حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 854564 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389491 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 21-11-2021, 07:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم

حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم (7)
د. علي الصلابي
ثانيًا: نشوب القتال:
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة، وذكر أنها تسعون( ) إلا أن عليًا أعلن في جيشه أن غدًا الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ معاوية يخبره بذلك( ), فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها، وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال( ), وبات جميع الجيشين في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية.
1- اليوم الأول: أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى: قلب وميمنة وميسرة، فكان جيش على رضي الله عنه على النحو التالي( ): على بن أبى طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمار بن ياسر على الرجالة، ومحمد ابن الحنفية، حامل الراية، وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعت بن قيس على الميمنة. وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع، وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهرى على الميسرة على مضر، والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء( ), وتقابلت الجيوش الإسلامية، ومن كثرتها قد سدت الأفق. ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب( ) وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعدادًا لهذا اليوم:
أصبحت الأمة في أمر عجب
والملك مجموع غدًا لمن غلب

فقلت قولاً صادقًا غير كذب
إن غدًا تهلك أعلام العرب( )


وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن عليا خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله( ), وتذكر أيضًا أن عمرو بن العاص قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها( ), وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدى به إلى النصر.والتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدمًا إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، ويصلى كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش علىًّ رضي الله عنه حين انصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة( ). وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحدًا، ولم ير موليًا حتى انتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج على رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم اغفر لي ولهم( ).
2- اليوم الثاني: في يوم الخميس تذكر الروايات أن عليًا رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغيَّر بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعى على الميمنة بدلاً من الأشعت بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة( ), وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقًا على أهل الشام، واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية، وعليها حبيب بن مسلمة، ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء)، وأظهر شجاعة وحماسًا منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى إن معاوية قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذى الحمد بالثمن الربيح

وإكراهي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت:
مكانك تحمدي أو تستريحي( )



واستحث كتيبته الشهباء، واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر، وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن الخطاب، رضي الله عنهم، وانقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدمًا، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق وكثرت الجراحات، ولما رأى على جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديدًا واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيه الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعتمر على الموت وكانوا أهل قتال( ).
وكان عمّار بن ياسر، رضي الله عنه، قد جاوز الرابعة والتسعين عامًا، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم، ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام. فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة( ).
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسبًا، فإني لأرى صفًا يضربكم ضربًا يرتاب منه المبطلون، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، ولعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل( ). ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد – لكبر سنه – ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبى وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضًا فيقول: أزفت الجنة وزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسبًا. وكان منظرًا مؤثرًا فهو صحابي جليل مهاجرى بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً مهمًا من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفًا وضراوة وتضحية في القتال، حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم، وتقدم هشام بن عتبة بن أبى وقاص وهو يرتجز بقوله:
أعور يبغى أهله مَحَلاً
> قد عالج الحياة حتى ملاَّ

لابد أن يَفلّ أو يُفلاَّ( )
وعمار يقول: تقدم يا هشام، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل( ), وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين:
اليوم ألقى الأحبة
محمّدًا وحزبه( )






وعند غروب شمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله × قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن( ), ثم تقدم واستحث معه حامل الراية هشام بن عتبة بن أبى وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا( ), رحمهما الله ورضي الله عنهما.
3- ليلة الهرير يوم الجمعة: عادت الحرب في نفس الليلة بشدة واندفاع لم تشهدها الأيام السابقة، وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين على قتالاً شديدًا وبايع على الموت( ), وذكر أن عليًا رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف( ), وقال الشافعي: وحفظ عن على أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير( ), يقول شاهد عيان: اقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعضًا، ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم، ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكادمنا بالأفواه إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات، وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق( ).
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه، ثم يقومون فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك، وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام( ).
4- الدعوة إلى التحكيم: إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعت بن قيس زعيم كندة في أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ؛ فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحرب، ولكني رجل مسن، وأخاف على النساء والذرارى غدًا، إذا نحن فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ( ).
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلن أهل فارس على أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهي، ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا( ), وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال، وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرًا شيء أن تأتي أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة، إنما يزعج ذلك السبئية الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركامًا من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل – كالمناداة لتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة – جريمة ومؤامرة( ) وحيلة، ونسبوا لأمير المؤمنين على أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح، على أنه قال: ما رفعوها ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنًا ومكيدة( ). ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة( ), ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص – رضي الله عنه – حتى لم تعد تجد كتابًا من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهما، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدين وغيرهم كثير، مما ساهم في تشويه الحقائق
التاريخية الناصعة.
إن رواية أبى مخنف تفترض أن عليًا رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد( ), وهذه الرواية تحمل سبًا من على لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك، فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين على؟! ويكفى للرواية سقوطًا أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه، ولا تقف أمام روايات أخرى لا يتهم أصحابها بهوى مثل ما يرويه الإمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبى ثابت قال: أتيت أبا وائل أحد رجال على بن أبى طالب فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علىًّ المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله +أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" [آل عمران:23]، فقال على: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء – الذين صاروا بعد ذلك خوارج – بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشى إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله ×، يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بين رسول الله × وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر، رضي الله عنه، للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله ×، فقال على: أيها الناس إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس( ).وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازه ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم( ), وبين لهم أنه لا خيار عن الحوار والصلح لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا بسيوفنا على عواتقنا إلى أمر إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصمًا إلا تفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له( ).وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار وينسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين؛ ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار( ) الفتنة.
إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة على والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاها جماعيًا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات( ).
إن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه قَبِل وقف القتال في صفين، ورضي التحكيم وعدَّ ذلك فتحًا ورجع( ) إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف، وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم والاستجابة له أسهمت فيها عدة عوامل منها:
أ- أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لإيقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية أو المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتفيد وجهات نظر كل منهما، فلم تُجد هي الأخرى شيئًا، وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى على رضي الله عنه يطالبه بوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقى منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقى( ).
ب- تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلبًا يرنو إليه الجميع.
جـ- الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش على في اتجاه الموادعة، وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا عن الموادعة( ). وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص، والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من ابتكار عمرو بن العاص، بل رُفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضى البصرة بسهم وقُتل.
د- الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، قال تعالى: +فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ" [النساء:59] ويؤيد هذا ما قاله على ابن أبى طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله، قال: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله( ).
5- مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين: يعد حديث رسول الله× لعمار، رضي الله عنه، «تقتلك الفئة الباغية»( ) من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي ×، وقد كان لمقتل عمّار، رضي الله عنه – أثر في معركة صفين، فقد كان علمًا لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار، وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافًا سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع( ) حديث رسول الله × عن عمار: «تقتله الفئة الباغية».واستمر في القتال حتى قُتل( ), وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبا الأعور السلمي، عند شريعة الماء يسقون. وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عَمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله ×: «تقتله الفئة الباغية».فقال عمرو لمعاوية: لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله × ما قل. فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض( ) في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به( )، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام انتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو ابن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله ×: «تقتله الفئة الباغية». فقام عمرو بن العاص فزعًا يرجع حتى دخل على معاوية فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قُتل عمار. قال معاوية: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله × يقول له: «تقتلك الفئة الباغية».فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحن قتلناه؟! إنما قتله على وأصحابه، وجاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا( ).
وفي رواية صحيحة أيضًا: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمّار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته؛ فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكم نفسًا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله × يقول: «تقتله الفئة الباغية».قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبى شكاني إلى رسول الله × فقال: أطع أباك ما دام حيًا ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل( ). من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – حريص على قول الحق والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عمارًا، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة؛ ولا شك أن مقتل عمّار – رضي الله عنه – قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية – رضي الله عنه – أوّل الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمارًا هم الذين جاءوا به إلى القتال( ). وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعًا لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب( ), وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة( ), وقد جاء في البخاري عن أبى سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: كنا نحمل لبنة؛ وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي ×، فينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن( ), وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي × أنه قال:«تقتل عمارًا الفئة الباغية»، وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته ×، وهو من أصح الأحاديث( ), وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر( ).

