معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12635 - عددالزوار : 220674 )           »          إذا كانت الملائكة لا تقرب جيفة الكافر فكيف ستسأله في القبر ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 130 - عددالزوار : 15848 )           »          حرف القاف (نشيد للأطفال) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          نوادر الفقهاء في مدح سيد الشفعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الجامع في أحكام صفة الصلاة 4 كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3959 - عددالزوار : 398684 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4428 - عددالزوار : 865042 )           »          أنماط من الرجال لا يصلحون أزواجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          أيها الأب صدر موعظتك بكلمة حب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 09-04-2023, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب (2 - 2)


(21هـ -642م)

قصة الإسلام



(18)


رسم تخيّليّ لِما كانت عليه الإسكندريَّة في العُصور القديمة حتَّى الفتح الإسلامي.

أوضاع الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل
ساد الاضطراب عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل بسبب النزاع الأسري على العرش، فقد عين هرقل قبل وفاته ولديه الكبيرين لخلافته، وهما قنسطنطين الثالث ابن فابيا إيدوسيا البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وهرقلوناس ابن مارتينا البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، وحاول أن يجعل لزوجته مارتينا نصيبًا في الحكم، وأشار في وصيته إلى أنه ينبغي أن يشترك الأخوان معًا في الحكم، وأن يتساويا في المكانة والحقوق، ولحرصه على أن يجعل لمارتينا قدرًا من النفوذ المباشر في إدارة الدولة، أعلن في وصيته بأنه ينبغي أن تشترك الإمبراطورة الأم في الحكم.

عندما أعلنت مارتينا وصية زوجها لقيت معارضة شديدة من جانب أركان الحكم والشعب، فأثيرت نتيجة ذلك مسائل تتعلق بالوضع الدستوري العام، إذ أقر أفراد الشعب تولية الأخوين العرش غير أنهم لم يقروا باشتراك مارتينا في إدارة الشئون العامة، وأعلنوا أنها بوصفها امرأة لا تمثل الإمبراطورية، وليس لها أن تستقبل السفراء، وزعمت مارتينا لنفسها هذا الحق، ووقع الشقاق داخل شطري الأسرة الحاكمة، وهكذا ساد الصراع الحياة العامة في العاصمة البيزنطية في وقت تعرضت فيه الإمبراطورية لخطر سياسي بالغ الشدة في الخارج.
كان قنسطنطين الثالث أكثر أتباعًا وأنصارًا من أخيه غير أنه كان مريضًا، وتوفي في "8 جمادى الآخرة 20هـ/ 25 مايو 641م" بعد أن حكم ثلاثة أشهر، وأضحى هرقلوناس متفردًا في الحكم، والواقع أن مارتينا هي التي كانت تسير شئون الدولة، فنفت أنصار قنسطنطين وقربت أنصارها، كان من بينهم البطريرك بيروس المونوثليستي.
كانت مصر في رأس اهتمامات مارتينا، إذ إن ضياع هذا البلد من شأنه أن يعرض الإمبراطورية لنقص في الأقوات، لذلك أسرعت باستدعاء المقوقوس من المنفي، ووضعت ثقتها فيه، وأعادته إلى منصبه السابق في مصر.

أطلال البُرج الغربي الذي شادهُ البطالمة ودعَّمهُ الروم، وكان قائمًا يوم ضرب المُسلمون الحصار على المدينة.



كان المقوقس لا يزال على رأيه أن لا جدوى من مقاومة المسلمين، ولكنه تظاهر بالاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل البيزنطيون في صلح مع المسلمين، ووعدته مارتينا بمساعدته بالإمدادات الكبيرة، وجهزت السفن من أجل ذلك. أسرع المقوقس بالسفر إلى مصر على رأس جيش أعد لهذه الغاية، ورافقه عدد من القساوسة، ثم حدث أن تدهورت أوضاع مارتينا، وابنها هرقلوناس بعد أن انقلب أصحاب السلطة، والنفوذ في الإمبراطروية على حكومتهما، أمثال أعضاء الناتو، والقادة العسكريون، ورجال الدين الأرثوذكس، وظل الناس على كراهيتهم للإمبراطورة والبطريرك بيروس، وجرى اتهامهما بأنهما تآمرًا ضد قنسطنطين بدس السم له، وطالبوا بأن يكون العرش لابن قنسطنطين الثالث، ولم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، واتخذ اسم هرقل عند تعميده، غير أنه عند تتويجه اتخذ اسم قنسطنطين، وأطلق الناس عليه اسم قنسطانز، وهو مصغر قنسطنطين، وثارت القوات المسلحة المرابطة في آسيا الصغرى ضدهما، وزحفت نحو العاصمة حتى بلغت خلقدونية، فاضطر هرقلوناس للإذعان للثائرين، وتوج قنسطانز قسيمًا له في الحكم، غير أن هذا الإجراء لم يمنع سقوطه في شهر "شوال/ سبتمبر"، كما تقرر عزل مارتينا، وتفرد قنسطانز بالحكم [1].
الزحف نحو الإسكندرية

خريطة تُظهرُ تقسيم مدينة الإسكندريَّة خِلال العهدين البطلمي والرومي وزمن الفتح الإسلامي.

كان لسقوط حصن بابليون، ذلك الموقع العسكري الحصين الذي حدشت فيه أعظم طاقات البيزنطيين العسكرية في مصر، التأثير الجذري على مسار المعركة، فلم يعد هناك مجال للشك، بأن المبادرة قد أصبحت في أيدي المسلمين، وأن أبواب السيطرة قد فتحت أمامهم على هذه البلاد الواسعة، ويعد هذا السقوط بمثابة انهيار خط الدفاع الأول عن مصر، حيث إن الطريق بات مفتوحًا إلى الإسكندرية. بعد الانتهاء من فتح
حصن بابليون، طلب عمرو من الخليفة أن يأذن له بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وهو خطوة لا بد منها لاستكمال فتح مصر، ثم أخذ ينظم إدارة البلاد المفتوحة.

والحقيقة أن الخليفة لم يتأخر في منح الإذن لقائده بالسير إلى الإسكندرية، وبخاصة أنه علم أن النيل سيعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأنه من الأفضل أن يسير جيش مصر إلى الإسكندرية قبل ذلك، وما لبث عمرو حين تسلم الإذن أن زحف نحو الإسكندرية، وترك حامية عسكرية في حصن بابليون بقيادة خارجة بن حذافة السهمي.
كانت الإسكندرية في ذلك الوقت قصبة الديار المصرية، وثانية حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وقد أدرك البيزنطيرون أن سقوطها في أيدي المسلمين من شأنه أن يؤدي إلى زوال سلطانهم من مصر، وقد عبر الإمبراطور البيزنطي عن ذلك بقوله: "لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية"، فأسرعوا بإرسال المقوقس على رأس قوة عسكرية.
وصل المقوقس إلى الإسكندرية في شهر "شوال 20هـ/ سبتمبر 641م"، وفي نيته الدخول في صلح مع المسلمين بسبب عجزه عن مواجهتهم، وبخاصة أنه بدت في الأفق السياسي ملامح انهيار الإمبراطورية البيزنطية، لكن يبدو أن أركان حربه رفضوا توجهه هذا، وأصروا على المقاومة.
وكان عمرو بن العاص قد غادر حصن بابليون في شهر "جمادى الأولى 20هـ/ أوائل مايو 641م"، وقد آثر السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تشكل الترع الكثيرة المنتشرة في جنوبي الدلتا عائقًا يؤخر زحفه، وقد ساعده بعض الأقباط في إصلاح الطرق وإقامة الجسور، كما اصطحب معه عددًا من زعمائهم ليكونوا أداة اتصال بينه، وبين من يلقاهم في طريقه، وهذا يعني أن سكان مصر الوطنيين كانوا على عداء مع البيزنطيين المحتلين لأرضهم، واستوعبوا أهمية الوجود الإسلامي الذي من شأنه أن يطرد هؤلاء من بلادهم.
صادف عمرو والمسلمون أثناء سيرهم عدة عقبات عسكرية من جانب البيزنطيين، كان أولها في ترنوط (قرية بين مصر والإسكندرية) حيث تصدت لهم قوة عسكرية إلا أنهم تغلبوا عليها، وتابعوا تقدمهم حتى وصلوا إلى نقيوس الواقعة على بعد عدة فراسخ من منوف، فأسرع سكانها إلى التسليم والإذعان، لكن حامية الحصن أصرت على المقاومة، وهذا يعني أن لم يكن هناك تنسيق بين السكان الوطنيين والحاميات البيزنطية، ولعل مرد ذلك يعود إلى فقدان الثقة بين الجانبين بسبب العداء المستحكم بينهما، فاصطدم عمرو بأفراد الحامية وانتصر عليهم، ودخل نقيوس، وفرت فلول المنهزمين إلى الإسكندرية.
تابع عمرو بن العاص تقدمه، واصطدم بقوة عسكرية بيزنطية أخرى عند سلطيس (بمصر القديمة)، وتغلب عليها، وكان حصن كريون (قرب الإسكندرية) آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقصد اعتصم به تيودور قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، كما تدفقت عليه الإمدادات من المناطق المجاورة، واشتبك الطرفان في عدة معارك على مدى بضعة عشر يومًا، كان بعضها شديدًا حتى إن عمرًا صلى يومًا صلاة الخوف4. وتمكن المسلمون أخيرًا من اقتحام الحصن، وتغلبوا على الحامية العسكرية، فقتلوا بعض أفرادها، وفر البعض الآخر إلى الإسكندرية للاحتماء بها، وكان تودور من بين هؤلاء، وطاردهم المسلمون حتى بلغوا الإسكندرية في "منتصف رجب 20هـ/ أواخر يونيو 641م".
فتح الإسكندرية

خريطة تُبيِّن توسُّع حُدود دولة الخلافة الراشدة بعد دُخول مصر في حظيرتها وتراجع حُدود الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة في شمال أفريقيا.
أدرك عمرو بن العاص فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني، أن المدينة حصينة إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج ويحيط بها خندق يملأ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، ومكاحل، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحيمها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطور البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المعتذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس، ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية؛ قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطروا للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم ثم ينقض عليهم، لذلك نقل معسكره إلى مكان بعيد عن مرمى المجانيق، بين الحلوة وقصر فارس، استمر الوضع على ذلك مدة شهرين لم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال، سوى مرة واحدة حيث خرجت قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة، واشتبكت مع قوة إسلامية، ثم ارتدت إلى الحصن، ولعلها كانت بمثابة قوة استطلاع أو جس نبض.

ورأى عمرو أن يقوم بعمل عسكري يشغل به جنوده، إذ إن الانتظار قد يؤثر على معنوياتهم القتالية، ويدفعهم إلى الخمول، فشغلهم بالغارات على الدلتا، وأبقى معظم جنوده على حصار الإسكندرية. ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أثر سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليه فسوف يقطعون الميرة عنهم.
كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء مصر، وهو أشد ما يكون استعجالًا لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فراح يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت المسلمين، فتخاذلوا، وقال لأصحابه: "ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا"، ثم كتب إلى عمرو يقول له: "أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم".
شكل كتاب عمر عامل دفع للمسلمين، فاقتحموا حصون الإسكندرية، ففتحوها بحد السيف في "28 ذو القعدة 20هـ/ 8 نوفمبر 641م" بعد حصار دام أربعة أشهر ونصف، وفر البيزنطيون منها بكل اتجاه للنجاة بأنفسهم، وأذعن سكانها من الأقباط، واستبقى عمرو بن العاص أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل حصن بابليون.
هل فتح الإسكندرية أكان عنوة أو صلحًا؟
تتباين روايات المصادر حول كيفية فتح الإسكندرية، أكان عنوة أو صلحًا؟ ويذكر البلاذري أن المسلمين قاتلوا الحامية البيزنطية قتالًا شديدًا، وحاصروهم مدة ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف، وغنم ما فيها واستبقى أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل بابليون، ويخالف
ابن إسحاق البلاذري، في روايته حول فتح الإسكندرية، فيذكر أنها فتحت صلحًا وليس عنوة، على الرغم من أن كلا الطرفين، الإسلامي والبيزنطي في مصر، استعدا للقتال الذي أمكن تجنبه في اللحظة الأخيرة، وتشير هذه الرواية إلى أن المسلمين فتحوا الكثير من القرى حتى وصلوا إلى الإسكندرية، وكانت سباياهم من فتوح هذه القرى عظيمة جدًا، وقد بلغت المدينة ومكة واليمن، حتى إذا وصل إلى بلهيب راسله صاحب الإسكندرية، وعرض عليه الجزيرة مقابل رد السبايا، فأرسل عمرو كتابًا إلى عمر يستشيره، فجاءه الجواب بالموافقة على أن يخير السبايا بين البقاء على دينهم وعليه الجزية، وبين الدخول في الإسلام، فترفع الجزية عنهم، أما من تفرق في الجزيرة العربية، "فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به".

وتشير الرواية النصرانية أن الإسكندرية فتحت صلحًا، فيذكر حنا النقيوسي أن قيرس -المقوقس- لم يكن وحده الذي رغب في السلام، وإنما رغب فيه السكان والحكام، ودومنتيانوس الذي كان مواليًا للإمبراطورة مارتينا، ولذا اجتمعوا واتفقوا مع قيرس على إنهاء الحرب يعقد الصلح مع المسلمين، وذهب قيرس إلى بابليون حيث كان عمرو بن العاص هناك بعد غاراته على الدلتا، وعقد معه معاهدة يصح أن نطلق عليها معاهدة بابليون الثانية، تمييزًا لها عن المعاهدة الأولى، أو أن نسميها معاهدة الإسكندرية؛ لأنها كانت خاصة بأهل الإسكندرية وحاميتها، وأهم ما جاء في هذه المعاهدة:

أطلال الفسطاط ومُحيطها.

- أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد.
- أن تعقد هدنة مدتها أحد عشر شهرًا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق للثامن والعشرين من شهر أيلول عام 642م.
- أن يبقى المسلمون في مواضعهم خلال مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم، ولا يسعوا أي يسعى لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال.
- أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، يحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعًا، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزءًا معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.
- أن لا يعود جيش من الروم إلى مصر، أو يسعى لردها.
- أن يكف المسلمون عنأخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل.
- أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.
- أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مائة وخمسين من جنودهم وخمسين من غير الجند، ضمانًا لإنقاد العقد [2].

والراجح أن الإسكندرية فتحت عنوة، غير أن عمرو بن العاص عامل أهلها كأهل ذمة لأسباب سياسة تتعلق بالمحافظة على مكتسبات الفتح من جهة، والتفرغ لتنظيم إدارة البلاد من جهة أخرى، بالإضافة إلى الانطلاق لتحقيق فتوح جديدة على ساحل شمالي إفريقية.

ذيول فتح الإسكندرية
زال السلطان البيزنطي عن مصر كلها بعد فتح الإسكندرية، باستثناء بعض الجيوب المنتشرة في أماكن متفرقة من الدنيا، إلا أنها كانت محصورة ومعزولة لا فاعلية لها، وحتى يحافظ المسلمون على مكتسبات الفتح كان عليهم إحكام سيطرتهم على قرى الساحل، وطرد الحاميات البيزنطية من هذه الجيوب.


والواقع أن هذه المسالح البيزنطية لم تقاوم المسلمين باستثناء بعض القرى الساحلية، أو القريبة من الساحل أمثال: إخنا القريبة من الإسكندرية، وبلهيب الواقعة في جنوبي رشيد، والبرلس، ودمياط، وتنيس، ولكن سرعان ما أخضعها المسلمون، فأمنوا بذلك الساحل من العريش إلى الإسكندرية، وتحطمت مقاومة البيزنطيين [3].
[1] العريني: الدولة البيزنطية، ص137 – 139.
[2] البلاذري: فتوح البلدا، ص222 – 223، 231، 232. ابن عبد الحكم: فتوح مصر، ص156 – 158، 162 – 163. سالم، عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص488. بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر: ص310، 311، 320، 334 - 343.
[3] ابن عبد الحكم: ص170، 171.
منقول بتصرف












__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 09-04-2023, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



الفتح الإسلامي وملحمة تعريب المغرب


. أحمد الظرافي
(19)

خارطة تُبيِّنُ مسار الفُتوحات الإسلاميَّة لِبلاد المغرب.

