طه حسين وإنكار النثر الجاهلي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 855221 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 390048 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-07-2022, 04:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,931
الدولة : Egypt
افتراضي طه حسين وإنكار النثر الجاهلي

طه حسين وإنكار النثر الجاهلي


د. إبراهيم عوض




تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (17)






بيد أن للدكتور طه حسين رأيًا مختلفًا تمامًا عما سمِعناه منهم؛ إذ يؤكد في كتابه: "في الأدب الجاهلي" أن العرب لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتَّة، لا خُطبًا ولا غير خطبٍ، فالنثر من جهة يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة، لم تكن متوفرةً في جزيرة العرب قبل الإسلام، ومن جهة أخرى لم يصل إلينا عنهم شيء من ذلك مكتوب، فكيف نطمئنُّ إذًا إلى ما يقال: إن العرب قد خلَّفوه لنا من خطب وحكم، ووصايا وأسجاع كهنوتية؟



لكننا نراه - بعد أن أكَّد هذا في أسلوب حاسم قاطع - يرجع على عَقِبيه القهقرى مستثنيًا من شكِّه هذا بعضًا من النثر، وهو الأمثال، التي يعود فيقول: إنها أقرب إلى الأدب الشعبي منها إلى النثر الفني الذي يقصده، أما الخطابة، فإنها تستلزم حياةً خَصبة جيَّاشة، وحياة العرب قبل الإسلام لم تكن فيها سياسة قوية، ولا نشاط ديني عملي، بل كانت قائمةً على التجارة، وهذه لا تحتاج إلى خطابة، ولا تُعين عليها، أو على الحروب والغزوات، وهذه إنما تحتاج إلى الحوار والجدل لا إلى الخطب، ولعله لهذا السبب نبحث عبثًا، في كتاب "التوجيه الأدبي" الذي ألَّفه طه حسين مع أحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومحمد عوض محمد - عن أي حديث يتعرَّض للخطابة في العصر الجاهلي، إذ كلما ورد ذكر الخطابة عند العرب، وجَدنا كاتب الفصل - وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه - يقفز مباشرةً إلى الحديث عنها، بَدءًا من العصر الإسلامي، فهابطًا إلى العصر الحديث، متجاهلاً تمام التجاهل أيَّ كلام عنها فيما قبل الإسلام، رغم تأكيد الكاتب أيضًا أن "تاريخ الخطابة يكاد يكون مقارنًا للتاريخ الإنساني: نشأ بنشأته، وارتقى برُقيِّه"، وأنه "لهذا رُوِيت لنا الخُطب منذ عرف التاريخ"، وأنه متى توفَّر عامِلا الحرية وشعور الأمة بسوء حالتها وتطلُّعها إلى حالة أفضل - انتعش هذا الفن انتعاشًا كبيرًا، وهو ما تحقَّق للعرب في ذلك العصر حسبما هو معلوم؛ إذ لم يكن لهم دولة تُمارس سلطانها عليهم، وينزلون لها عن حظٍّ من حريتهم واستقلالهم، كما أن السَّخط على الأوضاع كان منتشرًا بين كثير منهم آنذاك، هذا السخط الذي كان إحدى عُدَد الإسلام في مواجهة الجاهلية وأوضاعها الباطلة، التي جاء ليُغيِّرها إلى ما هو أفضل، ثم إنه من غير المنطقي أن يخترع العرب في عصور التدوين كل تلك الخطب، وكل أولئك الخُطباء من العدم، ودون أن يقوم من بينهم مَن يَفضح هذا التزييف، وكأن الأمة قد صارت كلها أُمة من الكذَّابين، أو من الكذَّابين والسُّذَّج المُغفلين، الذين يجوز عليهم مثل هذا الخداع دون أن يثير فيهم إنكارًا، أو حتى دهشةً واستغرابًا!