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 21-11-2021, 07:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم


6- فهم العلماء للحديث:
أ- قال ابن حجر: وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلى وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن عليًا لم يكن مصيبًا في حروبه( ).
وقال أيضًا: دل الحديث: تقتل عمارًا الفئة الباغية، على أن عليًا كان المصيب في تلك الحروب؛ لأن أصحاب معاوية قتلوه( ).
ب- يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث( ).
جـ- قال ابن كثير: كان على وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبى سملة عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدري قال: حدثني من هو خير منى – يعنى أبا قتادة- أن رسول الله × قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»( ), وقال أيضًا: وهذا مقتل عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب، قتلة أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول × من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن عليًا محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة( ).
د- وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام على، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»( ).
هـ- قال القاضي أبو بكر بن العربي:في قوله تعالى: +وَإِن طَائِفَتَانِ": هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي × بقوله: «تقتل عمارًا الفئة الباغية»( ).
و- وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة على ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار- وإن كان متأولاً- وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال على، وعلى هذا فمقاتله مخطئ – وإن كان متأولاً – أو باغ – بلا تأويل – وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين( ), وقال أيضًا: مع أن عليًا أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية – كما جاءت به النصوص – فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف( ).
ز- وقال عبد العزيز بن باز: وقال× في حديث عمار: «تقتل عمارًا الفئة الباغية». فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحاب بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان( ).
حـ- وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن عليًا كان على حق وأن القتال معه كان واجبًا، ولذا عبّر ابن عمر عن تخلفه بأنه يأسى بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجبًا وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء( ).
7- الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به( ).إن جل الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله × لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»( ) أن المقصود: جيش معاوية، رضي الله عنه، مع أنهم – أي معاوية وجيشه – معذورون في اجتهادهم، فهم يقصدون الحق ويريدونه ولكنهم لم يصيبوه، وفئة على أولى بالحق منهم كما قال ×( ), ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية – كما سأنقل – إلا أنهم عذروه في اجتهاده، فها هو ابن حجر يقول في قوله ×:«يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»( ).
فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع على، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة على، وهو الإمام الواجب الطاعة، إذ ذاك، وكانوا هم يدعونه إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم( ).
وقال القرطبى: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل.. على رضي الله عنه، كان إمامًا حقًا في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه( )، وقال أيضًا: وقد أجاب على رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله × إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من على رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعترض عليها، قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية( ), وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جدًا، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء( ), وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم( ), وقال ابن القيم معلقًا على هذا التأويل: نعم، التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله × لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»( ) فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي باشر قتله، لا من استنصر به( ).
8- من هو قاتل عمّار بن ياسر؟: قال أبو الغادية الجهنى وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستن أول الكتيبة رجلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قُتل عمار قال الراوي: واستسقى أبو الغادية، فأتى بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها فأتى بماء في قدح فشرب، فقال رجل:.. يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار( ), ويخبر عمرو بن العاص، رضي الله عنه، الخبر فيقول: سمعت رسول الله × يقول: قاتل عمار وسالبه في النار( ), قال ابن كثير: ومعلوم أن عمارًا كان في جيش على يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل إنه صحابي( ), وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين، وللمجتهد المخطئ أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى( ), وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير وقاتل عمار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل( ). وقد وفق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، ولكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل؛ لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة [عنوان باب (قاتل عمار وسالبه في النار)] ( ), إذ لا يمكن القول بأن أبا الغادية القاتل لعمار مأجور؛ لأنه قتله مجتهدًا، ورسول الله × يقول: قاتل عمار في النار( ), فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح( ) بها، وقد ترجم لأبى الغادية الجهنى ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه: فقيل: يسار بن سَبُع وقيل: يسار بن أزهر، وقيل: اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعد في الشاميين، أدرك النبي × وهو غلام، روُى عنه أنه قال: أدركت النبي × وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي ×، قوله ×: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»( ), وكان محبًا لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه، وفي قصته عجبٌ عند أهل العلم( ).
9- المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة: إن وقعة صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين..كانت هذا الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهًا أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهرًا سيفه وهو يؤمن بقضيته إيمانًا كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة، يدفعون الجنود إلى معركة غير مقتنعين بها، بل كانت معركة فريدة في بواعثها، وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار؛ فبواعثها في نفوس المشاركين تعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معًا إلى مكان الماء فيستقون جميعًا ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذى إنسان إنسانًا( ), وهم إخوة يعيشون معًا عندما يتوقف القتال فهذا أحد المشاركين يقول: كنا إذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في معسكر هؤلاء. وهؤلاء في معسكر هؤلاء..وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم( ), وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده، فيقاتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف( ) قتالاً مريرًا، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخَنا (وهنا وضعفًا) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا( ), وهما أبناء دين واحد يجمعها، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها( ), ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان( ), ويقول شاهد عيان اشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أيامًا فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث على إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم، فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا – وشبك بين أصابعه – وكان الرجل من أصحاب على يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه، وقد مر أصحاب على بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهدًا أخشن في أمر الله( ), وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل الشام معًا، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين على، ولا إلى معاوية بن أبى سفيان وقالوا لأمير المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغى كنا عليه، فقال على: مرحبًا وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرض بهذا فهو جائر خائن( ).
والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات واجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلوا عليها( ).
10- معاملة الأسرى: إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهية بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى، فقد حث رسول الله × على إكرام الأسير، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين فكيف إذا كان الأسير مسلمًا؟! لا شك أن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته( ), ولذلك كان على رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله وإن أبى أخذ سلاحه ودابته أو يهبهما لمن أسره ويحلفه ألا يقاتل. وفي رواية يعطيه أربعة دراهم( ), وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة وقد أتى بأسير يوم صفين، فقال الأسير: لا تقتلني صبرًا. فقال على رضي الله عنه: لا أقتلك صبرًا، إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثم قال: أفيك خير تبايع( )؟
ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
*إكرام الأسير والإحسان إليه.
* يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع خلى سبيله.
* إن أبى البيعة أخذ سلاحه ويحلفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.
* إن أبى إلا القتال تحفظ عليه في الأسر ولا يقتله صبرًا( ), وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشر أسيرًا – ويبدو أنهم جرحي – فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه( ), ويقول محب الدين الخطيب معلقًا على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معًا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيرًا من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة( ), قال ابن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علىّ فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين( ).
11- عدد القتلى: تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى، فذكر ابن أبى خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفًا، من أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألف مقاتل( )، كما ذكر ابن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفًا أو أكثر( )، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقة، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة( )، ومهما كان القتال عنيفًا، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية آلاف وخمسمائة( )، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة.
12- تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت عليًا على بغلة النبي × الشهباء، يطوف بين القتلى( ), وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول – وهو أحد القضاة والعباد المشهورين بالشام – فقال الأشتر – وفي رواية أخرى عدي بن حاتم-: يا أمير المؤمنين أحابس( ) معهم؟ عهدي والله به مؤمن، فقال على: فهو اليوم مؤمن. لعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفزعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى: +وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" [الإسراء:13]، فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبدًا، قال الراوي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين( ), وقد وقف علىٌّ على قتلاه وقتلى معاوية فقال:غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعًا( ), وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين على ومعاوية، خرج على فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلىّ وإلى معاوية( )، وكان يقول عنهم هم: المؤمنون( )، وقوله رضي الله عنه في أهل صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل( ).
13- موقف لمعاوية مع ملك الروم: استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين على ومعاوية – رضي الله عنهما – وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير:..وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحرهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب على تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لاصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك مع جميع بلادك ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة( )، وهذا يدل على عظمة نفس معاوية وحميته للدين.
14- قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين: قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام فاجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.. فاعترضه على وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل
والخصر والأنامل الطفول( )

إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف على وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي( ). وذكر القصة – أيضًا – ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلى في الروض الأنف. وقول على: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرحِمَ إلى أن قال:... ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع على – رضي الله عنه – يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر السهمي كما رواه ابن الكلبي وغيره:
أفى كل يوم فارس غير منته
وعورته وسط العجاجة بادية

يكف لها عنه علىّ سنانه
ويضحك منه في الخلاء معاوية( )



والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي: فراوي الرواية الأولى نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جلد، تركوه، قال عنه العقيلى: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذابًا( ), وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضيًا غاليًا..ليس بثقة ولا مأمون( ). وأما الكلبي؛ هشام بن محمد بن السائب الكلبي؛ فاتفقوا على غلوه في التشيع، قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه. وقال الدار قطني: متروك( ), وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة( ), وتعد هذه القصة أنموذجًا لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله × وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار – رضي الله عنهم – في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي، بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصّاص وأصبح كثير منها من المسلمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف( ).
15- مرور أمير المؤمنين على بالمقابر بعد رجوعه من صفين: لما انصرف على أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: «السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكن تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد الله الذي جعل الأرض كفاتًا، أحياءً وأمواتًا، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبي لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاء»( ).
16- إصرار قتلة عثمان – رضي الله عنه – على أن تستمر المعركة: إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلى رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر يوقف القتال وحقن الدماء، فسعوا إلى ثنى أمير المؤمنين عن عزمه، لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بدًا من الخروج على علىّ رضي الله عنه، فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيدًا عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش على، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهرًا عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن اصطلاح على مع معاوية هو أيضًا اصطلاح على دمائهم، لا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين( ).
17- نهى أمير المؤمنين على عن شتم معاوية ولعن أهل الشام: روى أن عليًا- رضي الله عنه – لما بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عما يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟. قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَّ من جهله ويرعوى عن الغيّ من لجج به( ). وأما ما قيل من أن عليًا كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليًا وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنّ الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا أكثر حرصًا من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه( ). فقد روى عن رسول الله × قوله: «من لعن مؤمنًا فهو كقتله»( ), وقوله ×: «ليس المؤمن بطعّان ولا بلعّان»( )، وقوله ×: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة»( ).كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته، كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم جاء النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علىٌ على من سب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم( ). فهذا السب والتكفير لم يكن من هدى على باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة( ).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 28-11-2021, 11:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم

حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم (8)

د. علي الصلابي

المبحث الثالث
التحكيم
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين؛ وهو أن يُحكِّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علىّ أبا موسى الأشعري، رضي الله عنهم جميعًا، وكُتبت بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ، وقد رأى قسم من جيش على رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى، وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل على رضي الله عنه إليهم ابن عباس، رضي الله عنهما، فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم على رضي الله عنه بنفسه فرجعت طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علىّ رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة، وسيأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله تعالى.
تعد قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير من الكُتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصًا أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة، ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص، رضي الله عنه، بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل كثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها؛ وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها. وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث إن أصله حق لا شك فيه( ).
وقد رأيت أن يكون المدخل في هذا المبحث التعريف بسيرة الصحابيين أبى موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
أولاً: سيرة أبى موسى الأشعري:
هو عبد الله بن قيس بن حضّار بن حرب، الإمام الكبير، صاحب رسول الله ×، أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المُقريء( ) وقد أسلم أبو موسى بمكة قديمًا، قال ابن سعد: قدم مكة فحالف سعيد بن العاص، وأسلم قديمًا وهاجر إلى أرض الحبشة( ), وتذكر بعض الروايات أنه رجع إلى قومه للدعوة إلى الله. وقد جمع ابن حجر بين الروايات في إسلامه فقال: وقد استشكل ذكر أبى موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدًا النبي × بخيبر.. ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكة فأسلم، فبعثه النبي × مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه، وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي × وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح من الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد( ).
1- أوسمه الشرف التي وضعها رسول الله × على صدر أبى موسى:
أ- لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إلىَّ: عن أبى موسى، قال: خرجنا من اليمن في بضع وخمسين من قومي ونحن ثلاثة إخوة: أنا، وأبو رُهْم، وأبو عامر، فأخرجتنا سفينتنا إلى النَّجاشي، وعند جعفر وأصحابه، فأقبلنا حين افتتحت خيبر، فقال رسول الله ×: «لكم الهجرة مرتين: هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلىَّ»( ), وعن أنس قال: قال رسول الله ×: «يقدم عليكم غدًا قوم هم أرق قلوبًا للإسلام منكم».
فقدم الأشعريون؛ فلما دنوا جعلوا يرتجزون:
غدًا نلقي الأحبة
محمدًا وحزبه

