في قضية اللفظ والمعنى - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         المقنطرون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          رسالة المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الموت الرحيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أحكام الصلاة على الميت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          المسائل الفقهية المتعلقة بالمسبحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          دم الاستحاضة سببه ركضة الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          حكم التسميع والتحميد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فضل الصلاة في الصف الأول والصفوف المقدمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          جوانب خفية في الخلاف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الوجيز في فقه الزكاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-08-2022, 11:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,951
الدولة : Egypt
افتراضي في قضية اللفظ والمعنى

في قضية اللفظ والمعنى
عمر اسراطي




"بالنقد الأدبي القديم"


إن قضايا النقد العربي القديم قضايا متعدِّدة فريدة، أسالتْ من المداد الشيء الكثير، وما تزال موضوعاتُه خصبةً للبحث والدراسة.

ولعل قضيةَ اللفظ والمعنى - موضوع هذا العرض- تبقى على رأسِ المشاكل أو القضايا التي شغلت النقَّاد العرب؛ وذلك لِما نشِب حولها مِن اختلافٍ لوجهات النظر بين مَن يتعصب للفظ ويحتجُّ له، وبين مَن لا يرى سوى المعنى شيئًا يدعو للاهتمام، وبين ثالث على مذهب الوسط، محاولًا التوفيق بين الرأي الأول والرأي الثاني؛ لا مِن هؤلاء ولا هؤلاء.

وإن قضية اللفظ والمعنى قضيةٌ ليست عربية قديمة، (بل قضية إنسانية)؛ بحيث لا يمكن أن نؤرخ لظهورها بنشأة البلاغة العربية؛ بل إن القضية كان لها حضورٌ في الفكر الغربي واليوناني على وجه الخصوص، المتمثِّل في فلسفة كل من أفلاطون وتلميذه أرسطو، حسب ما تناقلت بعضُ الكتب.

أما من الناحية الداخلية، فالقضية تعودُ في أول ظهور لها إلى الفِرق الكلامية؛ من أشاعرة، ومعتزلة وجهمية...، وقصة التمييز بين القرآن الموجود بين أيدينا والكلام النفسي، خاصة مع الأشاعرة.

تعريف قضية اللفظ والمعنى من اللغة إلى الاصطلاح:
قبل الشروع في بسط تعريف - ولو بشكل مختصر - لهذه الظاهرة النقدية، والخوض في أهم القضايا التي تتعلق بدراستها في مجال النقد الأدبي، سنحاول أن نضع يدَ القارئ على المقصودِ بمفهومي اللفظ والمعنى، أو بتعبير أدقَّ كيف عرَّف العرب القُدامى اللفظ والمعنى في كتبهم ومعاجمهم أولًا، ثم بعد ذلك نمضي إلى حالِ سبيلنا فيما نحن بصدد دراسته.


نقل ابن منظور في لسان العرب:
"لفظ: اللَّفْظُ: أَن تَرْمِي بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، والفِعلُ لَفَظ الشيءَ، يُقَالُ: لفَظْتُ الشَّيْءَ مِنْ فَمِي أَلفِظُه لَفْظًا: رَمَيْتُهُ..."[1].


وذكر صاحب كتاب التعريفات أن "اللفظ: ما يتلفظ به الإنسان - أو مَن في حكمه - مهملًا كان أو مستعملًا"، وقال في تعريف " المعنى: ما يقصد بشيء"[2].


أما صاحب المقاييس، فقد ذكر: "(لفظ): اللام والفاء والظاء كلمة صحيحة، تدل على طرح الشيء، وغالب ذلك أن يكون من الفم، تقول: لفظ بالكلام يلفظُ لفظًا، ولفظتُ الشيء من فمي...، وهو شيء ملفوظ ولفيظ"[3].


