رسائل من المغرب القديم - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11914 - عددالزوار : 190855 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92681 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56888 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26179 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 726 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 59 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-07-2021, 04:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,570
الدولة : Egypt
افتراضي رسائل من المغرب القديم

رسائل من المغرب القديم
رياض منصور







كان شابًّا وسيمًا أنيقًا ظريفًا، ممتلئًا جدًّا وحيويَّة ونشاطًا، لا تراه إلا غارقًا بين أكوام الكتب، يستنشق هواءها وغبارَها، ويَلبَس حروفها، وينام بين سطورها، ثم اختفى.

وبقيت تَصِلُني رسائله الواحدة تلوَ الأخرى، مِن أين، كيف، لماذا، متى؟
لستُ أدري، كلُّ ما أعرفه أني سأعرض عليك رسائله فورَ وصولها.

الرسالة الأولى:
لا تسَلْني كيف جاءت
لا تسَلْني مَن كتبْ
إن هذا يا صَديقي
نبض تاريخ الأدب
فيه سحر وحَكايا
فيه حرفٌ مِن ذهبْ
التوقيع: صديقك مِن المَغرب القديم.

الرسالة الثانية:
جلست صبيحة هذا اليوم أمام بحيرة عظيمة، لا تشبه بُحَيرة الزيتون لأبي العيد دودو، ولا بحيرة طبرية التي لم تسمع لنزار، تأملتُها مليًّا فوجدتُ مياهَها قد تلونت بلونين متباينَين؛ يُغطِّيها الأزرق السماوي جهة اليمين، وعلى يَسارها يرقد أزرق مُشرب بخضرة.

والبحيرات أو البحار أو الأنهار أو الجبال أو الهِضاب عادةً ما تفصل بين مَظهرَينِ مِن مَظاهر الطبيعة مختلفين.

أما بحيرة "تريتونيا" هذه، فقد فصلت بين أجناس وألوان بشرية مُختلفة سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين، ولا تُهمُّني هذه الأجناس إن كانت هندوأوروبية أو كنعانية شرقية، المُهمُّ أني وجدت المنطقة آهلة بالسكان.

وعندما مالت الشمس نحو المغيب، تراقصَت أشعَّتها على صفحة البحيرة مشكلة منظرًا رهيبًا حملت معه أمتعتي، واتجهت شرقًا صوب دِلتا النيل، لست أدري، سحرٌ ما جذبني نحو الشرق.

وما هي إلا سويعات حتى التقيتُ أقوامًا بدوًا رعاةً يأكلون لحوم البقر، ويَشربون اللبن، بشرتهم سمراء، عيونهم سوداء، سمعتُ منهم وعنهم قصصًا أغرب من الخيال.

الرسالة الثالثة:
في خيمة من خيام " الأوزيس" بمحاذاة البُحيرة قضيتُ أسبوعًا كاملًا، أتنفس هواء عليلًا نقيًّا، ويُطعمني أهل الخيمة لحمًا طريًّا شهيًّا؛ فسَرَتْ فيَّ دماءُ الشباب، وامتلأتُ قوة وبأسًا، فأحببت الخروج معهم إلى الرَّعي والصَّيد.

أسبوع واحد هنا، يكفيك لتفهم لماذا يعمِّر "الأوزيس" في الأرض، ولماذا لا تُهاجم أجسامَهم القوية الأمراضُ والأوبئة، تفهم لماذا لا يموتون إلا بالشيخوخة.

آه... كدتُ أنسى... اليوم تعرَّفت على صديق ظريف جاء محمَّلًا بالكتُب يدعى "تيتليف".

الرسالة الرابعة:
سعيد جدًّا أنا بصُحبة تيتليف، وإن كان قليلَ الكلام، فهو مَشغول طَوالَ الوقت بتدوين كل ما يرى ويُشاهد ويسمع دون كلَل أو ملَل.

واليوم ونحن في طريقنا إلى " الغمفنزات" قال لي:
أتعلم يا صديقي؟ إني لأجد متعة وراحة كبيرتين وأنا أسجِّل الوقائع والأحداث، ومن يدري ربما أفدت بها أهلي وعشيرتي، وأقوامًا سيأتون من بعدي.

