خاتم النبيين - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          هدايا العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          ما هي كلمات الله التي لا تتبدل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الثقة والشك بين الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          كيف التعامل مع زوج لا يتحمل مسؤوليته المالية ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 601 )           »          كيف نودع رمضان؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          من جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          المداومة على العمل الصالح لماذا وكيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أركان الإسلام والإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-04-2022, 05:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي خاتم النبيين

خاتم النبيين
الشيخ خالد بن علي الجريش


بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
الحلقة الأولى:
حينما يكون الطرحُ عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لا شك أنه كلامٌ جميلٌ كريمٌ عن أعظم رجل في تاريخ الإنسانية، بل أفضل رُسل الله وأنبيائه، بل إن الرسل يوم القيامة حال الشفاعة كل منهم يقول: نفسي، نفسي، وأما هو عليه الصلاة والسلام، فيقول أنا لها، فالحديث عن سيرته عليه الصلاة والسلام له حلاوة تجذبها القلوب السليمة، وأيضًا كذلك له طلاوة ترغبها العقول الزاكية، كيف لا وهو سيدُ ولد آدم، فما أشرقت الشمسُ على أفضل منه، عليه الصلاة والسلام، فدراسة سيرته عليه الصلاة والسلام هي هدى يهتدي به المسلم في حياته كلها في عباداته وفي عاداته، بل في جميع أحواله، فالاقتداءُ به عليه الصلاة والسلام هو الصراط المستقيم، هو الموصلُ إلى والسعادة في الدنيا والآخرة، فما من شاذةٍ ولا فاذةٍ إلا ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام للأمة تصريحًا وتلميحًا، وبيَّنها وأوضحها، ونحن نشهد أنه بلَّغ الرسالة ونصَح الأمة، وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام.

وقد كان ميلاده عليه الصلاة والسلام باتفاق أهل العلم أنه يوم الاثنين كما اتفقوا أيضًا أنه في عام الفيل، وكذلك اتفقوا أنه وُلد في مكة، لكن أهل العلم اختلفوا في تاريخ اليوم والشهر، فأما الشهر، فرأى جمهور أهل العلم أنه في ربيع الأول، وأما اليوم فقد ذكر ابن كثير أقوالًا عدة لكن رأي الجمهور أنه في الثاني عشر من ربيع الأول، فاليوم الذي ولد فيه ليس فيه إجماع بين أهل العلم، ولا يصح تمييزه بشيءٍ؛ حيث إن سلف الأمة لم يفعلوا ذلك، وكان ميلاده يوافق عام خمسمائة وواحد وسبعين للميلاد، وأما نسبه الشريف، فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه بن خزيمة بن مدركه بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان؛ قال الذهبي رحمه الله: وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم بالإجماع، وما بعد ذلك فمحل خلاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)؛ رواه البخاري، ولذلك قال هرقل لأبي سفيان: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو ذو نسب، فقال: هرقل وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها؛ رواه مسلم، وقد اجتمع له صلى الله عليه وسلم علو النسب من جهة أبويه كليهما، وأما كنيته فأبو القاسم وفي البخاري يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا قاسم أضع حيث أمرت)؛ رواه البخاري، وقد نهى عن التكني بكنيته، وأباح التسمي باسمه؛ حيث يقول عليه الصلاة والسلام، (سَمُّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي)؛ رواه البخاري ومسلم.

وبعد ولادته عليه الصلاة والسلام حضنته أم أيمن بركة الحبشية أَمَةُ أبيه، وأول من أرضعته ثويبةُ أَمَة عمه أبي لهب وهي إحدى مرضعاته، وقد كان من مرضعاته حليمه السَّعدية، وقد كان لها خبر عجيب، فعن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه، قال: لَما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء في مكة، قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي وهي أنثى الحمار، ومعي ناقة ليس فيها لبن، وذلك في سنة قحط قد جاع الناس جوعًا شديدًا ومعي ابن لي لا ينام من الجوع، فلما قدمنا مكة، فما بقيت امرأة منا إلا وعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لترضعه فكرِهته؛ حيث قلن جميعًا: إنه يتيم وما عسى أن نحصل عليه من وراء هذا اليتيم، فما من امرأة إلا وأخذت رضيعًا ترضعه، وأما أنا فلم أجد غير هذا اليتيم، فقلت: لا أرجع إلى قومي بلا رضيع، وعسى الله أن ينفعنا به، فأخذته فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل، فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت ابني الآخر الذي لم يجد لبنًا في أول الأمر، ونظرت إلى ناقتنا المسنة التي ليس فيها لبن، فإذا هي كثيرة اللبن فحلبناها وشربنا وروينا، فقال زوجي: يا حليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، قالت: فبتنا بخير ليلة شباعًا، وكنا لا ننام من الجوع، ثم رجعنا إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت حماري وحملته معي، فوالذي نفسي بيده أننا سبقناهم حتى النسوة ليقلنَ لا تسرعي علينا هل هذه هي أتانك التي خرجت عليها، فقلت نعم، فقالوا إنها كانت ضعيفة فما شأنها؟ فقلت لهن إنها والله حملت غلامًا مباركًا، قالت فخرجنا فما زال يزيدنا الله تعالى كل يوم خيرًا حتى قدمنا بلادنا بني سعد وهي قحط، وكان الرعاة يريحون بأغنامهم جياعًا وتروح غنمي بطانًا، فيقولون ما بال غنمنا جياعًا وغنم حليمةَ بطانًا، اسرحوا حيث تسرح غنم حليمة، قالت وكان عليه الصلاة والسلام يشب شبابًا لا يشبه أحدًا من الغلمان، فلما تم له سنتان قدمنا به مكة فقلنا لأمه والله ما رأينا صبيًّا قط أعظم بركة منه، وإنا نخشى عليه من وباء مكة، فأذني لنا بإرجاعه إلى بلادنا فأذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهرًا، وبعد تلك الأشهر المعدودة حصلت حادثة شق الصدر فبينما هو يلعب هو وأخوه مع الصبيان خلف البيوت؛ إذ جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضجعاه فشقا بطنه، فجاءنا أخوه بالخبر فخرجنا إليه أنا وزوجي فوجدناه قائمًا قد تغير لونه فلما رآنا بكى فسألناه فذكر الحادثة المذكورة فلما حصل ذلك الحدث ذهبنا به إلى أمه مستنكرين ما حصل فاستنكرت أمه قدومنا به في العجلة فقالت إن لكما لشأنًا فأخبراني فلم تزل بنا حتى أخبرناها الخبر فقالت سأخبركما خبره إنني إذ حملت به خرج مني نور أضاء له أعناق الإبل ببصرى.عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أتَاه جبريل - عليه السلام - وهو يَلْعَب مع الغِلمان، فأخَذَه فصَرَعه، فشقَّ عن قلبه، فاستَخْرَج القلب، فاستخرج منه عَلَقة، فقال: هذا حَظُّ الشيطان منك، ثم غَسَله في طَسْت مِن ذَهَب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغِلْمان يَسْعَون إلى أُمِّه - يعني ظِئْرِه - فقالوا: إن محمدًا قد قُتِل، فاستَقْبَلُوه وهو مُنْتَقِعُ اللَّوْن، قال أنس: «وقد كنتُ أَرَى أثر ذلك المِخيط في صدره؛ رواه مسلم.

مستمعي الأكارم سنأخذ بعض الدروس المستفادة مما سبق فالسيرة كلها دروس وعبر.

1- الدرس الأول: أهمية دراسة السيرة والقراءةِ فيها ومناقشتها مع الأقران والجلساء؛ لأنها نبراس كبير يتمثله المسلم؛ إذ إنها سيرة أفضل البشر وخير الخلق وأحبهم إلى الله تعالى عليه الصلاة والسلام، فيمتثل القارئ والمستمع لتلك السيرة الأخلاق والعبادات والعادات الطيبة، فيكون محبوبًا عند الله تعالى وعند خلقة، فكم هو جميل لك أخي المستمع الكريم أن تجعل لك قراءة في تلك السيرة، وأقترح عليك كتابًا شيقًا في هذا المجال وهو كتاب الرحيق المختوم، فهو كتاب جميل في أسلوبه وطرحه، وقد حاز هذا الكتاب على المركز الأول في مسابقة السيرة العالمية لمؤلفه صفي الرحمن المباركفوري، وكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على قراءة هذا الكتاب مستخلصة منه الدروس والعبر، وأن تضع عليه المسابقات الدورية وتبني عليه القيم الإيجابية.

2- الدرس الثاني: اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا يتميز بشيء من العبادات، ولو كان ذلك مشروعًا لفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو أيضًا غير معلوم بالتحديد، فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في تاريخ هذا اليوم بالتحديد على أقوال عدة.

3- الدرس الثالث: كان نسب النبي صلى الله عليه وسلم أرفع الأنساب، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام مضربَ المثل في التواضع، فرفعة النسب لا تجلب التفاخر على الآخرين أو التكبر عليهم، بل إن الميزان الحقيقي هو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، فالميزان التقوى وليس النسب إذ إن هذا الميزان وهو التقوى سيبقى يوم القيامة، أما النسيب فإنه سيزول يقول تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، فنظرة الاستعلاء على الآخرين في الأنساب هي جاهلية محضة وكِبر لا مبرر له، فما أجمل التواضع مع علو النسب أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

4- الدرس الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)، كان المنع من التكني بكنيته حال حياته عليه الصلاة والسلام، كما ذكره أهل العلم، أما بعد وفاته فلا بأس بذلك؛ لأنه أذِن لعلي إن ولد له ولد بعد وفاته أن يسميه باسمه ويكنيه بكنيته؛ كما في رواية الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وقال آخرون من أهل العلم إن المنع سائر حتى بعد حياته؛ كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال آخرون أيضًا إن النهي في الجمع بين الاسم والكنية جميعًا، وأما إفراد أحدهما فلا بأس، ولعل الأرجح أنه جائز بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

5- الدرس الخامس: ما ذكرته حليمة السعدية في إرضاعها له هو خوارق للعادة فهي كلها دليل على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، وتمهيد لها ومقدمات للبركة الحاصلة فيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانوا في جوع شديد وقحط، فلما أخذت النبي صلى الله عليه وسلم لإرضاعه ذهب عنهم ذلك الجوع وامتلأت الناقة من اللبن إلى آخر ما في قصتها من الخوارق العجيبة، وبهذا يزيد إيمان العبد عندما يقرأ تلك الخوارق العظيمة ويزداد ثباته على دينه.

6- الدرس السادس: في قصة حليمة السعدية أيضًا أنها لم تجد أحدًا ترضعه إلا ذلك اليتيم وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاءت هي وصويحَباتها إلى مكة يردنَ إرضاع المواليد، فكل واحدة أخذت رضيعًا إلا هي لم تأخذ رضيعًا، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم على غير رغبة؛ لأنه يتيم وماذا يستفاد وراء ذلك اليتيم، فأخذته وهي كارهة، بل أخذته حتى لا ترجع وهي ليس معها رضيع، والله تعالى يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فقد يكره الإنسان الشيء وفيه خير كثير له، فالحكمة البالغة لله تعالى وهو الذي يقدِّر الأمور ويقضيها وهو أعلم وأحكم، وليس هناك شر محض بحمد الله، فالمرض مثلًا هو مكروه للنفس وفيه خير وهو التكفير للذنوب، فعندما يحصل لك أخي المستمع الكريم أمر تكرهه فتفاءل خيرًا وانظر إلى المعنى الإيجابي فيه، وإياك والتسخط والجزع، بل عليك بالصبر والرضا والتفاؤل.

7- الدرس السابع: ما ذكرته آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت: عندما وضعتُه أضاءت له قصور بصري، فهذا أمر خارق للعادة، وهو من الأدلة على أنه سيكون لهذا المولود شأن كبير، وفعلًا كان له شأن كبير، فهو رسول رب العالمين وأفضل الخلق أجمعين، وهذا مما يجعل الإيمان به عليه الصلاة والسلام يثبت في القلوب ثبوت الجبال الراسيات.

8- الدرس الثامن: في حادثة شق الصدر المشهورة آية عظيمة، وأمر خارق للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو تهيئة لما سيكون عليه صلى الله عليه وسلم من النبوة والرسالة وعدم تسلُّط الشيطان عليه، وهو أيضًا تدعيم لأمته في تقوية إيمانهم به عليه الصلاة والسلام؛ حيث تم تنقية قلبه من مغمز الشيطان وتطهيره من كل خلق ذميم، وحتى لا يكون في قلبه إلا التوحيد الخالص؛ كما قاله السهيلي رحمه الله، فهذا الشق هو أمر حسي وقدرة إلهية عظيمة، وقد وردت في الصحيح، وهذا كما يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: مما يجب التسليم به دون التعرض لصرفه عن حقيقته، فلا يستحيل شيء على الله عز وجل.

هذا التطهير لقلبه عليه الصلاة والسلام هو إعداد للعصمة من الشر والشرك، وقد دلت أحداث صباه عليه الصلاة والسلام على ذلك، فلم يرتكب إثمًا ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك عند قريش، وكانت الحادثة بهذا الشكل الحسي؛ ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم.

9- الدرس التاسع: الخير كله فيما اختاره الله لعبده، فإن حليمة لم تأخذ محمدًا عليه الصلاة والسلام رغبة فيه، فإنه يتيم وقد لا تربح من اليتيم شيئًا، لكن الله صرف النسوة كلهنَّ عنه، وجعله من نصيب حليمة، ولم تفرح حليمة بهذا في مبدأ الأمر، بل كرهته ولكن الله يختار لعبده ما هو خير له، حتى اتضحت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه، وكان من الخير الذي لحق حليمة الشيء الكثير، فقد درَّ ثدياها أكثر من ذي قبل، وأرضعت طفلها الذي لم ينم من الجوع فشبع وسكن ونام، فبنومه ارتاحت هي وزوجها وظهرت أيضًا البركة على ناقتهم؛ حيث كانت لا تدر اللبن، وبعد ذلك كانت تفيض اللبن الكثير الذي لم يعهد فيها، وظهرت البركة أيضًا على أغنامهم، وكانت هذا الأغنام أول الأمر عجفاوات هزيلات، ثم كانت بعد ذلك على أحسن مرأى ومن البركة أيضًا أن تشرَّف بيت حليمة بإرضاعه عليه الصلاة والسلام، وهو يذكر بهذا الشرف إلى قيام الساعة بخلاف النساء المرضعات الأخريات، وهذا درس عظيم لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى ما قدره الله واختاره له، فيرضى ولا يندم، ويسلِّم الأمر لله ويحمده عليه.

10- الدرس العاشر: على المسلم أن يؤمن بقدرة الله تعالى القاهرة والعامة بأنه عز وجل على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يشاء، فالخلق خلقه والأمرُ أمره، وهو علام الغيوب يعلم ما ستؤول إليه الأمور، وهو الحكيم العليم فهو يقدِّر الأشياء بعلم وحكمه، ولا يعجزه شيء، وأمر الله تعالى نافذ إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، فهذه التدابير والمقادير في السيرة كلها حصلت بتقدير الله تعالى وعلمه وحكمته، فتأمل كيف صرف النسوة عن محمد عليه الصلاة والسلام، وجعله من نصيب حليمه، وتأمل كيف جاء جبريل وأمسك بمحمد عليه الصلاة والسلام أمام الصبية وشق صدره شقًّا حسيًّا، وغسل قلبه بماء زمزم .... إلخ، كل ذلك بقدرة القدير العظيم، فالإيمان بذلك واجب من واجبات الدين؛ لأن المسلم إذا آمن بهذه القدرة الإلهية، فإنه يعطيه اطمئنانًا وسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنه آمن بهذا الرب العظيم، فالله عز وجل على كل شيء قدير، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-04-2022, 05:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (2)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الثانية من برنامج (خاتم النبيين)


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
وأُصيب النبي صلى الله عليه وسلم باليتم من أبويه كليهما، فقد توفي أبوه وهو حمل في بطن أمه، بينما توفيت أمه آمنة بنت وهب وعمره 6 سنوات عليه الصلاة والسلام، وذلك كان في الأبواء بين مكة والمدينة، فذهبت أمه آمنة إلى أخواله بني عبد النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة إلى مكة، وعلى أي شيء مات أبوه وأمه عليه الصلاة والسلام، لقد مات على غير الإسلام، وبعد ذلك كفله جده عبد المطلب وكان جده يقرِّبه ويدنيه ويخاف عليه، ونقل ابن سعد رحمه الله أنه بلغ حب عبد المطلب لمحمد أنه كان يقربه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام وكان يجلسه على فراشه، وكان يبعثه في بعض حاجاته ولم يبعثه بحاجة إلا نجح فيها، وقد تأخر عليه الصلاة والسلام مرة، فحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال خوفًا عليه لا أبعثك في حاجة أبدًا، وكان عبد المطلب يؤثره على أبنائه؛ أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجد مهيبًا لا يجلس أحد على فراشه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس، فيحاولون إبعاده فينهاهم الجد ويقف بجانبه، ويقول: إن هذا الابن سيكون له شأن عظيم، وتوفِّي الجد وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين؛ أي كفله جده سنتين وأوصى بعد موته في كفالته لعمه أبي طالب، فكفله عمه أبو طالب ولم يكن لأبي طالب يومئذ ولد وكان فردًا وحيدًا مع امرأته فاطمة بنت أسد بنت عمه، وكانت ممنوعة من الولد، فكفله أبو طالب وأحسن كفالته، وكان أبو طالب محترمًا معظمًا عند قومه، فشغف برسول الله صلى الله عليه وسلم شغفًا شديدًا، وولهت أيضًا بحبه زوجته فاطمة بنت أسد حبًّا شديدًا، وقالت: لأنزلن محمدًا من قلبي منزلة صميم الأحشاء، وكانت تشتغل به في غسله وتنظيفه وتلبيسه وتعطيره، وقد سخر الله تعالى عمه أبا طالب لكفالته قبل النبوة وبعد النبوة.


أعماله عليه الصلاة والسلام قبل البعثة: لم يكن عليه الصلاة والسلام منعزلًا عن الحياة ولم يكن أيضا عاطلًا، بل شارك المجتمع بأعمال شريفة وعين الله عز وجل ترعاه وتحرسه فمن أعماله التي عملها عليه الصلاة والسلام ما يلي:
رعى الغنم فحينما قدر الله تعالى اليتم للنبي صلى الله عليه وسلم، جعل له مصدر رزق يستغني به عن الناس، فكان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، فعندما سألوه عن ذلك قال نعم وهل من نبي إلا رعاها، قال العلماء إن الحكمة من ذلك أن يحصل لهم التمرن برعايتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، وأيضًا لما في مخالطتها من الحلم وتحمل المشقة، وأيضًا يصبرون على جمعها ودفع عدوها عنها، فإن هذا لا شك أنه يعطيهم صبرًا على الأمة بجمعها وعدم تفرقها، ومن مصالح الرعي للغنم ما يلي:
الصبر، والتواضع، والشجاعة، والرحمة، والعطف، والكسب من عرق الجبين، وهذه الصفات وما يماثلها هي في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن أعماله عليه الصلاة والسلام عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الثانية عشرة من عمره خرج مع عمه أبي طالب في أشياخ من قريش إلى الشام، ولعلها أول رحلة للنبي صلى الله عليه وسلم خارج الجزيرة وفي هذه الرحلة وقعت قصة بحيرى الراهب؛ حيث كان أبو طالب ومن معه يسيرون، فأشرفوا وهم في مسيرهم على مكان قريب من الراهب بحيرى، فهبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وجعل يمشي بينهم حتى أمسك بيد محمد عليه الصلاة والسلام وهو غلام، فقال هذا سيد العالمين ورسول رب العالمين، فقال له الأشياخ وما علمك بذلك؟ قال كنتم عندما أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة عند غضروف كتفه إلى آخر قصة الراهب، وقد أشار الراهب على عمه أبي طالب أن يرده ولا يذهب به إلى الشام، حتى لا يقتله اليهود، فرده عمه خوفًا عليه، وهذه القصة قد صححها جملة من أهل العلم.


الأمر الثالث من أعماله عليه الصلاة والسلام: شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بنيان الكعبة مع قريش وكان إلى جانب عمه العباس ينقلان الحجارة في بناء الكعبة، والأمر الرابع من أعماله أيضًا عليه الصلاة والسلام: مشاركته في حلف الفضول وكان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار الذي كان بين قريش وهوازن، وسببها أن عروة الرحال بن عتبة بن هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر، واللطيمة هي مجموعة من الجمال تحمل الطيب والتجارة، فقال البراص بن قيس أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم وعلي الخلق كلهم، فخرج بها عروة وخرج البراص يطلب غفلته حتى قتله إلى آخر ما حصل بينهم من المقاتلة، فعندما رجعت قريش من حرب الفجار، كان بعدها مباشرة حلف الفضول، وسببه أن رجلًا يقال له زبيدي قدم مكة ببضاعة، فاشتراها من العاص بن وائل ومنعه العاص حقه، فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص بن وائل، فاستغاث الزبيدي بعدد من القبائل، فقام الزبير بن المطلب بن عبد المطلب، فقال: ما لهذا مارك فاجتمعت بنو هاشم وبنو زهرة وبعض قبائل العرب في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا وتحالفوا في شهر حرام وهو ذو القعدة، فتحالفوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم، حتى يؤخذ حقه من الظالم ثم مشوا إلى العاص، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وفي هذا الحلف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.


