الإشكالات المعاصرة في فهم السنة النبوية 1 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 650 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 915 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1078 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 844 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 828 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 909 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92746 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190975 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56909 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26181 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-07-2021, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي الإشكالات المعاصرة في فهم السنة النبوية 1

الإشكالات المعاصرة في فهم السنة النبوية 1
خالد بن منصور الدريس

المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
يعد فقه السنة النبوية غاية جليلة يُسعى إليها ويُنصب في سبيلها، ولا يحسن بطالب الحديث أن يشتغل بطرقه جمعاً وتعليلاً ويهمل التفقه في متونه، وكان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ينعى على المحدثين قلة عنايتهم بالفقه[1]، وكان - رحمه الله - يقول: "يعجبني أن يكون الرجل فهماً في الفقه"[2]، ويقول قرينه علي بن المديني: "التفقه في معاد الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم".[3]
في ظل هذه الحقيقة، جاء بحثنا هذا تأكيداً على ضرورة التزاوج بين علمين مهمين هما: الحديث، والفقه المبني على مراعاة المقاصد الشرعية، وإسهاماً في إبراز نموذج وسطي لأحد أعلام فقهاء أهل الحديث في قضية مهمة، وهي: ضرورة فهم النص الشرعي الجزئي في ضوء القواعد الكلية، وهذا ما نطمح -إن شاء الله- لتحقيقه في هذا البحث.
إشكالية البحث:
تعد قضية منهجية فهم نصوص السنة النبوية، إحدى أهم المشكلات في الفكر الإسلامي المعاصر، وتتمثل مظاهر هذه المشكلة لدى طائفتين من المتخصصين في العلوم الشرعية:
الأولى: تنتهج منهجاً يتسم بالغلو في التمسك بالظاهر، والثانية: تنتهج منهجاً يتسم بالتساهل في التمسك بنصوص السنة مع فهم خاص لمقاصد الشريعة لا يتعدى بها الأمور الدنيوية فقط.
وبين الإفراط والتفريط تقوم الحاجة الملحة لإبراز المنهج الوسطي، الذي يعد الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي المتوفى سنة (728 هـ) - فيما نظن - أحد ممثليه، ذلك أنه قد عُرف بميله لفقه أهل الحديث، كما أنه يعتبر مرجعية مهمة في الفكر الإسلامي يمكن الاستناد إلى تراثها في محاولة معالجة تلك المشكلة، وذلك من خلال إبراز منهجه المتوازن في فهم الحديث النبوي فهماً مقاصدياً بعيداً عن جمود الغالين، وتمييع المتساهلين.
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى:
1- إبراز جوانب التأصيل النظري لقضية فهم الحديث النبوي في ضوء مقاصد الشريعة.
2- تحديد الملامح العامة التي راعاها الإمام ابن تيمية في فقهه المقاصدي للأحاديث النبوية.
3- تسليط الضوء على جملة من الأحاديث النبوية التي فهمهما الإمام ابن تيمية فهماً مقاصدياً.
أقسام البحث:
1- المقدمة.
2- التمهيد.
3- المبحث الأول: التأصيل النظري لأهمية فهم الحديث النبوي في ضوء المقاصد.
4- المبحث الثاني: الملامح العامة لفهم الحديث مقاصدياً عند ابن تيمية.
5- المبحث الثالث: أمثلة تطبيقية على الفهم المقاصدي للحديث عند ابن تيمية.
6- الخاتمة.
ومن الله استمد العون والتوفيق في تحقيق ما أصبو إليه على الوجه الذي يرضيه عني، وأسأله - سبحانه - أن يرزقني صدق الإخلاص، وحسن المتابعة لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180- 182].
التمهيد:
مفهوم مقاصد الشريعة:
يكاد يتفق الباحثون المعاصرون على أن القدماء ممن تكلم في المقاصد، كالجويني، والغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، لم يعرفوا المقاصد ولم يحدوها بحد جامع مانع.
ويهمنا في هذا البحث أن نتعرف على مفهوم مقاصد الشريعة عند ابن تيمية تحديداً، وقد اجتهد الدكتور يوسف البدوي في تقديم تعريف لذلك بعد أن استعرض عدداً من نصوص ابن تيمية وتأملها، فقال: "هي الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه؛ لتحقيق عبوديته، وإصلاح العباد في المعاش والمعاد" [4].
