تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 11 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216146 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7834 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 62 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859703 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 394045 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #101  
قديم 10-04-2022, 04:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 511 الى صـ 515
الحلقة (101)

[ ص: 511 ] وقال الحاكم: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله! فيقول عليك نفسك....

قال الزمخشري: ومنه رد قول الواعظ.

وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير

ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال، أتبعه بقسيمه المهتدي. ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول، والتخلق بنعوت الثاني فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[207] ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد .

ومن الناس من يشري نفسه أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله: ابتغاء مرضات الله أي: طلب رضاه: والله رءوف بالعباد حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة، مع كفرهم به، وتقصيرهم في أمره.

لطيفة:

قال بعضهم: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرى إلا العمل الصالح، وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، [ ص: 512 ] ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا... وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه...

وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن أبي حاتم ورزين عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش! لقد علمتم أني من أرماكم رجلا. وايم الله! لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم! فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: « ربح البيع، أبا يحيى! ربح، أبا يحيى...! » ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية.

وأخرج الحاكم في " المستدرك " نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولا. وأخرجه أيضا من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس. وفيه التصريح بنزول الآية، وقال: صحيح على شرط مسلم وروي أنها نزلت في صهيب وغيره، كما روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسرين.

ولا تنافي في ذلك، لأن قولهم: نزلت في كذا، تارة يراد به أن حالا ما كان سببا لنزولها، بمعنى أنها ما نزلت إلا لأجله، وهذا يعلم إما من إشعار الآية بذلك، أو من رواية صح سندها صحة لا مطعن فيه. وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها. فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن: نزلت في كذا، والمراد: أنها تصدق عليه لا أن ذلك الشأن كان سببا للنزول... وما روي في هذه الآية من هذا القبيل.

وإلى هذا النوع أشار الزركشي في " البرهان " بقوله: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع....

[ ص: 513 ] وقد قدمنا أن سبب النزول مما يدخله الاجتهاد. وأن لا يعول منه إلا على ما صح سنده. وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف بتفقه فيه.. فاحرص على هذا التحقيق. وقد أسلفنا في المقدمة البحث فيه مستوفى. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[208] يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .

يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام، فيهما قراءتان سبعيتان - أي: في الإسلام. قال امرؤ القيس بن عابس:


فلست مبدلا بالله ربا ولا مستبدلا بالسلم دينا


ومثله قول أخي كندة:


دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا


قال الرازي: أصل هذه الكلمة من الانقياد. قال الله تعالى: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى. وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب. وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه.

ومعنى الآية: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه: كافة حال من الضمير في ادخلوا: ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: طرقه التي يأمركم بها فـ: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ ص: 514 ] و: إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وضم الطاء من خطوات وإسكانها لغتان: حجازية وتميمية. وقد قرئ بهما في السبع إنه لكم عدو مبين ظاهر العداوة أو مظهر لها. أي: بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه السلام وغيره، مما شواهده ظاهرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[209] فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم .

فإن زللتم أي: عن الدخول في السلم: من بعد ما جاءتكم البينات أي: الآيات الظاهرة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق: فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام ممن زل، ولا يفوته من ضل: حكيم لا ينتقم إلا بحق. وقوله: فاعلموا إلخ نهاية في الوعيد ; لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب. وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي. فيكون هذا الكلام - في الزجر - أبلغ من ذكر الضرب وغيره. فظهر تسبب الجزاء في الآية بما أشعر به من الزجر والتهديد على الشرط المشير إلى ذنبهم وجرمهم.

هذا، ومن الوجوه المحتملة في الآية، أن يكون السلم المذكور فيها معناه: الصلح والمسالمة وترك المنازعة والاختلاف. فمعنى: ادخلوا في السلم كونوا متوافقين ومجتمعين في نصرة الدين، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس. فتكون الآية حينئذ كقوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [ ص: 515 ] وقوله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه والله أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #102  
قديم 10-04-2022, 04:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 516 الى صـ 520
الحلقة (102)

القول في تأويل قوله تعالى:

[210] هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور

هل ينظرون أي: ينتظرون، فـ " نظر " ك " انتظر "، يقال: نظرته وانتظرته إذا ارتقبت حضوره. وهذا الاستفهام إنكاري في معنى النفي ; أي: ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة - في الامتثال بما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه - بعد طول الحلم عنهم: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام جمع ظلة - كقلل في جمع قلة - أي: في ظلة داخل ظلة - وهي ما يستر من الشمس، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها: والملائكة عطف على الاسم الجليل، أي: ويأتي جنده الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو. هذا على قراءة الجماعة. وعلى قراءةأبي جعفر [ ص: 516 ] بالخفض. فهو عطف على ظلل أو الغمام: وقضي الأمر أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه. قال الراغب: نبه به على أنه لا يمكن تلافي الفارط... وهو عطف على: يأتيهم داخل في حيز الانتظار. وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه، فكأنه قد كان. أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها وإلى الله ترجع الأمور أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا، فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه تعالى. يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إليهم. أو عنى بـ: الأمور الأرواح والأنفس دون الأجسام، وسماها أمورا من حيث إنها إبداعات مشار إليها بقوله: ألا له الخلق والأمر فهي من الإبداع الذي لا يمكن من البشر تصوره ; فنبه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة. وعلى نحو ذلك قال: كما بدأكم تعودون ويكون رجوعها إما بربح وغبطة، وإما بندامة وحسرة. قاله الإمام الراغب.

قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا، امتحانا، فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده. وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم - كما أمر - ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.

وقد قرئ في السبع ترجع بضم التاء بمعنى ترد، وبفتحها بمعنى تصير، كقوله تعالى: [ ص: 517 ] ألا إلى الله تصير الأمور

قال القفال: والمعنى في القراءتين متقارب، لأنها ترجع إليه تعالى، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة.

تنبيهان:

الأول: لهذه الآية أشباه ونظائر تدل على أن هذا الوعيد أخروي.

ولذا قال ابن كثير في معنى الآية: يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزى كل عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر...! ولهذا قال تعالى: وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور

كما قال تعالى: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى

وقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك الآية.

[ ص: 518 ] الثاني: وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقول في جميع ذلك من جنس واحد.

وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها: إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. والقول في صفاته كالقول في ذاته. والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي..؟ فليقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا أعلم كيفية ذاته! فليقل له: وكذلك لا تعلم كيفية صفاته..! فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. وقد أطلق غير واحد، ممن حكى إجماع السلف، منهم الخطابي: مذهب السلف أن صفاته تعالى تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وبعض الناس يقول: مذهب السلف إن الظاهر غير مراد. ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد. وهذه العبارة خطأ إما لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى ; لأن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك. فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد ; ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ; فهذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى جعله محتاجا إلى تأويل، وحيث حكى عن السلف ما لم يريدوه. وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها. والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، أن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا.

وكذلك لما اتفقوا على أنه حي عالم حقيقة، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون [ ص: 519 ] شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي. وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا.

وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير. وبالجملة، فمن قال: إن الظاهر غير مراد - بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة - قلنا له: أصبت في المعنى ولكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه. ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني: وهو مراد الجهمية ومن تبعهم ; فقد أخطأ. وإنما أتي من أخطأ من قبل أنه يتوهم - في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:

أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.

الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله. فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.

الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب.

الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات - من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات - فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله [ ص: 520 ] بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته.

وحاصل الكلام: أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته.

هذا ملخص ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في رسالتيه " التدمرية " و " المدنية ".

قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ; إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها شبه. وهم، عند من أقر بها، نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة.

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل ": لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها ; والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها.

وقال عبد الله بن المبارك: إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه. واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية. والمخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة، من المتأولين لهذا الباب، في أمر مريج، وسبحان الله! بأي عقل يوزن الكتاب والسنة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #103  
قديم 10-04-2022, 04:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 521 الى صـ 525
الحلقة (103)


ورضي الله عن الإمام مالك حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لجدل هذا؟ وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر. وهو من وجوه:

[ ص: 521 ] أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك.

والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.

الثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان. فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية. فإذا كان هكذا، فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

قال البقاعي: وتجلي الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف. منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: « تلك السكينة تنزلت بالقرآن» !.

وعن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس. فسكت فسكتت. فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس. فانصرف. وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه. فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها. فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: « اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير » . قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي فانصرفت إليه. فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها. [ ص: 522 ] قال: « وتدري ما ذاك؟ » قال: لا. قال: « تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها. لا تتوارى منهم» .

وقال البقاعي أيضا: لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك - على ما نقل إليهم - من وفور الهيئة وتعاظم الجلال، قال تعالى جوابا لمن كان قال: كيف يكون هذا؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[211] سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب

سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة المراد بهذا السؤال: تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر. كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد، يقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟ أي: كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به: كعصا موسى، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق. ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة الله عليهم بها كفرا كما أشعر بذلك قوله تعالى: ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب فالمراد بنعمة الله: آياته، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق، لتعظيم الآيات ; ولا يخفى أنها من أجل أقسام نعم الله تعالى ; لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: استبدالهم [ ص: 523 ] بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها. كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وقوله: من بعد ما جاءته أي: وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها، والتصريح بذلك - مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء - للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفيه تقبيح عظيم بهم، ونعي على شناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا، بعد المعرفة..!.
القول في تأويل قوله تعالى:

[212] زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب .

زين للذين كفروا حتى بدلوا النعمة: الحياة الدنيا لحضورها، فألهتهم عن غائب الآخرة.

قال الحرالي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ; فأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى: كذلك زينا لكل أمة عملهم

[ ص: 524 ] وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين، مسندا إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى، في عدة آيات من التنزيل الكريم.

وللراغب كلام بديع ينحل به مثل هذا الإشكال وهو قوله:

إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى ما هو سببه ومسهله، وعلى هذا يصح أن ينسب فعل واحد تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره، نحو قوله: قل يتوفاكم ملك الموت وفي موضع آخر: الله يتوفى الأنفس فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له، وفي الثاني إلى الآمر به ; وهكذا، يتصور ما ذكر، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوبا إلى الله تعالى، منفيا عن الله تعالى، نحو قوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقوله: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقوله: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

ويسخرون - أي: يهزأون -: من الذين آمنوا وهذا كما قال تعالى: [ ص: 525 ] إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون الآيات: والذين اتقوا وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها، وإيذانا بترتب الحكم عليها: فوقهم يوم القيامة لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما قال تعالى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون

ولذا قال الراغب: يحتمل قوله تعالى: فوقهم يوم القيامة وجهين:

أحدهما: أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.

والثاني أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار. انتهى.

لطائف:

قال السيلكوتي: اعلم أن قوله تعالى: زين للذين كفروا إلخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ; يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ; وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مركوزا في طبيعتهم. وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني: {يسخرون } - لإفادة الاستمرار، وعطف قوله: والذين اتقوا لتسلية المؤمنين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #104  
قديم 10-04-2022, 04:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 526 الى صـ 530
الحلقة (104)


وقوله تعالى: والله يرزق من يشاء بغير حساب يعني: ما يعطي الله هؤلاء [ ص: 526 ] المتقين من الثواب بغير حساب أي: رزقا واسعا رغدا لا فناء له ولا انقطاع، كقوله سبحانه: فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب.

وقد استقصى الراغب: ما تحتمله الآية من وجوهها - وتلك سعة - وعبارته: أعطاه بغير حساب: إذا أعطاه أكثر مما يستحق، أو أقل مما يستحق ; والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه.

الأول: يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد، كقول الشاعر:


عطاياه يحصى قبل إحصائها القطر


الثاني: يعطيه أكثر مما يستحقه.

الثالث: يعطيه ولا منة.

الرابع: يعطيه بلا مضايقة. من قولهم: حاسبه.

الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه - وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.

السادس: أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة وتنبيها أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه، [ ص: 527 ] ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ; ولهذا قال تعالى: أيحسبون أنما نمدهم الآية.

السابع: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب فلا يحاسب، ولهذا روي: من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة. وعلى هذا قال تعالى لسليمان: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب

الثامن: أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه، كما قال: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة الآية.

التاسع: وهو يقارب ذلك: أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: وفيها ما تشتهيه الأنفس الآية، وقوله: {يدخلون الجنة } الآية.

وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير، يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا.
[ ص: 528 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[213] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنـزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

كان الناس أمة واحدة أي: وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد. وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم، أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، كما قال في الآية الأخرى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا أي: انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق، الذي يثمر كل خير لهم وسعادة، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل، ولما كانوا لم يخلقوا سدى من الله عليهم بما يبصرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء وما نزل معهم من الكتاب الفصل، كما أشارت تتمة الآية: فبعث الله النبيين الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره، وأرسلهم إلى خلقه: مبشرين لمن آمن وأطاع: ومنذرين لمن كفر وعصى: وأنـزل معهم الكتاب أي: كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة ; لكونه متلبسا: بالحق من جميع الوجوه: ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة، فسلكوا بهم، بعد جهد، السبيل الأقوم، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب: وما اختلف فيه أي: الكتاب الهادي الذي [ ص: 529 ] لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف: إلا الذين أوتوه أي: علموه فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل: من بعد ما جاءتهم البينات أي: الدلائل الواضحة -: بغيا بينهم أي: حسدا وقع بينهم: فهدى الله الذين آمنوا بالكتاب: لما اختلفوا أي: أهل الضلالة: فيه من الحق أي: للحق الذي اختلفوا فيه. وفي إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، ما لا يخفى من التفخيم: بإذنه أي: بتيسيره ولطفه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم تقرير لما سبق. وفي " صحيح مسلم " عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان - إذا قام من الليل يصلي يقول: « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم...! » .
القول في تأويل قوله تعالى:

[214] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .

أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم أي: من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين، أي: والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة، سنة الله التي لا تتبدل: مستهم استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف كان مثلهم؟ [ ص: 530 ] فقيل: مستهم البأساء والضراء أي: الشدائد والآلام: وزلزلوا أي: أزعجوا، مما دهمهم من الأهوال والإفراغ، إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة التي تكاد تهد الأرض وتدك الجبال: حتى يقول الرسول أي: انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول - وهو أعلم الناس بشؤون الله تعالى، وأوثقهم بنصره، وداعيهم إلى الصبر -: والذين آمنوا معه - وهم الأثبت بعده، العازمون على الصبر، الموقنون بوعد النصر -: متى نصر الله - استبطاء له، واستطالة لمدة الشدة والعناء - فيقال لهم: ألا إن نصر الله قريب كما قال تعالى: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا أي: فاصبروا كما صبروا تظفروا..!. وقد حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا الآيات.

وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: « قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها. فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» ...

[ ص: 531 ] وفي رواية: وهو متوسد بردة، وقد لقينا من المشركين شدة...

ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم! قال: فكيف كانت الحرب بينكم قال: سجالا، يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة!.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #105  
قديم 10-04-2022, 04:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 531 الى صـ 535
الحلقة (105)


وهذه الآية كآية: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
القول في تأويل قوله تعالى:

[215] يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم .

يسألونك ماذا ينفقون أي: أي شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟: قل ما أنفقتم من خير فللوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة: والأقربين بعدهما ليكون صلة وصدقة: واليتامى بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز: والمساكين بعدهم لاحتياجهم: وابن السبيل بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله. فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف؟ فالجواب: أن قوله: ما أنفقتم من خير قد تضمن بيان ما ينفقونه - وهو كل مال عدوه خيرا - وبني الكلام على ما هو أهم، وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:


إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها
لله أو لذوي القرابة أو دع



[ ص: 532 ] فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى: يسألونك عن الأهلة فيما تقدم هذا.

وقال القفال: إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ ما إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى. وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال: أن مصرفه أي شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال. ونظيره قوله تعالى: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا. فقوله: ما هي لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال. فكذا ههنا، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو - وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: ماذا ينفقون ؟ ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب...!.

وأجاب الراغب بجوابين:

أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق؟ وعلى من ننفق؟ ولكن حذف [ ص: 533 ] حكاية السؤال، أحدهما: إيجازا ودل عليه بالجواب بقوله: ما أنفقتم من خير كأنه قيل: المنفق الخير، والمنفق عليهم هؤلاء ; فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.

الجواب الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه. لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه. وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه - طلبه المريض أو لم يطلب. فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال، بين لهم الأمرين جميعا. إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم..؟ قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم، لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع.

ولما بين تعالى وجه المصرف وفصله هذا التفصيل الحسن الكامل، أردفه بالإجمال فقال: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم أي: وكل ما فعلتموه من خير - إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم - حسبة لله، وطلبا لجزيل ثوابه، وهربا من أليم عقابه، فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالما، يعني: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه، كما قال: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[ ص: 534 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[216] كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

كتب أي: فرض: عليكم القتال أي: قتال المتعرضين لقتالكم، كما قال: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم.

قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز، وبه مصرت الأمصار، ومدنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وأيدت الشرائع والقوانين ; وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر ; وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالا، وخط الاستواء جنوبا، وجدران الصين شرقا، وجبال البيرنه غربا..!

قال: فيجب على المسلمين أن لا يتملصوا من قول بعض الأوربيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئا ; فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة. وإنما التملص منه يضر المسلمين ; لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو القوة..!

قال: يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: [ ص: 535 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة لعلهم يتحفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة..!.

وقوله تعالى: وهو كره لكم من الكراهة، فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقول الخنساء:


فإنما هي إقبال وإدبار


كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، أو هو فعل بمعنى مفعول - كالخبز بمعنى المخبوز - أي: وهو مكروه لكم، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال - لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف - فلا ينافي الإيمان ; لأن كراهة الطبع جبلية، لا تنافي الرضاء بما كلف به، كالمريض الشارب للدواء البشع.

