شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4422 - عددالزوار : 859939 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3954 - عددالزوار : 394291 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216329 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7847 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 70 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 98 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 26-03-2022, 03:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (166)

صـــــ(1) إلى صــ(23)



[حكم دفن الشهيد بثيابه التي قتل فيها]

وقوله: [ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه]: أي: سواء كانت الثياب يسيرة أو غالية، فالحكم واحد أنه يدفن في الثياب التي قتل فيها،

وإذا لم يكن له ثوب قال العلماء: إذا جرد عن ثيابه أو احترقت ثيابه، أو نزعت عنه، فأصبح عاريا، قالوا: يشرع حينئذ أن يوضع شيء على عورته ثم ينزل إلى قبره ويلحد، دون أن يكفن الكفن المعروف،

وهذا على الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (زملوهم في ثيابهم)، فأمر في الشهداء أن يزملوا في ثيابهم، وأن يكونوا بنفس الثياب التي لقوا بها العدو، لا يزاد عليها ولا ينقص منها.

لكن يؤخذ من الثياب السلاح ونحوه، كمحامل الأسلحة ونحوها، ويؤخذ بثيابه ثم يلف فيها، قال صلى الله عليه وسلم في مصعب رضي الله عنه، وقد كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه وإذا غطوا قدميه بدا وجهه::
(غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، وهذا فيه دليل على أنه إذا كانت ثيابه تسع أعلى البدن دون أسفله فإنه حينئذ يقدم ويشرف أعلى البدن ثم يترك الأسفل مكشوفا، فإذا كان هناك إذخر فإنه يستر بالإذخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، فدل على استثناء الإذخر وحده دون غيره.

حكم من قتل شهيدا ثم سلبت ثيابه

وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]: قال بعض العلماء: تستر عورته.

وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون سترا لسائر بدنه، وهذا قول من يعمل الأصل،

ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها،

قالوا: حينئذ يزمل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.
[حكم الصلاة على الشهيد]

وقوله: [ولا يصلى عليه]: هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم، وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فإن الصلاة على الميت فيها من الفضل والخير للأحياء والأموات ما الله به عليم،

ولذلك: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه)، وهذا يدل على فضل الصلاة على الميت والدعاء له، فجعلها الله فضلا للأحياء والأموات، أما الأحياء فجعل فيها القراريط من الأجر، وما يكون لهم من أجر الدعاء للميت.
وأما الأموات فلأنه خير يكون لهم قبل أن يلقوا الله عز وجل بدعاء إخوانهم وسؤال الرحمة، وقد يتجاوز الله عن سيئات الميت بسبب خالص دعاء الأحياء، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء للأموات، وأن على الإنسان إذا دعا لأخيه الميت فعليه أن يخلص في الدعاء ويجتهد، فلما كانت الشهادة يرجى لصاحبها من الخير والفضل ما يرجى، صار كأنه ارتفع عن هذا كله، لعظيم ما له عند الله من المنزلة، والدرجة، مع أن الصلاة فيها دعاء واستغفار له، فكأنه قد جاوز ذلك إلى رحمات وجنات وفضائل من الله سبحانه وتعالى تغنيه عن الدعاء.

ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن فتنة الشهيد في قبره: هل يسأل الشهيد في قبره ويفتن بالفتان؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، أي: كفى ببارقة السيوف على رقبته فتنة، وذلك لأنه قتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر بائعا نفسه لله عز وجل، فكأنه قد أقبل على الله سبحانه وتعالى بخير عظيم.

ولذلك ورد في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (تكفل الله.

وفي رواية: تضمن الله) والضمانة والحمالة والكفالة من الله سبحانه وتعالى تدل على ما له عند الله سبحانه وتعالى من الفضل العظيم والثواب الجزيل.
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش) وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فلا يصلى عليه، لأنه في رحمة منذ أن تقبض روحه ويقتل في سبيل الله عز وجل.
والشهيد لا يجد من قبض الروح وفتنة السكرات كقرصة النحلة، وتؤخذ روحه -كما يقول بعض العلماء- كأنه أشبه بطرفة العين، تؤخذ منه كأحسن ما يكون من سلت الروح دون أذى ودون ضرر، ثم ما إن تقبض روحه حتى يكون له الفضل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر).

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ذكر شهداء أحد وأنهم لقوا الله عز وجل فرضي عنهم ورضوا عنه).

وفي الحديث الصحيح أن جابرا رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، فقال له: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها) وهذا يدل على فضل ما يكون للشهيد، وكلما أخلص وصدق مع الله، وكلما كان بلاؤه في الجهاد أعظم؛ كانت شهادته أرجى.

وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله لا يكلم أحدا إلا من وراء حجاب إلا ما كان من أبيك فقد كلمه كفاحا، وقال: تمن عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من فضائل الشهادة.
فتبين أنه لا يصلى على الشهيد لعظيم ما له عند الله من الفضل والمثوبة.

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا هذا الفضل الكريم.
[حكم من سقط من دابته في المعركة]

فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتا ولا أثر به، أو حمل فأكل، أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه،

فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولا، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل.

فلو سقط من على دابته فإن السقوط قتل، ولكن لم يقتل شهيدا في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء.هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدرا، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل.
فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناء على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدرا فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزا عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففجع بها ومات، وهذا محتمل،

ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا.
لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم).
فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رض فمات بالرض،

قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناء على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها.والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيدا.هذا بالنسبة للصور التي ذكرها.بقيت معنا صورة.

إذا: عندك حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد ميتا في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدرا أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.
[حكم من أكل أو شرب بعد طعنه الذي مات به]

الحالة الثانية: أن تجد به أثر القتل كأن يطعن أو -مثلا- يكون به جراح ثم يحمل من أرض المعركة، لكنه يأكل أو يشرب، فحينئذ يعامل معاملة الأصل، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.أما بالنسبة لحالة كونه يأكل ويشرب،

فإنهم يقولون: إذا أكل أو شرب بعد الطعن وبعد الأثر الذي كان به من الضرب، فإننا في هذه الحالة قد تحققنا حياته بعد طعنه، فيخرج عن حكم الشهيد، وموته بعد ذلك وإن كان بأثر القتل؛ لكنه تبع لا أصل، والموت وإن كان بأثر الضربة في سبيل الله عز وجل فإنه شهيد في الأصل؛ لكنه لا يعامل معاملة الشهيد.
والدليل أن سعدا رضي الله عنه وأرضاه ضرب في أكحله، فسأل الله عز وجل أن يؤخر موته حتى يقر عينه من بني قريظة؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، وهذا من شدة غيرته رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله، وهو من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فسأل الله عز وجل ألا يموت حتى يقر عينه بما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، فكان الحاكم فيهم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما ضرب في أكحله أخر الله أثر الجرح، وهذه آية من آيات الله عز وجل، فسلم رضي الله عنه حتى حمل إلى بني قريظة في قصة التحكيم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فقال: (أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم،

فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات).ثم انتقض عليه جرحه، فمات رضي الله عنه وأرضاه فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وصلى عليه، وعامله معاملة الأصل، مع أن الجرح الذي مات بسببه هو في الأصل من المعركة.
فلذلك قال العلماء: لما حي حياة مستقرة بعد الجرح نزل منزلة الأصل، فصار الحكم خاصا بمن قبض في أرض المعركة، دون من جلب عن أرض المعركة، ودون من أكل أو شرب بعد طعنه وضربه الذي فاتت به نفسه.

حكم من طعن فطال بقاؤه عرفا ثم مات

وقوله: [أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: من طال بقاؤه عرفا فماله مما يحتكم فيه إلى العرف، فإن قال أهل الخبرة والأطباء: إن حياته مستقرة، فحينئذ لا يعامل معاملة الشهيد، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، أما لو قصرت مدته وبقي بعد الطعنات ينزف في أرض المعركة، ثم فاتت نفسه، فإنه شهيد،

وعلى هذا: فالشهيد يستوي فيه أن يضرب فيقتل من ساعته، أو يضرب ثم تسيل دماؤه فينزف وينزف لمدة ساعة أو ساعتين فإن هذا ليس بطول؛ لأن النزف القاتل يشمل مثل هذا، فحينئذ يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

[حكم تغسيل السقط والصلاة عليه]

قال رحمه الله: [والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه]: السقط: هو الذي تسقطه المرأة الحامل جنينا، سواء كان ذكرا أو أنثى، هذا السقط إذا بلغ أربعة أشهر، (مائة وعشرين يوما)،

لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر بكتابة أربع كلمات، عمره وأجله وعمله، وشقي أو سعيد)، فهذا يدل كما يقول العلماء رحمة الله عليهم على أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وهذا ما تقرر على ظاهر الحديث،

ويقولون: إذا بلغ هذا القدر فإنه يعامل معاملة الطفل الحي، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى -أي: يسميه أبوه- سواء كان ذكرا أو كان أنثى.
[التيمم لمن تعذر غسله]

وقوله: [ومن تعذر غسله يمم].بعد أن بين لنا حكم غسل المحرم، وحكم تغسيل الشهيد، وما يستثنى من الشهداء، شرع رحمه الله في بيان المسائل التي تلتحق بهذا.

والمناسبة بين هذه المسائل وبين الشهيد والسقط ومن تقدم، أن الجميع خارجون عن الأصل، فلهم حكم خاص يستثنى من الأصل.والذي لا يمكن تغسيله يشمل أصنافا من الناس، منهم المحروق، فإن المحروق إذا غسل ينتفط جلده ويصعب في هذه الحالة أن يحصل النقاء الذي هو مقصود الشرع، بل إن صب الماء عليه فإنه يزيده ضررا، وحرمة الميت المسلم ميتا كحرمته حيا،

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا في الإثم)، فجعل للميت المسلم حرمة، فلو أننا غسلناه أنتن جسده وأنتن جلده ونفط، وحصل من الضرر الشيء الكثير.
كذلك لو كان به مرض في جلده بحيث إذا صب عليه الماء نفط، وكما في المجدور فإنه لو غسل فإنه يتضرر جلده.

وكذلك أيضا إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله، كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء رحمهم الله هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يغسلون، وإنما ييممون.

وهكذا لو فقد الماء فلم يوجد، كأن يموت شخص بالصحراء، فحينئذ ييمم؛ لأن الشرع جعل طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء، فهذا أصل، فإذا وجبت طهارة الماء ولم يمكن القيام بها عدل إلى البدل الشرعي وهو التراب، فييمم الميت، والتيمم أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإذا فعلت ذلك فإنه حينئذ يحصل المقصود، كما تقدم معنا في صفة التيمم الشرعية.

ما يجب على من يغسل ميتا

وقوله: [وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسنا]: شرع رحمه الله في الآداب التي ينبغي على من قام بتغسيل الموتى أن يراعيها، فعلى الغاسل ستر ما رآه إذا لم يكن حسنا، فإن تغسيل الأموات تحصل فيه أمور غريبة، فربما غسل الإنسان ميتا، فرأى من آثار وبشائر الخير ما يكون عاجل بشرى له في الدنيا قبل الآخرة.
وقد يرى أمورا فظيعة تقع في وجهه وحاله أثناء تغسيله، فنسأل الله السلامة والعافية وأن يتولى أمورنا بالستر الجميل.

ولذلك قالوا: على الغاسل أن يحسن إلى الميت، فإن وجد عورة سترها، كأن يرى وجهه بحالة لا تسر، أو يراه تغير وجهه، وإن رأى خيرا نشره، فإن بعض الأخيار إذا غسلته رأيت في وجهه من النور والبهاء ما لا ترى معه وحشة الأموات، وقد رأينا ذلك وهو أمر مجرب، وكثيرا ما يقع للعلماء والأخيار والصالحين أن ترى بشائر الخير عليهم في تغسيلهم.
فما رأى من الخير نشره؛ لأن هذا يعين على الطاعة، كأن يكون عالما أو صاحب سنة أو إنسانا له فضل على المسلمين، أو إنسانا فيه استقامة، أو عرف بخصلة من خصال الخير كالصدقات أو صلة الرحم أو القول بالمعروف والأمر بالطاعات، فمثل هذا إذا نشر ما وقع أثناء تغسيله من البشائر يعين الناس على حب الخير، ويعينهم على إحسان الظن بأخيهم، وهو أدعى للترحم عليه وذكره بالجميل، والاقتداء به، وكل ذلك مقصود شرعا.
ومن هنا إذا رأى المغسل بشائر طيبة ذكرها لما فيها من الخير ولما فيها من الدعوة إلى الخير، وهذا يحقق مقصود الشرع.وإذا رأى غير ذلك ستره؛ إلا أن يكون صاحب هذا الأمر صاحب بدعة وسوء وشر، كأن يكون إنسانا معروفا بأذية المسلمين والتربص بهم، فمثل هذا إذا نشر ما وقع له من الشر انزجر الناس وخافوا وارتدعوا من فعله، أو كان صاحب بدعة وهوى، أو كثير الإعراض عن أوامر الشرع، أو فاسقا متهتكا مستخفا بحدود الله؛ فحينما يذكر ما يكون له من الأمور السيئة، فإنه يكون قد زجر الناس وخوفهم وردعهم، وكان عاجل بشرى الشر له، ولما ينتظره عند الله عز وجل من العقاب وأعظم، إلا إذا رحمه الله برحمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخير والشر ببشارة،

(.فمر عليهم بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال: وجبت.ثم مر بجنازة فأثني على صاحبها شرا، فقال: وجبت.

فقال عمر: يا رسول الله! مر بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقلت: وجبت.

ثم مر بالثانية فأثني عليها شرا فقلت: وجبت، فما وجبت؟

قال: أما الأول فأثنيتم عليه خيرا؛ فقد وجبت له الجنة، وأما الثاني: فأثنيتم عليه شرا؛ فقد وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).

فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وجبت وجبت) فنشر الخير ونشر الشر، فنشر الخير لما ظهر عليه من آثار الخير من ثناء الناس عليه، وذكر ما يكون للآخر من عاجل العقوبة عند الله عز وجل على ما ذكر عليه بالسوء والشر، فقال: (أنتم شهداء الله في الأرض).

فما وقع من الأمارات والعلامات على الميت إن خيرا ذكر، وإن كان شرا ستر؛ ولذلك قال العلماء رحمة الله عليهم: ينبغي أن يكون الغاسل ينبغي أن يكون أمينا؛ لكي يحفظ الأسرار ولا يبثها، ولا يذكر ما يكون له من الأمور الغريبة في تغسيل الميت.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 30-05-2022, 07:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (167)

صـــــ(1) إلى صــ(23)

الأسئلة

[حكم الصلاة على الميت في المقبرة]

q ما حكم الصلاة على الميت قبل الدفن أو بعده في المقبرة؟
a الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في القبور، والعلماء رحمهم الله يقولون: إن الأصل أن لا يصلى في القبر.

ومذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم أن الصلاة في القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛

لما ثبت في صحيح مسلم: (لما توفيت المرأة السوداء ولم يخبروه بشأنها ودفنوها ليلا، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يدل على قبرها، فدل على قبرها فوقف عليه وصلى، ثم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) فقوله: بصلاتي، يدل على التخصيص؛ ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بهذه الخاصية، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله.
وذهب جمع من العلماء إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي على الميت إذا كان على نعشه في المقبرة، ويصلي على قبره أيضا إلى أربعة أشهر،

ومنهم من يقول: إلى شهرين، ومنهم من يقول: ما لم يتغير أو يغلب على الظن تغيره.فهذه ثلاثة أقوال في المسألة، وإن كان الأقوى والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصلى عليه، وأن من شهده وصلى عليه فإنه يجزئ؛ لأنه لو فتح هذا الباب فما من جنازة تشيع إلا وفيها أقوام قد تكون فاتتهم الصلاة عليه، فيسترسل الناس في هذا، وكلما جاء إنسان يعيد الصلاة عليه حتى يتأخر في دفنه؛ ولذلك إذا صلي عليه في قبره فإنه يحبس ويؤخر عن دفنه،

والمشروع في السنة: أنه بعد الانتهاء من الصلاة الصلاة العامة عليه فإنه يبادر بدفنه، كما في الحديث: (أسرعوا بالجنازة).

ولذلك: فالذي تطمئن إليه النفس أن يبادر بالدفن، ولا يؤخر من أجل الصلاة عليه، وإنما يصلى عليه الصلاة العامة، فمن أدركها فالحمد لله، ومن فاتته فإنه لا يفوته أن يدعو له ويستغفر ويترحم عليه، ومن صلى فلا حرج إذا كان يتأول القول الذي يرى الصلاة عليه؛

لكن الأصل: أن المقابر تحفظ عن الصلاة، ويمنع من الصلاة فيها إعمالا للأصل؛ لما ذكرناه من الأدلة التي دلت على حظر الصلاة في القبور، وتخصيصها بصلاة دون صلاة محل نظر، خاصة وأن اللفظ عام، والله تعالى أعلم.
[مسألة الصلاة على شهداء أحد]

q ذكرتم -حفظكم الله- أن الشهيد لا يصلى عليه، وقد أشكل علي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد؟

a النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد كالمودع، ما صلى عليهم بعد المعركة، ولم يثبت نص صحيح أنه صلى عليهم بعد المعركة، إنما ثبت في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليهم بعد سنين، وكان -كما ذكر العلماء- كالمودع لهم عليه الصلاة والسلام، ومعنى الخصوصية فيه قوي؛ وللنبي عليه الصلاة والسلام من الخصوصيات ما ليس لغيره،

ومن هنا يقوى القول الذي يقول: بأن هذا النص مما خرج عن الأصل، خاصة وأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا مع غيرهم، ولذلك لم يفعله مع شهداء بدر ولم يفعله مع غيرهم، ويختص هذا الحكم بشهداء أحد.
يقوي طائفة من العلماء أنه صلى كالمودع لهم، وإن كان ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه زارهم، وكانت زيارته مودعا لهم كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، ويرون أن هذه الصلاة من جنس التوديع كزيارته لهم عليه الصلاة والسلام؛ لكن كونه يدل على مشروعية الصلاة على الشهداء هذا محل نظر، فالنصوص واضحة في عدم مشروعية الصلاة على الشهداء.
وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره في قصة الصحابي جليبيب الذي كان معه في الغزوة رضي الله عنه، أنه قتل فقده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أفقد جليبيبا فابحثوا عنه، فطلبوه فوجدوه مقتولا، فدفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه، وقال: إني شهيد له يوم القيامة)، فهذا يدل على عدم مشروعية الصلاة على الشهداء، وهو يؤكد ما قرره جماهير العلماء من أنه لا يشرع أن يصلى على الشهداء؛
وإنما شذ الحسن وسعيد بن المسيب فقالا: يشرع أن يغسل الشهيد ويصلى عليه، وهذا القول من مفردات المسائل، ويحتمل أنهما لم يطلعا على النصوص التي دلت على عدم تغسيل الشهيد وعدم الصلاة عليه، والله تعالى أعلم.
غسل وتكفين من وقصته دابته وإن كان مجاهدا

q الذي يكون في المعركة ثم سقط عن دابته أو وجد ميتا ولا أثر للجراح به، لماذا لم يأخذ حكم الشهداء، والقاعدة: أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، حيث إنهم خرجوا للجهاد وقاتلوا ولكنهم قتلوا بالسقوط ونحوه، فلماذا لم يأخذوا حكم الشهداء؟

a هم آخذون منزلة الشهداء، ومنازل الشهداء تختلف؛ لكن مسألة أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن، هذه تختص بما ورد، وذلك نظرا لأن الجراح فيها دماء والبلاء بها أعظم، والشهادة فيها أكثر أذية وضررا وبلاء في الغالب؛ فإنه يختص الحكم بمن كانت فيه الجراح وقتل بجراحه، وأما من قتل بالصعق وبغير جرح فهذا لا يشمله الحكم، وقد نص على هذا جماهير العلماء كما ذكرناه في المسألة التي تقدمت؛

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بثيابهم) ونهى عن تغسيلهم، وهذا يدل على أن المراد الدم، وفي نفس الحديث الذي أمر بتزميل الثياب قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه ما من جرح يجرح في سبيل الله ... ).
فقوله: (فإنه) جملة تعليلية، أي: أمرتكم بتزميلهم في ثيابهم؛ لأن جراحهم تشهد لهم؛ وهذه من العلل المنصوصة؛ لأنه أشار إليها بالنص، وإن كان العلماء رحمة الله عليهم استنبطوها بالمعنى، فإنه لما قال: (زملوهم) ثم قال: (فإنه) يدل على التعليل؛ لأن قوله: (فإنه) بمثابة تعليل لما قبلها، والجمل التعليلية تعتبر حجة في التعليل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يديه) أي: أمرتكم بهذا لأن أحدكم لا يدري أين باتت يده.

وقال في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) أي: أمرتكم بهذا، فانظر إلى قوله: (لا تمسوه بطيب) وقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) تجده دليلا على أن هذه الجمل بمثابة التعليل؛ فكأنه يقول: لا تغسلوا الشهداء إذا جرحوا؛ لأن جراحهم تشهد لهم، والله تعالى أعلم.
[حكم ستر العورة عن الزوج أو الزوجة عند التغسيل]

q هل يجب ستر العورة إذا غسل الرجل امرأته أو غسلت المرأة زوجها؟
a إن نظر كل من الزوجين لعورة الآخر في الحياة إنما قصد به أن يحفظ الإنسان نفسه من الفتنة، وأن يكون سببا لعصمته بإذن الله عز وجل من الوقوع في الحرام، وهذا المعنى ليس موجودا في تغسيل الميت؛ ولذلك يقتصر على تغسيلها بالقيام بحقها دون نظر إلى هذه الأمور؛ خاصة وأنه لا يأمن من الوقوع فيما يحظر عليه.والله تعالى أعلم.

[حكم إلقاء الميت في البحر]

q ما حكم إلقاء الميت في البحر، والسفينة تبعد مسافة طويلة عن جميع الموانئ؟

a يقول بعض العلماء في هذه المسألة: إنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ثم يرمى في البحر.وهذا نوع من القبر له؛ لأن البحار تطوي من بها وتستره، والمقصود من دفن الميت: ستره؛ ولذلك جاء في كتاب الله: {قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} [المائدة:31] فإذا رمي في البحر ستره البحر، وأمن من النظر إلى عروته، وعلى هذا قال العلماء: إذا تأخر وصول السفن ونحوها كالبواخر الموجودة الآن إلى البر فإن البحر يكون مقبرة له.

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذكر شهداء البحر: (أنه نام عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، فاستيقظ وهو مسرور يضحك صلوات الله وسلامه عليه، فعجبت من أمره وذكرت له ذلك فقال لها: لقد رأيت أقواما من أمتي ملوكا على الأسرة -أو كالملوك على الأسرة- يغزون ثبج البحر -أي: أنهم شهداء البحر- فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: أنت منهم)، فتوفيت رضي الله عنها حينما غزت، ونزلت بطرف لبنان إبان غزو الصحابة رضي الله عنهم للشام، فلما نزلت وقصتها دابتها فماتت رضي الله عنها، فتحققت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.فهذا يدل على أن البحر قد يكون قبرا لصاحبه؛ لأن المقصود من البر أن تتوارى العورة، والقبر يحقق هذا المقصود.

أما إذا غلب على الظن الوصول قبل أن يتغير فبعض العلماء يقول: إنه يبقى على الأصل؛ لأن الأصل أن يوارى في التراب، ويكون حينئذ مما يستثنى من التعجيل في دفن الميت، والله تعالى أعلم.

[حكم كشف رأس ووجه الميت]

q في قول المصنف رحمه الله: [ولا يغطى رأسه ولا وجه أنثى] هل يفهم من ذلك أن يظل رأس ووجه الميت مكشوفا ينظر إليه أثناء حمل الجنازة والصلاة عليها وقبرها؟ أثابكم الله.

a هذا هو الأصل، نص عليه العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قالوا: ولا حرج أن يظلل بشمسية ونحوها، ويبقى وجهه مكشوفا ولا يغطى الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تخمروا وجهه ولا تغطوا رأسه) فهذا نص يدل على أنه لا يغطى ويصلى عليه وهو مكشوف الوجه، وقالوا: لا حرج أن يظلل عن الشمس بشمسية ونحو ذلك كالحال في الحياة، هذا استثناه بعض الفقهاء؛ لكن الأصل أنه لا يستر وجهه، والله تعالى أعلم.

[حكم الغلو في الخوف من القبر وعذابه]

q هل الخوف على الميت من عذاب القبر وما آل إليه من نعيم أو عذاب يعد من عدم الصبر والرضا؟ أثابكم الله.
a إذا مات الميت وهو على إحسان وطاعة وبر لله عز وجل؛ فإنه يرجى له الخير والرحمة، والله تعالى يقول: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} [البقرة:223] فهو يقول لك: ستلقاني وأبشر؛ فالظن به حسن سبحانه وتعالى، ولو رأيت المؤمن وهو في سكرات الموت يرى ما عند الله من البشائر ومن الخير، فلو خير ساعتها بين أهله وماله وولده والناس كافة، وبين إقباله على ربه لاختار ما عند الله عز وجل؛ لما يرى من رحمته، والناس تفزع من هذا، ولكن هذا كله ضعف إيمان بالله سبحانه وتعالى، وإلا لو علم الإنسان مقدار رحمة الله وحلمه ولطفه بعباده سبحانه وتعالى، لكان أشد شوقا إلى ربه من شوقه إلى أهله وولده.

ولذلك لما قدم سليمان بن عبد الملك رحمه الله على المدينة قال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، فلو غاب الإنسان عن أهله وجاء من غربة وقدم عليهم فهو قدوم البشر والسرور والفرح والحبور، وما عند الله أجل وأسمى؛ فإن الله وصف الجنة ونعيمها وسرورها ولذة أهلها وبهجتهم، وما هم فيه من الرحمة والغفران من رب راض عنهم غير غضبان، ومع هذا كله يقول: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
مع هذا كله ومع ما وصف الله في كتابه سبحانه وتعالى من الصفات العظيمة والمنازل الجليلة الكريمة يقول: (ولا خطر على قلب بشر)، فمعنى ذلك أن عنده من الرحمات والفضائل ما الله به عليم؛ ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن بعض المنامات التي تقوي أصول الشرع كان السلف الصالح يذكرونها لحسن الظن بالله عز وجل، وقد ذكر هذا في الجزء الثامن عشر من مجموع الفتاوى، قال: كانوا يتسامحون في بعض المنامات التي لا تعارض أصول الشرع.
وقد ذكر الإمام أبو نعيم في الحلية عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه مات ورئي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت بعد الإيمان أفضل من حسن الظن بالله عز وجل.

فإن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه، فإن العبد يقدم على الله وهو ضعيف فقير أسير، تخلى عن أهله وماله وولده وحوله وقوته، والله عز وجل أرحم بالعبد من نفسه بنفسه.فكيف يكون الظن إذا كان الإنسان يقدم وهو يحس أنه فقير إلى رحمة الله، وأنه فقير إلى عفوه ولطفه، أفيخيبه سبحانه؟! حاشاه، فهو سبحانه يرحم من لم يسأله، فكيف بمن سأله ورجاه! ولذلك ينبغي على أهل الميت أن يحسنوا الظن بالله عز وجل، وأن يعلموا أن ما قدم عليه ميتهم من رحمة الله وعفوه ما دام مؤمنا مطيعا لله سبحانه وتعالى أسمى وأسنى، ويصبح انصباب جهدهم إلى ما هو أهم وهو الدعاء له بالمغفرة، فإنه ولو مات وهو على أفجر ما يكون ما لم يكن كافرا؛ فقد يدركه الله قبل موته -ولو بساعات ما لم يغرغر- بحسن الظن بالله؛ قال الحجاج لما حضرته الوفاة: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي)، قال عمر بن عبد العزيز: والله ما غبطته إلا على أمرين: أحدهما: عنايته بكتاب الله.أي: حبه للقرآن وعنايته به، فقد كان الحجاج محبا للقرآن معتنيا به.
وأما الثانية: فقوله عند موته: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي).
فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عز وجل قد يدركه الله عز وجل بحسن ظنه، فيغفر الله له ذنوبه، ولا يستطيع أحد أن يدخل بين العبد وربه، فقد ترى الإنسان وهو على فسق وفجور ويرحمه الله قبل موته وقبل سكرات موته.
وأصدق شاهد على ذلك حديث أبي هريرة الذي فيه قصة الرجل الذي قتل مائة نفس وآخرها الرجل العابد، فهذا أمر من أشنع ما يكون من الإجرام والعتدي لحدود الله والأذية لعباده، ومع ذلك ما خاب ظنه بالله عز وجل، فغبر قدميه في آخر عمره مقبلا على الله، فقبض روحه مع الصالحين.