ثم قال شارحاً ما حرره: "فالحكم تشمل الحكم والغايات الكلية العامة والخاصة والجزئية، وقلت: أوامره ونواهيه بدل تشريعه خوفاً من الاعتراض بالدور على التعريف بإضافة الشريعة له، وقولي: لتحقيق عبوديته، وإصلاح العباد في المعاش والمعاد، ضروري لبيان الهدف من المقاصد، وعدم حصرها في جانب العباد". [5]
وفي نظري أن مفهوم مقاصد الشريعة عند ابن تيمية الأقرب إلى الدقة يمكن التعبير عنه بقولنا: "هي الغايات العامة والخاصة، المرادة للشارع، لتحقيقها مصالح الخلق، الدينية والدنيوية"، وأصل هذا التعريف مأخوذ من عبارات ابن تيمية نفسه[6]، ومما حرره الدكتور يوسف البدوي، وفيما يلي شرح موجز للمفهوم:
عبارة: "العامة والخاصة" لأهميتها في الدلالة على أقسام المقاصد.
وعبارة: "الشارع" المراد صاحب الشرع، فتشمل العبارة الكتاب والسنة، والسنة على القول الراجح تستقل بالتشريع.
وعبارة: "مصالح" لكونها أعم من كلمة "مصلحة"، ولأنها تشمل جلب النفع ودفع الضر.
وعبارة: "الدينية والدنيوية" لتكون العبارة أكثر وضوحاً من كلمة "الدارين"، وكذا أقرب للدقة من عبارة ابن تيمية "المعاش والمعاد" التي جاءت في بعض استعمالاته، التي قد يفهم من ترتيبها تقديم المصالح الدنيوية "المعاش" على المصالح الدينية "المعاد"، والقارئ لتراث ابن تيمية يعلم مدى عنايته بشمولية مقاصد الشريعة، واهتمامه البالغ بالقضايا العقدية، وعليه فلا نشك أن أعظم المصالح الدينية وأعلاها بلا استثناء، والمقدمة على غيرها عند التعارض، وهي المقصود الأعظم للشارع: تحقيق العبودية لله وحده، وحماية التوحيد من الشرك، كما قال - تعالى - مبيناً الغاية من خلق الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وكما قال - سبحانه - أيضاً مبيناً أن الشرك بالله هو أكبر الكبائر: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) [النساء: 48].
وكذلك فلا يشك عارف بالشريعة أن الله ما بعث محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلا رحمة بالخلق، ومقتضى هذا أن رسالته جاءت بما ينفعهم ويدفع عنهم الضر في أمر الدين والدنيا، كما قال - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
عناية ابن تيمية بمقاصد الشريعة:
الدارس لتراث الإمام ابن تيمية يدرك بصورة ظاهرة أنه - رحمه الله - كان من أكثر علماء الشريعة الكبار عناية واهتماماً بمقاصد الشريعة، فهو يرى أن أحق الناس بالحق، من علق الأحكام بالمعاني، التي علقها بها الشارع [7]، ويرى أن علم الكتاب والحكمة التي علمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وأمته، لا يكون إلا بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من الألفاظ والمعاني، والأفعال والمقاصد [8]، كما يؤكد أن الخاصية المميزة للفقه في الدين هي معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها [9]، ولذا فإن من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيه حقاً [10]، لأن من يعلم مقاصد الشريعة يعلم تفسير ما أمر الله به ورسوله، وما نهيا عنه [11]، وفي رأيي أن النتيجة التي انتهى إليها الدكتور يوسف البدوي في بحثه عن "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" صحيحة، حيث يقول: "إذا كان الشاطبي شيخ المقاصديين على المستوى النظري، فشيخ المقاصديين على المستوى التطبيقي العملي هو ابن تيمية"[12].
المبحث الأول: التأصيل النظري لأهمية فهم الحديث النبوي في ضوء المقاصد.
