أهم مظاهر المنهج التوليدي التحويلي عند سيبويه - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مسؤولية الأبوين والمعلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله
التسجيل التعليمـــات التقويم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 25-04-2021, 01:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,094
الدولة : Egypt
افتراضي أهم مظاهر المنهج التوليدي التحويلي عند سيبويه

أهم مظاهر المنهج التوليدي التحويلي عند سيبويه
أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن





بعض الباحثين، عربًا وغير عرب، لاحظوا بعض أوجه الشَّبه بين النحو العربي والنظرية اللسانية التوليدية التي جاء بها نعوم تشومسكي بدءًا من أواسط الخمسينيات من القرن العشرين. كما أنَّ بعض هؤلاء الباحثين تجاوزوا ملاحظة هذا التَّشابه إلى القول بأنَّ تشومسكي أخذ المفاهيم الأساسية في نظريته عن النحو العربي بطرقٍ مُباشرة أو غير مباشرة. ولا يتَّسع المقام هنا لعرض كل ما قيل عن وجود هذا التَّشابه أو ما قيل عن أخذ تشومسكي عن النحو العربي؛ لكنني سأكتفي بإيراد عينات ممثلة لهذه الآراء. ومَنْ يقرأ في كتاب سيبويه، ويتعامل مع أبوابه وقضاياه اللغوية يجد أنَّ سيبويه قد تعامل بمفاهيم المنهج التحويلي من دون أن يذكر المصطلحات نفسها التي عرفناها في القرن العشرين علي يد تشومسكي وتلاميذه والمتابعين له حول العالم. ويظهر ذلك في العديد من الظواهر اللغوية والنحوية، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: دراسة سيبويه لوسائل التحويل:
كالحذف، والتقديم والتأخير، والاعتراض (الفصل)، والاختصار والإيجاز، والاتساع، والزيادة...الخ. ويذكر سيبويه أنَّ العرب " يغيِّرون الأكثر في كلامهم "[1]، وهذا التغيير أو التحويل يكون بوسائل شتَّى، من أهمها:
(1) الحذف: لقد ورد مصطلح الحذف في كتاب سيبويه كثيرَا، وقد درس سيبويه ظاهرة الحذف لدى العرب، ولا أبالغ إذا قلت: إنَّ سيبويه قد درس ظاهرة الحذف بصورة أكبر من تشومسكي، فقد تحدَّث عن حذف الحركة حيث يقول سيبويه: " واعلم أنَّ العرب يَستخفّون فيحذفون التنوينَ والنون؛ ولا يَتغيُّر من المعنى".[2] وفي قوله (ولا يتغير من المعنى) يتشابه مع رأي التحويليين؛ أنَّ التَّحويل ومظاهره ومنها الحذف لا يمسُّ المعنى الأصلي للجمل.

وتحدَّث عن حذف الحرف؛ ومن ذلك قوله: " وأما قولهم ميتٌ وهينٌ ولينٌ فإنهم يحذفون العين ".[3] ومنه قوله: "زعم الخليل رحمه الله أنَّهم خفَّفوا هذه الأسماء التي ليست أواخرها الهاء؛ ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة على ثلاثة، فإنَّما أرادوا أن يُقرِّبوا الاسم من الثلاثة أو يُصيِّرُوه إليها، وكان غاية التَّخفيف عندهم؛ لأنَّه أخفُّ شيء عندهم في كلامهم".[4] وتحدَّث عن حذف الكلم، ومن ذلك قوله: " اعلم أنّهم ممَّا يَحذفون الكلم، وإنْ كان أصلُه في الكلام غير ذلك".[5] وتحدَّث سيبويه عن سبب الحذف لدى العرب: " كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه".[6] ويقول: "وما حذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير".[7] وقوله: " فحذفوا الكلام استخفافًا".[8] ومن ذلك قوله: " فإذا قلت: هذه تميمٌ، وهذه أسدٌ، وهذه سلولٌ، فإنَّما تريد ذلك المعنى، غير أنَّك إذا حذفت حذفت المضاف تخفيفاً"[9]. ومن ذلك قوله: "وإذا كان فعل الجميع مرفوعاً ثم أدخلت فيه النون الخفيفة أو الثقيلة حذفت نون الرفع، وذلك قولك: لتفعلنَّ ذاك ولتذهبنَّ؛ لأنَّه اجتمعت فيه ثلاث نونات فحذفوها استثقالاً" [10]. ويقول: " وهم مما يحذفون الأكثر في كلامهم" [11]. بل تعدَّى كلامه صحة الحذف إلى جمال الحذف، فنجده يقول: "إذا طال الكلام كان الحذف أجمل".[12]