يعتبر الفتح الإسلامي للمغرب من الأحداث الكبرى والخالدة في تاريخ الإسلام في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، لما ترتب عليه من نتائج حاسمة غيرت مجرى تاريخ هذه البلاد وحددت معالم هويتها إلى الأبد، ومنها انتشار الإسلام والتعريب، وبالتالي حدوث عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام وتحول المغرب إلى جزءٍ عزيز من عالم الإسلام والعروبة.
أولاً: بدايات استقرار العرب بالمغرب:
جاءت عملية استقرار العرب في ربوع المغرب الكبير نتيجة حتمية للفتوحات الإسلامية في هذه الناحية من جهة، وكجزءٍ من رسالتهم السامية وهي تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين ومنهم البربر سكان هذه البلاد من جهةٍ أخرى، وليس لرغبتهم في الاستيطان فيها واستغلال خيراتها والتحكم في رقاب أهلها. ولولا عملية استقرار العرب المسلمين في هذه البلاد وما قدموه من تضحيات جبارة أثناء عملية الفتح والتي كانت هي الأطول والأصعب على الإطلاق في تاريخ الفتوحات الإسلامية كلها[1] لما تحررت من هيمنة البيزنطيين، ولما انتشر الإسلام في ربوعها، ولما شملها التعريب، وبالتالي لما اجتمع شمل أهلها واتحدت كلمتهم. وترجع البدايات الأولى لاستقرار العرب المسلمين في ربوع بلاد المغرب إلى بداية الفتوحات الإسلامية في هذه الناحية، وذلك بعد فتح مصر مباشرة بقيادة عمرو بن العاص، إذ قام هذا القائد بغزو إقليمي برقة وطرابلس سنة 23هـ لتأمين حدود مصر الغربية من خطر الروم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون المغرب الأدنى، إذ كان يخشى أن يحاولوا استعادة مصر من هذا الطريق الغربي[2]. وقد تركز استقرار العرب في البداية في برقة والتي كانت جزءاً من مصر بحسب التقسيم الإداري البيزنطي[3] نظراً لقربها من الإسكندرية. وكذلك كان استقرارهم في طرابلس على ساحل البحر المتوسط وكانت طرابلس هي الأخرى تابعة إدارياً لمصر طبقاً لبعض الروايات. وظل الأمر على هذا النحو طوال العهد الراشدي فلما كانت الخلافة الأموية بقيت برقة تابعة إدارياً لمصر بينما أصبحت طرابلس من عمل إفريقية بعد أن أصبحت هذه الأخيرة ولاية مستقلة في عهد الوليد بن عبد الملك[4]. وكان استقرار العرب في هذه المدن على شكل حاميات عسكرية لمنع البيزنطيين الدخلاء من العودة إليها من جهة، ومن جهة أخرى لحماية الدعاة إلى الله الذين انتشروا بين أهلها لتعريفهم بمبادئ الإسلام وتعليمهم القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية. وقد أخذت أعداد العرب المستقرين في هذه المدن تزداد شيئاً فشيئاً مع توالي الحملات التي كانت تخرج من مصر لفتح إفريقية بمن كان يفد عليها من المجاهدين أحياناً من المدينة أولاً كحملة عبد الله بن أبي سرح سنة 27هـ، ثم من الشام ثانياً كحملة معاوية بن حديج الكندي سنة 45هـ. ولكن لم يبدأ العرب في الاستقرار المنظم في إفريقية التي تمثل اليوم تونس الحالية والتي تعتبر جزءاً من المغرب الكبير إلا عندما أنشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي 50 و55هـ[5]، أي خلال ولايته الأولى على إفريقية في خلافة معاوية: فبدأت منذ ذلك الحين أنظار العرب تتجه إلى إفريقية إذ أصبح لهم فيها عاصمة أو مركز يتبعه الإقليم المحيط به[6]، وتلك العاصمة بطبيعة الحال هي القيروان إحدى العواصم الإسلامية المشهورة في القرن الأول الهجري بعد المدينة ومكة والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط.
ثانياً: تأسيس القيروان:

جامع عقبة بن نافع في مدينة القيروان. من أكبر وأشهر وأقدم المساجد في المغرب وشمال أفريقيا.


يذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» وفي «الكامل» أن عقبة بن نافع أدخل كثيراً من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين في عهده وقوي جَنَان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام بها[7]. ورُوي أيضاً أن عقبة بن نافع كان معه في عسكره 25 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جمع وجوه أصحابه وكبار العسكر فدار بهم حول القيروان وأقبل يدعو لها ويقول في دعائه: اللهم املأها علماً وفقهاً واعمرها بالمطيعين والعابدين واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر وأعز بها الإسلام وامنعها من جبابرة الأرض»[8]. وكان عقبة خلال إقامته الطويلة في تلك الأصقاع قد أدرك بنظره الثاقب أن أعمال الفتوح في شمال إفريقيا لابد أن تكون طويلة وشاقة ولا يجوز أن تظل معتمدة على قواعد بعيدة وصعبة الاتصال بالشام أو بمصر. لذا صمم على بناء مدينة جديدة في بلاد تونس تكون قاعدة لقوات المسلمين ومخزناً للمؤن والأغذية ومقراً لعمالهم وقادتهم ومركزاً للعلم والعلماء. وربما فوق ذلك تعمد بهذا أن يشير لأعدائه الروم إلى أن وجود المسلمين في هذه البلاد هو أمر دائم وثابت ولن يكون آنياً أو عابراً. ولمناعة المدينة التي صار اسمها «القيروان» اختار لها موقعاً يبعد عن السواحل حيث تتواجد القوى البيزنطية بما فيه الكفاية ويقتربون من تخوم الصحراء في الداخل بما يجعل المسلمين يرتاحون للإقامة فيها لوجودهم في بيئة جغرافية تقرب مما ألفوه في مواطنهم وبما يتيح لهم في الوقت نفسه القرب من البربر لمراقبتهم ورصد تحركاتهم[9].
ويبدأ عصر الولاة في إفريقية من إنشاء القيروان وبها قامت الولاية سنة 50هـ، أما بالنسبة للمغرب الأوسط فيبدأ من حوالي سنة 85هـ، وأما بالنسبة للمغرب الأقصى فيبدأ عصر الولاة حوالي سنة 90هـ وهي السنة التي أنشأ فيها موسى بن نصير ولايتي المغرب الأقصى والسوس أو سجلماسة[10].
والواقع أن القيروان سرعان ما اتخذت لنفسها مكانة بارزة بين مدائن دولة الإسلام فباتت في إفريقية مقراً للولاة والعمال، منها تخرج جيوش الفتوح وإليها تعود غنائمها، ومن مساجدها ومدارسها يخرج الرسل والعلماء والفقهاء ليدعموا وجود الإسلام في تلك الأصقاع بنشر مبادئ هذا الدين بين البربر وبتعريف هؤلاء القرآن وتعليمهم لغته. وبسرعة مدهشة عمرت بالدور والمنشآت العامة وأقبل كثيرون ممن أسلموا من البربر على الإقامة فيها يختلطون بالعرب ويتعايشون ويتآلفون معهم. وبذا يكون عقبة بن نافع قد نجح في أن يقيم في السهل التونسي قاعدة قوية للإسلام ينتشر منها في جموع البربر الضاربين حولها[11]. وبرغم سيطرة كسيلة عليها بعد استشهاد عقبة سنة 64هـ إلا إن سيطرته تلك: لم تكن قاضية على كل أثر للمسلمين في البلاد[12]. ثم إن المسلمين لم يلبثوا أن عادوا إليها بعد أربع سنوات فقط أي في ولاية زهير بن قيس البلوي وبعد مقتل كسيلة في معركة ممس سنة 69هـ.
ثالثاً: التقسيم الإداري لولاية المغرب:

تجدر الإشارة إلى أن إفريقية كانت في البداية تابعة إدارياً لوالي مصر حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك الذي جعلها ولاية مستقلة سنة 86هـ، ومنح الولاة فيها من السلطات ما منح للولاة في العراق ومصر[13]. وقبل ذلك ومع تولي حسان بن النعمان الغساني (74- 85هـ) أمور إفريقية كان قد تم وضع أساس النظام الإداري لهذه الولاية الجديدة، وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية والتي كانت تشمل ولاية طرابلس مضافاً إليها إفريقية نفسها وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءاً مما عرف فيما بعد بإقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين[14]، وهو الإقليم الذي كان يشمل بلاداً واسعة، من مدنها بسكرة وقسنطينة وقفصة. فكان حسان هو الذي دون الدواوين (ديوان الجند وديوان الخراح وديوان الرسائل)، وجعل العربية لغة رسمية في البلاد وصالح على الخراج وقسّم البلاد خططاً: لكل قبيلة خطة، ثم أقام العمال على نواحي الإدارة من خراج وزكاة وجند[15].

ويتطرق المالكي إلى سياسة حسان مع البربر فيذكر أن «البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم حتى أعطوه 12 ألف فارس يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوه وأسلموا على يديه»، ولم يكتف بذلك بل «وأخرجهم مع العرب يفتحون إفريقية». «فمن ذلك صارت الخطط للبربر بإفريقية فكان يقسم الفيء بينهم والأرض. فدانت له إفريقية ودوّن الدواوين»[16]. وفي التقسيم الإداري تم اعتبار مجال كل قبيلة كبيرة قسماً إدارياً[17] وله مركز ينزله عامل من عرب إفريقية ويتولى إدارة منطقته بالتعاون مع زعماء القبيلة، وأرسل الخليفة قاضياً للقيروان أسوة بغيرها من العواصم الإسلامية الكبرى.. وبهذا تم فتح المغرب وتنظيمه[18].
وفي هذه الفترة حدثت عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام. وكل ذلك بمعاونة عرب إفريقية أو العرب البلديين الذين كانوا قد اكتسبوا خبرة بطبيعة البلاد وخبروا أهلها وعقدوا الصلات معهم وتزوجوا من بناتهم وصار بعضهم موالي لهم، وذلك بحكم وجودهم المبكر في ولاية إفريقية. وكذلك أنشأ حسان مدينة تونس بين عامي (82 - 86هـ) لتكون قاعدة بحرية إسلامية في المغرب بدلاً من مدينة قرطاجة المهدمة القريبة منها كما أسكن فيها جالية من المسلمين لمقاومة الخطر البيزنطي، ومن هذا الميناء الكبير بدأ المسلمون غاراتهم الأولى على صقلية وجزيرة سردينية[19] في البحر المتوسط. وما لبثت المدن أن ازدهرت بمجملها مع استقرار الحال وساعد على ذلك تعاظم هجرات القبائل العربية التي تمركزت في البداية حول المدن ثم اندفعت لاحقاً في كل مكان ناشرة أينما ذهبت اللغة العربية والإسلام. وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى وأنشأ موسى ثلاث ولايات جديدة، الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالي للملكة المغربية الحالية، والثانية ولاية سجلماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبي من المملكة المغربية الحالية، أما الولاية الثالثة فهي تلك المساحة التي امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهي تشمل جزءاً كبيراً من أراضي جمهورية تونس الحالية[20].

رابعاً: انتشار الإسلام والتعريب:

أحداث فتح إفريقية والمغرب في عهد الخليفة الأُموي عبدُ الملك بن مروان.


وفي جميع هذه الولايات استقرت جاليات عربية ولعبت دوراً كبيراً في نشر الإسلام واللغة العربية فيها. ففي عاصمة كل ولاية منها أقيمت قاعدة عربية إسلامية على رأسها والٍ واستقرت جماعات من العرب فيها لتعلم أهل الناحية قواعد الإسلام، وفي الوقت نفسه أخذت العربية في الانتشار بين البربر[21]. وعلى هذا هدفت سياسة هؤلاء الولاة إلى تقوية الصلات مع البربر عن طريق نشر الإسلام بينهم على نطاق واسع وتعريبهم بإعطائهم لغة القرآن وعادات العرب وتقاليدهم وثقافتهم. فالولاة الأوائل كانوا أساساً بدرجة تقل أو تكثر دعاة للإسلام ومبشرين به وعاملين على رفع لواء لغة الضاد ومحاولين إحلالها مكان اللغات واللهجات المحلية. والواقع أن نجاح هؤلاء في هذه المجالات بين البربر كان عظيماً، إذ انتشر الإسلام سريعاً بينهم وظهرت طبقة من المسلمين الجدد لا تقل حماسة للإسلام والرغبة في العمل على إعلاء شأنه ونشر كلمته عن العرب. ويبدو أن انتشار اللغة العربية كان يسير بمحاذاة توسع الإسلام؛ ذلك أن معتنقي الدين الجديد من البربر كانوا بحاجة ماسة للعربية كونها لغة كتابهم القرآن ولسان سادتهم الجدد وحكامهم[22] (هكذا)[23]. ولم يكتمل القرن الأول الهجري حتى كان المغاربة قد صاروا جميعاً مسلمين صادقين في إسلامهم ومتحمسين لرفع راية النضال في سبيل عز عقيدتهم الجديدة.. بل وتعربوا وصاروا يتحدثون العربية ويكتبونها ويخطبون بها بفصاحة، واكتسبوا ما تفيده تلك اللغة من تفكير وتعبير فصارت لهم العقلية العربية نفسها وصار يوجد فيهم الفقهاء والشعراء والخطباء.. كذلك صارت حياتهم ومعاملاتهم قائمة على أساس الشريعة الإسلامية[24]. وبذلك أصبح المغرب جزءاً لا يتجزأ من عالم الإسلام والعروبة كما أن بعض هؤلاء العرب أنشأوا العديد من الحصون والمعاقل على شواطئ البحر المتوسط ورابطوا فيها للتصدي لأي هجوم على هذه السواحل من قبل البيزنطيين الذين كانوا يحنون للعودة إليها. ثم كان هؤلاء العرب الفاتحون لإفريقية والذين انتسبوا إليها فصار يطلق عليهم عرب إفريقية وهم الصخرة التي تكسرت عليها أمواج العاصفة العاتية الهوجاء التي أثارها الخوارج في المغرب سنة 123هـ أو بعبارة أدق كانوا من أهم العوامل التي ساعدت جيوش الخلافة في انتزاع الانتصار الحاسم على جيوش أولئك الخوارج في معركة الأصنام تحت قيادة حنظلة بن صفوان الكلبي، لكونهم قاموا بنصيب كبير من القتال في سبيل استخلاص إفريقية من الثائرين على الخلافة، ولولاهم لما استطاع جند الخلافة الوصول إلى هذا النصر الحاسم[25] الذي وضع حداً للخطر الداهم الذي كان يشكله الخوارج على الوجود الإسلامي في المغرب. ولولا الإسلام لما بقيت للعروبة بقية في هذه الربوع التي ظلت على مر العصور هدفاً للحملات الصليبية المتعاقبة وحسبك 130 عاماً استيطاناً مسعوراً وتغريباً مسموماً وفرنسة حاقدة[26]. ودخول العروبة إلى هذه الربوع في ظل الإسلام هو الذي ضمن لها المقومات الأساسية من لغة وحضارة وفكر وثقافة ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة.. ومن هذا المنطلق حفظ الإسلام للعروبة في شمال إفريقيا مواقف وبطولات على مر العصور وأنجب لها أبطالاً وقواداً وبناة حضارة[27].