وهذا الحلف يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان.


الدروس المستفادة مما سبق:
الدرس الأول: لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أبوين كافرين، فأبوه في النار وحيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال أين أبي؟ قال: أبي وأبوك في النار، وأما أمه آمنة فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يستغفر لها، فلم يأذن له، وهذا دليل على أنها غير مؤمنة، فالله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فانظر إلى تلك الحال، وتأمل حكمة الله تبارك وتعالى البالغة فيها، واسأل الله تعالى الثبات، فإن الله عز وجل إذا أراد شيئًا قدره، فقال له كن، فيكون فخرج رسول رب العالمين من أبوين كافرين.


الدرس الثاني: قد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يأذن له في زيارة قبر أمه والاستغفار لها، فأذن له ربه بالزيارة ولم يأذن له في الاستغفار، فكيف بمن عاش أبواه على الإسلام وهو مع ذلك لا يأبه في قضية زيارتهما أو الاستغفار لهما، أو الدعاء لهما، وهذا مأخذ كبير؛ حيث إن البعض هداهم الله سواء كبارًا أو صغارًا، وهو في الصغار أكثر نسيان الدعاء والاستغفار للوالدين، وإن دعوا فمقلون أيضًا، ألم يعلموا أن الأبوين على أشد لهفة في انتظار ما يرد عليهم من أولادهم من دعاء أو استغفار أو صدقة، أو نحو ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن الأجور المهداة للأموات تصل من الصدقة والدعاء، وأيضًا منه الاستغفار، وأيضًا الحج والعمرة وقضاء الديون، ونحو ذلك بأنها تصل إلى الأموات، فينتفعون بها، لكن علينا جميعًا أن نكون أوفياء لوالدينا في حياتهم وبعد مماتهم في تقديم ما ينفعهم؛ لأنهم هم الأصل في وجودنا بعد الله تبارك وتعالى.


الدرس الثالث: تأمل كيف يتولى الله تبارك وتعالى أولياءه، فقد كان عبد المطلب وأبو طالب على الكفر، وقد شغف بالنبي صلى الله عليه وسلم حبًّا وحفظًا له من الأعادي، ودفاعًا عنه أيضًا، وهذا كله برعاية الله عز وجل، فلو كان المدافع هو مسلم لما كان عجيبًا، لكن أن يكون المدافع كافرًا يدافع عن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، فهذا يعطيك درسًا عظيمًا أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه إذا أراد الله عز وجل شيئًا هيَّأ أسبابه، فلا تجزع ولا تيأس في أحوالك ما دمت متعلقًا بالله الكريم القادر.


الدرس الرابع: من قصة الراهب بحيرى نعلم أن بعض أهل الكتاب يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يؤمنون به، أما الراهب بحيرى فقد عرف صدقه وعلامته، وهذا دليل على أنهم يعرفون، لكن بعضهم يقوم مقام الإنكار؛ لأن ثبوت المعجزات حصل قبل النبوة؛ حيث قال لهم بحيرى بسجود الشجر والحجر عندما أقبلوا عليهم ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمره أربعة عشر عامًا، وقال: بحيرى بأنه لا تسجد إلا لنبي.


الدرس الخامس: إن حلف الفضول الذي وجد في دار عبد الله ابن جدعان هو مبدأ عظيم في نبي الظلم، وإحلال العدل، وهذا مسلك إسلامي كبير، وإن كانت مكة آنذاك معروفة بالشرك والظلم والسرقة وغيرها، إلا أنها فيها بقايا من الصفات الطيبة، فجعلوا حلف الفضول لرفع الظلم عن المظلوم، وهذا مبدأ كبير لك أخي المستمع الكريم، فإذا جلست في مجلس فتحدث أحدهم بفلان، فدافع عنه أو مظلمة على فلان، فحاول ردها إليه، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، فإذا دافعت عن عرض إخوانك سلمت من جهة، وكتب الله أجرك من جهة ثانية، ويسَّر الله تعالى من يدافع عنك من جهة ثالثة، فالجزاء من جنس العمل، أما السكوت فهو لا شك أنه داء عضال.


الدرس السادس: تأمل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث نشأ يتيمًا فقيرًا حصل له من المآسي ما الله به عليم، ومع ذلك بلغت دعوته ما بلغ الليل والنهار، فالمقياس ليس بشريًّا حتى تنطلق المقاييس وتتسابق في هذا المضمار، وإنما هي ليست مقاييس بشرية وإنما هي توفيق من الله تبارك وتعالى لعباده، فاحرص على أن يكون في جميع دعوتك إلى الله تبارك وتعالى أمران مهمان الأمر الأول هو الإخلاص لله تبارك وتعالى، والأمر الثاني هو المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد هذان الشرطان وهما الإخلاص والمتابعة، فأبشر بنجاح عملك سواء على كان على مستوى الفرد، أو كان على مستوى الجماعة، وأبشر بالفلاح في الدنيا والآخرة.


الدرس السابع: تأمل كيف جعل الله تعالى الأنبياء جميعًا قاموا بمهمة رعي الغنم، وفي ذلك درس عظيم في أن المسلم إذا أراد شيئًا دعويًّا أو تربويًّا أو اجتماعيًّا، أو غير ذلك أن يحاول مزاولة ما يكون تمهيدًا لما يريد تحقيقه من هذه الأمور المستقبلية، فينظر ما الذي يناسب عمله هذا من أعمال الحياة ويزاوله مطبقًا فيه بعض مؤشرات العمل الأصلي المستقبلي، فإن هذا أقرب للنجاح في الأعمال، فرعي الغنم للأنبياء فيه الصبر والشجاعة والتواضع والرحمة واللين والكسب من عرق الجبين، وهذا لا شك أنه كله وأمثاله يحتاجه من يدعو الناس إلى الخير.


الدرس الثامن: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة منعزلًا عن الناس، بل كان اجتماعيًّا يعمل مع أهله وذويه، ويشارك في بناء الكعبة، وكان ينظر في أعمال الناس فما استحسنه منها أخذه عليه الصلاة والسلام، وهكذا الأشخاص الذين يهدفون إلى تحقيق أهداف سامية في الحياة عليهم ألا يعتزلوا، وعليهم أن يحسروا أيضًا عن ساعد الجد، وأن يعملوا ما يكونوا تهيئة لإنجاح أهدافهم، سواء كانت تجارية أو دعوية أو تعليمية أو تربوية، أو غير ذلك، فالعمل يتبع بعضه بعضًا ويكون سببًا في نجاح العامل.


الدرس التاسع: التكافل والتربية مطلبان مهمان في المجتمع حتى يكونا ناجحًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفيت أمه وتوفي أبوه قبل ذلك، قام جده ثم عمه بكفالته وتربيته، وفي هذا يجب أن يكون لدينا التسابق على فعل الخير كالكفالة لمن يحتاجونها وتربية من يوصف باليتم أو شبه اليتم أن نتولى تربيته وتعليمه، وهذا ما يوجد لدينا بحمد الله في الجمعيات لكفالة اليتيم ففيها من الخير والمغنم في الدنيا والآخرة الشيء الكثير.


الدرس العاشر: علينا بتربية أبنائنا على بناء مستقبلهم البناء الإيجابي إن ذلك يغرس في نفوسهم حب الإيجابية والتخطيط الإيجابي للمستقبل وبناء الخطوات لتحقيق أهدافهم النبيلة، وذلك بخلاف من يريد شيئًا إيجابيًّا لمستقبله، لكنه لم يعمل على تمهيده، فإن هذا في الغالب قد لا ينجح، ويعجبني أحدهم وقد تعامل مع ابنه في المرحلة المتوسطة تعاملًا جيدًا وظريفًا وإجراء لطيفًا، وهو أنه تحدث معه كثيرًا عن تخصُّصه ومستقبله، فلما اتَّفقا على نتيجة ذلك النقاش، وضع ذلك الأب بطاقة فيها بيانات ذلك الابن ومستقبله الوظيفي، فسلمه له على محفل أسرى صغير، فكان لهذا الإجراء اللطيف الأثر على ذلك الطالب.


اللهم إنا نسألك النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، واسلك بنا يا ربنا سبيل الراسخين الناجحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27-05-2022, 07:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (3)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الثالثة من برنامج (خاتم النبيين)




بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
وكان من أعماله عليه الصلاة والسلام التي شارك فيها المجتمع أنه تاجَرَ بمال خديجة رضي الله عنها، وكانت خديجة رضي الله عنها أرملة وذات شرف ومال كثير، فلما بلغها صدق محمد عليه الصلاة والسلام وأمانته عرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام متاجرًا به، فرضي بذلك وخرج معه غلامها ميسرة، فقدم الشام فباع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى بهذا المال حتى كثر وتبارك، فلما رجع إلى مكة تضاعف مال خديجة وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى من محمد عليه الصلاة والسلام من أخلاق عجيبة في الصدق والتعامل والأمانة وغيرها، ورأت خديجة بركة لم تجدها من قبل، فحدثت صديقتها نفيسة بنت منبه أن تحدِّث محمدًا عليه الصلاة والسلام عن زواجه بها، فعرض ذلك عليه الصلاة والسلام على أعمامه، فوافقوا فخطبوها له، فأصدقها 20 بَكْرةً، وكان عمره آنذاك 25 سنة، وكان عمرها 40 سنة، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: وقد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل ولده إلا إبراهيم، فقد ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطيب الطاهر، وأيضًا ولدت زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكانت خديجة نعم الزوج للنبي عليه الصلاة والسلام؛ واسَتْهُ بنفسها، وثبتت معه في الشدائد، وأعطته من مالها، ثم مضت السنين، وبعد ذلك حصل إرهاصات للبعثة ومقدمات للنبوة، وكان من هذه المقدمات ما يلي:
1- دعوات الأنبياء كدعاء إبراهيم حيث يقول الله تبارك وتعالى عن ذلك: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾ [البقرة: 129] الآية، وأيضًا في بشارة عيسى يقول الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6] ونحو ذلك مما قاله الأنبياء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو دعوة أبيه إبراهيم، وبُشْرى أخيه عيسى عليهم الصلاة والسلام.

2- وأيضًا من المقدمات للنبوة إخبار أهل الكتاب وعلماؤهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [البقرة: 146] ومن إخبار اليهود ببعثته عليه الصلاة والسلام ما رواه أحمد وابن إسحاق وصححه ابن حجر وغيرهم أن يهوديًّا من بني عبد الأشهل خرج عليهم قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام بيسير فذكر البعث والقيامة والحساب والجنة والنار، فاستغرب ذلك أهل المدينة وهم يهود وأهل شرك حينها، فسألوه: وما علامة صحة ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار إلى مكة، قالوا: ومتى تراه؟ قال سلمة فنظر إليَّ وأنا أحدثهم سنًّا، فقال: إن استنفد هذا الغلام عمره يدركهُ، قال سلمة:فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم واليهودي حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به وكفر هو به بغيًا وحسدًا، فهذا من المقدمات من أخبار اليهود عن مبعثه عليه الصلاة والسلام.

3- تسليم الشجر والحجر على النبي عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))؛ رواه مسلم، وزاد ابن إسحاق: فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال ذلك الشجر والحجر: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم حوله يمينًا وشمالًا وخلفه، فلا يرى إلا الشجرة والحجر، فمكث كذلك ما شاء الله حتى جاءه جبريل بالوحي.

4- من المقدمات للنبوة الرؤيا الصادقة، فقد ثبت في البخاري ومسلم أنه أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

5- من مقدمات النبوة العزلة والتحنُّث والعبادة: فأجواء مكة قبل البعثة كانت أجواء شرك وجاهلية؛ ولكن الله عصم نبيَّه صلى الله عليه وسلم من أوضار الجاهلية، فحبَّبَ إليه الخلوة للتعبد، فخلا بغار حراء الليالي ذوات العدد، فقيل: كانت المدة شهرًا كما في مسلم، وقيل: إن هذا الشهر هو شهر رمضان، وكان يرجع إلى خديجة فيتزوَّد ثم يرجع، فإذا رجع إلى بيته بدأ بالطواف ثم ذهب إلى بيته ليتزود، وكان أكثر تعبده عليه الصلاة والسلام هو التفكُّر في خلق الله، واختلف العلماء: هل تعبُّده هذا كان على شريعة نبي أم لا؟ هو موضع خلاف بينهم؛ فقال بعضهم: على شريعة إبراهيم، وقال آخرون: على شريعة عيسى، وهو موضع خلاف بين أهل العلم.

6- من المقدمات للنبوة حادثة شق الصدر، فقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن صدره فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى حليمة بأن محمدًا قد قُتِل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، ثم بعد ذلك اطمأنت حليمة إلى أن هذا هو أمر الله عز وجل، ثم بعد تلك الإرهاصات والمقدمات جاءت النبوة ونزل الوحي، فالنبوة تكريم واختيار واصطفاء، يقول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، فاصطفى الله عز وجل ذلك القلب الطاهر لمحمد عليه الصلاة والسلام ليتحمَّل الرسالة والنبوة رحمة للعالمين، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتطلع إليها؛ بل هو النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين، وكان يتعبَّد في الغار، ففي يوم الاثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة في الغار أول مرة وهو يتعبَّد في ذلك الغار، فقال: ((اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني- أي: تركني- قال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني- أي: تركني- فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾)) [العلق: 1] الآيات الخمس من سورة العلق، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: ((زملوني زملوني)) حتى ذهب عنه الروع، فذكر ذلك لخديجة، فقال: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل- أي تنفق على الضعفاء- وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها وكان قد تنصر في الجاهلية، وهو رجل كبير كفيف، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس- يعني به جبريل الذي نزل على موسى- يا ليتني كنت فيها جذعًا وحيًّا إذ يخرجك قومك، قال: ((أومخرجي هم؟))، قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي، وأن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا؛ لكن ورقة توفي قبل ذلك.

ومن حكمة تلك الشدة في الوحي لكي يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب بقوة ولا يتهاون فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة: ((لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين))؛ رواه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.

وقال بعضهم: إنه مات على النصرانية، ولا منافاة بينهما، فالدين المأمور به زمن حياته هو النصرانية، وقد فتر الوحي بعد ذلك مدة يقدرها بعضهم بـ 40 يومًا، وقالوا: إن حكمة ذلك ليزول عنه عليه الصلاة والسلام ما يجد من الروع والجهد والتعب، ثم بعد تلك الفترة نزلت صدر المدثر ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1] الآيات، وقال ابن تيمية رحمه الله: أول ما نزل اقرأ وصار بها نبيًّا، ثم صدر المدثر فصار بها رسولًا منذرًا، وقد جاءت أنواع الوحي على ستة أنواع كما ذكرها ابن القيم رحمه الله:
النوع الأول: الرؤيا الصالحة وكانت في مبدأ وحيه.

النوع الثاني: الإلهام، وهو أن ينفث الملك في روعه- أي: في قلبه- من غير أن يراه، كما ورد قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي))؛ أي: جبريل نفخ في قلبي، وقال: ((لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)).

النوع الثالث من الوحي: أنه يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو يكون صوت شديد وهو أشده عليه، عليه الصلاة والسلام.

النوع الرابع: ما يوحيه الله تعالى له بلا واسطة، كما ثبت في حديث الإسراء.

النوع الخامس: أن يرى الملك على صورته التي خلقه الله عليها.

النوع السادس من الوحي: أن يأتيه الملك على صورة رجل، وقد يراه الصحابة كما في حديث جبريل المشهور.

الدروس المستفادة مما سبق:
الدرس الأول: أهمية العمل، وأنه مصدر من مصادر الرزق، وأيضًا نبذ الخمول والكسل؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اتجر وعمل بمال خديجة، وهذا العمل حثَّ عليه الإسلامُ حتى ولو كان قليلًا، فإنه سيتكاثر ويتبارك، فعلى شبابنا التوجُّه لذلك، ونبذ الخمول والكسل فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، والمجالات متاحة، والأبواب مفتوحة، فعلى الشاب بذل السبب.

الدرس الثاني: إذا رأيت رجلًا أمينًا صادقًا ذا خلق حسن، فحاول المشاركة معه، في أعماله، واطرح عليه ذلك، فأخلاقه من مفاتيح الإيجابية؛ حيث طرحت خديجة رضي الله عنها تجارتها على النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها؛ لما رأت من أخلاقه وصدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام.

الدرس الثالث: مشروعية التوافق بين الناس على المتاجرة بالمال على جزء منه، كما حصل أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بمال خديجة على جزء منه، فعلى شبابنا أن يبحث عن التجار ويذهب إليهم ويعرض عليهم قدراتهم وسيرهم الذاتية، والله يقضي ما يشاء، وهذا من بذل السبب المشروع.
الدرس الرابع: الآباء والأولياء إذا رأوا رجلًا ذا خلق وأمانة ودين وعقل أن يتقدموا إليه بصورة أو بأخرى عن طريق الآخرين ليزوِّجوه مولياتهم وبناتهم، وهذا ما حصل مع خديجة؛ حيث أرسلت إلى من يهمه الأمر في ذلك، وخطبت الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتزوَّجها، وفي الوقت نفسه استشار النبي صلى الله عليه وسلم أعمامَه في ذلك، فوافقوه، وهذا كله من أسباب التوفيق، وذلك بخلاف من يجعل من بناته ومولياته حبيسة البيت حتى يأتي من يريد الزواج، فالمبادرات الإيجابية مطلبٌ كبيرٌ، وقد حصل هذا لكثير من الأولياء
فوفقهم الله في زواجاتهم.

الدرس الخامس: إن الصدق والأمانة في الأعمال التجارية سببٌ كبيرٌ في نجاح تلك التجارة ووجود البركة والنمو فيها، وذلك مأخوذ من صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام عندما اشتغل بمال خديجة بصدق وأمانة أيضًا عندما نقل ذلك ميسرة خادم خديجة نقل تلك الأخلاق لخديجة، فأعجبت خديجة رضي الله عنها به عليه الصلاة والسلام، ونما مالها، وذلك بخلاف الغش والخداع والظلم في التجارة، فإنه محق لها وزوال البركة فيها، وإن كان المال في الظاهر يزداد فهو مجرد سراب.

الدرس السادس: أهمية الاستشارة في الزواج ومداولة الرأي في هذا قبل الإقدام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه خديجة وهي من هي رضي الله عنها استشار أعمامَه وداول معهم الرأي حتى أشاروا عليه بذلك.

الدرس السابع: من المفترض أن تكون الزوجة عونًا لزوجها، وكذلك الزوج لزوجته، فكل منهما مكمل للآخر في ماله وقدراته وخدماته حتى في أجوائه الاجتماعية والشرعية ونحو ذلك، وهذا ما حصل تمامًا بين خديجة رضي الله عنها والنبي عليه الصلاة والسلام، فقد واسَتْهُ بمالها ووقفت معه وقت الشدائد، وحاولت أن تزيل ما يجد من الكرب حال الدعوة ونحو ذلك، أما إذا اتصف أحد الزوجين بالجمود تجاه الآخر سواء في المحسوسات أو في المشاعر، فهذا سلبي يفترض أن يسارع الزوجان إلى حل لتلك المشكلة ولو بالتدريج فإنه نافع ومفيد.

الدرس الثامن: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهو عز وجل بيده الهداية والإضلال؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، فاليهودي الذي أخبر بأنه سيخرج من مكة نبيٌّ صادق أمين، ثم ذكر ذلك اليهودي القيامة والبعث والحساب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بسنين، فآمن الناس، فقال بعض من آمن: بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم واليهودي الذي أخبرنا به بين أظهرنا فآمنا وكفر هو بغيًا وحسدًا، فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلوبنا على دينك، واهدنا ولا تضلنا وذرياتنا والمسلمين.

الدرس التاسع: إن مما يقوِّي الإيمان عند المسلم حصول المعجزات للنبي عليه الصلاة والسلام قبل وبعد البعثة، وذلك ظاهر جدًّا من ظهور المعجزة قبل البعثة؛ كتسليم الحجر والشجر، ومع ذلك يسلمان على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر خارق للعادة، فهو معجزة وإرهاص لبعثته عليه الصلاة والسلام، وأن المسلم عندما يتأمل ذلك فإنه يقوى إيمانه وعقيدته وثباته على الحق ولا يحمل شيئًا من الشكوك أو الظنون السلبية التي قد يوردها الشيطان، فإن تلك المعجزات دليل كبير.

الدرس العاشر: إن الخلوة بالله عز وجل تعبدًا قوليًّا أو فعليًّا أو فكريًّا هي من أقوى السبل والأسباب للثبات على دين الله تبارك وتعالى؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حُبِّب إليه الخلوة في الغار، وقد خلا به قرابة الشهر، وكان شهر رمضان، وكان يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود، فيرجع إلى الغار فيخلو بربه عز وجل تعبدًا لله تعالى، وهذا كله يجري بقدر الله عز وجل وحكمته، فإن تلك الخلوة لها مذاقها الخاص وطعمها اللذيذ، ولها في النفس طمأنينة وسكينة وهدوء، كيف لا وهي خلوة برب العالمين! وبقدر حضور القلب في تلك الخلوات تنتفع الروح بذلك الغذاء لها.