فما خاب ظنه بالله حينما قال له العالم: وما يمنعك من التوبة؟! يعني: من يحول بينك وبين الله؟! ومن يحول بينك وبين رحمة الله؟! فخرج إلى ربه تائبا منيبا، فكان تغبيره لهذه الأقدام عزيزا عند الله سبحانه وتعالى، عظمت عند الله هذه الأقدام حينما تاب بنفسه وبفعله، فاجتمعت له توبة الظاهر والباطن، فتوبته ظاهرة حينما خرج إلى قرية الصالحين؛ لأنه ما خرج لقرية الصالحين إلا وهو يريد الصلاح، وما خرج لقرية المفلحين إلا وهو يريد الفلاح.
فلما فعل هذا عظم عند الله عز وجل، فكيف إذا كانت من الإنسان الحسنات والخيرات؟! والله تعالى يقول: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} [الأحزاب:45 - 47] و (كبيرا) من الله ليست بالهينة! {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} [الأحزاب:47].ويقول عن أهل الجنة: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} [الزمر:35].
فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عز وجل، وأخذ بأسباب الإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الله لا يخيبه.فينبغي على أهل الميت -ولو كان الميت على معصية- أن يستغفروا له، وأن يترحموا عليه؛ فإن الله ينفع الأموات، ولو مات وهو على المخدرات وعلى المعاصي والمنكرات، فإنه أحوج ما يكون إلى دعائك.
بل إن من كان على المعصية قد يكون أشد حاجة لأن تدعو الله أن يغفر له ويرحمه، فهذا شيء من رحمة الله عز وجل ومما أبقاه الله من حسنات الإيمان للمؤمن بعد موته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله رحم المؤمن بإيمانه حتى بعد موته، ولذلك كانت الصلاة عليه والدعاء له بسبب إيمانه، فلولا أنه مؤمن لما صلي عليه ولما دعي له، فما دام أنه مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولم يأت بما يخرجه من ملة الإسلام، فهو إن شاء الله من أهل الجنة؛ لكن ما كان منه من زلات وهنات فإن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض فضله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء:23].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن ظننا فيه، وأن يجعل لنا من رحمته وعفوه ومغفرته ولطفه ما لم يخطر لنا على بال.نسأل الله العظيم أن يتلقانا برحمته أحياء وأمواتا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 30-05-2022, 07:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (168)

صـــــ(1) إلى صــ(11)

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [4]

لقد كرم الله سبحانه وتعالى عباده المسلمين أحياءً وأمواتاً، ومن تكريمه جل وعلا لمن مات من المسلمين: أن يغسل ثم يكفن ثم يصلى عليه، وتكفين الميت أمر سهل، لكنه يحتاج إلى تعلم؛ وقد ذكر الفقهاء صفة الكفن، وكيفية تكفين الرجل والمرأة، وعلى من تكون قيمة الكفن، وغير ذلك من الأحكام التي ينبغي أن يعتني بها كل مسلم.
[تقديم الكفن على قضاء الدين]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله:
[فصلٌ: يجب تكفينه في ماله].
فهذا الفصل يعتبر هو المقام الثالث الذي انتقل المصنف به إلى بعض الأحكام المتعلقة بالميت، وقد تكلم في الموضع الأول عن حكم عيادة المريض، وما ينبغي أن يصنع بالمحتضر إذا حضرته الوفاة، ثم ما ينبغي به أن يهيأ به لتغسيله، هذه هي الجزئية الأولى التي تحدثنا عنها في الموضع الأول.ثم أتبع ذلك بفصل خصه بصفة تغسيل الميت، ثم أتبعه بهذا الفصل والذي يتعلق بصفة تكفين الميت، وهذا كله من ترتيب الأفكار، فالأصل أن الإنسان إذا احتضر أن يبدأ بأحكام الاحتضار، ثم ما يتبع ذلك من أحكام غسل الميت، ثم تكفينه؛ لأن التكفين يقع بعد التغسيل، فبين رحمه الله أنه يجب تكفين الميت.وهذه العبارة دلت على أن تكفين الميت يعتبر فرضاً على ورثته؛ وكذلك على عموم المسلمين الذين يحضرون الميت.
أما بالنسبة لوجوبه: فالأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته يوم عرفة (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (كفنوه في ثوبين) أمر يدل دلالة واضحة على أن الكفن واجب، وأنه لا يجوز قبر الأموات بدون كفن.ومن هنا أخذ العلماء أنه لو وضع الميت في قبره بدون كفن فإنه يشرع نبش قبره وتغسيله ثم تكفينه، والقيام بحقه من الصلاة عليه، ثم دفنه، فهذا يؤكد على أن تكفين الميت لا بد منه.هذا الكفن يحتاج إلى مال، وهذا المال الذي يستحق دفعه في كفنه يكون من ماله، وهذا هو الأصل؛ وبذلك إذا مات الميت فإن مئونة التجهيز تؤخذ من ماله قبل قسمة تركته، فهذه من الحقوق المقدمة، ويعتبرها العلماء من الحقوق العاجلة التي ينبغي أن يبادر بها في أموال الموتى، وأهل الفرائض رحمة الله عليهم من الفقهاء حينما يتكلمون عن أحكام الفرائض،
يقولون:
من بعد القيام بحقه من تجهيزٍ.فمئونة التجهيز يدخل فيها المال المحتاج إليه للكفن، فلو أنه احتيج إلى لفافتين لتكفينه، وهاتان اللفافتان تكلفان مبلغاً، فإنه يؤخذ هذا المبلغ من ماله ولو ترك ورثة من أيتام وغيرهم، فهذا حق للميت في ماله.ثم لو أن هذا الميت كان عليه دين، وأصبح هناك ضيق بين أن نقضي دينه وبين أن نكفنه،
قالوا:
يقدم تكفينه على دينه، وحينئذٍ يكفن ثم ينظر الباقي فيقسم على أصحاب الديون على قدر حصصهم من أصل الدين كما سيأتي إن شاء الله في الوصايا.
فالمقصود: أن تكفين الميت واجب، وأن هذا الوجوب يتعلق بمال الميت إن وجد، فإذا كان الميت ليس عنده مال يشترى منه الكفن وما يحتاج إليه في مئونة تجهيزه، فحينئذٍ ينتقل إلى الذي يجب عليه نفقة الميت، فإذا كان هناك والد أو ولد أو أخ عاصب أو نحو ذلك من القرابة الذين يقومون بحقوق النفقات، فإنه حينئذٍ يتعين على الموجود منهم أن يدفع مئونة التجهيز، فإذا لم يوجد عند قرابته انتقل الوجوب إلى بيت مال المسلمين.ويجب على من حضر أن يقوم بهذا الحق، فيكفنوه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسنوا إليه في كفنه، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث.
وقوله:
[مقدماً على دينٍ وغيره].
أي:
تقدم مئونة التكفين على الديون التي للناس، وغيرها من الحقوق الأخرى، فلو مات ميت ولم يحج، واحتيج لحجه إلى ألفين وترك ألفين، فحينئذٍ إن أردنا أن نكفنه ربما نقص المال عما يقام به الحج عنه،
فحينئذٍ يقولون:
يقدم التجهيز، ويؤخذ من هذا المبلغ ولو كان سبباً لعدم السداد والوفاء بحق الحج عنه.
[من يلزمه تكفين الميت إذا لم يكن عنده مال]
وقوله: [فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته].
أي:
فإن لم يكن لهذا الميت مال فعلى من تلزمه نفقته، أي: أنه يجب تكفينه على الشخص الذي تلزمه نفقة ذلك الميت؛ لأن الأصل أن العبرة بالغرم؛ ولذلك الذي يلي النفقات من الورثة ويكون عاصباً يقوم بدفع المال المحتاج إليه لتكفين قريبه، فيكفن الوالد ولده، والولد والده، والأخ أخاه، ونحو ذلك من القرابات الذين يجب عليهم القيام بالنفقات.واختلف في الزوجة، فقال بعضهم: الموت يقطع حق النفقة على الزوج، فلا يجب على زوجها أن يشتري الكفن لها إذا توفيت، ومنهم من قال: إن الموت لا يقطع حق النفقة،
وتسامح بعض العلماء وقال:
إن العشرة بالمعروف تقتضيه، ولكن إذا نُظِر إلى الأصل، فالأصل يقتضي أن النفقة قائمة مقام الاستمتاع، لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يقولون: بالموت ينقطع الحق بالموت كما لو نشزت فإنها لا تستحق النفقة، وهذا يؤكد أن النفقة مرتبة على الاستمتاع كما سيأتينا إن شاء الله في باب الحقوق الزوجية،
وحينئذٍ إذا قلنا:
إن الزوجية تنفصل؛ فإنه ينتقل إلى بيت مال المسلمين، وإذا قلنا: إنها لا تنفصل؛ فينتقل إلى الزوج.
فقوله: (إلا الزوج): استثناه لأن الذين تجب عليهم النفقة، منهم من تجب نفقته من باب القرابة: كالأب مع ابنه، والابن مع أبيه، والأخ مع أخيه، ومنهم من تجب نفقته لسبب كالزوجية؛ فإن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته لمكان الزوجية، والدليل ما ذكرناه من الكتاب، وكذلك من السنة في أمره عليه الصلاة والسلام بإطعامها إذا طعمت، وكسوتها إذا اكتسيت، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.إذا ثبت هذا -وهو أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته- فحينئذٍ إن قلنا: إن الموت يقطع الزوجية فلا تجب عليه النفقة،
وإن قلنا:
إن الموت لا يقطع حق النفقة بالزوجية فيجب عليه أن يكفنها، واختار المصنف سقوط النفقة عنه، فقال: (إلا الزوج)؛
لأنه عندما قال:
(فعلى من تلزمه نفقته) أدخل الزوج بهذه العبارة؛ لأن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته، فلما أدخل الزوج احتاج أن يخرجه بالاستثناء بقوله: (إلا الزوج)،
أي:
فلا يجب عليه أن ينفق على زوجته إذا ماتت بتكفينها.
وهذا هو الأقوى بظاهر النص، ولكن العشرة بالمعروف -كما ذكرنا- وعوائد النفس المحمودة تستبشع وتستبعد ألا يقوم الزوج بحق زوجته في تكفينها، إلا إذا كان عليه ضرر وكلفة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
[صفة تكفين الميت]
[ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض].
بعد أن بين لنا رحمه الله حكم الكفن، وأنه يجب عليك أن تكفن أخاك المسلم إذا مات، شرع في بيان ما يحصل به الكفن، وهذا يختلف باختلاف الجنسين، فالرجال لهم حكم والنساء لهن حكم.فالرجال لهم حكم يختص بهم لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قدر ما يكفن به المسلم، والنساء لهن حكم فيما يكفَّن به، فابتدأ بالرجال،
فقال رحمه الله:
(ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض)، وهذه الجملة مبنية على ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام،
كما جاء في حديث أم المؤمنين في الصحيحين:
(كُفّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة).
والثلاثة الأثواب لها صور:
إما أن تمد لفائف ويوضع الميت عليها، ويكون القميص والعمامة فضلٌ عن الثلاث في الأصل، فحينئذٍ تكون مجموع ما يكفن به خمسة في الحقيقة وثلاثة في الصورة، وذلك لأن القميص والإزار كانا عليه عليه الصلاة والسلام؛ ولم يجرد عليه الصلاة والسلام منهما، وبالنسبة للأكفان الثلاثة تبسط بالصورة التي سنذكرها،
فيكون المجموع:
القميص ثوب، والإزار ثوب، والثلاث لفائف ثلاثة أثواب؛ فأصبح المجموع خمسةً، هذا بالنسبة للأكمل والأفضل في تكفين الرجل.
قال بعض العلماء: إنه يكفن في ثلاثة أثواب، ويكون منها القميص والإزار، فيكون القميص لأعلى البدن، والإزار لأسفل البدن، فحينئذٍ يكون كل منهما يعتد به ثوباً، فيصبح المجموع ثوبين، والثوب الثالث هو اللفافة التي تلف عليه،
فتكفين الميت في ثلاثة أثواب له هاتان الصورتان: إما أن يكفن بقميصٍ وإزارٍ ولفافة، فالمجموع ثلاثة، أو يكفن بثلاثة أثواب فضلاً عن القميص والعمامة.وهذا التكفين على سبيل الاستحباب، وإلا فالأصل أنه لو تعذر تكفين الميت بحيث لم نجد إلا ثوباً واحداً يستر عورته فإنه يجزئ، ويكون محصلاً للواجب وموجباً لبراءة الذمة، فلو أنه كفن في ثوبٍ واحد يستر بدنه ويستر عورته أو يستر أغلب بدنه ومنه العورة؛ فإنه يجزئه.فلو أن قوماً مات عليهم رجل في صحراء، وليس عندهم ما يكفنونه به، ولكن هذا الرجل عليه قميصه وإزاره وثوبه الذي فوقه، فغسل ثم لبس ثوبه وصار كفناً له،
قالوا:
يعتد بذلك ويجزئ؛ لأن المقصود هو ستره.والدليل على أن العدد لا يشترط، وأن المقصود هو ستر الميت: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه قُتِلَ يوم أحد وليست له إلا شملةٌ واحدة، إن غطوا بها قدمه بدا وجهه، وإن غطوا بها وجهه بدت قدماه،
فقال صلى الله عليه وسلم:
(غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) فكونه عليه الصلاة والسلام يكتفي بثوب واحد يدل على أن مقصود الشرع هو ستر الميت وستر عورته، فإذا ضاق الحال ولم يتيسر إلا ثوب واحد كفاه.ولذلك كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه إذا أراد أن يضرب المثل بفقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الشدة في عهده صلى الله عليه وسلم، ذكر قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (فمنا من مات ولم يهدب ثمرته، منهم مصعب من عمير، كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه، وإذا غطوا قدميه بدا وجهه،
فقال صلى الله عليه وسلم:
غطوا بها وجهه ... )
الحديث.فهذا يدل عل أن الثوب الواحد يكفي، ولذلك قال المصنف: (يستحب) فدل على أن الثلاثة ليست بواجبة، وإنما هي السنة والأفضل.
[تجمير اللفائف وجعل الحنوط فيما بينها]
وقوله:
[تجمر ثم تبسط بعضها فوق بعض، ويجعل الحنوط فيما بينها].تجمر هذه الثلاثة الأثواب بالند والعود أو بأي طيب، وذلك مبني على أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان كفن المسلم، وقد أمر من ولي تكفين أخاه المسلم أن يحسن في كفنه.فيبدأ بتطييب هذه الثلاثة الأثواب، ثم يبسط الأولى ويكون أجملها وأفضلها مما يلي الناس؛ لأن حال الإنسان أنه يجعل الزينة في الظاهر، فيجعل أجمل الثلاث اللفائف مما يلي الناس، وهي الأولى تبسط على الأرض، ثم بعد أن يجمرها يجعل حنوطاً فوقها، ثم يأتي بالثانية ويبسطها فوق الأولى، ويجعل الحنوط فيها.
والحنوط:
هو أخلاطٌ من الأطياب التي توضع في الكفن لدفع الهوام وطردها عن جسد الميت، ولإبقاء الجسد مدة أطول، فيوضع الحنوط على الثوب الأول، ثم يوضع على الثوب الثاني، ثم تبسط اللفافة الثالثة ولا يوضع عليها شيء؛ ولذلك كره الصحابة رضي الله عنهم وضع الحنوط على اللفافة الثالثة، فاللفافة الثالثة لا يوضع عليها حنوط، وإنما تبقى على ما هي عليه، ثم بعد ذلك ينقل الميت إليها بعد الغسل.
[استخدام القطن للميت في عدة مواضع]
وقوله: [ثم يوضع عليها مستلقياً].
أي:
ثم يوضع الميت على هذه الثلاث اللفائف مستلقياً، وجهه إلى السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُدرج فيها إدراجاً، فهذه هي السنة: أن يوضع في وسطها، ويكون نصفها عن يمينيه ونصف اللفافة عن يساره، والثلاث كلها مبسوطة إلى الأرض.وقوله: [ويجعل منه في قطنٍ بين إليتيه].
أي:
ويجعل من الحنوط في قطن، ويكون القطن هذا لسد المنافذ إذا خرج شيء من النجاسة أو القذر فإنه يعالجه، ويكون أيضاً أنفع لدفع النتن إذا حُمِل أو أُريد وضعه في قبره، فيجعل الحنوط في قطنة وتكون بين الإليتين.
[ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته].

هذه الصفة يذكرها العلماء من باب الكمال، وليست تشريعية توقيفية يلزم فعلها، وذكر العلماء رحمة الله عليهم لها مندرج تحت أصل عام وهو إحسان الكفن، وليس بأمر متعين بحيث إن الإنسان لو تركه يأثم، إنما ذكره العلماء رحمة الله عليهم على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.وتجعل كالتبان،
التبان:
السروال القصير الذي يصنع للملاحين ونحوهم، والمعنى: أنه تشق على صورة السراويل القصيرة تشد ما بين الفخذين وتمنع خروج الخارج، وذلك لتمنع النتن والرائحة أن تؤذي من يقترب من الميت فيتضرر بذلك إذا حمله أو أراد أن ينزله في قبره، فهذا كله -كما ذكرنا- على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وهذه الأمور لا يقصد منها سوى الإحسان إلى الميت، فمن تيسر له فِعْلُها فعَلَها، ومن صعب عليه ذلك أو لم يجد الحنوط فله أن يستبدل بطيب آخر يطيب به الميت، ولا يشترط أن يوضع بين الفخذين بالصورة التي ذُكِرت، وإنما هو على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض كما ذكرنا.
وقوله: [ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، وإن طيب كله فحسن].
أي: ويجعل الباقي من الحنوط والطيب على منافذ جسده، مثل الأنف، والمنفذ: هي الفتحة الذي ينفذ منها إلى البدن، ويشمل ذلك: الأنف والفم وجهة العيون ونحوها، فيجعل الحنوط عليها حتى يكون أدعى لدفع الهوام عن الدخول إلى البدن؛ لأن الهوام لا تقوى على رائحة الطيب؛ فيكون ذلك أدعى لبقاء البدن أو الجسد أكثر مدة وأطول، وهذا من الإحسان إلى الميت.فيجعل في منافذ بدنه، ومواضع سجوده، وإن طيب كله فلا حرج، وقد أثر عن بعض السلف الصالح أنه لما حضرت أنس الوفاة أوصى أن يغسله الإمام الجليل محمد بن سيرين، وكان محمد رحمه الله عليه دين ومسجوناً في دين، فأُخرج من سجنه للقيام بتغسيل أنس، فطيب أنساً كله.وهذا قد فعله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لو كان الطيب قليلاً أو لم يتيسر من الحنوط إلا اليسير، فإنه يوضع في أشرف المواضع، وهي مواضع السجود؛ تكريماً لها، وكذلك أيضاً المغابن، وهي مواضع النتن من الإنسان كالإبطين؛ وكذلك أيضاً المغابن التي تكون في أسفل باطن الركبتين، فهذه يوضع فيها الحنوط لأن الفساد يسرع إليها أكثر من غيرها.
[كيفية لف اللفائف على الميت]
وقوله:
[ثم يُرَد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن].بعد أن يوضع الميت على الثلاث اللفائف في وسطها كما ذكرنا، يرد طرف اللفافة على شقه الأيمن تشريفاً وتكريماً لليمين، لأنه إذا لبس الإنسان يشرع له أن يقدم اليمين، فيفعل به كما كان يفعل حياً،
وقد قال عليه الصلاة والسلام في تغسيل بنته:
(ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) فشرف اليمين وشرف أعضاء الوضوء؛ ولذلك لما ذكروا عن مواضع السجود أنها تطيب فذلك لشرفها شرعاً.فحينئذٍ يبدأ بشقه الأيمن ويقلب طرف اللفافة العليا، فإذا غطى شقه الأيمن قلب من شقه الأيسر بعد ذلك على لفافة الأيمن ويردها عليه؛ ثم اللفافة الثانية يبتدئ بجهتها اليمنى بالنسبة للميت ويقلبها على شقه الأيمن، ثم يأخذ يسراها ويقلبها على يساره، ثم الثالثة كذلك، فهذا من إدراج الميت في الكفن وهو سنة، ولما فيه من التيمن الذي فضله الشرع وثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المصنف رحمه الله: [ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم بالثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه]: وقوله: (ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه) وذلك لكونه أبلغ في ستره وتشريفاً له؛
أما الدليل على أننا نجعل الفاضل جهة الرأس:
فعندنا جهتان: إما أن نجعل الفاضل من جهة القدم أو جهة الرأس، فلما قال عليه الصلاة والسلام في الشملة: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) دل على تشريف أعلى البدن وتفضيله على أسفله، ومن هنا قالوا: إنه يجعل الفاضل من جهة الرأس ولا يجعل من جهة القدم، ويتفرع على ذلك فوائد، منها أنه لو وجدت لفافة، ولكن هذه اللفافة تسع أكثر البدن، ولا تسع البدن كله، فإنها تلف عليه ويجعل النقص من جهة الأقدام لا من جهة أعلى البدن؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث مصعب رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: [ثم يعقدها وتحل في القبر].(ثم يعقدها): أي يربطها، والضمير عائد إلى اللفافة، فيعقد من رأسه ويعقد من وسطه؛ وكذلك من جهة قدميه على حسب ما يقتضيه الحال، والسبب في هذا هو خوف انتشار الثياب وانكشاف عورة الميت، خاصةً إذا دُلي في قبره، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى أن تكون اللفافة مربوطة، فلربما انسل من اللفائف إذا لم يكن مربوطاً فانكشفت العورة وحصل ما لا يحمد خاصة مع النساء؛ فلذلك جاءت الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأربطة، وأنها تحل في القبر.
وقوله:
[وإن كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة جاز].(وإن كُفن في قميص): القميص يكون لأعلى البدن، كـ (الفنيلة) فهذه أشبه بالقميص، وفي حكمها الصدرية، وهكذا الجبة ونحو ذلك، كل ذلك يعتبر من ستر أعالي البدن ويعتد به ثوباً.ثم يجعل لأسفل البدن ثوباً أو إزاراً؛ لأن العرب تسمي ما يغطي الأعلى دون أن يكون مستحكماً رداءً، والذي للأسفل يسمونه إزاراً، وأوضح ما يكون هو يلبسه الإنسان في حجه وعمرته من ثوبي النسك، الأسفل منهما يسمى إزاراً والأعلى منهما يسمى رداءً.فلو أن إنساناً وجد له قميصاً وإزاراً ولفافة، فلا حرج، ويكون القميص ثوباً والإزار ثوباً، وتكون اللفافة ثوباً ثالثاً.
[تكفين المرأة في خمسة أثواب]
وقوله:
[وتكفن المرأة في خمسة أثواب]: تكفن المرأة في خمسة أثواب؛ لأن عورتها أشد فحشاً من الرجل،
وفي ذلك حديثان:
أما الحديث الأول: فحديث ليلى بنت قائف الثقفية، وهو متكلمٌ في سنده، وضعفه غير واحد من الأئمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن بتغسيل ابنته وتكفينها، وكانت هي التي تولت غسلها، فذكرت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما ناولها حقوه، وهو ما يكون لأسفل البدن كالإزار كما ذكرنا، ثم بعد ذلك أعطى صلوات الله وسلامه عليه الدرع، وهو لأعلى البدن، ثم ناولها الخمار وهو للرأس، ثم الملحفة، وهو ما تلتحف به المرأة، وهو يشمل الأعلى والأسفل؛ ثم أُدرجت في الثوب الآخر، فهذه خمسة أثواب، جاءت مفصلة في حديث ليلى المتكلم في سنده، ولكنها جاءت مجملة في حديث أم عطية الذي هو أصح سنداً من حديث ليلى؛ فإن حديث أم عطية أنها كفنت في خمسة أثواب، لكن حديث ليلى بنت قائف الثقفية رضي الله عنها فصل هذه الأثواب، وهو يدل على أن السنة إذا ألبست المرأة الخمسة الأثواب أن يبتدئ بستر الأسفل أولاً؛ لما فيه من غلظ العورة وعظم الحق فيه؛ ثم بعد ذلك أعلى البدن، ثم الخمار للرأس، ثم الملحفة التي تعم أعلى وأسفل البدن، ثم بعد ذلك أدرجت في الثوب الآخر، وهو خامس الأثواب، وهي اللفافة التي تلف فيها الميتة.
وقوله:
[إزار وخمار وقميص ولفافتين]: الإزار لأسفل البدن، والقميص لأعلى البدن، والخمار للرأس، وبالنسبة للفافتين لعموم البدن، وعلى هذا لو أن امرأة تيسر لها ثلاثة أثواب فإنه لا حرج أن تكفن فيها؛ فتبسط الثلاثة الأثواب وتوضع الميتة فيها على الصفة التي ذكرناها في الرجل، وترد عليها وتكون كفناً لها.
[الواجب في الكفن ثوب واحد يستر الميت]
وقوله:
[والواجب ثوب يستر جميعه].
والواجب في تكفين الميت ثوبٌ يستر جميعه، وهذا من دقة المصنف، فبعد أن ذكر لك صفة الكمال شرع يبين لك ما هو اللازم؛ لأنه بعد أن بين ما هو الأفضل والأكمل ذكر أن الواجب ثوب واحد وأن ما عدا الواجب فضلٌ لا فرض، إن فعلته أحسنت وأجرت وإن تركته فلا حرج.
الأسئلة
[حكم غسل من مات وهو جنب]
q لو مات الإنسان وهو جنب هل يغسل غسل الجنابة أم يكتفي بالغسل المعهود؟

aإذا مات الميت وهو جنب فإنه لا يغسل غسل الجنابة؛ لأن التكليف قد انقطع، وحينئذٍ يغسل وينوى في غسله غسل الميت ولا ينوى غسل الجنابة، وهذا هو الأصل على ظاهر الحديث الذي ذكرناه في حنظلة الغسيل، فإن حنظلة -رضي الله عنه وأرضاه- لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يغسل أمرهم أن يسألوا، فسألوا امرأته فقالت: إنه سمع الهيعة والصيحة فخرج رضي الله عنه فقتل شهيداً قبل أن يغتسل من الجنابة، فهذا الحديث يقلب على من يقول: إنه يغسل، ويدل على أنه لا يغسل؛ لأنه غسل في الآخرة ولم يغسل غسل الدنيا، ولو كان غسل الجنابة واجباً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فالظاهر أنه لا يغسل والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 30-05-2022, 08:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (169)

صـــــ(1) إلى صــ(10)

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [1]

صلاة الجنازة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، ولها فضلٌ عظيم، ولها كيفيةٌ خاصة، وأحكامٌ لابد من تعلمها.
ويفرق بين الصلاة على الصبي والكبير من حيث الدعاء فقط، ويتفرع عن هذه المسألة: حكم أطفال المشركين، وهي مفصلة في هذه المادة.
[صفة صلاة الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول رحمه الله: [فصل: السنة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها].
لقد بين رحمة الله عليه صفة التكفين، وهي يسيرة، وليست كما يظن بعض الناس أن تكفين الميت يحتاج إلى شيء من الدقة ويحتاج إلى شيء من الكلفة، وهذا ولله الحمد من رحمة الله بهذه الأمة،
وقد أشار الله إلى هذه الرحمة العامة فقال:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فتكلف بعض الناس في بعض صفات التكفين وإلزامهم الناس بصفة معينة خطأ، لأنها ليست واجبة في أصل الشرع بحيث يعد أن من لم يفعلها كأنه أساء إلى الميت، فهذا مما لا أصل له.وشرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة على الميت؛ لأنه بعد أن يفرغ من تكفين الميت يتجه الأمر بالصلاة عليه، وهذا هو الحق الثالث للميت،
فأولاً:
يغسل،
وثانياً:
يكفن، وثالثاً: يصلى عليه.
أما الصلاة عليه فإنها واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا على صاحبكم) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، ولذلك قالوا: من مات ودُفِنَ ولم يصل عليه ولم يكفن، شُرِع أن ينبش قبره ويخرج ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ قياماً بحقه.والصلاة على الميت لها صفةٌ مخصوصة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من هديه أنه إذا جيء بالميت فإن كان رجلاً قام عند رأسه، وإن كانت امرأةً قام عند وسطها.
وللعلماء تعليلان: بعضهم يقول: هذه السنة سببها أن فتنة الرجل أكثر ما تكون في قلبه بالوساوس والخطرات، فيقوم حيال صدره كما ورد في الحديث، والمرأة أكثر فتنتها تكون في الفرج والشهوة فيقوم عند وسطها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) فهم يقولون: إنها لفتنة المرأة في الشهوة.
وقال بعض العلماء:
إن السبب في ذلك أنه إذا قام في وسط المرأة كان أبلغ في سترها، وكأنه يسترها عن المأمومين؛ ويكون ذلك أدعى لتفرغ الناس للدعاء وبعدهم عن الفتنة؛ لأن الذي وراءه يباشر هذا الموضع لو أنه قام عند صدرها أو حيال رأسها.لكن الأولى: أن يتوقف في هذا؛ لأنه لا ينبغي تعليل الأحكام دون أن يكون هناك دليل يدل على تلك العلة صراحةً أو ضمناً، أما أن يتكلف استنباط العلل بالصورة التي ذكرناها فهذا محل نظر؛
ولذلك فالأفضل أن يقال: هذا شيء تعبدنا الله به وهو أعلم بعلته، ولا يسأل عن مثل هذه الأمور؛ لأن السؤال عنها من التكلف، وقد كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يسألون عن مسائل من هذا النوع فكان يطرد السائل في بعض الأحيان، وربما ينتهره ويعنفه إذا كان من طلابه؛ لأنها من التكلف، وهذه المسائل التي يكون فيها تكلف وتنطع قد نهي عنها.فالإنسان إذا جاءه الأمر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسعه إلا السمع والطاعة والامتثال، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فإذاً:
لا بد من التسليم، يقوم بهذه الصفة التي ذُكِرت لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، وثبت فعله عليه الصلاة والسلام لها في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لما قام حيال صدر الرجل ووسط المرأة فسئل عن ذلك فقال: إنها السنة؛ فدل ذلك على أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة]
وقوله: [ويكبر أربعاً يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة]: (ويكبر أربعاً): هذا ثابت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كبر على النجاشي أربع تكبيرات) وكان بعض العلماء يقول: هي التي داوم عليها عليه الصلاة والسلام، وما جاء من غيرها فإنما يكون في بعض الأحوال، والأفضل المداومة على الأربع؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه.
والخمس وردت عنه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض العلماء يمتنع منها؛ لأنه حافظ عليها بعض أهل البدع، فكانوا العلماء يرون أن هذا الأفضل فيه المحافظة على الأربع؛ لأن الخمس ثبتت في صور الأفراد، والزيادة إنما ثبتت في قضية شهداء أحد مع أن الصلاة عليهم نفسها خارجةٌ عن الأصل، ومن هنا قال العلماء:
إن الأفضل أن يداوم على الأربع، وهي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الغالب.وصلاة الميت ليس فيها ركوع ولا سجود، وهذا بالإجماع كما حكاه الإمام ابن حزم الظاهري رحمة الله عليه بل يقف فيها المصلي ويقوم على الصفة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى دون أن يكون هناك ركوعٌ أو سجود، لكن اختلف في سجود السهو لها في الواجبات التي سنذكرها بعد.
قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة) هذا فيه فوائد: الفائدة الأولى: أن دعاء الاستفتاح ليس بمشروع في الصلاة على الميت، فصلاة الميت يكاد يكون بالإجماع أنه لا يشرع لها دعاء الاستفتاح؛ لكن بعض المتأخرين كان يقول: يستفتح في صلاة الميت لأن أم المؤمنين عائشة تقول: كان إذا استفتح الصلاة يقول.
والصحيح أنه لا يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الميت، وإنما يقرأ مباشرةً، ويكون هذا من باب الفرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وبين صلاة الجنائز.قوله: (بعد التعوذ) لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] فالأفضل أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو لفظ سورة النحل، وأما غيره من الألفاظ الأُخر فهو سنة ولا حرج فيه، مثل: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) لكن الأفضل أن يقول الذي أُمر به في الكتاب لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
قال بعض الفضلاء: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن اهل النقل (ولفظه المختار ما في النحل) أي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.ثم بعد ذلك يقرأ الفاتحة، وللعلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة قولان: منهم من يقول: يشرع أن تقرأ سورة الفاتحة، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وطائفة من أهل الحديث،
والدليل على ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.الحديث) فإنك إذا تأملت هذا اللفظ وجدته من صيغ العموم، فقوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، والقاعدة: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.(أيما صلاةٍ) أيضاً يدل على العموم؛ لأن (أي) عند الأصوليين من صيغ العموم، فلما قال: أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فقد عمم ولم يفرق بين صلاة الجنازة ولا غيرها، فدل على أن صلاة الجنازة يجب أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
وتأكدت هذه العمومات بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى على الجنازة وجهر بالفاتحة؛ لكي يعلم الناس أنها سنة، فدل هذا على أن السنة أن يقرأ الفاتحة على الميت.وخالف في ذلك الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، وقالوا: إنه يقتصر على الدعاء، لآثار وردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة على الميت، ذكر فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء،
قالوا:
فهذا يدل على أنه لا تقرأ الفاتحة.والجواب عن ذلك: أن المرفوع مقدمٌ على الموقوف، ويحمل كلام الصحابة على أن المقصد الأسمى والأعلى في الصلاة على الميت: أن يدعى له، فذكروه وتركوا غيره للعلم به بداهة، هذا مما يعتبر به.
وأيضاً: يحتمل أنه لم يبلغهم النص بقراءة الفاتحة، وقد يخفى على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السنن ما لم يطلع عليه؛ ولذلك يُعمل بما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ويقدم على غيره.
[الصلاة الإبراهيمية في صلاة الجنازة]

قال رحمه الله: [ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد].
أي: يكبر بعد ذلك التكبيرة الثانية، ويصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية المعروفة، وقد ثبت في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن صلاة الميت يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: من فائدة ذلك أن صلاة الميت مشتملة على الدعاء والشفاعة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء مظنة الإجابة، والأحاديث في ذلك معروفة، أي: أن من أسباب قبول الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك شرعت الصلاة قبل الدعاء لما فيها من الخير العظيم؛ ولأنها سببٌ في رحمة الله للعبد، فهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فتأتيه من الله عشر صلوات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، فَيُرحم بهذه الرحمة العظيمة ويكون أرجى لقبول دعائه.
[الدعاء المأثور في صلاة الجنازة وشرحه]

