وقفات مع 3 صحابيات - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 32 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1190 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16902 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 15 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الإنفــاق العــام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-01-2023, 06:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات مع 3 صحابيات

وقفات مع 3 صحابيات
عصام الدين أحمد كامل

ثلاث صحابيات، ثلاثة نماذج من السيدات، ودِدْتُ لو ألتقي بهن لأعرفهن عن قرب أو لأحاورهن في بعض ما قرأته عنهن، والثلاثة هن: الأولى هي المجادلة خولة بنت ثعلبة، والثانية هي الغامدية، والثالثة هي بريرة بنت صفوان رضي الله عنهن جميعًا.

قد يستغرب البعض تخيلي وتفكيري هذا؛ لكن هناك أدمغة مُتْعِبة (بضم الميم وسكون التاء وكسر العين) مثل دماغي، لا تكُفُّ عن الأسئلة ولا التفكُّر والتدبُّر في أحوال بني البشر، وقد استوقفتني أمام هؤلاء الصحابيات أشياء عدة، ودِدْتُ لو التقيت بهنَّ لأستفسر عنها.

أولًا: المجادلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها
ما جاء عن المجادلة في الأحاديث والأخبار:
أعطتنا قصة تلك السيدة ملمحًا رائعًا وفريدًا لتواصُل السماء بالأرض في زمن الوحي، وكيف كان الهمس مسموعًا ومشهودًا، وكيف كانت الاستجابة حاضرة في التوِّ واللحظة، تلك اللحظات القدسية التي لا تُعوَّض، وهي لحظات انقطعت بشكل مباشر وملموس بموت الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإن دامت بشكل غير مباشر؛ ولكنه محسوس حتي يَرِث الله الأرض ومَنْ عليها، وقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلق بنا إلى أُمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلمَّا انتهيا إليها بَكَتْ، فقالا لها: ما يُبكيكِ؟ أمَا تعلمين أن ما عند الله تعالى خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلمُ أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيَّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها).

فها هي وسائل السماء المرئية والمسموعة تدخل بيتًا بسيطًا لإحدي الأُسَر البسيطة، فتسمع وتُبْصِر ما يجول فيه؛ بل وتطَّلِع على ما يجول في نفوس ساكنيه، وتختلج به صدورهم، فهي وسائل من يعلم الجهر وما يخفى، ومن يعلم السِّرَّ وأخفى.

وقائع قصة خولة بنت ثعلبة وقيل: خولة بنت خويلد الخزرجية، وقال بعضهم: هي بنت دليح، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقيل: كان اسمها جميلة:
ها هي خولة تروي لنا قصتها:
روى أحمد وغيره عن خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَة رضي الله عنها قالت: (وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَامِتِ أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنتُ عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضجر، قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعتُه بشيء فغضب، فقال: أنت عليَّ كظَهْر أُمِّي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلتُ: كلَّا، والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرتُ منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرتُ له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خُلُقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا خويلة، ابن عمِّك شيخ كبير، فاتقي الله فيه))، قالت: فوالله، ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشَّاه، ثم سُرِّي عنه، فقال لي: ((يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك))، ثم قرأ عليَّ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1] إلى قوله: ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 4]، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مريه فليعتق رقبة))، قالت: فقلت: والله يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قال: ((فليصم شهرين متتابعين))، قالت: فقلت: والله يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: ((فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر))، قالت: قلت: والله يا رسول الله، ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإنا سنُعينه بعرق من تمر))، قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأُعينه بعرق آخر، قال: ((قد أصبتِ وأحسنت، فاذهبي فتصدَّقي عنه، ثم استوصي بابن عمِّك خيرًا))، قالت: ففعلت، قال ابن حجر: وهذا أصحُّ ما ورد في قصَّة المجادلة، وتسميتها.

واستمع إلى قصتها في رواية أخرى تقول عنها وهي تعرض قضيتها عرضًا رقيقًا بليغًا دقيقًا فتقول: (وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوَّجني وأنا شابَّة غنية ذات مالٍ وأهلٍ، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وتفرق أهلي، وكبر سني، ظاهَرَ مِنِّي، وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمت عليه))، فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب، ما ذكر طلاقًا، وإنه أبو ولدي، وأحَبُّ الناس إليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمت عليه))، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي، ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أراك إلَّا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشيء))، فجعلت تُراجِع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمت عليه)) هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وإنَّ لي صبية صغارًا، إنْ ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيِّك، وكان هذا أول ظِهار في الإسلام، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداءك يا نبي الله، فقالت عائشة: أقصري حديثك ومجادلتك، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات، فلما قضي الوحي قال لها: ادعي زوجك فدعته، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ... ﴾ الآيات.