وتحدَّث عن ضوابط الحذف حتَّى لا يكون عشوائيًّا حيث يقول: " فلو حسن بالذي لا يستغنى به الكلام لحسن بالذي يستغنى به".[13] ويؤكد سيبويه أنَّ كلامه ليس إلا نتيجة واستخلاص من كلام العرب: "ولكنّك تُضمِر بعد ما أَضمرتْ فيه العربُ من الحروف والمَواضِعِ، وتُظهِرُ ما أَظهروا".[14] والحذف في كتاب سيبويه أكثر من أن يُحاط به هنا[15].

.... وبعد، فمن الواضح أنَّ الحذف " ظاهرة مشتركة في اللغات الإنسانية، حيث يميل المتكلِّم إلى حذف العناصر المكررة، أو التي يمكن فهمها من السياق، والطريقة التي يقدمها المنهج التحويلي الحديث في تفسير ظاهرة الحذف هي التي قدَّمها النحو العربي" [16].

(2) التقديم والتأخير: من مظاهر التحويل لدى تشومسكي الاعتماد على التقديم والتأخير، وقد أولى سيبويه ظاهرة التقديم والتأخير عناية كبيرة، ومن ذلك قوله: " هذا باب (الفاعل الذي يَتعداه فعلُه إلى مفعول).... وذلك قولك: ضَرَبَ زيداً عبدُ الله؛ لأنّك إنَّما أردت به مُؤخّرًا ما أردت به مقدَّمًا، ولم تُرد أن تَشغلَ الفعل بأوَّلَ منه وإنْ كان مؤخراً في اللفظ، فَمن ثمَّ كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مُقدَّما، وهو عربيٌّ جيَّد كثير، كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمُّ لهم وهُمْ ببيانه أَعْنَى؛ وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم".[17] وهو يصف كلام العرب الذي وقع فيه التقديم والتأخير ويعلل لحدوثه. وقد تحدَّث سيبويه عن ضوابط التقديم والتأخير، ومن ذلك قوله: "وكلَّما طال الكلامُ ضعُفَ التأخيرُ".[18] وقد يحسن التقديم ويقبح إلا أنَّه وقع عن العرب، ومن ذلك قوله: "... وهى غيرُ واجبة كالجزاء فقَبُحَ تقديمُ الاسم"[19]، وقوله: " وإذا أردت أن تَعْلَم التباسه به فأَدخلْه في الباب الذي تقدَم فيه الصفَة، فما حسنُ تقديمُ صفته فهو ملتبس بالأول، وما لا يحسن فليس ملتبسا به"[20]، وقوله: " وإنما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولم يجز للآخر إلا أن يكون مؤخراً؛ لأنَّه قصد قصد أحد الاسمين فبدأ بأحدهما؛ لأنَّ حاجته أحدهما فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها؛ لأنه إنما يسأل عن أحدهما من أجلها، فإنما يفرغ مما يقصد قصده بقصته ثم يعدله بالثاني"[21]. ويقول: "وإن شئت أَخّرت الفصَل في اللفظ وأصلُه التقديم لأنه لا يَمنعه تأخيرهُ عَمَله مقدَّما كما قال ضَرَبَ زَيداً عمروٌ فعمروٌ مؤخَّر في اللَّفظ مبدوءٌ به في المعنى، وهذا مبدوءٌ به في أنه يُثبِت التنوينَ ثم يُعْمِلُ"[22]. ويقول: "وتقول: إنَّ زيدًا لفيها قائمًا، وإن شئت ألغيت (لفيها)، كأنَّك قلت: إنَّ زيدًا لقائمٌ فيها" [23].