على كل حال، فطه حسين إنما يسير في إنكاره للنثر الجاهلي على ذات الدَّرب المُتخبِّط الأهوج الذي سار عليه في نفْيه للشعر الجاهلي كله تقريبًا، مشايعًا المحترق مرجليوث في خَرَقه وضلاله، وعَمى منطقه وبصيرته!



وفوق ذلك، فمن الصعب على العرب - كما يلاحظ بحق عبدالله عبدالجبار، ود. محمد عبدالمنعم خفاجي - أن يرتقوا فجأةً في ميدان الخطابة هذا الارتقاء الذي يُقِر هو به بعد الإسلام، لو كانوا لا يعرفون الخطابة في الجاهلية، أو كانت خطابتهم على الأقل من التفاهة وعدم الغناء بالموضع الذي يَزعم طه حسين، وانظر في ذلك كتابهما: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي"، كذلك "قَفَشه" د. محمد عبدالعزيز الموافي في كتابه: "قراءة في الأدب الجاهلي" قفشةً بارعةً بحقٍّ، حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين عندما أنكر وجود الخطابة الجاهلية، إنما كان اعتماده في ذلك الإنكار على خُلو العصر الجاهلي من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبَق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلي على القول بأن ذلك الشعر لا يمثِّل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين، ونُضيف نحن أنه - رغم نفْيه هنا وجود أي نشاط ديني عملي للجاهلين - كان قد أقام إنكاره للشعر الجاهلي على عدة أُسس، من بينها أن هذا الشعر لا يعكس حياتهم الدينية، فأي حياة دينية يعكسها إذا لم تكن لهم حياة دينية عملية أصلاً كما يقول هو بعظمة لسانه؟



أي: إنه يقول بالشيء ونقيضه؛ لتقرير ما يريد تقريره، دون مُبالاة باعتبارات المنطق أو حقائق التاريخ، مع الاستعانة بالسَّفسطة التي لا تُحِق حقًّا، ولا تُبطل باطلاً!



ولقد فات د. طه أن هناك نصوصًا شعرية جاهلية، تَذكر الخطابة والخطباء في ذلك العصر، وهو دليل آخر على وجود الخطابة والخطباء أوانئذ، ومن هذه الأشعار قول ربيعة بن مقروم الضبي:



ومتى تَقُم عند اجتماع عشيرةٍ

خُطَباؤنا بين العَشيرة يُفْصَلِ





وقول أبي زبيد الطائي:




وخطيبٌ إذا تَمعَّرت الأَوْ

جُه يومًا في مَأْقِطٍ مَشهودِ





وقول بلعاء بن قيس الكناني:




ألاَ أبْلِغْ سُراقةَ يا ابْنَ مالٍ

فبِئْس مَقالةُ الرجل الخطيبِ





وقول أوس بن حجر:




أم مَن يكون خطيبَ القوم إذ حفَلوا

لدى الملوك ذَوِي أيدٍ وإفْضالِ؟






وقول عامر المحاربي:



يَقوم فلا يَعيا الكلام خطيبُنا

إذا الكَرْبُ أنسى الجِبْسَ أن يتكلَّما






وقول زبَّان بن سيار الفزاري:

كلُّ خطيبٍ منهم مَؤْوفُ



ومعروف أن كلَّ وفد من الوفود القبلية التي قدِمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة في العام التاسع للهجرة، كان يضم بين أفراده خطباءَ يتكلمون باسم الوفد، ويتبادلون الخطابة مع الرسول - عليه السلام - ومن حوله من الصحابة، وهذا أيضًا من الأدلة التي لا يمكن نقْضها مهما سَفْسَط الدكتور طه، وقد تعرَّض لذلك د. جواد علي في المجلد الرابع من كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، (في الفصل الخاص بـ"النثر"، تحت عنوان "الخطابة")، إذ قال: "والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها؛ ودليل ذلك خطب الوفود التي وفَدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة، وفي طرق الإلقاء، ثم إن خُطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين"، وإن كان من رأيه أن هناك خُطبًا جاهليةً منحولة، وأن نصوص الخطب الصحيحة، لم تصل إلينا كما قيلت، بل دخَلها التغيير بفعْل الزمن وضَعْف الذاكرة البشرية، وبخاصة أن الخُطب ليست كالشعر؛ أي: ليس فيها وزن وقافية يُساعدان على حفظها.