خامساً: البيوتات العربية التي برزت في المغرب:

كان عرب إفريقية والمغرب الذين صارت لهم اليد الطولى في هذه البلاد بعد انحلال سيادة الروم الهشة عليها يتشكلون من بيوت كثيرة وينتمون إلى قبائل عربية عديدة وخاصة القبائل اليمنية والحجازية. وقد مضى نصف قرن قبل أن يظفر العرب بالسيادة على الساحل الشمالي الذي يمتد من مصر إلى المحيط الأطلسي ولم تكد قرطاجة تسقط سنة 698م حتى زال الحكم الروماني من إفريقية زوالاً لا رجعة له كما أن إخضاع البربر قد مكّن العرب من أن يصبحوا سادة هذه البلاد[28]. ولكن أبرز البيوتات وكذلك الشخصيات التي ظهرت فيما بعد في إفريقية وحظيت بالنفوذ والرياسة والتأييد فيها سياسياً واجتماعياً وثقافياً كانت غالباً من أبناء وأحفاد القادة الفاتحين لإفريقية. ذلك أن نفراً من كبار الفاتحين خلّفوا وراءهم في المغرب بيوتاً عديدة الأفراد كثيرة الأتباع كان لها دور كبير في تاريخ المغرب فيما بعد[29]. ويشير حسين مؤنس إلى أن عدداً عظيماً من فاتحي إفريقية أنشأوا فيها أسراً من أهلهم وذريتهم فأصبحت هذه الأسر مع الزمن ذات جاه وسلطان بفضل من التف حولها من العرب والموالي والأتباع وأصبحت لها رياسة على جماعات العرب والبربر في النواحي التي استقرت فيها. ومن بيوت هذه الأسر بيت عقبة بن نافع وكان أقواها وأعظمها، وبيت معاوية بن حديج الكندي، وبيت بني نصير، وبيت أبي المهاجر دينار[30]. وهذه البيوتات سيتجه كل منها اتجاهاً خاصاً به، فبيت عقبة بن نافع سيتجهون إلى السياسة، أما بيت أبي المهاجر دينار فسيتجهون إلى العلم، أما أبناء موسى بن نصير فكان اهتمامهم بشئون المال والتجارة[31]. وكان لهذه البيوت الثلاثة النصيب الأوفى من السلطان في إفريقية خلال العصر الأموي بل صارت الأمور أخيراً إلى بيت عقبة بن نافع ممثلاً في شخص عبد الرحمن بن حبيب [بن أبي عبيدة] بن عقبة[32]. هذا الأخير الذي كان محبباً في المغرب لما كان من آثار جده عقبة فغلَبَ عليه بعد وفاة الخليفة هشام وتضعضع مكانة الدولة الأموية في المشرق بعد أن تكالب الخارجون عليها. وكان هؤلاء العرب الأفارقة (البلديون) أي عند اندلاع فتنة الخوارج في المغرب سنة 123هـ مقيمين جماعات كل جماعة في ناحية عليهم رئيس منهم يقوم بشئون الإقليم لحساب عامل إفريقية في القيروان. وقد سجل المؤرخون لنا منهم جماعات قوية في طرابلس وسبرت (صبرة) وقابس والقيروان. ومن شخصيات هؤلاء العرب الإفريقيين في ذلك الحين حبيب بن ميمون (سبرت) وعبد الرحمن بن عقبة الغفاري ومسلمة بن سودة القرشي (القيروان)، وصفوان بن أبي مالك (طرابلس)، وسعيد بن بجرة الغساني (قابس)، وحبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع ويبدو أنه كان على رأس هؤلاء العرب الأفارقة جميعاً[33]. وكان هؤلاء من أبرز القادة الذين اعتمدت عليهم الخلافة الأموية في القضاء على فتنة البربر. وكانت جماعة من هؤلاء العرب الإفريقيين تقيم في تلمسان يرأسها موسى بن أبي خالد، أحد موالي معاوية بن حديج أحد كبار قادة العرب الذين ساهموا في فتح إفريقية بنصيب كبير وكان عامل تلمسان[34] أثناء اندلاع تلك الفتنة، والذي نكل به عبيدة بن الحبحاب أمير إفريقية وقتذاك لاتهامه بممالأة الخوارج وتسببه في مقتل ولده إسماعيل والذي كان أحد أعوانه في إدارة أمور المغرب.
[1] انظر عرض ابن خلدون لأسباب تلك المصاعب في المقدمة، دار الفكر- بيروت، د.ت ص164-165. وانظر أيضاً إبراهيم بيضون: الدولة العربية في إسبانيا، دار النهضة العربية - بيروت، ط2، 1406هـ/1986م، ص59.
[2] أحمد العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية، بيروت، ص36.
[3] حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام، الزهراء للإعلام- القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص134.
[4] نجدة خماش: خلافة بني أمية في الميزان، دار طلاس- دمشق، ص139.
[5] محمد زينهم: مستند تاريخ مملكة الأغالبة لابن وردان دراسة وتقديم وتحقيق وتعليق، ملف PDF منشور على الرابط: (https://goo.gl/u1T6Td).
[6] خماش: المرجع السابق، ص141.
[7] مؤنس: فتح العرب للمغرب، مكتبة الآداب بالجماميز - مصر، ص283.
[8] المالكي: رياض النفوس (10/1) حققه بشير البكوش (دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ط2 1414هـ/ 1994م).
[9] عبد المجيد نعنعي: تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية - بيروت، د.ت ص29-30.
[10] مؤنس: أطلس، ص 178.
[11] المرجع السابق، ص30.
[12] مؤنس: فجر الأندلس، الشركة العربية - القاهرة، ط1، 1959م، ص41.
[13] خماش: المرجع السابق، ص141.
[14] زينهم: المرجع السابق.
[15] مؤنس: فجر، ص45.
[16] المالكي: (56-57/1).
[17] زينهم: المرجع السابق.
[18] مؤنس: فجر، ص45.
[19] مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، 2004م، ص53.
[20] زينهم: المرجع السابق.
[21] مؤنس: معالم، ص62.
[22] نعنعي: الدولة الأموية، ص76 .
[23] من أعظم المصائب التي أصابت أمتنا في الوقت الحاضر تصدي المؤرخين العلمانيين لكتابة تاريخها، كهذا المؤرخ الذي اضطررنا أن ننقل كلامه إلى آخره التزاماً بالأمانة العلمية برغم تعسفه في وصف العرب الفاتحين وما يحمله هذا الوصف من طعن في الفتوحات والنتائج التي ترتبت عليها.
[24] العبادي: مرجع سابق، ص47.
[25] المرجع السابق، ص76.
[26] صالح الخرفي: عروبة المغرب العربي، العربي، العدد 322 سبتمبر 1985م، ص48.
[27] المرجع السابق، ص49.
[28] أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن الإبراهيم، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1947م، ص111.
[29] مؤنس: معالم، ص62.
[30] المرجع السابق، ص77.

[31] المرجع السابق، ص77-78.
[32] مؤنس: فتح العرب للمغرب، ص297.
[33] المرجع السابق، ص297.
[34] مؤنس: فجر، ص168
منقول بتصرف








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 11-04-2023, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





سقوط بغداد (1)
ابن العلقمي والخيانة العظمى


قصة الإسلام
(20)

خارطة لِبغداد العبَّاسيَّة وضواحيها كما كانت تبدو تقريبًا زمن الغزو المغولي.


ابن العلقمي.. اسم تفوح منه رائحة الخيانة والغدر، اسم ارتبط بجريمة من أفظع الجرائم، وكارثة من أخطر الكوارث، وهي سقوط بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في أيدي التتار، فهو اسم خائن متربص بالشريعة، لا يخلو منه عصر من عصور هذه الأمة الإسلامية.


ابن العلقمي .. مراحل حياته


هو أبو طالب محمد بن أحمد بن علي، مؤيَّد الدين الأسدي البغدادي الرافضي المعروف بابن العلقمي (593- 656هـ/ 1197- 1258م)، وقال عنه الزركلي: "وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد، اشتغل في صباه بالأدب، ووثق به المستعصم فألقى إليه زمام أموره، وكان حازمًا خبيرًا بسياسة الملك، كاتبًا فصيح الإنشاء"[1].


شغل منصب أستاذ الدار أو الأستاذ دارية عام 629هـ، وجُعل مكان ابن الناقد فيها[2]، ومنصب أستاذ الدار هو من المناصب الإدارية التي استحدثها العباسيون في منتصف القرن الرابع الهجري، وصاحبها مسئول عن رعاية دار الخلافة العباسية وصيانتها، وتوفير ما يلزم ساكنيها من أسرة الخليفة.

وقد اكتسب منصب أستاذ الدار في مطلع القرن السادس الهجري أهمية كبيرة، حيث أخذ يبرز في صياغة الأحداث الداخلية، وأصبح من حاشية الخليفة التي لها القرار بتنصيب الخليفة أو عزله، وترشيح المقربين لتولي المناصب العليا[3].

ابن العلقمي .. وزيرًا للخليفة


بعد وفاة الخليفة العباسي المستنصر، تولى المستعصم خلافة المسلمين، وكان لينًا سهل الانقياد ضعيف التدبير، وفي ذلك يقول الذهبي رحمه الله: "وكان -أي المستعصم- فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب للمال، وإهمال للأمور، وكان يتكل على غيره، ويَقْدُم على ما لا يليق وعلى ما يُستقبح، وكان يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام"[4].

وقد اختار للوزارة ابن العلقمي، وذلك سنة 642هـ، وقد أورد ابن كثير ذلك في كتابه قائلاً: "استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضيّ الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده، قبَّحه الله وإياهم"[5].

وكان داهية استطاع أن يستغل صفات الضعف في الخليفة لينفث سمومه وينفذ مخططاته، يقول الذهبي: "فأقاموا المستعصم، ثم ركن إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحرث والنسل، وحسَّن له جمع الأموال، والاقتصار على بعض العساكر، وقطع الأكثر، فوافقه على ذلك... وابن العلقمي يلعب به كيف أراد، ولا يُطلِعه على الأخبار، وإذا جاءته نصيحة في السر أطلع عليها ابن العلقمي، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً"[6].


ابن العلقمي وخطة إسقاط الخلافة

وقد كرَّس ابن العلقمي حياته؛ للقضاء على الخلافة العباسية، ومحاربة أهل السُّنَّة أينما حلَّوا أو ارتحلوا، وقامت تلك الخطة على محاور ثلاث، استطاع ذلك الوزير الخائن من خلالها أن يسقط دعائم الخلافة العباسية؛ لتعيش الأمة وللمرة الأولى منذ أكثر من خمسة قرون من دون خليفة يسيِّر أمور تلك الحضارة العظيمة.
وكانت المراحل الثلاث لخطته كما يلي:


1- إضعاف الجيش الإسلامي:

حيث قطع من أرزاق العسكر، وسعى في تقليل النفقات على الجهاد، وهذا ما يؤكده ابن كثير بقوله: "وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف"[7].


2- مكاتبة التتار:


وهذا هو الفصل الثاني والمرحلة الثانية من الخيانة العظمى، حيث كاتب ذلك الوزير التتار؛ ليعرض عليهم معونتهم في اقتحام بغداد وإسقاطها، وأمدَّهم بما يحتاجونه من المعلومات. ويحكي ابن كثير عن ذلك قائلاً: "ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال"[8].


3- النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والرعية:

ثم ضم إلى العقد غير الفريد لخياناته حلقة ثالثة، حيث بدأ في تثبيط همة الخليفة في جهاد التتار، والتخذيل في جماعة المسلمين، ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الحقيقة حين قال عن ابن العلقمي: "وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم -أي من الرافضة- فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم -أي التتار- ويكيد أنواعًا من الكيد"[9].


ولم يكتفِ بالتأثير على العامة، بل راح يثبط من عزيمة الخليفة في جهاد التتار، ويقاوم كل من أشار عليه بالثبات في وجههم، وفي ذلك يحكي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية قائلاً: "وأوهم -أي ابن العلقمي- الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان"[10].

وأشار على الخليفة بالخروج إلى هولاكو، قائلاً: "فليجب مولانا إلى هذا؛ فإن فيه حقن دماء المسلمين"[11].

وتمَّ بهذه الحيلة قتل الخليفة ومن معه من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتار، "وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: (متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك)، وحسنُّوا له قتل الخليفة"[12].


نتائج جريمته النكراء


وبعد مقتل الخليفة اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، وجمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.


لقد ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، "حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل: إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى"[13].

وبعد ذلك خرج الجيش التتري بكامله من بغداد؛ لكيلا يصاب بالطاعون نتيجة الجثث المنتشرة في كل مكان، ويكفي في التعبير عن بشاعة ذلك العدوان، ما قاله الواعظ محمد بن عبيد الله الكوفي وقد شاهد تلك المأساة:

إن ترد عبرة فتلك بنو العبـ *** ـاس حلت عليهــــم الآفات
استبيح الحريم إذ قتل الأحـ *** ـياء منهم وأحرق الأمـوات


كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيَّد الدين العَلْقمي الشيعي حاكمًا من قِبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه -بلا شك- وصاية تترية، ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد.

وفاة ابن العلقمي


ولم يتوقف منصبه الجديد عند حد كونه حاكمًا صوريًّا، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للحاكم الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتحطيم نفسيته، فلا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر.

ويروي السبكي -رحمه الله- طرفًا من تلك الإهانات فيقول: "وأما الوزير -أي ابن العلقمي- فإنه لم يحصل على ما أمَّل وصار عندهم أخس من الذُّباب، وندم حيث لا ينفعه الندم، ويحكي أنه طُلِب منه يومًا شعير، فركب الفرس بنفسه ومضى ليُحصِّله لهم، وهذا يشتمه وهذا يأخذه بيده، وهذا يصفعه بعد أن كانت السلاطين تأتي فتُقبِّل عتبة داره، والعساكر تمشي في خدمته حيث سار من ليله ونهاره.


وإذا بامرأة تراه من طاقٍ، فقالت له: (يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين)! فخجل وسكت، وقد مات غَبنًا بعد أشهر يسيرة، ومضى إلى دار مقبره ووجد ما عمل حاضرًا"[14].

ومات بعد شهور قليلة جدًّا من السنة نفسها التي دخل فيها التتار بغداد، سنة 656هـ/ 1258م، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة، وليكون عِبْرة بعد ذلك لكل خائن.
[1] الزركلي: الأعلام 4/248.
[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 23/162.
[3] بحث بعنوان (منصب أستاذ الدار في الخلافة العباسية ما بين 352-656هـ)، مجلة جامعة الملك خالد، المجلد الرابع، العدد السابع، (1427هـ)، د. محمد بن عبد الله القدحات.
[4] الذهبي: تاريخ الإسلام 11/177.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/192.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام 11/177.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/235.
[8] المصدر السابق، نفس الصفحة.
[9] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 5/155.
[10] ابن كثير: البداية والنهاية 13/201.
[11] السيوطي: تاريخ الخلفاء 1/403.
[12] ابن كثير: البداية والنهاية 13/201.
[13] د. مصطفى طه: محنة الإسلام الكبرى ص177، 178.
[14] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/159.
منقول بتصرف



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 12-04-2023, 12:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان








سقوط بغداد (2)
(656هـ 1258م)
خطة هولاكو لهدم الخلافة العباسية
أ.د. راغب السرجاني
(21)



نموذج عن ملابس وعتاد الجُنود المُسلمين.
منذ تولَّى «منكوخان» زعامة دولة التتار وهو يُفَكِّر في إسقاط الخلافة العباسية، واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام، ومصر، وكان منكوخان قائدًا قويًّا حازمًا، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عونًا له في تحقيق أحلامه؛ فأحد إخوته وهو «أريق بوقا» ظلَّ معه في «قراقورم» العاصمة؛ ليُدير معه الإمبراطورية الواسعة، وأمَّا الأخ الثاني «قوبيلاي» فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية، والتي تضمُّ الصين وكوريا وما حولهما من أقاليم، وأمَّا الأخ الثالث «هولاكو[1]» فقد أصبح مسئولًا عن إدارة إقليم فارس وما حوله؛ مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة، ولا شكَّ أن الجميع قد سمع عن اسم «هولاكو» قبل ذلك!

هولاكو هو الزعيم التتري السفاح؛ الذي لا يمتلك أي نزعة إنسانية، الرجل الذي كان لا يرتوي إلا بدماء البشر، تمامًا كسلفه جنكيزخان، لعنهما الله.

هولاكو.. شخصية من أبشع الشخصيات في تاريخ الأرض!

مُنمنمة فارسيَّة تُصوِّرُ هولاكو خان، قائد الجُيوش المغوليَّة التي اجتاحت بغداد.


ولأنه كان موكلاً بقيادة إقليم فارس، فإن مجال عمله الرئيسي كان البلاد الإسلامية، وكانت معظم الدماء التي أراقها دماءً إسلامية، ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت في قلوب المسلمين، وسبحان الله! كأنَّ الحقد الذي كان في قلب هولاكو لم يكن كافيًا لتدمير الأرض، فقد تزوَّج امرأة لا تقل عنه حقدًا وبطشًا وظلمًا؛ لقد تزوَّج من الأميرة المغولية «طقزخاتون»، وكانت امرأة قوية ذات نفوذ في البلاط المغولي، وكانت فوق ذلك قد انتقلت إلى النصرانية، وكانت شديدة التعصُّب لديانتها، وشديدة الكراهية للإسلام.
وهكذا اجتمع هولاكو مع زوجته «طقزخاتون» ليصبَّا جام غضبهما على الأُمَّة الإسلامية[2]، وكان الهدف واضحًا في ذهن هولاكو؛ إنه كان يُريد بوضوح أن يُسقط بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها.
ومنذ تسلَّم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يُعِدُّ العدَّة لإسقاط الخلافة العباسية، والحقُّ أن إعداده كان إعدادًا باهرًا عظيمًا، بقدر ما كان ردُّ فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهًا حقيرًا، وإذا كان الوضع كذلك فلا بُدَّ أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله عز وجل سننًا لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يُعطيه الله عز وجل، وإن كان كافرًا، والذي لا يُعِدُّ نفسه ليوم اللقاء لا بُدَّ أن ينهزم وإن كان مسلمًا.. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}[هود: 15].
وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعدَّ لها إعدادًا جيدًا، فأخذ نصيبه من الدنيا ولم يُبخس منه شيئًا.
ماذا فعل هولاكو ليُسقط الخلافة العباسية؟
لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649 هجرية بحمية شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلَّى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة؛ فمع حقده الشديد ورغبته الملحَّة في تدمير الخلافة الإسلامية، واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين، ومع كثرة جنوده وتفوُّقه العسكري الظاهر، فإنه -على الرغم من كل هذا- لم يتسرَّع في اتخاذ قرار الحرب ضدَّ الخلافة العباسية؛ بل ظلَّ يُعِدُّ العدَّة في صبر حتى مرَّت خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزًا تمامًا.