قال رحمه الله: [ويدعو في الثالثة فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه عليهما، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره ونور له فيه].
هذه الجمل التي ذكرها رحمه الله تشتمل على مسألتين:
المسألة الأولى: أن السنة في التكبيرة الثالثة أن يدعو، وهذا سببه أن الصلاة إنما شرعت من أجل الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه رحمةٌ من الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث جعل للأموات حظاً عند الأحياء أن يذكروهم بصالح الدعوات.
ولا شك أنه ليس هناك مسلم إلا وهو محتاج إلى من يدعو له، ولو كان عبداً صالحاً؛ فإن الصالح يزداد من رحمة الله عز وجل، وأما غيره فأمره أشد وحاجته أعظم أن يترحم عليه ويستغفر له، فمن رحمة الله عز وجل أن شرع هذه الصلاة، ولقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشفعون له إلا شفعهم الله فيه، وما من مسلمٍ يقوم عليه مائة يسألون الله له إلا وجبت) كما في صحيح مسلم، قيل: وجبت دعوتهم أو وجبت شفاعتهم، وهذا فضلٌ عظيم، فكيف إذا قام عليها الألوف؟! ومن هنا: يستحب كثرة المصلين على الميت؛ لكثرة الدعاء وسؤال الله عز وجل رجاء الإجابة، خاصةً إذا وُجدَ فيهم من هو حافظٌ لحدود الله، فهو أرجى أن يقبل الله عز وجل دعاءه.
والسنة أن يكون عددهم كثير، فإذا نقص عددهم يُسن ألا يقلوا عن ثلاثة صفوف، فيجزؤهم الإمام ثلاثة صفوف، وفي ذلك حديث مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ثلاثة صفوف: (أنهم إذا شفعوا للميت شُفِّعوا) وكان مالك رضي الله عنه إذا استقل العدد جزأهم ثلاثة صفوف، حتى ولو كانوا ستة جعل كل اثنين صفاً، كل ذلك لفضل كثرة الصفوف على الميت.
فهذا الدعاء كلما كان من عددٍ أكبر؛ كلما كان أفضل وأرجى.وعلى هذا قالوا: إنه يختار المساجد التي هي أكثر عدداً؛ لكثرة الشفعاء وكثرة المصلين والداعين له.
وأما الأدعية التي ذكرها: فإنه نوع رحمه الله في الأدعية وأدخل بعضها في بعض، والمحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار -على رواية الشك- عذاب القبر أو عذاب النار) قال الصحابي: حتى تمنيت أن أكون ذلك الرجل.
فإن كانت امرأة يقول: أبدلها أهلاً خيراً من أهلها، ولا يقول: زوجاً خيراً من زوجها؛ لأن المرأة لزوجها في الآخرة إذا ماتت عنه وهي في عصمته، أما لو تزوجت أكثر من زوج وتوفيت فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي يكون لها أكثر من زوج لمن تكون يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هي لأحسنهم خُلقاً) ولذلك يقولون: لا يقال في المرأة: (وأبدلها زوجاً خيراً من زوجها)؛ لأنها قد تكون لزوجٍ واحد، وإنما يكون الزواج للرجال، فيقال: (أبدله أهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه) إشارة إلى الحور العين، وما جعل الله من الكرامة فيها، وهو حكم الله الذي لا يعقب.
وأما قوله:
(اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا -إلى قوله:- إنك على كل شيءٍ قدير) زيادة (إنك على كل شيء قدير) ليست واردة، الوارد إلى قوله: (إنك تعلم متقلبنا ومثوانا) وهذا فيه مناسبة الحال، وهو أيضاً دعاءٌ محفوظ.
وأما المقطع الأخير الذي ذكره رحمة الله عليه:
(اللهم افسح له في قبره ونور له فيه) فهو قطعة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه لـ أبي سلمة؛ فإنه لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وقد جاد بنفسه فسمع صوت الصائح فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصياح، وقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: هذه الساعة تؤمن الملائكة على ما يقال- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه) وذلك إشارة إلى حال السعداء إذا نزلوا القبور، وذلك أن المؤمن يفسح له في قبره مد البصر؛ لأن إفساح القبر يزيد في فُسحة الصدر، وفسحه القبر.والقبر يضيق على الكافر والمنافق حتى تختلف أضلاعه، ومن هنا كان من رحمة الله بالمؤمن أن يفسح له في القبر.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء للميت:
(افسح له في قبره) دليل على أن القبور تنفسح وتضيق، وأن هذا من عالم الغيب الذي لا يمكن للعقول أن تدرك كيفيته؛ فإنك لو نظرت إلى القبور رأيتها متجاورة، وقد يكون الكافر بجوار المسلم والمنافق بجوار الموقن، وكذلك الصالح بجوار الطالح، ولكن الله سبحانه وتعالى أعلم بما بينها من الدرجات والدركات، فكم من قبورٍ تراها في كهوفٍ مظلمة قد ملئت أنواراً ورحمةً على أهلها، وقد تكون في الفيافي والقفار الموحشة ولكن الله يؤنس أهلها بالفسحة والسرور، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه القبور.
وأما القسم الثاني فهم الذين تضيق عليهم قبورهم، فكم من قبور وهي في الضياء، والناس حولها يسرحون ويمرحون، ولكن أهلها في عذابٍ ونكد، حتى يأذن الله عز وجل ببعث الأرض ومن فيها.وأما المقطع الصحيح الذي أشرنا إليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه)، دعا له المغفرة؛ لأن الإنسان لا يأتيه الشر في آخرته ولا في دنياه إلا بذنبه؛ فإن غفر الله الذنب لم يؤاخذ العبد، وذهب عنه شؤم معصيته، وقد سميت السيئة سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا؛ فإن سلمه الله من شرها في الدنيا فإنها تسيء إليه في القبر، فإن سلم من الدنيا والقبر فإن الله قد يجعل نكالها مجموعاً عليه في الآخرة؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له) فجعلها مغفرةً قبل دخوله لقبره، وقبل معاينته لصالح عمله وطالحه، وكونه يسأل المغفرة قبل أن يدخل في قبره من الشفاعة له بألا يرى ما يسوؤه وهو قادمٌ على عمله؛ خاصةً ما يكون منه من المعاصي في أقواله وأفعاله.
قوله:
(اللهم اغفر له) فإن غُفِر للعبد أصابته الرحمة، ولذلك قال: (وارحمه) فإن الإنسان قد يغفر له ولكنه يحتاج إلى الرحمة، ثم قال: (وعافه) لأن القبور فيها فتن وأهوال وشدائد، فيحتاج الإنسان أن يعافى منها، والعافية: السلامة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) وفي الحديث الصحيح: أنه كان إذا أمسى وأصبح يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي) فهذا يدل على فضل سؤال العافية.
(وعافه واعف عنه) هذا بالنسبة للحقوق التي لله سبحانه وتعالى.(وأكرم نزله) وهذا يدل أن في القبر نزلاً، وقيل: المراد (أكرم نزله) أي: في الآخرة، وهذا إشارة إلى حال السعداء.(ووسع مدخله): أي في القبر.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(اللهم افسح له في قبره، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبرد) فيه فوائد منها: أن الماء هو الأصل في التطهير، وبناءً على ذلك قالوا: الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالحجارة؛ لأنه هو الأصل في التطهير، وفيه دليل على أن المائع هو الأصل في الإنقاء (واغسله بماء وثلجٍ وبرد).
أما حقيقة الغسل فللعلماء وجهان:
منهم من يقول: اغسله حقيقةً، فالميت يغسله الله جل وعلا على صفةٍ لا نعلمها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل.ومنهم من يقول: (اغسله بالماء والثلج والبرد) كنايةٌ عن المغفرة، فيجعل الأمر على المجاز لا على الحقيقة.والصحيح: أن (اغسله) على حقيقته، وأن حقيقة الغسل ترد إلى الله سبحانه وتعالى علام الغيوب.وأخذ بعض العلماء من قوله: (والثلج) أن الثلج يمكن أن يتوضأ به؛ وذلك أنه وصف الثلج بأنه يُغسل به؛ فدل على أنه لو أخذ الثلج ومر به على أعضاء الوضوء، وأصاب بلل الثلج الأعضاء ووجد بلله عليها فإنه قد توضأ.
وبناءً على ذلك:
لو وجد الثلج ولم يجد الماء فإنه لا يعدل إلى التيمم، وفي حكم الثلج البرد، لقوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد).والذين يقولون: إن الثلج والبرد لا يغتسل بهما ولا يتوضأ بهما، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسله بالماء) وأما الثلج والبرد فزيادة نعيم له، كما أن الكافر يعذب بزيادة الجحيم فالمؤمن ينعم بزيادة النعيم، فجعلون الثلج والبرد تبعاً للماء ولم يجعلوه أصلاً.والأصل في الرواية أنها تقصد الجمع؛ ولذلك يقوى قول من قال: إنه لو مر بالثلج على يده فقد حصلت الطهارة.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) في رواية: (ونقه من الخطايا).بعض العلماء يقول: هناك فرق بين الذنب والخطيئة، ومنهم من يقول: لا فرق بين الذنب والخطيئة، وهناك كلام فيه تكلف في هذه المسألة؛ فأحياناً تُجعل الخطايا دون الذنوب، وأحياناً الذنوب أعظم من الخطايا، وهذا في مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.والتنقية من الذنوب والخطايا فيه إشارة إلى أن من يفعل الذنب فإن الذنب يتعلق ببدنه، وهذا له أصل، وهو الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن العبد المؤمن إذا توضأ خرجت كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه من
[مصير أطفال المسلمين والمشركين]
وقوله:
[وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم].هذا الدعاء مقتبس، وليس باللفظ الوارد.
أولاً: هناك أطفال المشركين وهناك أطفال المسلمين؛ أما أطفال المسلمين فحكى طائفة من العلماء أن الإجماع على أنهم يبقون على حكم المسلمين وأنهم في الجنة، والحديث الصحيح يقوي هذا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ذكر فضل المرأة التي يموت لها ثلاثة، ثم قامت له امرأة وقالت: يا رسول الله! واثنين؟ قال: واثنين.وأن الله سبحانه وتعالى يجعلهما حجاباً لها من النار.
وسأل الرجالُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما سأله النساء: هل لهم فضل مثل ما للنساء في موت أبنائهم، وسألوه عن صغار أبنائهم، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أولئك دعاميص الجنة، لا يزال أحدهم يأخذ بأبيه حتى يدخله الجنة) أي: يقول: يا رب! أبي أبي، فيأخذ بيده ويشفع له حتى يدخله الجنة، فهذا يدل على أنه يشفع، وأنه فرط لأبيه، والفرط:
هو السابق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أنا فرطكم على الحوض) فالفرط: هو السابق؛ ففرطه على الجنة بمعنى: أنه يسبق أباه إلى الجنة.وأما أطفال الكفار ففيهم خلاف مشهور: فمن العلماء من قال: إنهم في النار، وهذا من أضعف الأقوال، قالوا لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، فمآله إلى دين أبيه).أطفال الكفار لهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يكونوا دون البلوغ وهم أحياء، فهؤلاء حكمهم حكم آبائهم، فأنت لو دخلت بلاد كفار وعندهم أطفال، فالأصل في هذا الطفل أنه يعامل معاملة أبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يهودانه أو يمجسانه) والعلماء يقولون: هذا من باب التقدير، وقد أشار إلى هذه القاعدة العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" قال: التقدير يكون بتقدير المعدوم مكان الموجود، وينزل منزلة الموجود، والموجود مكان المعدوم، وهذا له نظائر.فتقدير المعدوم مكان الموجود من أمثلته أطفال الكفار، فإنهم في الحقيقة لم يكفروا؛ فقُدّر المعدوم فيهم وهو الكفر ونزّل منزلة الموجود، فهذا من تقدير المعدومات؛ لأن أطفال الكفار لا بد فيهم من حكم؛ ولذلك حكم سعد رضي الله عنه في أولاد يهود بني قريظة أن تسبى ذراريهم، فجعل السبي على الذراري؛ وذلك بإلحاق الأطفال بآبائهم، وهذا من حكم الشريعة؛ لأنه لابد للشريعة أن يكون لها حكم للصغير والكبير.
فلو أن صبياً أبواه كافران فجئت به لكي يصلي معك: هل تصح صلاته أم لا؟ إن قلت: إنه على الأصل والفطرة، فقد صح أن يصلي معك وانعقدت صلاته، ولكن إذا كان على الكفر ولم يعلم الإسلام ولم يشهد؛ فإننا نقول: إنه على الأصل وآخذ حكم والديه.وهكذا في الجزية وأحكامها، فكلها مسائل تتفرع على الحكم بأنهم تبعٌ لآبائهم؛ للنص الذي يقول: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ولما حكم سعد رضي الله عنه في ذراري اليهود أن يسبوا، وعاملهم معاملة آبائهم الذين كانوا على الكفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات) فقُدّر المعدوم -وهو الكفر- بمنزلة الموجود.
ومن تقدير المعدوم بمنزلة الموجود: إذا نام المؤمن فإنه ليس في حالة إيمان؛ لأنه ليس معه عقل ولا معه إدراك، فتقول: يقدر المعدوم موجوداً ونحكم بكونه مؤمناً، وهكذا لو كان مؤمناً ثم جنّ فإننا نقول: إنه مؤمن؛ استصحاباً للأصل، فقدر المعدوم بمنزلة الموجود، وهكذا في أطفال الكفار قدّر المعدوم موجوداً، وهكذا أطفال المسلمين يقدر المعدوم -وهو الإسلام- موجوداً بالتبعية.فعلى القول بأنهم كفار لا إشكال أنه لا يصلى عليهم، ولا يأخذون الأحكام الشرعية، وحكمهم حكم آبائهم إذا ماتوا.
القول الثاني:
أنهم على الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة) وهذا القول من القوة بمكان، فالأصل فيهم الإسلام من حيث الحكم في الآخرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب بدون أن يكون هناك عمل من العامل يقتضي تعذيبه كما دلت النصوص من الكتاب والسنة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: حتى تقام الحجة، فالأصل في هذا الولد أنه على الإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولودٍ يولد على الفطرة) فجعل قوله: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) بعد عقله وإدراكه، ومن هنا يقولون: إن الأصل فيه الإسلام.
وهناك قولٌ ثالث: أنهم خدم المؤمنين في الجنة.وهناك: من توقف فيهم فقال: لا يحكم لهم بإسلامٍ ولا كفر، ولكل هذه الأقوال وجه، فكما ترون كلٌ منهم يتمسك بأصلٍ يدلّ على قوله.
فإذا قلنا: إن أطفال الكفار مسلمون؛ فحينئذٍ لو أُسقط أو توفي وهو صغير فإنه يصلى ويعامل معاملة المسلم، وهكذا لو أن نصرانيةً توفيت وفي بطنها جنين، فإنه يجعل وجهها لغير القبلة وظهرها إلى القبلة؛ لأن الجنين يكون وجهه إلى ظهره أمه، فتحول أمه عن القبلة ليتوجه إليها هو، فينزل بمنزلة الأصل ويعامل بهذه المعاملة.
قال بعض العلماء:
إن أطفال الكفار الله أعلم بما يكون منهم من الخير والشر، واحتجوا لذلك بما ثبت بظاهر القرآن، وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] فأخبر سبحانه وتعالى أن مآله سيكون إلى الأذية والضرر والكفر والبغي، ومن هنا قالوا: إنه لا يمتنع أن يكون حاله إلى خيرٍ أو شر، وعلى ذلك قرروا أن يتوقف في الحكم عليه لاحتمال أن يكون شقياً أو سعيداً.والصحيح: أن الطفل لا بد من الحكم عليه إما بخيرٍ أو شر، أو الحكم عليه بإيمانٍ أو كفر؛ لأن النص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث عبد الله بن مسعود: (أنه يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات)، وهذا دليل على أنه لا يخرج مولود من بطن أمه بعد نفخ الروح فيه إلا وقد كتبه سعيداً أو شقياً، وبناءً على ذلك: كونه يموت قبل البلوغ لا يمنع من الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء؛ لأن الله أعلم بما يكون إليه أمره من سعادةٍ أو شقاء.
وجعل بعض العلماء الصغار في حكم الممتحنين، وإن كان الأصل في ذلك أنه لأهل الفترة ومن في حكمهم كالمجانين والذين لم تبلغهم الدعوة، فإن الله يمتحنهم، والامتحان كما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إنهم يحتجون على الله عز وجل، فيأمر الله عز وجل بعنق من نار، ويقول لهم: ادخلوه.
فمن دخل الموضع -وهو العنق من النار- قلبه الله عليه جنة ونعيماً، ومن امتنع وتلكأ يقول الله تعالى له: ها قد عصيتم، كيف لو جاءتكم رسلي؟! فترسل عليهم النار فيعذبون بها) فالله أعلم بما يكون من مآلهم.
الوقوف قليلاً بعد التكبيرة الرابعة ثم التسليم
وقوله: [ويقف بعد الرابعة قليلاً].
أي: بعد التكبيرة الرابعة يقف قليلاً، وهي السنة، وقال بعض العلماء: كان بعض الصحابة يفهم من هذا أن وقوفه عليه الصلاة والسلام قليلاً بعد الرابعة لأجل أن يسمع التكبير منه عليه الصلاة والسلام، ولكي إذا انتهوا من التكبير سلّم صلوات الله وسلامه عليه، وهي التكبيرة الأخيرة، ومن هنا قالوا بعدم الدعاء بعدها.
وقوله: [ويسلم واحدة عن يمينه].وهي السنة: أن يسلم ويخرج الإنسان من الصلاة بالتسليمة الأولى، وقد ذكرنا أحكام التسليم في الصلاة مبسوطاً.
وقوله:
[ويرفع يديه مع كل تكبيرةٍ].
في هذه المسألة قولان للعلماء: منهم من يقول: يرفع يديه في جميع التكبيرات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.ومنهم من يقول: إنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع.
والأقوى:
أنه لا يرفع؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أنه رفع يديه بالتكبير على الجنازة؛ ولكن لو رفع الإنسان تأسياً بـ ابن عمر، أو قوي عنده أن ابن عمر وهو المعروف بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته فرفع يديه؛ لأنه يعتقد أن ابن عمر لا يفعلها في الغالب إلا وله أصل، فلا حرج عليه في ذلك، فلا ينكر على من رفع ولا ينكر على من لم يرفع، وكلٌ على سنةٍ وخير.
الأسئلة
[حكم صلاة النساء على الجنازة]
q إذا أراد نساء من أهل الميت أن يصلين على ميتهن قبل خروجه إلى المصلى، فهل يجوز ذلك؟

a لا حرج في صلاتهن على الميت إذا كُنّ في الدار، ولكنه لم يجر عليه فعل السلف، والأولى تركه، أما من حيث الأصل من جواز صلاة النساء والرجال على الجنازة فلا حرج فيه والله تعالى أعلم.

[مكان وقوف الإمام للصلاة على الطفل]
q أين يقف الإمام بالنسبة للطفل؟

a بالنسبة للطفل قالوا: له حكم الرجل إذا كان ذكراً، وحكم الأنثى إن كانت طفلة، ولكن المعروف أن الأطفال فيهم من ضيق الحجم ما ليس في الكبار؛ ولذلك أمرهم أوسع من أمر الكبار.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 30-05-2022, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (170)

صـــــ(1) إلى صــ(9)

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [2]

الصلاة على الجنائز فرض كفاية، ولها أركان، وتتعلق بها مستحبات وأحكام، وللعلماء رحمهم الله خلاف في الصلاة على الغائب، والصلاة على القبر، وكذا في الصلاة على أصحاب الكبائر.وفي هذه المادة ذكر الشيخ ما يتعلق بذلك مدعماً بالأدلة، مرجحاً للصحيح من الأقوال.
[واجبات صلاة الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
قوله رحمه الله: [وواجباتها: قيامٌ وتكبيرات أربع].(قيامٌ مع القدرة وتكبيرات أربع): أما القيام فلأصل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (صلِّ قائماً) فالأصل: أن يصلي الإنسان قائماً.
وقال بعض العلماء: صلاة الجنازة من النوافل؛ ولذلك لو صلى الإنسان فإنه يصلي نافلة، فيجوز له أن يصلي وهو قاعد، وهذا القول لم يخل من نظر؛ لأننا قلنا إن ظاهر قوله: (صلوا على صاحبكم) يقتضي الوجوب، لأنه أمر، والأمر يدل على الوجوب ما لم يصرفه الصارف، ولا صارف.
وقوله:
[وتكبيرات أربع]: وهي واجبة، فإذا ترك التكبيرات الأربع لم تصح صلاته إذا تركها عمداً، وإذا نسي ومن عادته أن يكبر أربعاً فكبر ثلاثاً ونسي الرابعة وسلم، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يبادر بسجود السهو، ومنهم من يقول: صلاة الجنازة لا سهو فيها، أي: لا يسجد فيها لسجود السهو.
وقوله:
[والفاتحة]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وقوله: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم]: أي: إعمالاً للأصل في الصلاة، وقد تكلمنا على مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والتشهد، وبينا هناك أرجح الأقوال من العلماء.
[الدعاء للميت من واجبات صلاة الجنازة]
وقوله:
[ودعوة للميت].هذا مذهب من يقول بالتنويع في الدعاء، لأن المقصود من الصلاة عليه الدعاء؛ ولذلك إذا وجبت الصلاة وجب الدعاء؛ لأنه المقصود من الصلاة وهو المعتبر، وعلى هذا قالوا: يجب أن يدعو للميت.
والذين يقولون بعدم وجوب الفاتحة يقولون: إنه يدعو أقل الدعاء، يعني يدعو بأقل ما يسمى دعاءً، فلو قال: اللهم اغفر له، وكبر وسلم؛ صح، ولو قال: اللهم ارحمه، وكبر وسلم؛ صح، ولكن ينبغي أن يجتهد في الدعاء؛ لأن السنة أن يدعو ويجتهد، وأن يكون الدعاء مصحوباً بالإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى على الميت أن يخلص في الدعاء.
ومن الأسباب التي تعين على الإخلاص في الدعاء للميت: تنزيل الإنسان نفسه منزلة الميت، وكذلك رؤية حال الميت وما هو عليه من الإقبال على الآخرة وافتقاره؛ فإن هذا يعين الإنسان على الشفقة عليه والرحمة به.
ومما يعين: تذكرك أن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسن بإحسان، فكما أخلصت الدعاء لأخيك في هذه الحالة فإن الله سيقيض لك من يخلص لك الدعاء إذا ما مت غداً.إذا علمت أنك إن أخلصت لأخيك المسلم في الدعاء فإن الله سيسخر لك من يخلص لك في الدعاء، فإن ذلك أدعى أن تدعو له، وهذه من الأمور التي تعين على الإخلاص في الدعاء وكثرة الدعاء لموتى المسلمين والترحم عليهم، وذلك أن الإنسان إذا تذكر أنه سيئول إلى مآلهم، وأن الله سيجزيه ويشكر له إحسانه، ويقيض له من يدعو له ويستغفر له ويترحم عليه كما ترحم على أموات المسلمين؛ فإن هذا يدعو إلى كثرة الترحم عليهم والدعاء لهم سواء في الصلاة عليهم أو في غيرها.ولذلك ينبغي على الإنسان ألا ينسى هذا الفضل، وهو أنه يقيض له من يفعل به مثل ما فعل بإخوانه؛ لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فهو يجزيك في الدنيا والآخرة، فإنك إن أحسنت لإخوانك المسلمين بدعائك لهم حياً سيحسن الله لك بإحسان إخوانك إليك -أيضاً- في حال موتك.
والعكس بالعكس:
فإذا أصبحت صلاة الموتى شيئاً يغفل الإنسان عن معناه وعن مقصوده، ويدعو وهو غافل ساه لاهٍ؛ فإنه أحرى إذا صُلي عليه أن يصرف الله القلوب فلا تخلص له في الدعاء، فمثلما كان يقف على إخوانه المسلمين خاوي القلب ساهياً لاهياً يفكر في أمور الدنيا بعيداً عن الترحم عليهم والشفقة عليهم، والنظر إلى حالهم وهم في هذه الحالة أفقر ما يكونون إلى دعوة صالحة منه؛ فإن الله يقيض له أن يفعل به مثلما فعل بإخوانه، فإن الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على قدر ما يكون منه من العمل.
وينبغي للإنسان إذا مر على القبور أن يخلص في الدعاء لأهلها، وإذا ذكر أموات المسلمين خاصةً العلماء، فلا يقل: قال العلماء فقط، وإنما يقول: قال أهل العلم رحمهم الله.
وإذا ذكر ميتاً من أهل العلم قال: قال العالم فلان رحمه الله.تصور إذا قلت: قال الحنفية رحمهم الله أو المالكية رحمهم الله أو الشافعية رحمهم الله، أو قلت: قال أهل الحديث رحمهم الله، أو أهل العلم رحمهم الله؛ يكون في ميزان حسناتك ملايين الحسنات؛ لأنك تترحم على أمم لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى.
فكيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تقول: رب اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، كيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تذكر أموات المسلمين وأحياءهم بالرحمة، كم لك من الأجور! وكم من الرحمات ستغشاك إما عاجلاً أو آجلاً! ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الله) فهذا من رحمة المسلم بأخيه المسلم، وأما الغفلة عن حقوق الأموات والدعاء لهم والترحم عليهم فسيبتلى صاحبها بمثلها، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل.
وقوله:
[والسلام].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فالتسليم منها واجب للخروج منها، أي: الخروج من حرمتها، فيسلم تسليمةً واحدة يخرج منها.
[حكم من فاته شيء من التكبيرات]
وقوله: [ومن فاته شيءٌ من التكبير قضاه على صفته].
هذه المسألة تأتي على صورتين:
إما أن تكون الجنازة موجودة، وإما أن تحمل مباشرة وترفع؛ فإن كانت الجنازة باقية قضيت ما فاتك من الدعاء والأذكار، وللعلماء وجهان: بعضهم يقول: إذا دخلت في صلاة الجنازة تبدأ بصلاتك مرتبة.
وبناءً على هذا القول:
لو دخلت والإمام يدعو فإنك تقرأ الفاتحة، وكذلك لو دخلت وهو في التكبيرة الثانية أو وهو يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فإنك تقرأ الفاتحة، فحينئذٍ يرون أنه يعتد بصلاته مبتدئاً، بحيث إذا صار في آخر الصلاة صار إلى الدعاء.
ومنهم من يقول:
يدخل مع الإمام حيث كان، وهو أقوى، وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو دخلت في صلاة ما فأدركت الركعة الأخيرة أو الركعتين الأخيرتين من الظهر فصليت وراء الإمام، فهل تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؟ لأن السنة في صلاة الظهر أن تقرأ بعد الفاتحة سورة أما في صلاة العصر فلم يرد نص، وإن كان بعض الفقهاء قال: تقرأ سورة بعد الفاتحة، لكن الأفضل التأسي بقراءة الفاتحة وحدها.
وهل العبرة بك أم بالإمام؟ فإن قلنا: العبرة بك، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؛ لأنها أول صلاتك، فإذا جلست للتشهد فإنك تتشهد التشهد الأول والإمام يتشهد التشهد الأخير، ولا تزيد في تشهدك على الصفة الواردة في التشهد الأول.
والقول الثاني وهو الأقوى والأصح: أنك تعتد بحالتك كحالة الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ويتفرع على هذا العمل في الأفعال كما في الأقوال، فلو أنك دخلت وراء الإمام -مثلاً- في صلاة المغرب، وهو في التشهد الأول، فقام إلى الركعة الثالثة، فعند ذلك سيرفع يديه -لأنه سيقوم إلى الثالثة- فهل ترفع يديك أم لا؟ قالوا: لا ترفع يديك إذا كنت تعتد بحالك، وترفع يديك إذا كنت تابعاً للإمام، وهو الأقوى والأصح، أنك إذا كنت وراء الإمام فعليك أن تعتد بحاله، لقوله: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) قولاً وفعلاً، فعلى هذا القول تقرأ التشهد كاملاً، وتدعو وتستغفر كأنك في آخر الصلاة، حتى إذا ما سلم قمت لتتم ما فاتك من الصلاة، فأنت وراءه في ركنه متابعةً، وأنت منفردٌ مستقل إذا سلم الإمام وانفصلت عنه.
أما بالنسبة لمن فاتته تكبيرة الجنائز: فإذا فاتتك التكبيرة على الجنازة فتنظر: إذا كانت الجنازة تترك قليلاً قضيت ما فاتك فتدعو وتترحم على الميت، وأما إذا رفعت مباشرة فعليك أن توالي بين التكبير ولا تدعو، فلو فاتتك تكبيرتان وقال الإمام: السلام عليكم، فقل حينئذٍ: (الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم).فهذا يعتبر من التأسي بالنسبة لحال الصفة في الصلاة، فإن الصلاة لا تصلى إلا على الجنازة الحاضرة ولا يصلى عليها قبل حضورها، فكما أنك لا تصلي على الجنازة قبل أن توضع، فلا تصلي عليها بعد أن ترفع.
ومن هنا فالجماهير على أنك لا تقول الأذكار إذا رفعت مباشرة، وفرق بعض العلماء بين أن ترفع وتبقى تجاهك، وبين أن ترفع وتتوارى عنك، وهذا التفريق ذكره القرافي رحمه الله في "الفروق"، وفي "الذخيرة" وغيره من العلماء رحمة الله عليهم، لكن لا أحفظ له دليلاً؛ لكن كأنه يرى أنك إذا كنت ترى الجنازة أمامك ولو كانت خارجة كأنها أمامك، ولكن القول لا يخلو من نظر، ولكن الأقوى أنها إذا رفعت أنه لا يصلى عليها، كما أنها قبل أن توضع لا يصلى عليها والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت]