أخي الكريم عندما تمشي وحدك راجلًا أو في سيارتك، فأنت في خلوة، فاذكر الله تعالى، وعندما تغلق عليك باب غرفتك فأنت في خلوة، فاعبد الله عز وجل، وعندما ينام الناس ويرقدون بعد هزيع من الليل فقم بين يدي الله عز وجل، فأنت في خلوة، وهكذا تتعدد الخلوات الطيبة المباركة في حياة المسلم، وهذه هي الخلوات الطيبة الدوائية لكثير من العلل الروحية وغيرها، وذلك بخلاف الخلوات السلبية التي يخلو أصحابها فيها مع معصية الله عز وجل والله عز وجل يراهم ويسمعهم، وبيده أمرهم ورزقهم، فاللهم اهدهم ودلهم على صراطك المستقيم، وأصلح أحوال الجميع.

الدرس الحادي عشر: إن المجالات الدعوية والعمل فيها يحتاج إلى جهد وصبر ونحو ذلك، فعلى الداعية أن يتأقلم مع ذلك، ويعلم بأنه بقدر ذلك الجهد والصبر يأتيه الأجر، وهذا أمر طبعي في الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل أول مرة أخذه فغطه- أي شد عليه ثم تركه- فقال: اقرأ، فقال: ((ما أنا بقارئ)) وفعل ذلك ثلاثًا، وربما كل واحدة أشد من الأخرى، قال أهل العلم بأن هذا دليل على أن من عمل في حقل الدعوة بأنه قد يلاقي من الجهد والتعب والنصب ربما الشيء الكثير، فليُوطِّن نفسه على ذلك، وليصبر وليعلم بأنه مأجور، وأن هذا التعب كما يحصل للداعية فهو أيضًا كذلك يحصل لغيره في أعمالهم الدنيوية؛ كالتجارة ونحوها، ولكن ذلك الداعية له نصيبه الأكبر من الأجر؛ لأنه يدعو إلى دين الله عز وجل، فما تصرفه أخي الداعية من المال أو الجهد أو الوقت، وما تضحي به من رغباتك في سبيل دعوتك؛ فاعلم أن هذا مرصود لك، فقط أحسِن النية لله عز وجل، واجعل عملك ذلك موافقًا لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وأبْشِر بعد ذلك بالخير والبركة والخلف.

الدرس الثاني عشر: على المرأة أن تكون بلسمًا شافيًا لزوجها إذا رأته مهمومًا أو متشتت الشأن، فتلاحظه في تلك الحالة الراهنة، فملاحظتها له مطلب كبير، حتى تدوم العشرة ويزول الهم والتشتت عن ذلك الزوج، وتكون تلك الزوجة في مكان عالٍ في قلب ذلك الزوج، وهذا يؤخذ من حال خديجة رضي الله عنها؛ حيث جاء إليها النبي صلى الله عليه وسلم مهمومًا مما رأى من الوحي أول مرة، فكان موقف خديجة رضي الله عنها مشرفًا؛ حيث قالت: أبْشِر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، أنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل... إلى آخر كلامها رضي الله عنها، فعلى المرأة أن تذكر لزوجها في مثل تلك الأحوال الإيجابيات التي فيه، وتفتح له مجالًا لارتياحه مما هو فيه، وأيضًا تذكر له بعض الحلول لهذه المشكلة، وذلك بخلاف المرأة السلبية التي لا تراعي أحوال زوجها في تقديم طلباتها، فيتصادم الرأيان، ويحصل بعد ذلك ما لا تحمد عقباه.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الموفقين المسددين، وأن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شرور أنفسنا والشياطين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 27-05-2022, 07:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين


خاتم النبيين (4)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الرابعة من برنامج (خاتم النبيين)
بسم الله الرحمن الرحيم


، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين. وقد ذكرنا في الحلقة السابقة الإرهاصات والمقدمات للنبوة، وكيفية بداية الوحي وأنواعه، وما هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأثناء، وكيف كان موقف خديجة رضي الله عنها وغير ذلك، ونستكمل في تلك الحلقة بداية الدعوة ومرحلتها السرية والجهرية؛ فبعد نزول آيات المدثر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله عز وجل؛ ولكنه بدأ تلك الدعوة سرًّا، فبدأ بالدائرة الصغيرة الملتصقة به عليه الصلاة والسلام؛ وهم أهل بيته، ثم بجلسائه والمقربين منه، وهذا كله كان سرًّا، والأصل في الدعوة أن تكون جهرًا وعلانيةً، ولكن الظروف المحيطة بالمجتمع آنذاك تقتضي السرية في الدعوة، وكان من أدلة هذه الدعوة السرية ما رواه ابن إسحاق، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عز وجل عليه وعلى العباد من تلك النبوة سرًّا إلى من يطمئن إليه من أهله. وأيضًا كذلك نقل الواقدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيًا إلى أن أمر بالظهور. وفي صحيح البخاري ومسلم في قصة إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وقدومه إلى مكة، ووصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غاية التكتم والحذر، وبعد إسلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذرٍّ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل))؛ رواه البخاري ومسلم. وكانت تلك البداية السرية بالدعوة حفاظًا على الدعوة، وعلى هؤلاء الذين آمنوا بها.

والمتأمل في تلك الدعوة السرية في بداية الإسلام يعلم أنها للأفراد وليست للقبائل، وأنها لـلقريبين من الأهل والأصدقاء والأقارب ونحوهم حتى يقوى عود تلك الدعوة، وأيضًا كذلك من أجل عدم مجابهة قريش بذلك. وكانت الدعوة السرية في توجيههم للحق والثبات عليه ونحو ذلك، ثم بعد ذلك قويت تلك الدعوة، وصار لها رواجًا وإن كان محدودًا أيضًا، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مكانًا لاجتماعه بمن أسلم من الصحابة، وكانت تلك الدعوة السرية لمدة ثلاث سنين, وكان أول من أسلم من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها؛ بل هي أول من آمن به عليه الصلاة والسلام، ثم تتابع بعد ذلك الدخول في الإسلام، فأسلم علي وأبو بكر وزيد، وفي ترتيب هؤلاء خلاف؛ لكن يقول بعضهم: أول من أسلم من النساء خديجة, ومن الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الغلمان علي؛ حيث أسلم وهو ابن ثماني سنين، ومن الموالي زيد، وكل من أسلم دعا غيره إلى دين الله عز وجل حتى اتسعت دائرة الدخول في الإسلام والإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو شأن المسلم إذا هداه الله عز وجل إلى خير فليدعُ غيره إليه، فقد أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه ثُلَّةٌ كبيرة من الصحابة، بل ومنهم عدد من المبشرين بالجنة، ودار الأرقم بن أبي الأرقم هي الدار التي اجتمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حال نشاط الدعوة السرية، فكان يذكرهم عليه الصلاة والسلام بالله تعالى، ويتلو عليهم القرآن، ويربيهم على الفضائل حتى يثبتوا على دين الله عز وجل، وكانت شخصيته عليه الصلاة والسلام بتعاليمه الحكيمة وأخلاقها العالية مؤثرةً على هؤلاء كثيرًا.

بل إن المدعو للإسلام عندما يلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل له تأثُّر عجيب واهتداء وهدى، ثم يخرج من خلال هذا اللقاء الإيماني الدعويّ من الظلمات إلى النور، كيف لا وهذا رسول رب العالمين المؤيد بالوحي من ربه عز وجل؟!

وكان عليه الصلاة والسلام في تلك الأثناء يُوحَى إليه فيسمع الصحابة رضي الله عنهم منه القرآنَ طريًّا، ثم يتلونه كما سمعوه، وهم إذا سمعوا تأثروا؛ لأن تلك الآيات تجري في عروقهم، وقد كان بعضهم كذلك قبل إسلامه، فكيف به بعد ذلك؟! ثم بعد ذلك اتسعت تلك الدعوة السرية؛ حيث أسلم من كل قبيلة عدد منهم، فأبو بكر من تميم، وعثمان من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، ومصعب من بني عبد الدار، وعلي بن أبي طالب من بني هاشم، وهكذا أسلم من كل قبيلة عدد؛ مما جعل الأمر يستفحلُ نسبيًّا، وينتشر شيئًا فشيئًا، وهذهِ إرادة رب العالمين لنبيه وعباده المؤمنين. وقد جاءت الدعوة ومن خصائصها الصدعُ والبيان والإنذار، وقد كان الإصرار قبل ذلك لضرورة فرضها الواقع، فلما أسلم من كل قبيلة عدد منهم كان ذلك فرجًا ومخرجًا للأمة المسلمة؛ أن تنتقل من السرية إلى الجهرية النسبية، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، والقرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهًا ومربيًا ومثبتًا لهم، فكانوا رضي الله عنهم خيرَ منصتٍ ومستمعٍ ومتأثر بذلك الوحي.

إن ما سبق من السنين كان إعدادًا لتلك الدعوة، وبعد ذلك الانتشار في القبائل في مكة وغيرها لتلك الدعوة، وهذه النبوة كثر أتباعها فجاء دورُ الجهر بالدعوة والصدعِ بها وإعلانها، فنزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].

فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد الصفا، فجعل ينادي لبطونٍ من قريش: ((يا بني فهر، يا بني عدي))، وغيرهم، حتى اجتمع كبارهم ومَنْ دونهم فقال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مصدقيَّ؟)) قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقال أبو لهب: تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1] إلى آخر السورة؛ رواه البخاري. وفي رواية مسلم أنه قال عليه الصلاة والسلام لكل قبيلة: ((أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا))، وهناك روايات أخرى لكنها كلها تتفق على الجهر بالدعوة والإنذار. وبعد هذا الجهر بالدعوة دخل الناس أفواجًا وأرسالًا من الرجال والنساء، وكان ذلك كذلك؛ لأن الفطرة الموجودة في قلب كل واحد منهم هي متوافقة مع هذا الوحي المبارك، فالذي خلق الأنفس وفطرها هو الذي أنزل الوحي وأمر باتِّباعه، فالخالق هو الله، والذي أوحى هو الله، فلا عجب أن يدخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وفي هذا مجال خصب للدُّعاة أن يدعوا إلى دين الله عز وجل، فهم حين يفعلون ذلك فإن معهم الأصل وهو الوحي والفطرة؛ ولذلك نرى الاستجابة من غير المسلمين للدخول في الإسلام سريعةً بخلاف المللِ والنحلِ الأخرى، وهذا يعني أن عدد المسلمين سيزيد، وسيكون لهم شأنٌ وتأثيرٌ كبير وعظيم، ولاحظ معي أخي الكريم أن تبدأ المرحلة الجهريةُ بالعشيرة الأقربين ليكونوا عونًا على الدعوة ونصرتها، فالمقربون أرجى من غيرهم. وقد جاءت الآيات المكية لتوضح عالمية الدعوة؛ كقول الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وبعدها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يغشى أنديتهم يدعوهم، وفي المواسم أيضًا يدعوهم هو ومَنْ معه من المؤمنين، وكانت النتيجة من خلال هذا الجهر بالدعوة أن آمن كثير من الناس؛ لأنهم وجدوا ما يوافق فطرتهم السليمة.

ومن جهة أخرى بقي أُناس معاندون آخرون، لم يكتب الله عز وجل لهم الهداية والإيمان، فبدأوا يُحرِّضون على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، واشتدَّ الصراع، ووجدت عقبات كبيرة وعظيمة في هذا الشأن، وهذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

أما الدروس المستفادة مما سبق فهي كثيرة جدًّا؛ لكن نذكر منها ما يلي:
الدرس الأول: الحكمة في الدعوة أمر مهم وغاية في الأهمية؛ لأن الداعية يريد تحقيق ما يدعو إليه، وإذا كان ذلك بغير الحكمة فإن هذا لا يتحقق، فالحكمة ضالَّةُ المؤمن، وهذا مأخوذ من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي فطرهُ الله عليها من بداية الدعوة بالسرية حتى يقوى عودها ويقوم لها ما يديرها ويحركها ويقويها، لكن لو جهر من أول مرة لكان أمرًا مستغربًا على ذلك المجتمع، ولكان الرد للدعوة قد يكون هو المقابل لها. فعلى الداعية في دعوته لأي أحد أن يتوخى الحكمة في قوله وفعله وطريقته، فالحكمة مِفْتاح النجاح، ومن الحكمة اختيار المكان المناسب والزمان المناسب مع الأسلوب المناسب، وأيضًا التدرُّج في ذلك شيئًا فشيئًا حتى يتحقق الهدف على أرضِ الواقع.

الدرس الثاني: إن مما يشرع للمسلم أنه إذا هداه الله عز وجل إلى عمل من الأعمال الصالحة أن يسارع في دلالة الآخرين إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله))؛ رواه مسلم. وهذا ميدان فسيح للتسابق إلى الخيرات وهو من الصدقة الجارية، وقد أخذنا هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم في الدعوة السرية والجهرية أيضًا، أن من أسلم أو تعلم شيئًا من أمور دينه دعا إليه غيرَه من الناس؛ ولذلك أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه عددٌ كبيرٌ من الصحابة، بعضهم من المبشرين بالجنة، فجميع أعمالهم هي في موازين أبي بكر رضي الله عنه، فيا أخي الكريم، اجعل لك في ذلك منهجًا في دلالة الآخرين على الخير، ولو تدعو في كل يوم واحدًا من الناس أو تدلُّه على خير، فإنك بذلك تجري لك الصدقات والأجور من حيث لا تشعر. وأذكر هنا موقفًا يسيرًا وعظيمًا أيضًا في نفس الوقت لأحد الإخوة حيث اجتمع ثُلَّة من الرجال فذكر أحدهم فضيلة صيام يوم الاثنين في خلال كلمة يسيرة لا تتعدى دقيقتين وأيضًا هي في عبارة سريعة؛ فما كان من أحد هؤلاء الجالسين بعد قيامهم وانصرافهم، إلا أن طرح ذلك على زوجته فاتفقا على صيام هذا اليوم فصاموه بعد ذلك ثلاثين عامًا، فكانت محصلة ما صاموه خلال هذه الثلاثين عامًا هو ثلاثة آلاف يوم، كلها في ميزان ذلك المتحدث، فماذا لو كنا كذلك في مجالسنا، فلا شك أن الخير سينتشر ويعمُّ، وتمتلئ موازيننا بالخير من حيث لا نشعر.

الدرس الثالث: إن التغذية الراجعة لتقوية الإيمان في القلب والجوارح غاية في الأهمية، وذلك لتزكية النفس وتطهيرها وشحذ الهمم في التسابق إلى الخيرات وتعزيز ذلك في النفوس، وذلك من خلال اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في أواخر الدعوة السرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجمعهم فيها عليه الصلاة والسلام يذكرهم ويربيهم ويزكي نفوسهم، فبيوتنا كلها دار الأرقم، فلماذا لا تكون بيوتنا مقرًّا لتزكية النفوس وتربيتها من خلال استحداث حلقة ذكر أو درس تربوي إيماني لأولادنا ولو مرتين في الأسبوع؟! فإن هذا له أثره الكبير في تربية الأولاد وتزكية نفوسهم وجلب الملائكة إلى هذا البيت، وفي ذلك من المصالح العديدة ما لا يحصيه مثل هذا المقام، فسارع أخي المستمع الكريم إلى ذلك فهو خير عظيم، ولعله أن يكون صدقة جارية لك عندما يسري ذلك في أحفادك وأولادهم.

الدرس الرابع: إن صفة الصدق صفة عظيمة جليلة، وبها يعرف الشخص في أعماله وأقواله، وتطمئن له النفوس وتحبه وتميل إليه، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكنتم مصدقي؟)) عندما صعد إلى الصفا، فقالوا: ما جربنا عليك إلا صدقًا مع أنهم أعداؤه وعلى غير مِلَّته، فقد عرفوه بالصدق دائمًا، فلم يسمعوا عنه كذبًا أبدًا، فماذا لو كنا كذلك في أعمالنا أو أقوالنا أو مجالسنا نصدق مع الخالق والمخلوق؟ فلا شك أن كثيرًا من الإشكالات ستزول، وسيكون ذلك المجتمع الصادق هو المجتمع المسالم والمطمئن، وتسوده الأمانة والنصح، وستكون القلوب بيضاء سليمة وأيضًا متحابَّة؛ لأن آثار الصدق ظهرت في ذلك المجتمع، فما أحوجنا إلى ذلك!

الدرس الخامس: على الداعية في دعوته، بل على المسلم في جميع شؤون حياته أن يسير من خلال توجيهات القرآن الكريم؛ فإنها وحيٌّ وهي معصومة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بنفسه ثم بحُرٍّ وعبْدٍ وهكذا، حتى بلغت دعوته ما بلغ الليل والنهار؛ لأنه يسير على هدى تعليمات القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب العظيم هو منهج حياة للفرد والجماعة.

إن مشاكل العالم لو عرضت على الوحي لزال إشكالها، فكيف بالمشكلات الجزئية والفردية، ولكن الخلل يكمن في البحث عن هذه الكنوز الربانية في القرآن؟ والله عز وجل يقول: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فلا بد أن يوجد حل بشكل صريح أو تلميح، فالسائر مع توجيهات الوحي سواءً كان فردًا أو جماعة فهو ناجح في سيره وسيرته، وفي دعوته ومنهجه، وليكن هذا السير على فهم السلف رضي الله عنهم؛ لا على تأويلات ملتوية، فما من حال تمرُّ عليك في يومك وليلتك إلا وفي القرآن والسنة ذكر لها، وحل لإشكالها، وتنمية لها، ولكن هذا لا يدركه كل أحد ولكن كما قال الله عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

إن المتأمل في نصوص القرآن والسنة يعلم أنها عالجت كل مشاكل الأُمَّة المسلمة، ولكن الإشكال يكمن في قلة تدبُّرنا وتأمُّلنا لنصوص الكتاب والسنة.

الدرس السادس: إن الكلمة التي يلفظها اللسان وقد لا يتأملها صاحبُها؛ قد تؤدي به إلى المهالك (والبلاء موكل بالمنطق)، فإطلاق الكلمات جُزافًا من دون تأمل هو مهلكة ومقتلة، ويتضح ذلك عندما قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: "تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟!" إنها كلمة يسيرة لكن نزل بها الحكم الرباني يُتلى إلى يوم القيامة بالحكم على قائلها أنه من أهل النار وهو حي يمشي بين الناس، فالكلمة لها وزنها وثقلها وهي داء أو دواء؛ فتأمَّل كلماتك ولفظاتك سواء في حق الخالق أو في حق المخلوق، وإن الكلمة هي سبب لملء موازين الخير والشر بالحسنات والسيئات، فإن اللسان من أوسع الجوارح في جلب الحسنات والسيئات؛ ولهذا يدخل الإسلام بكلمة وقد يخرج منه بكلمة، فاحذر آفات لسانك وفلتاته.

الدرس السابع: ليس غريبًا أن يدخل الناس في هذا الدين أفواجًا في السابق والحاضر؛ لأن هذا الدين متوافق مع الفطر المركوزة في قلوب الخلق وعقولهم، فعلى الدُّعاة استثمار ذلك، ومن شواهد هذا أن نرى المسلم الجديد قد يكون سببَ إسلامِه أمرٌ يسيرٌ، وهذا كثيرٌ تحدِّثنا عنه جمعيات الدعوة والإرشاد في مملكتنا الغالية، ويتضح هذا من إقبال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم في خلال الدعوة السرية والجهرية؛ حيث دخلوا أفواجًا، فعندما تتحدَّث أخي الكريم مع أحد عن شيء مركوز في فطرته، فإنه سيستجيب لك بإذن الله عز وجل، فكن داعيًا بقولك وفعلك، فما أسهل الاستجابة داخل هذا الدين القويم!

الدرس الثامن: في قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، علينا جميعًا الاهتمام بذوي القربى في دلالتهم على الخير قولًا وفعلًا، فهم أقرب الناس إلينا، ولهم حق كبير في توعيتهم، وإن مما يسهل ذلك كثيرًا وسائل التواصل، فما أسهل أن تعمل خيرًا عظيمًا مع أسرتك بمسماها العام من خلال تلك الوسائل تثقيفًا وتربيةً وتوجيهًا إيمانيًّا، فإن لك مثل أجورهم، فهي فرصة عظيمة لمن تأملها، فاجعل لك منهجية في ذلك ولو بدأت بفضائل الأعمال والأقوال وأرسلت إليهم كل يوم عملًا فاضلًا لكان ذلك في موازينك، واحرص على النصوص الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم واترك ما سواها.

الدرس التاسع: إن تلك الدعوة إلى هذا الدين القويم هي محاطة بحفظ الله عز وجل له؛ لأنه هو الذي أنزلها وهو الذي شرعها فهي محفوظة، بل ومزيدًا على ذلك الحفظ بأن شيئًا من الكون قد يتغير إذا أراد الله عز وجل ذلك فالبحر في عهد موسى صار يابسًا بأمر الله والنار التي طرح فيها إبراهيم صارت بردًا وسلامًا لا تحرق، والسكين التي سيذبح بها إسماعيل لم تذبح بأمر الله، والشمس وقفت ليوشع عليه السلام، والحوت لم يأكل يُونُسَ، فالله عز وجل حافظ دينه وعباده.

وهكذا قد تتغيَّر بعض المسلمات بأمر الله عز وجل، وهذا دليل كبير على أن هذا الدين هو الدين الحق المنزَّل من عند الله عز وجل.