ومِن جهة المقصود بقضية اللفظ والمعنى في النَّقد العربي القديم، فيمكن القول: إنها تلك المشكلة النقدية الأكثر شيوعًا في الساحة النقدية والعربية، التي حازت من الاهتمام الشيءَ الكثير؛ سواءٌ من طَرَف النقادِ أو البلاغيين، أو حتى من طرف علماء الكلام مِن الفِرق الكلامية، ولعلَّ هذا الأخير كان صاحب قصب السبق في إبداءِ آرائهم وإعطاء مواقفِهِم خصوصًا مع فتنة خلق القرآن، وما أُثير حولها من أسئلة من قبيل: هل القرآن مخلوق لم يكن ثم كان؛ أي محدث؟ أم إنه كلام الله قديم أزلي وليس بمخلوق؟

ومن جهة النقاد والبلاغيين، فقد تضارَبت الآراء وتقاطعت، وإن لم يكن الخلاف بينهم بالحدَّة التي كانت مع الفرق الكلامية؛ حيث نجد "منهم مَن يردُّ أهمَ مقوِّمات العمل الأدبي، وأقوى دعائِم نجاحه إلى المعنى، مقللًا من شأن اللفظ في ذلك، ومنهم مَن يردها إلى اللفظ، ومنهم من يسوي بينهما"[4]، وعلى مدار انتقاء اللفظ اللائق الذي يكسب المعنى بهاءً ورونقًا، والذي يكون أبلغ في تأدية المعنى المراد من غيره، دارت آراؤهم في هذا المجال.

اللفظ والمعنى في الفكر الغربي القديم: (أفلاطون - أرسطو):
إن ثنائية اللفظ والمعنى - أو اللغة والفكر - ثنائيةٌ إنسانية بامتياز، لا ترتبط بثقافة دون أخرى، وليس أدلَّ على ذلك مِن أن اللغة أو الفكر الذي يعبَّرُ عنه من طرف هذه اللغة، من بين ما تتقاسمه البشرية جمعاء، ولا يقتصران على فكر وحدَه، ومن باب المنطق الزمني يبقى التراث الفكري الغربي أوَّلَ من أثار هذه القضية - حسب ما وصل إلينا من الكتب التي سَلِمت من الضياع - وإن كنَّا في الحقيقة لا ننفي أن تكون جذور القضية أبعد من ذلك، ما دام تاريخ الإنسانية على وجه البسيطة لا يبدأ مع الإنسان اليوناني.

والذي لا شك فيه أن الحديث عن قضية اللفظ والمعنى في التراث الغربي لا يستقيم إلا بالرجوع إلى أحد أعلام الفلسفة اليونانية (أفلاطون)، الذي ذكر هذا الجانب - كما نقل ذلك صاحب كتاب "في نظرية الأدب" شكري عزيز الماضي - خلال حديثه عن المحاكاة.

لقد رجَّح أفلاطون كِفَّة المعنى؛ حيث قال بأسبقية الوعي على المادة، "وينطلق في هذا من إيمانه واستناده إلى الفلسفة المثالية، التي ترى أن الوعي أسبق في الوجود من المادة"[5]، فالمعاني والأفكار - حسب أفلاطون - هي الأسبق، وهي الحقائق المطلَقة التي لا يرتقي الشك إليها، وهي الموجودة في عالَم المُثُل، في حين أن الألفاظ لا تمثل عنده سوى محاكاةٍ لِما هو موجود في عالم المُثُل من أفكار ومعانٍ، ولهذا السبب، فالألفاظ عند أفلاطون تبقى ناقصةً وبعيدة عن الحقيقة، وإلى ذلك أشار بقوله: "إن عمل الأديب يُشبِه عمل المرآة؛ أي إن محاكاتَه للأشياءِ والظواهر آليةٌ فوتوغرافيةٌ؛ أي حرفية، ولذلك فهو لا يقدم سوى صورٍ مزيفة لا حاجة لنا بها؛ لأن ما نحتاجه وينفعنا هو الأصل لا الصورة"[6].

إن أفلاطون - من خلال هذا النص - يجعل الأصل والصورة في مقابل المعنى واللفظ، فاللفظ لا يُمثِّل سوى صورةٍ للمعنى الأصل، وعليه فإن الألفاظ لا يمكن أن تصل إلى مرتبة المعاني الأصول.
أما التلميذ "أرسطو"، فقد ذهب إلى التوفيق بين اللفظ والمعنى؛ حيث نقض المعادلة التي تجعل الأصل والصورة في مقابل المعنى واللف؛ حيث ذهب إلى أن اللفظ لا يمثل صورة الأصل (المعنى)، بل أصل كذلك؛ لأن الطبيعة بطبيعتها ناقصة، والشعر أو الفن هو ما يتمم ما بها من نقص.

قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم:
في المشرق الإسلامي:
لقد كانتْ للمكانة التي يحتلها الشعر عند العرب العامل الرئيس وراء نشأة العديد من القضايا والآراء النقدية، التي كانت الغايةُ منها تجويدَ هذا الشعرِ والحفاظَ على قيمته الفنية والجمالية، ولهذا السبب رأيناهم يثيرون حوله العديد من القضايا من قبيل:
(1) قضية اللفظ والمعنى.
(2) قضية المطبوع والمصنوع أو الطبع والصنعة.
(3) قضية الوحدة والكثرة في القصيدة.
(4) قضية الصدق والكذب في الشعر.
(5) قضية المفاضلة أو الموازنة بين شعرينِ أو شاعرين.
(6) قضية السَّرقات الشعرية.
(7) قضية عمود الشعر.
(8) قضية العَلاقة بين الشعر والأخلاق أو الشعر والدين[7].


يتفق معظم الباحثين أن البداية الأولى لقضية اللفظ والمعنى كانت مع الجاحظ (ت255)، "الذي - بالإضافة إلى رأيه في أقسام البيان عامة، وملاحظاته المتعلقة بالظاهرة اللُّغوية... - تمتد تصوراتُه الأسلوبية ومقاييسُه البلاغية في رسوخ في نظريته في الكلام...، (التي تقدر أن الكلام هو المظهر العملي لوجود اللغة المجرد)"[8]؛ أي إن الكلام ما هو إلا تجلٍّ ومظهر عملي تطبيقي للغة المجردة القائمة في نفس الإنسان.

ومن جهة أخرى، فإن الجاحظ على عكس ما ذهب إليه عددٌ من الدارسين، من أنه من الذين ينتصرون للألفاظ على حساب المعاني، مستندين في ذلك على قولته الشهيرة: (المعاني مطروحة في الطريق)؛ حيث إن الراجح في الأمر هو أن الجاحظَ كان مِن أصحاب المشاكلة والمطابقة بين اللفظ والمعنى؛ وحجَّتُنا في ذلك، هي أن الجاحظ جعل اللفظ والمعنى في مقابل الجسد والروح؛ إذ إن "الأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للفظ روح"[9].

ولعل الأمرَ يزداد وضوحًا مع ما ذكره هو نفسُه في البيان والتبيين: "مَنْ أرادَ معنًى كريمًا فليلتمسْ له لفظًا كريمًا، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف"[10].

وبناءً على ما سبق، فإن الجاحظ لم يتنصِر للفظ على حساب المعنى أو للمعنى على حساب اللفظ، بل ذهب إلى ما سماه بالمشاكلة والمطابقة بينهما.

وقد تقاطع معه في ذلك ابن قتيبة (ت276)، "الذي أدرَك لحمة المعنى واللفظ في إطار الصياغة الواحدة"[11]، وإن كان يميز بين أربعةِ أقسامٍ من الشعر - انطلاقًا من ثنائية اللفظ والمعنى - هي:
ضربٌ منه حسُن لفظه وجاد معناه.
ضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتَّشته لم تجد فائدةً في المعنى.
ضربٌ منه جاد معناه وقَصُرتْ ألفاظُهُ عنه.
ضربٌ منه تأخَّر معناه وتأخر لفظه[12].

(وقد أعطى أمثلة لكل هذه الأقسام لا يتسع المكان لذكرها، ولمن أراد الاطلاعَ على هذه الأمثلة وغيرها، ففي العمدة ما يشفي الغليل).

والأمر لا يختلف كثيرًا مع قدامةَ بنِ جعفر (ت337)، الذي ذهب إلى أن العملَ الأدبي يجب أن يتميَّز بإتلافِ عناصرهِ النصيةِ؛ حيث يقول فيما سماه بالمساواة: "وهو أن يكون اللفظُ مساويًا للمعنى، حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذه هي البلاغة التي وصف بها بعض الكتاب رجلًا، فقال: كانت ألفاظُه قوالبَ لمعانِيهِ؛ أي هي مساويةٌ لها لا يفضُلُ أحدُهُما على الآخر..."[13].