قلت له والحيرة تملأ كلامي:
تفيد أهلك؟ ربما... ولكن أقوامًا سيأتون من بعدك؟

ربَّت على كتفي وقال:
أجل، أفيدهم عندما يقرؤون ويَفهمون، ثم لا يُكرِّرون أخطاء من سبقهم.

يُدوِّن كل شيء يا صديقي، وها هو ذا يسجِّل ملاحظاته عن الغمفنزات:
"الغمفنزات قوم مُسالمون، لا يُخالطون الناس، ولا يتشابَكون في المعارك، وتراهم يضربون في الأرض دون سلاح".
إيه يا صديقي، ولماذا لا نَكتب نحن؟ أخوفًا من النقد؟

الرسالة الخامسة:
وصلْنا ظهيرة اليوم إلى منطقة واسعة كثيرة العشب والكلأ، يَسكُنها أقوام أشداء أقوياء، عضلاتُهم مفتولة، وشعورهم مَسدولة.

تحدَّثنا إلى رجل منهم فقال لنا:
إنَّ هذه الأرض هي أرض "النزامون" أكبر القبائل الليبية وأقواها.

ثم ابتسم قائلًا:
وأنتم ضيوفنا ونسعَد بخدمتكم.
فتح لنا كل الأبواب، وأكرمَنا وأحسَنَ ضيافتنا.
وفي زاوية من زوايا الخيمة راح "تيتليف" يقلب كتبه بحثًا عن كلمة "ليبية".

اقتربت منه ثم همست في أذنه:
ماذا لو سألنا الرجل؟

التفت إليَّ والعرَق يتصبَّب مِن جَبينه، ثم قال:
لقد مرَّت عليَّ هذه الكلمة في كتابة من الكتابات القديمة، وأريد... آه ها هي، وجدتها.
وأشار بإصبعه إلى كلمة مكتوبة في التوراة "لوبيم".
ثم ارتسمت على وجهه ملامح الانتصار.

قلت له:
ولكني سمعت غير واحد يتكلم عن هذه المنطقة فيقول: "إفريقية".

حكَّ مؤخرة رأسه ثم قال:
أجل أجل، يسمونها كذلك إفريقية، ومعناها كما هو عندنا في اللاتينية بلاد الفاكهة أو بلاد المناخ الحار.
هاه... هل أعجبك صديقي تيتليف؟
على فكرة، يُنادونه في روما "تتيس ليفييس".

الرسالة السادسة:
ودَّعنا "النزامون" فجرًا قاصدين مشرق الشمس، مزوَّدين ببعض الماء والأوراق والأقلام.

تيتليف يكتب للرومان، وأنا أكتُب لك يا صديقي كل تفاصيل الرحلة.

ولا تُبدِ كثيرًا من التعجُّب إذا أخبرتك أننا وصلنا إلى أرض مستوية، استقبلتْنا فيها عربات تجرُّها أربعةُ جيادٍ، وهو ما لم نُشاهده مِن قبل.

تقدَّم مِنَّا الجنود، وعندما تأكَّدوا بأننا لسنا جواسيس، وأننا مجرد رحالة مُغامرين مُستكشفين، رحَّبوا بنا، وقال لنا قائدهم بصوته الجَهْوَرِيِّ الذي ملأ المكان:
إن "الأسبيت" ترحب بكم وتفتح لكم أبوابَها، تَمكثون بيننا قدر ما شئتُم، لا يَنقصكم مأكلٌ أو مشرب أو مبيت.

أهلًا وسهلًا بضُيوفنا الكرام.
ياه... ما أروع أرض "الأسبيت"، وما أكرم سكانها!


الرسالة السابعة:
في اليوم الثالث غادرنا "الأسبيت"، وشيَّعَنا أهلُها الطيبون إلى مشارف "الجليغام"، التي مررنا عليها مرور الكرام.