تقول أُمُّنا عائشة رضي الله عنها: (الحمدُ للهِ الَّذي وسِع سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم تُكلِّمُه وأنا في ناحيةِ البيتِ ما أسمعُ ما تقولُ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ [المجادلة: 1].

وتقول: (تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهيَ تقولُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبابي، ونثرتُ لَهُ بَطني، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي، وانقطعَ ولَدي، ظاهَرَ منِّي، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليكَ، فما برِحَتْ حتَّى نزلَ جِبرائيلُ بِهَؤلاءِ الآياتِ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1].

والأحاديث كلها في صحيح البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وصحيح الجامع.

وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن زيد قال: لقي عمر بن الخطاب امرأة يُقال لها خولة وهو يسير مع الناس فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل يا أمير المؤمنين: (حبست رجال قريش على هذه العجوز، قال: ويحك وتدري مَنْ هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمِعَ الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عنِّي إلى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها).

وأخرج البخاري في تاريخه وابن مردويه عن ثمامة بن حزن قال: بينما عمر بن الخطاب يسير على حماره لقيَتْه امرأةٌ، فقالت: (قف يا عمر، فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما رأيت كاليوم، فقال: وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، أنزل فيها ما نزل ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ [المجادلة: 1].

وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: (كان الرجل في الجاهلية لو قال لامرأته: أنت عليَّ كظَهْرِ أُمِّي حرمت عليه، وكان أول مَنْ ظاهَرَ في الإِسلام أوس بن الصامت، وكانت تحته ابنة عمٍّ له يُقال لها خولة، فظاهَرَ منها).

وقفات مع المجادلة "خولة بنت ثعلبة":
بداية ليس بمستغرب أن يسمع الله عزَّ جاهُه شكوى كل ما خلق، وهو سبحانه خالق كل شيء ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1] وقد استمع ربُّ العِزَّة سبحانه للمرأة وهي تحكي وتحاور رسول الله فيها وتراجُعه مرات ومرات ﴿ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ﴾ [المجادلة: 1]، ولم تكد تسمعها عائشة وهي في نفس المكان وعلى القرب منها، فسبحان مَنْ لا يشغله سمع عن سمع، وسبحان مَن لا تغلطه المسائل، وسبحان من لا يتبرَّم بإلحاح الملحِّين، وقد صدقت تلك السيدة البسيطة بيقين بـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]، فيا ليت لنا مثل إيمانك ويقينك يا أختنا الجليلة.

وقد أيقنت أيتها السيدة الجليلة بأنه سبحانه هو الملجأ والملاذ، وتأكدت بيقين باستماع ربِّ العِزَّة لشكواك، فجلست قريبًا في جانب من البيت لتتلقى الجواب الذي أيقنت بأنه لا بُدَّ آتٍ، فيا ليت لنا كما لك يا خولةُ من يقين بقرب الله ورحمته وعطفه، ويقين بصفات ذاته عزَّ جاهُه.

يا ليت لنا مثل ما آتاك ربُّك يا خولةُ من وقوف عند حكم الله ورسوله في كلام قال به زوجك من ظِهار، ومن مدافعتك إياه في إصرار، وقولك: (كلا، والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه) وحرصك على طاعة الله والانصياع لأمره.

حتى إنك خرجت بلا حجاب، واستعرتِ من جارتك ثيابها لتأتين إلى رسول الله، فيا ليت لدى نسائنا وبناتنا مثل ما لديك من حرص على الحجاب وإسباغ الثياب ولو كانت حتى على سبيل الاستعارة من الجارة.

رغم معاناتك يا أختاه مع زوجك ورغم كبر سِنِّه وسوء خلقه، ورغم تغيُّر حالك بعد زواجك منه، فإنك صبرتِ وتحمَّلْتِ كل ذلك، وكيف أنك بعدما كنتِ شابَّةً غنيةً ذات مالٍ وأهلٍ، إذا به يُظاهِرُ منكِ بعدما استمتع بكِ، وبعدما تفرَّق أهلُكِ، وكبر سِنُّكِ، وضاع شبابُكِ وانقطع.