وتعالوا نُتابع -كما كان المسلمون آنذاك يُتابعون!- خطوات هولاكو في إعداده: لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة؛ هذه المحاور الأربعة تزيد من فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وكل هذا العمل يتمُّ قبل حركة الجيوش، وقبل النزول الفعلي إلى ساحة المعركة في بغداد، والجدير بالذكر أن هذا الإعداد -في معظمه- كان يتمُّ علنًا على مرأى ومسمع من المسلمين وغير المسلمين! والتاريخ يتكرر!

المحور الأول:
الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين:
1- بدأ هولاكو في إصلاح كافَّة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وهي مسافات رهيبة؛ لكنه عمل على تهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجبلية لمنطقة طاجيكستان وأفغانستان وفارس، والموانع الطبيعية الصعبة.

2- أقام هولاكو الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، وخاصة نهري سيحون وجيحون، ووضع قوَّات كافية تحمي هذه الجسور، وبذلك ضمن استمرار عمليات التموين، وفي الوقت ذاته تفتح هذه الجسور الطريق لخطِّ رجعة لجيوش التتار في حال الهزيمة.
3- جهز هولاكو مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة؛ صُنِعَتْ خصوصًا لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد؛ وبذلك لا يأخذ وقتًا طويلاً في نقل المعدات الثقيلة عبر هذه المسافة الطويلة.
4- بدأ هولاكو في السيطرة على كل المدن والمراكز التي تتحكَّم في محاور الطرق؛ وبذلك تجنَّب حدوث أي مباغتة أو قطع لطرق جيشه أثناء سيرها.
5- قام هولاكو بشيء عجيب فيه ذكاء شديد، وهو إخلاء كل الطرق من الصين إلى بغداد من قطعان الماشية؛ سواء البرية أو المملوكة للسكان، وذلك لترك الحشائش والأعشاب لتكفي لطعام الأعداد الهائلة جدًّا من الخيول الخاصة بالفرسان، والدواب المكلَّفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام.. وغير ذلك؛ وبذلك لا يحتاج أن يحمل معه طعامًا للحيوانات، ولا يتعرَّض لمفاجأة غياب الطعام، وهو كفقد البنزين بالنسبة إلى السيارات، بل أشد؛ فالسيارة تظلُّ بحالتها إذا غاب البنزين حتى يؤتى به، أما الحيوانات فلا تصبر على غياب الطعام[3].

المحور الثاني:
الحرب النفسية على المسلمين:

إضافة إلى إعداد الطرق، وتهيئة الوسائل اللازمة لضمان الإمداد والتموين للحملة التترية، فإن هولاكو لجأ -أيضًا- إلى سلاح رهيب، وهو الحرب النفسية على المسلمين.

وقد كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشنِّ هذه الحرب المهولة على المسلمين.
من هذه الوسائل مثلاً:

رسم لِمُحاربين مغول من كتاب جامع التواريخ لِرشيد الدين الهمذاني.


1- القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق، التي لم يكن لها غرض إلا بثّ الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة، التي تمَّت في السابق في عهود «جنكيزخان» و«أوكيتاي»؛ فالحملة التترية الأولى -التي كانت في عهد جنكيزخان- مرَّ عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تَرَ هذه الأحداث أصلاً، وإنما سمعت بها فقط من آبائهم وأجدادهم، وليس مَنْ سمع كمَنْ شاهد، والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي لم يكن من همِّها التدمير والإبادة في بلاد المسلمين؛ وإنما كانت موجَّهة في الأساس لروسيا وشرق أوربا؛ ومن ثَمَّ لم يتأثَّر بها المسلمون بصورة كبيرة.
ولذلك أراد هولاكو أن يقوم ببعض النشاط العسكري التدميري والإرهابي؛ وذلك بغرض إعلام المسلمين أن حروب التتار ما زالت لا تُقاوم، وأن جيوش التتار ما زالت قوية ومنتشرة.
من ذلك -مثلاً- ما حدث في سنة 650 هجرية عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسَرُوج وسِنْجَار، وهي مناطق في شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا؛ ومما فعلوه في هذه الهجمة أنهم استولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية، وقد بلغت هذه الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار[4]، (وما أشبه هذا بما يحدث اليوم تحت مسميات مثل: تجميد الأموال..).
ولا شكَّ أنها كانت خسارة كبيرة للخلافة العباسية، وفي الوقت ذاته كانت نوعًا من تجهيز الجيش التتري بالمال والعتاد، وفوق ذلك كانت هذه الحملات تقوم بدور الاستطلاع والمراقبة والدراسة لطرق العراق وجغرافيتها، هذا كله إلى جانب بثِّ الرعب في قلوب المسلمين، فكانت هذه الحروب بمنزلة حروب الاستنزاف، فأضعفت من قوَّة الخلافة والمسلمين كثيرًا، وهيَّأت المناخ للحرب الكبيرة القادمة، وأمثال هذه الحروب تتكرَّر في التاريخ كثيرًا، وما مذبحة دير ياسين -وما أحدثته من آثار- منَّا ببعيد.

2- ومن وسائل التتار الخطِرة في حربهم النفسية ضدَّ المسلمين الحرب الإعلامية القذرة؛ التي كان يقودها بعض من أتباع التتار في بلاد المسلمين؛ يتحدَّثُون فيها عن قدرات التتار الهائلة، واستعداداتهم الخرافية، ويُوَسِّعُون الفجوة جدًّا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، وتسربت هذه الأفكار إلى وسائل الإعلام في زمانهم؛ ووسائل الإعلام في ذلك الوقت هم الشعراء والأدباء والقصاصون والمؤرخون، وقد ظهر في كتاباتهم ما يجعل المسلمين يحبطون تمامًا من قتال التتار؛ وذلك مثل:

مُنمنمة فارسيَّة من كتاب جامع التواريخ تُصوِّرُ فُرسانٌ مغول يرمون بِسهامهم من على ظُهُور خُيُولهم، وهو أُسلُوب المُحاربة الذي امتهنه هؤلاء مُنذُ زمن جنكيز خان.

التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم؛ (كناية عن قوَّة وبأس المخابرات التترية، وحسن التمويه والتخفِّي عندهم، إضافة إلى ضعف المخابرات الإسلامية وهوانها).
التتار إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه.
التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم؛ (فأصبح رجال المسلمين يخافون من نساء التتار)!
التتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، ولا تحتاج إلى الشعير!
التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين والمؤن؛ فإنهم يتحرَّكون بالأغنام والبقر والخيول ولا يحتاجون مددًا.
التتار يأكلون جميع اللحوم.. ويأكلون بني آدم[5]!
ولا شكَّ أن مثل هذه الكتابات كانت ترعب العوامَّ، وأحيانًا تُؤَثِّر في نفوس الخواصِّ؛ وهذا من البلاء الذي جنته الأُمَّة على نفسها، وما جناه عليها أحد!
3- وكان -أيضًا- من وسائل التتار المشهورة لشنِّ حرب نفسية على المسلمين كتابة الرسائل التهديدية الخطرة، وإرسالها إلى ملوك وأمراء المسلمين، وكان من حماقة هؤلاء الأمراء أنهم يكشفون مثل هذه الرسائل على الناس؛ فتحدث الرهبة من التتار، وكان التتار من الذكاء بحيث إنهم كانوا يستخدمون بعض الوصوليين والمنافقين من الأدباء المسلمين ليكتبوا لهم هذه الرسائل، وليصوغوها بالطريقة التي يفهمها المسلمون في ذلك الزمان، وبأسلوب السجع المشهور آنذاك، وهذا -ولا شكَّ- يصل إلى قلوب الناس أكثر من الكلام المترجم الذي قد يُفهم بأكثر من صورة، كما أن التتار حاولوا في رسائلهم أن يخدعوا الناس بأنهم من المسلمين، وليسوا من الكفار، وأنهم يُؤمنون بكتاب الله «القرآن»، وأن جذورهم إسلامية، وأنهم ما جاءوا إلى هذه البلاد إلاَّ ليرفعوا ظلم ولاة المسلمين عن كاهل الشعوب البسيطة المسكينة؛ (ما جاءوا إلا لتحرير العراق!)، ومع أن بطش التتار وظلمهم قد انتشر واشتهر؛ فإن هذا الكلام كان يدخل إلى القلوب المريضة الخائفة المرتعبة، فيُعطي لها المسوغ لقبول اجتياح التتار، ويُعطي لها المبرِّر لإلقاء السيف، ولاستقبال التتار استقبال الفاتحين المحرِّرين؛ بدلاً من استقبالهم كغزاة محتلِّين.
لقد كانت هذه الرسائل التترية تُخالف الواقع كثيرًا، ولكنها عندما تقع في يد مَنْ أُحبط نفسيًّا، وهُزم داخليًّا؛ فإنها يكون لها أثر ما بعده أثر.
وكمثال على هذه الرسائل أذكر هنا الرسالة التي أرسلها هولاكو إلى أحد أمراء المسلمين؛ وقال فيها:
«نحن جنود الله.
بنا ينتقم ممَّن عتا وتجبَّر، وطغى وتكبَّر، وبأمر الله ما ائتمر.
نحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد.
فيا أيها الباقون، أنتم بمَنْ مضى لاحقون.
ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تُساقون.
مقصدنا الانتقام، ومُلكنا لا يُرام، ونزيلنا لا يُضام.
وعدلنا في مُلكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفرُّ؟
دمَّرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب.
وجعلنا عظيمهم صغيرًا، وأميرهم أسيرًا.
تحسبون أنكم منَّا ناجون أو متخلِّصُون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون وقد أعذر من أنذر»[6].
ولا شكَّ أن مثل هذه الرسالة إذا وقعت في يد خائف أو جبان، فإنه لن يقوى على الحراك أبدًا بعد قراءتها، وكان هذا هو عين المرجوِّ من وراء مثل هذه الرسائل!
بهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثُّوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين؛ وبذلك أصبح المناخ مناسبًا جدًّا لدخول القوَّات التترية الغازية.
[1] هولاكو خان (ت 663هـ): هو هولاكو بن تولي خان بن جنكيز خان، ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هو لاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكًا جبارًا فاجرًا كفارًا -لعنه الله- قتل من المسلمين شرقًا وغربًا ما لا يَعْلَمُ عددهم، إلا الذي خلقهم، وسيُجازيه على ذلك شرَّ الجزاء.
[2] الدكتور الصياد: المغول في التاريخ ص182.
[3] رشيد الدين فضل الله الهمداني: جامع التواريخ 1/235.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 213.
[5] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 329، 330.
[6] ابن العماد العَكري الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 7/742.
منقول بتصرف







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 13-04-2023, 12:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (3)
(656هـ 1258م)
تحزيب الأحزاب لحصار بغداد
أ.د. راغب السرجاني
(22)




قال الله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب: 20].
وكأن الآية تتنزل من جديد، لتصف منافقين آخرين ينظرون إلى أحزابٍ تتحالف على الدولة الإسلامية مجددًا من دون أن يكون لهم رد فعل، وإن كان لهم كل الفعل في تقويتهم.
عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسة، وبصورة متناسقة؛ لتزيد فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وإسقاط عصمتها بغداد، وكل هذا قبل تحريك الجيوش والنزول الفعلي إلى ساحة المعركة، وقد تكلمنا – في مقال خطة هولاكو لهدم الخلافة - عن محورين من أربعة المحاور هما:
- إعداد الطرق الموصلة إلى بغداد.
- وإشعال الحرب النفسية في صدور المسلمين.
وفي هذا المقال نضيف إليهم المحورين الآخرين وهما من الخطورة والغرابة بمكان.
المحور الثالث: الاستعداد السياسي والدبلوماسي:
بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة؛ وذلك لضمان نجاح المهمَّة الكبيرة، وهذا تغيُّر كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفًا ولا دبلوماسية.


ولما كانت هذه نقطة تحوُّل في السياسة التترية، وفي الوقت ذاته كانت هذه الأحلاف في منتهى الخطورة؛ فقد تكفَّل بالقيام بهذه المعاهدات الخاقان الكبير «منكوخان» شخصيًّا، ولم يترك فيها حرية التصرُّف «لهولاكو»، وإن كان هولاكو من أكثر الناس الذين يعتبر برأيهم في هذا المجال.



1- استقبل «منكوخان» زعيم التتار سفارة صليبية أُرسلت في سنة 651 هجرية من قِبَل «لويس التاسع» ملك فرنسا[1]، الذي ما يئس من إمكانية التعاون مع التتار، وكان بالطبع يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين لهزيمته في موقعة المنصورة سنة 648 هجرية، (منذ ثلاث سنوات فقط)، وكان يتزعَّم السفارة راهب دومينيكاني اسمه «وليم روبروك»، ومَثُل فعلاً بين يدي «منكوخان»، وبدأت المفاوضات للتعاون، ولكن سرعان ما فشلت هذه المفاوضات، والسبب أن «منكوخان» كان رجلاً صريحًا للغاية؛ فلم يكن دبلوماسيًّا بما يكفي لإبرام معاهدات أو عقد أحلاف، ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، ولم يكن يعرف الطرق الغربية الملتوية، وتنميق الألفاظ، واختيار العبارات، والحصول على ما تُريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه يُفَرِّط، ولم يكن يعرف شيئًا عن النفاق الأوربي، أو عن الابتسامة الأوربية التي تُخفي وراءها كل الحقد، لم يكن يعرف كل ذلك؛ إنما كان رجلاً سهلًا واضحًا، مباشرًا في كلامه، محددًا في رغباته[2].
لقد قال «منكوخان» في بداية مفاوضاته: إنه لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه[3]! وإنه لا يعرف كلمة «صديق» إنما يعرف كلمة «تابع»! فأصدقاؤه هم مَنْ يتبعونه، ويُعلنون الولاء له والطاعة، وأعداؤه هم الذين يُحاربونه، أو الذين لا يقبلون طاعته، وهؤلاء ليست بينه وبينهم مفاوضات، إنما لهم السيف والإبادة.
سياسة «القطب الواحد» في العالم!
يُقَسِّم العالم إلى دولة «صديقة» أي: تابعة، ودولة «مارقة» أي: معادية!
وبالطبع رفض ملك فرنسا أن يتحالف على أساس هذا الشرط؛ ومن ثَمَّ فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوربا[4].
2- وإذا كان نصارى غرب أوربا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع «منكوخان» على أساس التبعية؛ فهناك من الملوك الآخرين مَنْ يقبل بذلك، ويعتبره نوعًا من الواقعية.

هولاكو خان يسيرُ على رأس جيشه العرمرميّ.

