الوعد الإلهي بين حتمية الوقوع وخفاء الحكمة: نظرات في تناول القرآن لعمرة القضاء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12864 - عددالزوار : 229075 )           »          الدعوة إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 123 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 52 - عددالزوار : 3104 )           »          مفهوم الأخلاق في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          موقف العقلانيين مــن سنَّة الرسـول صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الغفور الرحيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الامتحان الإجباري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          واحة الفرقان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 3918 )           »          مشكلات الشباب المسلم في البرازيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          لماذا تُهــوَّد المباني في القدس؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-03-2021, 11:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,968
الدولة : Egypt
افتراضي الوعد الإلهي بين حتمية الوقوع وخفاء الحكمة: نظرات في تناول القرآن لعمرة القضاء

الوعد الإلهي بين حتمية الوقوع وخفاء الحكمة











نظرات في تناول القرآن لعمرة القضاء




علي عبدالحكيم








تتشوف النفوس دائما إلى تحقق ما وُعدت به من وعود وتحصلت عليه من عهود، لما لذلك من آثار طيبة عليها مثل تقوية القلوب وطمأنتها وتثبيت الإيمان وزيادته وزوال الشك والحيرة، وعلى قدر من أعطى الوعد يعظُم هذا التشوف ويهون الانتظار.







ومما اتفقت عليه القلوب الموقنة والنفوس الصادقة أنه لا أحد أصدق من الله تعالى فإنه إذا حدّث صدق وإذا وعد وفّى، فوعده حتمي الوقوع مهما تأخر حدوثه أو طال وقت ترقبه، وليس هناك من أصدق من الله قيلا؟ وقد بين القرءان هذا الأصل الأصيل وشدد عليه في آيات كثيرة ليتمكن في نفوس المؤمنين فيسعدون بعيش هانئ وحياة طيبة مهما كثرت الابتلاءات لديهم وعظمت المصائب عندهم.







وفي تناوله المقتضب لعمرة القضاء، والتي تشكل حدثا هاما من أحداث السيرة النبوية، أبرز القرءان هذا المعنى وزاد عليه من المعاني الجليلة أن أفعاله تعالى لا تنفك عن حكم كبيرة وغايات عظيمة قد يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها من الناس، المعنى الذي إذا توطن في قلوب المؤمنين كان سببا في غرس أشجار الأمل المثمرة فيها وترسيخ ثقتها في الله تعالى كما أنه يزيل اليأس والقنوط عنها فتتنزل عليها السكينة وتمتلئ بالطمأنينة.







هذه المعاني التي بينها القرءان في تناوله لعمرة القضاء هي ما سنقف معه بتوسع في هذا المقال لما لها من أثر طيب على النفوس المؤمنة خاصة في ظل أزمتنا الحضارية المعاصرة والتي تسببت للأسف في وقوع كثير من المسلمين في اليأس والقنوط وجعلت حلم الاسترجاع الحضاري بعيد المنال عند بعضهم. نقف وقفتنا التأمّلية مع التناول القرآني لعمرة القضاء وما يستفاد منه بعد عرض مختصر لأحداثها.







عمرة القضاء:



خلاصتها أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح خيبر في المحرم سنة سبع أقام شهورًا في المدينة ثم خرج في ذي القعدة، في الشهر الذي كان المشركون قد صدوه فيه، معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها وذلك وفقًا لصلح الحديبية الذي نص على رجوع النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة من غير عمرة وعودته إليها في العام المقبل.








فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون ممن كان صُد معه في عمرته تلك، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، وكانت قريش تحدثت بينها أن محمدًا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة.








فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني، مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف، ومشى سائرها.








وبعد انتهاء عمرته، تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية رضى الله عنها.








ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفرٍ من قريشٍ في اليوم الثالث، وكانت قريش قد وكلته بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا.








فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة.








وأنزل الله عز وجل علي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عمرة القضاء قوله (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[1].