ويا لك يا أختاه من زوجة مُحِبَّة ووفيَّة، إذا أنك رغم ما تعانينه من جراء العيش معه، تأبين فراقه وتُظهرين له الحب، وتُحافظين على البيت الذي ضمَّك به، ويا لرقة كلامك وأنت تدافعين عنه وتلتمسين له الأعذار وتصونين القرابة فيما بينكم والعشرة! فنسمعك تقولين: ظاهَرَ منِّي وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا، وإنه أبو ولدي وأحَبُّ الناس إليَّ، ويا ليت نساءنا يتعلمْنَ منك!

ويا لشفقتك ورحمتك بزوجك رغم أنه كبير السن سيِّئ الخُلُق فتقولين: ما عنده ما يعتق، ما به من صيام، وحتى في الإطعام قلت: وما ذلك عنده، وكم كان إحسانك به إذ تساعدينه بعرق بتمر من عندك.

ويا لرحمتك يا أماه بأبنائك منه عندما تقولين وتكررين القول، وإن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا.

وكم كان قلبي معك وأنت تطيلي الحوار وتُكثري الجِدال وتكررين المناشدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر في أمري، جعلني الله فداءك يا نبي الله، انظر في أمري، جعلني الله فداءك يا نبي الله، وعملك بوصيته صلى الله عليه وسلم لك بأن قال: ((استوصي بابن عمِّك خيرًا))، وقوله: ((ابن عمِّك شيخ كبير فاتقي الله فيه)).

وكم أثرت فينا شكواك ودعاؤك وهتافك وتوسلك لرب العزة جل في علاه، أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونفضت له بطني، اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيِّك.

ثانيًا: الغامدية رضي الله عنها
أي تربية هذه التي خلقت هذه النماذج من البشر؟! أي شريعة هذه التي زرعت في معتنقيها الضمير الحي وحثَّتْهم على دوام التطهُّر من الإثم في الدنيا خوفًا من عذاب الآخرة؟! شريعة تكفل النجاة للعصاة والمذنبين والذين ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بمجرد التوبة لله والاستغفار من الذنب، شريعة تقر بأن "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وأن مجرد التسليم لشرع الله يهون على المؤمن روحه، فالحكم العدل لا يعاقب مرتين، وقد وسعت رحمته كل شيء، وسبقت رحمته غضبه.

انظروا لإلحاح هذين (ماعز بن مالك الأسلمي والغامدية) على التطهر وصدق نيتهما في الخضوع لشرع الله، رغم أنه لم يشاهدهما ولم يشهد عليهما أحد، وكم كانت لديهما من فرص كثيرة مشروعة للهرب والنجاة؛ لكنهما على يقين بأن الله يرى، وأنه عَزَّ جاهُه شرع عقابًا لتلك الجريمة، وهما على علم بهذا العقاب، فآثرا أن يضحيا بهذه الحياة الفانية ارتقابًا لجزاء الآخرة، وقدما نفسيهما خوفًا من الله ومن عقاب بانتظارهما في الآخرة، لم يكتفيا بالنجاة بالتوبة التي تجبُّ ما قبلها؛ بل أقدما على التطهُّر بما شرع الله، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بصدق توبتهما، وأمر بالاستغفار لهما، وصلَّى على الغامدية، إنها يقظة الضمير والخشية والحياء من مُلاقاة ربِّ العِزَّة بالذنب.

وقد جاء في تعليل عدم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز وصلاته صلى الله عليه وسلم على الغامدية ما يلي:
كان صدق توبة الغامدية أظهر، فقد مكثت عامين وتسعة أشهر لم يلِنْ عزمُها أو يضعف، ولم تخُرْ قواها، أمَّا ماعز فقد أقرَّ أربع مرات وحكم عليه في مجلس واحد، كما جاء في بعض الروايات، وقد علم صلى الله عليه وسلم بقبول توبته من السماء، فأمر الصحابة بالاستغفار له بعد يومين أو ثلاثة من رجمه، ففي حديث بريده بن الحصيب الأسلمي في صحيح مسلم: ثُمَّ جَاءَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقالَ: ((اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ))، قالَ: فَقالوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ، قالَ: فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((لقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ)).