لقد فكر «هيثوم» ملك أرمينيا النصرانية في التحالف مع التتار على أساس التبعية كما يُريد «منكوخان»؛ فملك أرمينيا يعلم قوَّة التتار؛ فبلاده قد دُمِّرت من قَبْلُ على أيديهم في عهد جنكيزخان، ثم في عهد أوكيتاي، كما يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة، لا تُقارن بأي حال من الأحوال مع دولة التتار؛ فمساحة أرمينيا أقل من 30 ألف كيلومتر مربع، ويعلم ملك أرمينيا -أخيرًا- أنه محصور بين قوَّات التتار من جهة، وقوَّات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جدًّا بينه وبين المسلمين، وهو يتحرَّق شوقًا لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيُرغم عليها غدًا، وساعتها سيفقد ملكه بلا ثمن.
كل هذا دفع «هيثوم» ملك أرمينيا أن يذهب بنفسه لمقابلة «منكوخان» في قراقورم عاصمة المغول، ويبدو أن منكوخان قد بدأ يتعلَّم طرق السياسة، وبدأ يتعلَّم الاعتماد على المظاهر والكلمات المنمَّقة المختارة؛ فقد أقام «منكوخان» احتفالاً كبيرًا، واستقبالاً رسميًّا مهيبًا «لهيثوم» ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع، وإن كانت كل بنود الاتفاق بينهما لا تصلح إلا بين سيد وتابع، لا ملك وملك.
فبعد الاستقبال الحافل لملك أرمينيا (الذي قَدَّم نفسه على أنه من رعايا «منكوخان») بدأ منكوخان يُعطي وعودًا كبيرة وهدايا عظيمة إلى هذا الملك، وهو يشتري بذلك ولاءه وتبعيته؛ فماذا أعطاه «منكوخان»؟
لقد أعطاه ما يلي:



1- ضمان سلامة الممتلكات الشخصية للملك «هيثوم».
2- إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب.
3- مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون منهم خلال الحروب التي دارت بينهم.
4- اعتبار ملك أرمينيا كبير مستشاري الخاقان الكبير «منكوخان»؛ وذلك فيما يختصُّ بشئون غرب آسيا[5].
وهكذا سعد ملك أرمينيا «هيثوم» بقربه من ملك التتار.
ولكن يجب أن نتساءل:
في مقابل ماذا كان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني؟!
إن الناظر للقوى العسكرية في ذلك الوقت يجد أن القوَّة العسكرية لأرمينيا لا تُقارن بالمرَّة بقوَّة التتار، وقد لا تُضيف إليها عددًا مؤثِّرًا؛ فلماذا يتواضع ملك التتار ويعقد معاهدة مع ملك أرمينيا؟
الناظر والمحلِّل لهذا الحدث يجد ما يلي:
أولاً:
ملك التتار سيستفيد من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين؛ فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة، وقد فهم الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، ولا شكَّ أن المعلومات الصادقة التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في حرب المسلمين، (تمامًا كما تحالفت أميركا القوية مع إنجلترا الضعيفة فقط لأن عندها خِبرة بأرض المسلمين، بالتحديد أرض العراق).


ثانيًا:
سيحتاج ملك التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، فإذا كان المدير من أهل البلد، وله ولاء ووفاء له فهو أفضل من الإدارة الخارجية، وأقدر على التحكُّم في الموقف، وأقوى على تهدئة غضب الشعوب.


ثالثًا:
بهذه الخطوة يفتح ملك التتار «منكوخان» باب المعاملات مع النصارى من جديد؛ الذين قد يحتاجهم بعد ذلك عند استكمال فتوحاته في داخل الشام ومصر، وقد يحتاج إلى ملك أرمينيا في استئناف المفاوضات مع ملوك أوربا، هذا إضافة إلى أنه يعلم أن في قلوب النصارى كراهية شديدة للتتار؛ وذلك بسبب المذابح البشعة التي قام بها التتار في روسيا وشرق أوربا؛ وقد تكون فرصة المعاهدة مع ملك أرمينيا داعية إلى شيء من التعاون لرعاية المصالح المشتركة.

رابعًا:
الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي عند المسلمين؛ فالحرب مع التتار شيء، والحرب مع قوَّات «التحالف» شيء آخر! نعم القوَّات المتحالفة مع التتار لا تمثِّل شيئًا يُذكر في الجيش التتري؛ ولكن كلمة «التحالف» لها وقع خاص في نفوس الناس.


خامسًا:

قد تُوكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهامِّ الخطِرة، التي قد يرغب ملك التتار في تجنُّبها؛ وبذلك تكون الخسارة البشرية في جانب الأرمن بدلاً من التتار.

وهكذا فالناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار والأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئًا مطلقًا، وأن المفاوضات بين سيد يملك كل شيء، وبين تابع لا يملك أي شيء، وهكذا يفعل الزعماء الكبار في العالم؛ فإنهم يعقدون معاهدات مع ملوك صغار لا يحملون من صفات الملك إلا الاسم فقط، ويوكلون إليهم القيام بمهامَّ كثيرة، ولا يكون المقابل أكثر من السماح لهم بمجرَّد العيش إلى جوارهم في الأرض، مع إمكانية منحهم بعض الألقاب الفخرية مثل: «كبير مستشاري ملك التتار لشئون غرب آسيا» أو لقب: «الملك الصديق»، أو «الدولة الصديقة»، أو «العلاقات الحميمة بين البلدين»، أو «فخامة الرئيس»، أو «جلالة الملك».
مجرَّد ألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع الحقيقي أن القوَّة التي بيد التتار هي التي فرضت بنود المعاهدة، وهذا يحدث ويتكرَّر في كل الأزمان والأمكنة؛ فالحقوق لا تُحمى إلاَّ بالقوَّة.
وهكذا عاد ملك أرمينيا «هيثوم» منتشيًا بمعاهدته، فخورًا بعلاقته مع ملك التتار، مُعَظَّمًا في شعبه؛ لأنه استطاع بسياسته التي يُسَمُّونها «حكيمة» أن يُجَنِّب مملكته ويلات الحروب!
3- كان من رغبات «منكوخان» -أيضًا- أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، وكان لهم أكثر من مملكة في أنطاكية وطَرَابُلُس وصيدا وحيفا وعكا؛ وذلك ليشغلوا المسلمين في منطقة الشام فلا يُدافعون عن الخلافة العباسية إذا هوجمت.
ولتشجيع هؤلاء الأمراء الصليبيين؛ فقد أوصل لهم ملك التتار طلب التحالف مع «صديقه» الجديد ملك أرمينيا، الذي بدأ يقوم بدور السفير التتري في هذه المنطقة؛ ولزيادة التشجيع فإن ملك التتار وعد الأمراء الصليبيين في الشام بأن يُعطيهم بيت المقدس«هدية» لهم في حال اتفاقهم معه، (وكان بيت المقدس قد حُرِّر مرَّة ثانية على يد الملك الصالح أيوب سنة 643 هجرية بعد أن أهداه أمراء الشام الأيوبيون إلى الصليبيين سنة 626هـ)؛ وكأن منكوخان يملك بيت المقدس، وله الحقُّ في إهدائه! وهكذا وعد مَنْ لا يملك بإعطاء مَنْ لا يستحق.. والتاريخ يتكرَّر بحذافيره!
ومع كل هذا التشجيع؛ فإن أمراء الممالك الصليبية بالشام تردَّدُوا كثيرًا في قبول هذه الاتفاقيات، باستثناء أمير أنطاكية «بوهيموند السادس» الذي استحسن هذا الأمر، وانضمَّ فعلاً إلى ملك التتار.
أمَّا لماذا لم يستحسن بقية الأمراء الصليبيين في الشام هذه الفكرة؟ فذلك لأنهم:



أولاً:
يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، أو يُضَحُّون بهم في مقابل أي شيء، أو ربما دون مقابل.


وثانيًا:
لأنهم في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار، بل لعلَّها خطورة أقرب؛ ومن ثَمَّ لم يتحمَّس هؤلاء الأمراء للتحالف المعلن مع التتار، وإن كانوا لم يرفضوا الأمر صراحة، وتعاملوا مع الطلب بالطريقة السياسية النفاقية المعروفة، مع شيء من الابتسامة وبعض كلمات التبجيل، واختاروا أن يقفوا على الحياد بصورة مؤقَّتة إلى أن ترجح إحدى الكفتين: التتارية أو الإسلامية، وهنا سوف يُسارعون إلى الفئة المنتصرة: يُصافحون ويُباركون ويُهَنِّئون ويُؤَيِّدون.. ويعتذرون أنه لولا «الظروف القاسية» التي كانت تمرُّ بها بلادهم لهان عليهم كل شيء في سبيل راحة المنتصر.. وهذا ما يُسميه البعض «سياسة»!


4- سعى «منكوخان» -أيضًا- إلى عقد بعض الاتفاقات مع نصارى الشام والعراق، وهؤلاء ليسوا من الأمراء أو الملوك، ولكنهم من النصارى الذين يعيشون في كنف الإمارات الإسلامية في الشام، أو في الخلافة العباسية في العراق؛ وهذه بالطبع لم تكن اتفاقات رسمية ولا معلنة، وإنما كانت اتفاقات سرية مع بعض رءوس النصارى، ومع بعض القساوسة؛ وذلك لتسهيل مهمَّة دخول التتار إلى هذه البلاد، ولنقل الأخبار من وإلى التتار، وقد نجح «منكوخان» فعلاً في الوصول إلى عدد كبير من هؤلاء النصارى، وعلى رأسهم بطريرك بغداد شخصيًّا، وكان اسمه «ماكيكا»، وكان عاملاً مساعدًا مهمًّا في دخول بغداد.
5- عقد «منكوخان» -أيضًا- معاهدات مع مملكة الكُرْج النصرانية (في جورجيا الآن)، ومع أن تاريخ التتار مع مملكة الكُرْج كان تاريخًا أسود؛ فإن تاريخ الكُرْج مع المسلمين لم يكن أقلَّ سوادًا؛ ومن ثَمَّ فضَّل نصارى الكُرْج التعاون مع عدوِّهم الجديد التتار ضدَّ عدوِّهم القديم المسلمين؛ وذلك لأمرين؛ الأول: هو أن التتار لهم القوَّة الأعلى، ويغلب على الظنِّ جدًّا أن ينتصروا. وثانيًا: لأن الحرب بين النصارى والمسلمين حرب عقائديَّة أبديَّة -كما ذكرنا من قبلُ- والكراهية أصيلة بين الطرفين، ولا تغيُّر في العقيدة؛ ولذلك لا تغيُّر في الكراهية، وغياب الكراهية لن يكون إلا بغياب العقيدة؛ قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة: 217].
أمَّا الحرب مع التتار فهي حرب مصالح؛ فإذا تعارضت المصالح حدثت الحرب، وإذا اتفقت المصالح حدث الوئام والألفة والصداقة، وإذا اتفقت مصالح مملكة الكُرْج النصرانية مع مصالح التتار الوثنية، فلا مانع من السير معًا في طريق واحد، وهذا -أيضًا- مما يسمونه: «سياسة»!
6- وإذا كانت كل هذه المفاوضات والمعاهدات في كفة؛ فالمفاوضات التي سأذكرها الآن في كفة أخرى؛ ليس لأهميتها فقط ولكن لغرابتها، أو قل: لبشاعتها!
فهذه المعاهدات عُقدت مع بعض «أمراء المسلمين» لتسهيل ضرب «بلاد المسلمين»!
ولَمْ يعقد «منكوخان» هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جدًّا بهؤلاء الأمراء؛ فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يُسَمِّي نفسه أميرًا، بل ويُلَقِّب نفسه بالألقاب الفاخرة؛ مثل: المعظم، والأشرف، والعزيز، والسعيد.. وغير ذلك.
وكَّل «منكوخان» أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية؛ فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يُسارعون في موالاة ومعاونة التتار الأقوياء.. {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 52].
فجاء إلى هولاكو «بدر الدين لؤلؤ[6]» أمير الموصل ليتحالف معه[7].
وجاء سلطانَا السلاجقة؛ وهما «كيكاوس الثاني»، و«قلج أرسلان الرابع» ليتحالفا -أيضًا- مع هولاكو[8]، وكانا في مكان حساس جدًّا؛ فهما في شمال العراق (تركيا الآن)، وتحالفهما يُؤَدِّي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزيًا جدًّا إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!
ورضخ -أيضًا- «الناصر يوسف» أمير حلب ودمشق[9]، ومع كونه حفيد «الناصر صلاح الدين الأيوبي» ، بل شبيهه في الاسم واللقب؛ فإنه لم يكن يُشبهه في شيء من الأخلاق أو الروح، بل كان مهينًا إلى الدرجة التي أرسل ابنه «العزيز» لا ليُقَدِّم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه!



وكذلك جاء «الأشرف الأيوبي» أمير حمص ليُقَدِّم ولاءه لزعيم التتار[10].
لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة؛ فهي -إضافة إلى مهانتها وحقارتها- قد زادت جدًّا من قوَّة التتار، الذين أصبحوا يُحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدَّت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حكامها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وعُدِمَت الثقة في القادة؛ ومن ثَمَّ لم يَعُدْ لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار.
كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس!
7- ووصل هولاكو -أيضًا- في مجهوده السياسي والدبلوماسي إلى شخصية خطيرة في البلاط العباسي نفسه؛ فقد وصل إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة، وهو الوزير «مؤيد الدين العلقمي الشيعي[11]»[12]!
كان مؤيد الدين رجلاً فاسدًا خبيثًا رافضيًّا؛ (شيعيًّا يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ويسبهما هما وأمهات المؤمنين وعامَّة الصحابة)، وكان شديد التشيع؛ كارهًا للسُّنَّة ولأهل السُّنَّة، ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سُنِّيَّة تحمل اسم الخلافة، ولا شكَّ أن هذا كان قلَّة رأي، وضحالة فكر، وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الرفيع.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ»[13].
وهذا الوزير ممن ينطبق عليهم وصف «بطانة السوء»، ولا يخفى على عاقل كيف يكون دور بطانة السوء في فساد البلاد، وهلاك العباد.
والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبقَ في مكانه شهرًا أو شهرين أو عامًا أو عامين! وإنما بقي في مكانه أربع عشرة سنة كاملة، من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية وقت سقوط بغداد، وإذا مرَّت كل هذه الفترة دون أن يُدرك الخليفة خطورته، فلا شكَّ أن هذا دليل واضح على خفَّة عقل الخليفة.
لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاًّ فساده وتشيعه وكراهيته للسُّنَّة، واتَّفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضلِّلة التي يُقَدِّمها للخليفة العباسي المستعصم بالله؛ وذلك في مقابل أن يكون له شأن في «مجلس الحكم» الذي سيُدير بغداد بعد سقوط الخلافة والتخلُّص من الخليفة، وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون؛ وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرَّت بالمنطقة في تلك الأوقات.
بالاطلاع على هذه الجهود الدبلوماسية، التي قام بها «منكوخان» و«هولاكو» يتبين أنهما بذلا جهدًا كبيرًا ضخمًا للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، والتي تهدف إلى أمر خَطِر لم يحدث قبل ذلك في الدنيا.. ولو مرَّة واحدة، وهو إسقاط عاصمة الخلافة الإسلامية.
وخلاصة الجهود الدبلوماسية التترية أنهم تعاونوا تعاونًا قويًّا مهمًّا مع ملوك أرمينيا والكُرْج وأنطاكية النصارى، وحيَّدُوا إلى حدٍّ كبير جانب حكام الإمارات الصليبية بالشام، وأقاموا تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالفوا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي. ولا شكَّ أن هذه الجهود الدبلوماسية كان لها دور ملموس في إنجاح الخطة التترية لإسقاط الخلافة الإسلامية.

ويجدر القول هنا: إن المسلمين بصفة عامَّة -إلاَّ مَنْ ندر- كانوا يُراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم، أو وهم يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمِّس من القيام أو الحركة، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
المحور الرابع: إضعاف جيوش الخلافة العباسية:

وقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد «مؤيد الدين العلقمي» أن يُقنع الخليفة العباسي «المستعصم بالله» أن يُخَفِّض من ميزانية الجيش[14]، وأن يُقَلِّل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب؛ بل يُحَوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة.. وغيرها، والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات وبناء الجسور.. وأعمال المخابز والنوادي! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!


وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يُستغرب من مثله، ولكن الذي يُستغرب فعلاً أن الخليفة قَبِلَ هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد؛ حتى لا يُثير حفيظة التتار، وليُثبت لهم أنه رجل سلام ولا يُريد الحروب! لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام -أيضًا- بتقليل عدد الجنود؛ حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله؛ وذلك في سنة 640 هجرية، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية[15]! وهذا يعني هبوطًا مروعًا في الإمكانيات العسكرية للخلافة، ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع؛ حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق! وأُهملت التدريبات العسكرية، وفَقَدَ قوَّاد الجيش أيَّ مكانة لهم، ولم يَعُدْ يُذكر من بينهم مَنْ له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد!

وهذه والله الخيانة الكبرى.. والجريمة العظمى!