فلما قدموا تصافحوا، فكانوا أول من أحدث المصافحة( ).
ب- هم قومك يا أبا موسى: عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: +فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة:54]. قال رسول الله ×: «هم قومك يا أبا موسى»، وأومأ إليه( ).
جـ- اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا: عن أبى موسى قال: لما فرغ رسول الله × من حنين بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد، وهزم الله أصحابه؛ فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته( ). فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار إليه. فقصدت له، فلحقته، فلما رآني، ولى ذاهبًا، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيًا؟ ألا تثبت؟ قال: فكفَّ، فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين، فقتلته، ثم رجعت إلى أبى عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم. فنزعه فنزا منه الماء. فقال: يا ابن أخي، انطلق إلى رسول الله × فأقرئه منى السلام، وقل له يستغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فكمث يسيرًا، ثم مات. فلما قدمنا، وأخبرت النبي ×، توضأ، ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم اغفر لعبيد ابن أبى عامر. حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك. فقلت: ولى يا رسول الله؟ فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا( ).
د- إن هذا قد ردَّ البشري فاقبلا أنتما: عن أبى موسى، قال: كنت عند رسول الله × بالجعرانة( ) فأتى أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ قال: أبشر. قال: قد أكثرت من البشري. فأقبل رسول الله علىّ وعلى بلال. فقال: إنّ هذا قد ردَّ البشري فاقبلا أنتما.فقالا: قبلنا يا رسول الله، فدعا بقدح، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على رءوسكما ونحوركما، ففعلا، فنادت أم سلمه من رواء الستر: أن فضلا لأمكما،
فأفضلا لها منه( ).
هـ- لقد أُعطى مزمارًا من مزامير آل داود: عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجت ليلة من المسجد، فإذا النبي × عند باب المسجد قائم، وإذا رجل يصلى، فقال لي: يا بريدة، أتراه يُرائي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: بل هو مؤمن منيب، لقد أعطى مزمارًا من مزامير آل داود. فأتيته فإذا هو أبو موسى الأشعري؛ فأخبرته( ).
و- يا عبد الله بن قيس، ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة؟: عن أبى موسى الأشعري قال: كنا مع النبي × في سفر، وكان القوم يصعدون ثنية أو عقب، فإذا أصعد الرجل قال: لا إله إلا الله، والله أكبر – أحسبه قال: بأعلى صوته – ورسول الله × على بغلته يعترضها في الجبل، فقال: أيها الناس، إنكم لا تنادون أصمَّ ولا غائبًا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس – أو يا أبا موسى – ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله( ).
ز- يسَّرا ولا تعسَّرا وتطاوعا ولا تُنفرا: استعمل رسول الله × أبا موسى على زبيد وعدن( ) وأرسله مع معاذ إلى اليمن، فعن أبى موسى أن النبي × لما بعثه ومعاذا إلى اليمن، قال لهما: يَسَّرا ولا تُعسَّرا وتطاوعا ولا تنفرا، فقال له أبو موسى: إن لنا بأرضنا شرابًا، يصنع مع العسل يقال له التبغ، ومن الشعير يقال له: المزر، قال: كل مسكر حرام، فقال لي معاذ: كيف تقرأ القرآن؟ قلت: أقرأه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائمًا وقاعدًا، أتفوقه تفوقًا، يعنى شيئًا بعد شيء، قال: فقال معاذ: لكني أنام ثم أقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال: وكأن معاذًا فُضِّل عليه( ).
2- مكانة أبى موسى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: كان أبو موسى من ضمن أعمدة الدولة في عهد عمر، وكان قائدًا للجيوش في فتح قم وقاثان( ), وموقعة تستر( ), كما كان من مؤسسي المدرسة البصرية في عهد الفاروق وكان يعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة، وعلّم بها( ), وقد تأثر بعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكان بينهما مراسلات – سنأتي عليها عند حديثنا عن مؤسسة الولاة والقضاة – وكان أبو موسى، رضي الله عنه، قد اشتهر بالعلم والعبادة والورع والحياء، وعزة النفس وعفتها، والزهد في الدنيا والثبات على الإسلام، ويعد أبو موسى، رضي الله عنه، من كبار علماء الصحابة وفقهائهم ومفتيهم، فقد ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ في الطبقة الأولى من الصحابة، رضي الله عنهم، كان عالمًا عاملاً صالحًا تاليًا لكتاب الله، إليه المنتهى في حسن الصوت بالقرآن، روى علمًا طيبًا مباركًا، أقرأ أهل البصرة وأفقههم، وقد كان رضي الله عنه كثير الملازمة للنبي ×، كما أنه تلقى من كبار الصحابة كعمر وعلى وأبىّ بن كعب وعبد الله بن مسعود، وتأثر أبو موسى على وجه الخصوص بعمر بن الخطاب كثيرًا، وكان عمر يتعهده بالوصايا والكتب في أثناء ولايته الطويلة على البصرة، كما أن أبا موسى كان يرجع إلى عمر في كل ما يعرض له من القضايا، حتى عده الشعبي واحدًا من أربعة قضاة، هم أشهر قضاة الأمة، فقال: قضاة الأمة: عمر، وعلى، وزيد بن ثابت، وأبو موسى( ), وكان أبو موسى عندما يأتي المدينة يحرص على مجالس عمر، رضي الله عنهما، وربما أمضى جزءًا كبيرًا معه، فعن أبى بكر بن أبى موسى أن أبا موسى رضي الله عنه أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء فقال له عمر: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك، قال: هذه الساعة؟ قال: إنه فقه. فجلس عمر فتحدثا طويلاً، ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: إنا في صلاة( ). وكما كان أبو موسى حريصًا على طلب العلم والتعليم كان حريصًا على نشر العلم وتعليم الناس وتفقيههم، وكان يحض الناس على التعلم والتعليم في خطبه، فعن أبى المهلب قال: سمعت أبا موسى على منبره وهو يقول: من علمه الله علمًا فليعلمه، ولا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين، ويمرق من الدين( ), وقد جعل أبو موسى مسجد البصرة مركز نشاطه العلمي، وخصص جزءًا كبيرًا من وقته لمجالسه العلمية، ولم يكتف بذلك، بل كان لا يدع فرصة تمر دون أن يستفيد منها في تعليم الناس وتفقيههم، فإذا ما سلّم من الصلاة استقبل، رضي الله عنه، الناس، وأخذ يعلمهم ويضبط لهم قراءتهم للقرآن الكريم، قال ابن شوذب: كان أبو موسى إذا صلى الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم( ), واشتهر أبو موسى بين الصحابة بجمال صوته، وحسن قراءته، فكان الناس يجتمعون عليه حين يسمعونه يقرأ، وكان عمر، رضي الله عنه، إذا جلس عنده أبو موسى طلب منه أن يقرأ له ما يتيسر له من القرآن( ), وقد وفقه الله لتعليم المسلمين، وبذل رضي الله عنه كل ما يستطيع من جهد في تعليم القرآن ونشره بين الناس في كل البلاد التي نزل فيها، واستعان بصوته الجميل وقراءته الندية فاجتمع الناس عليه، وازدحم حوله طلاب العلم في مسجد البصرة، فقسمهم إلى مجموعات وحلق، فكان يطوف عليهم يسمعهم ويستمع منهم ويضبط لهم قراءتهم( ), فكان القرآن الكريم شغله الشاغل، رضي الله عنه، صرف له معظم أوقاته في حله وفي سفره، فعن أنس بن مالك قال: بعثني الأشعري إلى عمر، رضي الله عنه، فقال عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: أما إنه كيَّس( ), ولا تُسمعها إياه( ). حتى عندما كان يخرج إلى الجهاد كان يعلم ويفقِّه، فعن حطّاب بن عبد الله الرقاشى قال: كنا مع أبى موسى الأشعري رضي الله عنه في جيش على ساحل دجلة، إذ حضرت الصلاة، فنادى مناديه للظهر، فقام الناس للوضوء، فتوضأ ثم صلى بهم، ثم جلسوا حلقًا، فلما حضرت العصر نادى منادى العصر، فهبَّ الناس للوضوء أيضًا فأمر مناديه: لا وضوء إلا على من أحدث.
وأثمرت جهوده العلمية، رضي الله عنه، وقرت عينه برؤية عدد كبير حوله من حفاظ القرآن الكريم وعلمائه، زاد عددهم في البصرة وحدها على ثلاثمائة، ولما طلب عمر بن الخطاب من عماله أن يرفعوا إليه أسماء حفاظ القرآن لكي يكرمهم ويزيد عطاءهم، فكتب إليه أبو موسى أنه بلغ من قبلي ممن حمل القرآن ثلاثمائة وبضعة رجل( ), واهتم أبو موسى، رضي الله عنه، بتعليم السنة وروايتها، فروى عنه عدد من الصحابة وكبار التابعين. قال الذهبي – رحمه الله-: حدّث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو إمامة الباهلى، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو عثمان النهدي وخلق سواهم( ), وكان رضي الله عنه شديد التمسك بسنة النبي ×، دلَّ على ذلك مسيرته في الحياة وما أوصى به أولاده عند موته، ومع حرصه الشديد على السنة لم يكثر، رضي الله عنه، من رواية الأحاديث الشريفة كما هو حال كبار الصحابة، رضي الله عنهم، فقد كانوا يتهيبون من الرواية عن النبي ×، وكان من المقربين لأبى موسى في البصرة أنس بن مالك ويعتبر من خواصه، فعن ثابت عن أنس قال: كنا مع أبى موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا، قال أبو موسى: يا أنس إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريًا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة، ثم قال: ما ثبر الناس – ما بطأ بهم-؟ قلت: الدنيا والشيطان والشهوات، قال: لا، لكن عُجِّلت الدنيا وغُيِّبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عدّلوا ولا بدّلوا( ). ولثقة أبي موسى بأنس فقد كان يكلفه أن يكون رسوله إلى أمير المؤمنين عمر، قال أنس: بعثني أبو موسى الأشعري من البصرة إلى عمر فسألني عن أحوال الناس، وبعد موقعة تستر أرسله أبو موسى إلى عمر بالأسرى والغنائم فقدم على عمر بصاحبها الهرمزان( ).
3- ولاية أبى موسى في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهم: يعتبر أبو موسى – بحق – أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت في أيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه، ويرسل القادة للجهات المختلفة من البصرة، ففي أيامه تمكن البصريون من فتح الأهواز وما حولها وفتحوا العديد من المواضع المهمة، وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطق المفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شئونها، وقد جرت العديد من المراسلات بين أبى موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا, منها توجيهه لأبى موسى في كيفية استقباله للناس في مجالس الإمارة، ومنها نصيحته لأبى موسى بالورع ومحاولة إسعاد الرعية، وهي قيمة قال فيها عمر: «أما بعد، فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، وإياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت تبغي السمن وإنما حتفها في سمنها»( ). وهناك العديد من الرسائل بين عمر وأبى موسى تدل على نواح إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسى بتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابة القيم عن الوثائق السياسية( ). وتعتبر فترة ولاية أبى موسى على البصرة من أفضل الفترات حتى لقد عبر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد، وهو الحسن البصري – رحمه الله – فقال: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبى موسى( ), إذ إن أبا موسى – رحمه الله – كان بالإضافة إلى إمارته خير معلم لأهلها، حيث علَّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة( ), وفي عهد عمر بن الخطاب كان العديد من المدن في فارس – والتي فتحت في زمنه – تخضع للبصرة، وتدار من قبل والى البصرة الذي يعين عليها العمال من قِبَلة، ويرتبطون به ارتباطًا مباشرًا، وهكذا اعتبر أبو موسى من أعظم ولاه عمر. واعتبرت مراسلات عمر مع أبى موسى من أعظم المصادر التي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبينت ملامح أسلوبه في التعامل معهم( ), وقد أوصى عمر – رضي الله عنه – في وصيته للخليفة من بعده ألا يقرَّ لي عامل أكثر من سنة، وأقر الأشعري أربع سنين( ), وقد تولى أبو موسى منصب القضاء في عهد عمر وكان كتاب عمر إليه في القضاء أنموذجًا ومثالاً يفيد كل قاض، بل وكل إداري، في كل زمان ومكان( ), وقال عنه ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم، والشهادة، والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه( ), كما تولى الولاية في عهد عثمان واستقضاه ذو النورين على البصرة أيضًا، ولما قتل عثمان كان واليًا على الكوفة، ولما تولى على رضي الله عنه الخلافة، أخذ أبو موسى له البيعة من أهل الكوفة، إذ كان واليًا عليها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وحين استنفر الخليفة الكوفيين من ذي قار، رأى أبو موسى بوادر الفتنة والانشقاق بين المسلمين، فنصح لأهل الكوفة أن يلزموا بيوتهم ويعتزلوا هذا الأمر فإنما هي فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، ولكن لاختلاف وجهة نظره مع الخليفة عزل عن
ولاية الكوفة( ).
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 28-11-2021, 11:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم

إن حياة أبى موسى، رضي الله عنه، منذ إسلامه قضاها في نشر الإسلام وتعليم الناس العلم، وخاصة القرآن الذي اشتهر بقراءته، والجهاد في سبيل الله والحرص عليه، والفصل في الخصومات، ونشر العدل وضبط الولايات عن طريق القضاء والإدارة، ولا شك أن هذه المهامّ صعبة وتحتاج إلى مهارات وصفات فريدة من العلم والفهم والفطنة والحذق والورع والزهد، وقد أخذ منها أبو موسى بنصيب وافر، فاعتمد عليه رسول الله × ثم الخلفاء الأربعة من بعده رضوان الله عليهم( ), فهل يتصور أن يثق رسول الله ×، ثم خلفاؤه بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم؟!( ).
إن اختيار أبى موسى –رضي الله عنه – حكمًا عن أهل العراق من قبل علىّ- رضي الله عنه – وأصحابه ينسجم تمامًا مع الأحداث، فالمرحلة التالية هي مرحلة الصلح وجمع كلمة المسلمين، وأبو موسى الأشعري كان من دعاة الصلح والسلام، كما كان في الوقت نفسه محبوبًا، مؤتمنًا من قبائل العراق، وقد ذكرت المصادر المتقدمة أن عليًا هو الذي اختار أبا موسى الأشعري، يقول خليفة في تاريخه: وفيها – سنة 37هـ- اجتمع الحكمان: أبو موسى الأشعري من قبل علىّ، وعمرو بن العاص من قبل معاوية( ), ويقول ابن سعد: فكره الناس الحرب وتداعوا على الصلح، وحكّموا الحكمين، فحكَّم علىٌّ أبا موسى، وحكّم معاويةُ عمرو بن العاص( ), ولهذا يمكن القول إن الدور المنسوب للقراء في صفين من مسئولية وقف القتال والتحكيم، وفرض أبى موسى حكمًا ليست إلا فرية تاريخية اخترعها الإخباريون الشيعة الذين ما انقطعوا عن تزوير وتشويه تاريخ الإسلام بالروايات الباطلة, وكان يزعجهم أن يظهر علي رضي الله عنه بمظهر المتعاطف مع معاوية وأهل الشام, وأن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليديين, ومن جهة أخرى يحملون المسئولية لأعدائهم الخوارج ويتخلصون منها, ويجعلون دعوى الخوارج تناقض نفسها, فهم الذين أجبروا عليًا على قبول التحكيم, وهم الذين ثاروا عليه بسبب قبول التحكيم( ).
إن هذه العجالة عن شخصية أبي موسى لها علاقة ببحثنا عن شخصية أمير المؤمنين علي وعصره, وأبو موسى من الشخصيات المؤثرة في عصره, وقد تعرضت للتشويه, وغالبًا إذا تحدث أحد عن صفين والتحكيم تعرضت شخصية أبي موسى وعمرو بن العاص, للتشويه, والكذب والافتراء بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة, فكان لزامًا علينا أن نتحدث عن شيء من سيرتهما العطرة الزكية, وهذا المقصد من أهداف الكتابة في هذا البحث.
ثانيًا: سيرة عمرو بن العاص رضي الله عنه:
هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي, يكنى أبا محمد وأبا عبد الله, ويتفق ابن إسحاق( ) والزبير بن بكار( ) أن إسلامه كان عند النجاشي في الحبشة, وهاجر إلى المدينة في صفر سنة ثمان للهجرة, وذكر ابن حجر أنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح, وقيل: بين الحديبية وخيبر( ).
1- إسلامه: نترك عمرو بن العاص, رضي الله عنه, يحدثنا عن إسلامه, فقد قال: لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق جمعت رجالاً من قريش, كانوا يرون رأيي ويسمعون مني, فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا, وإني رأيت أمرًا, فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي, فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد, وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا, فلن يأتينا منهم إلا خيرًا, قالوا: إن هذا الرأي, قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له, وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم( ), فجمعنا له أدمًا كثيرًا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه, فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري, وكان رسول الله × قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه, قال: فدخل عليه, ثم خرج من عنده, قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري, لو دخلت على النجاشي, وسألته إياه فأعطانيه, فضربت عنقه, فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني أجزأت عنها( ), حيث قتلت رسول محمد, قال: فدخلت عليه, فسجدت له كما كنت أصنع, فقال: مرحبًا صديقي, أهديت إلي من بلادك شيئًا؟ قال: نعم, أيها الملك, قد أهديت إليك أدمًا كثيرًا, قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه, ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا, فأعطنيه لأقتله, فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا, قال: فغضب, ثم مد يده, فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره, فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه, ثم قلت له: أيها الملك, والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه, قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟ قال: قلت: أيها الملك, أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه, فإنه والله لعلى الحق, وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده, قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم, فبسط يده فبايعته على الإسلام, ثم خرجت إلى أصحابي, وقد حال رأيي عما كان عليه, وكتمت على أصحابي إسلامي, ثم خرجت عامدًا إلى رسول الله لأسلم, فلقيت خالد بن الوليد, وذلك قبيل الفتح, وهو مقبل من مكة, فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم( ), وإن الرجل لنبي, أذهب والله فأسلم, فحتى متى؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم. قال: فقدمنا المدينة على رسول الله ×, فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع, ثم دنوت, فقلت: يا رسول الله ×, إني أبايعك على أن يُغفر لي ما تقدم من ذنبي, ولا أذكر ما تأخر, قال: فقال رسول الله ×: «يا عمرو بايع, فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله, وإن الهجرة تجب ما كان قبلها», قال: فبايعته ثم انصرفت( ). وفي رواية قال:... فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي × فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك, فبسط يمينه, قال: فقبضت يدي, قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله, وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها, وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» ( ).
2- عمرو بن العاص يقود سرية في ذات السلاسل 7هـ:
جهز النبي × جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل, وذلك لتأديب قضاعة التي غرها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم, فتجمعت تريد الدنو من المدينة, فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار, ولما وصل إلى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعًا كثيرة, فأرسل إلى رسول الله × يطلب المدد فجاءه مدد بقيادة أبي عبيدة بن الجراح( ), وقاتل المسلمون الكفار, وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت, ونجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام, وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى, ودخول قبائل أخرى في حلف المسلمين, وإسلام الكثيرين من بني عبس, وبني مرة, وبني ذبيان, وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين, وتبعها بنو سليم, وعلى رأسهم العباس بن مرداس, وبنو أشجع, وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب, وإن لم يكن في البلاد جميعها( ), وفي هذه الغزوة دروس وعبر وحكم تتعلق بعمرو بن العاص منها:
أ- إخلاص عمرو بن العاص:
يقول عمرو: بعث إلي رسول الله × فقال: «خذ عليك ثيابك, وسلاحك, ثم ائتني». فأتيته وهو يتوضأ, فصعد فيّ النظر, ثم طأطأ, فقال: «إني أريد أن أبعثك على جيش( ), فيسلمك الله ويغنمك, وأرغب لك في المال رغبة صالحة», قال: قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال, ولكني أسلمت رغبة في الإسلام, وأن أكون مع رسول الله ×. قال: «يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح»( ). فهذا الموقف يدل على قوة إيمان وصدق وإخلاص عمرو بن العاص للإسلام وحرصه على ملازمة رسول الله ×, وقد بين له رسول الله × أن المال الحلال نعمة إذا وقع بيد الرجل الصالح, لأنه يبتغي وجه الله ويصرفه في وجوه الخير ككفالة الأيتام والأرامل والدعاة ودعم المجاهدين, والمشاريع الخيرية وغيرها من وجوه البر, ويعف به نفسه وأسرته( ), ويغني به المسلمين, ونستنبط من الحديث أن سعي العبد للحصول على المال الصالح أمر محمود يحث عليه النبي ×, كما أن الرجل ذا المال إذا استطعنا إيصال الصلاح له ليجمع بين صلاح المال وصلاح نفسه كما في الحديث, فهو أيضًا مطلوب ومحمود, وهذا خير له وللإسلام والمسلمين.
ب- حرص عمرو على سلامة قواته: بعث رسول الله × عمرًا في غزوة ذات السلاسل, فأصابهم برد, فقال لهم عمرو: لا يوقدن أحد نار, فلما قدم شكوه, قال: يا نبي الله, كان فيهم قلة, فخشيت أن يرى العدو قلتهم, ونهيتهم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين، فأعجب ذلك رسول الله( ).
ج- من فقه عمرو بن العاص رضي الله عنه: قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل, فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك, فتيممت, ثم صليت بأصحابي الصبح, فذكروا ذلك للنبي × فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: +وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" [النساء:29], فضحك رسول الله × ولم يقل شيئًا( ).
وهذا الاجتهاد من عمرو بن العاص يدل على فقهه ووفور عقله, ودقة استنباطه الحكم من دليله( ), ولئن وقف الفقهاء عند هذه الحادثة يفرعون عليها الأحكام, فإن الذي يستوقفنا( ) منها تلك السرعة في أخذ عمرو للقرآن وصلته به حتى بات قادرًا على فقه الأمور من خلال الآيات وهو لم يمض على إسلامه أربعة أشهر, إنه الحرص على الفقه في دين الله, وقد يكون عمرو –وهذا احتمال وارد- على صلة بالقرآن قبل إسلامه يتتبع ما يستطيع الوصول إليه, وحينئذ نكن أمام مثال آخر من عظمة هذا القرآن الذي لوى أعناق الكافرين وجعلهم وهم في أشد حالات العداوة لهذا الدين يحاولون استماع هذا القرآن, كما رأينا ذلك في العهد المكي, ويؤيد هذا ما رأيناه من معرفته بالقرآن حينما طلب من النجاشي أن يسأل مهاجري الحبشة عن رأيهم في عيسى عليه السلام( ).
3- فضائله ومناقبه:
أ- شهادة رسول الله × له بالإيمان: قال رسول الله ×: «أسلم الناس وآمن الناس عمرو بن العاص»( ), وفي حديث آخر قال رسول الله ×: «ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام»( ), وقال عمرو بن العاص: فزع الناس بالمدينة مع النبي × فتفرقوا, فرأيت سالمًا احتبى سيفًا فجلس في المسجد, فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل, فخرج رسول الله × فرآني وسالمًا, وأتى الناس فقال: «أيها الناس ألا مفزعكم إلى الله ورسوله, ألا فعلتم ما فعل هذان الرجلان؟» ( ).
ب- تقديم رسول الله × له على غيره, وشهادته له بأنه من صالحي قريش:
فقد جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قوله: ما عدل بي رسول الله × وبخالد أحدًا منذ أسلمنا في حرب( ). وشهد له رسول الله × بأنه من صالحي قريش, فعن أبي مليكة قال: قال طلحة بن عبيد الله: سمعت رسول الله × يقول: «إن عمرو بن العاص من صالحي قريش»( ). وهنا درس نبوي في معرفة النبي × لمعادن الرجال والاستفادة منها.
ج- دعاء رسول الله × له: عن زهير بن قيس البلوي عن عمه علقمة بن رمثة البلوي قال: بعث رسول الله × عمرو بن العاص إلى البحرين, ثم نعس رسول الله × ثم استيقظ فقال: «رحم الله عمرًا». فتذاكرنا من اسمه عمرو ثم نعس ثانية فاستيقظ فقال: «رحم الله عمرًا» ثم نعس ثالثة فاستيقظ, فقال: «يرحم الله عمرًا». قلنا: من عمرو يا رسول الله؟ قال: «عمرو بن العاص» قلنا: وما باله؟ قال: «ذكرته إني كنت إذا ندبت الناس للصدقة, جاء من الصدقة فأجزل, فأقول: من أين لك هذا يا عمرو؟ فيقول: من عند الله, وصدق عمرو, إن لعمرو عند الله لخيرًا كثيرًا». قال زهير: فلما كانت الفتنة قلت: أتبع هذا, قال فيه رسول الله ما قال,
فلم أفارقه( ).
4- أعماله في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:
كان رسول الله × قد أرسل عمرًا إلى دعوة ابني الجلندي «جيفر, وعباد» إلى الإسلام ودعاهما إلى الإسلام وصدقا بالنبي × وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بين قومهم, وكانا له عونًا على من خالفه( ), وبعد وفاة رسول الله × وجه الصديق عمرو بن العاص بجيش إلى فلسطين, وكان الصديق خيَّره بين البقاء في عمله الذي أسنده إليه رسول الله × وبين أن يختار له ما هو خير له في الدنيا والآخرة, إلا أن الذي هو فيه أحب إليه, فكتب إليه عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الإسلام وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها, فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به( ), فلما قدم المدينة أمره أبو بكر رضي الله عنه أن يخرج من المدينة وأن يعسكر حتى يندب معه الناس.. ثم أرسله بجيش إلى الشام( ). وفي معركة اليرموك كان عمرو على الميمنة, فكان لمشاركته أثر كبير في انتصار المسلمين, وبعد وفاة الصديق استمر عمرو في الشام وكانت له مشاركة فعالة في حركة الفتح الإسلامي بالشام, فقد قام بمشاركة شرحبيل بن حسنة في فتح بيسان, وطبرية, وأجنادين( ), كما قام رضي الله عنه بفتح غزة, واللد, ويُبنى, وعمواس, وبيت جبرين, ويافا, ورفح, وبيت المقدس, ولم يقتصر عمرو رضي الله عنه على فتح بلاد الشام وحدها, بل شمل أيضًا مشاهير بلاد مصر, حيث كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصدر أمره إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد الفراغ من فتوح الشام أن يسير بمن معه من الجند إلى مصر, فخرج رضي الله عنه حتى وصل إلى العريش ففتحها, كما شملت حركة الفتح أيضًا: الفرما, والفسطاط, وحصن بابليون, وعين شمس, والفيوم, والأشمونين, وأخميم, والبشرود, وتنيس, ودمياط, وتونة, ودقهلة, والإسكندرية, وبلادًا إفريقية أخرى مثل؛ برقة وزويلة وطرابلس( ), وقد شهد له الفاروق بصفات الزعامة والإمامة فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلى أميرًا( ). وكان في عهد عثمان من المقربين إلى الخليفة ومن أهل مشورته, ولما أحيط بعثمان, رضي الله عنه, خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجهًا إلى الشام وقال: والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بذل, ومن لم يستطع نصره فليهرب, فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد, وخرج بعده حسان بن ثابت وتتابع على ذلك ما شاء الله( ), وعندما جاء الخبر عن مقتل عثمان رضي الله عنه وبأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب, قال عمرو بن العاص: رحم الله عثمان رضي الله عنه وغفر له, فقال سلامة بن زنباع الجذامي: يا معشر العرب إنه قد كان بينكم وبين العرب باب فاتخذوا بابًا إذا كسر الباب, فقال عمرو: وذاك الذي نريد ولا يصلح الباب إلا أشاف( ), تخرج الحق من حافرة البأس ويكون الناس في العدل سواء, ثم تمثل عمرو بن العاص بهذه الأبيات:
فيا لهف نفسي على مالك
وهل يصرف مالك حفظ القدر