وقد احتل اللفظُ والمعنى عند نقَّاد عمودِ الشعر مكانةً رئيسة؛ حيث نجدهما على رأس أبواب عمود الشعر السبعة عند المرزوقي (ت421)، الذي كان آخرَ حلقةٍ في تطورِ هذه القواعد، ومعه استوت على سوقِها، حيثُ ذكر:
شرف المعنى وصحته.
جزالة اللفظ واستقامته.
الإصابة في الوصفِ.
المقاربة في التشبِيه.
التحام أجزاءِ النظم والتئامها على تخيرٍ من لذيذِ الوزنِ.
مناسبة المستعار منه للمستعار له.
مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا تكون منافرة بينهما[14].


وقد ذكر عيارَ كلِّ واحدٍ منهما - أي عيار اللفظ وعيار المعنى - فقال: "فعيارُ المعنى أن يُعرَضَ على العقل الصحيح، والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جَنبتا القبولِ والاصطفاء، مُستأنِسًا بِقَرَائنه، خرج وافيًا، وإلا انتقض بمقدار شَوْبِهِ ووحْشَتِهِ".


وقال في اللفظ: "وعيار اللفظ الطبعُ والرِّوايةُ والاستعمالُ، فما سلِم ممَّا يُهجنهُ عند العرضِ عليها، فهو المختارُ المستقيم..."[15].


أما عبدالقاهر الجرجاني، فقد كان لتأخره زمنيًّا عن كل المذاهب الأثرُ الإيجابي في اطلاعه على مختلف الآراء النقدية التي قيلت حول هذه القضية؛ حيث "اجتمعت لديه آراؤهم، وأفاد مِن خبرتِهم، ولكنه تجاوزهم إلى رأي خاص، وكانت له في هذا المجال أصالة وتعمق، وكان صاحب مدرسةٍ في النقد، أدرك فيها ما لم يُدرِك النقادُ..."[16].


ولعل أكبر ما اشتهر به عبدالقاهر الجرجاني في النقد الأدبي هو عَلاقة اللفظ والمعنى بالإعجاز القرآني، التي اصطُلِح عليها فيما بعد (بنظرية النظم)، هذه النظرية التي كانت بمثابة الخلاصة التي أفرزَتْها قضية اللفظ والمعنى، خصوصًا في المشرق العربي، حيث "صاغ فلسفَتَه البلاغية التي جعل محورَها نظريتَه في النظم التي ربط فيها بين اللفظ والمعنى وبين دلالة الألفاظ الأسلوبية ودلالاتها الثانوية، وجعل النظمَ وحدَهُ هو مظهر البلاغة ومثار القيمةِ الجماليةِ في النصِ الأدبي"[17].


إن هذه الإطلالةَ المتواضعةَ على آراء ثُلَّةٍ من نقادِ المشرق الإسلامي، تُفصِح على أن جلَّ النقادِ ذهبوا إلى الموافقة أو الاتحاد والمشاكلة بين اللفظ والمعنى، في حين كان أنصارُ اللفظ والمتعصِّبون له في أكثرِهِم هم علماء اللغة؛ لأن الألفاظ هي أساس كل القواعد اللُّغوية من نحو وصرف وبلاغة...، وهنا يتبادرُ إلى الذهن سؤال مُفاده: ماذا عن هذه القضية - قضية اللفظ والمعنى - عند نقاد الغرب الإسلامي؟


في الغرب الإسلامي:
لقد خاض نقاد الغرب الإسلامي في مختلف القضايا النقدية التي خاض فيها النقد المشرقي، وإن لم يكن بنفسِ الحدَّة التي شُهِدت بالمشرق، وليس أدلَّ على ذلك من أن مختلف نقاد الغرب الإسلامي؛ من مثل: (ابن رشيق القيرواني، وابن البناء المراكشي، وأبي القاسم السجلماسي، وابن خلدون، وحازم القرطاجني...)، قد أثاروا هذه القضية في كتبهم.


إن حازم القرطاجني مثلًا لم يهتمَّ بقضية (اللفظ والمعنى)، كاهتمام مَن سبقه من النقاد، ولم يتعصَّب لصالح طرف منهما؛ ذلك بأنَّه أكَّد في المقابل على أهمية (التناسب) بين أركان العمل الشعري (لفظًا ومعنًى...)، من أجل الغاية الرئيسة المرجوَّة من أي عمل شعري، ألا وهي "إحداث التأثير في المتلقي".