(3) الاعتراض (الفصل): الفصل من وسائل التَّحويل عن تشومسكي، وقد تعرَّض سيبويه لدراسته، فقد رصد هذه الظاهرة عند العرب، وحاول تفسير أسباب الفصل وضوابطه، ومن ذلك قوله: " والنَّصبُ في الفصل أَقوى، إذا قلت: هذا ضاربُ زيدٍ فيها وعمراً، كلَّما طال الكلامُ كان أَقوى؛ وذلك أَنّكَ لا تَفصل بين الجارّ وبين ما يَعْملُ فيه، فكذلك صار هذا أَقوى"[24]. وعمَّا يمكننا أن نعتبره من ضوابط الفصل يقول: "واعلم أنَّ ما كان فصلاً لا يُغير ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن يذكر"[25]، وقوله: " ولم يفصلوا بين أنَّ وأخواتها وبين الفعل؛ كراهية أن يشبهوها بما يعمل في الأسماء " [26]. وعمَّا يمكننا أن نعتبره من جماليات الفصل يقول: "كما أنَّ كلَّ مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت".[27]

(4) الزِّيادة: لقد تحدَّث سيبويه عن زيادة الحروف والكلمة، ومن ذلك قوله: " ويُجْرَى ذلك الاسمُ مُجرى الواحدِ الذي لحقتْه الزيَّادةُ للجمع، كما لحقتْه الزيادةُ للتثنية".[28] وقوله: "هذا باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام"[29]. وقوله: "هذا باب دخول الزيادة في فعلت للمعاني"[30]. ومنه قوله: "هذا باب تكون الزَّوائد فيه بمنزلة ما هو من نفس الحرف"[31]. وقوله: "هذا باب يكون فيه الحرف الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد وقع وما قبله جميعًا"[32]. وقوله: " الباء دخلتْ على شيء لو لم تَدخل عليه لم يُخِلَّ بالمعنى، ولم يُحْتَجْ إليها وكان نصبًا، ألا ترى أنَّهم يقولون: حسبُك هذا، وبحسبِك هذا، فلم تُغَّير الباء معنى"[33]. وممَّا سبق يتَّضح أنَّ سيبويه درس الزيادة المؤثرة في المعنى وغير المؤثرة.

وعند التحويليين الغربيين نجدهم يشيرون إلى "أنَّ هناك تركيبات نظمية تدخل فيها كلمات لا تدلُّ على معنى في العمق، وإنَّما تفيد وظيفة تركيبية، وقد تُعدُّ لونًا من ألوان الزَّخارف، ويمثلون لذلك بكلمات نحو (It - there) وغيرهما ومثاله It is raining[34].

(5) الاختصار والإيجاز والاتساع: مصطلحات درسها منظرو المدرسة التحويلية، وقد سبقهم سيبويه بدراستها، ومن ذلك قوله: "وممَّا جاء على اتّساع الكلام والاختصارِ قوله تعالى جدّه ﴿ واسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ [35] إنّما يريد: أهلَ القريِة فاختصَرَ ".[36] ومنه قوله: "هذا باب استعمال الفعل في اللَّفظ لا في المعنى لاتَّساعِهم في الكلام والإيجاز والاختصار"[37]، وقوله: "قال: سِيرَ عليه سَيْرُ اليوم، والرفعُ في جميع هذا عربي كثير في جميع لغات العرب على ما ذكرتُ لك من سعة الكلام".[38] وتحدَّث سيبويه عن ضوابط الاختصار أو الإيجاز أو الاتِّساع؛ ومن ذلك قوله: "ولكنه جاء على سعة الكلام والإِيجاز لعلم المخاطَب بالمعنى"[39] ويُفهم من كلام سيبويه "أن يكون المُخاطب فاهمًا للمعنى، ولا يفهم المخاطب ذلك إلا إذا كان هذا التَّجوُّز أو كسر الاختيار من العرف اللغوي؛ أي: من سليقة المُتكلِّم والمستمع معًا وكفاية كل منهما اللغوية، وهذا هو الجانب الإبداعي في اللغة"[40].