لم نتوقف إلا عندما وصلنا إلى "الأديرماشيد"، التي ظنناها في بداية الأمر جزءًا من الأراضي الفرعونية؛ ذلك أن الناس هنا يشبهون المصريين في كل شيء ما خلا اللباس.

استضفْنا أهلَها فضيَّفونا، وعندما قررنا مغادرتها ومواصلة رحلتنا صوب دلتا النيل، منَعَنا زعيم "الأديرماشيد"، وقال لنا بالحرف الواحد:
أنا لا أوافق على رحيلكما إلى مصر؛ خوفًا عليكما، وحرصًا على سلامتكما.

نظرنا إلى بعضنا ثم قُلنا بلسان واحد:
خيرًا، ما الأمر سيدي؟

أجلسَنا إلى جانبه وعانَقَنا، ثم قال:
اسمعاني جيدًا، لقد خرجت قبائل "المشوش" قبل أسابيع إلى مصر، ويوجد بينهم صديقي "شيشناق" العنيد، وهو ينوي تأسيس مملكة له هناك على أنقاض الأسرة الحاكمة في مصر، وأنا لا أستبعد نشوب حرب طاحنة هناك هذه الأيام.
لذلك أنصحكما بالبقاء هنا، بعيدًا عن صهيل الخيول، وصلصلة السيوف، وقصف الرماح.

ولما أكمل كلامه التفت إلى رجل كان جالسًا معَنا يلبس لباس الإغريق، ثم قال له:
وستمكث معهما كذلك يا "هيرودوت".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-07-2021, 04:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,570
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رسائل من المغرب القديم

رسائل من المغرب القديم(2)
رياض منصور











الرسالة الثامنة:

هيرودوت يشبه كثيرًا صديقي تيتليف، وكلُّ همِّهما الورق والحبر والتدوين، ثمَّ إنه كان يخبِّئ في كيسه الكبير تسعةَ كتب، يحملها معه حيثما حلَّ أو ارتحل.



فإن لم يكن يَكتب، تجده يمسَح عنها الغبار ويلمِّعها ويهتمُّ بها كما يهتم العاشِق الوسيم بهندامه وحذائه، وكما تهتمُّ الفتاة بلون بشَرتها وملمسها وبتسريحة شعرها، وكما يهتمُّ الجنديُّ ببندقيته، والفارس بسيفه وفرسه، وكما يهتمُّ المواطِن الصالح بوطنه، والأم بأبنائها.



ويعدُّها ويحسُب أوراقَها كما يعدُّ الراعي خِرافَه كلَّ مساء.

واليوم استيقظ باكرًا كعادته، اغتسَل، مشَّط شعرَه، فتح كيسه، فلم يجد كتابَه الرابع.

• • •



الرسالة التاسعة:

من حسن حظِّنا أنَّنا وجدنا الكتابَ الرابع سليمًا كاملًا معافًى لم يمسَسْه سوء، وجدناه عالقًا بين أغصان شجرة الرمَّان التي جاء بها الفينيقيون ذات هجرة.



من مدينة صور كانت انطلاقتُهم، وفي تونس أسَّسوا قرطاجة، استغَلُّوا المرافئ لبِناء السُّفن ومواصلة نشاطهم التجاري، واستغَلُّوا المزارِعَ والمعادِنَ لغذائهم وصناعتهم، وغذوا الصِّراع بين النوميديين، وتحالفوا مع إقليد الغرب ضد إقليد الشرق، وبسطوا نفوذَهم على المدن والأقاليم المجاورة، فها هي جنوب أيبيريا وجنوب أوروبا تتكلَّمان باللغة البونية، وتتاجران بالعملة المالطية القرطاجية.



ولأنَّهم مَرِنون؛ فقد دام حكمُهم أزيد من ثمانية قرون، مزجوا بعل بآمون، فصار لديهم بعل آمون.

ولما وجدوا النوميد محافظين، تأقلموا مع الحياة المتحفظة، فقدَّسوا الرابطةَ الزوجية، وحاربوا مفاسِدَ الأخلاق.