وعلى عكس ما يَهرِف به طه حسين هنا على النحو الذي كان معروفًا عنه عند عودته من أوربا، مُتصورًا أنه قد حاز العلم كله، وأن القول ما قال المستشرقون، الذين كان يردِّد كلام من يشككون منهم في تاريخ العرب وأمجادهم بعُجره وبُجره، دون أن يتريَّث لحظةً واحدةً؛ للتثبت مما يقوله هذا الصِّنف الموتور منهم، على عكس ذلك يؤكد أحمد حسن الزيات في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" أن العرب - بنفوسهم الحسَّاسة، ونزوعهم إلى الحرية والاستقلال، ومَيلهم إلى الفخار، وما كانوا يتَّسِمون به من غَيرة ومسارعة للنجدة، وبلاغة في القول، وذَلاقة في اللسان، وما عرَفوه من الوفود والسفارات - كانوا مُهَيَّئِين للتفوق في ميدان الخطابة، مبينًا أن خُطبهم كانت تتَّسم بالقِصَر والسجع؛ حتى تَعلَق بالذهن عُلوقًا سهلاً، وبالمثل يقرِّر د. علي الجندي في كتابه: "في تاريخ الأدب الجاهلي" أنه قد "ثبت أن (العرب) كانوا يخطبون في مناسبات شتَّى، فبالخطابة كانوا يُحرِّضون على القتال؛ استثارةً للهِمم، وشَحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شنِّ الغارات؛ حبًّا للغنيمة، أو بثًّا للحميَّة؛ رَغبةً في الأخْذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسِّلم؛ حَقنًا للدماء، ومحافظةً على أواصر القربى أو المودة والصِّلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويبغضون في الشر والتباغض والتنابُذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات؛ جَلبًا لمنفعة، أو درءًا لبلاء، أو تهنئةً بنعمة، أو تَعزية أو مُواساةً في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه في المصاهرات، فتُلقى الخُطب؛ رَبطًا لأواصر الصلة بين العشائر، وتَحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض"، وعلى هذا الرأي أيضًا نجد د. أحمد الحوفي، الذي يسارع في كتابه: "فن الخطابة" إلى الاستدراك بأن العرب - بخلاف ما كان الحال عليه لدى الرومان واليونان - لم يكونوا يعدون خُطبهم قبل إلقائها، بل كانوا يعتمدون على الارتجال والبديهة، ومن هنا جاءت خُطبهم لُمَعًا بارقةً، دون تفصيل أو تخطيطٍ، أما السباعي بيومي في كتابه عن الأدب العربي في العصر الجاهلي، فيرى أن خطباء العرب كانوا يَحفلون بخُطبهم أيَّما حفولٍ، "فيتخيَّرون لها من المعاني أشرفها، ومن الألفاظ أفصحها؛ لتكون أشد وَقْعًا على النفوس، وأبعد تأثيرًا في القلوب، وأيقَظ للهِمم، وأحَثَّ على العمل"، ومن قبلُ سرَد ابن وهب في كتابه: "البرهان في وجوه البيان"، الموضوعات التي كانت تدور عليها الخطب آنذاك قائلاً: إن "الخطب تستعمل في إصلاح ذات البين، وإطفاء نائرة الحرب - أي: نارها وشرها - وحَمَالة الدماء، والتسديد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك - أي: الزواج - وفي الدعاء إلى الله - عز وجل - وفي الإشادة بالمناقب (الأعمال الجليلة)، ولكل ما أريد ذِكره ونشْره، وشهرته بين الناس".