(6) الإضمار[41] والاستتار: من الوسائل التحويلية من البنية العميقة إلى البنية السطحية عند التحويليين الجدد، ولقد درس سيبويه ذلك، فعن شروط الإضمار وضوابطه يقول سيبويه: "أَضْمَرَ لعلم المخاطَبِ بما يَعْنى"[42]. وقوله: "لأنَّه أضمرَ في آخر الكلام"[43]، وقوله: " فإمّا أَن يكونَ أَضْمَرَ الاسمَ وجَعل هذا خبرَه كأنّه قال: أَمْرِي طاعٌة وقولٌ معروف، أو يكون أَضْمر الخبَر فقال: طاعةٌ وقولٌ معروف أمثلُ"[44]. ومنه قوله: "ومثل ذلك: تالله رجلاً، كأنَّه أضمر: تالله ما رأيت كاليوم رجلاً، وما رأيت مثله رجلاً"[45].

وعن إضمار الفعل يقول سيبويه: " فاعرفْ فيما ذكرتُ لك أنّ الفِعْلَ يَجرى في الأسماءِ على ثلاثة مَجارٍ: فِعْلٌ مُظْهَرٌ لا يَحسن إضمارُه، وفِعْلٌ مُضْمَرٌ مستعمَلٌ إظهارُه، وفِعْلٌ مُضمَرٌ متروكٌ إظهارُه" [46]. ومن المعروف أن الضمير هو اسم مختصر، والبنية السطحية المنطوقة للضمير يكمن تحتها بنية عميقة، كما أن جانبًا كبيرًا من هذه الضمائر لا يظهر في البنية السطحية للكلام؛ والكتاب غنيٌّ بالأمثلة عن الإضمار والاستتار.

(7) الإدغام والإمالة: ممَّا لاشك فيه أنَّ الإدغام والإمالة من الوسائل التي تساعد على تحويل الكلام من بنيته العميقة (الأصل) إلي البنية السطحية (الفرع)، ولقد أولى سيبويه هذه الظواهر اهتمامًا كبيرًا في كتابه قد يفوق اهتمام التَّحوليين الجدد. ومن ذلك قوله عن الإدغام: "هذا باب الإدغام"[47]، وقوله: "وإنَّما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك ولا يجوز فيه، وما تبدله استثقالاً كما تدغم وما تخفيه وهو بزنة المتحرك"[48]، وقوله: " هذا باب الإدغام في الحرفين اللذين تضع لسانك لهما موضعاً واحداً لا يزول عنه"[49]. ولم يقتصر كلام سيبويه على توضيح الآلية التي يقع بها الإدغام بل تحدث عن جماليات الإدغام، ومن ذلك قوله: "وكلَّما توالت الحركات أكثر كان الإدغام أحسن"[50]، وقوله: "وإذا التقى الحرفان المثلان اللذان هما سواءٌ متحركين وقبل الأول حرف مدٍ فإنَّ الإدغام حسنٌ "[51]. ويتحدث عن الإمالة: "هذا باب ما يُمال من الحروف التي ليس بعدها ألف إذا كانت الراء بعدها مكسورة "[52]. وقوله: "لا يمنع الألف من الإمالة، وليس بمنزلة ما يكون بعد الألف؛ لأنَّهم يضعون ألسنتهم في موضع المُستعلية، ثم يُصوبون ألسنتهم، فالانحدار أخف عليهم من الإصعاد"[53].

(8) الاستغناء: هو " استغناء العرب بكلمة عن كلمة أو أكثر؛ عن طريق حذف بعضها أو تغيير صورتها، أو الاستعانة بكلمة ليست من اشتقاقها؛ لوجود قرينة، وذلك استحسانًا وطلبًا للخفَّة والاختصار، ولضربٍ من البلاغة وتجويد المعنى". [54] والاستغناء وسيلةٌ من وسائل التحويل من البنية العميقة إلى البنية السطحية، ولقد اهتمَّ بها سيبويه، ومن ذلك قوله: " من كلامهم الاستغناء بالشَّيء عن الشَّيء"[55]. وقوله: "وأمَّا استغناؤهم بالشَّيء عن الشَّيء فإنّهم يقولون: يَدَعُ، ولا يقولون: وَدَع، استغنوا عنها بتَرَكَ"[56].

وقوله: "ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلت، لا يجوز أن تقول: فعل أنا؛ لأنَّهم استغنوا بالتاء عن أنا"[57]. وقوله: "استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها"[58].