أخي الكريم، إن دراسة السيرة مع تأمُّل دروسها وعبرها هي منهج للأمة جميعًا في جميع أحوالهم الشرعية والتربوية والاجتماعية والتجارية وغيرها في جميع أحوالهم في أن يسلكوا منهج نبيهم عليه الصلاة والسلام مستلهمين في ذلك ما يكون منهج حياة لهم، فهم بذلك يدرسون حياة المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإذا كانوا كذلك فإنه لا شك أن أحوالهم سيزول إشكالها، وإن إيجابياتهم ستكثر, وعندما يفعلون ذلك فإنما يربون عليه أولادهم وأحفادهم, وهكذا يكون العمل من الآباء والأمهات على أولادهم وأحفادهم وإن نزلوا، يكون صدقة جارية لهم يعلمونهم ويزكُّون أنفسهم. وما يدريك أخي الكريم لو أنك جمعت أولادك، ثم جعلت لهم درسًا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تأهَّلوا إلى أن يعلموا أولادهم، ثم أولادهم يعلمون أولادهم وهكذا وإن نزلوا، فيكون هذا العمل وقفًا لك وصدقةً جارية لك.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وأن يوصلنا إلى دار السلام بسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-06-2022, 09:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (5)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الخامسة من برنامج

(خاتم النبيين)


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة المرحلة السرية للدعوة في بداية الوحي، ثم بعدها الحديث عن الدعوة الجهرية، وكيف كان واقعهم ومواقفهم رضي الله عنهم، ونستكمل في حلقتنا هذه امتداد تلك الدعوة الجهرية النبوية، وما كان في طريقها من عقبات، فإن الجهر بالدعوة اتسع؛ حيث أسلم عدد من أفراد القبائل في مكة وغيرها، فاتسعت دائرة المسلمين، وقويت شوكتهم، وفي هذه الأثناء بدأت قريش في محاربة تلك الدعوة، ووضع العقبات لها، فسلكوا لذلك عدة أساليب:

فالأسلوب الأول: مما سلكته قريش في مواجهة تلك الدعوة التهم الباطلة، والسب، والشتم، فلم تتورع قريش عن إلصاق التهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، فحينما كانوا يسمونه بالصادق الأمين قبل البعثة، اتهموه بعدها بالجنون والسحر والكهانة، وفي هذا انقلاب للموازين البشرية لدى كفار قريش، فما زال صادقًا أمينًا عليه الصلاة والسلام، فلماذا يُرمى بالسحر والجنون وهو يتلو عليهم كلام الله عز وجل الذي يعرفونه بلغتهم وبلاغتهم؟ ذلك لأنه عاب آلهتهم، وأوضح ما هم عليه من الباطل، وإذا كان ذلك بالنبي عليه الصلاة والسلام فكذلك سيتهمون المؤمنين به؛ ولذلك قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 32]؛ لكن الله عز وجل تولى الدفاع عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وعن المؤمنين رضي الله عنهم من تهم هؤلاء الكافرين، وجعل الغلبة للمؤمنين، وأمضى أمره عز وجل ونصر نبيه والمؤمنين.

الأسلوب الثاني الذي واجهت به قريش الدعوة:السخرية والاستهزاء، فقد كان كفار قريش قد سلكوا سياسة السخرية والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين به، وفعلوا في ذلك الأفاعيل، وقالوا الأقاويل؛ ولكن الله عز وجل حافظ نبيه ودينه وعباده، فكل أقوالهم وأفعالهم قد رجعت عليهم بحمد الله عز وجل؛ فقد كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم مذممًا بدل محمد، وقد جاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد؟!))؛ رواه البخاري، وقال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطففين: 29، 30]، وكان أبو لهب وزوجته يضعون القذر والشوك في طريقه، وكان أبو لهب يتبعه في الأسواق ويكذبه، وأيضًا وضعوا سلا جزور بني فلان ودمها وفرثها عليه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، يستهزئون بنبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام، ولله الحكمة البالغة في ذلك؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالدعاء عليهم، وبيان الحق المنزل.

الأسلوب الثالث الذي واجهت به قريش الدعوة: التشويش على القرآن، وسبه وسب من أنزله؛ حيث قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وكان من حكمة الله عز وجل أن أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ [الإسراء: 110]، وذلك درءًا لسب المشركين للقرآن ومن أنزله، وكذلك عندما تنادوا فيما بينهم بعدم الإيمان بالقرآن، فقد قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [سبأ: 31]، ومن الغريب أن بعضهم يعلم أن القرآن حق، ومن أدلة ذلك ما قاله الوليد بن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن لقوله لحلاوة إلى آخر ما قال، وأيضًا كما قال عتبة بن ربيعة عندما سمع صدر سورة فصلت قال: والله ليس هذا بسحر، ولا كهانة، ولا شعر، فهم يعرفون أن هذا هو الحق؛ ولكنهم يعاندون، وعندما يسمعونه يتلى يدركون منه معاني عظيمة؛ ولكنهم لا يصرحون بها عنادًا أو كبرياء، حيث إن الله عز وجل لم يكتب لهم الهداية.


الأسلوب الرابع مما تواجه به قريش الدعوة: التحريض على النبي صلى الله عليه وسلم، واستعداء القبائل عليه وعلى المؤمنين به؛ ولذلك حاولوا مع عمه أبي طالب- وهو على دينهم- أن يكف ابن أخيه عن دعوته، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، كف عنهم أذاك، فإنهم يقولون ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها قولته المشهورة: ((يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه))، فتأثر أبو طالب واستعبر، ثم قال: اذهب، وقل ما أحببتَ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، وأما المؤمنون به فاستعدوا عليهم قبائلهم؛ فجعلوا يضايقونهم في أموالهم، ومعايشهم لأجل إيمانهم، وإسلامهم؛ بل ونالهم منهم بعض الأذى والتعذيب الجسدي أحيانًا، وما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتثبيتًا لعلمهم أن ذلك في سبيل الله عز وجل.

الأسلوب الخامس لقريش في مواجهة الدعوة: إنهم سلكوا مسلك الترغيب والترهيب، فعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم المال والجاه والملك، فقالوا: إن كنت تريد مالًا أعطيناك، أو مُلكًا ملكناك، أو جاهًا سودناك علينا، فلما فرغوا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فقال عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، اتركوا محمدًا وشأنه، فكلامه الذي سمعته ليس شعرًا ولا سحرًا ولا كهانة.

وكان هذا الترغيب يعد مسلكًا لقريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد مسلك الترهيب وهو إيذاؤهم للمؤمنين ومن معه، والتضييق عليهم، وربما تعذيبهم، خاصة إذا كانوا ليسوا من علية القوم، فثبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بتثبيت الله عز وجل لهم، وكان إيمانهم كالجبال الراسيات.

الأسلوب السادس في مواجهة قريش للدعوة: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تجاوزت قريش في عدوانها على النبي عليه الصلاة والسلام حتى فكروا في قتله ليرتاحوا منه؛ ولكن التدبير بيد الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع الملأ من قريش في الحجر، وتعاقدوا باللات والعزى لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فلما أخبرته فاطمة رضي الله عنها بذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((يا بنية، أرني وضوءًا)) فتوضأ، ثم دخل المسجد عليهم، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم على صدورهم، وعقروا في مجالسهم، ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، وقام على رؤوسهم، وقال: ((شاهت الوجوه))، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا.

هذهِ بعض الأساليب التي سلكتها قريش في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ ولكنها كلها باءت بالفشل الذريع، وهكذا عبر الأزمان نشاهد ونقرأ ونسمع أن الحق يعلو ولا يعلى عليه؛ لأن الحق مؤيد من السماء، فمن الذي لديه القدرة في مواجهة الرب العزيز الجليل القوي القادر؛ ولذلك قال الله عز وجل لأكلة الربا: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فكل من واجه الحق بالحرب والرد فنتيجته محسومة عاجلًا أو آجلًا بالخسران المبين، والهزيمة والسحق والبعد؛ ولهذا قال الله عز وجل عن الكفار في أموالهم: ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ﴾ [الأنفال: 36]، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون؛ لأن الله عز وجل هو المدبر، وهو الذي شرع هذا الدين، والخلق خلقه، والأمر أمره، فكيف يخرج شيء عن مراده، فيا ليت الأعداء يعلمون تلك الحقيقة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي على خطى توجيهات القرآن الكريم، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل حق التوكل أنه سينصره؛ لأنه هو الذي بعث، ولا يخرج شيء عن مراده؛ ولهذا كان في سكينة واطمئنان عندما كان في الغار؛ ليقينه الكامل أن الله عز وجل معه، وأن من عاش ذلك الشعور والاستشعار حال الضيق والضنك، فإن الأمر يتسع وينشرح في حقه، والواقع مليء من الشواهد على ذلك لمن آمن، وقوي إيمانه وتوكله، وبعد تلك الأساليب الكثيرة لقريش في مواجهة الدعوة وفشلها الفشل الذريع تضايق المسلمون منها؛ ولكنهم قلة لا يستطيعون حربًا على قريش، ولا مواجهة لها، فجاءت فكرة الهجرة إلى الحبشة، وهذا ما سنعرضه بمشيئة الله عز وجل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.


أما الدروس المستفادة مما سبق فهي كثيرة، ومنها:
الدرس الأول: إن كل عمل من الأعمال يعتريه بعض العقبات، سواءً كان عملًا دعويًّا أو تربويًّا، أو غير ذلك حتى في أعمال الدنيا، فهذه العقبات على صاحبها تذليلها ما أمكن، وليعلم الداعية إلى الله عز وجل أن تلك العقبات تحمل في طياتها الابتلاء له، وكثرة الخير والأجور، وأجره على قدر نصبه؛ ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل لاقى من العقبات الكؤود الشيء الكثير، وأصحابه كذلك فثبتوا على الحق؛ ولذلك وقفت قريش موقف السخرية والغمز واللمز، والسب والتشويش على القرآن، واستعداء القبائل، وغير ذلك، وهذه عقبات عسيرة، فالموقف تجاه ذلك كله هو الصبر والدعاء والاحتساب، وسلوك مسلك الحكمة في الدعوة، وسيجعل الله بعد عسر يسرًا.

الدرس الثاني: إن انقلاب الموازين هو خلل في التربية، وهذا شأن من زاغ قلبه أو قل إيمانه، وهذا أخذناه من قول قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق أمين، ثم لما أنذرهم انقلبت موازينهم فقالوا: ساحر كذاب، فعلى المسلم أن يلاحظ ذلك في نفسه، فيسير حيث سار الحق ووجد، ولا ينقلب ميزانه ضد الحق ولا لحظة واحدة بسبب ميول نفسي أو داعٍ شيطاني، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فليعمل على أن يكون ميزانه في تقييمه للأشياء هو القرآن والسنة.

الدرس الثالث: على الداعية إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة أنه إذا ناله شيء من السخرية أو الغمز واللمز ونحو ذلك، أن يعلم أن ذلك ليس أمرًا جديدًا، ولا بدعًا من القول، فقد قيل ذلك لصفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فتوطين النفس على ملاقاة مثل ذلك مطلب كبير ليكون زادًا للاستمرار وعدم التوقف؛ ولذلك استهزأت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسخروا منه وغمزوه وأصحابه وأذوهم؛ لكن كلا الفريقين يعلم في قرارة نفسه من صاحب الحق من الباطل، وإنك لتعجب من أحد الدعاة عندما يأتيه نزر يسير من الأذى أو السخرية، فتراه ضاق بذلك ذرعًا، وربما حجبه ذلك الموقف عن جهودٍ دعوية مماثلة، فيقال لهذا وأمثاله: لك بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدوة وأسوة، فاقرأ السيرة وتأمل، وربما كان ذلك ابتلاء لك.

الدرس الرابع: مشروعية تعظيم القرآن وإجلاله، ويدخل في ذلك دخولًا أوليًّا تلاوته، والعمل به، والتحاكم إليه، والتأدب بآدابه، والسير على توجيهاته، وذلك ضد عمل المشركين الذين كفروا بهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، مع أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه حق، كما قال ذلك الوليد بن المغيرة عندما سمع صدر سورة فصلت، وأيضًا قال مثل ذلك عتبة بن ربيعة، فهم يعلمون ذلك؛ لكن الله عز وجل لم يرد لهم الإيمان، فجعل في آذانهم وقرًا، وعلى قلوبهم غلافًا عن قبوله، ولو نظرنا إلى واقعنا لعلمنا أنهم عرب خلص بلغاء كبار، وقد جاء القرآن بما يتوافق مع لغتهم وبلغتهم، فإنكارهم إنكار عناد لا اقتناع، فعلى المسلم عندما يعلم ذلك أن يسأل ربه عز وجل الهداية والثبات عليها، فإن الله عز وجل يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].

الدرس الخامس: إن الله عز وجل حفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من كيد الكفار، وذلك بكفالة عمه أبي طالب له مع أنه كافر وعلى ملتهم؛ ولكن الله عز وجل عندما بعث محمدًا عليه الصلاة والسلام بالحق فقد هيَّأ من يدافع عنه، وهكذا يحفظ الله عز وجل أولياءه والدعاة إليه من كيد المبطلين، وإن نالهم ما نالهم من الأذى، فإن ذلك في موازين أعمالهم، فحفظه لهم في ثباتهم، واستمرارهم وصبرهم على التحمل للدعوة، ونصبها وتعبها، وما فيها، كل ذلك وأمثاله من حفظ الله تعالى لأوليائه والدعاة إليه، فليبشروا خيرًا، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

الدرس السادس: إن الجزاء من جنس العمل، فكما يعمل الإنسان فإنه يجازى عليه بالمثل؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، ومأخذ ذلك أن قريشًا عندما فكروا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك، انتظروا خروجه، فتوضأ عليه الصلاة والسلام، وخرج إليهم حول الكعبة، فألقي عليهم النوم، فحصبهم عليه الصلاة والسلام، بالحصباء فأصابتهم، فما أصابت أحدًا منهم إلا وقتل في معركة بدر كافرًا، فهم لما عزموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم جازاهم الله تعالى بالمثل، حيث قتلوا في معركة بدر، وهذه سنة إلهية، وفطرة مركوزة؛ أن الجزاء من جنس العمل، فلينظر المسلم في أعماله وأقواله كلها، وليعلم تلك السنة الإلهية، وأنه سيُجازى بمثل ما عمل، فلو تأملنا ذلك كثيرًا لتركنا كثيرًا من الأقوال السيئة، ولأقبلنا على كثير من الأعمال الحسنة؛ تحسبًا للثواب، وهروبًا من العقاب.

الدرس السابع: إن مما يلاقيه المسلم الجديد أو كذلك الداعية إلى الله عز وجل من تعب أو نصب ونحوهما، فهو مأجور عليه بقدر نصبه وتعبه، فعليه أن يتلذذ بالأجر المكتوب له؛ ليزيل الحرج الذي يصيبه، ومأخذ هذا من السيرة أن قريشًا آذت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحاصرتهم اجتماعيًّا وتجاريًّا، وآذتهم لأجل إسلامهم، وأيضًا لأجل دعوتهم الآخرين إلى الإسلام، فكان موقف الصحابة رضي الله عنهم الثبات والصبر، والتمشي مع التوجيهات النبوية، فهم تناسوا مصابهم في نصبهم وتعبهم بما يحصل لهم من الأجور العظيمة عليه، وهذا شأن المسلم في مثل ذلك.

الدرس الثامن: المؤمن الحق لا يتنازل عن شيء من أمور دينه لأجل دنيا حقيرة، فهو ثابت على مبدئه الإيماني، ومأخذ ذلك أن قريشًا عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والمال والجاه على أن يتنازل عما هو فيه من الدعوة، فلم يقبل بذلك، فالتنازل عن أمور الدين للدنيا هو من التزعزع والخلل التربوي والإيماني، والمؤمن حيال ذلك يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).

الدرس التاسع: ليعلم الداعية إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة أن الحق معه، وإن لم يستجب له ذلك المدعو، أو حصل منه عناد أو مكابرة أو أذى، وهذا مما يزيده ثباتًا على الحق والدعوة إليه، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دعوتهم لكفار قريش بذلوا مساعي عظيمة، فلم يستجب كثير من هؤلاء مع علمهم أنه الحق، فلا ينبغي للداعية أن يتزعزع إذا لم يستجب له، وقد ورد في الأثر الطويل أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، الحديث بطوله متفق عليه، وفي ذلك تعزيز للدعاة إلى الخير إذا كانوا في دعوتهم على مراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن على الداعية أن يراجع طريقته وأسلوبه، ويعرضهما على الوحيين.
الدرس العاشر: إن مما يعرف في الأذهان أن المخلوق الضعيف قد لا يقاوم المخلوق القوي وكلاهما مخلوق، فكيف إذا أراد المخلوق أن يعاند ويكابر في رد أمر الخالق عز وجل؛ ولذلك كفار قريش عاندوا وكابروا، وردُّوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وقاتلوه، فهم لا طاقة لهم في حرب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومن شواهد ذلك ما توعد الله به أكلة الربا فقال: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فليس أمام الإنسان عمومًا إلا التسليم والإذعان لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإن خالف ذلك فهو خاسر ومغلوبٌ لا محالة، فإدراك هذا المعنى يجعل الإنسان خاضعًا لأمر الله عز وجل؛ لكن من أراد الله عز وجل إظلاله فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

أخي الكريم، إن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تزيدك علمًا وثباتًا، وأيضًا كذلك ترسم لك منهجًا قويمًا، وتجعلك مطمئنًّا في سيرك إلى الله عز وجل والدار الآخرة، حيث إنك تقرأ تلك المواقف، وتستنتج منها الدروس والأحكام، فهي جمعت بين النواحي التربوية والإيمانية والاجتماعية والعلمية وغيرها، وهذا مما يجعلها الرسالة الحقة من الله عز وجل، فما أجمل أن يكون لنا في بيوتنا ومع أولادنا دروسًا في هذا الجانب! إن هذا مما يشرح الصدور، وينور القلوب، ويصحح التصورات، ويضبط الموازين، فكثير من مشاكل العصر حلها يكمن في دراسة هذه السيرة.

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وأوصلنا إلى دار السلام بسلام، واجعلنا ممن يؤتى الحكمة يا حي يا قيوم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 23-06-2022, 09:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (6)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة السادسة من برنامج (خاتم النبيين)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم إخواني وأخواتي الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة امتدادَ الدعوة الجهرية، وكيف قابلت قريش تلك الدعوة، فقد عمِلت على أساليب كثيرة لمواجهة هذه الدعوة وإحباطها، لكن الله عز وجل أراد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولما تضايق المسلمون من مواقف كفار قريش، عزموا على الهجرة إلى الحبشة، فإن الحبشة تقع في الضفة الغربية للبحر الأحمر، وتُعرف اليوم بإثيوبيا وهي في القارة الإفريقية، وكان الأحباش فيها يدينون بالنصرانية، ويعبدون المسيح، وكانت تلك الهجرة في السنة الخامسة كما يرويه الواقدي، ونسبه ابن حجر إلى أهل السِّيَرِ وقيل في تاريخها غير ذلك، وعند التساؤل عن أسباب هجرة المسلمين إلى الحبشة، نقول: يكمن ذلك في عدة أسباب؛ منها:
السبب الأول: كثرة المسلمين بعد الجهر بالدعوة، فحين صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، استجاب لها أعداد كثيرة من أهل مكة، وبدأ الناس يتحدثون عن الإسلام، فأغضب ذلك قريشًا، وثاروا على مَن آمَنَ يعذبونهم ويسجنونهم، كما يقوله الزهري، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمن آمن: تفرقوا في الأرض، وأشار إلى أرض الحبشة، فكانت تلك الإجراءات من أسباب هجرتهم إلى الحبشة.

السبب الثاني في هجرة المسلمين إلى الحبشة: أن الحبشة دار أمنٍ وعدل، وفيها حاكم عادل، فرغِب المسلمون بذلك ليسلَموا بأنفسهم ودينهم، بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم عنده أحد، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا))، ولم تفرق قريش بين كبير ولا صغير، حتى أبي بكر، وهو مَن هو في قومه، أراد الهجرة إلى الحبشة لما ضايقته قريش، ولما سار قليلًا، لقيه ابن الدغنة، فقال: مثلك لا يخرج يا أبا بكر، فأدخله في جواره، ثم رجع إلى مكة.

السبب الثالث في هجرة المسلمين إلى الحبشة: الخشية من الافتتان في الدين، فلم تكن الهجرة لمجرد الأذى فقط، لكن كان الصحابة رضي الله عنهم وهم على أول إسلامهم يخشون من قومهم أن يفتنوهم عن دينهم؛ لأنهم حديثو عهد بإسلام؛ ولذلك قال مصعب بن عمير رضي الله عنه لأمه: "أفر بديني أن تفتنوني"، وكانوا تعرضوا لفتنة شديدة، وفي حديث عروة: "وكانت فتنة شديدة على المؤمنين".