القرآن وعمرة القضاء:



جاء تناول القرآن لعمرة القضاء في آية واحدة من سورة الفتح وذلك عقب تعقيبه المطول على صلح الحديبية وما حدث فيها وذلك لما بينهما من ارتباط وثيق، فإن الحديبية كانت السبب الرئيس في القضاء ولولا السبب ما كان المسبب، ورغم التناول القرآني المقتضب لعمرة القضاء إلا أن به كثيرا من القواعد والدلالات والمعاني التي يجب أن تغرس في العقول المؤمنة صغيرها وكبيرها، والتي سنقف مع أهمهما فيما يلي.







ومن أصدق من الله ؟!:



بدأت الآية المتعلقة بعمرة القضاء ببيان أن الله تعالى صدق وعده الذي وعد إياه رسوله صلى الله عليه وسلم عندما أراه أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام آمنين لا يخافون أحدا من أهل الشرك، يقصر بعضهم رأسه، ويحلق بعضهم، فلما رأي النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى قال لأصحابه: إني رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين فوطّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة، فلما صدهم المشركون عن البيت الحرام يوم الحديبية حزن المسلمون وركبهم الهمّ إلى حد أن قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يومها: " أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ فأجابه: بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به".







فكانت عمرة القضاء هي مصداق الرؤيا والوفاء بوعد الله تعالي لرسوله صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ...)، وصدق الله نبيه أي لم يكذبه فيما أراه في منامه، وإذا كان الكذب على أهله عار لازم وذل دائم وقبح كبير وشر مستطير فإنه مستحيل في حق الله تعالى المنزه عن كل قبيح ولو كان متناهيا في الصغر.







ولما نزلت ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ... ﴾ [الفتح: 27] علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم[2].







ومن إفضال الله على أوليائه أنه لا يصدق وعده لهم فقط بل يزيدهم من فضله الذي لا ينقطع أبدا، فإن وعده تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بدخول البيت الحرام كان برؤيا منامية قبل صلح الحديبية في سنة ست فكان تصديقها والوفاء بها برؤية عين في عمرة القضاء سنة سبع.







وإذا كان الوفاء بالوعد من صفات الرب تعالى فإنه أيضا من جميل خصال الأحرار الذين مهما ثقل عليهم حمل الوفاء يجاهدون أنفسهم في تحقيقه إذ أنهم يعتبرون عهدهم ديْنا غير مدفوع وعارية مضمونة.







عين النبي صلى الله عليه وسلم لا تكذب:



وفي قوله تعالى ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ.. [الفتح: 27] أن رؤيا الأنبياء حق بل قد تكون وحيا لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ... ﴾ [الصافات: 102]، وقد كان من إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وها هو يرى رؤيا عمرة القضاء فتتحقق بعد عام واحد، قال الرازي رحمه الله: "وفيه إشارة إلى امتناع الكذب في الرؤيا لأنه لما كان رسولا بالحق فلا يرى في منامه الباطل".







وإن كان من أعظم الفِرَى أن يُرِيَ الرجل عينه ما لم تر فإن ذلك يستحيل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يكذب قط لا يقظة ولا مناما وهو ما ينبغي علينا أن نتأسى به فيه فلا نقول إلا حقا ولو في لحظات الهزل والمزاح.







هكذا فليكن المنطق:



ورغم قصرها إلا أن آية ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ... ﴾ [الفتح: 27] احتوت على بعض أساليب الفصاحة والبيان والبلاغة وحسن المنطق، ففي قوله تعالى ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الفتح: 27] معنى الأدب وكذلك التأكيد. وقيل فيها أيضا أنه تعالى خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال" ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله"، وقال ثعلب: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل، وقيل: الاستثناء من "آمنين"، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة وقيل: معنى" إن شاء الله" إن أمركم الله بالدخول، وقيل: أي إن سهل الله، وقيل:" إن شاء الله" أي كما شاء الله، وقال أبو عبيدة:" إن" بمعنى" إذ"، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى" اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين"[3] أي إذ كنتم[4].