وفي القاموس وشرحه: الكره بالفتح ويضم: لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #106  
قديم 10-04-2022, 04:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 536 الى صـ 540
الحلقة (106)



[ ص: 536 ] قال ثعلب: قرأ نافع، وأهل المدينة في سورة البقرة: وهو كره لكم بالضم في هذا الحرف خاصة، وسائر القرآن بالفتح. وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف: حملته أمه كرها ووضعته كرها ويقرأ سائرهن بالفتح. وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ثم قرأو ا كل شيء سواها بالفتح. قال الأزهري: ونختار ما عليه أهل الحجاز: أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة، فإن القراء أجمعوا عليه!. قال ثعلب: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقا في العربية، ولا في سنة تتبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر.

قال الأزهري: وقد أجمع كثير من أهل اللغة: أن الكره والكره لغتان، فبأي لغة وقع فجائز، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. تقول: جئتك كرها، وأدخلتني كرها، وقال ابن سيده: الكره: الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها، وبالضم: المشقة تحتملها من غير أن تكلفها. يقال: فعل ذلك كرها وعلى كره. قال ابن بري: [ ص: 537 ] ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ولم يقرأ أحد بضم الكاف. وقال سبحانه: كتب عليكم القتال وهو كره لكم ولم يقرأ أحد بفتح الكاف. فيصير الكره بالفتح، فعل المضطر، والكره بالضم: فعل المختار.

وعسى أن تكرهوا شيئا - كالجهاد في سبيل الله تعالى -: وهو خير لكم إذ فيه إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة: وعسى أن تحبوا شيئا - كالقعود عن الغزو -: وهو شر لكم لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر: والله يعلم ما هو خير لكم: وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير.

قال الحرالي: فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي: التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. قال: من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون - أي: الراسخون - فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم.

حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، [ ص: 538 ] ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه..! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أشيروا علي أيها الناس » ! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه: والله! لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: « أجل » . قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[217] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

[ ص: 539 ] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قال الراغب: السائل عن ذلك، قيل: أهل الشرك قصدا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام. وقيل: هم أهل الإسلام.

وقد أخرج الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " سننه "، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا، وبعث عليهم عبد الله بن جحش، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله الآية.

وأخرجه ابن منده من الصحابة عن ابن عباس.

وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وابن هشام في " السيرة " في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه. فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - بين مكة والطائف - فترصد بها عيرا لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعا وطاعة! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن [ ص: 540 ] أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فناهض! فنهضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا في طلبه. فبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على مقاتلتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس - وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام - فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام الآية.

وقوله تعالى: قتال فيه بدل من الشهر، بدل الاشتمال، لأن القتال يقع في الشهر.

وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، يريد أن التقدير: عن قتال فيه وهو معنى قول الفراء: مخفوض بـ " عن " مضمرة. وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار...! وقال أبو عبيدة هو مجرور على الجوار. وهو أبعد من قولهما، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ، ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة. وفيه: يجوز أن يكون نعتا لقتال، ويجوز أن يكون متعلقا به كما يتعلق بقاتل.

وقد قرئ بالرفع في الشاذ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام، تقديره: أجائز قتال فيه؟.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #107  
قديم 10-04-2022, 04:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 541 الى صـ 545
الحلقة (107)


قل في جوابهم: قتال فيه كبير أي: أمر كبير مستنكر، وقد كانت العرب لا تسفك دما ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وسنذكر في تنبيه يأتي التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكما أو منسوخا.

قال الراغب: إن قيل: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرفا، نحو: سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكرا تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، فقد قال: « أحلت لي ساعة من نهار ولم تكن تحل لأحد قبلي» .

وصد عن سبيل الله أي: عن دينه الموصل إلى رضوانه، أو عن البيت الحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى الحج: سبيل الله.

قال الحرالي: والصد: صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل: طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه. وصد مبتدأ.

[ ص: 542 ] وكفر به أي: بالسبيل - أعني الدين - أو بالله، عطف عليه والمسجد الحرام عطف على: سبيل الله أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في: ( به ) أي: كفر به وبالمسجد الحرام وإخراج أهله أي: أهل المسجد الحرام - وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه - وهو عطف على: صد أيضا: منه من المسجد الحرام ; وخبر الأسماء الثلاثة: أكبر عند الله جرما مما فعلته السرية: من قتلهم إياهم في الشهر الحرام ; لأن الإخراج فتنة: والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام، أي: فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه، وحرمة المسجد كحرمة الشهر..! هذا، وقيل: خبر: صد و: كفر محذوف لدلالة ما تقدم عليه.

وأشار الرازي إلى إعراب آخر وهو: إن: صد و: كفر معطوفان على: كبير أي: قتال فيه، موصوف بهذه الصفات. وعليه فأكبر خبر إخراج فقط.