ولعل أبرز ما أتى به حازمٌ في هذه القضية - وإن لم يكن أول مَن نحا هذا النحوَ فيها - تأكيدُه على فكرة التناسب المبدئي، بكون القصيدة تركيبًا متناسبًا من مستويات متنوِّعة، ترتد إلى معانٍ وأساليب مصوغةٍ في ألفاظ تتلاحم في نظام جامع لشتات مركب من أغراض"[18].


والذي لا يرتقي إليه الشكُّ هو أن فكرةَ التناسب هذه لا يمكنُ أن تتم ألبتة إلا من خلال التناسب بين اللفظ والمعنى.
"ومن الأسس التي تقوم عليها فكرة (التناسب) عند حازم القرطاجني: مسألة التركيب اللُّغوي للصورة المتخيَّلة، ولا يتحقَّق ذلك إلا من خلال التناسب المذكور بين اللفظ والمعنى، فإنَّ أفضل الشعرِ هو ما أوقع مبدعُه نسبًا فائقةً بين معانيه وصوره، ولا بدَّ من أن يُؤثِّر مثل ذلك في المتلقي أكثر من غيره.


ويقول حازمٌ في ذلك[19]: "واعلم أنَّ النسبَ الفائقة إذا وقعتْ بَينَ هذه المعاني المتطالبة بأنفسِها على الصورةِ المختارةِ...، كان ذلك من أحسن ما يقع في الشعر"[20].


أما ابنُ رشيق القيرواني (ت463)، فيُعَدُّ كتابُه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه) تلخيصًا شافيًا لأهم الآراء النقدية السابقة التي أثارت هذه القضية؛ حيث يقول: "ثُمَّ للناس فيما بعد آراء ومذاهب:
منهم مَن يُؤثِر اللفظ على المعنى، فيجعله غايتَه ووكدَه...؛ كقول بشار:
إذا ما غَضِبْنَا غضبةً مُضريَّةً ♦♦♦ هَتَكْنَا حجابَ الشمسِ أَوْ قَطَرَتْ دَما


ومنهم مَن ذهب إلى سهولة اللفظ فعُنِي بها، واغتُفر له فيها الركاكة واللين المفرط؛ كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف، ومَن تابعهما، وهم يرون الغايةَ قول أبي العتاهية:
يا إخوتِي إنَّ الهوى قاتِلي ♦♦♦ فيسِّروا الأكفانَ مِن عاجلِ


- ومنهم مَن يؤثر المعنى على اللفظ، فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنةِ اللفظ وقبحِهِ وخشونتِهِ؛ كابنِ الرومي، وأبِي الطيب...."[21]. وبخصوص موقفه هو - يعني ابن رشيق القيرواني - فقد ذهب إلى مذهب الوسط، فاللفظ عنده بدون معنى جسدٌ ميت، والمعنى بدون لفظ روحٌ بلا جسد، ولذلك قال:
"اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباطِ الروحِ بالجسمِ، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلِم المعنى واختلَّ بعض اللفظ كان نقصًا للشعر وهجنة عليه، كما يعرضُ لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضُه، كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنًى يختلُّ إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كلُّه وفسد بقي اللفظُ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص مِن شخصه شيءٌ في رأي العين، إلا أنه لا يُنتفعُ به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختلَّ اللفظ جملة وتلاشى لم يصحَّ له معنى؛ لأنا لا نجد روحًا في غير جسم ألبتة"[22].


والملاحظة التي يجب تسجيلُها في هذا المقام، هي أن أغلب النقاد كانوا إلى جهةِ اللفظ والانتصار له على حساب المعنى، بدليل قوله: "أكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعتُ بعض الحذاقِ يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمنًا، وأعظمُ قيمةً، وأعزُّ مطلبًا؛ فإن المعاني موجودة في طِبَاعِ الناسِ، يستوي الجاهلُ فيها والحاذقُ، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف..."[23].