يشمل مصطلح "النص الشرعي": آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذه النصوص في الغالب تأتي في صورة أوامر أو نواهي تخص حالة جزئية، وقد ينشأ عن العمل بذلك النص الجزئي في حالات معينة، أو ظروف خاصة ما يعارض مقصد من مقاصد الشريعة؛ لكون العامل بذلك النص لم يراع الغاية التي راعاها الشارع في تشريعه له، ومن هنا شدد العلماء قديماً وحديثاً على ضرورة أن تفهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد التي جاءت بها الشريعة، وبلا شك "فإن التمسك بحرفية السنة أحياناً لا يكون تنفيذاً لروح السنة ومقصودها، بل يكون مضاداً لها، وإن كان ظاهره التمسك بالسنة"[13]
ومن طريف العبارات التي تدل على شناعة إهمال هذه الحقيقة ما ذكره تلميذ ابن تيمية النجيب الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ، ولم يراع المقاصد والمعاني، إلا كمثل رجل قيل له: لا تسلم على صاحب بدعة، فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه.
أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها، ثم تركها على الحوض، وقال: لم تقل ائتني بها" [14].
ويطرح بعض طلبة العلم سؤالاً بهذا الصدد، فحواه: ما الدليل على وجوب أن يفهم الحديث الوارد في مسألة ما في ضوء مقاصد الشريعة؟
والجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى بناء حجية هذه القاعدة بالأدلة التالية:
أولاً: ذم القرآن والسنة لمن لم يأخذ بالمقاصد وتمسك بالظواهر فقط.
فأما القرآن ففي قوله - تعالى -: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83].
ففي هذه الآية الكريمة مدح الله - تعالى - أهل الاستنباط في كتابه، ووصفهم بأنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو: استنباط المعاني والعلل، والاستنباط في اللغة كالاستخراج، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقه الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما يصل إلى الاستنباط من عرف العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله - سبحانه - ذم هنا في هذه الآية من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه [15].
وأما في السنة فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: "بعث علي - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الطائي، ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب فغضبت قريش والأنصار قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا! قال: ((إنما أتألفهم)). فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد! فقال: ((من يطع الله إذا عصيت! أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني))، فسأله رجل قتله، أحسبه خالد بن الوليد، فمنعه فلما ولى قال: ((إن من ضئضئ هذا أو في عقب هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))" [16].
وفي هذا الحديث دليل على أن رأس الخوارج "ذا الخويصرة التميمي"، هو أول من أنكر مراعاة المصالح والمفاسد في فهم السنة النبوية، حيث لم يفهم تصرف النبي - عليه الصلاة والسلام - في ضوء ما جاءت به الشريعة من مقاصد، وظن بجهله أن الأمر بالعدل يعني التسوية المطلقة، بدون النظر في المناسبات والمقامات، واختلاف الأحوال، ومراعاة مآلات الأفعال، يقول ابن تيمية: "فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الطاعن عليه في القسمة، الناسب له عدم العدل بجهله وغلوه، وظنه أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس، دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس، وتفضيله من مصلحة التأليف، وغيرها من المصالح، علم أن هذا أول أولئك، فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته، فهو يكون بعد موته وعلى خلفائه أشد طعن"[17].
ومن تأمل الأحاديث الواردة في الخوارج الواردة في الصحاح، سيتضح له أن من أهم أسباب ضلالهم التي استوجبت في حقهم الوعيد الشديد، هو ما عبّر عنه الشاطبي بقوله: "اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي، والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث: ((يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم))، ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم... ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات، وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم" [18].
إن سبب ضلال الخوارج يعودُ إلى منهجِهم في فهم النصوص الشرعية بطريقة حرفية، وإنما هلكوا مع شدةِ عبادتهم واجتهادهم في الطاعات، بسبب مخالفتِهم للمنهج السوي المستقيم في الفهم، لقد كانوا يظنون أن التشددَ والغلوَ في الاستدلالِ والفكرِ طريقُ النجاة.