فما بال أقوامٍ عندكم يحاولون تخريبَ عش الحياة الزوجيَّة، وبثَّ مساوئ الأخلاق في مجتمعاتهم؟

• • •



الرسالة العاشرة:

تسألني عن الكتاب الرَّابع، من حقِّك ومن واجبي إخبارُك بمواضيعه، أو ما تيسَّر منها؛ أخبِرُك عن منطقةٍ ترتادها الوحوش المفترِسة، عن عدد من الرِّجال يحملون الأقواسَ والحِراب وعصيَّ الرِّماية وحولهم حيوانات كثيرة للصَّيد، ويزيِّنون شعورَهم بالريش، ولهم ذيول تتدلَّى من قمصانهم.



أخبرك عن "الجيزانت" وعسلهم الوفير.



أخبرك عن أرض جبليَّة للغاية، مليئة بالأحراش والحيوانات الضَّارية، والأفاعي الضخمة، والفيلة، ومخلوقات رؤوسها رؤوس كلاب، وأخرى عيونها في صدرها.



أخبرك عن أقوامٍ تقود نساؤهم عرباتِهم إلى الحرب.



أخبرك عن "الجيتول" و"المور" و"النوميد" و"الجرامونت" و"الماكسيس" و"الزويكس"، وهؤلاء كلُّهم لم أرَهم ولم أرَ أراضيَهم، كما لم يرَها "هيرودوت" نفسه، بل سجَّل ما كان يَسمع عنها فقط.

• • •



الرسالة الحادية عشرة:

علِقَتْ بين أفنان ذاكرتي هذه الكلماتُ، وقد أرسلتُها لك على أمل أن تقرأَها من بعدك عينٌ كنتُ أعرفها؛ يغطيها التشاؤم، ويحجب عنها سوءُ الظنِّ حياةً حلوة هنيئة رغيدة.



عين تعاديك لأتفه الأسباب، وتعلِن عليك الحربَ في كلِّ وقتٍ وحين، ودون سابق إنذار، ولتلك العين ومثيلاتها كتبتُ:



لسنا لكم يا عينها أعداء

فلتشعلي من فضلِك الأضواء



العمر يمضي والحياةُ قصيرةٌ

فلتُطفئي من قلبك البغضاء




• • •



لما كنت بينكم كنت أقول - مثل قولكم - عن كلِّ حدَث مضى وانقضى: إنَّه مخزَّن في الذَّاكرة، ولكنِّي اليوم أعيش قبلكم بآلاف السنين، فهل يحقُّ لي أن أتحدَّث عن شيء اسمه الذكريات؟



أم أنَّ الماضي السَّحيق والمستقبل البعيد متشابهان؟

أم أنَّ العلم واكتشافاته يشبه التاريخ وفرضياته ونظرياته؟

لا بدَّ أن هناك علاقة وطيدة بين الأزمنة.

على كلِّ حال، وصلَتنا اليوم رسالة من "شيشناق" يدعونا من خلالها إلى مأدبة عشاء.

• • •



الرسالة الثانية عشرة:

دخلنا القصرَ، وبدون بروتوكولات، ولا مراسيم رئاسية، ولا بساط أحمرَ، استقبلنا الملك "شيشناق"، أو كما يَحلو لصديقنا هيرودوت أن يسمِّيَه: "سوساكوس"، وبكلِّ عفوية راح يعانقنا ويقبِّلنا، وبين الفينة والأخرى يسألنا عن "بني سنوس" وعن "أوساليست"، وعن الأصحاب والأهل والأقربين هناك.



لم أملأ عينيَّ منه حياءً واحترامًا وتقديرًا، ولكن ملامحه العامة طُبعَت في زاوية من زوايا الذاكرة؛ ملامح ملِك أمازيغي، رَبع القامَة، أسمر الوجه، ذو شعرٍ أسود يغطِّي كتفيه، وعينين سوداوين تعلو إحداهما الأخرى قليلًا.



وكان إذا مَشى وضَع يدَه اليمنى على أسفل ظهرِه، ربَّما كان يشكو من ألَمٍ في عموده الفقري.