هي الغامدية وحسب، وهذا وصف لها وليس اسمًا، فلا الرسول ولا أصحابه ولا تابعوهم قد باح لنا باسمها؛ وذلك لشدة حرص أهل تلك الأزمان الطاهرة على الستر، فهي امرأة من قبيلة غامد، والغامدية صحابية متزوِّجة زلَّت قدمُها وسقطت في لحظة ضعف في مستنقع الزِّنا، فأفاقت على جنينٍ يتحرَّك في أحشائها.

كان بإمكانها الإجهاض كما يفعلْنَ في هذا الزمان، كان بإمكانها الطلاق وترك القبيلة والذهاب بعيدًا؛ بل كان يمكنها العيش مع زوجها وفعل ما تشاء بالخيانة وفي الخفاء مع عشيقها كما يفعلن الآن.

لكن لا أمر الدنيا كلها ولا الأسرة ولا القبيلة ولا افتضاح أمرها ولا نظر الناس إليها يعنون عندها شيئًا؛ وإنما ما أهمَّها هو سخط الله وغضبه وعقابه في الآخرة، والذي هو على يقين لا شك فيه عندها من أنه حادث وواقع بمن خالف شرع الله، فهو كما آمنت بأن الله رحمن رحيم وتوَّاب حليم، آمنت كذلك بأنه سريع الحساب، شديد العقاب.

لم تذهب الغامدية من فورها لتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم (زنيت فطهِّرني)؛ بل سبق هذا ليالٍ عاشتها في قبضة الندم وأسر اللوم، وليالٍ حالكة من التفكير فيما يكفر لها عن ذنبها، ويرفع عنها هذا الإثم حتى عرفت مخرجها المشروع إلى ذلك.

فأقدمت على المضيِّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقول له في ثبات: (زنيت فطهِّرني)، فتجاهلها الرسول، ثم قال لها: ((وَيْحَكِ! ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ)) - وهذا مخرج قال العلماء بأنه الأهم من الحد - وكان يمكن أن تذهب ولا تعود؛ لكنها لقيت من تأنيب الضمير ما فيه الكفاية، وعانت بما تنوء عنه الجبال من حمل اللوم والندم، ووجدت بأن لا خلاص لها مما هي فيه إلا بالاستسلام التام لشرع الله، فهو المُكفِّر لها من عقاب الآخرة، والمُطهِّر لها من الدنس، فعزمت على النجاة من كل ذلك، ووجدت أن الجود بنفسها ثمن دنيوي قليل تدفعه لقاء عفو الرحمن والخلود في الجنان.

ولما أعرض عنها صلى الله عليه وسلم وتجاهلها، وفتح لها سبيل الستر بالاستغفار والتوبة لم تضعف أو تَلِنْ بل زادت إصرارًا على المكاشفة، فقالت: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كما رَدَّدْتَ مَاعِزَ بنَ مَالِكٍ! قال صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قالت في وضوح: إنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، قال صلى الله عليه وسلم: ((آنت؟)) – أي شريكة ماعز!- قالت: نعم – أي أنا هي!- فقال صلى الله عليه وسلم: (معطيًا لها فرصة للنجاة): ((اذهبي حتي تضعي!))، (فذهبت فوضعت وأتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقةٍ)، فقال لها صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت: ((اذهبي حتى تفطميه!)) كفرصة أخيرة للنجاة، ولو لم تأتِ للحدِّ ما طلبها أحد، وما أرسل لها الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتي بها مُكبَّلة في الأغلال، وهذا من شرع الله.

ومع كل ذلك لم تضعف ولم تفتر رغبتها في التطهر والتكفير عن ذنبها والنجاة من عقاب الآخرة (فأتت به بعد الفطام وفي يَدِهِ كِسْرةُ خُبْزٍ، كدَليل على الفِطامِ).

فيا له من إيمان لا يتزعزع، ويقين لا يلين بالآخرة وعذابها، وبصفات الحق في العفو والعدل! ويا لها من رغبة عارمة في النجاة والفوز بالجنة! ويا لاقتناعها بحقارة الدنيا التي هي ولا بد فانية! ويا له من شوق صادق لنعيم دائم في جنات الخلد التي وعد المتقون.