وقد جنح لهذا المهايمي حيث قال في " تفسيره ":

قل قتال فيه كبير من المعاصي الكبائر، كيف وهو: وصد عن سبيل الله أي: عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده، ولو استبيح هذا القتل فهو: وكفر به وصد عن: المسجد الحرام إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر، ولكن: {إخراج أهله } أي: إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم: النبي والمؤمنون: منه أكبر عند الله إلى آخره، وهذا الوجه من الإعراب بديع، والأكثرون على الأول.

قال ابن القيم في " زاد المعاد " في تأويل هذه الآية: يقول الله سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم - وإن كان كبيرا - فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصد عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين - الذين هم أهله - منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت [ ص: 543 ] منكم به ; أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام. ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات، ويقال هي لعبد الله بن جحش:


تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد
وكفر به، والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما، وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند



قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": وأكثر السلف فسروا الفتنة هنا بالشرك، كقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويدل عليه قوله: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أي: لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه. وحقيقتها: أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه، ويقاتل عليه، ويعاقب من لم يفتتن به. ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها: ذوقوا فتنتكم

قال ابن عباس: تكذيبكم. وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها، كقوله: ذوقوا ما كنتم تكسبون وكما فتنوا عباده عن الشرك، فتنوا على النار وقيل لهم: [ ص: 544 ] ذوقوا فتنتكم ومنه قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فسرت الفتنة - هنا - بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار، واللفظ أعم من ذلك. وحقيقته، عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم. فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين. وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض وقول موسى: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب. فهذه لون، وفتنة المشركين لون. وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر. والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا - لون آخر - وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم: « ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير [ ص: 545 ] من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي.... » . وأحاديث الفتنة - التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين - هي هذه الفتنة. وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية، كقوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر، فإني لا أصبر [ ص: 546 ] عنهن..!





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #108  
قديم 10-04-2022, 04:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 546 الى صـ 550
الحلقة (108)



قال تعالى: ألا في الفتنة سقطوا أي: وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر.

والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام، بل أخبر الله أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم، والعيب والعقوبة، لا سيما أولياؤه. كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم. في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:


وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع


فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟!.

تنبيه:

اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية: حرمة القتال في الشهر الحرام. ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ؟!.

قال ابن القيم في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده: لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية. ما نصه: منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة. فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك. قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور، وكذلك قال الواقدي: خرج في أول سنة سبع من الهجرة. ولكن في الاستدلال بذلك نظر. فإن خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر. وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا. وكانت في ذي القعدة. ولكن لا دليل في ذلك ; لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة. ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعا، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء. فالجمهور جوزوه وقالوا: تحريم القتال فيه منسوخ، وهو مذهب الأئمة [ ص: 547 ] الأربعة رحمهم الله. وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ; وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء..! وأقوى من هذين الاستدلالين، الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف. فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، فبعضها كان في ذي القعدة. فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما، ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها. ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة. وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك. وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك. وهذا عجيب منه. فمن أين له هذا التصحيح والجزم به..؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال: فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا، وذكر الحديث. فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب. ومع هذا، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن. وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال. ولما انهزموا دخل ملكهم - وهو مالك بن عوف النضري - مع ثقيف في حصن الطائف. فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها، والله أعلم.

وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ: [ ص: 548 ] يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد وقال في سورة البقرة: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله فهاتان آيتان مدنيتان. بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها. ولا اجتمعت الأمة على نسخه. ومن استدل على النسخ بقوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة ونحوها من العمومات، فقد استدل على النسخ بما لا يدل. ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام.

ولا يزالون - يعني أهل مكة -: يقاتلونكم - أيها المؤمنون -: حتى يردوكم عن دينكم أي: يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر: إن استطاعوا أي: قدروا على ردتكم. وفيه استبعاد لاستطاعتهم. فهو كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي [ ص: 549 ] فلا تبق علي. وهو واثق أنه لا يظفر به. وجملة: ولا يزالون إما معطوفة على: يسألونك أو معترضة. والمقصود: تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين.

وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولا بد وإن طال المدى ; لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم. ومن وكل إلى نفسه ضاع. فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام. فينبغي الاستعداد له بعدته، والتأهب له بأهبته، فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعنا في الدين، وصدا عن السبيل. أشار لذلك البقاعي. ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله: ومن يرتدد منكم عن دينه وهو الإسلام. وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فهو متكلف في ذلك: فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم أي: بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم، وردت: في الدنيا - إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم -: والآخرة - إذ يسقط ثوابهم، فلا يجزون ثمة بحسناتهم: {و } لا يقتصر عليه بل: أولئك أصحاب النار أي: أهل النار: هم فيها خالدون مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[218] إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم .

إن الذين آمنوا بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه: والذين هاجروا تركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام: وجاهدوا في سبيل الله ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم: أولئك وإن باشروا القتال [ ص: 550 ] في الشهر الحرام: يرجون رحمت الله أي: جنته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم. وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه، لا لأن في فوزهم اشتباها: والله غفور لهتكهم حرمة الشهر: رحيم بما تجاوز عن قتالهم، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[219] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .

يسألونك عن الخمر والميسر هذه الآية أول آية نزلت في الخمر، على ما قاله ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #109  
قديم 10-04-2022, 04:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 551 الى صـ 555
الحلقة (109)



وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال - لما نزل تحريم الخمر -: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يسألونك عن الخمر والميسر الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت [ ص: 551 ] الآية التي في النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة - نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا انتهينا.

وحقيقة الخمر: ما أسكر من كل شيء، وروى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة » .

وأما الميسر: فهو القمار - بكسر القاف - مصدر من يسر - كالموعد والمرجع من فعلهما. يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره.

وصفته: أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي:

الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف - والنافس، والمسبل - كمحسن - والمعلى - كمعظم، والمنيح - كأمير، والسفيح - بوزن ما قبله، والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء كما قاله أبو عمر أو ثمانية وعشرين جزءا كما قال الأصمعي وهو الأكثر، إلا ثلاثة منها وهي المنيح والسفيح والوغد فلا أنصباء لها. وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة. ولبعضهم:


لي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح

وأساميهن: وغد
وسفيح ومنيح



[ ص: 552 ] فللفذ سهم - أي: فرض واحد - وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج. باسم رجل رجل، قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه: البرم بفتحتين كذا في " الكشاف " بزيادة.

وفي " القاموس وشرحه ": الميسر: اللعب بالقداح، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسما، أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل. وإنما سمي الجزور ميسرا، لأنه يجزأ أجزاء. وكل شيء جزأته فقد يسرته ; ويسرت الناقة جزأت لحمها، ويسر القوم الجزور أي: اجتزروها واقتسموا أجزاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي:


أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم


كان وقع عليه سباء فضرب عليهم بالسهام. وقوله ييسرونني هو من الميسر، أي: يجزونني ويقتسمونني. وقاللبيد:


واعفف عن الجارات وامنحهن ميسرك السمينا


فجعل الجزور نفسه ميسرا. ونقل الصاغاني، أن الميسر: النرد. وقال مجاهد: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر. حتى لعب الصبيان بالجوز.

قل فيهما إثم كبير أي: عظيم - وقرئ بالمثلثة - وذلك لما فيها من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع. من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير: ومنافع للناس [ ص: 553 ] دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر. وإصابة المال بلا كد في الميسر. وفي تقديم بيان إثمه، ووصفه بالكبر، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس، من الدلائل على غلبة الأول - ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما أي: المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه. أي: لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين. وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى. ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة ; ولهذا، قال عمر لما قرأت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون

تنبيه:

ألف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرات المسكرات.

ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات، وعيافها، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح، وما ينشأ عنها من الخسران المالي، ومما قرره خمسون طبيبا منهم هذه الجمل:

1 - إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده.

2 - إنها لا تفيد شيئا في قضاء الأعمال.

3 - إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد.

4 - إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات، وتجر إلى الفقر والشقاء.

5 - هي من المسكنات كالبنج والإيثر.

[ ص: 554 ] 6 - إنها تعد للأمراض المعدية.

7 - إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل.

8 - إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع.

9 - إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة.

10 - إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر.

11 - إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد.

12 - إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية.

13 - إنها كثيرا ما تسبب التهاب الأعصاب، والآلام المبرحة.

14 - إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم.

15 - إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم.

16 - إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري.

ويسألونك ماذا ينفقون أي: يتصدقون به من أموالهم: قل العفو وهو ما يفضل عن النفقة، أي: الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» .

وأخرج مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل [ ص: 555 ] شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» .

وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار، قال: « أنفقه على نفسك » . قال عندي آخر، قال: « أنفقه على ولدك» . قال: عندي آخر، قال: « أنفقه على أهلك» . قال: عندي آخر، قال: « أنفقه على خادمك» . قال: عندي آخر، قال: « أنت أعلم» .

كذلك - أي: كما بين لكم ما ذكر -: يبين الله لكم الآيات أي: الأمر والنهي وهوان الدنيا: لعلكم تتفكرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[220] في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم .

في الدنيا أنها فانية - والآخرة - أنها باقية، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #110  
قديم 10-04-2022, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 556 الى صـ 560
الحلقة (110)


[ ص: 556 ] ويسألونك عن اليتامى أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم، عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقوله تعالى: قل إصلاح لهم خير أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم. وإنما أقيم غاية المداخلة - أعني الإصلاح - مقامها، تنبيها على أن المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهرا، كأنها عين الإصلاح: وإن تخالطوهم تعاشروهم ولم تجانبوهم: فإخوانكم فهم إخوانكم في الدين - الذي هو أقوى من العلاقة النسبية. ومن حقوق الأخوة: المخالطة بالإصلاح والنفع.

قال الأصبهاني: وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعا، كان في غيرهم أوسع. وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار. يخرجون النفقات بالسوية، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته.

[ ص: 557 ] والله يعلم المفسد لأموالهم: من المصلح لها، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح: ولو شاء الله لأعنتكم لحملكم على العنت - وهو المشقة - وأحرجكم، فلم يطلق لكم مداخلتهم، ولا يمنعه من ذلك شيء إن الله عزيز أي: غالب على ما أراد: حكيم أي: فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة.

هذا، وقد حمل القاضي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الولي واليتيم. قال رحمه الله: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة. ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة. ويدخل أيضا معنى قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ومعنى قوله: خير يتناول حال المتكفل. أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم. ويتناول حال اليتيم أيضا. أي: هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله. فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.

وقد روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وروى نحوه مسلم أيضا في صحيحه.
[ ص: 558 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[221] ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون .

ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن أي: لا تتزوجوا الوثنيات حتى يؤمن بالله تعالى.

قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مرادا، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين

وقد بسط العلامة الرازي ههنا الكلام على أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب؟ فانظره.

والتحقيق: أن المشرك لا يتناول الكتابي، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما. وعطف أحدهما على الآخر في مثل: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وسر ذلك أن المشرك هو من يتدين بالشرك. أي: يكون أصل دينه الإشراك، والكتابي - وإن طرأ في دينه الشرك - فلم يكن من أصله وجوهره.

وقوله تعالى: ولأمة مؤمنة خير من مشركة تعليل للنهي عن مواصلتهن، وترغيب في مواصلة المؤمنات ; أي: ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر ; خير من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن. فإن نقصان الرقية فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجل كمالات الإنسان: ولو أعجبتكم أي: المشركة بحسنها ونسبها [ ص: 559 ] وغيرهما. فإن نقصان الكفر لا يجبر بها: ولا تنكحوا المشركين بضم التاء - من الإنكاح، وهو التزويج أي: لا تزوجوا الكفار - بأي كفر كان - من المسلمات: حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم فيه من الكفر: ولعبد مؤمن مع ما به من ذل الرقية: خير من مشرك ولو أعجبكم بداعي الرغبة فيه الدنيوية، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها. وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما، إعلاما بأن خيريتهما أمر مقطوع به وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدونه دنيا فشرفه الإيمان، ومن يعدونه شريفا فحقره الكفران. ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدل على أنه - وإن كان دنيا - موضع التفضيل لعلو وصفه. وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصرا عليه، لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه - أفاده البقاعي.

ثم أشار إلى وجه الحظر بقوله تعالى: أولئك أي: المذكورون من المشركات والمشركين: يدعون من يقارنهم ويعاشرهم: إلى النار أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق ; فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا..!: والله يدعو أي بما يأمر به على ألسنة رسله: إلى الجنة والمغفرة أي: العمل المؤدي إليهما. وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها، لرعاية مقابلة النار ابتداء: بإذنه بأمره: ويبين آياته أمره ونهيه في التزويج: للناس لعلهم يتذكرون لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام، ويوالوا أولياء الله - وهم المؤمنون - بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران.

هذا وقد قيل: معنى: والله يدعو وأولياء الله يدعون، وهم المؤمنون، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ; تشريفا لهم، وتفخيما لشأنهم، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة، وملحظه رعاية المقابلة، كأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار، وأولياء الله [ ص: 560 ] يدعون إلى الجنة والمغفرة. إلا أن فيه فوات رعاية تناسب الضمائر، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى: ويبين لله تعالى، فيلزم التفكيك.

تنبيه:

قال الراغب: حقيقة التذكر، الاستذكار عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب. قال: إن قيل: إلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟ قيل: إن الله عز وجل ركب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه. والإنسان - باستفادة العلم - يتذكر ما ذكر فيه، فهذا معنى التذكر. ثم قال: وقد قيل: الرجاء من الله واجب، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا. قال: وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى. فلذلك صعب إدراكها لنا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 214.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 208.52 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.75%)]