وكان القصر فاخرًا واسعًا يضمُّ عدَّةَ تجمُّعات من المباني، وإذا أمعنَّا فيه النَّظر، وجدناه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قِسم لمساكن الخدَم والمعاونين، ثمَّ هناك المقرُّ الخاصُّ بالملك "شيشناق"، أمَّا القِسم الثالث، فقد خصِّص للاجتماعات الرسميَّة، وهو يضمُّ عددًا كبيرًا متشابكًا من الفناءات والممرَّات، والدَّهاليز والأبهاء، وغرَف الاستقبال الكبرى والفخمة.



بداخل القصر تفسَّحنا وتمتَّعنا بجمال الحدائق، وتنوُّعِ الأزهار، وبالروائح العطِرة الزكيَّة المنبعثة من جنبات القصر وغرفه.



كل ذلك والملِك يزيد القصر حُسنًا وبهاء.



وعن المعبد والأثاث الجنائزي فلا تسَل؛ فقد أولاه الملِك عنايةً عظيمة، شأنه في ذلك شأن الملوك القدامى والفراعنة.



قد يقول قائل: وصل شيشناق إلى الحكم عبر حمَّام دماء، وقد يقول آخَر: وصل عن طريق المكانَة الدينيَّة التي ورثها عن أجداده، وقد يقول ثالث: إنَّه استغلَّ ضعف الملك "رمسيس الثاني".



وما يهمُّني من أمرٍ ويهمُّك أنِّي وجدتُه ملِكًا في مصر الفرعونية، ومؤسِّسًا للأسرة الحاكمة الثانية والعشرين، التي حكمَت أزيد من قرنين من الزَّمن.



ويهمُّنا أيضًا التمازج البشري الحاصل بين مصر وبلاد المغرب.

فما بال حدود سياسيَّة ورثتموها عن الاستعمار تحاول التفرقة بين شعوب تصاهرَت وتزاوجَت منذ آلاف السنين؟

• • •



الرسالة الثالثة عشرة:

أظنُّك - يا صديقي - تنتظر رسالةً سياسيَّة أو عسكرية، وعن الحروب التي خاضها شيشناق في فلسطين، أو عن الذَّهب الذي أحضره من بلاد الشام.



ولكني دوَّنتُ لك كلامًا هذا اليوم أغلى من الذَّهب أهداه الملك شيشناق لابنه ذات جلسة أبويَّة مُضمَّخة بالنَّصيحة، تفوح بأريج الحكمة، وقد آثرتُ أن أرسلها إليك كاملةً غير منقوصة في هذه الرسالة:

الوصية الأولى:

يا بُنيَّ، لا تلفَّ كثيرًا حتى لا تتوقف، ولا تتخم نفسك صغيرًا فتتراخى كبيرًا.



الوصية الثانية:

يا بنيَّ، لا توقِد نارًا لا تستطيع إخمادها، ومن حزن مع أهل بلده فرح معهم.



الوصية الثالثة:

يا بنيَّ، لا تجعل لنفسك صوتين، وقُل الأمرَ الواقعَ مهما كان.



الوصية الرابعة:

يا بنيَّ، أعطِ الشغَّال رغيفًا، تأخذ رغيفين من كتفيه وعرَقه.



الوصية الخامسة:

يا بنيَّ، لا تَكره إنسانًا لمجرَّد رؤيته ما دمتَ لا تعرف حقيقة خلُقه، ولا تَكره من يقول لك: إنِّي أخوك، والعزلةُ خيرٌ من أخ شرِّير.



الوصية السادسة:

يا بنيَّ، لا تكُن ساقطَ الهمَّة عند الشدَّة، وافعل الخيرَ وارمه وسط النهر.



الوصية السابعة:

يا بنيَّ، لا تشاوِر عالمًا في أمر تافه، ولا جاهلًا في أمر جلَل، وفشَلٌ كريمٌ خيرٌ من نصف نجاح.



الوصية الثامنة:

يا بنيَّ، من هزَّ حجَرًا وقَع على قدميه، ومَن سرَق جهد غيره لا يُبارَك له فيه، ويسرِق السَّارقُ بالليل ولا بد أن يُكشف بالنَّهار.