وقوله: "استغنوا بقولهم أنفع نفسي عن ني وعن إياي"[59]. وقوله: "استغنوا بمثلى ومثله عن كي وكه"[60]. وقوله: "استغنوا بثلاثة جروحٍ عن أجراحٍ"[61]. وقوله: "وحدثنا يونس أنَّه سمع من العرب مَنْ يقول: عليكني، من غير تلقين، ومنهم مَنْ لا يستعمل (ني ولا نا) في ذا الموضع؛ استغناءً بـ(عليك بي، وعليك بنا) عن (ني ونا وإياي وإيانا)"[62]. وقوله: "وربما استغنى عن انفعل في هذا الباب فلم يستعمل، وذلك قولهم: طردته فذهب، ولا يقولون: فانطرد، ولا فاطرد؛ يعني أنَّهم استغنوا عن لفظه بلفظ غيره إذ كان في معناه"[63].

ثانيًا: سيبويه والتَّفريق بين البنية السَّطحيَّة والبنية العميقة:
من أهم الأفكار التي ركَّز عليها تشومسكي وتلاميذه التفريق بين البنية السطحية والبنية العميقة، وقد اهتم أيضًا سيبويه بذلك لكن دون أن يُصرَّح بذلك، ويفهم ذلك من قوله: " وممَّا جاء على اتّساع الكلام والاختصارِ قوله تعالى ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ [64] إنّما يريد أهلَ القريِة فاختصَرَ وعَملَ الفعلُ في القرية كما كان عاملاً في الأَهْل لو كان ها هنا، ومثله ﴿ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ﴾ [65] وإنّما المعنى: بل مَكْرُكُم في الليل والنهار، وقال عزّ وجلّ ﴿ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ ﴾ [66] وإنّما هو: ولكنّ البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخِر"[67]. وقوله: "حذفوا الفعلَ لكثرة استعمالهم هذا في الكلام، وصار (يَا) بدلاً من اللَّفظ بالفعل، كأَنَّه قال: يَا أُريدُ عبدَ الله، فحذَف (أُريدُ) وصارت (يا) بدلاً منها؛ لأنّك إذا قلت: يا فلانُ، عُلِمَ أنّك تريدُه" [68].

ونجده يبحث دائمًا عن الأصل، ولذلك وجدناه يُقدِّر ويُؤِّل، ومن ذلك قوله: "فمَا هو الأصلُ الذي عليه أكثُر هذا المعنى؟" [69]، وقوله: " فأمّا الأصلُ الأكثُر الذي جرى مجرى الفعل من الأسماء ففاعِلٌ"[70]، وقوله: "كان الأصل فيها أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم".[71] وقوله: " الابتداءَ إنَّما هو خَبَرٌ وأَحسنْه إذا اجتَمع نكرةٌ ومعرفٌة أنَ يبتدئَ بالأَعْرَافِ، وهو أصل الكلام"[72]. وقوله: "الموصوفةَ في الأصل هي الأسماءُ"[73]، وقوله: "ويا أخانا زيدًا أكثر في كلام العرب؛ لأنَّهم يردُّونه إلى الأصل".[74] وقوله: "وليس كل شيء يكثر في كلامهم يُغير عن الأصل؛ لأنَّه ليس بالقياس عندهم فكرهوا ترك الأصل"[75]، وقوله: " ليس في الدنيا اسمٌ أقل عدداً من اسمٍ على ثلاثة أحرف، ولكنهم قد يحذفون ممَّا كان على ثلاثةٍ حرفاً، وهو في الأصل له ويردُّونه في التَّحقير والجمع، وذلك قولهم في: دمٍ دميٌ".[76] وقوله: " فممَّا حُذف وأصله في الكلام غير ذلك: لَمْ يَكُ ولا أَدْرِ وأشباهُ ذلك ".[77]