ويتبين بوضوح لمن تدبر الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة فيهم أن هناك مدرستين بينهما اختلافٌ في منهجية التفكير والفهم، الأولى: مدرسة الصحابة - رضي الله عنهم - وهم يأخذون بالمقاصد، والثانيةُ: مدرسة الخوارج الذين وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: ((أحداثُ الأسنان)) يعني صغاراً، ((سفهاءُ الأحلام)) والمراد التنبيه على ضعفِ عقولهم وفكرهم، ووصفهم بأنهم: ((يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم))، والمراد التنبيه على عدم تعمقهم في تدبر آيات الكتاب الكريم، وقد وضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم: ((يمرقون من الدين))، وبين - عليه الصلاة والسلام - أن الصوابَ والحقَ مع من قاتلهم، ومن المعلوم الذي لا يخالف فيه عاقل أن الذي قاتلهم هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومن معه من أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - أجمعين. ومما يؤكد الاختلاف المنهجي في التفكير بين المدرستين أيضاً: ما دار من حوار بين ابن عباس - رضي الله عنهما - والخوارج الذين بغوا على أمير المؤمنين عليٍ - رضي الله عنه -، وفيه يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - لهم: "أتيتكم من عند أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن عند ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد"[19] إلى آخر ما جاء في تلك المناظرة البديعة.
إن عاقبةَ مخالفةِ الخوارجِ لقواعدِ الفهم الصحيح أمرٌ بينته السنةُ النبويةُ الصحيحةُ، فجاء في الأحاديثِ الثابتةِ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قولُه: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))[20]، ومعنى هذا الحديث كما قال الشُراح: أي لأستأصلنهم بالكليةِ، وبأي وجهٍ، حتى لا يبقى أحدٌ منهم، كما قال الله - تعالى -في عاد: (فهل ترى لهم من باقية) [الحاقة: 8]، وفي حديث آخر قال - عليه الصلاة والسلام - في الخوارج: ((شرُ الخلق، أو من أشر الخلق))[21]. وفي صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "لو يعلم الجيشُ الذين يصيبونهم، ما قُضي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لاتكلوا عن العمل"[22]. ويظهرُ من سياق الأحاديث النبوية الآنفة في الخوارج أن الوعيدَ الشديدَ في شأنهم، كان بسبب منهجيتهم في فهم النصوص، وانحرافِهم عن أصول التلقي والاستدلال والفهم التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته الكرام رضوان الله عليهم[23].
ثانياً: عمل الصحابة بفهم الحديث النبوي في ضوء المقاصد.
يتفق أهل السنة والجماعة على أن الله - عز وجل - قد زكى صحابة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورضي عنهم. قال - تعالى -: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
فمن اتبعَ الصحابةَ في منهجيةِ الفهمِ والاستدلالِ والهدي العام، استحق رضوانَ اللهِ ووعْدَه له بالجِنان، وإن لم يكن اتباع المهاجرين والأنصار في أصول الإيمان وقواعد الدين والعلم، ففي أي شيءٍ يكون إذن؟!
ومن شواهد ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قسم أرض خيبر بين الفاتحين، ولكن عمر –رضي الله عنه- لم يقسم أرض سواد العراق، ورأى أن تبقى في أيدي أربابها، ويفرض الخراج على الأرض، ليكون مدداً مستمراً لأجيال المسلمين. [24]، وقد ورد في السنة في مدح عمر - رضي الله عنه - والثناء على فقه وفهمه، والأمر باتباعه كما في حديث: ((اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر))[25]، ما يؤكد سلامة المنهج العمري في فهم الحديث النبوي في ضوء مقاصد الشريعة.
وكذلك مسألة ضالة الإبل في زمن عثمان وعلي - رضي الله عنهما -، وما اجتهدا في شأنها، مع ورود نص نبوي في ذلك [26]. مما يؤكد أن هذا الضرب من الفهم للحديث النبوي منهج راشدي، وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، فإن لم يكن الاتباع في أصول الفهم والاستدلال لنصوص الشريعة، ففيم يكون الاتباع إذاً؟
ثالثاً: دلالة الاستقراء القطعي على أن أحكام الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها.
القاعدة المذكورة يقررها علماء الشريعة، وقد أفاض في الكلام عليها العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم.
يقول العز بن عبد السلام: "إن الله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لإقامة مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسدهما، والمصلحة لذة أو سببها أو فرحة أو سببها، والمفسدة ألم أو سببه أو غم أو سببه"[27].
ويقول ابن تيمية: "الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"[28]، ويعبر عن هذه القاعدة بتعبيرات متنوعة؛ كقوله: "الرسول بعث بتحصيل المصالح وتكميلها... "[29]، وقوله: "والرسل -صلوات الله عليهم- بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان"[30]، وقوله: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها.." [31].