الوصية التاسعة:

واعلم يا بنيَّ أنَّ رفيق الحصيف حصيف، ورفيق الغبيِّ غبيٌّ، ورفيق الجاهل جاهل، ولا تقل: إنِّي عالِم، بل تفرَّغ للعلم.

• • •



الرسالة الرابعة عشرة:

دقَّت طبولُ الحرب البونية الأولى، فودَّعَني على إثرها صديقي تتليف، وعلى وقْع طبول الحرب البونية الثانية ودَّعني صديقي الآخَر هيرودوت.



حزنتُ كثيرًا لفراقهما، ولم تخرجني من دائرة الحزن إلا خطابات "يوغرطة" الحماسيَّة، واليوم يا صديقي سمعتُه يقول متحديًا الرومان: "روما للبيع، فمَن يشتريها؟".



ذكَّرني بجدِّه القائد الأمازيغي "مسينيسا" حين قال: "إفريقيا للأفارقة".



وما زلتُ أبحث عن كتاب يوبا الثاني، وعن شِبه الجزيرة بأنامل أمازيغية، ولا تهمُّ الحروف إن كانت بونيقية، أو لاتينية، أو يونانيَّة.



تجولتُ في مدينتَي "القيصرية" و"وليلي" الجميلتين؛ لعلِّي أَحظى بعنوان من العناوين التسعة التي جادَت بها أنامل الحاكم السياسي المثقَّف الشغوف بالعلم والعلماء "يوبا الثاني"، ولكن يبدو أنَّ الحروب قد أكلَت الأخضرَ واليابس، والتهمَت أيضًا كتبًا مهمَّة ألَّفها "يوبا الثاني".



ومهما يكن من أمرٍ، فإنِّي سمعتُ "بلين الأكبر" يقول: "شهرة يوبا الثاني بخدماته العلمية تفوقُ شهرته بملكه".



وهو بعد كلِّ هذا وذاك ملِك أمازيغي، اعتمد المقاربةَ الثقافيَّة حَلًّا لتحقيق التنمية الحقيقية في مملكته.

• • •



الرسالة الخامسة عشرة:

في العلم، في التاريخ، في الأحلام، في العواطف، في الأحاسيس والمشاعر: لا حدود، لا فواصِل، لا مسافات.

وكثيرًا ما يتقاطع عندي العلم والتاريخ.



فكما يعتمد العلمُ على فرضيَّاتٍ ونظريات توصله أحيانًا إلى الحقيقة والاكتشاف والاختراع، كذلك التاريخُ يَعتمد على فرضيات ونظريَّات وشواهد توصله إلى إثبات الوقائع التاريخية أو نفيها.



فكلاهما في حالة بحثٍ مستمرٍّ، لا تعرف التوقف.



وإن هبَّت رياحُ مذهب الشكِّ أو التشكيك، فإنَّها ستعصف بهما معًا، فكم من حقيقة علميَّة كانت بالأمس مسلَّمة، صارت اليوم في مهبِّ الريح، وكم من واقعةٍ تاريخيَّة تناولَتها الأقلامُ والصُّحُف والجرائد، وتناولها النَّاس في المقاهي، والطلبة في مقاعد الدِّراسة، عصفَت بها فرضيَّةٌ جديدة أو تحليلٌ جديد، فانتقلَت من صفحات التاريخ إلى الحِكايات والقصص والأحاجي والأساطير!

• • •



الرسالة السادسة عشرة:

أمَّا هذه الرسالة، فقد أردتُك أن تقرأها على مسامع كلِّ غريب عن الحلم، بعيد عن الطُّموحِ، مثبط للعزائم، قاتِل للهمم:



لا تحاوِل يا غريبًا

وأْدَ أفكارِ الفتى



ودَعِ الأطيارَ تشدو

في ربيعٍ قد أتى



هو بالصيفِ طموح

وهْوَ أحلامُ الشِّتا



لا تحاوِل خنقَ حلمٍ

بِلِماذا أو متى




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 94.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 92.49 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]