وممَّا يدلُّ أيضًا على اهتمام سيبويه بتقدير البنية العميقة قوله: " ومن العرب من يقول: كِلاهما وتمراً، كأَنَّه قال: كلاهما لي ثابتانِ وزِدْني تمرًا، وكلُّ شيءٍّ ولا شتيمةَ حُرٍّ، كأَنَّه قال: كلُّ شيءٍّ أَمَمٌ ولا شتيمةَ حُرٍّ"[78]. وربما أيقن سيبويه "أنَّ الاكتفاء بوصف البنية السطحية لا يعني إنكار البنية العميقة، بوصفها خاصة لغوية إنسانية. هذه الخاصة الإنسانية منحة من الله جلَّ وعلا، وهي صالحةٌ للعمل بالتَّفعيل والتَّوليد منها حسب البيئة اللغوية المعينة. والبيئاتُ اللُّغويَّة كثيرةٌ؛ لا حصر لها، ومن ثمَّ لا نعجب ولا ندهش إذا جاء هذا التَّوليد مُختلفًا من بيئةٍ إلى أخرى، بل من فردٍ إلى فردٍ آخر"[79]. ولقد عرض التحويليون الجدد لقضية الأصل والفرع في مواضع مختلفة؛ منها " بحثهم للألفاظ ذات العلامة (mark) وتلك التي بلا علامة (un mark)، وقرَّروا أنَّ الألفاظ غير المُعلَّمة هي الأصل، وهي أكثر دورانًا في الاستعمال، وأكثر تجردًا، ومن ثمَّ أقرب إلى البنية العميقة... فالمفرد غير المعلم (book - boy) والجمع تلحقه (s) (books - boy) والمفرد أصلٌ والجمع فرعٌ)[80].

وتتلخَّص مظاهر اهتمام سيبويه بمعرفة البنية العميقة فيما يلي:
(1) الاهتمام بالأصل والفرع كما مرَّ بنا.
(2) اهتمامه بالتقدير والتأويل من أجل معرفة البنية العميقة.
(3) اهتمامه بظواهر لغوية مثل: الحذف والتقديم والتأخير والزيادة والإضمار...الخ.

ثالثًا: سيبويه والإحلال والتوليد:
لقد تعرَّض سيبويه لدراسة الإحلال والتوليد في الجملة وهو من الأفكار التي أولاها التحويليون الجدد عناية كبيرة، ومن ذلك قوله عن العرب: "وهم ممَّا يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره"[81]. ومنه قوله: "واعلم أنَّ من العرب مَنْ يقول: (من ربي لأفعلنَّ ذلك، ومن ربي إنك لأشرٌ) يجعلها في هذا الموضع بمنزلة الواو والياء في قوله: (والله لأفعلنَّ)، ولا يدخلونها في غير ربي، كما لا يدخلون التاء في غير الله، ولكن الواو لازمةٌ لكل اسم يُقسم به والباء، وقد يقول بعض العرب: (لله لأفعلنَّ) كما تقول: (تالله لأفعلنَّ)".[82] وقوله: "وتقول: لبيك إنَّ الحمد والنعمة لك، وإنْ شِئْتَ قلت: أنَّ"[83]. وقوله: " من العرب مَنْ يقول: خُذه بما عزَّ وهان؛ أي: خُذه بالعزيز والهين، وكل واحدة منهما تجزي عن أختها"[84]. ولقد تتبع سيبويه كلام العرب الذي أحل فيه العربي لفظًا مكان آخر، أو ولَّد لفظًا من لفظ.

رابعًا: سيبويه والقدرة والكفاءة اللغوية:
لقد أولى تشومسكي الحديث عن القدرة والكفاءة اللغوية عناية كبيرة، وقد لوحظ اهتمام سيبويه بهذا الأمر كذلك، ومنه قوله: "وليس شيء يضُطَرّون إليه إلا وهمْ يحاوِلون به وجهًا".[85] ومنه قوله: "ويحذفون ويُعوِّضون ويَستغنون بالشَّيء عن الشَّيء الذي أصله في كلامهم أن يُستعمل حتَّى يصير ساقطًا"[86]، وقوله: "وهم لا يُريدون أن يخرجوا من حرف الإعراب التَّحرك الذي كان فيه؛ لأنَّهم أرادوا أن يزيدوا لجهد الاسم ما حذفوا منه، فلم يُريدوا أن يُخرجوا منه شيئاً كان فيه قبل أن يُضيفوا، كما أنَّهم لم يكونوا ليحذفوا حرفاً من الحروف من ذا الباب، فتركوا الحروف على حالها؛ لأنَّه ليس موضع حذف"[87].