وفي قوله تعالى ﴿ لَا تَخَافُونَ ﴾ [الفتح: 27] أجاب الرازي رحمه الله عن الفائدة من إعادة ذكر عدم الخوف بعد ذكر الأمن في قوله تعالىآمِنين) فقال: فيه بيان كمال الأمن[5]. وأشار الصابوني فيها إلى معنى جميل حيث قال: (وليس فيه تكرارٌ لأن المراد آمنين وقت دخولكم، وحال المكث، وحال الخروج)[6].







فما أحسن بيان القرءان وما أجمل لغته وما أبلغ أساليبه وما أعمق معانيه وما أدق تعبيراته، إن ذلك ليؤكد أنه تنزيل من حكيم حميد كما ينبه على أننا كمسلمين يجب أن نشتغل بالقرآن وأن نجاهد أنفسنا في دراسته والتلذذ بفهم أساليبه ومعانيه.







وهو يدعونا، تبعا لذلك، إلى الاهتمام باللغة العربية ودراستها وتقديمها على غيرها من اللغات لتعلقها بكتاب الله تعالى، ولجمالها ولفضلها الذي يؤثِّر في العقل والخُلُق والدّين تأثيرا قويا. والحق أن تعلم اللغة العربية مِنَ الدّين، ومعرفتهَا فرضٌ واجِب، ويكفي ما قاله البَيروني رحمه الله، وهو فارسي الأصل، عن العربية: "واللهِ لأنْ أُهجَى بالعربيَّةِ أحبّ إليَّ منْ أنْ أُمْدَح بالفَارسيَّةِ"[7].







الحكمة الإلهية سر كبير:



وفى قوله تعالى ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا... ﴾ [الفتح: 27] أن الله تعالى حكيم لا تصدر عنه إلا الحكمة في أقواله وأفعاله وأنه تعالى لا يخلق شيئا عبثا، يشهد بذلك خلقه الانسان في أحسن تقويم وتنظيم الكون في أروع تنظيم وترتيبه في أبدع ترتيب، وهذه الحكمة قد تخفى على كثير من الناس فلا يبصرها إلا أرباب النظر والتأمل إن أذن الله لهم بذلك.







فالله تعالى يخبر هنا أنه لم يؤخر دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى البيت الحرام للعمرة في صلح الحديبية إلا لحكمة بالغة علمها هو ولم يعلموها هم فقال: ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا... ﴾ [الفتح: 27] أي ما لا تعلموه أنتم من الحكمة في التأخير، ولما اعتمروا يوم القضية ظهرت الحكمة العظيمة في تأخير دخولهم إلى العمرة يوم الحديبية.







فبسبب هذا التأخير حصل الظهور العظيم والفتح الكبير الذي لم يكن فتحٌ في الإسلام أعظم منه (صلح الحديبية) لأنَّه دخل في الإسلام بسببه مثل من كان دخل الإسلام قبل ذلك أو أكثر ولهذا سمّى الله تعالى الحديبية فتحا فقال : ﴿ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27] أَيْ جعل لكم من دون دخولكم المسجد للعمرة والتي حدثت يوم القضاء فتحا كبيرا وهو صلح الحديبية وذلك على قول من قال إن الفتح القريب في الآية هو صلح الحديبية وهم أكثر العلماء.







قال ابن الجوزي: ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ [الفتح: 27] فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحًا والثالث: فعلم أنه يفتح عليكم خيبر قبل ذلك[8].







وبالتأمل يظهر أن ما قاله ابن الجوزي كله محتمل فإن صلح الحديبة فعلا كان بداية الطريق أمام الناس للدخول في الإسلام من غير نكير وذلك بسبب نصه على وضع الحرب عشر سنين بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين وأن من أراد الدخول في عقد محمد صلى الله عليه وسلم فليدخل، وأما فتح خيبر فإنه كان سببًا في أن يملك المسلمون أضعاف ما كان عندهم قبل ذلك من أموال وميرة وعدة فلما حان وقت فتح مكة في سنة ثمان كانوا على قوة لم يستطع معها المشركون أن يصمدوا أمامهم ساعة من نهار.







وقد قال بعض المفسرين أن من حكمة التأخير أن يحفظ الله جماعة من المؤمنين كانوا بمكة لا يستطيعون الهجرة منها، نقل القرطبي عن بعضهم: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم[9].