وتلك هي ملابسات القضية كما جاءت بالأحاديث:
جاء في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي: جَاءَ مَاعِزُ بنُ مَالِكٍ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ: ((وَيْحَكَ! ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إلَيْهِ))، قالَ: فَرَجَعَ غيرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((وَيْحَكَ! ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إلَيْهِ))، قالَ: فَرَجَعَ غيرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِثْلَ ذلكَ، حتَّى إذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قالَ له رَسولُ اللهِ: ((فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟))، فَقالَ: مِنَ الزِّنَا، فَسَأَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((أَبِهِ جُنُونٌ؟))، فَأُخْبِرَ أنَّهُ ليسَ بمَجْنُونٍ، فَقالَ: ((أَشَرِبَ خَمْرًا؟))، فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ منه رِيحَ خَمْرٍ، قالَ: فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((أَزَنَيْتَ؟))، فَقالَ: نَعَمْ، فأمَرَ به فَرُجِمَ، فَكانَ النَّاسُ فيه فِرْقَتَيْنِ: قَائِلٌ يقولُ: لقَدْ هَلَكَ؛ لقَدْ أَحَاطَتْ به خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يقولُ: ما تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِن تَوْبَةِ مَاعِزٍ؛ أنَّهُ جَاءَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ، ثُمَّ قالَ: اقْتُلْنِي بالحِجَارَةِ، قالَ: فَلَبِثُوا بذلكَ يَومَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقالَ: ((اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ))، قالَ: فَقالوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ، قالَ: فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((لقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ))، قالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِن غَامِدٍ مِنَ الأزْدِ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ: ((وَيْحَكِ! ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ))، فَقالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كما رَدَّدْتَ مَاعِزَ بنَ مَالِكٍ، قالَ: ((وَما ذَاكِ؟))، قالَتْ: إنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقالَ: ((آنْتِ؟))، قالَتْ: نَعَمْ، فَقالَ لَهَا: ((حتَّى تَضَعِي ما في بَطْنِكِ))، قالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ حتَّى وَضَعَتْ، قالَ: فأتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: قدْ وَضَعَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَ: ((إذنْ لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا ليسَ له مَن يُرْضِعُهُ))، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقالَ: إلَيَّ رَضَاعُهُ يا نَبِيَّ اللهِ، قالَ: فَرَجَمَهَا.

فرص ماعز للرجوع والتوبة بعدما قال: طهِّرني:
1- ((ارجع فاستغفر وتب إلى الله)).
2- ((ويحك! ارجع فاستغفر وتب إلى الله)).
3- ثم قال ثانية مثل ذلك.
4- ((أبِهِ جنونٌ؟)).
5- ((أشَرِبَ خَمْرًا؟))، وقام رجل فاستنكهَهُ.
6- ((أزنيت؟!)) قال: نعم، فأمر به فرُجِم.

ثم بعد يَومَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَة، جَاءَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لصحابته وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقالَ: ((اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ))، قالَ: فَقالوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ، قالَ: فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((لقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ)).

فرص الغامدية للرجوع والتوبة بعدما قالت: طهِّرني:
1- تجاهلها صلى الله عليه وسلم وأعرض عنها.
2- ((ويحك! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)).
3- ((اذهبي حتي تضعي ما في بطنك)) "تسعة أشهر".
4- ((لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا)) "حولين كاملين".

قال: فرجمها وكانت مُحْصَنةً مثل ماعز.

فتلك الفرص وهذا الوقت المتسع، كان كفيلًا بتسلُّل الضعف إلى النفوس وكافيًا للتراجع وإسقاط الحد، وإتباع قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه)) ((ويحك! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه))، فقوله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على أنه ما كان من حقوق الله تعالى يكفي في الخروج من إثمه التوبة والاستغفار، وإن كان فيه حد.

وفي روايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ: أنَّها لَمَّا وَلَدَتْ أتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقةٍ- وهي القِطعةُ مِن القُماشِ- فأمَرَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تَذهَبَ به حتَّى تُرضِعَه إلى الفطامِ، فلَمَّا فَطَمَتْه أتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرةُ خُبْزٍ، دَليلٌ على الفِطامِ، وأكْلِه للطَّعامِ، ثمَّ أمَرَ بها، فحُفِرَ لهَا في الأرضِ إلى عُمقٍ يَصِلُ فيه إلى صَدْرِها، وأمَرَ النَّاسَ فرَجَمُوها، فرَماها خالِدُ بنُ الوَلِيدِ رَضيَ اللهُ عنه بحَجَرٍ، فجاء في رَأسِها، فجاء الدَّمُ على وَجْهِ خالِدٍ، فسَبَّهَا وشَتَمها، فسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبَّهُ إيَّاها، فقالَ: ((مَهْلًا يا خالِدُ - أي: ترفَّقْ - فوَالَّذِي نَفْسي بيَدِه، لقَدْ تابَتْ تَوْبةً لو تَابَها صاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له))، ثُمَّ أمَرَ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فصَلَّى علَيْها، ودُفِنَتْ.