خاتمة:
إن تعدُّد قضايا الشعر العربي دليلٌ واضح على ثرائه وغناه، ومكانته عند قومه، وما قضية اللفظ والمعنى في الحقيقة إلا انعكاس لهذا الاهتمام الذي ما أهمل جانبًا من الجوانب إلا خصه بحظه من الدراسة.
ومِن خلال ما تقدَّم يتضح جليًّا أن النقد العربي القديم بقضاياه وموضوعاته ونقَّاده، كان نقدًا مثاليًّا، جمع جوانب هذا الشعر الشكلية والمضمونية وغيرها...، بغرض تحقيق هدفٍ واحد هو تجويد الشعر والحفاظ على بريقه.
إن الهدف مِن دراسة قضية نقديَّةٍ بحجم قضية اللفظ والمعنى، ليس هو فقط جردًا لأقوال العلماء والنقاد، بقدر ما هو اطِّلاع على الفكر العربي القديم في عمومه؛ من أجل إذكاء الوعي الثقافي النقدي لدي دارسي النقد والأدب عمومًا، ولعل أهمية هذه القضية النقدية وفائدتها تتجلَّى في هذا الدور بالذات.


لائحة المصادر والمراجع:
ابن منظور، لسان العرب، دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414ه.
ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الفكر 1979.
الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية بيروت -لبنان ط1 1983.
ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل الطبعة: الخامسة،1981.
ابن قتيبة الدينوري، الشعر والشعراء، ج1، دار الحديث، القاهرة 1423.
الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت - لبنان 1343.
الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون. مكتبة الخانجي - القاهرة 1384.
المرزوقي، شرح المقدمة الأدبية على ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق ياسر بن حامد المطيري، دار المنهاج.
حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة.
قدامة بن جعفر، نقد الشعر، مطبعة الجوائب - قسطنطينية، الطبعة: الأولى، 1302.
إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت - لبنان، ط 4، 1983.
الأخضر جمعي، اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، منشورات كتاب اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2001.
شكري عزيز الماضي، في نظرية الأدب، دار المنتخب العربي، بيروت - لبنان، ط1، 1993.
مصطفى عبدالرحيم إبراهيم، في النقد الأدبي القديم عند العرب، مكة للطباعة 1998.


[1]ابن منظور، لسان العرب. دار صادر، بيروت الطبعة: الثالثة، 1414 هـ.

[2] الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان ط1 1983.

[3] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الفكر 1979، ص259.

[4] مصطفى عبدالرحمن إبراهيم، في النقد الأدبي القديم عند العرب، ص196.

[5] شكري عزيز الماضي، في نظرية الأدب، ص18.

[6] المرجع نفسه، ص18.

[7] إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط 4، 1983، ص25.

[8] الأخضر جمعي، اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، منشورات كتاب اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2001، ص39.

[9] الجاحظ، رسائل الجاحظ، نقلًا عن الأخضر جمعي، (اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب)، ص44.

[10] الجاحظ، البيان والتبيين، نقلًا عن الأخضر جمعي، (اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب)، ص44.

[11] الأخضر جمعي، اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، منشورات كتاب اتحاد الكتاب العرب. دمشق - 2001. ص62.

[12]ابن قتيبة الدينوري، الشعر والشعراء، ج1، دار الحديث، القاهرة 1423، ص65/67/69.

[13] قدامة بن جعفر، نقد الشعر. مطبعة الجوائب - قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302، ص55.

[14] المرزوقي، شرح المقدمة الأدبية على ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق ياسر بن حامد المطيري، دار المنهاج، ص35.

[15] المرجع نفسه، ص35/36.

[16] مصطفى عبد الرحيم إبراهيم، في النقد الأدبي القديم عند العرب. مكة للطباعة 1998. ص198.

[17]المرجع نفسه. ص199.

[18] الأخضر جمعي، اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، اتحاد كتاب العرب، دمشق - 2001، ص222.

[19] قضية اللفظ والمعنى.

[20] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، ص44/45.


[21]ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل الطبعة: الخامسة،1981، ص 124 وما بعدها.

[22]المرجع نفسه، ص 124.

[23]- ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل الطبعة: الخامسة،1981، ص 127.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.75 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.40%)]