ونرى من جهتنا أن في قوله تعالى ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ [الفتح: 27] إشارة إلى ضرورة اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو خفيت الحكمة من أوامرهونواهيه وأخباره فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى، فالصحابة رضي الله عنهم حزنوا حزنا شديدا لما لم يدخلوا مكة عام صلح الحديبية إلى حد أن أمرهم النبي بحلق رؤوسهم للتحلل من العمرة فأبطأوا عنه وما كان ذلك إلا لأنهم جهلوا الحكمة في التأخير فأعلمهم جل وعلا أنه أعلم بما يصلحهم وأن رسوله صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب أبدا ومن ثم وجب اتباعه وتأكدت عليهم طاعته.







كما أن فيها أيضا حثٌ على العمل والجد والاجتهاد فطالما أن الله يعلم ولا نعلم وطالما أن قدره تعالى سر مكتوم والحكمة من أفعاله قد تخفي على الكثير فإنه ينبغي أن يجتهد المرء في العمل ولا ينشغل بالنتائج التي ينبغي أن يتركها على الله تعالى ثقة فيه وحسن اعتماد عليه، وذلك بلا شك من دواعي العيش الهانئ.







كما أن فيها أيضا أن تأخر النصر قد يدخل في باب السنن الكونية وأن تدرج الأحداث إنما هو أصل في صيرورة حركة التاريخ إلى غايتها فإن كثيرا من الأحداث في هذه الحياة تسير بطريقة متدرجة ومتسلسلة قد يعبر عنها عند بعضهم (مثل أهل الإلحاد) بقوانين الطبيعة وقد يعبر عنها عند آخرين (مثل المؤمنين) بقضاء الله وقدره وتدبيره لعباده الصالحين، وقد يلحظ ذلك من يلهمه الله بصيرة ولكنه قد يغيب عن كثير من الناس.







وفى صيرورة أحداث سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نحو سيرة بشرية غير عادية، نظرًا لكونها مرتبطة بالسماء والوحى والملائكة والغيبيات، كان صلح الحديبة الخطوة الأولى للوصول إلى الفتح الأعظم لمكة المكرمة في سنة ثمان ولهذا سماها الزهري رحمه الله فتحا فقال: (ما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه "صلح الحديبية"، إنما كان القتال حيث التقى الناس؛ فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر)[10]. ثم كان فتح خيبر في المحرم من سنة سبع لازما للقوة المطلوبة للمسلمين التي ستفت في عضد المشركين وتكسر شوكتهم وتزيل الكبر والعجب من نفوسهم، لتأتي عمرة القضاء في ذي القعدة من العام نفسه وتستكمل المقدمات لتبقي النتيجة الحتمية هي فتح مكة، فسار التسلسل التاريخي في سيرته صلى الله عليه وسلم متوافقا مع الإطار الطبيعي الذي ينبغي أن تتشكل فيه سيرة رجل غير عادي (محمد صلى الله عليه وسلم)، فمن صلح الحديبة إلى فتح خيبر فعمرة القضية ثم الفتح المبارك لمكة المكرمة.







يمكننا القول إذن أن من أهم ما ينبغي أن يترسخ في نفوس المؤمنين ويتمكن من قلوبهم الثقة بالله تعالى والاعتقاد الجازم بأنه يتولى الصالحين ويقدر لهم وأن خفاء الحكمة من بعض التشريعات الالهية أو من تأخر وقوع ما وعد الله تعالى به إنما هو لغاية يعلمها الله وقد تظهر للناس في وقتها المناسب.







المنافقون لا يجدون فرصة للطعن في دين الله إلا اغتنموها:



قيل في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلًا يقول له: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ﴾ [الفتح: 27] ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوها قال المنافقون أين رؤياه فأنزل الله ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ﴾ [الفتح: 27] فأعلمهم أنهم سيدخلون من غير ذلك العام، وأن رؤيا محمد حق[11].