يقول المصنف رحمة الله:
[ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر].
بعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الصلاة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرع رحمه الله في بيان حكم من فاتته الصلاة على الميت في المسجد، فقال رحمه الله: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر).وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل يشرع له ذلك أو لا يشرع؟ ولها نظائر، منها: لو كان الإنسان مسافراً، ثم قدم بعد وفاة قريب له أو إنسان يعرفه، وأحب أن يصلي عليه بعد دفنه، فهل يشرع ذلك أو لا يشرع؟ للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يشرع لمن فاتته الصلاة على الميت أن يصلي على قبره.وهذا القول يقول به فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي وعبد الله بن عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع.
القول الثاني: لا تشرع الصلاة على القبر، وإنما تختص الصلاة بالصفة المعهودة التي تكون قبل دفن الميت، ولا يشرع لأحدٍ أن يصليها على أحدٍ بعد قبره إلا في حالة ما إذا لم يصل عليه، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع.
فتحصل معنا أن العلماء -رحمهم الله- ينقسمون إلى طائفتين: طائفةٌ تجيز الصلاة، وطائفة تمنع، ومن الذين يمنعون من يستثني حالة ما إذا لم يصل على الميت، فيجيز الصلاة على الميت إذا لم يصل عليه.وبناءً على ذلك يكون محل الخلاف إذا صُليّ عليه قبل دفنه، أما إذا لم يصل عليه قبل دفنه فكلهم يقولون بجواز الصلاة عليه بعد قبره.أما بالنسبة للأدلة فقد استدل الذين قالوا بجواز الصلاة على الميت بعد دفنه، بحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد -تنظفه وتكنسه- فإنها توفيت في الليل، ولم يُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، ثم إنه افتقدها صلوات الله وسلامه عليه، فسأل عنها رضي الله عنها، وكانت تسمى أم محجن، ثم إنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام أنها توفيت، وأنهم صلوا عليها بالليل، قال: هلا آذنتموني؟! ثم انطلق إلى قبرها وقال: دلوني على قبرها، فدلّ صلوات الله وسلامه عليه على قبرها، فقام على قبرها وصلى.في هذا الحديث دليل على مشروعية الصلاة على الميت بعد دفنه، فأصحاب هذا القول يقولون: لو كانت الصلاة على الميت بعد دفنه ممنوعة لما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا كذلك بحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد، وذلك أنه قدم المدينة بعد وفاتها فقام على قبرها وصلى عليها رضي الله عنها وأرضاها، قالوا: فبهذه النصوص يتبين أنه يشرع أن يصلى على الميت بعد دفنه.
وهناك حديث ثالث أشار إليه البخاري رحمه الله، وهو حديث عبد الله بن عباس، وقد قيل إنه في الأصل حديث طلحة بن البراء رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان بقباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زاره وهو مريض، فقال لأهله: (ما أظن طلحة إلا قد نزل به الموت، فإذا مات فآذنوني) يعني: أعلموني- فلما ذهب عليه الصلاة والسلام قال طلحة رضي الله عنه لأهله: إذا أنا متّ فلا تؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخاف عليه اليهود أن يمسوه بسوءٍ، ففعل أهله ما أمرهم به، فلم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخبِر صلوات الله وسلامه عليه بعد دفنه، فذهب إلى قبره فقام عليه ودعا، حتى جاء في دعائه: (اللهم الق طلحة، تضحك إليه ويضحك إليك).
فحمل بعض العلماء حديث ابن عباس في الصحيح:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى على قبرٍ بعدما دفن) وفي روايةٍ: (على قبرٍ منبوت) -وهي الرواية المرسلة التي أشار إليها البخاري في صحيحه- على قصة طلحة، وقالوا: إن هذا يدل على مشروعية الصلاة على الميت بعد قبره، وبمجموع هذه الأحاديث يقول هؤلاء العلماء رحمةُ الله عليهم:
إنه لا حرج إذا جئت بعد الصلاة على الميت أن تقوم على قبره وتصلي عليه.وذهب الحنفية والمالكية إلى عدم مشروعية الصلاة على القبر، وأن من خصوصياته عليه الصلاة والسلام: أن يصلي على الميت على قبره بعد دفنه إذا صُليّ عليه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) قالوا:
فهذا نص من لفظه عليه الصلاة والسلام يفسر ما كان من فعله، ويدل دلالة واضحة على معنى الخصوصية؛ قالوا:
ولذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم هذا إلا في أحوالٍ مخصوصة، فصلى على أم سعد، تطييباً لخاطر سعد وذلك لمكان سعد وعظيم بلائه في الإسلام، كما صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي سلول تطييباً لخاطر ابنه عبد الله، وكما فعل في المرأة التي كانت تقم المسجد، ومع هذا قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم).
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم له خصوصية الصلاة، فكانت إعادة الصلاة منه عليه الصلاة والسلام لمعنىً يختص به، لا يشاركه فيه غيره من الصحابة، وقالوا: إن ما سبق في الحديث يؤكد هذه الخصوصية.ولكلا القولين وجهه، وإن كان التعليل الذي ذكره أصحاب القول الثاني من القوة بمكان، خاصةً وأنه لم يقع إلا في الأفراد، وهذا من كلامه عليه الصلاة والسلام الذي يدل دلالة واضحة على التخصيص؛ فإن قوله: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) نصٌ صحيح وصريح، والعلة إذا جاءت منصوصة من كلامه لا بد من اعتبارها.
ومن الأدلة التي تقوي القول الذي يقول بمنع الصلاة عليه:
عموم النهي عن الصلاة في المقبرة، فإن الأصل عدم الصلاة في المقبرة، وذلك يشمل مطلق الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما فرق بين صلاةٍ وأخرى، ولذلك قالوا: لو فتح هذا الباب لاسترسل الناس، وأصبح كلما فاتت الصلاة على إنسان جاء ووقف على القبر وصلى، مع أن الشرع قد أعطى البديل عن ذلك، بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار له.
قالوا:
فلما وجد البديل الذي لا شبهة فيه؛ فإنه يبقى على الأصل الذي يقتضي حظر الصلاة في داخل المقابر، خاصةً وأن السنة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة في المقبرة وفي الحمام.
وإذا قلنا:
إنه يشرع أن يصلى على الميت بعد قبره، فما هو الأمد الذي يشرع للإنسان أن يصلي في حدوده، فإذا جاوزه لم يجز له أن يصلي على الميت؟ للعلماء أقوالٌ في هذه المسألة: القول الأول:
أنه إلى ثلاثة أيام، وهو وجهٌ يختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله كما درج عليه الخراسانيون من أصحابه، وعليه الفتوى عندهم.
والقول الثاني: أنه إلى شهر؛ وذلك على ظاهر حديث أم سعد رضي الله عنها، أنه صلى عليها بعد شهر.
والقول الثالث:
ما لم يتغير، فيشرع أن يصلى على الميت ما دام يغلب على الظن أنه لم يتغير وأنه باق، وهذا مبني على النظر؛ لأن الصلاة شرعت على الميت، فإذا كان موجوداً صُلّيَ عليه، وإن كان متحللاً.قد فني فإنه لا يصلى عليه كمن أكله السبع.
والوجه الرابع: أنه إلى الأبد، وهذا من أضعف الأقوال عند العلماء رحمة الله عليهم.
[حكم الصلاة على الغائب]
قال المصنف رحمه الله:
[وعلى غائب بالنية إلى شهر].
(وعلى غائبٍ) أي: يشرع أن يصلى على الميت الغائب، والميت الغائب: هو الذي يتوفى في بلدٍ غير بلده، وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يشرع لك أن تصلي عليه صلاة الغائب أو لا يشرع؟ وهذه المسألة من المسائل القديمة، والخلاف فيها مشهور، فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: لا تشرع الصلاة على الميت الغائب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
والقول الثاني:
تشرع الصلاة على الميت الغائب، وبه يقول بعض أصحاب الإمام الشافعي وهو مذهب الحنابلة.ومن أهل العلم من توسط بين القولين، فقال: إذا كان الميت الغائب قد مات في بلدٍ لم يصل عليه فيها، كأن يموت في بلد كفار، أو كان ممن له بلاءٌ في الإسلام كالعالم العظيم الأثر، والوالي الذي عُرفَ بصلاحه وبلائه للمسلمين، فإنه يُشرع أن يُصلى عليه صلاة الغائب، وأما من عدا ذلك من أفراد الناس وآحادهم فلا يشرع أن يصلى عليهم صلاة الغائب.
أما الذين قالوا بالجواز فاحتجوا بما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(أنه نعى النجاشي - أصحمة - رضي الله عنه وأرضاه يوم توفي، وقال: توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم خرج صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه وصفهم، ثم كبر وصلى عليه).
قالوا: فهذه صلاةٌ على ميت غائب، لأن النجاشي توفي بالحبشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فدل هذا على مشروعية الصلاة على الميت الغائب.
والذين قالوا بالمنع قالوا:
إن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً على العموم، وهذا أصل اعتبره العلماء رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم خلاف في تطبيق القاعدة.
وقضايا الأعيان: هي الصور التي ورد الشرع بآحادها، وفُهم من الشرع قصده لهذه الآحاد، فلذلك يقولون: قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.وضابط هذه القاعدة: أن يكون الأصل على خلاف ما ورد به النص، فالأصل عندنا: أن الميت لا يصلى عليه إلا بحضوره، ولذلك لو غسل وكفن ولم يشهد في المسجد لم يشرع لك أن تصلي عليه، فهكذا إذا كان غائباً، قالوا: لا يصلى على ميت قبل حضوره وشهود الإنسان للصلاة عليه، وبناءً على ذلك قالوا: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أصحمة يعتبر خاصاً به.
فمنهم من يقول: إنه خاص؛ لأن النجاشي كان ببلدٍ ليس فيه مسلمون، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليه، وكانت صلاته بمثابة العوض عن المسلمين الذين يصلون على الميت حال حضوره.
ومنهم من يقول: إنه تخصيص لفضل هذا الرجل، وعظيم بلائه في الإسلام، ولا شك أنه رضي الله عنه وأرضاه وقف مع المسلمين موقفاً عظيماً حتى ضحى بولايته في سبيل نجاة المسلمين، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا بالحبشة، ولذلك شُرّف بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وثنائه عليه، حتى قال: (توفي اليوم عبدٌ صالح) وهذه تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، ويعتبر من الصحابة على مذهب من يقول: إنه لا تشترط الرؤية؛ فإنه آمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر صحابياً من هذا الوجه، ومنهم من يقول: إنه كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوصف بكونه صاحباً مع كونه مؤمناً به، فيلغزون به ويعنون به النجاشي رضي الله عنه وأرضاه.
أما القول الثالث فقال أصحابه:
الأصل أن لا يصلى على الغائب، فلما جاءت واقعة النجاشي نظرنا فيها، فوجدنا أن النجاشي فيه معان: إما أنه عظيم البلاء في الإسلام؛ فيلحق به كل من كان مثله، فتكون مشروعية الصلاة على أمثال هؤلاء ليقتدى بهم في الخير، فإذا كان عالماً فإن ذلك يدعو غيره من العلماء أن يبلوا كبلائه، وهو من باب الوفاء له لما قدم من جميل الإحسان للمسلمين، وهكذا إذا كان والياً وكان له بلاءٌ على المسلمين؛ فإنه يشحذ همة غيره من الولاة أن يسيروا بسيرته وأن يقتفوا بأثره، وهكذا إذا كان مجاهداً.
فقالوا: إن أصحمة النجاشي كان ممن له فضل على المسلمين؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الغائب لكي يرفع من منزلته؛ ويجل شأنه لما كان منه من نصرة الإسلام والمسلمين، فحفظ له هذا الفضل والجميل، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه صلاة الغائب.
ومن أهل العلم من قال: تشرع الصلاة على الميت الغائب إذا أمر بها ولي الأمر، وإذا لم يأمر بها فإنه لا يفعلها الأفراد، وهذا على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا عليه، فدل على أنهم إذا أُمِروا فإنه يشرع أن يصلى على الميت الغائب، ولا يشرع لآحاد الناس وكل من هب ودب أن يقوم ويصلي على الميت الغائب، هذا عند أصحاب هذا القول.وفي الحقيقة أن هذا التفصيل من القوة بمكان، فيقال: من كان عظيم البلاء في الإسلام صُلِّي عليه، أو إذا أمر ولي الأمر فيصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة فصلوا.
أما أن يقال: بجواز الصلاة على كل ميتٍ غائب، وكل من مات له قريب في بلد يصلي عليه، فهذا محل نظر، ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي أصحابٌ له في المدينة، وهو في غزواته وأسفاره، ومع ذلك ما صلى على واحد منهم صلاة الغائب، وبذلك يقوى القول: أن في النجاشي خصوصية من جهة المُصلي ومن جهة الأمر بالصلاة عليه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه، أو له فضل أو له مزية؛ فإنه حينئذٍ يشرع أن يصلى عليه صلاة الغائب، وأما أن يصلى على كل غائب فهذا مرجوحٌ من جهة النظر في الأدلة.
قال المصنف رحمه الله: [بالنية إلى شهرٍ].
قوله:
(بالنية إلى شهر)، أي: لأن الميت الغائب ليس بحاضر، وشرط ذلك أن يكون في بلدٍ غير بلد المصلي، أما لو كان معك في نفس المدينة فإنه يشرع أن يذهب الإنسان إلى مسجده، ويُصلى عليه في مسجده الذي يصلى عليه، أما لو صلى أهل حيّ على ميتٍ في بلدهم ينوون به صلاة الغائب فإن ذلك غير مشروع.
[حكم الصلاة على الغال]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يصلي الإمام على الغال].
(الإمام) يطلق بمعنيين: إما أن يقصد به الإمامة الكبرى، وهي: أن ولي أمر المسلمين لا يصلي على الغال.
والغال: هو الذي غلّ من الغنيمة.
والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ويكون أشبه بالسرقة، فيسرق من الغنيمة ويأخذ منها قبل قسمتها، وهذا هو الذي توعده الله، فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] فأخبر أنه يفضح على رءوس الأشهاد يوم القيامة.وأجمع العلماء على أن الغلول من الغنيمة من كبائر الذنوب التي توجب فسق صاحبها وسقوط عدالته ورد شهادته، وتوجب تعزير صاحبه، فلا يصلي الإمام العام عليه.
والمعنى الثاني للإمام:
الإمام الخاص، وهي التي يسميها العلماء الإمامة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، ولا شك أن الإمام الراتب وإمام الحي ينزل منزلة الإمام العام، فإذا توفي في الحي من عُرف بفسقه وفجوره، وفيه هذا المعنى الذي هو الغلول أو ما هو مثله من المعاصي الكبيرة، فإنه لا يشرع أن يصلى عليه أهل الفضل كالعلماء ونحوهم ممن لهم فضل؛ زجراً للناس أن يكونوا على حالتهم.
أما الدليل على عدم الصلاة على الغال فما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام:
(أنه أتي برجل ليصلى عليه، فامتنع عليه الصلاة والسلام وقال: صلوا على صاحبكم! فتغيرت وجوه القوم، فقال: إنه غلّ، ففتش رحله فوجدت فيه خرزات من خرز اليهود) وهذا يوم خيبر، وكانت الخرز لا تساوي درهمين، فحُرِم بسببها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ودعاؤه واستغفاره له.
وقال بعض العلماء:
كل من اقترف الكبائر، وكان في حكم الفساق فإنه لا يصلي عليه الإمام، وعليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله إلحاقاً له بمن غل في الغنيمة، قالوا: لأن المعنى واحد، وإن كان الأقوى أنه يصلى عليه إعمالاً للأصل، ويستثنى من ورد النص باستثنائه وهو من غل من الغنيمة ومن قتل نفسه.
[حكم الصلاة على قاتل نفسه]
قال المصنف رحمه الله: [ولا على قاتل نفسه].
أي: ولا يصلى على من قتل نفسه، وهو المنتحر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (أنه أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فامتنع من الصلاة عليه، فصلى عليه الصحابة) وفي هذا دليل على أنه يترك ليصلي عليه الناس، أما الإمام -الذي هو إمام المسجد أو الإمام العام- فإنه لا يصلي عليه؛ زجراً للناس عن فعله.والقاتل لنفسه ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعذب بما قتل به نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري-: (من تحسى سماً فمات منه؛ فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها، ومن طعن نفسه بحديدة فمات فهو يجأها في نار جنهم خالداً مخلداً فيها، ومن صعد إلى شاهق فتردى منه فمات، فهو في نار جنهم يتردى خالداً مخلداً فيها) نسأل الله السلامة والعافية.
والخلود هنا للمستحل الذي استحل هذا الفعل، ولا شك أن الإقدام على الانتحار إنما يكون لضعف الإيمان، ولذلك ينبغي للمسلم أن يسعى في زيادة إيمانه، وأن يعود نفسه كلما ضاقت عليه الدنيا أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن كثرة الضيق وكثرة الهموم والغموم توجب على المؤمن التسلح بالتعلق بالله عز وجل أضعاف ما نزل به من البلاء، وكلما كان التجاء العبد إلى الله أصدق، ويقينه بالله سبحانه وتعالى أكمل؛ كلما كان الفرج أقرب إليه من حبل الوريد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118] فلما بلغ الأمر مبلغه، ووصلوا إلى قوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118]، جاء الفرج عند قوة اليقين أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفر ولا مهرب من الله إلا إلى الله؛ فإن بلغ العبد هذا المبلغ فقد نعمت عينه في البلاء، وهذا هو مقام اليقين في حال الكرب.
فإن الإنسان تنتابه الهموم في نفسه وأهله وماله وولده، فإذا اطرح بين يدي الله عز وجل داعياً ضارعاً شاكياً مبتهلاً متضرعاً متخشعاً فإن الله يحب منه ذلك، ولعل الله أن يجعل هذا الابتهال والتضرع سبباً في زيادة قربه منه؛ لأنه كلما ابتهل وتضرع لله سبحانه وتعالى وصدق في يقينه كلما زاد قربه من الله، وكم من إنسان نزلت به المصيبة فكانت سبباً في قربه من الله جل وعلا، وهذا الذي يسميه العلماء: تحول النقمة إلى نعمة، أي: أنها نقمة في الظاهر لكنها آلت إلى نعمة في الباطن.فينبغي على المؤمن ألا يقدم على هذه النهاية التي هي أسوء النهايات، وهي من علامات سوء الخاتمة، والله عز وجل جعل النفس أمانةً في عنق كل الإنسان، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
يقول بعض العلماء: إن الله قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ثم قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} كأنه يقول: أبشروا، مهما أصابكم من الهم والغم فإني رحيمٌ بكم، ولا يحتاج الإنسان لتفريج همه وإزالة غمه أن يقدم على تعذيب نفسه، بل عليه أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا ملجأ للعبد ولا منجى منه إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه عند النوم أن يقول: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).
فإذا فوّض العبد أمره إلى الله ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية، وصعدت كلماته ودعواته وابتهالاته ومناداته إلى الله سبحانه وتعالى، كلمات تفتح لها أبواب السماوات؛ لأنها تخرج من قلبٍ صادق متعلق بالله جل جلاله؛ فيرحمه الله عز وجل، ولكن إذا أراد الله أن يشقي عبداً أسلمه إلى الشيطان، وأسلمه إلى سوء الظن بالرحمن، فأصبحت تضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، فأول ما ينزل به من الكرب في نفسه وماله وولده، تضيق دائرته عليه ويتسخط على القضاء والقدر، ولربما يتسخط على ربه، ويذكر الكلمات التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وأن الله ظلمه، وأن الله نكد عيشه وأن الله، وأن الله، فلا يزال ربك يضيق عليه حتى يضيق من نفسه التي بين جنبيه، فيتسلط عليه الشيطان، فيقدم على قتلها وينتحر والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.فهذا لا يكون إلا مع ضعف الإيمان، فمن قتل نفسه وأقدم على الانتحار فإنه لا يصلى عليه؛ لكن بشرط:
أن يكون إقدامه على قتل النفس والانتحار بغير عذر، أما لو انتحر بعذر كإنسان مجنون رمى نفسه من شاهق، فإنه يصلى عليه ويترحم عليه، ويدعى له، وهو على خير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يشفيك.
قالت:
أصبر ولي الجنة).فمثل هذا إذا ابتلي ببلاء في نفسه من سحرٍِ أو مسٍ أو جنون فانتحر؛ فإن الله عز وجل يؤجره على ما كان منه، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويترحم عليه، لما له من الأصل، ويكون فعله هذا معذوراً به على حاله الذي بلي به.
وهكذا يقول العلماء:
لو شرب المسكر غير عالم به، ثم قتل نفسه؛ فإنه لا يكون في حكم المنتحر، كإنسان أعطي شراباً يظنه عصيراً أو ماءً فشربه، فإذا به مسكر، فسكر وقتل نفسه؛ فإن مثل هذا يصلى عليه؛ لأن سكره كان بعذر، وهكذا لو خدر في جراحةٍ ونحوها، وحصل منه شيء عند زوال إدراكه وعدم وعيه حتى مات وتَلِفت نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر معذوراً، كما لو أقدم على سل شيء من نفسه لنفسه ونحوه فمات بسبب عدم وجود النفس؛ فإنه في هذه الحالة يعذر ويصلى عليه، ويصلي عليه الإمام، ويدعى له ويستغفر له.
أما بالنسبة لغير هؤلاء من عموم العصاة فللعلماء فيهم قولان:
من أهل العلم من يقول: كل من ارتكب الكبائر -خاصةً من يجاهر بها- فإنه يمنع من الصلاة عليه، أي: لا يصلي عليه الإمام، أما أفراد الناس فيصلون عليه، والسبب في ذلك: أنهم مطالبون بالصلاة على الميت، إضافةً أنهم يؤجرون عليها، فلا وجه أن تحرم نفسك القيراط في الصلاة عليه.فيصلى عليه.
لكن بالنسبة للإمام فلا يصلى على هؤلاء للاستثناء الذي ذكرناه، والقول: بأنه يختص بما ورد من قاتل النفس والغال من القوة بمكان، ويبقى ما عداهم على الأصل الموجب لصلاة الإمام وغيره عليهم.
[حكم الصلاة على الميت]
قال المصنف رحمه الله:
[ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد].
(ولا بأس)
: أي لا حرج ولا جناح أن يصلى على الميت في المسجد، والضمير في قوله: (عليه) ليس عائداً على القاتل نفسه ولا على المنتحر، إنما هو عائد على الميت، وهي مسألة خلافية: هل يجوز أن تدخل الجنازة إلى المسجد أو لا يجوز؟ بعض العلماء يمنع من إدخال الجنائز إلى المسجد، وكان هذا القول يقول به بعض الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تصلي على سعد -رضي الله عن الجميع- أمرت أن يدخل إلى المسجد فأنكر الناس ذلك، فقالت:
(سبحان الله! سرعان ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد).
فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجوز إدخال الجنائز إلى المساجد للصلاة عليها، وخالف في ذلك أصحاب مالك رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنفية فقالوا: لا تدخل الجنائز إلى المساجد، وإنما يكون للجنائز مصلى، وقد كان للجنائز مصلىً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا على سبيل الأفضل، وأما دخولها إلى المسجد فلا حرج فيه، وهذا الذي عناه المصنف بقوله: ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد،
أي:
لا جناح ولا حرج؛ خلافاً لمن قال من أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه لا تدخل الجنائز إلى المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل مصلى يصلى فيه على الجنائز؛ لكن الصحيح أنه لا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل في المسجد، وهذا حديث صحيح ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 30-05-2022, 08:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (171)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

شرح زاد المستقنع - تشييع الميت ودفنه

للجنائز أركان متعلقة بتشييعها وحملها، ومن ذلك: صفة المشي بها، وكيفية حملها، وما يسن في المشي بها، وما يكره أو يحرم، ونحو ذلك، وهناك أحكام متعلقة بالدفن، منها: كيفية إدخال الميت إلى القبر، وأيهما أفضل الشق أم اللحد، وغيرها من الأحكام.
[صفة حمل الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول رحمه الله: [فصلٌ: يُسَنُّ الترْبِيع فِي حَمْلِهِ].
في الواقع أن الحمل قد يسبق الصلاة؛ لأن الإقبال بالميت إلى المسجد يحتاج إلى حمل، وتأخير المصنف للحمل له وجه، فبعض العلماء يقدم أحكام الحمل على الصلاة، وبعضهم يؤخر أحكام الحمل عن الصلاة.
فيكون وجه من قدم أحكام الصلاة على الحمل:
أن الصلاة واجبة؛ فألحقت بالواجبات المتقدمة من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه؛ فألحقت بالنظير من جهة مرتبة اللزوم.
ثم الحمل بعد ذلك؛ لأنه يكون بعد الصلاة.وحمل الميت فيه فضيلة؛ وذلك أنه عملٌ يقصد به القربة، ويعتبر من الحسنات، أي: أن الإنسان يثاب إذا قصد به وجه الله عز وجل، والعلماء رحمة الله عليهم يتكلمون عليه ويبينون أحكامه؛ لورود السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الميت، وكذلك الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اعتنى المصنف رحمه الله ببيان هذه الأحكام والمسائل، فقال رحمه الله: (يسن التربيع في حمله).
[التربيع في حمل الجنازة]
فقوله: (يسن التربيع): من المعلوم أن سرير الميت يكون على أربعة أعمدة يحمل الميت بها:
عمودان في مقدمة الجنازة، وعمودان في مؤخرة سرير الجنازة؛ والأفضل والأكمل للإنسان أن يكون حمله من هذه الجهات الأربع، وفيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولكن فيه انقطاع، ولذلك يعتبر مرسلاً، لأن أبا عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
والتربيع:
أن يبدأ بمقدمة الجنازة ويأخذ باليمين؛ لفضل اليمين وشرفها؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المؤخرة في نفس جهة اليمين، ثم بعد ذلك يرجع إلى المقدمة فيحمل بالأيسر، ثم يتأخر المؤخرة للأيسر، فيكون قد ربع.هذا هو الذي يقصده العلماء من التربيع.
أي: أن يكون حمل الإنسان للجنازة من جهات السرير الأربع، ولا يقتصر على جهةٍ دون جهة؛ للحديث الذي ذكرنا، ولو صح لا شك أنه يعتبر دليلاً على الفضيلة، لكن الأمر واسع إن شاء الله تعالى، ولا حرج أن يحمل الإنسان من أي جهة، ولا شك أن أن يبدأ بجهة اليمين تأسياً بتفضيل اليمين.
فإن شق عليه لمكان الزحام وضرر الناس، بحيث يصعب عليك أن تنتقل إلى جهة اليسار، أو صعب عليك أن تتقدم حتى تنال المقدمة فالأمر واسع.
وقال بعض العلماء:
الأفضل أن يحمل بعمودي السرير، أي: أن يكون وسطاً في مقدمة السرير، ويرون هذا في المقدمة لا في المؤخرة، وتوضيح ذلك: أنه في المقدمة يمكن أن يرى من أمامه، فيحمل بطرفي عضادتي السرير، وفي ذلك حديث وراد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمله لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: إن هذا يدل على أن الأفضل أن يأخذ بهما.والذي يظهر أن الأمر واسع، خاصةً قي حال الزحام، ولأنه ربما أضر بغيره، وربما أجحف به، وربما لا يصل إلى الجهات على الطريقة التي ذكرناها إلا بأذية.
أما بالنسبة للتثنية وحمل طرفي السرير من آخر السرير فهذا من الصعوبة بمكان؛ لأنه إذا حمل من مؤخرة السرير لا يأمن أن يطأ أحداً أمامه أو يؤذيه، وربما تكون هناك حفرة أو يكون هناك شيء لا ينتبه له؛ لأنه لا يرى الذي أمامه، فضيقوا في المؤخرة، بخلاف المقدمة فإنهم وسعوا فيها وقالوا: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر في المقدمة.
يفرق بين التربيع وبين التثنية: أن التثنية تكون من مقدمة السرير دون المؤخرة، وأما التربيع فإنه لابد فيه أن يكون من الأربع الجهات.وفي التثنية لا يشترط أن يضع طرفي السرير على كتفيه، بمعنى: أن يجعل الطرف الأيمن على عاتقه الأيمن، والطرف الأيسر على عاتقه الأيسر، إنما يعتبر أن يحمل، فإذا حصل الحمل فهو المقصود؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لك إذا كان طرفا السرير متباعدين، فإن تيسر ذلك كما إذا كان للسرير حمالات ونحوها، فيمكن أن يضعهما على كتفيه؛ لكن هذا أمرٌ من الصعوبة بمكان، فيما لو كان السرير من الخشب كما هو موجود في حالنا ليوم، فحينئذٍ يخرج بطرفي السرير بيديه كأنه حامل، وينبغي عليه أن لا يؤذي الناس.
[التداول في حمل الجنازة]
وهناك مسألة وهي:
لو أنك حملت على طرفي السرير، وجاء رجلٌ لكي يحل محلك، فهل تبتعد تمكيناً له من الفضل أو تصر وتبقى؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: كان بعض مشايخنا يقول: تبقى؛ لأنه لا إيثار في القربات، فتبقى ممسكاً به لفضيلة الحمل، ولا تتركه لغيرك حتى تعيا، أو لا تستطيع أن تقوى؛ فحينئذٍ تترك لغيرك؛ فيرون أن الأفضل أن يتمسك الإنسان به حتى يصيب أكثر الأجر ولا يؤثر غيره بالفضل.
ومن هنا قالوا: لا يجوز أن يقوم الإنسان من الصف الأول إلى الصف الثاني ولو لكبير سن؛ واختلفوا في الوالد، وإن كان الأقوى والأصح أنه يجوز أن تتأخر لوالدك؛ لأنك إذا تأخرت نلت مرتبة البر، وهي أفضل، وهذا له وجه، يعني يستثنى في الإيثار في القرب والطاعات أن يكون فيه بر للوالد.
فهنا:
لو كان إنسان له حق عليك كالعم والخال ونحوه ممن له حق القرابة، فيمكن أن تؤثر لمكان صلة الرحم، وأما غيرهم من عامة الناس فلا، فيصبح الأمر أشد إذا كان المحمول والداً أو قريباً، فيكون من البر أن تصر على البقاء ما لم تضعف، فيكون فيه الوجهان: كونه من بالغ البر، وكونه أيضاً يحصل عظيم الأجر؛ فيبقى قدر استطاعته في ذلك المكان ولو زاحمه غيره فيه؛ تحصيلاً لهذا الأجر والثواب.
قوله:
[ويباح بين العمودين].
فيه ما ذكرناه من حديث سعد.
[صفة المشي بالجنازة]
قال المصنف رحمه الله:
[ويسن الإسراع بها].
[الإسراع بالجنازة]
يعني:
بالجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة) وهو حديث تكلم العلماء في سنده، وفيه مسائل:
الأولى: أن قوله: (أسرعوا بالجنازة) فيه دليل على أن السنة أن يكون المشي بها رملاً وإسراعاً، وهذا هو الأفضل، وقد جاء حديث آخر صحيح يدل على أن الصحابة كانوا يرملون بالجنائز، وهذا أفضل من المشي.وفيه دليل على خطأ بعض العامة الذين ينكرون على الناس إذا أسرعوا بالجنازة.وفيه أنه يرمل بها تحصيلاً لفضيلة ما ذكرناه من التأسي وإصابة السنة.
والمسالة الثانية: أن السنة ألا تبقى الجنازة وأن يبادر بها، ولذلك لا تؤخر إلا لأمر ضروري، أو وجود ما يدل على استثناء شرعي يجيز لنا أن نؤخر الجنازة، وإلا فالأصل أن يبادر بها، ولا يجوز للأهل أن يؤخروا الجنازة إلا لوجود عذرٍ شرعي؛ لأنه أُمِر بالإسراع بها.فقوله: (أسرعوا بالجنازة) يشمل الإسراع في تغسيله، بمعنى أن نهيئ تغسيله في أقرب وقت، وليس المراد أن نعجل أثناء التغسيل؛ لأنه ربما إذا عجل أثناء التغسيل أضاع حقوقاً واجبة، وإنما المراد أن يسرع بالتغسيل.
ويشمل الإسراع في تكفينه، فلا يتركه بعد تغسيله ممدداً في الفناء، بل يعاجل بتكفينه، ثم يسرع في حمله ثم الصلاة عليه، ثم يسرع في دفنه، فهذا معنى الإسراع بالجنازة.والمراد بالإسراع في الحديث إسراع المشي؛ لأنه هو السنة، ولأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول: قدموني، قدموني.
وهذا ثابتٌ في الصحيح، فكأننا إذا أسرعنا بالجنازة حققنا مقصود الشرع، وأرفقنا بالميت إن كان صالحاً.
وإذا كان حديث:
(أسرعوا بالجنازة) ضعيفاً، فإننا نقول: إن حديث الصحيحين (قدموني، قدموني) يدل على مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من التعجيل بها، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إلا لشرف تقديم المسلم من الأحياء على قبره والعجلة في ذلك.
[موقع المشاة والركبان من الجنازة]
قال المصنف رحمه الله: [وكون المشاة أمامها والركبان خلفها].
قوله: (وكون المشاة أمامها) السنة أن يُمشى أمام الجنازة، وأن يكون الركبان وراءها، وفي ذلك الحديث المشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ويقولون: إن الركبان يكونون في الخلف حتى لا يؤذى الناس؛ لأنهم إذا كانوا في الأمام أضروا بالناس وأجحفوا بهم، وفي حكم الركبان المركبات الموجودة الآن كالسيارات ونحوها؛ لأنها إذا كانت في الأمام ربما عطلت الجنازة عن المضي؛ فتكون في الخلف ليمكن المشي بالجنازة؛ وهو الأفضل.فإذا كانت الجنازة محمولة في المركبات كالسيارات ونحوها فحينئذٍ لا إشكال فإن الحكم أن يكونوا وراءها، لأنه لا يتيسر للمشاة أن يرافقوها، وإنما يكونون وراءها، ثم يبادر بها على الصفة المعهودة الآن.
قال: [ويكره جلوس تابعيها حتى توضع].فقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس حتى توضع، وهناك روايتان: رواية: حتى توضع على الأرض، ورواية: حتى توضع في القبر، فإذا خرجت في تشييع جنازة ودخلت المقبرة ثم وضع السرير، فعلى الرواية الأولى بل والثانية لا يجوز لك أن تجلس حتى يوضع السرير، وعلى الرواية الثانية: حتى ينزل الميت إلى القبر.
والأقوى:
أنه لا يجوز حتى توضع على الأرض؛ لأن رواية (على الأرض) أقوى من رواية (في القبر) ولأنه ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو حديث مشهور: (إن العبد المؤمن إذا احتضر حضرته ملائكةٌ بيض الوجوه معهم كفن من الجنة ... ) إلى آخر الحديث.
في هذا الحديث يقول البراء:
(خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة أنصاري، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلسنا حوله حتى يلحد له) أي: حتى يحفر القبر ويلحد، فدل على جلوس النبي صلى الله عليه وسلم قبل وضع الرجل في قبره، وهذا يدل على أنه يشرع أن يجلس من شيع الجنازة قبل أن يوضع الميت في القبر، فإذا وضعت على الأرض جاز لك أن تجلس.
[حكم تسجية قبر المرأة والرجل]