ويُلقي ابن كثير : باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة المستعصم بالله، ولكني أُلقي باللوم الأكبر على الخليفة ذاته، الذي قَبِلَ بهذا الهوان، ورضي بهذا الذلِّ، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يُدافع عن ترابه وأرضه ضدَّ أيِّ غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه، وتسليح جنده، وأن يُرَبِّيَ الشعب بكامله -لا الجيش فقط- على حبِّ الجهاد والموت في سبيل الله عز وجل.

لم يفعل الخليفة المستعصم بالله كل ذلك، ولا عذر له عندي؛ فقد كان يملك من السلطان ما يجعله قادرًا على اتخاذ القرار؛ لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[1] محمود سعيد عمران: المغول وأوربا ص232.
[2] رنسيمان ص511 ، Rubruck: pp165- 186.
[3] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص75.
[4] المرجع السابق.
[5] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص78.
[6] بدر الدين لؤلؤ: صاحب الموصل، كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيًّا، اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي آقسنقر الأتابكي صاحب الموصل، وقد بلغ من العمر قريبًا من تسعين.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/248.
[8] ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 2/195.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 13/249.
[10] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 3/202.
[11] مؤيد الدين العلقمي [593 -656هـ]: هو محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمي، كان رافضيًّا خبيثًا رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفارَ، دفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحدُّ ولا يوصف.
[12] الذهبي: تاريخ الإسلام 48/38.
[13] البخاري: كتاب القدر، باب المعصوم من عصم الله [6611].
[14] كمال الدين أبو الفضل: الحوادث الجامعة ص154.
[15] ابن كثير: البداية والنهاية 13/234.


منقول بتصرف



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 14-04-2023, 12:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان





سقوط بغداد (4)
(656هـ 1258م)
تحزيب الأحزاب لحصار بغداد
أ.د. راغب السرجاني
(23)
أدرك هولاكو أن المناخ أصبح ملائمًا للهجوم المباشر على الخلافة العباسية وإسقاط بغداد؛ فبدأ عملية حشد هائلة للجنود نتعرف عليها في هذا المقال.





مضى خمس سنوات كاملة من الإعداد والتجهيز المغولي للحرب الكبيرة على بغداد، وفي هذه السنوات:
- أصبحت كل الطرق بين الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصُنعت العربات اللازمة لنقل المعدَّات الثقيلة، وفُرِّغت السهول والطرق من المواشي لترك الأعشاب لخيول التتار.
- سيطر التتار على كل المحاور المهمَّة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق؛ وبذلك تحقَّقت مهمَّة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي.
- توافرت لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود العباسيين وحالتهم العسكرية، واطَّلع اطِّلاعًا كاملاً على خبايا الاقتصاد الإسلامي، وتوافرت له -أيضًا- معلومات عن عناصر القوَّة والضعف في الخلافة العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم.
كل هذه المعلومات توافرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز المهمَّة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحيانًا إلى الاتصالات مع الأمراء والوزراء كما وضحنا.
- عقد التتار معاهدات وتحالفات مع نصارى الأرمن والكُرْج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة.
- تم تحييد ملوك أوربا الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسيًّا في المقام الأول؛ إنما كان عن طريق السلطان وفرض الكلمة بقوَّة الرأي والسلاح.
- تمَّ الاتفاق مع معظم أمراء الممالك الإسلامية المحيطة بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يُعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير المشروطة لهولاكو؛ وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء الأمراء كانوا من الأكراد من حفدة صلاح الدين الأيوبي!



- تأكَّد هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، واستوى في ذلك الحكَّام والمحكومون.
- أقام هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه التامَّ له.
- تيقَّن هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلَّة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن يُدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!
- أدرك هولاكو كل شيء عن الخليفة «المستعصم بالله» خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته، وقدَّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه.
تمَّت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654 هجرية.
وبناءً عليه أدرك هولاكو أن المناخ العامَّ أصبح ملائمًا للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، وإسقاط بغداد؛ فبدأ عملية حشد هائلة للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش للتتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان؛ بحيث كان الجنود المكلَّفُون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوَّات المكلفة بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
ونستطيع أن نتبيَّن تركيبة الجيش التتري كما يلي:
أولاً:
الجيش التتري الأصلي؛ الذي كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأَذْرَبِيجَان شرق العراق.


ثانيًا:
استدعى هولاكو فرقة من جيش التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير «باتو» (فاتح أوربا)، ولكن باتو لم يأتِ بنفسه؛ وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان «باتو» وعائلته قد كوَّنُوا دولة مستقرَّة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم اسم
القبيلة الذهبية، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم؛ فإنهم كانوا في النهاية يتبعون زعيم التتار «منكوخان».


ثالثًا:
أرسل هولاكو في طلب فرقة من جيش التتار المكلَّف بفتح أوربا؛ الذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير «بيجو»، وقد جاءت هذه الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومُتَّجِهة إلى بغداد، ولم تلقَ أي نوع من المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حُكَّام هذه المناطق المسلمة كانوا قد أفرغوا المجال الأرضي لقوَّات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل وحلب وحمص!


رابعًا:
أرسل هولاكو إلى «صديقه» ملك أرمينيا يطلب المساعدة؛ فجاءه «هيثوم» ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه.


خامسًا:
طلب هولاكو -أيضًا- من ملك الكُرْج أن يُرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فورًا[1].


سادسًا:
استدعى هولاكو ألفًا من الرماة الصينيين المهرة؛ الذين اشتهروا بتسديد السهام المحمَّلة بالنيران[2].


سابعًا:
وضع هولاكو على رأس جيوشه أفضل قوَّاده، وكان اسمه «كتبغا نوين[3]» [4]، وفوق إمكانياته القيادية والمهارية فإنه كان نصرانيًّا؛ وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش، وبذلك ضمَّ الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو.


ثامنًا:

بوابة عشتار التاريخية
راسل هولاكو أمير أنطاكية «بوهيموند السادس»، ولكن تعذَّر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه كان على استعداد تامٍّ للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام.

تاسعًا:
أرسل الناصر يوسف أمير دمشق ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو.


عاشرًا:
أرسل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ فرقة مساعدة لجيش التتار[5].


وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين؛ فإنهما كانتا تحملان معاني كثيرة، فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين! بل قد يُشارك في عملية «تحرير العراق» عراقيون متحالفون مع التتار! عراقيون باعوا كل شيء في مقابل كرسي صغير، أو إمارة تافهة، أو دارهم معدودات، أو مجرَّد حياة.. أي حياة!
وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطَّة المعركة.
وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثِّل خطورة على الجيش التتري؛ فطائفة الإسماعيلية مشهورة بقوَّة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان؛ ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم راسلوا قبل ذلك التتار ليدلُّوهم على ضعف جلال الدين بن خُوارِزم قبل مقتله في سنة 629 هجرية، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلَّفون لأصحاب القوَّة، مع كل هذه الاعتبارات فإن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرَّك الجيوش التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوَّات عسكرية للإسماعيلية، هذا إضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية؛ فقد قتلت الإسماعيلية ابنًا من أبناء جنكيزخان اسمه «جغتاي[6]»، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر من ثلاثين سنة!



لم ينسَ التتار هذا الثأر؛ لأنه يخصُّ ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من عائلة جنكيزخان نفسها، ويعتبرون الثأر من الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة؛ حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم ابنة «جغتاي» القتيل القديم؛ وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها بالثأر لأبيها.

نهر دجلة في وسط بغداد ، عاصمة العراق

كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلُّص من الإسماعيلية نهائيًّا، وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.

وتحرَّكت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو حصن «آلموت» في غرب فارس، وما هي إلاَّ أيام حتى تمَّ تطويق الحصن المنيع، ولما شاهد زعيم الإسماعيلية «ركن الدين خورشاه» هذه الأعداد التي لا تُحصى طلب أن يُقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل الوصول إلى بغداد، والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة[7]، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمَّم على القتال عاصيًا بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عَنْوَة بعد ذلك بأيام، وذبحوا كل مَنْ فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى «منكوخان» ليتفاوض معه شخصيًّا في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود، وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطًا بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن يُقابله واستحقره جدًّا؛ وقال: «إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة». ثم أمر جنوده بإعادة ركن الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قُتل ركن الدين خورشاه كما يقولون «في ظروف غامضة». وإن كانت الظروف ليست بغامضة؛ فمن الواضح أن «منكوخان» قد أوصى بقتله، ولكن خارج البلاط المغولي؛ لئلاَّ يُتَّهم البلاط بالغدر[8]!
وبعد قتل ركن الدين خورشاه قام «هولاكو» بخدعة خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم، والتعاون معًا لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء الإسماعيلية من كل مكان؛ حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو -كما يزعم- يخشى أن يضخم الإسماعيلية أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر؛ وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم، حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كلَّ مَنْ أمسكه في يده[9]، ولم ينسَ أن يأخذ مجموعة من الرجال إلى «سالقان خاتون» ابنة «جغتاي» وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها؛ لتأخذ بثأر أبيها «جغتاي» المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك[10].
وهكذا تمَّ في خلال سنة 655 هجرية استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريبًا، ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، ولم يأتِ في عملية الإحصاء المزعومة.
وبذلك أصبح الطريق آمنًا مفتوحًا إلى بغداد؛ وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء -ولكن بنظام- في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة؛ بل قليلة جدًّا!
وقبل التحدُّث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أُشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار «بهولاكو»، أو إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مسوِّغٍ واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد؛ فالناظر إلى الأحداث دون تعمُّق، والدارس للأمر دراسة سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار -وهم من أخس أهل الأرض، ومن الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات- أن يفعلوا كل هذا الذي فعلوه بالمسلمين، والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله؛ المقيمين للصلاة، والقارئين لكتاب الله؟!
فأحببتُ أن أتجوَّل معكم في هذا الإعداد الطويل المرتَّب، الذي لم يُقابل بأقلِّ درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى، والبلية العظمى!
إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحِّدين المسلمين، ولا يعدُّ العدَّة ولا يأخذ بالأسباب واهمٌ في إمكانية تحقيق النصر؛ إن التتار لم ينتصروا على المسلمين لكرامة لهم عند الله عز وجل، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن أسوئهم أخلاقًا، ولكنهم أعدُّوا العدَّة، وأخذوا بالأسباب؛ فتحقَّقت على أيديهم النتائج التي خطَّطُوا لها.



وهذه سُنَّة مطَّردة؛ وكثيرًا ما رأينا اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويُكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء بالأسباب المادِّيَّة، وتركها المسلمون.
وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب المادِّيَّة فقط ويتركوا مسبب الأسباب –سبحانه-؛ إنما المقصود هو العمل الجادُّ الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله عز وجل طلبًا للتوفيق والنصر، وإذا تمَّ النصر علمنا أنه من عند الله عز وجل، ولم نتكبَّر أو نتجبَّر أو نعتقد في خروجنا عن دائرة حكم الله عز وجل.
والتاريخ -يا إخواني- يتكرَّر.
وما فعله التتار من إعداد ضدَّ المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك.
وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله المسلمون بعد ذلك أيضًا.
وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك الصورة، فلا شكَّ أن النتائج في عصرنا ستأتي على الصورة نفسها إذا لم يفقه المسلمون الأمر ويعيدون ترتيب أوراقهم وفقًا للفهم الصحيح.
ولذلك نقصُّ التاريخ.

فهل من مُدَّكر!
[1] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 4/15.
[2] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص101.
[3] كتبغا نوين (ت658هـ): كتبغا نوين مقدِّم التتار يوم عين جالوت، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف.
[4] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص100.
[5] قطب الدين اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/87.
[6] جغتاى: كان لجغتاى خان زوجتان عظيمتان، ييسولون خاتون بنت قيانويان بن دارتياى ملك أقوام القنقرات، وتركان خاتون أخت ييسولون، وقد طلبها بعدها، وكان له ثمانية أبناءهم: موجي بيه، ومواتوكان، وبيسونة كان، وبلكسي، وبايجو، وبايدار، وقداقي، وساربان. تاريخ البناكتي = روضة أولي الألباب ص 432.
[7] علاء الدين عطا الجويني: تاريخ جهانكشاي 3/ 106-113.
[8] المرجع السابق 4/275-278.
[9] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/107.
[10] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص102.


منقول بتصرف





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 14-04-2023, 11:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (5)
(656هـ 1258م)
أخر أيام بغداد

أ.د. راغب السرجاني
(24)

كانت بغداد من أشدِّ مدن الأرض حصانة؛ وأسوارها من أقوى الأسوار، لكن كانت الحصون تفتقد الرجال؛ وعن أوضاعها يكتب د. راغب السرجاني هذا المقال.



اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يُعَدُّ من أهمِّ مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة بغداد ، وكان هولاكو قلقًا من أي مفاجآت؛ خاصَّة من الأمراء المسلمين الذين انضمُّوا إلى جيشه؛ ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدُّم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضمُّوا إليه لم يكن في نيتهم قطُّ الغدر «بهولاكو»، إنما كان العزم -كل العزم- أن يغدروا «ببغداد»!
كان مجلس الحرب معقودًا في مدينة «هَمَذَان» الفارسية (في إيران حاليًّا) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي؛ وقرَّر هولاكو في هذا المجلس أن يُقَسِّم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
الجيش الأول:
هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيُرسلها «باتو» زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكُرْج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مرورًا بمدينة كَرْمَان شاه، وستكون مهمَّة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية.


الجيش الثاني:
هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده «كتبغا» أفضل قوَّاد هولاكو، وسيتحرَّك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضًا، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تمَّ فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية -إن وُجدت- أن تُقَدِّر العدد الصحيح للجيش التتري، إضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً عن أن هذا الجيش ستكون له مهمَّة اختراق سهول العراق، والتوجُّه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية.


ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلو مترًا؛ فإن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يُخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين -إن كانت هناك عيون- فلم يكتشف العباسيون الجيش إلاَّ وهو على بُعد كيلو مترات معدودة من بغداد!
أما الجيش الثالث:

فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن)؛ الذي كان مكلَّفًا بفتح أوربا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير «بيجو»، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليُحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقًا وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب[1].


لكنَّ هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث:
أما المشكلة الأولى:
فإن عليه أن يضبط توقيته؛ حتى يأتي بغداد في الوقت نفسه الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيدًا أمام العباسيين إن جاء مبكِّرًا، أو ترك هولاكو وحيدًا إن كان متأخِّرًا؛ فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحرُّكات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة سرعة التحرُّك بدقَّة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلاَّ عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهَّدة؛ لعلمنا صعوبة هذه النقطة، ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد؛ دلالة على دقَّة حساباته، ومهارته في التحرُّك بهذا الجيش الكبير.


المشكلة الثانية:

من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى؛ وهي أن هذا الجيش الثالث -لكي يصل إلى بغداد- عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلو متر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلو متر أخرى في الأراضي العراقية، وهذه كلها أراضٍ إسلامية! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلو متر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد؛ وتَذَكَّر أننا نتحدَّث عن زمن ليس فيه طائرات؛ أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يُقابله من معوقات، لقد كانت أقلّ المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد -على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعدّ له الجيش العباسي قبل وصوله، أمَّا المخاطر الكبرى التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه؛ المليء بالتجمُّعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمُّعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتُوضع له الشراك.. وتَذَكَّر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرَّة الأولى في حياته، لكن -سبحان الله!- كل هذا لم يحدث.. لقد قطع «بيجو» بجيشه 95٪ من الطريق (أي حوالي 950 كيلو مترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئًا! لقد باغت «بيجو» الخلافة العباسية على بُعد خمسين كيلو مترًا فقط شمال غرب بغداد! لقد اكتشف العباسيون جيش «بيجو» تمامًا كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!


وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفَّى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نُفَسِّر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!
إن تسويغ اختراق «بيجو» للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين:

أمَّا المصيبة الأولى:

فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تمامًا، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها.
والمصيبة الثانية والأعظم:

فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين؛ هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أيُّ نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنُّب شرِّه، وخافوا أن يدلُّوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك.
خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول.
وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.
فبدر الدين لؤلؤ لم يكتفِ بتسهيل مهمَّة التتار، والسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تُعينهم على عملية «تحرير العراق» من حُكم الخلافة العباسية!
ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عامًا! وقيل: مائة! وجدير بالذكر -أيضًا- أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!
ونسأل الله حسن الخاتمة.
كانت هذه هي تحرُّكات الجيش التتري.
كيف كان الوضع في بغداد؟
كانت بغداد في ذلك الوقت من أشدِّ مدن الأرض حصانة؛ وكانت أسوارها من أقوى الأسوار؛ فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وأُنفق على تحصينها مبالغ طائلة وجهود هائلة؛ لكن وا أسفاه على المدينة الحصينة!