السبب الرابع في هجرة المسلمين إلى الحبشة: نشر الدعوة في خارج مكة، فكما أنهم رضي الله عنهم فرُّوا خوفًا من الافتتان وخشية الأذى، فهم أيضًا قصدوا نشر دين الله تعالى، والمتأمل في مجريات أحداث الهجرة يرى أن المهاجرين كانوا يتحدثون عن الإسلام منذ وطئت أقدامهم أرضَ الحبشة، فهم دعَوا ملك الحبشة إلى الإسلام، وقرؤوا عليه القرآن، وحاوروه في عيسى، وكانت ديانة أهل الحبشة آنذاك هي النصرانية، بل في حديث أم سلمة الطويل أن جعفر رضي الله عنه قرأ على النجاشي صدر سورة مريم، فتأثر النجاشيُّ وبكى، وامتلأت لحيته بالدموع، وبكى أساقفته، وقال النجاشي: ((إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة))، ثم أمَّنهم في الحبشة، وبعدها آمن النجاشي بالرسالة، ودخل في الإسلام، وكان إسلامه مكسبًا كبيرًا للدعوة، ومؤشرًا عظيمًا في أرض الحبشة في دعوتهم للإسلام، هذه جملة من الأسباب جعلت المؤمنين المستضعفين في مكة يهاجرون إلى الحبشة، لكن يتبادر سؤال؛ وهو: لماذا الهجرة كانت إلى الحبشة؟ ألم يكن شيء أقرب وأنسب منها؟ ويرجع ذلك - والله أعلم - إلى أسباب عدة:
منها أولًا: أن ملكها النجاشيَّ رجل عادل لا يُظلم عنده أحد، والمهاجرون بحاجة إلى عدل يقف أمام ظلم قريش، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال بعضهم: إن عدل النجاشي وصل إلى حدِّ أن قريش إذا تخاصموا، تحاكموا إليه.

السبب الثاني من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: صلاح النجاشي، وقد شهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في رواية البخاري، بل كان صلاحه مشهورًا، فقد تأثر بالقرآن لمَّا سمعه، وبكى بكاءً كثيرًا، ويواسي المهاجرين ويحميهم، وقد جاء إسلامه بعد ذلك، فصلاحه قبل إسلامه هو برقَّة قلبه وعدله ورحمته، والوقوف مع المظلوم، ونحو ذلك، ثم أسلم فاستمر صلاحه، حتى لقيَ ربه رحمه الله.

ثالثًا: من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة أن الحبشة تعتبر متجرًا لقريش، وتربِطها بمكة عِلاقات تجارِية، وقد أكد ذلك الإمام الطبري، فقال: "هي متجر حسن لقريش، وقد كانت قريش ترحل إليها في الشتاء، فهي دفء لهم ومصدر رزق".

السبب الرابع من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: أن الحبشة ليست تحت ولاية قريش، وكانت ديانتهم النصرانية، بينما ديانة قريش الوثنية، فالنصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وقد بشر عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب كتاب، فكانوا أقرب من غيرهم إلى المهاجرين؛ هذه جملة من الأسباب جعلت الحبشة خيارًا أوليًّا لمكان الهجرة.

وقد خرجوا من مكة إلى الحبشة سرًّا من قريش؛ حتى لا يفتنوهم، ولا يردوهم، وقد سارت قريش في إثرهم لردهم، ولكنهم لم يدركوهم، وكان المهاجرون حينها نحوًا من اثني عشر رجلًا، وخمس نسوة، ولكن كانت هجرة الحبشة الأولى أول هجرة إلى الله تعالى، وكانت من مناقب مَن هاجر، ولقد كانت الهجرة إلى الحبشة هجرتين.

الأولى: خرجوا متسللين سرًّا من قريش، منهم الراكب، ومنهم الماشي، فوصلوا البحر، فركبوا مع سفينة التجارة، فوصلوا إلى الحبشة، وأمِنوا وارتاحوا وعبدوا الله تعالى باطمئنان وسكينة، وقد مكثوا في هجرتهم تلك الأولى ثلاثة أشهر، ثم بلغهم أن أهل مكة أسلموا فرجعوا إلى مكة، فلما قربوا منها، بلغهم كذب ذلك الخبر، فرأى بعضهم الرجوع إلى الحبشة، ورأى آخرون الدخول إلى مكة بجوار، أو مستخفيًا، وبعد خروجهم إلى الهجرة الأولى أسلم حمزة، وأسلم أيضًا عمر رضي الله عنهما، وكان لإسلام هذين الرجلين العظيمين أثرُه في رجوع هؤلاء من الحبشة في الهجرة الأولى.

الهجرة الثانية: وقد كان سببها أنهم لما رجعوا من الهجرة الأولى، وجدوا أذًى شديدًا من أقوامهم وعشائرهم، فأذِن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد كان عددهم في هذه الهجرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلًا، وسبع عشرة امرأة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم أناس، وبقيَ آخرون، ولما مات النجاشي، نعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وصلى عليه، وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مات اليوم رجل صالح فصلوا على أخيكم أصْحَمَة))؛ [رواه البخاري]، وأصحمة هو اسم النجاشي، وكانت وفاته رحمه الله في السنة التاسعة من الهجرة، وقد حكت أم سلمة رضي الله عنها في حديثها الطويل حالتهم هناك، وكيف لحقتهم قريش، وماذا كان واقع النجاشي مع قريش، وهو حديث طويل ذكره أهل السير، فليُرجع إليه، ففيه دروس عظيمة وعِبر قويمة، مع انتصار الحق على الباطل، وكذلك الحوار الذي جرى بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي؛ ففي هذين الحديثين أسباب للثبات على الحق، ومعرفة للدين، وكان من نتائج الهجرتين مخرجات عظيمة.

أولها: أن الصحابة رضي الله عنهم عبدوا ربهم في الحبشة بطمأنينة وسكينة وسلام، وثاني المخرجات من الهجرة إلى الحبشة: أن الدعوة خرجت من مكة إلى غيرها كالحبشة؛ فامتدت واتسعت، وثالث المخرجات: إسلام النجاشي، وقد أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب، ورابع المخرجات: إسلام من أسلم من أهل الحبشة، إلى غير ذلك من المخرجات والمكاسب، وبعد تلك الجولة المختصرة للهجرتين إلى الحبشة، جاء الحصار للمسلمين في شِعب بني هاشم، وهذا ما سنطرحه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس المستفادة من دراسة تلك الهجرتين فهي كثيرة ومنها:
الدرس الأول: أن العدل قيمة من القيم الإيجابية، ومعها تنتظم عدد من الخِلال والصفات الطيبة؛ ولذلك لما اتصف النجاشي رحمه الله بالعدل وعدم الظلم، أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليه، فعلينا جميعًا التمسك بتلك الصفة مع أولادنا وزوجاتنا ومع الآخرين في معاملاتنا، فما قامت قائمة لأحد إلا بالعدل، بخلاف الظالم وغير العادل، فهو ممحوق البركة، وسيئ الخصال.

الدرس الثاني: يتعين على المسلم أن يكون خائفًا من الزيغ وعدم الثبات، خصوصًا زمن الفتن، وليعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويدعو دائمًا بالثبات على دين الله في الدنيا والآخرة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أسلموا بمكة، خشوا على أنفسهم من الفتنة عن الدين، ولذلك هاجروا إلى الحبشة؛ فرارًا بدينهم، بعدما أشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا لما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لحذيفة، جاءه عمر يسأله: هل هو منهم؟ وهو عمر فكيف بمن دونه؟ فعلى المسلم أن يكون مكثرًا من الطاعات والخير؛ حتى تكون تلك الطاعات مثبتات له على الحق بإذن الله تعالى، ولا يغتر، ولا يعجب بعمله، حتى تسلم له حسناته.

الدرس الثالث: قد يعمل المسلم العملَ الواحد، ويحقق فيه أهدافًا ونيات عديدة، وهذا توفيق من الله تعالى لبعض عباده، وبركة تكون عليهم؛ فهؤلاء الصحابة جمعوا عدة أهداف عندما هاجروا إلى الحبشة؛ فهم جمعوا الفرار من الأذى، وأيضًا خشية الافتتان عن الدين، وأيضًا للدعوة إلى الله عز وجل، وكذلك ليحصل لهم الأمن والطمأنينة والسكينة، فهذه أهداف عدة في عمل واحد؛ وهو الهجرة، فيمكن للمسلم أن يعمل عدة عبادات في آن واحد؛ كمن يمشي إلى الصلاة وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الله تعالى، وربما أيضًا كان صائمًا، فهذه عبادات متعددة في آن واحد، وهذا الجانب يسمى تجارة العلماء والعباد، فمن كثر علمه وعبادته وإدراكه، أدرك كثيرًا من الأجور في آن واحد، وهذا كثير عند التأمل، فتأمل هذا في ذهابك وإيابك، ومناسباتك ومعاملاتك مع الآخرين.

الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم في هجرتهم خائفين وجِلين، وغرباء فقراء، وفي أرض ليست أرضهم، وعند أُناس ليسوا من أقوامهم، وعلى غير دينهم أيضًا، ومع تلك العوامل المؤثرة
كانوا رضي الله عنهم حريصين على الدعوة أشدَّ الحرص، وهكذا شأن المسلم أينما حلَّ نفع، ولا ينبغي أن تكون العوامل المانعة نسبيًّا عائقًا له عن الدعوة إلى الله تعالى، فيا أخي الكريم في مناسباتك وذهابك وإيابك واختلاطك بالآخرين، اجعل لك بصمة تربوية أو إيمانية أو اجتماعية أو غيرها على الآخرين، فما أحوجنا لذلك! وأوصيك بألَّا تحضُرَ مجلسًا من المجالس إلا ويكون لك فيه غرس وصدقة جارية، ودلالة على الخير، ولو بكلمة واحدة.

الدرس الخامس: في أحداث الهجرة تظهر جليًّا شفقة الراعي على الرعية، وهذه الشفقة قد يصحبها الدعاء لهم، والسؤال عنهم، ونحو ذلك، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُشفق على المهاجرين، ويسأل عنهم القادمين من أرض الحبشة، ويتوجس أخبارهم، وهذا من أهم الروابط بين الراعي والرعية.

الدرس السادس: أن الله تعالى يحفظ أولياءه وعباده المؤمنين من كيد الكائدين، فهؤلاء الصحابة هاجروا ووصلوا إلى الحبشة، واطمأنوا وسكنوا وأمِنوا على أنفسهم بحفظ الله تعالى لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((احفظ الله يحفظك، ومن توكل على الله، كفاه، ومن استعان بهِ، أعانه))، فالله عز وجل مع أوليائه يحفظهم وينصرهم ويسددهم، ويعلم حالهم، فاستشعار ذلك من المثبتات على الدين.

الدرس السابع: أهمية الشورى والاستشارة والتشاور في كثير من الأمور الجماعية والفردية؛ فإن استشارتك للآخرين هي كسب لعدة عقول في قضية واحدة، وهذا لا شك أنه سبب نجاح وتسديد، فالصحابة المهاجرون رضي الله عنهم عندما طلب النجاشي حضورهم لم يحضروا مباشرة، وإنما تشاوروا واستشاروا فيما بينهم، وظهر خلاصة عقولهم، فاستشارتك لمن تراه مناسبًا في كثير من أمورك هي من أسباب نجاحك، وقد ترى بعقلك الشيء حسنًا، لكنك عندما تستشير قد تظهر لك أمور لم تكن في حُسبانك؛ فاستثمر عقول الآخرين المناسبين باستشارتهم، ومِثلُ ذلك تلك السُّنَّةِ شبه المهجورة عند بعض الناس؛ وهي صلاة الاستخارة، فمن استشار واستخار في أموره، فهو موفَّق ومسدد، بخلاف من استقل برأيه بلا استشارة ولا استخارة، فقد يندم أو قد يحقق هدفه، لكنه يفوته كثير من المصالح كان يجهلها، والواقع شاهد بذلك.

الدرس الثامن: إن من الواجب على المسلم أن يلتمس رضا الله تعالى، ولو أسْخَطَ الناسَ، ما دام يدعو بالحكمة والآداب المرعية، ولذلك المهاجرون ذكروا للنجاشي الحقَّ الذي يرضي الله عز وجل، ولم ينظروا إلى رضا النجاشي، مع أنه كان حينها على النصرانية، ولذلك كانت النتيجة أن رضي الله عنهم، وأرضى عنهم النجاشي، فاحذر أن تسخط الله تعالى برضا الناس؛ ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس، رضِيَ الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس))؛ [صححه الألباني]، فالقضية محسومة، فاتبع رضا الله عز وجل تنجح في جميع أمورك، لكن لتكن تلك التعاملات بأدب جمٍّ، واحترام متبادل، ومقال رصين، وقصد لرضا الله عز وجل.

الدرس التاسع: إذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ أسبابه وطرقه؛ ولذلك لما أراد الله تعالى إسلام النجاشي، هيأ السبب لذلك، فقدَّر هجرة المهاجرين ولقاءهم بالنجاشي، ومحاورتهم له، ونحو ذلك، فعندما يقع لك أي أمر من الأمور، فلا تجزَع وتحزن، ولو كنت تكرهه، فقد يكون سببًا لحصول خير لك وأنت لا تعلم؛ فكن متفائلًا، وانظر إلى الجوانب الإيجابية في حصول ما تكرهه، فإن ذلك يخفف عنك وطأته، فقد يريد الله تعالى لك تكفير سيئاتك، فيصيبك بالمرض، فانظر إلى ذلك المرض بالمنظار الإيجابي، وهو أنه تكفير للسيئات، فجعل الله تعالى المرض سببًا للتكفير، فإن هذا المسلك في جميع المصائب التي تصيب الإنسان يخفف وطأتها عليه، وأيضًا يسليه بخلاف من ينظر إلى السلبية فقط في ذلك المصاب، فإنه يزداد حزنه حزنًا، وضيقه ضًيقا، وهمه همًّا، ويبدأ معه الشيطان بوساوسه.

الدرس العاشر: أن من عمِل بحقل الدعوة فقد يجد نَصَبًا وتعبًا، ويبذل جهدًا، بل وقد يجد أحيانًا عقبات من الآخرين؛ فإنه مأجور عليه بقدر ذلك، ومأخذ هذا أن المهاجرين رضي الله عنهم لقوا ما لقوا من المتاعب في خروجهم إلى الحبشة على خوف ووجَلٍ من قريش، ولكن الله تعالى يسر أمرهم وسلمهم، وفي قدومهم من الحبشة كذلك واجهوا شيئًا من ذلك، لكنهم ثبتوا بتثبيت الله تبارك وتعالى لهم، وحُفظوا بحفظ الله عز وجل لهم، فعلى الداعية أن يذلل العقبات، وليعلم بيقين أنه مأجور بقدر نصبه؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((أجرك على قدر نصبك))، ولماذا نقول ذلك؟ لأن الداعية عندما يدعو إلى ربه إنما يملأ ميزانه بالحسنات، ويجعل له أوقافًا معنوية في الدنيا يجري له أجرها، أرأيت إذا علَّمت أحدًا عملًا فاضلًا من الأعمال، فهذا الشخص المدلول على الخير هو وقف لك، ما دام يعمل بما دللته عليه؟ ولو تأملنا ذلك كثيرًا، لأسرعنا إلى تعليم الآخرين ذلك الخير، وإنني أقترح عليك - أخي الكريم - مقترحًا ثمينًا؛ وهو أن تجمع صغار أسرتك بمسماها العام أو بمسماها الخاص أو صغار الجيران، ولو يومًا في الأسبوع لنصف ساعة، فتعقد لهم ذلك المجلس، فتدلهم على عمل فاضل، وعلى آداب يحتاجونها، وقد يصححون عليك بعض الآيات من القرآن، مع قصة يستخرجون منها الدروس والعبر، ولا يمنع أن يصحب ذلك شيء من المأكول أو المشروب الخفيف، فإنك من خلال ذلك البرنامج جعلت هؤلاء وقفًا، ولن ينسَوه بعد ذلك، وربما تسلسل في أولادهم وأحفادهم، وهكذا كان المهاجرون والأنصار يعلِّمون أولادهم وأهاليهم وعشيرتهم، فما أجمل تلك اللقاءات الإيمانية؛ تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أصحابها فيمن عنده!

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واغفر لنا ذنوبنا وارحمنا يا كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23-06-2022, 09:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (7)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة السابعة من برنامج (خاتم النبيين)

الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلم على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم إخواني وأخواتي الكرام في برنامجكم خاتم النبيين.

وقد سبق معنا في الحلقة السابقة الكلام عن الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، وكيف هاجروا، وإعدادهم وواقعهم هناك، وآثارهم، والدروس المستفادة من ذلك، ونحن الآن نتحدث عن الحصار الذي أقامته قريش لصدِّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد استاءت قريش من انتشار رقعة الإسلام والدعوة، وكثرة المسلمين، وأخَذَ الإسلام يفشو في القبائل، عند ذلك اجتمعوا وعزموا على أن يكتُبوا كتابًا يتعاقدون فيه على مقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب مقاطعةً متنوعة؛ فهي اجتماعية فلا يناكحونهم، وأيضًا مقاطعة اقتصادية فلا يبيعونهم ولا يبتعون منهم، وأيضًا يقاطعونهم مقاطعة نفسية فلا يُؤونهم، حتى يسلِّموا لهم النبي صلى الله عليه وسلم لقتله، فلما علِم أبو طالب بذلك جَمَعَ بني هاشم في شِعبه، وعرض عليهم ما قالته قريش وكتبته عن بني هاشم وعن ابن أخيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على أن يحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل أذية، وأن يكون معهم في شِعبهم، وكان تاريخ ذلك كما يقول الواقدي مع هلال المحرم سنة سبع من البعثة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات، ولكن خرج من بني هاشم أبو لهبٍ، وانضمَّ إلى قريش، واشتد ذلك الحصار على بني هاشم في الشِّعب، فكان الطعام لا يصل إليهم إلا خُفية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الشِّعب يدعو قومه، ويفقههم في دين الله تعالى.

وفي مدة الحصار وُلد حَبْرُ الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ومكثوا في الشِّعب ثلاث سنين، ولم يكن كفار قريش متفقين جميعًا على ذلك الحصار الظالم؛ فهم مختلفون، ولذلك تلاوم رجال من قريش في ذلك، فخرج بعض كفار قريش، ومنهم المُطعم بن عَدي، وعدي بن قيس، ورجال معهم، فحملوا السلاح، ثم خرجوا إلى بني هاشم في الشِّعْب، وفكُّوا حصارهم بعد تلك السنوات الثلاث؛ إذ إن الحصار لا يُرضي هؤلاء الرجال، فعَرَفَتْ قريش أن هؤلاء الرجال سيحمون بني هاشم وبني عبدالمطلب؛ ولذلك فكوا الحصار، ومزقوا الصحيفة المكتوبة للمقاطعة، فخرج المسلمون من الحصار في السنة العاشرة من البعثة، وفي تلك السنة اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحصار مصيبتان؛ هما: وفاة أبي طالب، ثم بعد ثلاثة أيام من ذلك وفاة خديجة رضي الله عنها زوجته، وكان مشهد وفاة أبي طالب مشهدًا عظيمًا، فيه الدرس والعِبرة؛ فلما حضرته الوفاة جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((يا عمِّ، قلْ لا إله إلا الله؛ كلمة أحاجُّ لك بها يوم القيامة))، وكان بجوار أبي طالب أبو جهلٍ وعبدالله بن أمية، فقالا له: أترغب عن دين عبدالمطلب؟ وفي رواية لمسلم أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا تعيُّرُني قريش بها؛ يقولون: حمله عليها الجَزَعُ، لأقررتُ لك بها؛ أي: بالشهادة))؛ [رواه مسلم]، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقد تتابعت المصائب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأولها الحصار الظالم، ثم وفاة أبي طالب الذي كان يدافع عنه، ثم وفاة زوجته خديجة التي كانت تؤازره وتواسيه؛ وحيث اجتمعت تلك المصائب، سمَّى بعضهم ذلك العام بعامِ الحزن، واعترض على تلك التسمية آخرون من أهل السير؛ فقد كان أبو طالب سندًا خارجيًّا للدعوة، وكانت خديجة سندًا داخليًّا بعد الله عز وجل، فلما مات أبو طالب آذت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تؤذيه قبل ذلك، ومن ذلك كان وضْعُ سلا الجزور على رأسه عليه الصلاة والسلام وهو ساجد، وأيضًا خَنْق عقبة بن أبي مُعيط له خنقًا شديدًا، وكذلك عزم أبي جهل على أن يطَأ عنقه، كل ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، كما نص على ذلك ابن كثير رحمه الله، ثم بعد ذلك الأذى المتتابع من قريش، فكَّر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يكون أنسب من مكان قريش؛ وهي مكة، فاتجه عليه الصلاة والسلام إلى ثقيف في الطائف، وليس معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وذلك سنة عشر من البعثة، في شهر شوال، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الطائف، وقابل وجهاءها وكبراءها، ودعاهم إلى الله عز وجل، فلم يستجِبْ إليه أحد منهم، بل أخرجوه منها، ورمَوه بالحجارة عليه الصلاة والسلام، حتى إن رجليه لَتُدْمَيان، وزيد بن حارثة يقيه من الحجارة بنفسه، وشُج رأسه صلى الله عليه وسلم شجاجًا، فانصرف عليه الصلاة والسلام إلى مكةَ، وهو محزون ومهموم، قال: ((ولم أستفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب))، وقرن الثعالب هذا قيل: هو قرن المنازل، كما يقوله القاضي عياض، وقال آخرون بأنه جبل قرب منًى، وقال بعضهم: هو جبل قرب عرفات، قال: ((فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمِع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت، فقال ملك الجبال: يا محمد، إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بأمته: بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ [رواه البخاري]، ولم يسلم من أهل الطائف إلا رجل واحد، يقال له: عداس، وأيضًا في رجوعه جلس النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة في جوف الليل، فسمع قراءته نفر من الجن، وكانوا سبعة من جن نصيبين، فآمنوا به، وأنذروا قومهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29].