ويقول ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل"[32].
والثمرة العملية لهذه القاعدة العامة: أن كل الأوامر والنواهي في نصوص الشرع، خاضعة لهذه القاعدة ويجب أن يعرض كل نص جزئي عليها، وهذا ما عبر عنه ابن تيمية بقوله: "فالواجبات والمستحبات لا بدّ أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به، فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته، لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرِكَ واجبٌ وفُعِلَ محرم"[33]، ثم قال: "جماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي، وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص، لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه؛ لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام"[34].
ويقول: "فهذا أصل عظيم في هذه المسائل ونوعها، لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر، إلا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن، بل الموجبة للاستحباب، أو الإيجاب".[35]
وكل من أعرض عن هذه القاعدة فهو بعيد عن حقيقة الفقه في الدين، فإن خاصة الفقه في الدين معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها[36]، والفقيه حقاً هو من عرف حكمة الشارع ومقصده؛ لأن من يعلم مقاصد الشريعة يعلم تفسير ما أمر الله به ورسوله، وما نهيا عنه[37].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد بن مفلح، الآداب الشرعية، مصر، دار قرطبة، بدون رقم الطبعة أو سنة نشر، (2/142)، (2/205).
[2] المرجع السابق.
[3] أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الرياض، دار المعارف، 1403هـ، (2/211).
[4] يوسف البدوي، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، الأردن، دار النفائس، 1421هـ، ص 54
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق، ص: 50- 52.
[7] ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، بيروت، دار المعرفة، 1386هـ، (2/153)
[8] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (15/391).
[9] المرجع السابق، (11/354).
[10] ابن تيمية الفتاوى الكبرى، (6/168).
[11] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 3/57).
[12] البدوي، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، ص:572.
[13] يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة، مصر، دار الوفاء، 1411هـ، ص 135.
[14] ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت، دار الجيل، 1393هـ، (3/115).
[15] ابن القيم، إعلام الموقعين، مرجع سابق، (1/225).
[16] أخرجه البخاري، صحيح البخاري المطبوع مع شرحه فتح الباري لابن حجر، بيروت، دار المعرفة، 1372هـ، رقم الحديث: (3344)، ومسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1400هـ، رقم الحديث1064).
[17] ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، بيروت، دار المعرفة، 1400هـ، ص 190.
[18] الشاطبي، الموافقات، بيروت، دار المعرفة، 1399هـ، (4/179).
[19] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، بيروت، المكتب الإسلامي، 1403هـ، (10/157)، والنسائي، السنن الكبير، بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ، (5/165)، واللفظ له.
[20] صحيح البخاري، (7432)، صحيح مسلم، (1064).
[21] صحيح مسلم،( 1065).
[22] المرجع السابق، (1066).
[23] لو تتبع باحث التطبيق المقاصدي للنصوص الشرعية في العهد النبوي لوقف على كثير من الشواهد المؤيدة لهذا الأمر، ولعل الله ييسر لنا في قادم الأيام كتابة بعض ما تحصل لنا من ذلك.
[24] القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة، مرجع سابق، ص 130.
[25] أخرجه الترمذي، جامع الترمذي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1404هـ، رقم الحديث (3662)، وصححه الحاكم في المستدرك (3/80)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/233) رقم الحديث (1233).
[26] مالك بن أنس، الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1400هـ، (2/759) رقم الحديث (1449).
[27] العز بن عبد السلام، القواعد الصغرى، مصر، دار الكتاب الجامعي، 1988م، ص34-35.
[28] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، الرياض، وزارة الشؤون الإسلامية، 1418هـ، (10/512).
[29] المرجع السابق، (1/138).
[30] المرجع السابق، (8/93).
[31] المرجع السابق، (23/343).
[32] ابن القيم، إعلام الموقعين، (3/3).
[33] ابن تيمية، الاستقامة، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود، 1403هـ، (2/211).
[34] المرجع السابق، (2/216-217)، والكلام نفسه في مجموع الفتاوى، (28/126).
[35] المرجع السابق (26/181).
[36] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (11/354).
[37] المرجع السابق، (6/72)، (3/57).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 72.20 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.54%)]