ليتبين بهذا أن دأب المنافقين هو الكمون والتستر ومخادعة الله والمؤمنين إلى أن تتاح لهم الفرصة فيثيرون الجدل حول ثوابت الدين ويطعنون في مرتكزاته ويظهرون شبهاتهم حول أصوله وفروعه، كما يدسون سمهم ويحيكون مؤامرتهم للتشويش على المسلمين وهدم دولتهم وحضارتهم وهذا مكمن خطورتهم، فما أحوجنا إلى فهم عقلية هؤلاء المنافقين والحذر الدائم منهم.







وبهذا يظهر أن عمرة القضاء كانت حدثا هامًّا في سيرة النبي وهو ما استدعى نزول القرءان للتعليق عليها، وقد كان هذا التعليق قصيرا إلى حد أن اشتمل على آية واحدة لكنها حوت من البلاغة والفصاحة والهداية والإرشاد ما تحار فيه العقول وهي بحق تدل على إعجاز القرءان البلاغي.







بدأت تلك الآية ببيان أن عمرة القضية كانت مصداقا للرؤيا التي أرآها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أنه سيدخل مكة معتمرا مع أصحابه وسيكون ذلك في أمن شامل وذهاب كامل للخوف، الذي سيطر عليهم قبل سنتين فقط وقت غزوة الخندق، وهو الحال الذي معه يدخلون مكة ويعتمرون فيها ثم يخرجون إلى المدينة بطمأنينة نفس وسكون قلب. ثم بينت الآية أن أفعال الله لا تخلو عن حكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها وأن خفاء الحكمة من أفعاله تعالى يحمل في طياته صلاح المؤمنين وهو ما ينبغي أن يضعه المؤمنون في حسابهم فلا يشكُّون لحظة في نصر الله إياهم بل يثقون به ويعملون ويجدون وينصرون الله فإنه لاشك ناصرهم ومحقق أمانيهم، فها هو جل وعلا لما أخر عن الصحابة رضى الله عنهم دخول مكة يوم الحديبية ما كان ذلك الا لحكمة كبيرة خفيت علي كثير من أكابر الصحابة كعمر بن الخطاب رضى الله، وقد ظهرت تلك الحكمة في وقت قريب فأذعن الناس وتعلموا حسن الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه.







فما أحوجنا إلى استدعاء هذه المعاني الرائعة والأصول الأصلية التي أبانت عنها تلك الآية، من الثقة بوعد الله حتى وإن خفيت علينا الحكمة من تأخر وقوعه وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم أدب الحديث والحذر من المنافقين، خاصة في واقعنا المعاصر الذي غلب فيه اليأس على كثير من الناس.







والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.







[1] لمعرفة أحداث العمرة بالتفصيل، انظر: ابن هشام، عبد الملك، السيرة النبوية، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، الطبعة الثانية، 1375هـ -1955 م، ج، 2، ص، 370.




[2] الأندلسي، أبو حيان، البحر المحيط في التفسير، بيروت، دار الفكر، الطبعة 1420 هـ، ج، 9، ص، 500.




[3] القرآن 2/ 278.




[4] - القرطبي، أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، القاهرة، دار الكتب المصرية، الطبعة: الثانية، 1384هـ -1964 م، ج، 16، ص، 29.




[5] مفاتيح الغيب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة -1420 هـ، ج، 28، ص، 87.




[6] صفوة التفاسير، القاهرة، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1417 هـ -1997 م، ج، 3، ص 210.




[7] الظاهر، عبد الله فتحي، محطات في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، دار الكتب العلمية، ص، 33.




[8] زاد المسير في علم التفسير، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة: الأولى -1422 هـ، ج، 4، ص، 138.




[9] الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج، 16، ص، 291.




[10] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان في تأويل القرآن، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1420 هـ -2000 م، ج، 21، ص، 318.





[11] ابن أبي طالب، مكي، الهداية إلى بلوغ النهاية، مجموعة بحوث الكتاب والسنة -كلية الشريعة والدراسات الإسلامية -جامعة الشارقة، الطبعة الأولى، 1429 هـ -2008 م، ج، 11، ص، 6969.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.80 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.53%)]