ذكر ذلك ابن اسحاق وابن سعد وابن القيم، وقال آخرون من أهل السير بأن ذلك السماع للجن كان في ابتداء المبعَث، وقيل بأن الحادثة متعددة هنا وهناك، والله أعلم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ، بعث عبدالله بن أُريقط إلى الأقدس بن شريق ليجيره في دخول مكة، فاعتذر بأنه حليف لقريش، ثم أرسل إلى سهيل بن عَمرو ليجيره، فاعتذر بأن بني عامر لا تجير على بني كعب، فأرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره، فأجابه إلى ذلك، وأذِن له بدخول مكة بجواره، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح المطعم لبِس السلاحَ هو وأولاده الستة، وذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فجعله يطوف بها وهو وأولاده حرس له، فأقبل أبو سفيان، فقال: هل أجرتَه؟ قال: نعم، قال: إذًا لا نخفر ذمَّتك، وقد حفِظ النبي صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي إجارته تلك؛ ففي معركة بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنَى - وهم من قتلى الكفار يوم بدر - لتركتهم له))؛ [رواه البخاري].


وبعد تلك الجولة المختصرة في حصار الشِّعْب لبني هاشم، ووفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وماذا كان الواقع هناك، ورجوعه إلى مكة، جاءت قصة الإسراء والمعراج، وهذا ما سنعرضه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس المستفادة من هذا العرض، فكثيرة؛ ومنها:
الدرس الأول: على الداعية إلى الله تبارك وتعالى أن يصبر في دعوته فيما يلاقي من عقبات، وأن يذللها ويسليَ نفسه حيالها بالأجر عليها، وأنها قد تكون أحيانًا ابتلاء له في صبره وإيمانه، ومأخذ هذا من السيرة؛ حيث بقاء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في الشِّعْب وحصارهم فيه ثلاث سنين، فصبروا واستمروا في دعوتهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يقلل ذلك الحصار من عزائمهم، فجعلوه فرصة يتعلم بعضهم من بعض.

الدرس الثاني: إن الظلم والظالمين لهم نهاية خاسرة وخاسئة، أما الصلاح والصالحون، فنهايتهم مشرقة ومشرفة إذا صبروا على إيمانهم وصلاحهم وإصلاحهم؛ وذلك أن قريشًا عندما حاصرت المسلمين في الشِّعْب، كانت نهاية قريش خاسرةً، فلم يستفيدوا شيئًا من الحصار، بل انتشر الإسلام بين القبائل، ودخل الناس في الدين أفواجًا، أما المؤمنون بعد فك الحصار عنهم، فقد استعادوا قوتهم، ودعَوا إلى دين الله تبارك وتعالى، وكانوا هم المفلحين الفائزين، بخلاف كفار قريش، فهم الخاسرون الخاسئون.

الدرس الثالث: إن الجليس والصاحب والصديق له تأثيره الواضح على صديقه وجليسه؛ ولذلك قالوا: الصاحب ساحب؛ فهل سيكون مثله في الصلاح والفساد؟ نعم، إلا من رحم الله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))، ومأخذ هذا من السيرة، عندما حضرت أبا طالب الوفاةُ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عم، قل لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها عند الله))، فجاءه أبو جهل، وقال: أترغب عن دين عبدالمطلب، فأبى أن يقولها فمات على الكفر، انظر إلى تأثير الجليس مع أن القضية كفر وإيمان، وجنة ونار، فتأمل في أصدقائك وجلسائك، هل أنت مستفيد منهم صلاحًا وإصلاحًا أم غير ذلك، ولا تجامل على حساب دينك، فمن لم تستفِدْ منه، فابعَد عنه؛ لتسلم ويسلم أيضًا قلبُك.

الدرس الرابع: الهداية نوعان؛ الأولى: هداية دلالة وإرشاد؛ وهي التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، وهي التي بيد البشر، والثانية: هداية توفيق وإلهام، وهي بيد الله تعالى وحده، فعلينا ببذل الهداية الأولى وهي الدلالة والإرشاد مع أولادنا وأهلنا وجيراننا والآخرين، وعلينا سؤال الله تعالى هداية التوفيق لنا ولهم، ولقد بُذلت دلالة الإرشاد لأبي طالب، ولكن الله تعالى لم يرِدْ له هداية التوفيق والإلهام.

الدرس الخامس: ليس على المسلم في دعوته للآخرين إلا البلاغ؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وهذا رحمة من الله تعالى لعباده، فحرِّك لسانك بدعوة الآخرين، وأما استجابتهم، فهي بيد الله تعالى وحده؛ ولهذا بلَّغ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة لأهل مكة والطائف، بل وبلَّغها للعالمين من الجن والإنس، وأما القَبول والاستجابة، فهذا توفيق بيد الله تعالى يعطيه من يشاء، فمن لم يستجب لدعوة الداعي، فليعلم أنه محروم، فلْيَبْكِ على ذلك الحرمان، وليسأل الله تعالى بصدق أن يرزقَهُ تلك الهدايةَ، فإن لم يعطِه إياها، فهو على خطر عظيم، فأبو طالب حُرم إياها، فكان من أهل النار، والعياذ بالله.

الدرس السادس: رد الجميل صفة جميلة، وخَصلة كريمة، فإذا عمِل أحد معك عملًا جميلًا، فحاول التفاعل بردِّ هذا الجميل عليه بأجملَ منه، فهذا من الخصال الطيبة، والخُلُق الحسن، ولا تكن في حالة من الجمود، فيُحسن الناس إليك، وتنسى إحسانهم، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ الفعل الجميل من أبي طالب؛ حيث دافع عنه أبو طالب، وقام على حمايته، فردَّ له الجميل، فحرَص على ألَّا يموت إلا على الإسلام، فحاول معه بالشهادة، ولكن جليس السوء بقدر الله تعالى الكوني كان حاضرًا، فصرفه عن ذلك، وذلك كله بتقدير الله تعالى، نسأل الله عز وجل الثبات على الحق في الدنيا والآخرة.

الدرس السابع: من فضل الله تعالى على بعض الناس أن يجعلَه مفتاحًا للخير، حاثًّا عليه، وبعضهم يخذله الله تعالى، ويجعله مفتاحًا للشر مِغلاقًا للخير، فتأمل في معاملتك وتصرفاتك مع الآخرين من أيهما أنت، ومأخذ هذا من السيرة من موقف أبي جهل مع أبي طالب؛ حيث كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، فقد أغلق عليه باب الدخول في الإسلام، وحثه على بقائه على الشرك في دين عبدالمطلب، فإياك أن تكون بلسان حالك أو مقالك مغلاقًا للخير.

الدرس الثامن: التوبة بابها مفتوح، وهي بإذن الله تعالى مقبولة، إذا تمت شروطها، حتى ولو كانت في مرض الموت ما لم تُغَرْغِر الروح أو تخرج الشمس من مغربها، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي طالب وهو في مرض موته، فعرض عليه الشهادة، فدلَّ ذلك على قبولها لو نطق بها، فلنسارع جميعًا إلى التوبة والأوبة، فمن تاب التوبة الصادقة، فليُبْشِرْ بثماني فوائد عظيمة؛ الأولى: أنها تكفر سيئاته، والثانية: أنها تبدل إلى حسنات، والثالثة: أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده فرحًا شديدًا، والرابعة: أن الملائكة تدعو له بالمغفرة؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ﴾ [غافر: 7]، الخامسة: أن الملائكة تدعو له بالوقاية من عذاب الجحيم؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، السادسة: دعاء الملائكة له بدخول الجنة؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ﴾ [غافر: 8]، السابعة: دعاء الملائكة لآبائهم وأزواجهم وذرياتهم الصالحين؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر: 8]، الفائدة الثامنة للتوبة: دعاء الملائكة له بالوقاية من السيئات؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ [غافر: 9]، فهذه من ثمار التوبة فلنسارع إليها؛ والله تعالى يقول: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وأما إذا مات ولم يتُبْ، فأمره إلى الله، ولكنه على خطر من تلك الفعال السيئة، التي لم يتب منها، وإذا استدام المعصية، فإنه يجمع على نفسه سيئات هو في غِنًى عنها.

الدرس التاسع: سعة سمع الله تبارك وتعالى؛ حيث أرسل الله تعالى ملك الجبال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ((قد سمع الله قول قومك لك))، فالله تعالى من أسمائه السميع، فلنتقِ الله تعالى في أقوالنا ولفظاتنا، فإن الله عز وجل يسمعنا في جميع أحوالنا في سرنا وعلانيتنا، فلْنَسْتَحِ من الله تبارك وتعالى أن نلفظ ما لا يرضيه من آفات اللسان كالغِيبة والنميمة وغيرهما؛ فاللسان من أعظم الجوارح كسبًا للحسنات والسيئات، فاستشعر حال كلامك بالخير وغيره، فإن الله عز وجل يسمعك، فإن هذا الاستشعار يزيدك من الخير، ويرغِّبك فيه، ويجعلك تنزع عن الشر ويبعدك عنه.

الدرس العاشر: عِظمُ شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة واستشراف المستقبل والتفاؤل الطيب؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال: ((لعل الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا))، وفعلًا تحقق هذا التفاؤل الطيب، وأخرج الله من أصلابهم من يدعو إلى الله تعالى، وينصر هذا الدين، فكن - يا أخي الكريم - في تفكيرك وتصورك للأشياء بعيدَ النظر، متفائلًا مستشرفًا لمستقبل مشرق، صابرًا على تحقيق ذلك، ولا تستعجل؛ فإن المخرجات للأعمال لا تأتي سريعة، ولا تأتي دفعة واحدة؛ فالصبر وبُعد النظر خَصلتان كريمتان وخُلُقان حسنان، لعلنا أن نتحلى بهما، وعكس ذلك الاستعجال في تصور الأمور وسرعة الحكم عليها، وعدم الصبر حيالها.

الدرس الحادي عشر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت رسالته للثَّقَلَينِ؛ الجن والإنس، وهو عليه الصلاة والسلام مرسل للعالمين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فقد سمِعه جنُّ نصيبين، فولَّوا إلى قومهم منذرين، ففي الجن صالحون وغير صالحين، كما هو في الإنس.

الدرس الثاني عشر: أهمية إحياء قيمة الوفاء بالجميل، وعدم نسيان الفضل لأهل الفضل، فإذا أسدى أحد من الناس إليك معروفًا، فإياك أن تنساه، بل كافئه عليه بالجميل بخدمة مماثلة أو بالشكر المتكرر، أو بالدعاء، أو بالزيارة، أو نحو ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، ومأخذ هذا أن المُطعِم بن عَدي عندما أجار النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة بعد رجوعه من الطائف، وفَّى له النبي صلى الله عليه وسلم بالجميل؛ فقال عليه الصلاة والسلام في قتلى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى يوم بدر، لتركتهم له))؛ [رواه البخاري]، فلا تنسَ فضل الآخرين عليك في خطأ واحد يخطئونه تجاهك، فإن عدم نسيان الفضل صفة كريمة، وخَلَّة فاضلة، اجتَهِدْ في الاتصاف بها، فإنها من الخلق الحسن الذي يحبه الله تعالى، ويحبه رسوله عليه الصلاة والسلام، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلامٍ، وأن يغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وأن يجعلنا من أحبِّ عباده إليه، وأن يجعلنا من المقتدين بنبيه عليه الصلاة والسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-06-2022, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (8)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة الثامنة من برنامج (خاتم النبيين)

الإسراء والمعراج

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين وأصلي وأسلم على من أُرسل رحمة للعالمين النبي المصطفى الكريم وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فسبَق معنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية الكلام عن حِصار كفار قريش لبني هاشم في الشِّعب عدة سنوات، وأيضًا كذلك سبق معنا ما أُصيب به النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب عظيمة في وفاة عمِّه أبي طالب الذي كان يدافع عنه، وأيضًا وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تؤازره، وأيضًا في ذَهابه عليه الصلاة والسلام إلى ثقيف في الطائف، وكان يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وما حصل له عليه الصلاة والسلام في رجوعه، هذا كله ما سبق معنا في الحلقة الماضية، ونحن الآن في هذه الحلقة بصدد الحديث عن حادثة الإسراء والمعراج.

جاءت تلك الحادثةُ العظيمة حادثة الإسراء والمعراج تثبيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له بعد تلك السنين من الدعوة، وما لقِيهُ من الأذى عليه الصلاة والسلام فيها، وأيضًا لتكون معجزة له صلى الله عليه وسلم، ودليلًا على صحة نبوته، والمقصود بالإسراء هي تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من مكة في المسجد الحرام إلى بيت المقدس في المسجد الأقصى؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى عنها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]، ويقصد بالمعراج أيضًا ما بعد تلك الرحلة من الصعود بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا ولُقياه الأنبياء، وما حصل فيها من تشريع وآيات عظام ابتدأت تلك الرحلة من مكة مِن جوار الكعبة كما في الصحيحين، وقال بعضهم: إنه كان من بيت أم هانئ، ولكنه ضعَّفه جمعٌ من أهل العلم، فالذي ورد في الصحيحين أنه من الحِجر، وقد ذكر ذلك ابن كثير والذهبي وغيرهما، وكانت وسيلته البراق في حادثة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وهذا البراق هو دابةٌ بيضاء طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفهِ، كما عند البخاري ومسلم، وكان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة وقد وقع مرة واحدة أيضًا فقط في مكة قبل الهجرة، وقال الواقدي رحمه الله: إنه قبل الهجرة بسنة في شهر ربيع الأول، وقال: هو رأي الكثيرين، وكان ذلك بجسده وروحه عليه الصلاة والسلام يقظةً لا منامًا، وقيل في تاريخ الإسراء أقوال أُخرى، ولكن المتفق عليه أنه بعد عودته من الطائف عليه الصلاة والسلام.

والحديث الوارد في قصة الإسراء والمعراج هو حديث طويل جدًّا، فيمكن الرجوع إليه في صحيح البخاري، ولقد كانت تلك الرحلة من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ومن معجزاته أيضًا، حتى أثارت أفكار كفار قريش وأذهانهم، فذهب بعضهم إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: إن صاحبك يزعُم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أهو قاله؟ قالوا: نعم، قال: إن كان قاله فقد صدق، ولهذا سُمي الصديق رضي الله عنه، وقال أيضًا: إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك، إني أصدِّقهُ بخبر السماء في بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقد رأى عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماوات شيئًا من آيات الله تعالى الكبرى والتقى بالأنبياء، ووصف هيئاتهم، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى عليه الصلاة والسلام، ورأى أيضًا جبريل على هيئته التي خُلق عليها وقد رآهُ قبل ذلك عند بداية الوحي، وله ستمائة جناح، وكان موقف قريش من تلك الحادِثة هو التكذيب؛ حيث إنهم كفروا بنبوته عليه الصلاة والسلام، وأما السواد الأعظم من المسلمين، فزادتهم تلك الحادثة إيمانًا وتسليمًا، وقد تأثر بعضهم كما ذكره ابن هشام رحمه الله، ولقد بدأت قريش تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند الحجر عن بيت المقدس وعن أوصافه التي يعرفونها، فما سألوه إلا أجابهم عليه الصلاة والسلام حسب الواقع والحال؛ حيث ورد في الصحيحين أنه قال عليه الصلاة والسلام: (فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفِقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)؛ رواه البخاري ومسلم.

وهذه معجزة أخرى له عليه الصلاة والسلام، وحال عروجه إلى السماوات كان يلتقي بنبي واحد أو أكثر، فيسلم عليه ويدعو له، وانطلق به جبريل إلى فوق السماوات السبع حتى بلغ سدرة المنتهى، ثم تأخر جبريل وعُرج به عليه الصلاة والسلام حتى سمع صريف الأقلام، وهنا جاءت فرضية الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فرجعت فمررت على موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: بِمَ أمرك؟ فقلت: فرض عليَّ خمسين في كل يوم، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك إلى آخر الحديث الطويل، وفيه: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى، حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمسُ صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، إلى أن قال في آخر الحديث: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه؛ الحديث بطوله؛ رواه البخاري ومسلم، فليُرجع إليه.

وكانت الصلاة في أول فرضيتها ركعتين في كل وقت صلاة عدا المغرب ثلاث ركعات، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فُرضت أربعًا في الظهر والعصر والعشاء، وذلك في الحظر وأقرت ركعتين في السفر كما تقوله عائشة رضي الله عنها.

وكانت الصلاة في أول فرضيتها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وقيل سبعة عشر شهرًا، وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، صرفت القبلة إلى الكعبة، وقد كان تاريخ فرضية الصلاة هو تاريخ حادثة الإسراء والمعراج، وقد اختُلف فيها كما سبق، فقيل قبل الهجرة بسنة وقيل بثلاث سنوات، وقيل غير ذلك، لكنهم اتفقوا على أنها بعد رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدعو القبائل إلى الله تعالى، فهو ينتظر القبائل القادمة إلى مكة للحج وغيره، فيعرض عليهم الإسلام، وكان يقول في رسالته عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله، تُفلحوا وتملِكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم، وكان الحظ الأكبر في الدخول إلى الإسلام للأوس والخزرج رضي الله عنهم، فقد أمن عددٌ منهم، وقال بعضهم لبعض: والله إنه النبي الذي تعدكم به يهود، فلا تسبقوا إليه وانصرفوا إلى بلدهم المدينة، ودعوا أهلهم وقراباتهم، وأسلم بعض أهل المدينة، وفشا فيهم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك تمهيدًا لهجرته وانتشار الإسلام في المدينة.

ثم حصلت بعد ذلك بيعة العقبة الأولى؛ حيث إن النفر الذين أسلموا من الأوسِ والخزرج سابقًا دعوا قومهم في المدينة، فجاؤوا مرةً أخرى، ومعهم نفرٌ غيرهم ممن أسلم من أهل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر رجُلًا، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والإيمان، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن وفيتم فلكم الجنة، وكانت تلك البيعة فتحت الباب واسعًا لإسلام أهل المدينة، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعَثْ لنا قارئًا يُقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، فسُمي مقرئ المدينة، ورغم صغر سن مصعب إلا أنه كان له شأنٌ عظيم وأسلم على يديه الكثير من أهل المدينة، وكان منهم أسيد وسعد سيد بني عبد الأشهل، فلما أسلمَ هذان لم يبقَ أحدٌ في بني عبد الأشهل إلا أسلم، فيا بشرى مصعب بذلك، وكانت قريش تحذر جميع القادمين إلى مكة من الاستماع إلى محمد، فحذروا كثيرًا منهم.

وكنموذج من هؤلاء الذين حذروهم الطفيل بن عمرو الدوسي، فلما قدم مكة استقبلوه فحذروه أشد التحذير، حتى وضع على أذنيه الكرسف وهو القطن؛ حتى لا يسمع شيئًا من النبي عليه الصلاة والسلام، يقول الطفيل: فغدوت إلى المسجد، فإذا أنا قُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعته صدفة يقول بعض الكلمات، فكان كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي: إني لأعرف السحر والشعر، إن كلامه لحسن فما يمنعني أن أسمع منه، فتبعته عندما خرج من المسجد حتى دخل بيته ودخلت معه، وقلت له تحذير قريش لي من سماعي لك، فاعرِض عليَّ ما لديك، فعرضه وقرأ القرآن، ليقول الطفيل: فوالله ما سمعت قولًا أحسن منه ولا أعدل منه، فأسلمت في ساعتي وآمنت وشهدت شهادة الحق، فعاهدته على دعوة قومي إلى ذلك الدين.

أما الدروس المستفادة مما سبق عرضه فكثيرة، منها:
الدرس الأول: معجزاته عليه الصلاة والسلام ودلائل نبوته عندما يقرؤها المسلم، فإنه يزداد بذلك إيمانًا وثباتًا؛ لأن المعجزة هي أمر خارق للعادة، ودليلٌ على صدق من جرت على يده من الأنبياء، فكم نحن بحاجة يا إخواني وأخواتي الكرام؟ إلى الاطلاع على تلك المعجزات والدلائل، حتى نكسب من خلال ذلك الثبات وتقوية الإيمان، فإن الله عز وجل قد أيَّد أنبياءه ورسله بها لتكون دليلًا على صدقهم.

الدرس الثاني: إن المعجزة عندما تحصل على يد أحد الأنبياء والرسل، وتكون ثابتة، فإن موقف المسلم هو التسليم والإيمان بها، أما تكييف العقل لها، فهو غير لائقٍ؛ لأن العقل له حد محدود، كما أن للبصر حدًّا محدودًا، فاني العقل لا يعرف ما وراء ذلك الخارق، فإن المعجزة خارق على خلاف العادة وفوق مستوى العقل، فالإيمان والانقياد والتسليم لذلك هو الصحيح والأسلم.