أما د. شوقي ضيف، فيَسلك سبيلاً مخالفةً للفريقين جميعًا؛ إذ بينما نراه يؤكد وجود الخطابة والخطباء في الجاهلية، وتوفُّر العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تكفل لها الازدهار؛ إذ به يشك في كل ما وصلنا تقريبًا عن ذلك العصر من خُطَبٍ، والسبب في هذا الشك هو بُعْد الشقة الزمنية بين العصر الجاهلي وعصر التدوين أيام العباسيين، ومع ذلك نجده يقول: إن من زيَّفوا نصوص الخُطَب الجاهلية، كانوا بلا شكٍّ يعتمدون على نصوص جاهلية صحيحة وضَعوها أمامهم واحتَذوها.



وعلى هذا، فإذا وجَدنا أن كثيرًا من الخطب والمفاخرات والمنافرات التي تُنسب إليهم، مُجودةً مسجوعةً مثلاً، فمعنى هذا أنهم في الجاهلية كانوا يُجوِّدون ويسجعون في خُطبهم ومفاخراتهم ومنافراتهم فعلاً، ويمكن القارئ مراجعة رأي الدكتور في كتابه: "العصر الجاهلي".



إلا أننا - مع احترامنا للأستاذ الدكتور وتقديرنا للفصلين اللذين خصَّصهما لهذا الموضوع في كتابيه المشار إليهما وما فيهما من علم وتحليل - لا نستطيع أن نُسلم بما يقول على علاته؛ إذ لا معنى لكلامه هذا إلا أنه قد وصلت فعلاً إلى مخترعي الخطب الجاهلية نصوصٌ صحيحة منها قاسوا عليها ما صنعوه ونسَبوه إلى الجاهليين، فلماذا رمَوها خلف ظهورهم، واكتفوا بما اخترعوه رغم تَيْح الأصل لهم؟!



وإذا كانوا لأمر ما غير مفهومٍ، قد أقدموا على هذا الصنيع الأخْرَق، فكيف لم يُتح لهذه النصوص الصحيحة مَن يعرف لها قدْرها ويَحفظها من الضياع؟



وقبل ذلك مَن قال: إن بُعد الزمن ما بين الجاهلية وعهد التدوين، كفيل بإنساء العربي تراث آبائه وأجداده؟ لقد عرَف العربي بذاكرته القوية، وحرصه على تاريخه وأدبه، واعتزازه بالكلمة الفنية التي ينتجها نثرًا كانت أو شعرًا، وقيام حياته الثقافية على الحفظ والرواية، والتمثُّل المستمر بنتاج قرائح الشعراء والمتكلمين، بحيث كان من الصعب أشد الصعوبة انتساخ تُراثه القولي، فإذا أضَفنا أن كثيرًا من خُطبهم في الجاهلية كان مُسجعًا مجنسًا، مراعًى فيه الموازنة وقِصَر الجمل، فضلاً عن قِصَر الخُطب نفسها - تَبيَّن لنا أن حفظ مثل هذا النتاج الأدبي، لم يكن بالمهمة الشديدة الصعوبة، بَلْه المستحيلة كما يتخيَّل البعض منا قياسًا على ما يخبرونه من الذاكرة العربية الحاليَّة، وهي ذاكرة لا تتمتع بما كانت تتمتع به سليفتها الجاهلية من حِدة ودِقة، مثلما لا يتمتع أصحابها بما كان يتمتَّع به نظراؤهم أوانذاك من اهتمام فائقٍ بالكلمة المشعورة والمنثورة، رغم تصوُّرنا العكس؛ اعتمادًا على ظواهر الحال المُضللة، ولا نَنس أيضًا أن العقل الجاهلي لم يكن ينوء بما ننوء به الآن من مشاغل ومتاعب، تَصرفنا صرفًا عن الحفظ والاهتمام براوية الأشعار والخطب على النحو الذي كان عليه الوضع في ذلك العصر، وفوق هذا فإن الأُمية التي كانت تَسم مجتمعهم بوجه عام، قد دفَعتهم دفعًا إلى الاستعمال المكثَّف والمستمر للذاكرة، بما يجعلها ناشطةً نشاطًا لا نعرفه الآن، وعلى كل حال، فقد قال الأستاذ الدكتور أيضًا - كما رأينا -: إن الذين اخترعوا الخطب ونسَبوها للجاهليين، قد قاسوها على ما وصَلهم من خُطب جاهلية حقيقية؛ أي: إن بُعد الزمن لم يكن له ذلك التأثير الذي عزاه إليه، وعلَّل به شكَّه في صحة خطب الجاهلية التي بلَغتنا، والواقع أن آخر كلامه ينقض أوله بكل أسف!