قال: [ويسجى قبر امرأة فقط].أي: لأنه أمكن للستر، وأثر ذلك عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأنكر بعض الصحابة تغطية القبر للرجال.
والتسجية: أن يؤخذ بغطاء الجنازة أو يؤخذ لحاف ثم يوضع فوق القبر، أي: يغطى أثناء عمل الملحد للميت وقيامه على شأنه.فالتسجية: أن يغطى القبر.
والتسجية تكون على حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون للنساء، فالمرأة إذا دُليت في قبرها شرع أن تغطى؛ لأنه أدعى لسترها وحفظ عورتها، لأنها وإن كانت ملفوفة في كفنها لكن جرمها وجسمها واضح أمام الناس من جهة تقاطيع الجسم، خاصةً في الأكفان؛ ولذلك تدلى حتى ولو وضعت في سرير حتى يكون أبلغ في سترها، وأبعد عن الفتنة بها، فتدلى في القبر ويسجى القبر، أي: يغطى ويترك بقدر الهوي ونحوه، فيوضع الساتر ويمسك الناس بأطرافه، ولا حاجة أن ينظروا إليها أثناء وضعها في لحدها.
الحالة الثانية:
أن يسجى القبر لشدة الحر والظهيرة ونحوها في الرجال، أي: إذا وُجِد الموجب في الرجال، فإذا كان في شدة ظهيرة أو كان المطر نازلاً وأريد تسجية الميت، فإنها ليست لستر العورة وإنما هي لدفع الضرر، وحينئذٍ لا حرج أن تكون التسجية لمعنى؛ وبعض طلاب العلم لا يفرق فينكر ذلك إطلاقاً، والواقع: أن فيه تفصيلاً: فإن كانت التسجية بمعنى الرفق بمن هو داخل القبر، من دفع حر الشمس عنه، فحينئذٍ لا حرج أن يغطى، بمعنى أنه يستر حتى يقيه حر الشمس وضررها، وأما إذا كان بمعنى التسجية فإنه بدعة، وقد أنكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مع عهدنا ذلك إلا في النساء، فدل على أنه يشرع في النساء دون الرجال.
[أفضلية اللحد على الشق]

قال المصنف رحمه الله:
[واللحد أفضل من الشق].
اللحد كان في المدينة، والشق كان بمكة، وللقبر صورتان: إما أن يلحد، وهو أن يوضع الميت ويحفر له في جانب القبر.
وإما أن يشق وتحفر له الحفرة في وسط القبر، فيوضع فيها على جنبه.واللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما توفي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة هل يلحد له أو يشق، وكان أبو عبيدة يشق، وكان أبو طلحة يلحد، فأرسلوا إليهما فسبق الذي يلحد، فعلموا أنه اختيار الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان اللحد أفضل لذلك، لأنه أمكن في الستر.
الشق يكون في الجدار ونحوها كالأماكن الصلبة التي يصعب فيها حفر اللحود؛ لأنه أرفق وكذلك إذا كان في كهف فيشق، فلو أن الأرض كانت جبلية وتوفي الميت، وليس هناك مكان يمكننا أن نحفره، فحينئذٍ لا حرج إذا وجد كهف أو شق في جبل -صدع- وأمكن أن يوضع ثم يرص عليه، فإنه يفعل به ذلك، ويعتبر بمثابة القبر.
[مشروعية وحكمة الدفن]

والدفن واجب ولازم، وقد شرعه الله عز وجل بكتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31].
وهذه قضية قابيل وهابيل؛ فإن قابيل لما قتل أخاه هابيل، وهو أول قتلٍ من بني آدم وقع في الأرض، أرسل الله الغراب يبحث في الأرض، أي: يحفر ليدفن حاجته، كأنه يشير له إلى ما ينبغي أن يفعله لأخيه من ستر عورته، فقال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فهذا دليلٌ على شرعية الدفن، وهي أول قضية دفن كما يقول المفسرون رحمة الله عليهم.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فدل على مشروعية القبر.وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بالقول والفعل.ويشرع قبر الموتى سواء كانوا كفاراً أو كانوا مسلمين، فلو أن كافراً مات فإنه يشرع أن يقبر، ولا يجوز أن تترك جثته هكذا؛ لأن الله كرم بني آدم فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وهذا يسميه العلماء التكريم العام الذي يشمل المسلم والكافر، فمن إكرام الله للآدمي أنه إذا مات فإنه يقبر وتحفظ عورته، بخلاف البهائم والوحوش والسباع وغيرها، فإنها تنبذ بالعراء، ومن هنا قالوا: إنه يقبر ولو كان كافراً، لكنه لا يقبر على صفة المسلم، بمعنى: أنه لا يلحد ولا يشق، وإنما يوارى، فتحفر له الحفرة ثم تواريه دون أن تراعي في ذلك شقاً ولا لحداً؛ لأنه لا كرامة له.
وإنما يشرع أن يقبر الميت مسلماً كان أو كافراً، لحديث قتلى بدر، فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقليب فرموا فيه، فووريت أجسادهم، وعلى هذا لا حرج أن يوارى الكافر إذا مات، وأما المسلم فإنه يوارى بالصفة المخصوصة التي ذكرناها.
وفي القبر حكمٌ عظيمة منها:
أن الله سبحانه وتعالى دفع ضرر الأموات عن الأحياء؛ فإن الأحياء يستضرون برائحة الموتى، ويستضرون برؤية قراباتهم وذويهم أمواتاً أمامهم، ويحصل لهم من الهول والفاجعة ما الله به عليم، فإن بقاء الأموات فيه فزع، ورؤية الأموات تحدث في النفوس الفزع والخوف والرعب، ولربما يتنكد عيش الإنسان خاصةً إذا فقد العزيز والكريم عليه فرآه أمامه عشيةً وصباحاً، ولذلك رحم الله الناس بهذا، وجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فجعل الأرض ستراً لهم، وفيها أيضاً رحمة بالأموات؛ لأن عوراتهم تحفظ وسوآتهم تصان، عندما ينزلون في القبور.
والأصل أن الإنسان بالنسبة للقبر له أحوال:
بالنسبة للأنبياء فإن قبورهم في أماكن موتهم، كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قبر عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة لما قبض فيها، أما من عداهم فإنهم يقبرون في مقابر المسلمين العامة التي أوقفت.والقبر في مقابر المسلمين أفضل من أن يكون الإنسان في موضعٍ خاص؛ لأنه إذا كان في موضع خاص لا يؤمن أن ينبش، وإذا كان في موضع خاص وكان ملكاً له كأرضه أو مزرعته ونحو ذلك، فلا حرج أن يحفر له قبر ويدفن فيه، أما إذا كانت أرضاً لغيره فلا يجوز أن يحفر له فيها قبر إلا بإذن مالك الأرض؛ لأنها في أصل الشرع ملكٌ لأهلها، فلا يجوز لأحدٍ أن يقبر فيها أحداً بدون إذن أهلها، ولذلك لو قبر الإنسان في أرضٍ يملكها الغير وشرع للغير أن يطالب أهله بإخراجه فإنه يحرم عليه ذلك لمكان الغصب كما يقول العلماء، وفي حكم هذا أن يقبر في مسجد، فإن المسجد لا يملكه أحد؛ لأنه لله عز وجل، ولا يجوز أن يقبر أحد فيه حتى ولو كان صاحب المسجد؛ لأنه لما أوقفه للصلاة فيه فقد خرج عن ملكه، ولذلك من أوقف مسجداً فليس من حقه أن يملك هذا المسجد أو يبيع شيئاً منه؛ لأنه خرج عن ملكيته.
ومن هنا لا يجوز أن يدفن فيه، مع أن الأصل الشرعي يقتضي حرمة أن تتخذ القبور مساجد، أو يكون القبر في مسجد، وهذا مجمعٌ عليه بين العلماء وهو من كبائر الذنوب كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الكنائس التي كانت في الحبشة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يفعله النصارى بعظمائهم من البناء على قبورهم.
[كيفية إدخال الميت القبر]
قال المصنف رحمه الله: [ويقول مُدخِلهُ: باسم الله وعلى ملة رسول الله].
السنة المحفوظة أن يسل الميت، بمعنى: أنه ينزل إلى القبر من رأسه.فالمكان الذي فيه الميت إن كان لحداً أو شقاً فإنه يُسَل، فيدخل من عند رجل القبر إلى أن يصل إلى موضع الرأس، فينزل شيئاً فشيئاً، على هذا يكون أول ما ينزل أعلاه -لشرف الأعلى- ثم بعد ذلك أسفله.
ولا يدلى: بمعنى أن تُنزل رجلاه قبل رأسه؛ فيجعل السرير أو النعش عن يسار القبر، ثم بعد ذلك يدلى.وهناك وجهٌ آخر: وهو أن يجعل السرير في القبلة، ثم ينقل بعد ذلك إلى داخل القبر، وكلاهما جائز، فيأخذه اثنان من النعش ويناولان من بداخل القبر، فهذه صورة ثانية؛ لكن الأفضل السلّ، وهو الذي وردت به السنة.
فإذا أراد أن يضعه يقول مُدخله:
(باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص؛ لأنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص، لا تشرع الزيادة فيه ولا النقصان منه.اسم الله بركة، وهو فاتحة الخير، ولذلك قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] وهو أدعى لرحمة الله بالعبد، ومعنى: (باسم الله وبالله) أي: مستعينين بالله، فالباء للاستعانة.
قال بعض الفقهاء:
التقدير: باسم الله أنزلك، وعلى ملة رسول الله أخلفك، ونحو ذلك من التأويلات، وهذا كله لم يرد به وجه صحيح، لكنه ذكرٌ مخصوص مناسبٌ للمقام؛ أي أن الإنسان قد وضعه على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل الملل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، والملة التي لا يقبل الله ملة دونها ولا غيرها، وهي ملة الإسلام، وهي الحنيفية التي لا نجاة للعبد إلا بها.
[كيفية وضع الميت داخل القبر وحال الناس من حوله]
قال المصنف رحمه الله:
[ويضعه في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة].
قبل أن ينزله في القبر يكون هناك على الأقل شخصان، وهذا أرفق بالميت: أحدهما يكون عند رجليه، والثاني عند رأسه.والسنة أن يوسع من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتوسيعه، فلا يكون اللحد ضيقاً بمقدار ما يسع جسد الإنسان، بل الأفضل أن يوسع الحفر في جانب القبر من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.
ثم يوضع على شقه الأيمن مستقبل القبلة، ففي الحديث الصحيح عن البراء: (إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: باسم الله ... ) الحديث.
قالوا: والنوم هو الميتة الصغرى، وأما استقبال القبلة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) فهذا يدل على أن السنة أن يوضع الميت مستقبل القبلة، وهذا بالنسبة لمن مات من أهل الإسلام.وأما بالنسبة للكافر فإنه يوضع على حاله، إلا إذا كانت المرأة كافرة وفي بطنها جنين، فإنها توضع على شقها الأيسر؛ حتى يكون جنينها إلى القبلة، على القول بأن أولاد الكفار على الفطرة، وحينئذٍ يكون جنينها في هذه الصورة على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأن الجنين يستقبل ظهر أمه.
وأما غير ذلك من أحوال الكفار فإنهم يوارون، ولا يقبرون على الصفة التي شرف الله بها أهل الإسلام.وإذا فرغ من وضعه في قبره فإنه ينصب اللبن عليه كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ينتهي من نصب اللبن يمكن الناس من دفنه وإهالة التراب عليه.
وينبغي للإنسان في هذه الحالة أن يكون أقرب إلى الاعتبار والاتعاظ، فإن بعض العلماء رحمهم الله يقول: إن ورود القيراطين على الصلاة وشهود الدفن كائن لما فيه من المصالح العظيمة من التذكير بالآخرة، وذلك لأن شهود الدفن يذكر الإنسان بحاله، ويدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار بغيره، فإذا وضع الميت في قبره فالأفضل للإنسان أن يكون قريباً من القبر، على خلاف ما ألفه بعض الناس من البعد عن القبر.
الأفضل الاقتراب من القبر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن شهدها)، و (شهد) بمعنى: حضر.والأفضل أن ينظر إلى حال المقبور؛ لأنه أدعى لشفقتك عليه وترحمك عليه؛ فإن الإنسان إذا نظر إلى أخيه المسلم وهو يدلى في القبر، ونظر إلى قرابته كأبنائه وإخوانه وعشيرته، وما عليهم من الحزن وأمارات التفجع والتوجع؛ دعاه ذلك إلى أن يستغفر له وأن يترحم عليه؛ وتأثر تأثراً بليغاً حتى لربما تذكر أولاده من بعده وقرابته إذا نزل به مثل ما نزل بأخيه.فكونه يكون بعيداً عن القبر يفوت هذه المصالح العظيمة.
وأما ما ورد من حديث البراء من كونهم تحلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس فيه أنه دفن؛ لأنهم كانوا يحفرون القبر، وفرقٌ بين حفر القبر وبين التدلية للقبر.
ومن كان قريباً من القبر، ناظراً إلى حال الميت متفكراً معتبراً، فإنه يكون أكثر حضوراً للقلب، وأكثر خشوعاً وأكثر تأثراً، وأكثر دعاءً واستغفاراً للميت وترحماً عليه.
والعكس بالعكس:
فإنه إذا ابتعد عن القبر ربما جاءه إنسان من أهل الدنيا، وشغله بفضول الأحاديث، ولربما تكلم في شيء من الدنيا يخرجه عن المقصود من شهوده للجنازة، وعلى هذا فإن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان مطلعاً على القبر قريباً من القبر، ولو أدى ذلك إلى زحام لا ضرر فيه، بل حتى ولو كان فيه ضرر على الإنسان فإنه يصبر؛ لأنه باب المزاحمة على الخير، وهي مشروعة، أي: كون الإنسان يزاحم ولا يؤذي غيره ولكن غيره يؤذيه، فإنك إذا لم تؤذ أحداً وتضررت بالزحام أجرت؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه، يقف عند الحجر ولا يجاوزه حتى يقبله، ولربما يضرب من الناس ويرعف ثلاث مرات كما ورد في الروايات عنه رضي الله عنه.
ولا شك أن الإنسان كلما أوذي في الطاعة كلما كان أعظم أجراً، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون مثل هذه المقامات التي يستوي فيها رفعاء الناس ووضعاؤهم.
أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دنا إلى بئرٍ يريد أن يستقي، فقال له أصحابه: هلا كفيناك؟ فامتنع رضي الله عنه، فلما دخل في الزحام لكز وأوذي وضر في جسده وفي ثيابه، فلما خرج قيل له: ألم نقل لك: نكفيك هذا الأمر؟ قال: هكذا طاب لي العيش، دخلت وأنا ابن المبارك، وخرجت وأنا ابن المبارك.فالإنسان إذا دخل بين الناس وشعر أنه كواحدٍ منهم، وتأذى في الطاعة أو في الخير، فإن الله يؤجره.
فإن رؤيتك لهذه الحال صلاح لك في دينك وأجرٌ لك في آخرتك، ولقد قصر البعض، خاصةً من طلاب العلم في مثل هذه المواقف، ولربما تجد بعض العوام في بعض المواقف أبلغ تأثراً من طلاب العلم، فإنك تجد من العوام من يبكي على القبر ويتأثر برؤية هذه المشاهد، ولكن ربما تجد طالب العلم بعيداً عنها، وربما يقف بمنأى عن القبر، وينتظر حتى يفرغ الناس، ثم يأتي ويحثو الحثوات دون أن يتعظ ويرى هذه المشاهد المؤثرة، والإنسان الذي يشهد هذه المواقف ولا يتأثر بها؛ فلأنه لم يجد من نفسه ما يدل على صدق رغبته في التأثر، ولو هيأ نفسه لذلك فخرج وهو يشعر أنه كواحد من المسلمين ودخل في حطمة الناس، فإنه سيشعر أنه كواحد من عوامهم ولو كان عالماً.
وإنك لتعجب عندما يطوف الناس وتسمع عوام الناس يبكون ويخشعون في طوافهم، حتى إن الإنسان في بعض الأحيان يبكي على نفسه في علمه عندما يجد في عوام الناس من الخشوع في العبادات ما لا يجده من خاصة طلاب العلم، ولكن نسأل الله برحمته الواسعة أن يرحم قلوبنا من قسوتها وغفلتها، وأن يجيرنا من هذا البلاء العظيم.فإن الإنسان إذا حرم التأثر بالطاعة فقد حرم خيرتها وبركتها، فإن أفضل ما يكون في الطاعة أن تتأثر بها، وأعظم الناس أجراً في شهود الجنائز من رجع منكسر القلب خاشعاً، وقد أثر فيه المشهد والمنظر كأن ذلك الميت قريبه، وتجد بعض الناس من كمال خشوعه أبلغ تأثراً من أهل الميت؛ وذلك لأنه لا ينظر إلى فقد هذا الميت ولكن ينظر إلى فقده وحاله الذي نزل به.فينبغي لطالب العلم أن يهيأ نفسه إذا شهد الجنائز أن يكون في منظره وسلوكه ودله وحاله ما يدل على صدق تأثره بما يرى؛ حتى يكون علمه مترجماً بالعمل، فإذا رآه العامي أحس بأثر العلم في عمله، وأثر العلم في عبادته، ولا ينبغي له أن يكون في بعدٍ عن الأسباب التي تهيئ من خشوع القلب وفي مثل هذه المواضع التي كلما كان الإنسان فيها خاشعاً كلما كان أعظم أجراً، وكان أدعى لقبول سعيه في طاعته لله عز وجل.فإذا قبر الميت وأهيل عليه التراب؛ فإن السنة أن يهيل من حضر عليه التراب، والسنة أن يحثُو عليه ثلاث حثيات إذا لم يشارك في دفنه؛ والأفضل أن تشارك في دفنه؛ وجميل من طالب العلم أو من العالم إذا ساوى عوام الناس وأخذ بالآلة ودفن معهم، خاصةً إذا كان المدفون من أهل العلم والفضل، أو من له حقٌ عليك كقريبك؛ فإن مثل هذه المواقف تدل على التواضع، وتدل على البساطة والبعد عن العلو، وتدل على الحرص على الخير؛ فإن الناس إذا رأوا طالب العلم يدعوهم إلى الخير، ورأوه في هذه المواقف يشارك الناس في حصول الخير وينافسهم ويحرص عليه؛ فإن ذلك أدعى لقبول دعوته وحبه والتأثر به.
وقد يكون داعياً بفعله دون أن يتكلم، وهذه هي الدعوة الصادقة التي يجمع الله للإنسان فيها بين دعوة الكلام والفعل.ومن فعل ذلك أجر مرتين: الأجر الأول: على الطاعة والفعل.
والثاني: على تأثر الناس واقتدائهم به في ذلك؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً، اقتتل الصحابة على ذلك الفعل من تأثرهم به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة.أما لو كان الإنسان عالماً وشغل بسؤال الناس، أو رأى أنه لو جلس فإنه يتأثر بالنظر وبحال الناس وهم يهيلون التراب عليه، وأنه أبلغ، أو كان به مرض يخشى أن يتضرر لو اقترب من الغبار، فهذا شيءٌ آخر، لكن انوِ في قلبك أنه لولا هذا البلاء لكنت مشاركاً لهم؛ حتى يبلغك الله منزلتهم؛ فإن الإنسان ربما يدخل الجنة بحسنةٍ واحدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] فلربما استوت حسنات الإنسان وسيئاته بسبب مظالم الناس، فأخذ من حسناته حتى تستوي الحسنات والسيئات، فتأتي حسنة واحدة وربما هو التراب الذي تهيله على الميت فتنجيك من النار؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبحثون عن رحمة الله في كل عملٍ صالح، من قول أو فعل، ظاهر أو خفي، فإن فاته الفعل نواه بقلبه، فإن الإنسان لا يدري لعل الله أن يجعل نجاته في حسنة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً مر على غصن شوك فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين.فزحزحه؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم).
نقول هذا لأن مثل هذه المواقف مهمة جداً، خاصة لطلاب العلم، وفيها تربية، فقد كنا نتأثر بعلمائنا ومشايخنا حينما نراهم مع عوام الناس، ونرى الرجل منهم يحضر جنازة العامي، ولقد رأينا من مشايخنا رحمة الله عليهم من يشهد جنازة الرجل الذي لا يؤبه به لفقره، أو ضعف نسبه، فتجد من الحزن والبكاء عليه كأنه واحدٌ من قرابته، وهذا لا شك أنه يدل على كمال الإيمان وصلاح القلوب.فنسأل الله بعزته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يزيدنا من فضله العظيم والله تعالى أعلم.
الأسئلة
[عرض الأديان على الميت]
qما صحة القول بعرض الأديان على الميت، وهل يحصل هذا العرض لكل شخص أثابكم الله؟

a السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة القبر تكون بالسؤال: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟).فعند أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب: (إن العبد المؤمن إذا احتضر نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان.فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فلا يدعونها معه طرفة عين حتى يضعونها في ذلك الكفن، فتخرج منها كأحسن نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض؛ ثم يصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون بنفرٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه إليه، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم ردوه إلى الأرض فإني منها خلقته وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارةً أخرى، فترجع روحه، فيأتيه ملكان فيقعدانه) ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الفتنة، وقال: يسألانه عن ربه، ويسألانه عن دينه، ويسألانه: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً قال: هو عبد الله ورسوله، وشهد بالإيمان، وإن كان منافقاً قال: ها ها لا أدري -وفي رواية- فيقال له: لا دريت ولا تليت؛ لأن الإنسان ينال العلم بإحدى طريقتين:
إما أن يدري لنفسه فيكون عالماً بالشيء، أو يتلو، فيتعلم، فقيل له: (لا دريت ولا تليت)، أي: ليس بك علم، لا بدراية ولا بتلاوة.قال: (ثم يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة فيسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس، ولو سمعوه لصعقوا)، أي: ماتوا من ساعتهم، وهذه هي الفتنة التي تكون في السؤال، وهي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.
[حكم التلقين على القبر]
qما حكم التلقين على القبر أثابكم الله؟

aتلقين الميت بعد قبره، فيه حديث معاذ رضي الله عنه: (إذا وضع أن يقوم على قبره الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، فيقول الملك: ما لك في رجلٍ يلقن حجته من حاجة، فيقومان عنه) وهذا الحديث ضعيف، وهو معارض لما هو أصح منه، فإن حديث البراء بن عازب ذكر المؤمن، ولا شك أن الله لا يظلم عبده، فإن المحسن سيجيب والمسيء لا يجيب ولو لقنه من في الأرض جميعاً، فمن مات على التوحيد والإيمان فإن الله هو الذي يثبته وهو الذي يلقنه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].ثبت في تفسيرها كما جاء في حديث البراء أنه قول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، عند جوابه بهذه الأجوبة الثلاثة، فهذا من تثبيت الله؛ لأنه إذا رأى الملكين فزع، وهاله المطلع في مكانٍ لم يعهده ولم يألفه، وهي أول ساعةٍ وأول منظرٍ يراه؛ فيكون من أشد الهول على العبد، وهي أول منازل الآخرة التي يفزع فيها العبد، فإن كان مؤمناً ثبت الله قلبه، وذلك على قدر ما فيه من الإيمان والخير؛ فإن كان على كمالٍ من الإيمان وكمالٍ من الصلاح فإن الله سبحانه وتعالى يثبته تثبيتاً كاملاً، ولا يخذله، والله عز وجل يوفق عبده ولا يظلمه.فلا داعي أن يلقن الإنسان، فإن الله عز وجل سيلقنه حجته، ويبين له سبيله ومحجته؛ فإن الله سبحانه وتعالى لطيفٌ بأوليائه المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:62 - 64].فالإنسان الذي يموت على الإيمان لا يضيعه الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] فالمؤمن لا حاجة له إلى أن يُلقن.ولذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقن ميتاً؛ فيقتصر على هذا الوارد، وهو السنة المحفوظة.وأما حديث معاذ فضعيف كما تكلم العلماء رحمة الله عليهم على سنده وبينوا ضعفه والله تعالى أعلم.

[حكم قول الحاضرين عند إنزال الميت: باسم الله وعلى ملة رسول الله]

q هل يقول الحاضرون أيضاً مع مدخل الميت: (باسم الله وعلى ملة رسول الله)؟

a المحفوظ أن يقوله من يدخله ومن يضعه في قبره، أما بالنسبة للحاضرين الذين يشهدونه فإنهم يسكتون، ويقتصرون على الدعاء له والترحم عليه، وسؤال الله التثبيت، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد دفن الميت: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولذلك كان الأفضل والأكمل بعد دفن الميت ومواراته أن يقتصر على سؤال الثبات في تلك اللحظة التي تلي الدفن، ويقتصر على سؤال الله له الثبات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، فيستغفر له لأنه يبتلى بذنوبه، فإذا غفرت ذنوبه أمن من البلاء في قبره، وقوله: (واسألوا له التثبيت) من دعاء المناسبة.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم؛ أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 14-06-2022, 04:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (172)

صـــــ(1) إلى صــ(22)



شرح زاد المستقنع - أحكام القبور وأحكام أهل الميت
إن كثرة البدع التي تشاهد في المقابر، ومخالفة السنن والآثار في تلك المواطن تحتم معرفة أحكام القبور على الخاصة والعامة، ومن تلك الأحكام: حكم رفع القبر من الأرض، وحكم تجصيصه والبناء والكتابة والجلوس والاتكاء والوطء عليه، وحكم دفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد، وحكم قراءة القرآن عند الدفن، وحكم إهداء الثواب للميت، وحكم صنع الطعام من أهل الميت أو لأهل الميت.
الأمور المنهي عن فعلها بالقبر
حكم دفن اثنين فأكثر في قبر واحد

قال المصنف رحمه الله: [ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة].
أي: ويحرم في القبر دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وهدي السلف الصالح؛ مضت على قبر المقبور في قبره دون أن يدخل عليه أحد أو يُجمع معه أحد، وهذا هو الأصل؛ فيكون القبر للمقبور وحده دون أن يُجعل معه آخر، ولو كان قريباً له.
أما الضرورة فتقع في حالة الحروب والقتال، كما وقع في غزوة أحد، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبر شهداء أحد الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، والسبب أنه كانت تفنى الأنفس في الحروب في القديم، ولربما وصل القتل في بعض الوقائع إلى مائة ألف، وفي هذه الحالة يصعب أن يحفر لكل شخصٍ قبر، ولربما جلسوا أياماً وهم لا يستطيعون أن يواروا هذه الأجساد، فيضطروا إلى جمع الاثنين والثلاثة في القبر، وحينئذٍ يشرع أن يوسع القبر من داخل؛ حتى يصلح لجمع هؤلاء ولا يضيق؛ بمعنى أن يُجعل القبر الذي للواحد للاثنين والذي للثلاثة للأربعة أو الخمسة، فإن للأموات حرمة، فيختص التوسيع بقدر الحاجة رفقاً بالأموات، فيجعل القبر للاثنين إذا وسعهما وللثلاثة إذا وسعهما، على حسب ما ذكرنا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع شهداء أحد رضي الله عنهم وأرضاهم الرجلين والثلاثة، وإذا جُعل الاثنان والثلاثة والأربعة في القبر فالسنة أن يبدأ بأحفظهم لكتاب الله عز وجل وأعلمهم، فيُجعل من جهة القبلة لشرف البداية وشرف الجهة، فيقدم على غيره، ويكون ظهره إلى غيره لا ظهر غيره إليه، فيشرّف لأن الله شرفه بالعلم، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء، وأن الله سبحانه وتعالى يكرم أهل العلم حتى بعد موتهم؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه كان إذا أراد أن يقبر الشهداء يوم أحد سأل عن أكثرهم قرآناً فقدمه في اللحد ).
وهذا كما يدل على فضيلة أهل العلم، فهو يدل على أنه ينبغي للناس أن يأتسوا بهذا، فإذا اجتمع القوم وفيهم من هو أحفظ لكتاب الله قدم وشرف بشرف العلم؛ حتى يكون ذلك أدعى لتعظيم شعائر الله عز وجل.
وكذلك الحافظ للسنة، فلو كان أحفظ لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره فإنه يقدم، وكذا إذا كان أعلم بالأحكام الشرعية، أو كان أكثر بلاءً وجهاداً ودعوةً وتضحيةً، أو كان رجلاً معروفاً بالكرم والجود والإحسان إلى الناس وستر عورات المسلمين ونحو ذلك من الفضل؛ لأن تقديمه يدعو غيره إلى التأسي والاقتداء به؛ ولأنه تعظيمٌ لشعيرة الله عز وجل من جهة كون ما تخلق به واتصف عملاً صالحاً فإذا قُدّم قدم من أجله، فكأننا نعظم العمل الصالح وما كان منه من خير، وهذا أدعى لدعوة الناس إلى الائتساء والاقتداء به، مع ما فيه من الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
وإذا كان يحرم أن يُجمع الاثنان في قبرٍ واحد، فذلك يأتي على صورتين: الأولى: إما أن يدخلهما معاً، أي: ندخل أحدهما ثم ندخل الآخر في نفس الوقت، فالحكم التحريم إلا من ضرورة وحاجة.
الثانية: أن تدخل الأول فتقبره اليوم، ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث، أو يوم أو يومين أو ثلاثة، أو أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، يؤتى ميت آخر فيفتح القبر الأول لدفنه فلا يجوز.
فالحكم يستوي فيه أن يدخلهما معاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد، فلا يجوز أن يجمع بين الاثنين على هذه الصورة، وكذلك فتحه ونبشه للقبر لكي يقبر ميتاً فيه.
وعلى هذا: لا يجوز إدخال ميتٍ على ميت، فلا يجوز إدخال الثاني على الأول، ولا الثالث على الثاني إلا بعد أن تبلى عظام المتقدم، وللعظام حُرمة، فما دام عظم الميت في القبر فإن الأرض موقوفة عليه مسدلة عليه محبوسة له، لا يجوز أن يقدم أحد على نقل عظامه ولا على إخراجها، إلا قبور المشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبورهم فنبشت، ثم بنى مسجده صلوات الله وسلامه عليه، كما في الصحيحين.
أما المسلم فلعظامه حرمة تدل على بقاء حرمة قبره، وحينئذٍ لا يجوز أن ينبش، ولا يجوز أن يدخل عليه غيره، ولا يجوز أن يبنى عليه وعظامه باقية، ولا يجوز أيضاً أن تتخذ الأرض مزرعة أو نحو ذلك ما دامت العظام ورمم الأموات باقية، فإنها دليل على تسبيل ذلك الموضع لهؤلاء الأموات، والميت أحق بقبره ما دام فيه، أي: ما دام ما يدل عليه باقٍ.
لكن لو استحال الميت تراباً وفنيت عظامه وبلي، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تذهب الحرمة، فيجوز أن ينبش وأن يدفن غيره في مكانه، وعلى ذلك درج عمل السلف الصالح رحمة الله عليهم، كما في قبور البقيع، فإنها نبشت، ومضى على ذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم، ودفن فيها الجديد من الموتى بعد أن بلي القديم.
والنبش يشرع إذا بلي الميت أو غلب على الظن أن العظام بليت، ويستثنى من هذا أن يكون المكان ضيقاً كما في قبور مكة فإذا بقي شيءٌ قليل من العظام، فإنهم اغتفروها لمكان الضرورة؛ فقد نص بعض العلماء على استثنائها لصعوبة الحفر فيها وتعذر ذلك في الغالب.
وإذا كان الموضع يشق كالمواضع السهلة التي بها الطمي والطين أكثر، ويصعب فيها وجود القبور، ويتعذر وجودها إلا بندرة، قالوا: إذا فنيت وبقي شيءٌ من العظام تغتفر، ويجوز قبر الثاني مع وجود بقيةٍ من عظام الأول إذا كانت يسيرة.
أما والعظام باقية فالدليل يقتضي تحريم قبر الثاني على الأول وإدخاله عليه، وكذلك يحرم التصرف في هذا القبر بالبناء عليه أو الزارعة فيه أو نحو ذلك من التصرفات، وما فيه من التصرف فإنه لاغٍ، فلو أنه زرع على قبورٍ لا زالت باقية، أو غلب على ظننا بقاء الجثث فيها، فإن إحياءه باطل؛ لأنه إحياءٌ لمسبلٍ وموقوف وملك للغير، وإحياء المملوك للغير ليس بإحياء شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح : ( من أحيا أرضاً ميتةً فهي له ) فنص على كونها ميتة، فإذا كان فيها الميت فإنها ليست بميتة؛ لأنها قبر، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم داراً، فقال: ( السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ) فهي حية بوجود الأجساد فيها، وإن كانت ميتة في الظاهر، لكنها في حكم الدور وكأنها معمورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف القبور بكونها دوراً.
قال: [ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب].
أي: فإذا وجدت الضرورة لقبر الاثنين، فيجعل بين كل اثنين حاجزاً؛ حتى يكون أشبه بالفصل، قالوا: درج على ذلك عمل السلف رحمة الله عليهم، فكأنه فصل الموضع الأول عن الموضع الثاني، وحينئذٍ كأنه تعدد القبر كما لو قبروا بجوار بعضهم مع وجود الحائل من التراب.
حكم القراءة على القبر
قال المصنف رحمه الله: [ولا تكره القراءة على القبر].
المراد بالقراءة: قراءة القرآن، وجمهور العلماء من السلف رحمة الله عليهم كالحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد -وهي الرواية الثانية عنه- على أنه لا تشرع القراءة على القبور؛ وأنها من الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على قبور أصحابه، ولا قرأ أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من بعدهم من السلف الصالح من الأئمة ومن أُمرنا بالائتساء بهم، فحينئذٍ فإن هذا الفعل يعتبر من البدعة والحدث.
وجاءت رواية عند الإمام أحمد أنه رخص في ذلك، وفي ذلك ما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تشرع القراءة على القبر؛ فإن وقعت إجارةً كأن يستأجر مقرئاً يقرأ على القبر، فالإجماع قائم على المنع والتحريم، وإنما الخلاف في المحتسب، وهو الذي يقرأ على القبر تبرعاً، أما من استؤجر للقراءة فإن الإجماع منعقد على أنها إجارة باطلة، وفي ذلك حديث (يس)، أنه إذا قرئ على القبور (يس) أنه يخفف عنه ذلك اليوم، ويكون له من الحسنات والأجور على عدد الموتى، وهو حديثٌ ضعيف.
والصحيح الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن السنة إذا قُبِر الميت أن يقام على قبره، وأن يدعى له؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما انتهى من دفن الميت : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل ) فدل على أن المشروع هو الدعاء، وهذا هو ظاهر التنزيل في قول الحق تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [الحشر:10] فدل على أن المشروع هو الدعاء، والدعاء أنفع وأصلح للميت والحي: أما للميت فلأنه رحمة جعلها الله للأموات عند الأحياء؛ ولما يكون بسبب هذا الدعاء من الخير له؛ فيفسح له في القبر وينور له فيه، خاصةًَ إذا كان الداعي مخلصاً لله عز وجل.
وفيه مصلحةٌ للحي؛ لأن الحي يكتب الله أجره بإحسانه لأخيه المسلم ودعائه وترحمه واستغفاره له؛ ولذلك وصف الله الأخيار بأنهم يترحمون على إخوانهم الأموات الذين سبقوهم بالإيمان، ومن حق المسلم على المسلم بعد موته أن يترحم عليه وأن يدعو له وأن يستغفر له.
أما بالنسبة للقراءة فقلنا: إن الصحيح أنها لا تشرع، لا تخصيصاً بسورةٍ معينة ولا تشرع عموماً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لفعله صلوات الله وسلامه عليه وهديه يعلم علماً واضحاً بيناً أنه لا يشرع أن يقرأ على القبر؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله من بعده من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم، فحيث لم يفعل ذلك لا من رسول صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين، فإنه يبقى على الحظر؛ لأن أمور العبادة توقيفية، ولا يجوز لأحدٍ أن يجتهد فيها ولو كان الأمر مستحسناً.
حكم إهداء ثواب القربات لميت أو لحي
قال المصنف رحمه الله: [وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك].
القربة: ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ويشمل ذلك الطاعات، سواء كانت قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة، لأن العبد إذا فعلها فإنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى أحبه ووفقه وسدده، وأحسن له العاقبة في الأمور.
فكلما كان العبد أقرب لله كلما كان أقرب لرحمة الله وعفوه وتيسيره ولطفه له في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فالوصف بالقربة وصفٌ شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: ( ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) فهذا يدل على أن العبد يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويزداد قرباً من الله عز وجل على حسب ما يكون منه من الخير والطاعة والبر.
أقسام القربات في إهداء الثواب
فالقربات تنقسم إلى ثلاثة أقسام -قسمين يقبلان للانقسام إلى ثلاثة-: النوع الأول: القربة البدنية المحضة.
النوع الثاني: القربة المالية المحضة.
والنوع الثالث: القربة الجامعة بين البدن والمال.