ومنه قوله: "وهم ممَّا يحذفون هذه الياءات في غير الإضافة، فإذا أضافوا فكثرت الياءات وعدد الحروف ألزموا أنفسهم أن يحذفوا"[88]. وقوله: " وهم ممَّا يُغيِّرون الأكثر في كلامهم عن نظائره، وكما يجئ جمع الشيء على غير بنائه المُستعمل، ومثل ذلك (ليلةٌ) تقول: لييليةٌ كما قالوا ليالٍ وقولهم في رجلٍ رويجلٌ ونحو هذا"[89]. وقوله: " وهم ممَّا يُغيِّرون الأكثر في كلامهم ويجسرون عليه إذ صار عندهم مُخالفاً"[90]. وقوله: " ومَنْ قال: أغير؛ لأنَّهم قد يستثقلون فيغيرون ولا يحذفون، فهو قويٌ"[91].

وقوله: " واعلم أنَّه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممَّن يُميل، ولكنَّه قد يُخالف كُلُّ واحدٍ من الفريقين صاحِبَه، فينصب بعضٌ ما يُميل صاحبه، ويُميل بعضٌ ما ينصب صاحبه، وكذلك مَنْ كان النَّصب من لغته لا يوافق غيره ممَّن ينصب، ولكنَّ أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر، فإذا رأيت عربيًا كذلك فلا ترينَّه خلطًا في لغته، ولكن هذا من أمرهم"[92]، ومنه قوله: "ويحتمِلون قُبحَ الكلام حتَّى يضعوه في غير موضعه؛ لأنَّه مستقيمٌ ليس فيه نقصٌ".[93] ومنه قوله: " واعلم أنَّ الشَّيء قد يقلُّ في كلامهم، وقد يتكلَّمون بمثله من المعتل؛ كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون"[94]، ومنه قوله: "ومن كلامهم أن يَجعلوا الشَّيء في موضعٍ على غير حاله في سائر الكلام"[95]، ومنه قوله: "واعلم أنَّ نِعْمَ تُؤنَّث وتُذكَّر وذلك قولك: (نعمت المرأة)، وإن شئت قلت: (نعم المرأة)، كما قالوا: (ذهب المرأة)، والحذف في (نعمت) أكثر".[96]

خامسًا: العامل بين سيبويه وتشومسكي:
يرى كثيرٌ من الباحثين أنَّ تفسير محرك التوليد نسخة من نظرية العامل، وتشومسكي صنع نظرية العامل في الثمانينات، وهي النقل الأمين لنظرية العامل عند سيبويه. إذن فبدل أن نتحدث عن نظرية العامل عند سيبويه تركناها وأخذناها عن تشومسكي الذي أخذها عن سيبويه ونشرها، وبدأ اللغويون العرب المعاصرون ينشرون العاملية (عاملية تشومسكي) وهي نفسها عاملية سيبويه[97]. وأشرت مذ قليل إلى أنَّ نظرية العامل شغلت حيزًا كبيرًا من دراسات النحاة العرب، فهي من أعمدة الدرس النحوي العربي، وممَّا لاشك فيه أن النحاة قد تأثروا بما قاله سيبويه عن العامل، ومن ذلك قوله: "وتأخير الخبر على الابتداء أقوى لأنه عامل فيه"[98]، وقوله: " الأول عامل في الآخر"[99]، وقوله: "وهذا مبتدأٌ بعد اسم وهذا الكلام في موضع خبره وهو فيه أقوى لأنَّه عاملٌ في الاسم الذي بعده"[100]، وقوله: "وما يَعْملُ من أسماء الفاعلينَ والمفعولينَ عَمَلَ الفعل الذي يتعدَّى إلى مفعول وما يعمل من المصادر ذلك العملَ"[101]، وقوله: "هذا باب ما يَعْمَلُ فيه الفعلُ فيَنتصبُ وهو حالٌ وقع فيه الفعلُ وليس بمفعولٍ"[102]، وقوله: "ونظير ذلك من كلام العرب أَجْمَعُونَ لا يجرى في الكلام إلا على اسم ولا يعمل فيه ناصب ولا رافع ولا جار[103]".

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 127.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 125.32 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]