بيد أن قولنا بقدرة الذاكرة العربية على تأْدية المحفوظ من نصوص الخطابة الجاهلية شيء، والزعم بأنها قد أدَّته على وجهه لم تخرم منه شيئًا، فلم تُضف إليه ما ليس منه، ولم تنقص منه ما كان فيه، ولم تبدِّل بعض ألفاظه وعباراته، أو معانيه ومضامينه - هو شيء آخر مختلف، فالذاكرة البشرية - ككل شيء في عالم البشر - عُرضة للسهو والكلال والالتباس، ودعنا من النصوص التي زُيِّفت تزييفًا، واختُرِعت اختراعًا.



والعجيب أن د. طه حسين بعد ذلك كله، قد عاد في خطبة له بالجمعية الجغرافية بالقاهرة بتاريخ 20 ديسمبر 1930م عنوانها: "النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة" منشورة في كتابه: "من حديث الشعر والنثر"، فأقرَّ بوجود الخطابة في الجاهلية، وبمُواتاة الظروف عند العرب أوانذاك لازدهار هذا الفن، وهو ما كان قد أنكره بشدة في كتابين له حسبما رأينا آنفًا، وهذه هي عبارته التراجعية، التي لا تخلو رغم هذا من شيء من البهلوانية: "وإذًا فالعصر الجاهلي لم يكن له نثر بالمعنى الذي حدَّدته، ومع ذلك فقد كان له نثرٌ خاص لم يصل إلينا؛ لخُلوِّه من الوزن وضَعف الذاكرة، هذا النثر هو الخطابة، وليس من شك - إذا فهِمنا حياة العرب في الجاهلية - أن ما كان يقع بينها من خصومات، كان يحتاج إلى كلام غير منظوم، فقد كان الخطباء والمحامون ينطقون بلسان القبائل، ويحرصون على أن يُعجبوا السامعين، لا ليُقنعوهم فحسب، بل ليُثيروا فيهم لذةً فنيةً.



ومتى وُجِدت هذه الفكرة، فقد وُجِد الجمال الفني، والخُطباء كانوا يُقنعون ويُحاجُّون، معتمدين في ذلك على خلْب السامعين"، صحيح أنه استدرك بعد ذلك قائلاً: "لكن هذه الخطابة لم يرد إلينا منها شيء نثِق به، وربما كان من السهل أن نتصوَّر هذه الخطابة تصوُّرًا مقاربًا ليس دقيقًا، عندما نقرأ كُتب السِّير وما فيها من خطابة وأحاديث"، إلا أن ما يهمنا هنا هو تراجعه الواضح المُبين عن إنكار وجود أية خطبٍ جاهلية أصلاً، وتأكيده عدم مواتاة الظروف حينئذ لوجود هذا الفن، وتراجُعه الضمني عن دعواه الخاصة بأسبقية الشعر عند العرب على النثر كغيرهم من الأُمم، وهكذا يجري طه حسين هنا على دَيدنه في الإنكار والتمرُّد الأهوج الخالي من العقل والمنطق، ليستدير بعد هذا، فيُقر بما كان أنكره بشراسة، لاعقًا بذلك ما قال، وكأن شيئًا لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيه!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.46 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]