فأما القربة البدنية المحضة: فكالصلوات وكقراءة القرآن وكالصيام.
وأما القربة المالية المحضة: فالصدقات، كأن يتصدق ذو مال على فقير أو معسر أو نحو ذلك، أو يذبح شاةً ينويها صدقة على أمواته، أو يضحي أضحية ينويها عن والده أو والدته، فهذه قربةٌ ماليةٌ محضة.
والقربة الجامعة بين البدن والمال: الحج والعمرة؛ فإن الذي يحج يجمع في حجه بين عبادة البدن وعبادة المال: أما عبادة البدن: فبفعل المناسك والشعائر.
وأما عبادة المال: فإنفاقه للوصول إلى هذهِ المناسك وبلوغ هذه المشاعر.
فأما ما كان من القرب البدنية المحضة فإن الجماهير على أنه لا يشرع فعل قربةٍ بدنيةٍ للميت إلا ما استثنى الشرع، فلا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي، ولا أحدٌ عن أحد؛ لأنها قربةٌ بدنية لا تصح إلا من المكلف نفسه، وعلى هذا فلو صلى عن والديه ما صلى فإنها لا تصح أن تكون قربة للغير.
وذهب إسحاق بن راهويه رحمه الله إلى القول بجواز أن يصلي الحي عن الميت، وينوي هذه الصلاة عن الميت سواء كانت فريضة أو نافلة، واحتج بدليلٍ دقيق وهو: مسألة الحج عن الميت، فإنه لما أنكر عليه: كيف تقول بجواز الصلاة عن الميت مع أنها قربة بدنية يكاد الإجماع يكون على منعها؟ قال: أرأيتم لو حج حيٌ عن ميت أيجوز ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: أرأيتم لو طاف أيصلي؟ قالوا: نعم.
قال: أليست الصلاة عبادة بدنية؟ قالوا: بلى.
فكأنه يرى أن ركعتي الطواف لما أذن بها الشرع عن الميت، دل على مشروعية الصلاة عنه؛ لأنه سيصلي عنه ركعتي الطواف، وركعتي الطواف من العبادات البدنية.
والجواب عن هذا الدليل: بأن إجازة العبادة البدنية -أعني: ركعتي الطواف- جاء تبعاً ولم يأت أصلاً، وفرقٌ بين العبادة المقصودة وبين العبادة التبعية التي تقع تبعاً للشيء، ولهذا نظائر في الشرع، ولذلك يقولون: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع نخلة قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )، فجعلها للمبتاع بالشرط، مع أنها بعد التأبير لم يبد صلاحها، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه ) ، قالوا: ففي حديث ابن عمر : ( من باع نخلة قد أبرت ...) وقعت الثمرة تبعاً للأصول، فجاز الشيء تبعاً ولم يجز أصلاً، فالصلاة أصلاً لا تصح، لكنها تبعاً تصح، هذا مع وجود الخلاف فيما إذا صلى ركعتي الطواف، هل يقصدها على الميت أو يقصدها عن نفسه أصالةً ويكون ثوابها للميت.
فهذا حاصل ما ذُكر؛ والصحيح أن العبادة البدنية لا تصح عن الميت، إلا ما استثناه الشرع من صيام النذر، قالت: ( يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية عنها؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى ) فأجاز لها عليه الصلاة والسلام أن تفعل العبادة البدنية المحضة من الصيام عن أمها، وجعل ذلك بمثابة قضاء الدين، فدل على مشروعية فعل هذه العبادة البدنية عن الميت إذا مات ولم يفعلها.
وهل تلتحق بذلك الكفارات كصيام الكفارات وصيام رمضان أو لا يلتحق؟ وجهان للعلماء: منهم من خصه بما ورد به النص.
ومنهم من قال: النص على النذر معللٌ بعلةٍ نصية، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ) وهذه العلة النصية يستوي فيها سائر الواجبات، وهو الصحيح؛ أعني أن سائر الصيام الواجب يشرع لك أن تصومه عن الميت.
هذا بالنسبة لما استثناه الشرع: استثنى ركعتي الطواف تبعاً من العبادات البدنية، واستثنى صيام الفريضة في النذر ورمضان والكفارات ونحو ذلك، وأما صيام النافلة عن الميت فلا؛ لأن الأصل الحظر في العبادة البدنية.
وأما بالنسبة للعبادة المالية المحضة: فالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشروعية ذلك كما في الصحيح من حديث سعد ، قال: ( يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت )، والشيء الذي ينفلت زمامه من الإنسان لا يتداركه، بمعنى: أن الموت نزل بها قبل أن تدرك نفسها فتتصدق، وهذا أشبه بموت الفجأة، فموت الفجأة لا يستطيع الإنسان أن يتدارك فيه، قال: أفأتصدق عنها؟ فأذن له صلوات الله وسلامه عليه أن يتصدق عنها، فتصدق بحائطه المخراف، وكان من أفضل بساتينه رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه من البر؛ ولعظيم حق الأم، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 14-06-2022, 04:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (173)

صـــــ(1) إلى صــ(22)


وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد، وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد ) ومعلوم أن الذين لم يضحوا من أمة محمد فيهم أموات، منهم من مات قبل أن يضحي صلوات الله وسلامه عليه، كأصحابه الذين ماتوا من قبل، فوقعت هذه الأضحية عن الميت.
فدل هذا الحديث كما نص العلماء والمحققون على مشروعية التضحية عن الميت، ولا حرج أن يضحي الإنسان عن والده ووالدته، وأن يتقرب إلى الله عز وجل في ذلك اليوم المفضل بالأضحية، فيريق الدم قربةً إلى الله عز وجل وصدقةً عن أمواته بالتشريك والإفراد؛ بالتشريك كأن تقول: هذه عن والدي وعن والد والدي إلى المنتهى مثلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين أمواتٍ عديدين، فقال: ( عمن لم يضح من أمة محمد ) صلى الله عليه وسلم.
وبالإفراد كأن يقول: هذه عن أبي، أو هذه عن أمي؛ فإنه إفراد.
فإن أوصى الميت فلا إشكال وتكون واجبة، وأما إذا لم يوص فإنه إذا أحب الإنسان أن يتنفل بالصدقة عنه فلا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اشتكى إليه صحابي أن أمه ماتت، وأنه يريد أن يتصدق فقال: (نعم، وعليك بالماء) ففضل له الصدقة بالماء، كسقي الظمآن، لما في ري الظمآن من الأجر، كما في الحديث الصحيح: ( أن امرأةً زانية من بغايا بني إسرائيل مرت على كلبٍ يأكل الثرى، فنزلت فملأت موقها وسقته، فشكر اللهُ لها ) أي: أن الله عظم منها هذه الحسنة والرفق بهذا الحيوان الضعيف؛ فشكر الله لها هذا الفعل فغفر لها زناها وذنوبها.
وفي رواية: (فشكر اللهَ لها) ، يعني: الكلب سأل الله أن يشكرها؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي لها حسنةً أنقذته من الموت؛ فغفر الله لها ذنوبها، قالوا: فمن أفضل الأعمال سقي الظمآن، ففي ذلك إزالة لريه، فإطفاء حر الأكباد من شدة الظمأ والعطش، بحفر الآبار في البوادي والقرى والأماكن النائية التي يشق على أهلها جلب الماء إليهم؛ من أفضل القربات والطاعات، بل إن بعض العلماء قد يفضل هذا الأمر على بناء المسجد إذا كان إنقاذاً للأنفس، ويقولون: إن بهذا الأمر بقاء الصدقة والبر؛ لأنهم إذا شربوا تقووا على طاعة الله عز وجل، لأن البلاء بالعطش أعظم، فكان الرفق بعمل ما يدفعه أعظم في الأجر عند الله، فيفضلون مثل هذه القربات، فيقولون: لو تصدق عن الميت بماءٍ، كحفر بئرٍ وتسبيله فهو أعظم في المثوبة.
ولو برد الماء فيما يوجد في عصرنا هذا من البرادات ونحوها ففيه تفصيل: إن كان قد اشتراه وبرده، فهو مأجورٌ على الاثنين: على الماء بعينه، وعلى تبريده وإطفاء ما في الأكباد من حر الظمأ بهذا الماء البارد.
وأما إذا كان الماء من غيره، وهو قائم على تبريده، فيكون له أجر التبريد، وعين الماء المتصدق به لصاحبه الأصلي إن رضي بذلك.
هذا بالنسبة للصدقة بالأموال، ويشمل ذلك الذبح، وإطعام الجائع، وغير ذلك من القربات المالية المحضة، وكذلك التصدق بالمال، فلو أخذ عشرة أو مائةً فنوى في قلبه أنها صدقةً عن أبيه، فهذا من البر الذي يبقى بعد الموت؛ ولذلك شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه حينما سأله الصحابي.
ومن هذا ما ورد النص فيه كالبساتين، فالتصدق بثمار البساتين يعتبر من القرب المالية المحضة؛ لأن البلح والرطب والتمر يعتبر مالاً، ومن هنا يقولون: لا حرج أن يتصدق بالأموال سواءً كانت عينية أو كانت أطعمة أو كانت أسقية.
وهكذا الكساء، فلو أنه جلب كساء لبردٍ أو حرٍ فجعله ليتيم أو أرملةٍ أو نحو ذلك، ونواه صدقةً عن ميته، فهذا من القربات، حتى ولو زاد عن حاجة الإنسان، كأن تكون عند الإنسان ثيابٌ فاضلة يتصدق بها عن أمواته؛ فإنها من الحسنات، وهي من البر، كأن ينويها عن أبيه أو عن أمه؛ لأن النص ورد بإجازة هذا النوع من الصدقات.
إهداء الثواب للحي
قوله: [أو حيّ نفعه ذلك].
الأصل: أن الإنسان يتصدق عن نفسه، ويكون ذلك من باب الإيثار للنفس بالقرب والطاعات، أما بالنسبة للميت فقد يكون ذلك لعظيم حقه كالوالدين والقرابة، وقد يكون صديقاً بينك وبينه الود والمحبة، فتحب أن تحسن إليه بعد موته بالصدقة عنه، لعل الله أن يجعل في هذه الصدقة رحمةً تغشاه في قبره، أو تجعلها صدقةً عامةً للمسلمين، فكل ذلك مما لا حرج فيه.
وأما أن يكون من حي لحيٍ فهذا لا يحفظ فيه أصل، لكن بعض العلماء أجازه بالقياس، بإلحاق النظير بنظيره، وحكى بعضهم أنه لا خلاف فيه، ولكن لا أحفظ لهذا الإجماع مستنداً، فيتوقف في صدقة الحي عن الحي، بمعنى أن ينوي بأعماله الصالحة أن يكون ثوابها للحي.
وأما بالنسبة لنية الأعمال الصالحة عن الأموات إذا قلنا بمشروعيتها، فإنه يستثنى من ذلك هبة ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة منع منها العلماء رحمةُ الله عليهم، وبعض الناس يفعلها جهلاً، فيقول: إن هذه الصدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا باطل ولا أصل له، والسبب في ذلك أن حسنات الأمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء نويت أو لم تنو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دعا إلى هدىً كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً ) سواء كانت عبادات بدنية أو مالية أو جامعةً بينها، فأجور الأمة كلها في ميزان حسناته بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وهو ليس بحاجة إلى أن يتصدق أحدٌ أو ينوي صدقته عنه صلوات الله وسلامه عليه، فهو في مقام عظيم وفي منزلٍ كريم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.
صنع الطعام لأهل الميت
قال المصنف رحمه الله: [ويسن أن يصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم].
أي: لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم، وهو محفوظٌ عنه في يوم موت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ففي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم ما يشغلهم ) والسبب في ذلك: أن أهل الميت يفجعون بميتهم، فيشتغلون بالفاجعة والمصيبة عن تهيئة الطعام ونحو ذلك، فحينئذٍ كان من الرفق أن يصنع لهم الطعام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فقد أتاهم ما يشغلهم)، والمحزون والذي فجع بفاجعةٍ في ولده أو قريبه يذهل عن طعامه وشرابه، ولربما وضع الطعام بين يديه فلم يستسغه، وكذلك ربما وضع الشراب بين يديه فلا يستسيغه؛ مما يكون في كبده من ألم الفراق ولوعة الحزن وشدته عليه في نفسه، ولذلك يرفق به بصنع الطعام.
وينبغي أن يكون صنع هذا الطعام من باب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا من باب الرياء ولا المباهاة؛ وإنما يقصد به وجه الله تبارك وتعالى، حتى يثاب صاحبه ويؤجر.
قوله: (يصنع لهم) للعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يصنع لهم يوماً واحداً، وهو يوم المصيبة والفاجعة، وأما اليوم الثاني والثالث فلا يصنع.
ومنهم من يقول: الثلاثة الأيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحداد ثلاثة أيام؛ فلما سوغ لأهل الميت أن يحدوا على ميتهم ثلاثة أيام، فمعناه أنهم مشغولون في الثلاثة الأيام أكثر من غيرها، فيشرع أن يصنع لهم الطعام في الثلاثة الأيام، والأمر محتمل، لكن الوارد عنه عليه الصلاة والسلام أنه أطلق، فقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد آتاهم ما يشغلهم) فإن قيل باليوم فهو الأصل وهو الأقوى، وإن قيل بالثلاثة الأيام فله وجه؛ لأنه قال: (فقد أتاهم ما يشغلهم) فقد يكون شغلهم في الثاني والثالث كشغلهم في الأول، بل قد يشتد حزنهم أكثر في الثاني والثالث.
وعلى العموم: الأقوى أن يقتصر على اليوم الأول .
الأسئلة
حكم رفع اليدين عند الدعاء والاستغفار للميت

السؤال
عند الدعاء والاستغفار للميت هل يشرع رفع اليدين؟ وكيف يدعو: هل يتوجه إلى القبلة أم ماذا؟

الجواب
الدعاء للميت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون بعد دفنه مباشرة.
والصورة الثانية: عند زيارة المقابر.
أما إذا كان دعاؤه بعد دفنه مباشرة، فالسنة ألا ترفع اليد، كما نص على ذلك جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وإنما يدعى له ويستغفر ويترحم عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل ) ولم يرفع يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك درج عليه فعل السلف، إلا أنه أثر ذلك عن ابن عمر ، لكن لم أطلع على من صحح الرواية عنه في ذلك.
أما بالنسبة لرفع اليدين عند الزيارة، كأن تزور القبور وتريد أن تدعو لأهلها، أو تزور قبراً معيناً كوالدٍ ووالدةٍ وقريب وصديق ونحو ذلك، فلا حرج أن ترفع يديك، بل هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( أنه لما خرج بالليل قام على القبور قياماً طويلاً ورفع يديه واستغفر لهم ودعا لهم ) وحينئذٍ يستقبل القبلة ويدعو للميت، ويترحم عليه، وعند السلام يستقبله من وجهه كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فيأتي للقريب من وجهه ويسلم عليه، ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو ويترحم على ميته وأموات المسلمين، هذا هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من المواضع التي ورد فيها النص بمشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وأما ما ذكرناه في حال الدفن فلا يُحفظ فيه نصٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.

حكم التعزية بعد الدفن في المقبرة

السؤال
ما حكم وقوف أقارب الميت في المقبرة بعد الدفن لتعزية الناس لهم، أثابكم الله؟

الجواب
لا حرج أن يعزى أقارب الميت عند القبر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزّى عند القبر كما في الحديث الصحيح: ( أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأةٍ وهي تبكي على قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اصبري.
فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب.
فلما ولى قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءت تعتذر إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) فكان عزاؤه عند الصدمة الأولى، أي: لما صدمت وفجعت وبكت على ميتها، فعزّاها صلوات الله وسلامه عليه فقال: (يا أمة الله! اصبري)، فلا حرج أن يعزى في القبر.
ولذلك أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على مشروعية التعزية عند القبر، وفيه رفقٌ بالناس؛ لأنهم يتكلفون الحضور إلى بيت الميت ثانياً، فالأولى أن يعزوا عند القبر؛ ولأن آل الميت أحوج ما يكونون إلى التعزية في مثل هذا الموضع الذي يشتد فيه حزنهم ويعظم فيهم مصابهم؛ لأنهم يرون أن الميت قد ووري وغاب عنهم، وحينئذٍ تكون الفاجعة به أشد، لكنه قبل دفنه يكون كأنه موجودٌ أمامهم يرونه فيتسلون برؤيته، ولربما تسلت الأم برؤية ابنها، وتسلى الأب برؤية ابنه، لكنه إذا دفنه وتحقق عندها موته؛ فإنه تكون الفاجعة به أشد.
ولذلك يعتري كثير من الناس من الحزن والفاجعة في مثل هذا الوقت ما لا يكون بعده، ففي هذه الحالة يشرع أن يعزوا في القبر لشدة ألمهم، وما يجدونه من الحزن والوجد على فراق أقاربهم.
ويعزى أهل الميت إذا عُرِفوا، وخفف بعض العلماء وتسامح في كونهم يقفون مصفوفين حتى يعلم الغريب أنهم قرابة للميت فيعزيهم، أما لو كانوا لا يتميزون؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن يعرفهم الغريب؛ ولذلك رخص بعض المتأخرين من العلماء في هذا فقالوا: الأمر فيه واسع، لكن لا يعتقد أنه من السنة، إنما يقال: يفعل للحاجة، ولا يعتقد أنه لو تركه أحد أن يقال: إنه أساء؛ لأنه أمر فعل للحاجة، فلو تميز آل الميت وعُرِفوا فتركه أولى.
أما إذا وجدت قرابة من الميت وهم بحاجة إلى أن يواسوا ويعزوا فاصطفوا لذلك، فهذا درج عليه كثير من العلماء ولم ينكروه؛ لأنه يحتاج إليه خاصة في هذا الزمان عند اتساع المدن، وقد يشهد الجنازة من لا يعرف أهلها، ولا يعرف قرابتها، فلو قيل له: اذهب وتخيّرهم بين الناس لصعُب، خاصةً إذا كان الميت قد شهد جنازته كثير، وقد تعرف الصديق والقريب ويخفى عليك قرابته، ويخفى عليك أهله وجماعته؛ فحينئذٍ تحتاج إلى من يميزهم.
فمثل هذا ليس بعبادةٍ مقصودة، أعني: إذا اصطفوا ووقفوا، أنهم لا يفعلون ذلك بقصد العبادة، إنما بقصد أن يعرفوا ويميزوا، فخفف فيه بعض المشايخ رحمةُ الله عليهم ممن أدركناهم من أهل العلم من هذا الباب.
أما لو اعتقد أنه من السنة، أو أنه لا بد من الوقوف، وأنه يكون على حالة معينة أو مخصوصة فهذا من البدعة والحدث الذي لا أصل له والله تعالى أعلم.

حكم شد الرحال للعزاء

السؤال
ما حكم شد الرّحال للعزاء أثابكم الله؟

الجواب
شد الرحال للبقع نُهي عنه لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) فلا تشد للقبور ولا للمشاهد، لكن إذا كانت الأعمال الصالحة: كبر الوالدين، وطلب العلم، والحج والعمرة، فتشد لها الرحال؛ لأنها أعمال وليست بأماكن، وفرقٌ بين المكان وبين العمل، فإذا أراد أن يشد الرحل للعزاء فهذا فيه تفصيل: إن كان الميت قوي القرابة من الإنسان كأبيه، فكان يريد أن يشد الرحل إلى أهله وإخوانه وأخواته ليكون معهم ويثبتهم ويواسيهم ويصبرهم، فهذا لا إشكال أنه من صلة الرحم، وأنه لا حرج عليه أن يسافر من أجل أن يصبر أمّه ويصبر إخوانه وأخواته وأقاربه.
أما أن يسافر لصديقه ويتكلف السفر لصديقه ونحو ذلك من المجاملات، فهذا لا أصل له، بل إنه قد يكون عبئاً وثقلاً عليه، والأحسن أن يعزيه بالاتصال هاتفي، خاصةً مع تيسر وسائل الاتصال الآن، أو يكتب له رسالة أو يبرق له، فيشعره بتأثره بما نزل به من بلية، وفي هذا الكفاية وفيه الخير والله تعالى أعلم.

حكم دفن الوالدة مع ولدها إذا ماتا معاً

السؤال
إذا ماتت الوالدة في ولادتها هي وولدها، فهل يشرع دفنهما سوياً أثابكم الله؟

الجواب
الجمع بين الاثنين في قبر لا يشرع إلا من حاجة، والأصل أن الأطفال الصغار يقبرون على حدة، فإن وجدت حاجة من كثرة عددهم وصعوبة دفنهم منفردين فلا حرج أن يجمعوا، سواء جُمِعوا مع كبيرٍ بالغ أو مع صغارٍ مثلهم، ففي هذه الحالة لا حرج أن يقبر مع أمه.
وأما ما يعتقده العامة من أن هذا الصغير يخفف العذاب عن الكبير فباطل ولا أصل له، والله تعالى لا يظلم عباده شيئاً، وهو سيتولى العبد بإحسانه إن كان محسناً، وبعدله إن كان مسيئاً، أو بفضله ورحمته وعفوه وكرمه إذا أحب أن يعفو عن إساءته.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يشملنا بواسع لطفه وحلمه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 14-06-2022, 05:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (174)

صـــــ(1) إلى صــ(18)