لقد كانت الحصون تحتاج إلى رجال؛ ولكن ندر الرجال في ذلك الزمن!
مَنْ على رأس الدولة في الخلافة العباسية؟
إنه الخليفة السابع والثلاثون والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد.
إنه «المستعصم بالله».
اسم كبير «المستعصم بالله»، ولقب كبير أيضًا: «خليفة المسلمين»!
ولكن أين مقوِّمات الخلافة في «المستعصم بالله»؟!
عندما تقرأ عن صفات هذا الخليفة الذاتية في كتب السير؛ مثل: تاريخ الخلفاء للسيوطي، أو البداية والنهاية لابن كثير.. أو غيرها من الكتب تجد أمرًا عجبًا.
تجد أنهم يصفون رجلاً فاضلاً في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس، (رجل يتميَّز بالطيبة.. مثلما يقولون).
يقول ابن كثير مثلاً: «كان حسن الصورة، جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتديًا بأبيه «المستنصر» في المَعْدَلة[2]، وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد... وكان سُنِّيًّا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة»[3].
ولا أدري في الحقيقة ماذا يقصد بأنه كان على طريقة السلف؟!
ألم يكن في مذهب السلف جهاد؟!
ألم يكن في مذهب السلف إعداد للقتال؟!
ألم يكن في مذهب السلف دراسة لأحوال الأرض ولموازين القوى؟!
ألم يكن في مذهب السلف حميَّة ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأَذْرَبِيجَان وغيرها؟!
ألم يكن في مذهب السلف وَحْدَة وألفة وترابط؟!
لقد كان الخليفة المستعصم صالحًا في ذاته؛ كان رجلاً طيبًا؛ لكنه افتقر إلى أمور لا يصحُّ أن يفتقر إليها حاكم مسلم:
افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات.
افتقر إلى كفاءة القيادة.
افتقر إلى علو الهمَّة، والأمل في سيادة الأرض، والنصر على الأعداء، ونشر دين الله.
افتقر إلى الشجاعة؛ التي تُمَكِّنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب.



افتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف، وتوحيد القلوب، ونبذ الفُرقة، ورفع راية الوَحْدَة الإسلامية.
افتقر إلى حُسن اختيار أعوانه، فتجمَّعَتْ من حوله بطانة السوء؛ الوزراء يسرقون، والشرطة يظلمون، وقوَّاد الجيش متخاذلون!
افتقر إلى محاربة الفساد، فعمَّ الفساد وطغى؛ وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمَّت الرشاوى، وطغت الوساطة، وانتشرت أماكن اللهو والفساد والإباحية والمجون؛ بل وأُعلن عنها صراحة! ودُعِيَ إليها على رءوس الأشهاد! الراقصات الخليعات ما كُنَّ يختفين في هذا البلد الإسلامي بل يُعْلِنَّ عن أنفسهن صراحة!
نعم كان الخليفة محسنًا في أداء شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة؛ نعم كان لسانه نظيفًا، وكان محبًّا للفقراء والعلماء، وكل ذلك جميل في مسئوليته أمام نفسه، لكن أين مسئوليته أمام مجتمعه وأُمَّته؟
لقد ضعف الخليفة تمامًا عن حمل مسئولية الشعب.
لقد كان باستطاعة الخليفة أن يُدَبِّر من داخل العراق مائة وعشرين ألف فارس فضلاً عن المشاة والمتطوعين، وكان الجيش التتري المحاصِر لبغداد مائتي ألف مقاتل، وكان هناك أمل كبير في ردِّ الغزاة، لكنَّ الخليفة كان مهزومًا من داخله! وكان فاقدًا للرُّوح التي تُمَكِّنه من المقاومة، كما أنه لم يُرَبِّ شعبه على الجهاد، ولم يُعَلِّمْهم فنون القتال.
وإلاَّ.. فأين معسكرات التدريب التي تُعِدُّ شباب الأُمَّة ليوم كيوم التتار؟!
أين الاهتمام بالسباحة والرماية وركوب الخيل؟!
أين التجهيز المعنوي للأُمَّة لتعيش حياة الجدِّ والنضال؟!
أنا لست متحاملاً على الخليفة!
لقد حكم هذا الخليفة بلاده ما يقرب من ستة عشر عامًا.
إنه لم يُفاجأ بالحكم.. ولم يأته الأمر على عجل..
لقد رُبِّي ليكون خليفة، وتولَّى الحكم وهو في سنِّ الحادية والثلاثين، وكان شابًّا ناضجًا واعيًا، وأُعطي الفرصة كاملة لإدارة البلاد؛ وظلَّ في كرسي حكمه ستة عشر عامًا كاملة، فإن كان كَفِيًّا كان عليه أن يُعِدَّ العُدَّة، ويُقَوِّي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويُعلي من شأنها، ويُجَهِّز جيشها، ويُعِزَّ رأيها، وإن كان غير ذلك فكان عليه -إن كان صادقا- أن يتنحَّى عن الحكم.. ويترك الأمر لمن يستطيع؛ فهذه ليست مسئولية أسرة أو قبيلة؛ إنما هي مسئولية أُمَّة.. وأمة عظيمة كبيرة جليلة، أمة هي خير أمة أخرجت للناس.
لكن الخليفة لم يفعل أيًّا من الأمرين.. لا هو قام بالإعداد، ولا هو قام بالتنحي.. فكان لا بُدَّ أن يدفع الثمن، وكان لا بُدَّ لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.



وعلى قدر عظم الأمانة التي ضاعت، سيكون الثمن الذي يدفعه الخليفة ومعه الشعب.. وسترون كيف كان ثمنًا باهظًا!
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، بل كانت خزائن الدولة ملأى بالسلاح، لكنه إما سلاح قديم بالٍ أكل عليه الدهر وشرب، وإما سلاح جديد عظيم لم يُستخدم من قبل.. ولكن -للأسف الشديد- لم يتدرَّب عليه أحد.
والنتيجة: جيش الخلافة العباسية جيش هزيل ضعيف، لا يصلح أن يكون جيشًا لإمارة صغيرة، فضلاً عن خلافة عظيمة.
كان هذا شأن الخليفة في بغداد! فماذا عن حكومته؟ كيف كان حالها؟!
حكومة بغداد:
كانت البطانة كالحاكم، وكان الحاكم كالبطانة.. كانت الحكومة -كالجيش- هزيلة ضعيفة مريضة، مكونة من «أشباح» وزراء! ليس من همهم إلا جمع المال والثروات، وتوسيع نطاق السلطة، والتحكم في رقاب العباد، والتنافس الشريف وغير الشريف فيما بينهم، والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية.! وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة، وعادى أبناءها! لقد كانت تلك الوزارة سيفًا مسلطًا على رقاب وأموال المسلمين.. ولم تكن علاقاتهم بالمسلمين الذين يحمونهم علاقة الإخوة بإخوانهم.. وإنما كانت علاقة السادة بعبيدهم.


الشعب في بغداد:
كيف كانت طبيعته؟ وكيف كانت طموحاته؟!

لا تتوقَّعوا أنه شعب قد ظُلم بخليفة ضعيف أو هزيل.. فالحُكَّام إفراز طبيعي جدًّا جدًّا للشعوب.
«كما تكونوا يُوَلَّ عليكم»[4].



الشعب في بغداد آنذاك كان شعبًا كبيرًا ضخمًا.. كان يبلغ ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، وبذلك تُعَدُّ بغداد أكثر مدن العالم ازدحامًا في ذلك الوقت، هذا إلى جانب السكان في المدن والقرى المحيطة.. فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية، ولكنهم كانوا شعبًا مترفًا.. ألِف حياة الدعة والهدوء والراحة.. الملتزم فيهم بدينه اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، ونسي الفريضة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد، وغير الملتزم منهم بدينه -وهم كثير- عاشوا لشهواتهم وملذَّاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وفي أنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب؛ ومنهم مَنِ التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد.. وفوق ذلك فإنهم ظلوا قرابة الأربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة التي تتمُّ في إخوانهم المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وفارس وأَذْرَبِيجَان والشيشان..
سمعوا عن كل هذه المذابح ولم يتحرَّكوا..
وسمعوا عن سبي النساء المسلمات ولم يتحرَّكوا..
وسمعوا عن خطف الأطفال المسلمين ولم يتحركوا..
وسمعوا عن اغتصاب بنات المسلمين ولم يتحركوا..
وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا..
بل سمعوا أن خليفتهم «الناصر لدين الله» جد «المستعصم بالله» كان يساعد التتار ضد المسلمين الخُوارِزمية ولم يتحرَّكوا!
سمعوا بكل ذلك وأضعافه ولم يتحركوا.
فلا بد أن يكون الجزاء من جنس العمل!
«كَمَا تَدِينُ تُدَانُ»[5].



سيأتي يوم يذوق فيه هذا الشعب كل ما كان يُفعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرَّك له أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم كما ساعدوهم على إخوانهم من قبل.. وهكذا تدور الدوائر.
ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره. فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة شعوب لا تستحق الحياة، الشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها شعوب ليس لها أن ترفع رأسها.
ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟
أين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟
أين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟
أين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولأصول الدين؟
أليس في بغداد رجل رشيد؟!
لقد كان هذا هو الوضع في بغداد.
أمَّا خارج بغداد فالوضع كما تعلمون.. فهناك جيوش التتار تتحرَّق شوقًا لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب!
[1] ابن العبري: تاريخ الزمان ص307.
[2] المعدلة؛ أي العَدْل: وهو الحُكْم بالحقِّ.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/238.
[4] الطرطوشي المالكي: سراج الملوك ص116.
[5] سنن البيهقي 1/197.



منقول بتصرف


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 15-04-2023, 11:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (6)
(656هـ 1258م)
بغداد تحت الحصار
أ.د. راغب السرجاني
(25)

وضعت بغداد بين فكي كماشة هولاكو من الشرق، وبيجو من الغرب، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة، وعن تلك الأثناء يكتب د. راغب السرجاني هذا المقال


بينما المسلمون على حالتهم من ضعفٍ وهوان إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وكان ذلك في يوم 12 من المحرم من سنة 656 هجرية.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك «كتبغا» بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية[1].
وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعًا عاجلاً طارئًا، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!
ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟
{فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}[ص: 3].
وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يُؤيدون مهادنة التتار وإقامة «مباحثات سلام» معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جدًّا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة.
كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!
لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة.
لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد؛ والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية؛ لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت «غريبة»! قام «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» يحضَّان على المقاومة، نعم جاءت الإشارة متأخِّرة، بل متأخرة جدًّا؛ لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يُشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. وذلك مع العلم أن العلاقات كانت متوترة جدًّا بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولا بُدَّ للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتَّر.. لكن -للأسف- لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!
واحتار الخليفة!


هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي.. فقلبه لا يقوى على الحروب.
وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا «توهب» وإنما «تؤخذ».
احتار الخليفة، ثم استقرَّ أخيرًا.. لقد استمع -والحمد لله- إلى كلام العقل؛ لقد قرَّر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين! والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات.
الجهاد ليس قرارًا عشوائيًّا.. لا يوجد مجاهد «مصَادفَة»!
الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. ومشوار طويل في طريق الإيمان.
الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام؛ ولكن على كل حال «فلنجاهد» (على سبيل التجربة!) وسمح الخليفة -للمرة الأولى تقريبًا في حياته- باستخدام الجيش!
وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها «مجاهد الدين أيبك» لتلاقي جيش هولاكو المهول، وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك» أن هناك جيشًا تتريًّا آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش «بيجو» القادم من أوربا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلو مترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك».
أدرك «مجاهد الدين أيبك» أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يُطَوِّقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تمامًا على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر «مجاهد الدين أيبك» بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش «بيجو»، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة «الأنبار»، وهي المنطقة التي شهدت انتصارًا خالدًا قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد «خالد بن الوليد» رضي الله عنه، ولكن في هذه المرَّة -للأسف- لم يكن الانتصار حليف المسلمين؛ لقد بدا «بيجو» وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة؛ وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر «بيجو» الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع «مجاهد الدين أيبك» بفرقة صغيرة جدًّا من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوبًا حتى عاد إلى بغداد، ولكن -للأسف- هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار[2]!

مُنمنمة تُصِّورُ حصار المغوللِبغداد قبل اقتحامها.
تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم «بيجو» مباشرة ولم يُضَيِّع وقتًا؛ حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التفَّ حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: «هولاكو» من الشرق، و«بيجو» من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جدًّا، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!
والخليفة -ابن الخلفاء والسلاطين- ما تخيَّل أنه يُحصر هذا الحصار أبدًا.. وشُلَّ عقله تمامًا عن التفكير!
وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة..
أيها الخليفة.. لا بُدَّ أن نجلس مع التتار على «طاولة المفاوضات».
ولكن الخليفة يُدرك أنه إذا جلس قويٌّ شديدُ القوَّة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني «مفاوضات» أبدًا، وإنما يعني «استسلامًا».. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض.
ومع ذلك وافق الخليفة المسكين -وهو مطأطئ الرأس- على الاستسلام.. أقصد على «المفاوضات!».
وقرَّر أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟!
لقد أرسل «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، الذي يكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية[3]!
وأرسل معه «ماكيكا..» البطريرك النصراني في بغداد[4]!
وهكذا؛ فالوفد الرسمي الممثل للخلافة «الإسلامية» العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضمُّ إلا رجلين فقط:
أحدهما شيعي والآخر نصراني!
ولا تعليق!
ودارت المفاوضات السرية جدًّا بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية، وأُعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في «مجلس الحكم» الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد «تحريرها» من الخليفة!

وبالطبع كان ردُّ فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفًا.

مُنمنمة لِجيش المغول بِقيادة هولاكو خان وقد ضرب الحصار على بغداد
إن كليهما يتحرَّق شوقًا لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو دون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومَنِ الذي يَعِدُ؟ إنه «هولاكو» سيد الموقف في كل المنطقة.
وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلبًا عجيبًا من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين «المتطرفين» في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون «بالجهاد».. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات «السلام».. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة[5].
وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلَّمهما فعلاً أم لم يسلمهما؛ لكن وضح للجميع الغرض التتري، ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائمًا في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين.
الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدَّة.
والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة.
والرسل طبعًا هم أهل الثقة عند الخليفة: «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، والبطريرك النصراني «ماكيكا»!
وجاءت نتائج المفاوضات «مرضية جدًّا» كما صوَّر ابن العلقمي للخليفة؛ فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصرًا سياسيًّا كبيرًا، وفي الوقت نفسه كانت هناك بعض الشروط «البسيطة» التي على الخليفة أن يُنَفِّذَها.
أما الوعود فكانت:


1- إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم.
2- يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم «المستعصم بالله».
3- يبقى «المستعصم بالله» على كرسي الحكم.
4- يعطي الأمان لأهل بغداد جميعًا.
هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية:
1- تدمير الحصون العراقية.
2- ردم الخنادق.
3- تسليم الأسلحة.
4- الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية[6].
وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور -وفق الرؤية التترية- فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويُديرون شئون بلادهم بأنفسهم!
وتجدَّدت الآمال في نفس الخليفة!
هل يصدق هولاكو في وعوده؟!
إن هناك شكًّا كبيرًا في قلبه.
ثم إن الشروط قاسية جدًّا، فهو سيتخلَّص تقريبًا من كل إمكانية للمقاومة؛ ولكنه -على الجانب الآخر- قد يظل حاكمًا للبلاد؛ نعم تحت رعاية تترية.. أو تحت قهر تتري.. لكنه -في النهاية- سيظل جالسًا على كرسي الحكم، هذا طبعًا إن صدق هولاكو السفاح!
ولكن هذا احتلال! أيقبل به؟
ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: «واقعية»! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوَّة فإنه حتمًا سيموت؛ أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال -ولو بسيط- للنجاة بالروح!
نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش.
نعم سيعيش وضيعًا.. لكنه في النهاية قد يعيش.
نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش.
الخليفة ما زال متردِّدًا.