أنزع من الحر( ) أودى بهم
فأعذرهم أم بقومي سكر

ثم ارتحل راجلاً يبكي ويقول: يا عثماناه؛ أنعي الحياء والدين, حتى قدم دمشق( ).
هذه هي الصورة الصادقة عن عمرو رضي الله عنه والمتتالية مع شخصيته وخط حياته وقربه من عثمان, أما الصورة التي تمسخه إلى رجل مصالح وصاحب مطامع وراغب دنيا فهي الرواية المتروكة الضعيفة, رواية الواقدي عن موسى بن يعقوب( ), وقد تأثرت بالروايات الضعيفة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين, فأهووا بعمرو إلى الحضيض, كالذي كتبه محمود شيت خطاب( ), وعبد الخالق سيد أبو رابية( ), وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد ويستخف بقارئه, ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنهما:... انتهازيان صاحبا مصالح. ولو أجمع الناقدون التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله, فهذا لا يعني للعقاد شيئًا, فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة:.. وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار, وصحة هذه الكلمات, وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده, ولا نصه, فالذي لا ريب فيه ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين, كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية, وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما ولولاه لما كان بينهما اتفاق( ).
إن شخصية عمرو رضي الله عنه الحقيقية أنه رجل مبادئ, غادر المدينة حين عجز عن نصرة عثمان, وبكى عليه بكاءً مُرًا حين قتل, فقد كان يدخل في الشورى في عهد عثمان من غير ولاية, ومضى إلى معاوية, رضي الله عنهما, يتعاونان معًا على حرب قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد( ), لقد كان مقتل عثمان كافيًا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين, وكان لابد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرأوا على حرم رسول الله وقتلوا الخليفة على أعين الناس, وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟. وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عمرًا همه السلطة والحكم( ).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 08-12-2021, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم

حقيقة الخلاف بين الصحابة في معركتي الجمل وصفين وقضية التحكيم (9)
د. علي الصلابي

ثالثًا: نص وثيقة التحكيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما, فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه ×.
2- قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4- وإن عليًّا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا.
5- على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله, أن يتخذا القرآن إمامًا ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا, وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة, لا يعتمدان لها خلافًا, ولا يبغيان فيها بشبهة.
6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه, وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضى به راض أو سخط ساخط, وإن الإمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8- فإن توفى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة, فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح, على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9- وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية, فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.
10- وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
11- وقد وجبت القضية على ما سميناه في هذا الكتاب, من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين, والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا, فإن خالفا وتعديا, فالأمة بريئة من حكمهما, ولا عهد لهما ولا ذمة.
12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل, والسلاح موضوعة, والسبل آمنة, والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بين أهل العراق والشام.
14- ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراض منهما.
15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإن رأي الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها, وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل, فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب.
17- وعلى الأمة عهد الله وميثافه في هذا الأمر, وهم جميعًا يد واحدة على ما أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا.
وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين, ابنا علي, وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب, والأشعث بن قيس الكندي, والأشتر بن الحارث, وسعيد بن القيس الهمداني, والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب, وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري, وعبد الله بن خباب بن الأرت, وسهل بن حنيف, وأبو بشر بن عمر الأنصاري, وعوف بن الحارث بن عبد المطلب, ويزيد بن عبد الله الأسلمي, وعقبة بن عامر الجهني, ورافع بن خديج الأنصاري, وعمرو بن الحمق الخزاعي, والنعمان بن عجلان الأنصاري, وحجر بن عدي الكندي, ويزيد بن حجية الكندي, ومالك بن كعب الهمداني, وربيعة بن شرحبيل, والحارث بن مالك, وحجر بن يزيد, وعلبة بن حجية, ومن أهل الشام, حبيب بن مسلمة الفهري, وأبو الأعور السلمي, وبسر بن أرطأة القرشي, ومعاوية بن خديج الكندي, والمخارق بن الحارث الزبيدي, ومسلم بن عمرو السكسي, وعبد الله بن خالد بن الوليد, وحمزة بن مالك, وسبيع بن يزيد بن أبجر العبسي, ومسروق بن جبلة العكي, ويسر بن يزيد الحميري, وعبد الله بن عامر القرشي, وعتبة بن أبي سفيان, ومحمد بن أبي سفيان, ومحمد ابن عمرو بن العاص, وعمار بن الأحوص الكلبي, ومسعدة بن عمرو العتبي, والصباح بن جلهمة الحميري, وعبد الرحمن ابن ذي الكلاع, وتمامة بن حوشب, وعلقمة بن حكم, كتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين( ).
رابعًا: قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم, وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها, فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها, وقلما تجد أحدًا وقف عندها فاحصًا محققًا, وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل, وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص, إذ أن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي, بل هي باطلة من عدة وجوه( ).
1- أن جميع طرقها ضعيفة, وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجاله ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم, ودعوا إلى ما فيها, فهاب أهل العراق, فعند ذلك حكموا الحكمين, فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري, واختار أهل الشام عمرو بن العاص, فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان, فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن, وأن يختارا لأمة محمد ×, وأنهما يجتمعان بدومة الجندل, فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح, فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت – وكان ذلك أول ما ظهرت- فآذنوه بالحرب, وردوا عليه: أن حَكَّم بن آدم في حكم الله عز وجل, وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه, وقاتلوا, فلما اجتمع الحكمان بأذرح, وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس, فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهما في رجال كثير, ووافى معاوية بأهل الشام, وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدًا من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحدًا يعلم ذلك, قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما, فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله, أخبرني عما أسألك عنه, كيف ترانا معشر المعتزلة, فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال, ورأينا أن نستأنى ونتثبت حتى تجتمع الأمة؛ قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار, وأمام الفجار؛ فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك, حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو فقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأيًا, فيكم بقية المسلمين, فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك, فلقى الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش, فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد, فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى, رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم, وعلى أهل الغدر بغدرهم, قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا, وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى, قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى, قال عمرو: يا أبا موسى, أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمه لي, فإن أقدر على أن أتابعك فلك علي أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني, قال أبو موسى: أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا, ثم خرجا إلى الناس, فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو ومثل الذين قال الله عز وجل: +وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا" [الأعراف: 175].
فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل: + مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" [الجمعة:5]. وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار( ). والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة, ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة( ), كما قرر العلماء. وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث( ), وفي سنده أيضًا الواقدي, وهو متروك( ), وهذا نصها:.. رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه, وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص, فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أذرح, وحكموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضون بحكمهما, فحكم علي أبا موسى الأشعري, وحكم معاوية عمرو بن العاص, وتفرق الناس, فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل, واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كانوا معه, وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله, ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه. ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين, واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية, فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليًا ومعاوية, ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية, فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما, وبايع أهل الشام معاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين( ). وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به, فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى, ضعيف ليس بثقة( ), وإخباري تالف غالى في الرفض, وأما الثاني قال فيه ابن سعد: كان( ) ضعيفًا, وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه( ), وقال عثمان الدارمي: ضعيف( ), وقال النسائي: ضعيف( ).
هذه طرق قصة التحكيم المشهورة, والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة, أفمثل هذا تقوم به حجة؟ أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين, عصر القدوة والأسوة؛ ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطرابات في متنونها لكفاها ضعفًا فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها( ).
2- أهمية هذه القضية من جانب الاعتقاد والتشريع, ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح, ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها( ).
3- وردت رواية تنقض تلك الروايات تمامًا, وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصرًا بسند رجاله ثقات, وأخرجه ابن عساكر معلولاً, عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا, ولا والله ما كان ما قالوا, ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه من النفر الذين توفى رسول الله ×, وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة, وإن يستغن عنكما فطال ما استغنى أمر الله عنكما( ). وقد روى أبو موسى عن تورع عمرو ومحاسبته لنفسه, وتذكره سيرة أبي بكر وعمر, وخوفه من الأحداث بعدهما, قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما, لقد غُبنا وأخطآ أو نقص رأيهما, ووالله ما كانا مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي, ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قبلنا( ).
4- إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه, فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي, فقد أخرج يحيى بن سليمان الجعفي بسند جيد( ), عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًا في الخلافة, أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر, ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا وأنا ابن عمه ووليه أطالب بدمه؟ فأتوا عليًا فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له, فأتوا عليًا فكلموه فلم يدفعهم إليه( ). فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية, رضي الله عنهما؛ فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختيار خليفة أو عزله( ), ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن عليًا قاتل معاوية لامتناعه عن تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام, وهو الإمام الواجب طاعته, ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة, لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة, ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك, وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط( ), وفهم الخلاف على هذه الصورة –وهي صورته الحقيقية- بيَّن إلى أي مدى تخطئ الروايت السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين, إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية, ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما, وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان, وليس هذا من أمر الخلافة في شيء, فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية, وهي ما طلب إليهما الحكم فيه, واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة, فمعنى ذلك أنهما لم يفضا موضوع النزاع, ولم يحيطا بموضوع الدعوى, وهو أمر مستبعد جدًا( ).
5- إن الشروط التي يجب توافرها في الخليفة هي العدالة والعلم, والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح, وأن يكون قرشيًا( ), وقد توافرت هذه الشروط في علي رضي الله عنه, فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة –ولا شك في ذلك- وقد بايعه المهاجرون والأنصار؛ أهل الحل والعقد, وخصومه يقرون له بذلك, فقول معاوية السابق يدل عليه بأن «الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة, فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه, لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة, فإن عقد الإمام لازم, لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه, ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها, ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى( )»
وإذن فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات؛ كل من لم يرض بإمامه خلعه, فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده, وهم أهل الحل والعقد, وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة, وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك, فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه, شيء يوجب نقض بيعته, وما ظهر منه قط إلا العدل, والجد, والبر والتقوى والخير( ).
6- إن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة, وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة لهم, فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة, لاشك أن الأحوال ستزداد سوءًا, والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا؟ ولهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7- إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى: وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك, فكان ذلك إذنًا في أن الخلافة لا تعدو هؤلاء إلى غيرهم ما بقى منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص, وقد اعتزل الأمر ورغب عن الولاية, والإمارة, وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره( ).
8- أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم: والسؤال: ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم, فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك, مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي( ), أعلم الناس بأمر الشام( ) أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير, فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين( ), فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي, وإلى هذا ذهب الطبري, فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء( ), وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع( ), وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس كفئًا لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه, فإن فضل علي وسابقته وعلمه, ودينه, وشجاعته, وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة ومعروفة, كفضل إخوانه, أبي بكر وعمر, وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم( ), وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول, فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ×: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»( ), والنصوص في هذا المعنى كثيرة( ). ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك( ).
9- أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون احتباسك عنهم فرقة, فلم تدعه حتى ذهب, فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه, فلنحن الحق به منه ومن أبيه, قال حبيب ابن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا منك من قاتلك وأباك على الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك, فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت( ), هذا الحديث قد يفهم منه مباعية معاوية بالخلافة, وليس فيه تصريح بذلك, وقد قال بعض العلماء: إن
هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه.
وقال ابن الجوزي: إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده, ويرى ابن حجر أنما في التحكيم( ): دلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم.. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية, وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وائتلاف( ).
10- حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة وإلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان, ولم يكن معاوية مدعيًا للخلافة, ولا منكرًا حق علي فيها كما تقرر سابقًا, وإنما كان ممتنعًا عن بيعته, وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون, مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقى واليًا فيها زهاء عشرين سنة( ), وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه «أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين»: قال أبو بكر محمد الطيب الأشعري –الباقلاني- في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه –علي بن أبي طالب- وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه, أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما, أو إلى أن يبينا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة, ونص كتاب علي –عليه السلام- اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه, ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان, وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق, وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما.. والكتاب والسنة يثبتان إمامته, ويعظمانه ويثنيان عليه, ويشهدان بصدقه وعدالته, وإمامته وسابقته في الدين, وعظيم جهاده في جهاد المشركين وقرابته من سيد المرسلين, وما خص به من القدم في العلم والمعرفة بالحكم, ووفور الحلم, وأنه حقيق بالإمامة, وأهل لحمل أعباء الخلافة( ).
11- مكان انعقاد المؤتمر: كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين –كما جاء في الوثيقة- في رمضان في عام 37هـ, إذا لم تحدث عوائق, في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل( ), في روايات موثقة, وأذرح( ) في روايات أخرى دونها في الإتقان, ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثرًا في اختلاف الروايات, إذ يقول خليفة ابن خياط( ): ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب, وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق( ).
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل, وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح, واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار, وبخاصة بشرع ذي الرمة( ) في مدح بلال بن أبي بردة( ) وهو قوله:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما
تشاءوا وبيت الدين منقلع الكسر