شرح زاد المستقنع - زيارة القبور
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر عن زيارة المقابر، ثم أمر به واستحبه، وبين العلة من ذلك وهي أنها تذكر بالآخرة، فينبغي على المسلم أن يزور المقابر بين الفينة والأخرى، وأن يكون ملماً بالأحكام المتعلقة بها، كحكم زيارتها، وتعظيم خطر الغلو في القبور وما أحدث فيها من البدع، وحكم زيارة النساء للمقابر، ومعرفة آداب زيارة القبور وما يقال عند زيارتها.
حكم زيارة القبور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد بين المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بالميت، حتى فرغ من بيان أحكام الدفن، وما يتبع ذلك من المسائل المتعلقة بالقبور، ثم شرع رحمه الله في هذا الفصل في بيان بعض الأمور المتعلقة بما بعد الدفن، فقال رحمه الله: [فصل: تسن زيارة القبور].
هذه السنية تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فأما القول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن مسعود و أبي سعيد و أبي هريرة و أنس و عائشة رضي الله عن الجميع: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة ).
ولما سألته أم المؤمنين ماذا تقول إذا زارت القبور؟ فقال: ( قولي: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ...) الحديث.
وأما الفعل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم زار القبور ودعا لأهلها واستغفر، وأقر زيارتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه قام في جوف الليل، وتبعته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقام قياماً طويلاً ودعا لأهل القبور واستغفر، ثم رجعت قبله صلوات الله وسلامه عليه)، فدل هذا على مشروعية زيارة القبور.
وللعلماء تعبيران في هذه المسألة: فمنهم من يعبر ويقول: تُسن، ومثل هؤلاء أيضاً من يقول: يباح، ومنهم من يقول: تشرع، فهذهِ ألفاظٌ متقاربة وهناك قولٌ آكد وأقوى، وهو التعبير الثاني: تستحب.
فأما من قال: إن زيارة القبور مباحة؛ فإنه نظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) فقال: إنه أمرٌ بعد الحظر، والأمر بعد النهي والحظر يقتضي الإباحة عند هؤلاء.
وأما من قال بالاستحباب والتأكد فقال: إنه أمرٌ مصروفٌ عن ظاهره الدال على الوجوب إلى الندب والاستحباب.
فأما الذين قالوا: إنه أمرٌ بعد حظر، فإنه إذا ورد نهيٌ في الكتاب والسنة، ثم جاء بعده أمرٌ بذلك المنهي عنه فللعلماء أقوال: قال بعض العلماء: كل أمر بعد الحظر محمولٌ على الإباحة، وهذا يختاره جمعٌ من فقهاء الشافعية والحنابلة وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على الوجوب، وهو مذهب الظاهرية.
والقول الثالث: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على حالته قبل النهي.
توضيح ذلك بالمثال: صيد البر حرمه الله على المحرم، ثم قال: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة:2] فوقع قوله: (فاصطادوا) بصيغة الأمر التي هي بعد الحظر والتحريم، فهل نقول: إن الصيد واجب أو مندوبٌ أو مباح؟ فهذه هي مذاهب العلماء.
فمن يقول: إنه للوجوب، يقول: لأنه أمر، حتى أن بعض الظاهرية يوجبون الصيد على ظاهر الآية، وهو من أغرب الأقوال وأكثرها شذوذاً.
والذي قال: إنه للندب والاستحباب يقول: إن الأمر رفع النهي، فأصبح مصروفاً عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى ما هو دون ذلك وهو الندب والاستحباب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة:9]، فقوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): نهي وتحريم وحظر، جاء بعده قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة:10] فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: بالتجارة، كقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة:198] فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة.
فهل قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) محمولٌ على ظاهره من الوجوب أو للندب والاستحباب، أو للإباحة التفاتاً إلى ما كان عليه الحال قبل ورود النهي؟ فأصح الأقوال في هذه المسألة: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حالته قبل الحظر، فيرفع الأمرُ النهي، ويبقى الحكم للأصل، فلما كان الصيد في الأصل تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون مكروهاً، ويكون مندوباً، ويكون واجباً ويكون حراماً، ويكون مباحاً؛ فإن الأمر بالتحلل في قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة:2] يرفع الحظر والتحريم، ويرجع حكم الصيد إلى التفصيل وهي الأحكام التكليفية الخمسة: إن كان صيداً لمحرم فمحرم، وإن كان صيداً لمكروه فمكروه، وإن كان صيداً لإنقاذ نفسٍ فواجب، وإن كان من أجل أن يتقوى به على طاعة الله فمستحب، وإن خلي من الدوافع والموانع فهو مباح.
كذلك أيضاً في قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ } [الجمعة:10] فلما كانت التجارة من المباحات التي ليست بواجبة ولا لازمة على المكلف، ولا بمحرمةٍ على الإطلاق، وإنما تحظر أحياناً وتباح أحياناً؛ فإن أمر الله عز وجل بالبيع والشراء بعد صلاة الجمعة يرفع الحظر الذي كان موجوداً أثناء الصلاة، ويبقى حكم التجارة على الأصل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ) فالذين يقولون: تباح الزيارة ولا يعبرون بالاستحباب يلتفتون إلى هذا الأصل، فيقولون: إنه أمرٌ بعد حظر؛ فيرجع إلى الإباحة، والذين يقولون: إنه للندب والاستحباب، يقولون: الأمر في قوله: (فزوروها) رفع التحريم، وبقيت زيارة القبور مستحبة، خاصةً وأن في الحديث كلمة تدلّ على الاستحباب والندب بقوله: (فإنها تذكر الآخرة) فقوي هذا المذهب، ولذلك كان التعبير عند بعض العلماء بقوله: (وتستحب زيارة القبور) أقوى من التعبير بقوله: (تسن).
والإجماع منعقد من حيث الجملة على أن الزيارة سنة بالنسبة للرجال، أما بالنسبة لفضلها فإنها تستحب، والسبب في ذلك: أن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فما كان وسيلةً لواجبٍ فواجب، وما كان وسيلةً لحرام فحرام، وما كان وسيلة لمندوبٍ فمندوب، فلما كان تذكر القبور واستشعار الآخرة، وكون المكلف دائماً يستحضرها في قلبه مما يعينه على طاعة الله، ويقوي عزيمته على الخير، ويكفه عن كثيرٍ من الشر والمحارم والحدود، ويهذب أخلاقه ويقوّمُ سلوكه؛ كان هذا من جنس المستحبات لما له من الأثر العظيم.
ويبقى النظر بالنسبة لزيارة القبور: هل هي لمصلحة الزائر، أو لمصلحته ومصلحة المزور وهو المقبور الذي يزار؟ فإن كانت لمصلحة الزائر فظاهر قوله: (فإنها تذكر الآخرة) متعلق بالزائر، وحينئذٍ تكون الزيارة لمصلحة الحي.
والصحيح: أنها لمصلحة الحي والميت، أما الحي: فإنه ينتفع بالاتعاظ والادكار، خاصةً إذا صحب الزيارة حضور القلب، وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهو ينظر إلى القبور متقاربة، ولكنها في الأجور والحسنات والنعيم والجحيم متباعدة، فقد يكون القبر إلى جوار القبر، ولكن هذا في غاية النعيم، وهذا في درك الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية! وتراهم وهم جيران قربٍ لا يتزاورون، وغرباء سفرٍ لا ينتظرون، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
فإذا نظر الإنسان إلى حال القبور، خاصةً إذا كان على علمٍ بأهلها، فيعلم أهلها وأصحابها، وبالأخص إذا كانوا من الأقرباء والأصحاب والأحباب؛ فإن وقع ذلك في القلوب بليغ، ولذلك يتأثر الإنسان من مثل هذه الزيارات، ويصبح قصير الأمل في الدنيا، وإذا قصر أملُ الإنسان في الدنيا خشع قلبه، وإذا خشع قلبه صلُح، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ) فلا شك أنها لمصلحة الحي من هذا الوجه، حيث تعينه على ذكر الآخرة، وتكسر كثيراً من الغرور، وتحول بينه وبين كثيرٍ من الشرور؛ فلربما زار قبر إنسان مسرف على نفسه كثير العصيان فنظر إلى حاله فاتعظ وادّكر، وكره عمله وما كان عليه من حال، وإذا زار عبداً صالحاً مستقيماً على طاعة الله عز وجل؛ فإنه يحمد ما كان منه من طاعة وبر؛ فيكون حريصاً على التشبه به والتخلق بأخلاقه؛ لعل الله أن يبلغه منزلته، ولذلك جاء في دعاء المقابر: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير والبر والطاعة والاستقامة؛ حتى نكون مثلهم أو خيراً منهم.
وقوله: (تسن زيارة القبور) هذا بالنسبة للتعبير العام، وإلا فالحكم يستوي أن تزور قبراً معيناً أو قبوراً، فلو أن إنساناً أراد أن يزور قبراً معيناً بدون أن يشد له الرحل، فزاره ووقف عليه وسلّم على صاحبه، ودعا له بخير؛ فإن هذا له أثر، لأن العلة واحدة، سواء زرت الجماعة أو زرت الفرد؛ ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهم العلماء من هذا أنه لا فرق بين زيارة قبر أو قبور، فكون الإنسان يزور قبراً ليتعظ لا شك أنه سيكون لمصلحته.
بقي أن ينظر في مصلحة الميت المزور، فمصلحته بالدعاء والاستغفار له والترحم عليه؛ فمن زار المقابر وترحم على أهلها لا شك أنه سينال أجر هذه الدعوة الصالحة، فلربما مررت عليهم في ساعة يعذب فيها أقوام، فسألت الله لهم الرحمة فرحمهم الله، ورفع عنهم ما هم فيه من العذاب، وقد يكونون أمم لا يحصون، فيكون لك كأجرهم؛ لأنك نفست عنهم هذه الكربة العظيمة، لأنهم انقطعوا عن أعمالهم، فإذا دعوت لهم بالخير وترحمت عليهم، وسألت الله أن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور عليهم؛ فإن الله عز وجل يثيبك على هذه الدعوة الصالحة: (ولك بمثل)؛ لأنك تدعو لأخيك بظهر الغيب.
ومن هنا يعظم أثرها على الزائر ويتأكد ذلك في حق الوالدين والأرحام والقرابات والشيخ ونحوه ممن له فضل على الإنسان من العلماء والدعاة، ونحوهم ممن لهم فضلٌ على الأمة وفضلٌ على المسلمين؛ فهؤلاء لا شك أن زيارتهم أكثر خيراً في الدعاء لهم والترحم عليهم، ورد شيءٍ من جميلهم على الإنسان كالوالدين والأقرباء الذين لهم حقٌ عليه.
(تُسنّ زيارة القبور): هذه الزيارة المقصود منها -كما قلنا- أن يصلح ا
حكم زيارة النساء للقبور
قال المصنف رحمه الله: [تسن زيارة القبور إلا للنساء].
النساء اختلف فيهن على قولين: القول الأول: تشرع زيارة القبور للنساء كما تشرع للرجال، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: تحرم زيارة القبور على النساء، ويختص الجواز بالرجال دون النساء، وهؤلاء انقسموا على طائفتين: فمنهم من يقول: إنها محرمة وليست بكبيرة إلا إذا صحبها التكرار والعود؛ لقوله: (زوارات القبور).
ومنهم من يقول: هي كبيرة مطلقاً.
أما الذين قالوا: إن الزيارة مشروعة للنساء، فقد استدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) قالوا: وهذا عام، والقاعدة في الأصول: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه).
قالوا: ومن استدل بالتحريم بقوله: ( لعن الله زائرات القبور ) ، فإن هذا الحديث ورد أثناء التحريم، وأما حديث: ( قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ) فإنه نصٌ صحيح صريح، يدل على أن هذه الإباحة سبقها تحريم؛ ولذلك قالوا: إن ما ورد من التحريم محمولٌ على الزمان المنسوخ، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (كنت قد نهيتكم) فلو كان النساء خارجين من هذا الحكم لقال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها إلا النساء)، ولنص عليه الصلاة والسلام على استثناء النساء؛ فبقي التحريم منسوخاً.
واعترض عليهم بأن هذا الحديث: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها ) لا يعارض حديث: ( لعن الله زائرات القبور ) فقوله: (فزوروها) هذا خاصٌ بالرجال، والتحريم للنساء ورد به النص، قالوا: ولا يوجد دليل يدل على النسخ.
وهذا الاعتراض أجيب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن دلالة النسخ في النص ظاهرة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (كنت قد نهيتكم) وهذا عام، ثم قال: (فزوروها) وهذا أيضاً عام، فدل على أنه نهي تحريم في الأول، وإباحةٌ في الثاني، فالأول عام، والثاني عام، فلا وجه للتخصيص بدون مخصص.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نص على النسخ، فقال: (كنت) ثم قال: (فزوروها) وهذه هي صيغة نص واضحة.
أما الدليل الثاني: فقالوا: إن أم المؤمنين عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن -كما في الأثر الصحيح عنها- بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله زائرات القبور )؟ فقالت رضي الله عنها: لكنه قال بعد: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) .
وهذا الحديث ليس من كلام عائشة ، إنما يكون أثراً عن عائشة يقدم عليه الحديث المرفوع لو كانت عائشة فهمت شيئاً، أما هنا فإنها تنقل النسخ بقولها: (لكنه قال بعد) فقد حضرت تحريماً وحضرت إباحة، ونصت على أن التحريم سابق والإباحة لاحقة، فمثل هذا لا إشكال في دلالته على النسخ وجهاً واحداً عند الأصوليين؛ لأنها حفظت الزمان، وحفظ الزمان في أصله تشريع، بخلاف ما لو اعترضت برأيها كقولها مثلاً: (بئس ما عدلتمونا به) في حديث الكلاب والحمير، فذلك واضح أنه اجتهاد.
ثم إنها رضي الله عنها من أفقه الصحابة وأعلمهن بأحكام النساء، وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختلفون في أمرٍ من أحكام النساء إلا رجعوا إليها، ولا أفتت بحكم فراجعها أحد، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اختلف الصحابة في مسألة الإنزال المشهورة، بعث إلى أم المؤمنين عائشة فحدثته بالحديث، فقال: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً).
ونحن نفهم النسخ من ظاهر قوله: (كنت قد نهيتكم) وهو نصٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تأكد هذا بدلالة الصحابي، حيث يعضد ذلك بالبيان في قولها رضي الله عنها: (لكنه قال بعد).
وقد فعلت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الجمهور: فهذا يدل على جواز زيارة النساء للقبور.
واستدل الذين قالوا بالتحريم بقوله عليه الصلاة والسلام: ( لعن الله زائرات القبور -وفي روايةٍ: زوارات القبور- ) قالوا: إن اللعن لا يكون إلا على فعل حرامٍ أو ترك واجب؛ وبناءً على ذلك: تكون الزيارة بالنسبة للمرأة محرمة؛ وقوله: (زائرات القبور) يقتضي تخصيص الحكم بالإناث دون الرجال.
ثم أكدوا ذلك من جهة النظر والمعنى، فقالوا: إن المرأة ضعيفة القلب، فلا تأمن إذا دخلت إلى القبور أن تتغير، ولربما تصرخ وتتكشف، خاصةً إذا زارت أقاربها، فإنها لا تأمن من شدة الفاجعة أن تذكر شيئاً أو تنظر إلى أحوال الميت، فيصدر منها الصوت أو يصدر منها الفعل على وجه محرمٍ محظور.
قالوا: بناءً على ذلك فإنه لا يشرع لها أن تزور المقابر، سواء كانت قبوراً عامة أو قبوراً خاصة، لكنها لو مرت بالقبر مروراً وسلمت فلا حرج عليها في ذلك.
والناظر في هذين القولين وأدلتهما يرى أن من قال بالتحريم له وجهٌ بالترجيح من جهة الأصول، والقائل بالجواز له وجهٌ وقوة من جهة الأدلة.
أما الذين قالوا بالتحريم؛ فإن القاعدة في الأصول: (إذا تعارض حاظر ومبيح، يقدم الحاظر على المبيح) ولذلك يقوى قول من قال بالتحريم على قول من قال بالجواز من جهة وجود هذا الأصل؛ لأنه لو قلنا للمرأة الآن: لا تزوري المقابر.
فإنه في هذه الحالة يفوتها فضل الزيارة الذي يمكن أن تعوضه بالدعاء والاستغفار للميت والترحم عليه؛ لكننا لو قلنا لها: زوري المقابر.
فإننا لا نأمن أن تكون قد أصابت المحظور، أو على الأقل شيئاً مكروهاً؛ ولذلك يكون تغليب باب الحظر من هذا الوجه أقوى وأولى.
ثم إذا نظرنا إلى واقع الناس وحالهم اليوم، وعدم انضباط كثير من النساء بالحدود والضوابط الشرعية؛ فإنه يقوي قول من قال بالحظر.
واتفق العلماء على أنه لا تجوز زيارة المقابر إذا كانت المرأة ضعيفة أو لا تتمالك نفسها أو غلب على الظن أنها تفعل المحظور عند القبر، وإذا كانت شابةً فاتنة وذهبت إلى القبر فتنت غيرها أو فتنت نفسها أو جمعت بين الفتنتين فلا تجوز بالإجماع، فليست هذه مسألة خلافية، إنما الخلاف يكون في امرأة عاقلة حكيمة الغالب على الظن أنها تضبط نفسها، وتريد أن تتعظ؛ فهذا هو الذي يجيزه جمهور العلماء لها من الزيارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على المرأة وهي تبكي عند القبر لم يقل لها: لعن الله زائرات القبور، ولم يحظر عليها ذلك، قالوا: فقد أقرها عليه الصلاة والسلام؛ لكن الناظر في حال الناس اليوم قد يجد أغلب النساء -إلا من رحم الله- أنهن لا يطقن الزيارة، مع أنه بإمكانهن أن يعوضن هذا الأمر المشتبه فيه إلى أمرٍ لا شبهة فيه بالدعاء والاستغفار للموتى.
ما يقال عند زيارة القبور
قال المصنف رحمه الله: [ويقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم].
هذا هو الدعاء المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم والوارد عنه، وهو من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين حيث جعل للأموات دعاءً عند الأحياء، وجعل للمسلم على أخيه المسلم أن يذكره بعد موته بالدعوة الصالحة، فإذا مرّ على هذه القبور أو دخلها يقول: السلام عليكم.
السبب في هذا: أنه لما نُزّل الميت منزلة الحي، ودل النص على مشروعية السلام عليه؛ أخذ هذا السلام الأصل الشرعي، فأنت تسلم على من مررت به ومن جئته وجلست معه، فيشرع أن تسلم مارّاً ويشرع أن تسلم داخلاً.
قوله: (السلام عليكم) المراد به السلامة من الآفات والشرور، وهو اسمٌ من أسماء الله تعالى، لكنك إذا قلت: (السلام عليكم) لا تقصد هذا الاسم، وإنما تقصد معناه، أي: سلمكم الله من الآفات والشرور وغيرها من المصائب.
وأما بالنسبة للأموات فإن الأموات لا يأمنون في قبورهم من الفتن وعذاب القبر، وما في القبر من الأهوال والشدائد، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا منها، وأن يلطف بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
فشُرِع أن تقول: السلام عليكم، أي: سلمكم الله، فإن كانوا معذبين سلمهم الله بدعائك، وإن كان ينتظرهم العذاب فإن الله سبحانه وتعالى يقيهم بصالح دعائك.
قوله: (دار قومٍ مؤمنين) فيه فوائد: الفائدة الأولى: وصف القبور بكونها داراً، فيدل على أن الدور ثلاثة، كما هو مذهب السلف الصالح رحمة الله عليهم: الدنيا، والآخرة، والبرزخ.
وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك، أما الدنيا والآخرة فواضح، قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا } [القصص:83] فجعلها آخرة وجعل الدنيا للعمل، وكذلك أيضاً قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى:16-17] فذكر دارين.
أما الدار الثالثة -وهي البرزخ-: فقد أشار إليها: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون:100] فدل على أن البرزخ دار، وذلك في قوله: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين.
الفائدة الثانية: أنه لما قال: (دار) أخذ منه بعض العلماء أنه لو حلف وقال: والله لا أدخل داراً، فدخل القبر أنه يحنث، وقال بعض العلماء: لا يحنث؛ والسبب في هذا: أن الدار في العُرف هي الدار المعروفة ولا تشمل القبور؛ فانصرف هذا اللفظ اللغوي إلى المعروف عرفاً، وهذا من باب تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة العرفية.
فإن قيل: إنه يؤاخذ على وصفه بالدار فيستقيم قول من قال: إنه يحنث؛ لأنه المقابر وصفت بكونها داراً.
ومدة هذه الدار من يوم دفن الإنسان إلى أن يبعثه الله عز وجل؛ ولذلك ورد في حديث البراء ( هذا مقامك حتى يبعثك الله ) وبناءً على ذلك يقولون: حتى لو أن هذا الرفات نقلته الريح، وأشلاءه وأعضاءه أخذتها السباع ونحو ذلك فلا يزال الحكم للقبر الذي قُبِرَ فيه، ولذلك يقول بعض العلماء: إن العبرة بالقبر نفسه؛ لأنه داره ولو قُبر فيه الملايين.
ثم لو قبر ملايين الصالحين في مكانٍ واحد لأفسح الله لكل صالح مد البصر، ولا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82] وهذه من الغيبيات والسمعيات، التي لا يخاض فيها بالعقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الأشياء، ولا يمكنه أن يدخلها، ولما دخل فيها الفلاسفة بالعقل والمنطق وقعوا في الحيرة والظلام، ووقعت منهم زلات وأخطاء عظيمة، حتى أن بعضها تمس اعتقاد الإنسان، حتى إن بعضهم يقول: إن هذه تخيلات -أي: لا حقيقة لها-!! حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب يوم القيامة ) وهو آخرك الذي تراه مثل الدائرة، فإنه إذا أذن الله عز وجل ببعث الناس تركب المخلوق وابتدأ خلقه من عجب الذنب، وقامت عليه أعضاؤه، فإذا هو قائمٌ بين يدي الله عز وجل.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين): فالدار دار قومٍ كافرين، ودار قوم مؤمنين، ومن هنا نفهم أن الزيارة تختص بمقابر المسلمين، فلما قال: (دار قومٍ مؤمنين) فهمنا أنه لا تشرع زيارة قبور الكفار؛ لكن إذا زارها الإنسان للاتعاظ لا للدعاء ففي هذه الحالة التي أشار إلى العلة فيها: أنه إذا كانت لمصلحة الحي جاز له أن يمر بها متدبراً متأملاً، ويبشرهم بما عند الله من العذاب والعقوبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من مر بقبور الكفار أن يبشرهم بما عند الله من العذاب والنكال؛ حتى يزدادوا غماً إلى غمهم وهماً إلى همهم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالزيارة تختص في الأصل بقبور المؤمنين، لكن بالنسبة لقبور الكفار: فإنه إذا نظر إليها متعظاً متدبراً أو موبخاً مبكتاً -كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قليب بدر- فلا حرج في ذلك، أما لمصلحة المزور فلا، وهذا مما تختص به قبور المسلمين عن قبور الكافرين؛ قوله: (من المسلمين والمؤمنين) من باب التنويع؛ فإنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا ذُكر أحدهما شمل الآخر.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) المراد بذلك أهل الإسلام، سواءٌ كانوا من المؤمنين أو في درجة الإسلام أو الإحسان، فالكل داخل في هذا العموم، وأما رواية (من المؤمنين) فإنها عامة بالنسبة لأهل الإسلام.
قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: متى شاء الله، وهذا تعليق بالزمان، ويجوز التعليق بالزمان، مثل: متى شاء الله أزرك، ومتى شاء الله آتك، ومتى شاء الله أعطك فهذا تعليقٌ بالزمان، ولذلك يقسم العلماء (إن شاء الله) إلى تحقيقية وتعليقية: فالتحقيقة: كقولك: (إن شاء الله أزرك) أي: أنك جزمت بأنك زائر فقصدت التحقيقية، كقولك: أنا إن شاء الله فاعلٌ كذا.
بقصد أنه واقعٌ منك ولا بد بعد قدرة الله عز وجل لك.
وأما التعليقية: فهي التي يعلق بها المكلف الفعل فيما يستقبل من الزمان.
وهذا النوع الثاني -وهي التعليقية- تحظر في الدعاء، كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لأنه يعلق مغفرة الله على مشيئة الله، فإن الله لا مستكره له، بل عليه أن يعزم المسألة ويقول: اللهم اغفر لي وارحمني.
فتشرع التحقيقية بأن يقولها الإنسان تحقيقاً للأمور كقوله: إن شاء الله سآتيك، ويقصد التحقيق والتعليق.
وهذا الحديث: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تُحمَل فيه على التحقيقية إذا قُصِد بها الموت، فإنه لا محالة أننا ميتون؛ لأن الله يقول: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر:30] فأخبر أن الإنسان ميت، وأنه لاحق بهؤلاء القوم إما عاجلاً أو آجلاً، وكل ما هو آتٍ قريب؛ ولذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: إن لحقونا بكم مؤكد، فلا يحول بين الإنسان والموت إلا عدم حضور أجله، وإلا فهو ميتٌ، إذا ثبت هذا على هذين الوجهين يكون التعليق لا إشكال فيه.
وقوله: (لاحقون): اللاحق هو الذي يأتي تبعاً للإنسان، فلما تأخر موت الزائر عن المزور وصف نفسه بكونه لاحقاً له.
قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) وفي بعض الروايات: (يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين).
(المستقدمين): تَقدُّم الشيء على الشيء معلوم ومعروف، وقوله: (المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذا عموم بذكر أفراد العام، حيث قسم الناس إلى متقدم ومتأخر، والناس إما سابق وإما لاحق، فقال: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين).
ثم إن قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذه دعوة عامة تشمل الأحياء والأموات، فالأموات متقدمون والأحياء متأخرون.
(اللهم) أي: يا ألله، والميم تأتي عوضاً عن حرف النداء (يا) ولذلك لا يصح أن يقال عربية: (يا اللهم) إلا في قريض الشعر؛ لأنه لا يجمع بين البدل والمبدل، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله -رحمه الله-: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض ومن هذا الشاذ الذي يكون في القريض والشعر قول الشاعر: إني إذا ما حدث ألم ناديت يا اللهم يا اللهم أي: يا ألله يا ألله.
وقوله: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير، والسبب في ذلك: أن الإنسان مع الميت على إحدى حالتين إذا كان الميت صالحاً؛ لأنك إذا زرت المؤمنين فالأصل أنهم توفوا على الإيمان فقد نجوا من الفتنة -أعني فتنة الكفر والخلود في النار- فإذا زارهم الزائر لا يخلو بعدهم من حالتين: إما أن يكون بقاؤه بعدهم لخيرٍ يزداد منه، وإما أن يبقى لشرٍ يزداد فيه، أو لفتنة تنتظره يكون بها شقاؤه نسأل الله السلامة والعافية.
فإن بقي لخيرٍ فهو أفضل، حتى ورد في الحديث الصحيح في الرجلين الأخوين اللذين كان أحدهما أصلح من الثاني، فمات الصالح وتأخر من هو أقل صلاحاً أربعين يوماً فاختلفوا: أيهما أصلح؟ فخرج النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وما يدريكم ما الذي تبلغ به صلاة أربعين يوماً ) فلا شك أن الإنسان إذا بقي بعد الميت ولو يوماً واحداً فإن الله قد يبلغه في هذا اليوم ما لم يبلغه في سنوات ودهور، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الرجل ثم حمل على القوم فقُتل شهيداً، قال صلى الله عليه وسلم: ( عمل قليلاً وأُجر كثيراً ) .
ومن هنا كان الأمران، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم لا تحرمنا أجرهم ) أي: أحينا بعدهم حياةً طيبةً تبلغنا إن كانوا صالحين ما هم فيه من الصلاح، وزدنا من فضلك.
فقوله: (لا تحرمنا أجرهم) أي: ما بلغوه من الخير والفضل.
وقوله: (ولا تفتنا بعدهم) أي: لا تجعل بقاءنا بعدهم إلى فتنة ولا
شرح زاد المستقنع - تعزية أهل الميت
التعزية لمن أصيب قريب أو حبيب؛ جبراً لخاطره، وتسلية له، وليس لها لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدل على التعزية، وهناك أمور مبتدعة محرمة لا يجوز فعلها عند التعزية، ويحرم على أهل الميت النوح والشق ولطم الخد وغيرها من أمور الجاهلية التي كانت تفعل عند الموت.
حكم التعزية لأهل الميت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتسن تعزية المصاب بالميت].
التعزية: سلوان من العزاء، وهي كلمات يقولها الإنسان للمصاب يحدث بها طمأنينة قلبه وقوة يقينه وحسن ظنه بالله عز وجل؛ فيصبر بعد أن كان جزعاً، ويطمئن بعد أن كان قلقاً.
والتعزية مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة لما مر عليها وهي تبكي عند القبر: ( يا أمة الله! اصبري.
فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب ) فدل على مشروعية التعزية للمسلمين وأنها سنة.
وتكون التعزية للمرأة الأجنبية والقريبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزى هذه المرأة وهي أجنبية، فقال لها: (يا أمة الله! اصبري) ولكن بشرط: أن تؤمن الفتنة عند تعزية المرأة الأجنبية.
ومن الأدلة أيضاً على مشروعية التعزية قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، فمرها فلتصبر ولتحتسب ) .
والتعزية تكون قبل الدفن وبعد الدفن، فتكون قبل الدفن من باب التسلية كقوله لابنته حين أرسلت إليه وابنها يقضي ليأتيها فقال للرسول الذي جاءه هذه الكلمات: ( مرها فلتصبر ولتحتسب، إن لله ما أعطى وله ما أخذ ) إلى آخر الحديث.
فهذا يدل على مشروعية الكلمات التي يعزى بها الإنسان قبل الدفن، لكنها في الأصل تكون بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن يتحقق من موت الإنسان، فلربما حدث له ما يظن معه موته كسكتةً قلبية ثم يزول عنه ذلك فيشفى ويقوم من بلائه، وحينئذٍ يقولون: لا يعزى إلا بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن قد تحقق من وفاته، وحينئذٍ يكون مصابه أشد؛ فإن الناس يفجعون بعد الدفن أشد من فجعهم قبل الدفن، فإن مناظر القبور والفراغ من دفن الميت يقطع الأمل فيه، بخلاف ما إذا كان قبل ذلك؛ فإنه لا يمنع أن يكون به سكتة ثم بعد ذلك يحيا أو يقوم، فهذا هو الذي جعل بعض العلماء يقولون: التعزية تكون بعد الدفن.
وهذا هو الأصل والغالب؛ لكن إذا احتاج إليها فلا بأس أن يعزي أخاه المسلم قبل الدفن عند وجود الحاجة، كأن ترى أخاً لك أو قريباً أو زوجةً شديدة التفجع والتوجع، فتذكرها بالله عز وجل، وتصبرها بالّتي هي أحسن.
وينبغي على من يعزي أن يترفق بمن يعزيه، وألا يكون شديداً عليه، وألا تكون عباراته فظة غليظة، فبعض الناس إذا جاء يعزي كأنه يوبخ من يبكي ويقرعه، وهذا لا ينبغي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه الرفق؛ ولذلك لما أراد عمر أن يضرب النساء -كما في حديث السنن- نهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وأخبر أن الله لا يعذب إلا باللسان، يعني: بما يكون من النياحة ونحو ذلك من الأمور المحرمة، كشق الجيوب وغير ذلك من أفعال الجاهلية، فلا ينبغي أن تأتي لأخيك المسلم قد فجع بقريبه فتقول له: لا تبك كالمرأة.
أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تجوز لما فيها من كسر الخواطر، وإهانة الميت؛ لأن هذا يدل على أنه ينبغي ألا تكون للميت عنده مكانة، لأن الإنسان يبكي على عزيزه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) فالله سبحانه وتعالى خفف عن عباده أن يكون منهم هذا البكاء حتى يخرج ما في القلوب من أثر الحزن؛ وهذا مما يعتبر من إعجاز الشريعة: أنها جمعت بين طب الأرواح وطب الأجساد؛ فإن الإنسان إذا كُظم حزنه وتوالت عليه الأحزان، ومنع من إبداء أثر الحزن، فإن ذلك يؤثر عليه كثيراً، وربما يأتي على نفسه، ولذلك قال تعالى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف:84] وهو نبي من أولي العزم، فالإنسان قد يستطيع الكظم، وقد لا يستطيع أن يكظم، ولما عاتبوه { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [يوسف:85-86] فالإنسان في حال المصيبة يحتاج إلى من يترفق به ويحسن إليه، وتكون يده رفيقة وكلماته رقيقة، تخالج قلبه فتقوي يقينه، وتبعثه على الصبر والسلوان.
وأما الجفاء والغلظة فلا يأتيان بخير، حتى أن بعض الناس يعتقد أن من بكى على ميته كأنه يعتبر ساقط الرجولة، وأنه ليس برجل، وأن من الرجولة أن تكون عصيّ الدمع، وألا تبكي على القريب، وبعضهم يعتقد أن البكاء على النساء كالأم والأخت والبنت أنه من العيب ومن الحرج، ولربما تجد أبناء العم يعتبون على ابن عمهم أنه بكى على بنته أو بكى على أخته! هذه من أفعال الجاهلية: أنهم ينتقصون النساء، ولا يقيمون للمرأة وزناً! وهذا لا يجوز، وينبغي نصح الناس وتذكيرهم في ذلك، كالخطيب يخطب خطبة يبين فيها أمور الحزن المشروعة على الأموات وأن التفريق بين الذكور والإناث من أدران الجاهلية الباقية، فإن العرب في جاهليتهم الجهلاء ما كانوا يقيمون للمرأة وزناً؛ ولذلك كانوا يدفنونها وهي حية، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن أدران الجاهلية: أنها لو ماتت وبكى عليها؛ فإن هذا نوع من الحط من مكانة الرجل! ولذلك لا يجوز مثل هذا الاعتقاد، وهو من اعتقاد الجاهلية؛ فإن الأخت ربما تكون عزيزة على الإنسان وقريبة إلى قلبه، وقد تكون صالحة، وقد يكون فيها من الخير ما لا يكون في رجال كثير، وقد تكون بنتك بنتاً صالحة، وقد تكون أمك، والأم لا يجحد فضلها ولا ينسى معروفها؛ فلذلك لا يجوز مثل هذه العقائد والأدران الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا لمثل هذه الآفات في المجتمعات التي لا زالت فيها مثل هذه العقائد أو هذه الأفعال التي تخالف شرع الله عز وجل.
فكون الإنسان يبكي ويحتاج إلى من يعزيه في امرأة أو في رجلٍ فإنه يشرع له ذلك، ولكن إذا وصل إلى حد الجزع والتسخط فحينئذٍ ينهى ويغلظ عليه؛ حتى يتقي الله عز وجل في نفسه ولا يذهب عليه أجره.
وأعظم ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى، وهو أحبه وأكمله، وأعظمه ثواباً عند الله سبحانه وتعالى، وكلما صُدِمَ الإنسان بالمصيبة فتلقاها بالصدر الرحب واللسان الصادق فقال خيراً؛ فإن الله يحمد منه ذلك الأمر، ولربما أن الله عز وجل يجمع له بين عوض الدنيا والآخرة، في الدنيا من عاجل ما كان له من ثواب العمل الصالح، ولما ينتظر عند الله أعظم.
فإن الإنسان يفجع بابنه، أو الأم تفجع ببنتها، والأخ يفجع بأخيه، فإذا رضي بقضاء الله وقدره، وتلقاها بالصدر الرحب، وقال: الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فإن هذا من خير المنازل عند الله في المصاب، وإن الله تعالى يقول: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ } [ص:44] فمن أراد أن ينعم الله عليه فليصبر عند المصيبة، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وكلما كان المصاب أشد والصبر أعظم كلما كان الثواب أكثر، كما قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 14-06-2022, 05:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (175)

صـــــ(1) إلى صــ(18)



