالْآخِرَةُ مِنْ ذَهَبٍ يَبْقَى، وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى؟

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى: الصُّحف؛ أي الكتب التي أُنزلت على الرسل، والمعنى أن ما ورد في السورة الكريمة من معاني عظيمة مِنْ فَلَاحِ مَنْ تَزَكَّى، وَمَا بَعْدَهُ ثابت في كتب الأنبياء السابقين؛ مثل صحف إبراهيم عليه السلام وصحف موسى عليه السلام.

قوله تعالى: ﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى: بَدَلٌ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 36، 37].

وموسى عليه السلام أُوحي إليه بالتوراة، قال بعض أهل العلم: التوراة غير الصحف، وقال آخرون الصحف هي التوراة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ولكل رسول كتاب؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الحديد: 25]، وهذا يدل على أن كل رسول معه كتابٌ، لكن لا نَعرِف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة؛ لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمِن بكل كتابٍ أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلَم به، نؤمِن به إجمالًا[8]"؛ انتهى.

انتهى تفسير سورة الأعلى.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

[1] أخرجه أحمد (17414) وأبو داود (869) والدارمي (1305)، وابن ماجه (887)، وابن خزيمة (601) و(670)، وابن حبان (1898).

[2] صحيح البخاري (9 /124).

[3] تفسير مجاهد ص 722.

[4] متفق عليه؛ أخرجه البخاري(2655) ومسلم(788) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5] مصنف عبد الرزاق (5795).

[6] أخرجه الطبراني في الدعاء (1552).

[7] مصنف عبد الرزاق (5796).

[8] شرح العقيدة الواسطية" (1 /65).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.92 كيلو بايت... تم توفير 1.62 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]