الدرس الثالث: بعد حصول عددٍ من المصائب للنبي صلى الله عليه وسلم من حصاره في الشِّعب ووفاة عمه وزوجته خديجة، وما قابله به ثقيف في الطائف وكفار قريش من سوءٍ، وغير ذلك من المصائب جاءت حادثة الإسراء والمعراج إكرامًا للنبي عليه الصلاة والسلام، فيُطلعه الله تعالى على آيات كبرى، ويلتقي بالأنبياء، إن هذا لا شك أنه تقوية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأييد له وشرح لصدره، وإزالة لحزنه وارتباطٌ بربه وخالقه، فعلى المسلم إذا حلت عليه المصائب والأحزان والهموم أن يتجه إلى مولاه عز وجل بالدعاء والذكر والصلاة، فإن ذلك لا شك أنه يخفف، بل يزيل الإشكال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45].

الدرس الرابع: عظمة قدرة الله تعالى وهو الفعَّال لما يريد، فتأمل كيف تَم الإسراء من مكة إلى القدس، ثم المعراج إلى ما فوق السماء السابعة مع ما حصل من الآيات والتشريعات، ثم الرجوع إلى مكة من القدس، وكل ذلك بليلة واحدة، فإن الله على كل شيء قدير، وإذا أراد شيئًا فهو عليه قادرٌ وأمره، إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، فلا تستعظم شيئًا تسأله ربك، وثقْ به وظنَّ به الظن الحسن، واعلم أنه على كل شيء قدير، إن تأمُّلك لقدرة الله تبارك وتعالى يوجب تعظيمه في نفسك، وإذا عظَّمته أطعته ولم تعصه؛ لأنه عظيم، وهذا العظيم ثوابه جزيلٌ وعذابه أليم، وهو كما هو شديد العقاب، فهو أيضًا الغفور الرحيم.

الدرس الخامس: حين فرضت الصلاة كانت خمسين صلاة، ثم تسلسل التخفيف من الله تعالى على عباده إلى خمس صلوات رحمة بهم، وكل هذا التخفيف والمراجعة بين موسى وربه كله بقدر الله تعالى ورحمته، إن هذا التخفيف في الفعل لخمس مع بقاء الأجر لخمسين صلاة، هو رحمة من الله تعالى وفضل، وهذا يستوجب على العباد الشكر والثناء، والحمد لله رب العالمين، مع حسن الأداء لتلك الصلاة، والمحافظة عليها فإن الفرض استقرَّ في نهاية الأمر على العُشر مما فرض في أول الأمر، فالخمس هي عُشر الخمسين، فهي بفضل الله ورحمته خمس في الفعل وخمسون في الأجر، فلنحافظ عليها أشد المحافظة في أوقاتها وضوابطها قولًا وفعلًا، فما ظنكم يا كرام لو كانت خمسين صلاة، فماذا سيلحق من المشقة؟ لكن الغفور الحليم الرؤوف بعباده جعلها خمسًا فقط، فتأملوا تلك الرحمة الواسعة، وذلك الفضل العظيم، وقوموا بما أوجَب الله عليكم خيرَ قيامٍ، فالصلاة ستشفع لكم أو تخاصمكم حسب محافظتكم عليها، أو تضييعكم لها، فهي تقول: حفِظك الله كما حفظتني، أو تقول: ضيَّعك الله كما ضيعتني.

الدرس السادس: إن مصعب بن عمير رضي الله عنه لَما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليقرئهم، فهو نعمُ المعلم والداعية، فهو قدوة لنا بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في تعليم الناس للخير ودعوتهم إليه، فاحرِص أخي الكريم أن يكون لك بصمة إيمانية، أو اجتماعية، أو تربوية، أو غيرها على غيرك في مجالسك ومحادثاتك ورحلاتك وسفراتك، ووسائل تواصلك.

إن تلك البصمة التي تجعلها في الناس هي صدقة جارية لك، وإليك ذلك الموقف يقول أحدهم: كنا في رحلة دورية مع بعض الزملاء، فتحدث أحدهم لمدة محدودة ثلاث دقائق عن فضيلة صيام الاثنين، فلما انتهينا وذهبت إلى زوجتي، أخبرتها بما سمعت، فعزمنا على صيام الاثنين من كل أسبوع، فما زلنا نصومه مدة تصل إلى ثلاثين عامًا، وما زلنا نصومه، فكان مجموع ما صامه هو وزوجته ثلاثة آلاف يوم، فهي في موازينهم ومثلها في موازين ذلك المتحدث في تلك الدقائق المحدودة، فأوصيك ألا تحضر مجلسًا إلا ويكون لك فيه بصمة خير على الجالسين، وهذا جانب كبير من الدعوة، كما كان يفعله مصعب ابن عمير رضي الله عنه وغيره من الصحابة.

الدرس السابع: إن المسلم عندما يتأمل ويتدبر القرآن، يزداد معرفة وإيمانًا ونقاوة، ويكسب معرفة الأحكام والحكم، ولذلك لما حذَّرت قريش الطفيل بن عمرو من سماع النبي صلى الله عليه وسلم، عزم هو على ذلك، لكنه سمع شيئًا من كلامه فتدبَّره وتأمَّله، فرآه حسنًا وجميلًا، فكان سببًا في إسلامه وإسلام من وراءه، فكان التدبر والتأمل للقرآن غاية في الأهمية، ولو كنا كذلك في قراءاتنا لاختفى كثيرٌ من السلوكيات السلبية القولية والفعلية، أرأيت من يغتاب الناس كمْ مرة قرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12]، وهكذا سائر المخالفات من الربا والنظر المحرم، والسماع المحرم والسرقة وغير ذلك، فلنحاول تصحيح مسارنا من خلال تدبُّرنا وتأمُّلنا لنصوص الوحيين، ونفعل فعل الطفيل بن عمرو رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

الدرس الثامن: إذا أراد الله تعالى بعباده خيرًا ساقه إليهم وساقهم إليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لَما كان يدعو الوافدين إلى مكة لم يستجب له الكثير، لكن لما أراد الله بالأوس والخزرج خيرًا، ساق إليهم اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووفَّقهم للإيمان به والدعوة إلى دينه، فبايعوه عليه الصلاة والسلام على الإيمان به والسمع في المنشط والمكره، وبلَّغوا من وراءهم ودعوهم إلى دين الله عز وجل، حتى دخل الأوس والخزرج في دين الله أفواجًا، وبَقِيَ ذكرهم غالبًا في المدينة عبر التاريخ.

الدرس التاسع: أننا حين ندرس السيرة ونعرف حال العهد الأول، وكيف وصِل إليهم هذا الدين بعد أنواع من الشرك، وكان هذا الدين الحنيف لم يطرق أسماعهم من قبلُ، فبعضهم أمن وبعضهم كفرٌ، وحصل القتال لهؤلاء الكفار، وحصلت المصائب العظيمة من الحصار والهجرة والأذى للمؤمنين من قريش أننا حينما نقرأ ذلك لنُدرك نعمة الله تبارك وتعالى علينا؛ حيث جاءنا هذا الدين صافيًا، وعلى فطرة سليمة، ولله الحمد والمنة، مما يجعلنا نلهج كثيرًا بالثناء على الله عز وجل وحمده على نعمة الإسلام، ونسأله الثبات عليها، فهذه نعمة عظيمة جديرة بالتأمل؛ لنعلمَ عِظَمَ نعمة الله تبارك وتعالى علينا، فالجيل الأول بذلوا جهودًا عظيمة في أموالهم وأنفسهم وأوقاتهم؛ ليوصلوا إلينا هذا الدين، فنحن بحمد الله تعالى نتفيأ ظلاله، فعلينا القيام بالواجب في نقله إلى من بعدنا، وتوعية بعضنا بعضًا بحكمه وأحكامه.

الدرس العاشر:إن حادثة الإسراء والمعراج تشهد ربطًا وثيقًا بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القبلة الأولى للمسلمين، ففي عهد الصحابة وقع المسجد الأقصى تحت عهد الرومان، ثم حرَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعد خمسة قرون عاث فيه الصليبيون فسادًا، فحرَّره صلاح الدين، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعيده في وقتنا الحاضر إلى حياض المسلمين؛ لينعموا بالصلاة فيه آمنين.

إن دراسة السيرة واستخراج الدروس والعبر مهم جدًّا للثبات على دين الله تبارك وتعالى، والتوعية بأمر هذا الدين، وكم هو جميل أن تعقد الأسرة مجلسًا ولو أسبوعيًّا لمدارسة ذلك ومعرفته، أرجو منك أخي الكريم تطبيق ذلك تفقهًا وتعبدًا وطلبًا للعلم، وتوعية للجميع، نسأل الله تبارك وتعالى السداد والرشادَ والهدى والتقى، وهذه جولة مختصرة حول الإسراء والمعراج والبيعة الأولى للعقبة، وبعض الدروس المستفادة منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30-06-2022, 07:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (9)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة التاسعة من برنامج (خاتم النبيين)

بيعة العقبة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

سبَق لنا في الحديث في الحلقة الماضية عن حادثة الإسراء والمعراج وأسرارها، وما فيها من الآيات والتشريعات، مع عرضٍ مختصر لبيعة العقبة الأولى، مستخرجين من ذلك الدروس والعبر المستفادة من هذا كله.

وحديثنا في هذه الحلقة عن بيعة العقبة الثانية، وهي تختلف عن الأولى في عددها وهيئتها وسببها، أما عن عددها، فكانوا سبعين رجلًا، وقيل: ثلاثة وسبعون رجلًا، خرج هؤلاء السبعون من المدينة إلى الحج، مع قومهم الذين يبلغ عددهم خمسمائة وهم أخلاط من المسلمين والمشركين، فهؤلاء السبعون هم من المسلمين، فقد قالوا وهم في المدينة: إلى متى نترك رسول الله صلى عليه وسلم يلاحَق ويؤذَى بين كفار قومه، فعزموا على المسير إلى الحج مع قومهم، ومبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدفاع عنه وحمايته، وطاعته في المنشط والمكره، وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من البعثة قبيل الهجرة إلى المدينة، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم محادثات محاطة بالسرية، فتم الاتفاق بينهم وبينه على أن يلتقوا في الشِّعب المجاور لجمرة العقبة في وسط أيام التشريق، وكان ذلك ليلًا؛ حتى لا يكشف كفار قريش ذلك الاتفاق، ويقول كعب بن مالك: دخلنا مكة فسألنا: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرِفه، فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه، فقال: ها هو جالس هو والعباس في المسجد، وكنا نعرف العباس؛ لأنه من التجار الذين يتاجرون نحو المدينة، فدخلنا المسجد فوجدناه والعباس جالسين، فأتيناهما وفرح بنا فرحًا شديدًا، فوعدناه في الشِّعب عند العقبة في وسط أيام التشريق ليلًا، فاجتمعنا في الشِّعب وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس، وكان العباس حينها على دين قومه، وقيل: إنه مسلم يخفي إسلامه، ولكنه أحب أن يحضُر بيعة العقبة لابن أخيه، فتكلم العباس مبينًا أهمية تلك البيعة والوفاء بها في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الوفاء بها، فأجابوا لذلك جميعًا، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم من القرآن، ودعاهم ورغَّبهم في الإسلام، وكانت البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأيضًا على الدعوة إلى الإسلام وعلى النصرة والحماية، وأخبرهم بأن لهم على ذلك الجنة، فقالوا ابسط يدك نبايعك، فأمَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر رجلًا يكونوا رؤساءَ عليهم، فانتخبوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس من كل قبيلة نقيبًا، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصافحة بأيديهم تأكيدًا للبيعة، وكان مع هذا العدد امرأتان وهما نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عَمرو رضي الله عنهما، فبايعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المبايعين، غير أنه لم يصافحهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يصافح النساء، وإنما يبايعهنَّ بالكلام، وقال أحد المبايعين وهو العباس بن عبادة: إن شئتَ يا رسول الله لنميل على المشركين اليوم بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.

وبعد تمام تلك البيعة الثانية انكشف سرُّها لأهل مكة، وذلك بمناداة الشيطان لأهل مكة؛ يقول كعب: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قائلًا: يا أهل الجباجب يعني المنازل، هل لكم في مذمم يعني محمد صلى الله عليه وسلم والصُّباة يعني المسلمين المبايعين، فقد اجتمعوا على حربكم، فلما علمت قريش بذلك اتجهوا إلى منازل المشركين من الأوس والخزرج الذين قدموا للحج، فسألوهم عن الخبر، فقالوا: لا نعلم شيئًا من ذلك، فلما مضت أيام التشريق اتَّضح بجلاء وقوع البيعة من هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت قريش تبحث عنهم لم يُدركوهم، فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقد جاؤوا به إلى مكة وعذَّبوه، ولم يستخرجه منهم إلا جبير بن المطعم بن عدي؛ حيث إنه أجاره سعد في تجارة له في المدينة، وهكذا يحفظ الله تعالى أولياءه من كيد الكائدين، وهذه البيعة الثانية لها فضلها العظيم، ولها أثرها على فُشوِّ الإسلام وانتشاره، وقُرنت تلك البيعة بغزوة بدر على فضلها؛ حيث ورد في بدر افعلوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؛ حيث يقول كعب بن مالك وهو أحد المبايعين: لقد شهدت بيعة العقبة حيث توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بي بها مشهدَ بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها؛ متفق عليه.

يقول ابن حجر في الفتح وإن كانت بدر أول غزوة نصر فيها الإسلام، إلا أن بيعة العقبة كانت سببًا في فشو الإسلام، ومنها نشأت غزوة بدر، ولما رجع الأنصار بعد تلك البيعة الثانية إلى المدينة، أظهروا الإسلام ودعوا إليه، وكان في قومهم بقايا على الشرك، وكان من هؤلاء بقايا عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة، وكان ابنه معاذ شهد تلك البيعة، وكان عمرو قد اتخذ صنمًا في بيته وأسماه مناة، فلما أسلم بعض الفتيان من بني سلمة بدؤوا يدخلون ليلًا على صنم عمرو، فيحملونه ويطرحونه في بعض الحفر المتسقة والقذرة، فإذا أصبح عمرو فلم يجد صنمه ذهب يبحث عنه، فيجده في ذلك المكان المتسخ، فيأخذه ويغسله، ويقول: أما والله لو أعلم من فعل ذلك فيك لأُخزينه ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ، فيفعلون ذلك مرارًا، وهو إذا أصبح من كل مرة فعل مثلما فعل في الأولى ينظِّفه ويغسله، فلما أكثروا عليه من ذلك جعل عمرو السيف على الصنم، وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فلما نام عمرو عَدَوْا هؤلاء الفتية على الصنم كما كانوا يفعلون، فلما أصبح عمرو وجده في ذلك المكان السابق مع القاذورات والأوساخ، فحينها علم أنها أصنام لا تنفع ولا تضر، فأسلم وحسُن إسلامه رضي الله عنه، فهؤلاء المبايعون ومن أسلم معهم، أطلق عليهم القرآن الأنصار؛ حيث إنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك الذين قبلهم هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل الله ورضوانه، وقد ذكر الله تعالى في سورة الحشر ثلاث فئات:
الفئة الأولى: المهاجرون، فقال تعالى فيهم: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ [الحشر: 8].

والفئة الثانية: الأنصار، فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

والفئة الثالثة: من جاء بعدهم من الصالحين والمؤمنين إلى يوم القيامة، فقال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10].

وهذه البيعة الثانية هي بيعة العقبة الكبرى وهي حلقة من حلقات النصر والتمكين من الله تعالى لنبيه وللمؤمنين، وإن الله عز وجل لما شرع هذا الدين تكفَّل بحفظه ونُصرة أهله، ولكن الله عز وجل يبتلي عباده وخلقه، فيدال للحق على الباطل أحيانًا، ويدال للباطل على الحق أحيانًا أخرى، وذلك قدر من الله تعالى تنطوي تحته حِكَمٌ عديدة، ليتضح المخلص من المرائي والمنافق من المؤمن، وقوي الإيمان من ضعيفة والآمر والناهي من غيره، ولتقوم الحُجة على الخلق وقوام ذلك كله، هو قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، فأمر الله تعالى في تلك الآية بأمرين مهمين، وهما: الأول: الاتباع للشرع، والثاني: الصبر عليه، ففيهما ينجو المسلم ويفلح في الدنيا والآخرة.

وبعد تلك الجولة في بيعة العقبة الثانية نستخلص دروسًا عظيمة التي من أهمها ما يلي:
الدرس الأول: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عملٌ صالح جليل، بل هو من أوجب الواجبات، وهذه المحبة ليست دعوى فقط، وإنما لها علامة تصدقها أو تكذبها وتقوِّيها، أو تضعفها، وهذه العلامة هي اتباعه صلى الله عليه وسلم والمدافعة عن دينه والدعوة إليه، وهذا الأثر هو سلوك المسلم مع نفسه وإخوانه، ومأخذ ذلك من السيرة أن الأوس والخزرج عندما أسلم بعضهم أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، فاتبعوه ودعوا إلى دينه ونصروه ودافعوا عنه، وأيضًا دافعوا عن سنته وعن اتباعه، فلنكن كذلك لتَقْوى محبتنا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولنكسب الأجور العظيمة من خلال ذلك.


الدرس الثاني: إن الله عز وجل يحفظ أولياءَه من كيد أعدائهم، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمره الله به ودعا إلى دين الله، فحفظه الله تعالى وحفِظ مَن آمن به من كيد كفار قريش، وأما ما يصيب الدعاة من أذى، فهو تمحيص لهم وتكفيرٌ، ورِفعة في الدرجات وابتلاءٌ لهم أيضًا في دعوتهم، فليصبروا وليتأملوا أن العاقبة للمتقين وأن الخسارة على الكافرين.


الدرس الثالث: عندما نتفيأ ظلال السيرة، ونتمعن في أسرارها، نرى الصحابة رضي الله عنهم عندما يبلغهم الأمر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، يسارعون في الاستجابة لله ورسوله من غير مجادلة أو مناقشة، ما دام أن الأمر أو النهي من الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام، سواء في الدخول في الإسلام، أو فعل الأوامر وترك النواهي حال إسلامهم، وهذا هو شأن المسلم الحق، وهو التسليم والانقياد لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فلا يعارض أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام برأيه وعقله، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه في حادثة الإسراء والمعراج أنها حصلت في ليلة واحدة، قال رضي الله عنه قولته المشهورة: إن كان قاله فقد صدق، فعلى المسلم أن يتأمل أقواله وأفعاله وتصرفاته، هل هي متوافقة مع أمر الله ورسوله أم مخالفة، فحسن الاستجابة هو الإسلام والإيمان الحق، وينقص الإيمان بقدر نقص تلك الاستجابة في الأوامر والنواهي، فاحرِص أخي الكريم على ذلك فهو خير كله.


الدرس الرابع: النبي صلى الله عليه وسلم بايع الصحابة رضي الله عنهم في بيعة العقبة، وصافَحهم، وكان معهم امرأتان أسلمتا وبايعتا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه بايعهما بالكلام وليس بالمصافحة، ونستلهم من ذلك درسًا عظيمًا، وهو عدم جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية عنه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له، ما كان يبايعهنَّ إلا بالكلام، وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز مصافحة المرأة الأجنبية ولو من وراء ساتر على يدها? فأجابت بما يلي: لا يجوز للمرأة أن تصافح الرجال الأجانب ولو من وراء ساتر، وجريان العادة بذلك عند بعض المجتمعات لا يبيح ما حرمه الشرع عليها؛ انتهى. فعلينا جميعًا حسن الاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو الأسلم والأحكم والأتقى.


الدرس الخامس: عِظم الفضيلة التي حباها الله عز وجل للمبايعين في تلك البيعة الثانية، فقد كانت نصرًا عظيمًا للإسلام، وفتحًا مبينًا؛ حيث انتشر الإسلام بعدها وأسلم الكثير من أهل المدينة، وهذا توفيق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فعلى المسلم أن يتعرض لتوفيق الله تعالى ونفحاته بفعل الأسباب التي توصله إلى ذلك، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أراد الله تعالى بهم خيرًا، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن بعضهم كان لا يعرفه، فأسلموا وحسُن إسلامهم، ومن جانب آخر تأمَّل حال أبي طالب، فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم سنين، وأيضًا يدافع عنه، ولكنه لم يرد الله تعالى له الهداية إلى الإسلام، فسبحان من فتح على قلوب هؤلاء وهو أحكم الحاكمين، ونسأله الثبات على الحق في الدارين.


الدرس السادس: إن الوفاء بالعهد والوعد خصلة كريمة وصفة جليلة رائعة، يتصف بها أولو الألباب والعقول الزاكية؛ حيث إن نكث العهد والوعد صفة ذميمة وخصلة مشينة، ومأخذ هذا من السيرة ما فعله أصحابه بيعة العقبة، عندما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه، فقد أوفوا بعهدهم وبيعتهم، وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا إلى دينه، وهكذا شأن المسلم إذا وعد واحدًا أو عاهده، وفَّى بذلك، وإذا كان ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع الله تعالى أوثق وأقوى، وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على بني آدم وأشهدهم أنه ربُّهم وخالقهم ومعبودهم، فليوفوا بذلك على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكل معصية هي تمثل نسبة من النقص في هذا الميثاق، فعلى المسلم إذا فعل تلك المعصية أن يستغفر وينيب، فهو أقوى للميثاق، وكلما فعل معصية فليعلم أنه مَن مسَّ ذلك الميثاق بشيء من النقص، فليتداركه بالحسنة تمحو تلك المعصية.