حكم تعزية المصاب
يقول المصنف رحمه الله: (وتسن تعزية المصاب): أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعزي المسلم أخاه المسلم إذا أصيب بميته، بأن يذكر له ما عند الله عز وجل من الثواب إن صبر واحتسب الأجر، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صبّر ابنته فقال: ( مرها فلتصبر ولتحتسب ) وهذا يدل على أن من السنة أن يكون في تعزية الإنسان ما يقوي نفس المصاب؛ فإن الإنسان عند المصيبة يعزب عنه رشده وتضعف نفسه، ولربما يتسلط عليه الشيطان بالخواطر الرديئة، فإذا وجد من أخيه المسلم كلمةً تثبته أو كلمةً تقوي إيمانه، فإن ذلك يعود عليه بالخير؛ لأن الصبر عند الصدمة الأولى، فيقول له: أعظم الله أجرك، وغفر لميتك، وأحسن عزاءك .
ونحو ذلك.
قال العلماء: ألفاظ التعزية موسعٌ فيها؛ لأن الشرع لم يأمرنا بلفظ خاص، والقاعدة في الشريعة: (أن ما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه)، فكل لفظٍ يقوي نفس المصاب، ويجعله على حسن ظنٍ بالله عز وجل فإنه يعتبر من التعزية، ما لم يشتمل على محظور شرعي، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه عزى امرأة فقال: يا أمة الله! اصبري ) فقوله: (يا أمة الله! اصبري) يعتبر تعزية، ونحو ذلك من الكلمات والجمل، وقد حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ( إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، مرها فلتصبر ولتحتسب ) فهذه أيضاً يعتبرها بعض العلماء من الألفاظ الواردة في التعزية، والأمر في ذلك -كما قال أهل العلم- واسع، فليس هناك لفظٌ مخصوص يلزم الإنسان به.
حكم البكاء على الميت
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز البكاء على الميت].
لأن الله لا يعذب بدمع العين، فإذا كان الإنسان قد أصيب بعزيز من والد أو ولد أو أخ أو صديق حميم، فلا حرج أن يبكي وأن تدمع عينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) فأثبت صلوات الله وسلامه عليه أن العين تدمع.
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه لما وضع إبراهيم دمعت عيناه، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟! قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده ).
فالإنسان إذا تأثر بفراق العزيز ودمعت عينه، فإنه لا يلام على هذا الدمع، بل إنه يكون من دلائل المحبة والرحمة التي أسكنها الله في قلبه، ولا شك أن الإسلام وسط بين الغلو والتقصير والإجحاف، فالإنسان الذي يموت له والد أو تموت له والدة ولا تدمع له عينه، فإنه قاسي القلب، جبار لا رحمة في قلبه.
وكذلك أيضاً إذا بالغ وصاح وناحَ فإنه قد أسرف في هذا الأمر، وتجاوز الحدود في الحزن.
فالشرع جاء وسطاً، فيخرج المصاب ما في قلبه من الألم بدمع العين؛ لأن هذا البكاء يخفف الألم الموجود في القلب، وهذا من رحمة الله بالعباد؛ فإن الإنسان إذا بكى خف وطء المصيبة على قلبه؛ وأصبح أثرها خفيفاً على نفسه؛ ولذلك لم يعاتب المسلم ولم تكن عليه الملامة إذا دمعت عيناه؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن العين لتدمع ) وثبت عنه: ( إن الله لا يعذب بدمع العين )، فدمع العين ليس به عذاب، ولا يعتبر الإنسان مقصراً إذا دمعت عيناه لفراق عزيزٍ عليه.
(وإن القلب ليخشع)، أي: من أثر هذه المصيبة ووقعها فيه، وقد قال الله تعالى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف:84].
فالإنسان إذا بكى لا حرج عليه؛ لأن الله يخفف عنه بالبكاء بعض الحزن الذي يجده في قلبه، ولو أن إنساناً أصابته المصيبة ومنعته من البكاء؛ فإنه يتضرر، ولربما يصل إلى درجة لا يتمالك فيها نفسه، وقد يفقد عقله والعياذ بالله، فإنه إذا منع من البكاء كتم الحزن وكظمه، حتى تأتي ساعة لا يستطيع أن يسيطر فيها على نفسه، فيفقد عقله أو يتأثر أثراً بليغاً في نفسه، ولذلك: لا عتب على من يبكي، بشرط أن لا يكون بكاؤه على وجهٍ محظورٍ مشتمل على نياحة ونحو ذلك من المحرمات.
ما يحرم عند نزول المصيبة
قال المصنف رحمه الله: [ويحرم الندب والنياحة].
ومن الندب: واسنداه! واعضداه! ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها ندبٌ للميت.
وكذلك النياحة: وهي ذكر محاسن الميت.
فكل ذلك مما حرم الله عز وجل، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم النياحة وقال: ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ).
وقد كانت المرأة في الجاهلية تنوح على زوجها، وتنوح على قريبها كأخيها ونحو ذلك؛ فحرم الله عز وجل النياحة، وهو أن المرأة إذا فُجِعت بزوجها أو ابنها صاحت بحزن، فهذا الصوت حرمه الله عز وجل، وهو الذي يعذب الله به من لفظ اللسان.
قال المصنف رحمه الله: [وشق الثوب].
فقد كانوا إذا أصابتهم مصيبة لطموا الخدود وشقوا الجيوب، وذكروا المحاسن، وأثنوا على الميت وبالغوا فيه، وكل ذلك مما حرمه الله عز وجل، وجعل قلب المؤمن قوياً أمام المصيبة، فأوصاه بتحملها والصبر عليها، وعدم إظهار هذه الأمور؛ فإن النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود يزيد من أثر المصيبة، ويحرك الغير للبكاء وللتأثر، ويكون من باب التحريض على التفجع.
ومقصود الشرع: الصبر على المصائب؛ لأن المصيبة قضاء وقدر من الله عز وجل، فإذا تفكر المؤمن وتدبر ونظر أن الله هو الذي ابتلاه؛ رجع إلى عقيدته من حسن ظنه بالله عز وجل، وأن الله سيخلف عليه خيراً مما فقد، وأن الله سيكتب له الأجر في الآخرة؛ فاطمأنت نفسه واطمأن قلبه، وارتاح إلى ما عند الله عز وجل من حسن الثواب، فأصبح أثر المصيبة خفيفاً على نفسه.
لكن لو سمح للناس بالنياحة والندب، وشق الجيوب ولطم الخدود؛ لتفجع الناس، وإذا رأى الإنسان إلى أمه وأخته وابنته وهي تلطم وجهها وتشق جيبها وتنوح، ربما لم يستطع أن يصبر بسبب ما يرى من أثر الحزن على أهله، خاصةً من النساء، فإن هذا فيهن أكثر؛ ولذلك حرم الله عز وجل هذه الأمور لكي يستقيم للعباد حسن ظنهم بالله عز وجل، ويقوى يقينهم في حسن الخلف من الله عز وجل وحسن الثواب في الآخرة.
قال المصنف رحمه الله: [ولطم الخد ونحوه].
وهذه لا تختص بالموت، فبعض النساء إذا أصابتهن المصيبة لطمت خديها بكلتا يديها أو لطمت أحد الخدين، وهذه من صنيع أهل الجاهلية التي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها؛ لأنها لا تليق بالمؤمن الذي قوي يقينه بالله عز وجل وخلص توحيده لله سبحانه وتعالى، فإذا رأى مثل هذه المصائب فإنه يتحملها؛ لكن لطم الخدود لا شك أنه يدل على عدم الرضا بقضاء الله وقدره وهو من صنيع أهل الجاهلية.
والله تعالى أعلم.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا من اليقين أضعاف ما ينزل علينا من البلاء، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

الأسئلة
حكم الوصية فيما لا يملك

السؤال

لقد توفي في بلدنا رجل وأوصى قبل موته بأن يدفن في الأرض التي ورثها هو وإخوانه من أبيه، وتصبح تلك الأرض مقبرة للمسلمين دون موافقة إخوانه؛ لأنهم لم يكونوا معه، فما حكم تلك الوصية أثابكم الله؟


الجواب
إن كانت هذه الأرض ملكاً له فإنه يجوز أن يُدفن فيها، وإذا امتنع الورثة نظر إلى قدر ما يدفن فيه من الثلث، فإن كان قد أوصى بثلثه فإنه تكون وصيته بعد الموت قد خرجت عن حد الثلث راجعةً إلى رضا الورثة، فمن برهم له أن يرضوا، وإن شاءوا صرفوه إلى المقابر العامة، فهذا من حقهم؛ لكنه يفوتهم البر.
وأما إذا أوصى بأرضٍ هي ملكٌ لغيره فإن وصيته موقوفةٌ على حكم الغير؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستبح مكانه من حجرة أم المؤمنين رضي الله عنها إلا بعد أن استأذنها، وخشي أن تكون أذنت له في حياته حياءً وخجلاً منه رضي الله عنه وأرضاه، فأمر ابنه عبد الله أن يستأذن بعد موته، وبعد أن يصلى عليه يقف على الباب ويستأذنها حتى يزول ما يكون في حال حياته من هيبته وخشيته، فقال: إن أذنت لك فادفني مع صاحبي، وإن لم تأذن فاصرفني إلى البقيع.
فدّل هذا على أن من أوصى أن يُدفن في أرضٍ هي ملكٌ للغير استأذن الغير؛ فإن أذن له فبها ونعمت، وإن لم يأذن له فإنه يصرف إلى مقابر المسلمين والله تعالى أعلم.
حكم تكرار دعاء زيارة القبور لكل قبر في المقبرة

السؤال
إذا دخل الزائر إلى المقابر فإن القبور تأتيه تلو القبور، فهل له أن يكرر الدعاء المأثور كلما مر على مجامع القبور؟

الجواب
السلام على القبر يكون عند دخول المقابر، ويشمل ذلك جميع من قبر في المقبرة، فلو أنه دخل على بقيع الغرقد -مثلاً- فإنه يشرع أن يكون دعاؤه عند دخول الباب، فيسلم على جميع من في المقبرة، ولا حاجة أن يكرر ذلك لكل فرد بعينه.
فإذا زار قبر إنسان معينٍ من بين هذه القبور وكان قد سلم عليهم جميعاً، وخص قبراً بدعاء فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص قبر المرأة السوداء بالدعاء وبالصلاة عليها، وفرقٌ بين الصلاة وبين مطلق الدعاء، فالصلاة فيها وجهٌ بالتخصيص، وأما بالنسبة لكونه يقوم على القبر فلا حرج في القيام على قبور المسلمين، إنما يحظر أن يقام على قبور الكفار والمنافقين، لقوله تعالى: { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [التوبة:84] وأما إذا كان مسلماً فإنه يقام على قبره ويدعى له، كالوالد والوالدة والقريب والابن والبنت .
ونحو ذلك من القرابات، لا حرج أن يخصه ويأتي إليه ويسلم عليه ويدعو له.
وإن شاء جمع الجميع بسلامٍ واحدٍ.
ولو مر على قبرين أو على ثلاثة قبور يعرف أصحابها فهو بالخيار: إن شاء سلم سلاماً عاماً على الثلاثة القبور، وإن شاء سلم سلاماً خاصاً لكل مقبور بعينه؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا مر بالقبر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته، ثم قال: السلام عليك يا أبتاه ورحمة الله وبركاته.
ثم انصرف، فخص كل واحدٍ منهم بسلام.
فلا حرج إن كانت القبور معددة أن يخص كل قبرٍ بسلام، وأما إذا كانت قبوراً كثيرة فإن سلامه الأول يغني عن تكراره للجميع والله تعالى أعلم.
أهل الميت يعرف زائره يوم الجمعة

السؤال
قال صاحب الروض رحمه الله: ويعرف الميت زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فما صحة هذا التحديد؟

الجواب
ليس في هذا حديثٌ صحيح، وإنما فيه ما تُكلّم في سنده، وكذلك أيضاً منامات وقصص لا تقوى على هذا الحكم، فالأحكام التوقيفية لا بد فيها من نصوص إما في كتاب الله وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان إذا أفتى بذلك حاسبه الله عز وجل بين يديه، فلا يجوز للإنسان أن يأتي في مثل هذه الأمور الغيبية ويفتي بمشروعية شيءٍ إلا وعنده حجة؛ لأن الناس تأتمنه على دينِ الله عز وجل؛ فلا يجوز أن يخصص زماناً ولا وقتاً ولا ساعة إلا بحجة، وإذا وقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأله: كيف أفتيت الناس وأمرتهم بذلك؟ يقول: قلت في كتابك أو قال نبيك صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي البينة والأثارة { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } [الأنعام:57] فليست من منام الإنسان ولا من رؤياه ولا من أحلامه ولا من كلام زيدٍ أو عمرو.
فمن أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل ببينة فليجعل أمامه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس فيما ذكر شيء صحيح، ولو صح لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأموات مشغولون بما هم فيه؛ ولذلك لا فائدة في كونه يعرف من زاره أو لا يعرفه؛ إنما المقصود والأهم، والذي ينبغي أن تشتغل به النفوس وأن تصرف إليه الناس: أن يدعوا للأموات بقلوب خالصة، وأن يترحموا عليهم، وأن يعتبروا بحالهم.
ليست زيارة القبور أن يعرفك أو لا يعرفك، حتى لو عرفك ما الذي يستفيده وما الذي تستفيده؟! المقبور أحد رجلين: إما منعم، فما فيه من النعيم والرضا المقيم فهو أعظم من أن ينظر إليك أو يلتفت إليك.
وإن كان معذباً فما فيه من الجحيم والعذاب أحرى ألا يصرف معه إلى زيدٍ أو عمرو.
ولذلك ينظر الإنسان إلى الأصل، وهو أنك تزور القبر لأمرين: مصلحتك في الدعاء وحصول الأجر والثواب والاتعاظ، وكذلك مصلحة الميت والترحم عليه والدعاء له والاستغفار له.
وقد ورد حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الإنسان إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه، وحسن بعض العلماء إسناده، ويفتي بعض العلماء رحمة الله عليهم بذلك، حتى من مشايخنا من يفتي أنه من جاء يسلم على والده أو على قريبه فليأته من قبل وجهه، ولا يأتيه من وراء ظهره أو يأتيه من رجل القبر أو يأتيه من رأس القبر، وإنما يأتيه من جهة القبلة، يسلم عليه ويترحم عليه، وهذا لا حرج فيه.
أما أن يخص زماناً معيناً من بعد صلاة الفجر في يوم جمعة، أو من بعد صلاة العصر أو بعد صلاة العيد أو نحو ذلك، فكل ذلك لا نحفظ فيه دليلاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشرع اتباع لا إحداث بالآراء واستحسان للأهواء والله تعالى أعلم.
اعتبار زيارة قبر الوالدين من البر بهما

السؤال
هل زيارة قبر الوالدين من البر؟ وهل لها مدةٌ محدودة؟ ومن كان يكثر من الدعاء لوالديه ولكن لا يزور قبريهما، فهل هذا من العقوق؟


الجواب
زيارة القبور كقبور الوالدين والدعاء والاستغفار لهما، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأذن ربه في زيارة قبر والدته فأذن له، فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ويسلم عليه؛ لأنه إذا زار قبر والده كان أدعى أن يترحم عليه وأن يحسن إليه بالدعاء الصالح، ولا شك أن الدعاء له وهو غائب ليس كدعائه وهو واقفٌ على قبره يتذكر إحسانه وفضائله.
وهكذا إذا زار قبر الوالدة ووقف عليها، وتذكر ما لها من الحسنات والفضائل، وما كان لها عليه من الفضل، وترحم عليها واستغفر لها؛ فإن هذا له أثر كبير في النفس، ويكون الدعاء فيه بقلب أكثر خشوعاً وأكثر تأثراً.
فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ووالدته ويسلم عليهما ويدعو ويستغفر لهما ويترحم عليهما وهو من البر؛ لما فيه من الاشتمال على الدعاء والاستغفار والترحم، وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للوالدين والاستغفار لهما من البر، وفي الحديث: ( يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ).
وقوله: (الصلاة عليهما) لا شك أن الدعاء عند وقوفه على القبر أبلغ تأثراً، وأبلغ حضوراً للقلب واستشعاراً لحاجة الميت للدعاء، بخلاف ما إذا ذكره وهو بعيدٌ عن قبره، فلا حرج إذا زار أو خص قبر الوالد والوالدة بالزيارة والسلام عليه والدعاء له، وهو إن شاء الله مأجورٌ على ذلك والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب علم


السؤال
إن طلب العلم طريق طويلٌ شائك، قد تنتاب الطالب وهو في طريقه وسيره الآفات من الغرور والفتور وغيرها، فهلا تفضلتم بكلماتٍ علاجية؟


الجواب

إذا وفق الله الإنسان لطلب العلم فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه الشكر إذا أراد الله أن يزيده من فضله، فمن أهم الأمور التي يوصى بها طلاب العلم: كثرة شكر الله عز وجل، ولا تقوم من مجلس إلا وأنت تحمد الله عز وجل على ما سمعت فيه من الخير من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله قرن المزيد بالشكر.
فمن أراد أن يزيده الله من العلم، فعليه أن يكثر من شكر الله عز وجل وحمده، والثناء عليه سبحانه بما هو أهل، ولو كان مجلساً واحداً من الذكر، بل لو مررت على حلقة علمٍ فسمعت فيها آية أو حديثاً وفهمته، فإنه خيرٌ ترفع به درجتك؛ لأن الله يرفع أهل العلم درجات على قدر ما نالوا من العلم.
فهذا المجلس الذي تجلسه وتسمع فيه الآيات والأحاديث، ويوفقك الله لمعرفة السنن والآثار؛ تحمد الله عليه وتشكره؛ فيتأذن الله لك بالمزيد.
ومن آثار المزيد الذي يتأذن الله به لطالب العلم في بداية طلبه للعلم: أن يوفقه للعمل، فقل أن تجد طالب علم كلما قام من مجلسه حمد الله على ما سمع من الذكر والعلم النافع، وأثنى على الله بما هو أهل، إلا وجدته يوفق للعمل، ويعان على القيام بحق هذا العلم، ويوفق للدعوة إليه؛ لأنه يشكر نعمة الله عز وجل، فمن شكر تأذن الله له بالمزيد.
ومن الأمور التي يجب أن يتنبه لها طالب العلم: غفلته عن الشكر، وغفلته عن ذكر نعمة الله عز وجل عليه، فلا يزال يغفل عن نعمة الله حتى ينسى فضل الله وفضل عباد الله، حتى إنه يجلس المجلس ويقوم منه لا يذكر لله فضلاً ولا لعباده خيراً، ولربما لا يبالي بمن أسدي إليه من الخير والمعروف، ولربما يقوم من المجلس لكي يغتاب من استفاد من علمه، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه من الآفات التي تكون بسبب الغفلة عن ذكر الله، ولذلك جعل الله ذكرهُ مقروناً بذكره سبحانه، فقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] فمن شكر الله وذكره بعد الاستفادة من العلم والعلماء، وأخذ الحكم وفهمها وفقهها، وقال: الحمد لله الذي علمني ما لم أكن أعلم وأسدى إلي الفضل العظيم، الحمد لله على هذا الخير، الحمد لله الذي جعل هذه الساعة في ذكره وشكره، حفتنا الملائكة، ونزلت علينا الرحمة، وذكرنا الله فيمن عنده، ما كنا على حرام ولا على فجورٍ ولا على آثام، ويحمد الله على هذا الفضل؛ يوفقه الله للخير الكثير.
فمن أعظم الأسباب التي ينبغي لطالب العلم أني يستشعرها دائماً، وأن يستحضرها بعد جلوسه في مجالس الذكر والعلم: أن يحمد الله على فضله، وإذا كان عندك الشعور بفضل الله عليك بهذا العلم أحسست بقيمته وأحسست بفضله فحفظته؛ فدعاك ذلك إلى أن تصونه وأن تراجعه وأن تضبطه، وأن تعطيه حقه من العناية والرعاية والتفقد؛ لأنك عرفت قدره بالشكر.
ثم بعد ذلك تعرف قدره بالعمل، وتعلم أنه لا مكانة لك عند الله في علمك إلا إذا عملت به، فتكون عالماً عاملاً.
فإذا علمت وعملت رضي الله عنك فوفقك للدعوة إليه، ووضع لك القبول بين العباد والحب بين الناس، وجعل لفتاويك وعلمك وأثرك وسمتك ودلك أثراً في قلوب الناس، وانتشر ذكرك بين الناس بما يعين على قبول علمك والعمل به وحبه والدعوة إليه بما تنال به من الأجور والحسنات.
ولذلك: لا خير للإنسان في علمه إلا بقدر ما يضع الله له من القبول في الخلق، فإنه إذا وضع القبول للإنسان انتشر علمه، وكثر خيره وبره، وصارت له حسنات بين الخلائق والدعاء الصالح بين الناس، ولا شك أن في هذا من الخير الكثير.
أما ما ذُكِر من خوف الآفات التي من أعظمها الغرور، فإن الغرور في طلب العلم لا يأتي إلا بسبب الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإن المغرور جاهلٌ بنفسه جاهلٌ بربه، ومن أعظم الأمور التي تكسر الغرور من قلب الإنسان: كثرة ذكره للآخرة، وسؤال الله وحسابه له عن العلم؛ فإنك إذا علمت أن العلم مسئولية، وأنه أمانة، وأنه حقٌ لله عندك ينبغي أن تعلمه وتعمل به وتدعو إليه؛ خفت منه وهبته؛ فانكسر قلبك بدل أن تغتر به، وبدل أن تتباهى به، تصبح مشفقاً على نفسك، تعمل به وتعلمه وتنفع به الناس حتى تصيب الخيرية، قال عليه الصلاة والسلام: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
ولا يأتي الغرور إلا بسبب الحرمان، فإذا أراد الله أن ينزع البركة من علم الإنسان ابتلاه بالغرور.
فإذا كان الإنسان كلما جلس في مجلس اغتر بعلمه واغتر بفهمه، محق الله بركة علمه؛ ولذلك قل أن تجد إنساناً مغروراً مباركاً له في علمه، بل تجد القلوب منصرفةً عنه، كلما تذكرت عجبه واختياله بنفسه كرهت العلم الذي يكون منه، وهذا من عاجل نقمة الله للعبد في الدنيا.
فمن الآفات التي يبتلي الله بها المغرور أن الله لا يزال يسلط عليه الشيطان فيغتر بنفسه؛ حتى لا يجني الخير من علمه، فقل أن تجده يبارك له في العلم فينال منه حسنةً واحدة، بل إنه ربما اغتر حتى تجده يوماً من الأيام يتطاول على من علمه وفهمه؛ لكي يستدرك ويبدي الملاحظات ويأتي بالمناقشات، ويسيء الأدب، حتى يمحق الله البركة من علمه.
لكن إذا أراد الله الرحمة بطالب العلم رأيته موطأ الكنف، وجدته أليفاً رحيماً رقيقاً رفيقاً قريباً من العلماء، ومن أسدى إليه الخير كان قريباً منه، يتأدب معه ويستفيد منه ويتلطف، وتجده يتحمل كثيراً من المشاق والمتاعب من أجل هذه الرحمة التي أسكنها الله في قلبه.
لكن إذا أراد الله أن ينزع منه الرحمة جعله قاسي القلب، فتجده يغتر بنفسه، حتى إنه يجلس في المجلس لكي يتتبع العثرات والأخطاء، ولكي يحفظ أن فلاناً حدث بهذا الحديث الضعيف، أو أن الشيخ قال كذا أو فعل كذا، وقد لا يلتفت إلى عذر من حدثه بكونه يرى صحة ما يرى ضعفه، أو يرى حسن ما يرى عدم ثوبته.
فلذلك: ينبغي للإنسان أن ينتبه، وأن يتقي الله في نفسه، وأن يحفظ حرمة هذا العلم، وأن يعلم أن هذا العلم قد يكون وبالاً على صاحبه؛ فإن إبليس عليه لعنة الله لما اغتر بعلمه أهلكه الله ومقته، وجعله نسأل الله العافية في سفال، وأحل عليه اللعنة إلى يوم الدين، فأشقاه وأشقى من تبعه ومن سلك سبيله ونهجه.
فمن اغتر بعلمه حاق به ما كان به يستهزئ، والذي يتطاول على العلماء وعلى السلف الصالح من الأئمة الماضين، وتجده إذا جلس في مجلس العلم يجلس لكي يتتبع أخطاء الكتاب أو أخطاء المتن، ويتتبع عثرات العلماء الذين يستمع منهم، فإنه ممحوق البركة ونسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من هذه الشرور والآثام.
والوصية بتقوى الله؛ فإن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، والله ثم والله ما احتقرت نفسك إلا رفع الله شأنك، وإذا وكلت أمرك إلى الله فلم تتكل على حفظك ولا على فهمك ولا على ذكائك، وقلت: أنا مقصر، ومن أنا؟ وما الذي عندي؟ فأصبحت تنظر إلى نفسك بالنقص؛ فإذا بالله يكمل نقصك، ويجبر كسرك ويستر عيبك؛ فإن الله إذا نظر إلى العبد نظر إلى قلبه، فإذا وجد في القلب اللين والرحمة والإشفاق على النفس؛ بلغه من الخير ما يأمله، وزاده من فضله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.

هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟


السؤال
كيف نجمع بين الحديث الذي في صحيح مسلم: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) وبين قول الله تعالى: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام:164]؟


الجواب
حديث الصحيح ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) للعلماء فيه أوجه: الوجه الأول: أن المراد بقوله: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) إذا وصى بذلك، فإذا وصى بذلك فإنه يعتبر من كسبه وسعيه، فتكون الآية مستقيمة على هذا المعنى؛ لأنه تسبب في البكاء عليه بالوصية، وكان هذا البكاء من وزره وسعيه، ولا تعارض بين الآية والحديث من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يكون الشخص عالماً أن أهله سيبكون عليه ويبالغون في هذا البكاء، فيقرهم على ذلك ويحفزهم عليه، ولا يوصي بامتناعهم عن ذلك، قالوا: فحينئذٍ يكون قصر وألزم بعاقبة تقصيره.
الوجه الثالث: ليس المراد عذاب العقوبة، وإنما المراد به عذاب الحزن والوجد، بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله عليه فيتألم لذلك ويكون له نوعٌ من العذاب، وليس العذاب الحقيقي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى العذاب الذي ليس مشتملاً على العقوبة بعذاب، وهو الألم النفسي كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( السفر قطعةٌ من العذاب ) مع أنه ليس بعذاب عقوبة، وإنما هو عذابٌ في النفس كما فسره بقوله: ( يمنع أحدكم طعامه وشرابه وراحته، فإذا قضى نهمته فليرجع ) فدل على أن قوله: ( السفر قطعة من العذاب ) أي: عذاب النفس وعنائها، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) أي: أنه يجد الحزن والألم حينما يسمعه الله بكاء أهله عليه، وقد جاء في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لذلك: ( أنه لما احتضر جعلت امرأته تثني عليه وتزكيه، فلما أفاق قال: إنه لكزني -أي: الملك- وقال: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك؟ ما قلت شيئاً إلا لكزت عليه )، وقالوا: إن هذا إنما هو الألم النفسي.
وهذا الجواب الأخير هو أقوى الأجوبة؛ أن المراد به أنه يسمعه الله بكاء أهله عليه فيتألم ويحصل له من الحزن والوجد ما يكون نوع عذاب نفسي، لا أنه عذاب عقوبة وألم جسد.
ثم يليه في القوة: إذا وصى بذلك وأقر عليه؛ فإنه يقوى حينئذٍ أن يكون متحملاً لوزره، ولا تعارض بين الآية والحديث والله تعالى أعلم.
حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد بعد موت الميت

السؤال

ما حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد، خاصةً إذا مضى زمن على موت الميت؟


الجواب
هذا من البدع، العزاء لا يكون إلا لأهل الميت، والزائد على ذلك لا أصل له، ويكون العزاء بتحري السنة والبعد عن البدع والمبالغة في العزاء، من إحضار الأشياء التي تكون أشبه بالعرس منه بالعزاء والحزن، كل ذلك من البدع التي أحدثها الناس، وإقامة العزاء على صور وأشكال معينة ما أنزل الله بها من سلطان، كل ذلك من المبالغات، إنما يكون العزاء لآل الميت، والزائد على ذلك كله لا أصل له، ولا يشرع فعله وإقامته والله تعالى أعلم.

الجمع بين تحريم ذكر مساوئ الميت وحديث الثناء على الجنازة بالشر


السؤال
كيف نوفق بين تحريم ذكر مساوئ الميت، وبين الحديث الذي ذكر سيئات جنازة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( وجبت )؟


الجواب
الناس يثنون بالخير والشر، بمعنى: أنهم يذكرون المحاسن والمساوئ، وهذا لا يستطيع أحد أن يحكم الناس فيه، فإن الناس بالجبلة والفطرة، إذا مات الميت سيذكرون محاسنه ومساوئه، فيكون كلام الصحابة بذكرهم لمحاسن المحسن ومساوئ المسيء خرج على أصل الفطرة؛ ثم جاء تعليق الشرع: بأن من أثني عليه خير فهو إلى خير، ومن أثني عليه شر فهو إلى شر.
الوجه الثاني: أن المسيء يكون ظالماً لغيره، فيجوز للغير أن يتحدث بمظلمته لقوله تعالى: { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [النساء:148] فلو أن ميتاً أكل مالك أو أخذ حقك أو ظلمك في أمر، فلما توفي قلت: فلانٌ ظالم، فإنه من حقك أن تقول هذا؛ لأنك مظلوم.
فإذا تحدث الإنسان بمظلمته فإنه مستثنىً من هذا، وأما المراد بقوله: (أن يكف عن مساوئ الميت)، فهو حديث الفضول الذي لا مصلحة فيه والله تعالى أعلم.

حكم إنزال الرجل للمرأة الأجنبية إلى القبر


السؤال
ما حكم إنزال المرأة الأجنبية إلى قبرها من قبل الرجل؟


الجواب
المرأة يشرع أن يليها أقاربها؛ لأنه أبعد عن الفتنة وأصون للمرأة، وأحفظ لها أن يليها أخوها وأبوها وزوجها وقرابتها كابنها ونحو ذلك من القرابات؛ لأنه أصون للمرأة وأحفظ وأبعد من فتنة الغير، فإن نزل الأجنبي في قبرها وأراد أن يتولى دفنها، وأمنت الفتنة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفنت بنته قال: ( أيكم لم يقارف أهله الليلة؟ فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله.
فأمره أن ينزل ) مع أنه أجنبي، وقد كان عثمان رضي الله عنه زوجاً لها ولم يأمره أن ينزل، فدل هذا -كما يقول العلماء- على أنه لا حرج أن يلي الأجنبي دفن المرأة، خاصةً في بعض الظروف التي لا يحسن أقرباء المرأة ما يُصنع بالميت في قبره.
فمثلاً: لو كان للمرأة ابن أو أب أو أخ من محارمها، ولكنه لا يحسن طريقة وضعها في القبر، ولا يحسن إعداد أو إصلاح حالها في القبر؛ فإنه حينئذٍ قد يكون الأجنبي الذي خُصص لهذا الأمر أقدر على هذا الشيء وأقوى عليه، فنقول حينئذٍ: لا حرج أن ينزل، ولا حرج أن يقوم بتهيئتها ووضعها في لحدها، وليس ثم محظور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ أبي طلحة أن يتولى بنته مع أنه أجنبي عنها والله تعالى أعلم.
حكم حلق شعر العانة والإبطين من الميت

السؤال
هل يجب عند تغسيل الميت حلق شعر العانة والإبطين؟


الجواب
هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: هل إذا مات الميت ولم يُنتف شعر إبطه، ولم تُقلم أظفاره، هل يجوز أن يقلم المغسل أظفاره وينتف شعر إبطه أو يحلقه؟ قال بعض العلماء: يشرع ذلك، وإن فعله وضعه في كفن الميت.
وقال جمعٌ من أهل العلم: إنه لا يشرع أن يتصرف بجسده، فلا يقلم أظفاره ولا يقص شعره، وإنما يغسله بهيئته التي هو عليها.
وهذا هو الصحيح: أنه يترك على حالته، ولا يتعرض لهذه الأشياء؛ لأن التكليف قد زال عنه، وأنت لست بمكلفٍ به، وإنما هو مكلفٌ في نفسه، وبناءً على ذلك فإنه يشرع تركه، فلو قلمت أظفاره وحلقت شعر إبطه فلا حرج.
أما العانة فأمرها أشد؛ لأن موضعها ليس كموضع الإبطين؛ ولذلك قالوا: لو مات غير مختون، فلا يشرع أن يختنه؛ لأن التكليف قد زال.
والصحيح: أنه لا يتعرض له، وإنما يغسل ويكفن بحالته التي مات عليها والله تعالى أعلم.
حكم دفن ميت مكان آخر قد بليت عظامه

السؤال
من المعلوم أن عجب الذنب لا يبلى، فهل يدفن ثم يوضع ميت آخر في نفس القبر؟


الجواب
إذا ذهبت العظام وتلاشت ولم يبق إلا عجب الذنب؛ فإنه يشرع أن يوضع في القبر ميتٌ آخر، ولا يعتبر وجوده مانعاً من قبر الغير فيه، والذي نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم: أن عظام الميت ما دامت موجودة في القبر فلا يزال مالكاً لقبره، لا يجوز أن يقبر عليه الغير، ولا يجوز أن يزرع أو يبنى عليه، ولا تملك أرضه للغير، فتعتبر لهذا الميت لحرمته، فلا يجوز البناء عليه، ولا يجوز أيضاً حفر القبر ولا نبشه؛ لأن وجود العظام كوجوده هو؛ فهذه من حرمة المقابر.
أما لو أنها فنيت وذهبت وبقي عجب الذنب، فلا حرج حينئذٍ أن يقبر الغير عليه والله تعالى أعلم.
حكم قراءة سورة أخرى بعد الفاتحة في صلاة الجنازة

السؤال
هل يشرع في الصلاة على الميت أن يقرأ المصلي بعد الفاتحة سورة أخرى، أم يقف عند قراءة الفاتحة فقط؟


الجواب
السنة كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة )، ولذلك لا يشرع أن يقرأ سورةً مع الفاتحة، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 372.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 366.76 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]