والشعب الضخم من ورائه يعيش التردُّد نفسه.
نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جدًّا؛ أما عامَّة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار.
لقد عظمت الدنيا جدًّا في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحُّوا بها.
لقد كثر الخبث -فعلاً- في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جدًّا!
واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جدًّا.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير! لكن -على الناحية الأخرى- فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير، والحصار في شهر المحرم سنة 656 هجرية، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258 ميلادية، والجو شديد البرودة، هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!
فهل سينتظر رد الخليفة، هذا ما سنتعرف عليه في المقالة القادمة.

[1] قطب اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/49.
[3] المرجع السابق.
[4] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص105.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 234..
[6] قطب الونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.
منقول بتصرف





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 17-04-2023, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (7)
(656هـ 1258م)

سقوط بغداد
أ.د. راغب السرجاني
(26)





لم ينتظر هولاكو وقتًا طويلاً، ولم يُعْطِ «صديقه» الخليفة ما يُريده من الوقت للتفكير المتعمق، ولكنه قرَّر أن يجبره على سرعة التفكير؛ وذلك عن طريق بدأ إطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، مستخدمًا في ذلك أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الزمان؛ وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تُروع للمرَّة الأولى تقريبًا في تاريخها.
بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة 656 هجرية، واستمرَّ أربعة أيام متصلة، ولم تكن هناك مقاومة تذكر، ويذكر ابن كثير: في البداية والنهاية موقفًا «عابرًا» لا يُعَلِّق عليه، ولكنه حمل بالنسبة إليَّ معاني كثيرة..
مصرع عرفة
يقول ابن كثير:
«وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت «تلعب» بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى «عرفة»، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي «ترقص» بين يدي الخليفة؛ فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم». فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!»[1].

وعجيب أن يذكر ابن كثير هذا الخبر دون تعليق!
والحدث وإن كان عابرًا فإنه يحمل معاني عظيمة.. لقد تمكَّنت الدنيا تمامًا من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة؛ فها هو الخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.. نعم قد تكون الجارية ملك يمينه، وقد تكون حلالًا له، وإذا لم يكن هناك مَنْ يُشاهدها غيره فلا حرج من أن يشاهدها الخليفة وهي ترقص؛ لكن أين العقل في رأس الخليفة؟! العاصمة الإسلامية للخلافة محاصرة، والموت على بُعد خطوات، والمدفعية المغولية تقصف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري!
أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أُطلق على دار الخلافة وقتل الراقصة المسكينة! إذ قالوا: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم»[2]. فالله عز وجل قد قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب فعلاً عقول الخليفة وأعوانه وشعبه، ولا شكَّ أن هذه العبارات المنتقاة بدقَّة كانت نوعًا من الحرب النفسية المدروسة التي كان يُمارسها التتار بمهارة على أهل بغداد.

ويكفي دليلًا على قلَّة عقل الخليفة أنه بعد هذه «الكارثة» (كارثة قتل الراقصة) لم يأمر الشعب بالتجهُّز للقتال، فقد وصل الخطر إلى داخل دار الخلافة، وإنما أمر فقط بزيادة الاحتراز، ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية ولزيادة الوقاية وستر الراقصات! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
مفاوضات النهاية:
ظل التتار على قصفهم أربعة أيام، وفي اليوم الرابع بدأت الأسوار الشرقية تنهار، ومع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تمامًا.

لقد بقيت لحظات قليلة جدًّا في العمر!
هنا لجأ الخليفة إلى صديقه الخائن مؤيد الدين العلقمي، وسأله ماذا يفعل؟ وأشار عليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه؛ لكي يُجري معه المفاوضات.
وذهبت الرسل إلى هولاكو تُخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة، ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه، وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعًا المفاوضات، وبذلك تُصبح المفاوضات -كما يزعم هولاكو- ملزمة للجميع.

مؤيد الدين بن العلقمى

ولم يكن أمام الخليفة الضعيف أي رأي آخر؛ وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد، خرج وقد تحجَّرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه.
خرج الخليفة ذليلاً مهينًا، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن.
وكان الوفد كبيرًا يضمُّ سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين بن العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفدَ فرقةٌ من الحرس الملكي التتري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجلاً فقط، أما الباقون فسيخضعون -كما يقول الحرس- للتفتيش الدقيق، ودخل الخليفة ومعه رجاله، وحُجب عنه بقية الوفد؛ ولكنهم لم يخضعوا لتفتيش أو غيره؛ بل أُخذوا جميعًا.. للقتل[3]!
قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه؛ قُتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يُقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يُريد استخدامه في أشياء أخرى.
وبدأ هولاكو يُصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، اكتشف الخليفة ما كان واضحًا لكل الخلق؛ ولكنه لم يره إلا الآن، لقد اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}[التوبة: 10].
واكتشف -أيضًا- أن الحق لا بُدَّ له من قوَّة تحميه، فإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك؛ لكن -وللأسف- جاء هذا الاكتشاف متأخرًا جدًّا.
وبدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو:
1- على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة؛ وقد كان ذلك أمرًا سهلًا؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلًا.
2- يُقَيَّد الخليفة المسلم، ويُساق إلى المدينة يرسُف في أغلاله؛ وذلك ليدلَّ التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال[4].
3- يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه! فقُتل الولد الأكبر «أحمد أبو العباس»، وكذلك قُتل الولد الأوسط «عبد الرحمن أبو الفضائل»، ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم.
4- أن يُستدعى من بغداد بعض الرجال بأعينهم؛ وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السُّنَّة، وكان ابن العلقمي يكنُّ لهم كراهية شديدة، وبالفعل تمَّ استدعاؤهم جميعًا، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عَيَّنه التتار بجوار المقابر، فيُذبح العالم كما تُذبح الشياه، وتُؤخذ نساؤه وأولاده إمَّا للسبي أو للقتل! لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!
ذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد «مجاهد الدين أيبك» وزميله «سليمان شاه»، اللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه «صدر الدين علي بن النيار»، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن[5]!
كل هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان سيختلف جذريًا لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، ولكن ليس من سنة الله عز وجل أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو يتعامل تعاملًا وديًا مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جدًّا.

استباحة بغداد!

مُخطط لِهُولاكو وهو يحبس الخليفة عند كُنوزه.
وبعد أن ألقى أهل المدينة السلاح، وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد أن انساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة.. أصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع «باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية».. والأمر بالاستباحة يعني أن الجيش التتري يفعل فيها ما يشاء.. يقتل.. يأسر.. يسبي.. يرتكب الفواحش.. يسرق.. يدمر.. يحرق.. كل ما بدا لهؤلاء الهمج أن يفعلوه فليفعلوه!
وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين.
واستبيحت مدينة بغداد العظيمة.
اللهم لا حول ولا قوَّة إلا بك.
كم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذه المدينة!
كم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة!
كم من طلاب العلم شدوا الرحال إلى هذه المدينة!
أواه يا بغداد! لم يبق لك أحد!
أين خالد بن الوليد؟
أين المثنى بن حارثة؟
أين القعقاع بن عمرو؟
أين النعمان بن مقرن؟
أين سعد بن أبي وقاص؟

أين الحمية في صدور الرجال؟!
أين النخوة في أبناء المسلمين؟!
أين العزة والكرامة؟!
أين الذين يطلبون الجنة؟
أين الذين يقاتلون في سبيل الله؟
بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟
أين؟!!!
لا أحد!!..
فتحت بغداد أبوابها على مصاريعها.
لا مقاومة.. لا حراك.
لم يبق في بغداد رجال.. فقط أشباه رجال!
استبيحت المدينة العظيمة بغداد.
استبيحت مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل.
استبيحت مدينة الرشيد.. الذي كان يحج عامًا ويجاهد عامًا.
استبيحت مدينة المعتصم.. فاتح عمورية ببلاد الروم.
استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون!


وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل!
بدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع أو ميدان.. في كل بيت أو حديقة.. في كل مسجد أو مكتبة.. واستحر القتل في المسلمين.. والمسلمون لا حول لهم ولا قوَّة، فكان المسلمون يهربون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، فيحرق التتار الأبوب أو يقتلعونها، ويدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أسطح الديار، فيصعد وراءهم التتار، ثم يقتلونهم على الأسطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب[6] المدينة.
ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط.. إنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن؛ فإنهم كانوا يأخذونها سبيًا.. بل وكانوا يقتلون الأطفال.. بل كانوا يقتلون الرضع!
وجد جندي من التتار أربعين طفلًا حديثي الولادة في شارع جانبي، وقد قُتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعًا[7]!
ومر اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر.. والقتل لا يتوقف.. والإبادة لا تنتهي.
ولا دفاع.. ولا مقاومة.. فقد دخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون.. ولا يجرحون.. بل إنهم لا يموتون!
كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه.
هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟!
هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيدًا يشاهد كل هذه المآسي؟!
- قتل ولدان من أولاده.
- أسر ابنه الثالث.
- أسرت أخواته الثلاث.
- قُتل معظم وزرائه.
- قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته.
- اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه «مؤيد الدين العلقمي الشيعي».
- دُمر جيشه بكامله.
- نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته.
- استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه.
- أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة.
- انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد.. فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعًا صفصفًا.
- وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير.
لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه.
وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه.


لا شك أنه قال مرارًا: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم: 23].
لا شك أنه نادم {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة: 28، 29].
ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات.
ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99، 100].
يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!
يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان.
يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم.
ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات.
ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء.
ليتني.. ليتني.. ليتني...
لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبدًا إلى الوراء.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا)، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ (العمل في رعي المواشي)، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أيًا كانت في وقت الجهاد المتعين)، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[8].
لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة.. بل وفي العلم والتعلم.. وتركوا الجهاد في سبيل الله.. فكانت النتيجة هذا الذل الذي رأيناه.
وهذه دروس قيمة جدًّا إلى كل مسلم.. حاكم أو محكوم.. عالم أو متعلم.. كبير أو صغير.. رجل أو امرأة..
- لا بُدَّ للحق من قوَّة تحميه.
- الحقوق لا تُستجدى ولكن تؤخذ.. ويُبذل في سبيلها الغالي والثمين.
- ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.
- أعداء الأمة لا عهد لهم.
الموت رفسًا!
وسيق الخليفة «المستعصم بالله» إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته.

أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو بعض أعوانه بشيء عجيب! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف.
وهذا بالطبع نوع من الدجل.. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل ودماء المسلمين جميعًا الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة قتلهم.


لكن هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله! كأن الله عز وجل قد أراد ذلك، حتى يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
لقد أمر هولاكو أن يُقتل الخليفة «رفسًا بالأقدام»[9]!
وبالفعل وضع الخليفة العباسي على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم.
وتخيل الرفس والركل بالأقدام إلى الموت!
أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!
لقد ظلوا يرفسونه إلى أن فارقت روحه الجسد.
وإنا لله.. وإنا إليه راجعون.
إن بغداد لم تسقط فقط!
إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد.
وسقط معه شعبه بكامله!
وكان ذلك في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها.. في يوم 14 من صفر سنة 656 هجرية[10].
ولم تنتهِ المأساة بقتل الخليفة.. وإنما أمر هولاكو -لعنه الله- باستمرار عملية القتل في بغداد.. فهذه أضخم مدينة على وجه الأرض في ذلك الزمان.. ولا بُدَّ أن يجعلها التتار عبرة لمن بعدها.
واستمر القتل في المدينة أربعين يومًا كاملة منذ سقوطها.
وتخيلوا كم قتل في بغداد من المسلمين؟!
لقد قتل هناك ألف ألف مسلم (مليون مسلم)[11]! ما بين رجال ونساء وأطفال!
ألف ألف مسلم قتلوا في أربعين يومًا فقط!
ولم ينج من القتل في بغداد إلا الجالية النصرانية فقط! !
وتخيل أمة فقدت من أهلها مليونًا في غضون أربعين يومًا فقط.
كارثة رهيبة!
نذكر ذلك لنعلم أن المصائب التي يلقاها المسلمون الآن - مهما اشتدت - فهي أهون من مصائب رهيبة سابقة.. وسنرى -في المقالات القادمة- أن المسلمين سيقومون بفضل الله من هذه المصيبة.. لنعلم أننا - بإذن الله - على القيام من مصائبنا أقدر.
[1] ابن كثير: البداية والنهابة 13/233.
[2] المرجع السابق.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/234.
[4] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص106.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/236.
[6] الميازيب: هي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/235.
[8] أبو داود: كتاب البيوع، باب النهي عن العينة [3462]، والبزار في مسنده [5887].
[9] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 332.
[10] ابن كثير: البداية والنهاية 13/336.
[11] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 332.
منقول بتصرف





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 18-04-2023, 12:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,378
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان




سقوط بغداد (8)
(656هـ 1258م)

تدمير الحضارة سنة الغزاة

أ.د. راغب السرجاني
(27)




بينما كان فريق من التتار يعمل على قتل مسلمي بغداد وسفك دمائهم اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مسوغ إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.
لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقًا في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة.

ماذا فعل مجرمو التتار؟!
لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير
مكتبة بغداد العظيمة[1].. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق.. علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض.. علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان.


لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله! لقد مرت مكتبة قرطبة بالتجربة نفسها التي مرت بها مكتبة بغداد!
عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تمامًا.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى.. وكان اسمه «كمبيس»، وحرق بنفسه كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد.
لكن هذه سنتهم!
حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية.. وحروب على الإسلام.. بل هي حروب على الإنسانية كلها.
ولكن قبل أن نتحدث عن ماذا فعل التتار بمكتبة بغداد تعالوا نتحدث - ولو قليلًا - عن مكتبة بغداد.

مكتبة بغداد:
هي أعظم دور العلم في الأرض -بلا أدنى مبالغة- قرابة خمسة قرون متتالية.


أسسها الخليفة العباسي المسلم هارون الرشيد، والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170 هجرية إلى سنة 193 هجرية، ثم ازدهرت المكتبة جدًّا في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 هجرية.. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت دارًا للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها[2]!
نحن نتحدث عن دار للعلم حوت ملايين المجلدات في هذا الزمن السحيق!
ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة!


وكان هذا هو الأمر المتكرر والطبيعي في معظم حواضر الإسلام.. ولا ندري بالتحديد كم عدد الكتب في هذه المكتبة الهائلة.. وإن كانت تقدر حقًّا بالملايين.. ويكفي أن مكتبة طَرَابُلُس بلبنان -والتي لم تكن تقارن قط بمكتبة بغداد- قد أحرق الصليبيون الأوروبيون فيها «ثلاثة ملايين» مجلد عندما وقعت في أيديهم! فتخيل كم كان عدد المجلدات في مكتبة بغداد!
كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات معينة لكتب الفقه، وحجرات أخرى لكتب الطب، وهناك حجرات ثالثة لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية وهكذا.
وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها، ويواظبون على استمرار تجديدها.. وكان هناك «النساخون» الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك «المناولون» الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك «المترجمون» الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك «الباحثون» الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة!
وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف لإقامة طلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!
نحن إذن نتحدث عن جامعة هائلة.. وليست مجرد مكتبة من المكتبات.
لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها.


لقد كان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد انتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية.. وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثًا عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل.
لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها.
هذه هي مكتبة بغداد!
المكتبة التي جمعت كل علوم الأرض في زمانها.
ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟
لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة... وفي أَرْيَحيَّة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعًا في نهر دجلة!
لقد كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى «قراقورم» عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية- من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط.
لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!
ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!
هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!
وهي جريمة متكررة في التاريخ.
لقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس -كما ذكرنا- في مكتبة قرطبة الهائلة.
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.
وفعلها الصليبيون النصارى في الشام في مكتبة طَرَابُلُس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب.
وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان.


ثم فعلها بعد ذلك المحتلون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوربا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوربا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوربا تفوق كثيرًا أعداد هذه المراجع المهمَّة في بلاد المسلمين أنفسهم!
لقد كان من هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم -حاليًّا- حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيدًا قيمة العلم في دين الإسلام.. ويعرفون كذلك قوَّة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم.
ونعود إلى التتار.. وإلى بغداد.
فبعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق.. وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه! وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان.
واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يومًا كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء.
وإلى الله المشتكى.
[1] عبد الملك بن حسين المكي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/519.
[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص123 بتصرف.
منقول بتصرف




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 293.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 287.42 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]