الدرس السابع: إن عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان معجبًا بصنمه قبل إسلامه، ويعتقد أنه ينفع ويضر، وهذا كله عندما استقل بعقله واقتدى بجهلة قومه، ولكنه لما تأمل الشرع الحكيم وعظمة الشارع، قاده ذلك بإذن الله تعالى إلى الدخول في الإسلام، إن تدبرنا لمقاصد نصوص الوحيين للكتاب والسنة، سيقودنا ذلك إلى مزيد من العلم والثبات وقوة الإيمان، فكن متدبرًا ولو في بعض قراءاتك لتلك النصوص.


الدرس الثامن: الجزاء من جنس العمل، فإن كان صالحًا كان جزاؤه الثواب، وإن كان سيئًا كان جزاؤه العقاب، فلا تظلم نفس شيئًا، ويقول الله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لَما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: إن وفَّيتم فلكم الجنة، فكان جزاؤهم موافقًا لعملهم، فقد قاموا بالوفاء أحسن قيام رضي الله عنهم وأرضاهم، فكن أخي الكريم مستلهمًا تلك القاعدة في أقوالك وأفعالك، وهي أن الجزاء من جنس العمل، فمن اغتاب الناس أو ظلمهم ونحو ذلك، فهم سيأخذون حقوقهم منه يوم القيامة مثلًا بمثل وآكل الربا، فلا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المس، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة كالذر مثلًا بمثل، وهكذا في الأعمال الصالحة والسيئة جزاؤها يماثلها.


الدرس التاسع: قال أحد المبايعين للنبي صلى الله عليه وسلم وهو العباس بن عباده رضي الله عنه: إن شئت لنميل عليهم بأسيافنا غدًا، فجاء التوجيه النبوي الكريم بقوله عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)، وفي هذا درسٌ عظيم في كبح جماح العواطف، وعدم الاستعجال، وتحقيق الأناة في تحصيل الأمور الشرعية، فالعواطف ليست مقياسًا لتحصيل المصالح، وهذا نحتاجه كثيرًا وكثيرًا مع أهلنا وزملائنا وجيراننا وغيرهم، فلا نتصرف تحت توجيه العاطفة، وإنما عليك بالشرع وتوجيهه، فهو خير كله، وهو أسلم وأحكم، فعليك بالتعرف على المواقف وعلاجها من جهة شرعية لتسلم وترتاح.


الدرس العاشر: عندما ذكر الله عز وجل الناس في سورة الحشر ثلاث فئات، وهم الأولى: المهاجرون، والثانية: الأنصار، والثالثة: كل من جاؤوا بعدهم، فهذه الفئة الثالثة في حقها هذا الدعاء العظيم، وهو قولهم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

إن هذا الدعاء بقلب حاضر هو دعاء عظيم ينشرح به صدرُك، ويسلم به قلبك، وتسعد به في الدنيا والآخرة.

أخي الكريم إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم؛ تزكيةً لنفسه وسلامة لقلبه، وشرحًا لصدره، وتصحيحًا لمفاهيمه، ماذا أخي الكريم لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق من الوقت أو صفحة أو صفحتين من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا ورائعًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر، فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرأه أيضًا اذكره في مجالسك لتستفيد ويستفيد غيرُك أيضًا، هذه جولة مختصرة مع بيعة العقبة الثانية، وشيء من دروسها المستفادة، وكونوا على الموعد إن شاء الله تعالى، مع عرضٍ لأول أحداث الهجرة إلى المدينة.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واجعلنا يا ربنا ممن يؤتى الحكمة، واغفِر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-07-2022, 07:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (10)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة العاشرة من برنامج (خاتم النبيين)




بداية الهجرة وأحداثها


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ومصطفاه وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

ذكَرنا في الحلقة الماضية عرضًا لبيعة العقبة الثانية في سببها وعدد المبايعين فيها وشروطها ونتائجها، وكذلك المواقف التي فيها والدروس المستفادة منها، وننتقل في حلقتنا هذه إلى فاصل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الهجرة إلى المدينة.

إن حدث الهجرة إلى المدينة حدثٌ عظيمٌ وتحوُّلٌ كبيرٌ في مسار الدعوة وفي مستقبل الإسلام، وهو مرتبطٌ ببيعة العقبة الثانية، وكذلك مرتبط بأحوال المسلمين في مكة، ولعل هناك أسبابًا عدة في حصول الهجرة إلى المدينة، من تلك الأسباب:
أولًا: اضطهاد المؤمنين في مكة والتضييق عليهم، حتى خشي هؤلاء المؤمنون على أنفسهم فتنتَهم في دينهم، ولذلك تجد منهم مَن هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، والسبب الثاني في حصول الهجرة إلى المدينة تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة لوجود الأنصار فيها، خصوصًا أصحاب بيعة العقبة الثانية ومَن أسلم بعدهم، ثالثًا من الأسباب تآمُر قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا بعد وفاة أبي طالب وأذيَّتهم له والتضييق عليه، رابعًا من الأسباب التي جعلت المؤمنين يهاجرون إلى المدينة أنهم هاجروا؛ ليعبدوا الله عز وجل في مكان آخر أكثر أمنًا وأقل أذية، وأكثر أعوانًا على الخير.

هذه بعض الأسباب لحصول حدث الهجرة التاريخي إلى المدينة، وروى ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما صدر رجال العقبة الثانية من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفسُه عليه الصلاة والسلام؛ حيث جعل الله تعالى له منعة وقومًا أهل حرب، وحين علمت قريش بذلك اشتد بلاؤها وأذاها على المسلمين، فشكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أُريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين وهما الحرتان، ثم بعد أيام أذِن لهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي يعني ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)؛ متفق عليه.

وبعد ذلك خرج المسلمون أرسالًا من مكة مهاجرين إلى المدينة مشاةً ورُكبانًا على خُفية من قريش، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ينتظر أن يؤمر بالهجرة إلى المدينة، ولم تكن الهجرة سهلة وميسرة؛ لأن قريشًا تضع العراقيل والعقبات أمام المهاجرين، وتَسلُبهم أموالهم، فضحى هؤلاء المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم بأموالهم مقابل بقائهم في المدينة، وفرارًا بدينهم من الفتنة، وكانت المدينة دار وباء آنذاك، حتى أصاب ذلك الوباء عددًا من الصحابة المهاجرين رضي الله عنهم، وكانوا يُصلون قعودًا من أثره، وعندما علموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم في النوافل، تجشَّموا رضي الله عنهم القيام، فصلوا قيامًا مع ضعفهم وسقمهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلًا: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكةَ أو أشدَّ، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مُدنا، وصحِّحها لنا، وانقلْ حُمَّاها إلى الجُحفة)؛ متفق عليه.

وكان المهاجرون إلى المدينة لكل فردٍ منهم أو مجموعة منهم قصةٌ وموقف وحكاية؛ لأن قريشًا كانت كلما علِمت بأحد يريد الهجرة آذتْه وحاولتْ فتنتَه، وربما حبسته، ولذلك لا يجرؤ الكثيرون على الهجرة إلا خُفية، فيمكن الرجوع إلى كتب السِّير للاطلاع على تلك المواقف، ففيها دروس وعبرٌ، وهكذا لم يمضِ شهران على بيعة العقبة حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي، أو مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف عن الهجرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا ما يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبًا)، فيطمع أبو بكر أن يكون الصاحب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند البخاري: على رِسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، وكانت قريش تريد الخلاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عددٌ من المؤرخين ومنهم ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، قال: فاجتمع كبار قريش في دار الندوة، وتشاوروا في القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون، ويروي بعضهم أن الشيطان قد حضر معهم ذلك الاجتماع، فقال بعضهم: احبسوه بالحديد ووثِّقوه بالرباط، وتربصوا به حتى يموت، وقال آخرون: ننفيه عن البلاد، ولا يضيرنا بأي وادٍ هلك، وقال أبو جهل: يُؤخذ من كل قبيلة شابٌّ جلد قوي، ثم يجتمعون فيقتلونه بسيوفهم، فارتضوا ذلك الرأي، وعزموا على تنفيذه بتأييد الشيطان لهم، فأخبر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك، فنزل عليه قول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30].

وهذا مما تحيكه قريش للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وعندما أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أتى إلى أبي بكر في وقت لم يكن يأتي به إليه، وكان ذلك في الظهيرة متخفيًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله ما جاء بك تلك الساعة إلا أمر ذو بالٍ، وقد كان عند أبي بكر ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخرِج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما هم أهلك يا رسول الله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أُذن لي في الخروج - أي الهجرة - فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فبدأ، أبو بكر وأهله بتجهيز الراحلتين والطعام ونحو ذلك، فلم يعلم أحد بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وابنتاه وعلي بن أبي طالب، ثم اتجه إلى جهة الجنوب إلى الغار، مع أن المدينة إلى جهة الشمال، وذلك ليوهم قريشًا؛ حيث إن قريشًا ستبحث عنه في جهة المدينة وهي الشمال، فلما وصلا إلى الغار مكَثَا فيه ثلاث ليال، وكان خروجهما للغار ليلًا، ووصلاه في ظهيرة الغد، وكان عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب حكيم يَبيت عندهما في الغار، فيذهب في السحرِ إلى مكة؛ ليصبح مع قريش في مكة، وكأنه بات معهم ليوهِمهم ذلك، فيسمع أخبارهم فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأيضًا عامر بن أبي فهيرة يأتيهما بلبن بعد العشاء، وكان مع أبي بكر ما له لقضاء حاجتهما حال الهجرة، وقد خلد القرآن ذكر أبي بكر رضي الله عنه في أحداث الهجرة؛ حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وعندما قدم على الغار قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: مكانك يا رسول الله، حتى أستبرأ لك الغار من السِّباع والحيات، وشارك أيضًا في خدمتهما أسماء بنت أبي بكر؛ حيث كانت تأتيهما بالطعام، وقد سخر أبو بكر رضي الله عنه نفسه وأهله وماله في حدث الهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر، فلما سمع ذلك أبو بكر بكى، وقال: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله)؛ أخرجه أحمد.

وأما المشركون فقد بقوا ينتظرون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته، ولم يعلموا أنه في الغار، وقد خرج من بيته وأعمى الله أعينهم عنه، فجاء رجل وهم على هذه الحال، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: ننتظر محمد يخرج من بيته، قال: خيَّبكم الله قد خرج وما ترك أحدًا منكم إلا ووضع على رأسه ترابًا، فرأوا ذلك التراب، فلم يصدِّقوا الرجل؛ لأنهم نظروا في البيت، فإذا أحد مُسجًّى على الفراش، فقالوا: هذا محمد، فلما قام، فإذا هو علي رضي الله عنه، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت على فراشه، وأنه لا يمسه منهم شيء، فحينها جُن جنون قريش، وذهبوا يبحثون عنه، ووضعوا مكافأة مقدارها مائة ناقة لمن يأتي به وصاحبه؛ أخرج ذلك البخاري في الصحيح، فركِبوا كل مركب للبحث عنهما، حتى وصلوا إلى قرب الغار، بل وصلوا إلى فم الغار، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؛ رواه البخاري، ومعنى ثالثهما؛ أي: ناصرهما ومُعينهما، ومعهم بعلمه بهما وتأييده لهما، وقد سمع أبو بكر أصوات أقدامهم فأصابه همٌّ وغم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، وقد روى بعضهم أن العنكبوت قد نسجت نسجًا على بعض الغار، فاستبعدوا أن يكون فيه، ولعلنا نذكر شيئًا من الدروس والعبر مما سبق ذكره، ونستكمل مسيرة الهجرة بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس والعبر، فكثيرة، منها:
الدرس الأول: إن حدث الهجرة هو فتح من الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه؛ حيث حصل لهم عُسر ومشقة وأذية، فأراد الله عز وجل لهم اليُسر، فقدَّر لهم تلك الهجرة المباركة، وإن من الفطرة للمؤمنين أن العُسر يتبعه اليسر؛ حيث يأتي عليه فيخرجه، وقد يتعجل ذلك اليُسر أو يتأخر؛ لأن ذلك بقدر وحكمة من الله تبارك وتعالى، فإذا حصل لك أخي الكريم عسرًا، فادعُ الله تعالى باليسر، وكن على ثقة بإتيانه وحصوله بإذن الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين قد كانوا ببلدهم مكة، وحصل لهم من الأذية والمضايقة والعسر شيءٌ كثير، فجعل الله لهم فرجًا في تلك الهجرة.

الدرس الثاني: على المسلم أن يخرُج ويبتعد عن مجالس وأماكن الفتن، وما يضعف الإيمان، فإن ذلك الابتعاد هو أسلم لدينه وآخرته ودنياه، بينما لو مكث في تلك الأماكن للفتن، فلربما أصابه ذلك الافتتان، فزاغ قلبه، ولذلك هاجر هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم من بلدهم مكة خشية الافتتان عن الدين، ففرُّوا إلى المدينة؛ ليسلَم لهم دينُهم، فهم أسوة وقدوة لنا بأن نتجنَّب مجالس وأماكن الفتن التي تُضعف الإيمان في القلب، وتُسهل المعصية على الجوارح، فإن تلك الأماكن هي سوق الشيطان الذي يصطاد به العباد، فلا تكن أخي الكريم صيدًا في شباك عدوك، واختر مَجالسَك ومُجالسيك.

الدرس الثالث: إن رؤيا الأنبياء هي إحدى طرق الوحي، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر إلى المدينة، فامتثل أمر ربه عز وجل، وأمر المؤمنين بذلك فهاجروا، وهذه الرؤيا هي من المبشرات يراها المسلم أو تُرى له، فإذا رأيت رؤيا حسنة فحدِّث بها مَن تُحب، واحْمَد الله تعالى عليها، وإن رأيت رؤيا سيئة فلا تُخبر بها أحدًا، ولا تسأل عنها، واستعِذْ بالله من شرها فإنها لا تضرُّك، في حين أن البعض من الناس يسأل عن كل شيء، ويخبر بكل شيء، وهذا لا شك أنه نوع من الجهل.

الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم عندما هاجروا إلى المدينة، أصابَ بعضهم شيءٌ من وباء المدينة، فضعفوا، فصار بعضهم يصلي قاعدًا، فلما علموا أن القاعد على النصف من أجر القائم قاموا في صلواتهم، وهذا يدل على حرصهم على تحصيل الخير وعدم نقصانه، والاستزادة منه، وهذا شأن المسلم أن يحرص على الاستزادة من الخير؛ لأنه لا يدري ما مقامه في الدنيا، فاحرص أخي الكريم في ذَهابك وإيابك ولحظات الانتظار لديك ونحوها - على كثرة ذكر الله تبارك وتعالى؛ لتحصُل على الكثير من الأجور والحسنات، فإن فعلت ذلك فأنت من الموفَّقين.

الدرس الخامس: النبي عليه الصلاة والسلام رحيم بأُمته، ويعيش شعورهم ويرأف بهم، ومأخذ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام دعا الله عز وجل أن تزول حُمَّى المدينة، ودعا بالبركة فيها، فاستجاب الله تعالى دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام، فأزال عنها الحمى وبارك فيها، وهكذا المسلم يدعو لإخوانه المسلمين، فيخص ويعم، وكلما دعوت لأحد بخير، فإن الملك يقول: ولك بمثلٍ، فاستكثروا رحِمكم الله من الدعاء للمسلمين بخصوص وعموم، فهم بأمسِّ الحاجة إلى ذلك في دينهم ودنياهم، ففيهم من الأمراض والديون واللأْوى والمشكلات ما نرجو أن يكون دعاؤكم سببًا في رفعه ودفْعه وتخفيفه.

الدرس السادس: أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه واستجابته له؛ حيث بقي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أول المهاجرين حتى أذن له ربُّه بذلك، وهذا غاية في الاسترشاد بأمر الله تبارك وتعالى، فلما أذِن له ربه هاجر، ولله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة في تقدير ذلك.

الدرس السابع: إن نصرة هذا الدين هي بيد الله تبارك وتعالى، وثمة أسباب تُبذل ليتحقق ذلك النصر، وأما الباطل فهو في مآله إلى الخسران المبين، وإن انتشر وانتفش، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا في مكة مستضعفين، وقد اجتمعت قريش على أذيتهم وفتنتهم، ومع ذلك نصر الله تعالى عباده على أعدائه، فهاجروا بسلام وعبدوا ربَّهم باطمئنان، بل إن قريشًا اجتمعوا في دار الندوة على الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أمرهم ذلك وبالًا عليهم، وأنجى الله تعالى نبيه والمؤمنين، فالله عز وجل ناصرٌ دينَه وأولياءَه، ولكن لحكمة يريدها الله عز وجل قد يتأخر ذلك النصر، والله عز وجل هو الحكيم العليم.

الدرس الثامن: إن حُسن الترتيب والتنظيم والتخطيط الجيد، يُعد من أهم أسباب النجاح في الحياة عمومًا، وفي الناحية الدعوية على سبيل الخصوص، ومأخذ هذا من السيرة حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وتخطيطه مع أبي بكر في أمر الهجرة؛ حيث تم ذلك بكتمان الخبر عن قريش، وكان في الزمن المناسب أيضًا، وعلى هيئة تناسب الحال كذلك، مع اتفاق مبرم مع آل أبي بكر في مسألة الطعام والشراب وأخبار قريش، وكل ذلك تَم بتنسيق وتشاور ولم يكن عشوائيًّا، فما أحوجنا في حياتنا كلها عامة وخاصة في شؤوننا الدعوية الفردية والجماعية إلى التخطيط الجيد لننجح في حياتنا، أما العشوائية فلا تُعرف سلبياتها من إيجابياتها، وقد يخسر الفرد أوقاتًا طويلة وجهودًا كثيرة بسبب عدم التخطيط لهذا المشروع.

الدرس التاسع: إن التوكل على الله عز وجل - وهو تفويض الأمر إلى الله تبارك وتعالى، مع الأخذ بالأسباب - من أهم ركائز النجاح في الحياة، فمن توكل على الله تعالى كفاه، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي كافيه، ومأخذ ذلك من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعَلَا الأسباب في أمر الهجرة، مع تفويض الأمر إلى الله تعالى، فكانا متوكلين على الله عز وجل، فكفاهم الله تعالى شرَّ كفار قريش، فحفظهما بحفظه، فإن التوكل على الله تعالى حقَّ التوكل يطرد كثيرًا من الهموم والأحزان والمشاكل إذا كان حقيقيًّا صادقًا، وإذا توكلت على الله تعالى في أمورك فاطرُد عن نفسك الأفكار المزعجة والسلبية، وعش حالة التفاؤل والحال الطيبة، فإنك بذلك تلمس نتيجة التوكل في قلبك وتصرفاتك، وذلك بارتياح الضمير وسكون النفس وهدوء البال.

الدرس العاشر: إذا كان الله تعالى معك، فأي شيء تفقده، إنك معك كل شيء، ومأخذ ذلك من السيرة قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، وقوله أيضًا: (لا تحزن إن الله معنا).

إن معية الله تعالى لعبده غاية في الأهمية، وهي تعني النصر والتأييد والإعانة، فهو معه بعلمه يعلم حاله ويعينه ويوفِّقه، وييسِّر أمره، فاحرص أخي الكريم على الأعمال التي ثوابها أن يكون الله معك، وأضرب لذلك مثالًا بعملين احرِص عليهما:
العمل الأول: الإحسان إلى الآخرين، فالله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، فاحرِص على أن تُحسن إلى غيرك بأي نوع من الإحسان، سواء عملي أو قولي ولو كان يسيرًا، فإن الله عز وجل معك ورحمته قريبة منك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وأيضًا يحبك الله، إن الله يحب المحسنين، فالنتيجة للإحسان معية ومحبة ورحمة، فسارع إلى ذلك رحمك الله.

العمل الثاني: كثرة ذكر الله تعالى، ففي الحديث: (وأنا معه إذا ذكرني)؛ رواه البخاري.

فكن مكثرًا من الذكر ليكون الله معك، فأين أصحاب الأعمال الشاقة والمعاملات المستعصية؟ لماذا لا يكثرون من ذلك الذكر ليكون الله معهم، يُعينهم وييسر أمورهم ويوفِّقهم، فما أحوجهم إلى ذلك، ففي ذَهابك وإيابك ولحظات انتظارك، كن مكثرًا من ذكر الله تعالى، وإن كنا نقول بمعية الله لك، فهذا زائد عن الأجر المترتب على هذا الذكر، فتأمل ذلك ولا يُنسينَّك الشيطان إياه بالغفلة والسهو والنسيان.

أخي الكريم، هذا جانب مختصر من الأحداث الأولى للهجرة، وبعض دروسها المستفادة منها، وكم هو جميل أن تجعل لأسرتك الكريمة مجلسًا ولو أسبوعيًّا فيه شيءٌ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتستخرجون من ذلك الدروس والعبر، فيكون له أثرٌ إيجابي على الأولاد في تصحيح مفاهيمهم، وبناء أفكارهم الإيمانية، مع ما يحصل من تنزُّل الملائكة وغشيان الرحمة، وأن يذكرَكم الله تعالى فيمن عنده، فيا لها من حوافز وجوائز عظيمة! ويا لها من أثر عظيم على طُمأنينة أهل البيت وجمع شملهم، إني أرجو ذلك منكم أيها الوالدان الكريمان.

اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وأصلحنا وأصلح لنا، وأصلِح بنا، ووفِّقنا لما تحبه وترضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 243.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 237.83 كيلو بايت... تم توفير 6.11 كيلو بايت...بمعدل (2.51%)]