فشد إصار الدين أيام أذرح
ورد حروبًا قد لقحن إلى عقر( )

12- هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين؟ اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد, ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين, وفد عن أهل العراق, والآخر يمثل أهل الشام, وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم, ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته وأفضل هؤلاء, سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه, فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولا همَّ به( ). فعن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجًا من المدينة فلما أتاه قال: يا أبة, أرضيت أن تكون أعرابيًا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله × يقول: «إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي»( ).
خامسًا: هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟
يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعًا مسئولياتهم ومن ورائهم الأمة الإسلامية التي يحكمونها في الضغط الجاد الصادق, على الطرفين المتنازعين, لكي يوقفا بينهما القتال, ويلجآ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام فيرسل هذا الطرف حكمًا من قبله, وذلك حكمًا آخر من قبله أيضًا, للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1- تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لابد منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2- جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول التي تفصل في مسائل النزاع.
3- أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع, وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام وحلول مشروعة لإنهاء النزاع الراهن على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام, وأن الخروج عليها, أو الرضا بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعًا.
4- إذا أصدر الحكمان ما اتفقا عليه من أحكام, وحلول, وانقاد لها الطرفان المتنازعان قضي الأمر, وكفى الله المؤمنين القتال.
5- إذا رفض أحد الطرفين, أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين, اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي, سواء صدر الرفض من أحدهما, أو من كليهما, ووجب شرعًا على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية, من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة, على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.
6- ويكون من صلاحيات الحكمين بالاتفاق إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى, من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه( ). ولعل اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار, كفيل بسد الطريق على أية قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النزاع دعاها إلى هذا التدخل.. ومن ثم تستغل هذه الفرصة, لكي تتآمر على المسلمين, فتعمل على تصعيد تلك النزاعات, وفرض الحل الذي يحلو لها, ويكون فيه مصلحتها فقط, وليعاني المسلمون, بعدئذ, من آثار ذلك الحل أسوأ مما كانوا يعانون من فتنة النزاع نفسها, فهذه المعاناة لا تهمها في شيء, لا , بل إن هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فرضت من أجل تفجيرها ذلك الحل المشئوم؛ قلنا: لعل اللجوء إلى التحكيم, على نحو ما سلف بيانه, يسد الطريق في وجه تلك القوى الخارجية التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد, هذا, وإن الصفة الإلزامية شرعًا للحل عن طريق التحكيم –الذي عرضناه- تستند إلى إجماع الصحابة, فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجوء إلى التحكيم, والقبول به.. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي, والصحابة الذين كانوا مع معاوية, والصحابة الذين اعتزلوا الفريقين, كسعد بن أبي وقاص, وابن عمر, وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين( ).
سادسًا: موقف أهل السنة من تلك الحروب
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم, ويحفظ لهم فضائلهم, ويعترف لهم بسوابقهم, وينشر مناقبهم, وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد, والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ, غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده, وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة, ولم يجوَّز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم, وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال بما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي( ):
1- قال تعالى: +وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الحجرات:9].
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة, وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله –عز وجل- مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين, ولم يخرجهم ذلك من الإيمان, فأصحاب رسول الله × الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية, فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًا ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد( ).
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ×: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلتهم أولى الطائفتين بالحق»( ), والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية, رضي الله عنهما, وقد وصف × الطائفتين معًا بأنهما مسلمتان, وأنهما متعلقتان بالحق, والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام, وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق, لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام, وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق, وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليًا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدًا, وهو مأجور, إن شاء الله, ولكن عليًا هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»( ).
3- وعن أبي بكرة قال: بينما النبي × يخطب جاء الحسن فقال النبي ×: «ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»( ) ففي هذا الحديث شهادة النبي × بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام, والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا عليًا ومن معه, ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام, ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جدًا, قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي × سماهم جميعًا مسلمين وهذا خبر من رسول الله بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة على في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان( ).
فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي × بأنهم من أمته( ), كما وصفهم بأنهم جميعًا متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم × بأنهم مستمرون على الإيمان, ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم, وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: +وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" [الحجرات:9]. وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم, رضي الله عنهم أجمعين, فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون, وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام, رضي الله عنهم, مسلك أهل السنة والجماعة, وهو الإمساك عما حصل بينهم, رضي الله عنهم, ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم, وكتب أهل السنة مليئة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة, وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها( ):
1- سئل عمر بن عبد العزيز , رحمه الله تعالى, عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني, مثل أصحاب رسول الله × مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها( ), قال البيهقي معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز, رحمه الله تعالى: هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب( ).
2- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد × وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا( ). ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا, وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيًا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل إذ كانوا غير متهمين في الدين( ).
3- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: أقول ما قال الله: +عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى"( ) [طه: 52].
قال الإمام أحمد, رحمه الله, بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: ما أقول فيهم إلى الحسنى( ), وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ: +تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [البقرة:141].
4- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله × وما ينبغي أن يذكروا به فقال: وألا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب( ).
5- وقال أبو عبد الله بن بطة أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والعقيدة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ×, فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل, فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم, وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم, وأنهم سيقتتلون, وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد وضع عنهم, وكل ما شجر بينهم مغفور لهم( ).
6- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: ويجب أن يعلم أن ما جرى بين أصحاب النبي × ورضي الله عنهم, من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان, ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولا يبدعون, والدليل عليه قوله تعالى: +لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" [الفتح:18], وقوله ×: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! ويدل على صحة هذا القول: قوله × للحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»( ), فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام, وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: +وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" [الحجر: 47]. إلى أن قال: ويجب الكف عما شجر بينهم والسكوت عنه( ).
7- وقال ابن تيمية: في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو زيد فيه ونقص وغير عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون, إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون( ).
8- وقال ابن كثير: أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام: فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضًا: وأما المصيب فله أجران( ).
9- وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة علىوجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف الحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين( ).
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة, رضي الله عنهم, بعد قتل عثمان والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم( )



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 169.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 165.47 كيلو بايت... تم توفير 3.78 كيلو بايت...بمعدل (2.23%)]