ولم يذكر في رواية أحمد ومسلم والنسائي بأنه قد حفر لها إلى صدرها، وهناك روايات يختلط فيها على القارئ الأمر ما بين الغامدية وامرأة من جهينة وامرأة من بارق.

وفي رواية أخرى لمسلم عن امرأة أخرى من جهينة، وهذه لم تدفن إلى صدرها؛ وإنما شدت ثيابها عليها، وراوي الحديث هو عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه، ثُمَّ صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، فقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟ قَالَ: (لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بنفْسِها لله عز وجل؟!))؛ رواه مسلم.

ثالثًا: بريرة بنت صفوان رضي الله عنها
هذه الصحابية الجليلة "بريرة بنت صفوان" قصتها عجيبة، كانت جارية طموحة شجاعة، لم تمنعها قيود الرِّقِّ من الرقي والطموح، وغاية طموح كل أَمَةٍ مثلها هو نوال العتق من مواليها من بني هلال، فأسرَّتْ لأُمِّنا عائشة رضي الله عنها بحلمها هذا، فبادرت رضي الله عنها بالوقوف إلى جوارها.

بل ومن أجلها وبسببها جاء الفرج للعديد من العبيد والإماء كي ينالوا حريتهم بجهدهم وذلك بالمكاتبة، أو بالاستعانة بولي أفضل، فكان أن شرع الله ورسوله مبدأ ((الولاء لمن أعتق))، فكان أصلًا من أصول التشريع، ونزل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 33].

وبعد نوالها لحريتها كان لها من الشجاعة أن قرَّرت التخلُّص من كل ماضيها، تخلَّصت من زوجها مغيث الذي يهيم في الطرقات ويتغنى بحبِّها؛ بل وكان لها منه كما قيل سبعة أولاد.

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم تعجَّب مِن زهدها فيه رغم حبِّه وهيامه بها، فأسرَّ صلى الله عليه وسلم لعمِّه العباس رضي الله عنه قائلًا: ((يا عبَّاسُ، ألا تعجَبُ من حبِّ مغيثٍ بريرةَ، ومن بُغضِ بريرةَ مُغيثًا؟!))؛ بل وقد أقدم صلى الله عليه وسلم على الشفاعة لمغيث عندها؛ ولكنها رفضت العودة إلى مغيث إذا كان الأمر على الخيار وبالشفاعة.

والحق أن بريرة قد أعطَتْ بفعلها درسًا لكل المختصين في الصحة النفسية والعلاقات الأسرية والتنمية البشرية، فهي سيدة قوية وشجاعة وطموحة، وزوجها - عبدًا كان أو حُرًّا – هو على النقيض، فكيف يجتمعان؟ وكيف لها أن تحبَّه ظاهرًا وهي باطنًا تكرهه، فأين الصدق في المشاعر والانسجام والتوازن النفسي؟! ورغم حبِّه الشديد لها وهيامه بها إلا أن مشاعرها تأباه وترفضه، وقد راعى الرسول الكريم هذه المشاعر، فلم يأمرها – ولو أمرها لأجابت – لكنه صلى الله عليه وسلم أقرَّها على ما اختارته، فعلاقة الزوجية لا تقوم على الإكراه ولا يناسبها الضغط.

ولمزيد من التعرف عليها نُورِد ما جاء عنها، مَنْ هي بريرة؟
بريرة مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق، كانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها، ثم باعوها إلى عائشة رضي الله عنها فأعتقتها، وقيل: إنها كانت من هدايا المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها حبشية، وقيل: مصرية.

وكان زوجها يدعى مغيثًا، بعد أن نالت حريَّتها، خيَّرَها النبي صلى الله عليه وسلم بين البقاء معه أو مفارقته، فاختارت وأصرَّت على فراقه، وكان يحبُّها فيمشي في طرق المدينة وهو ييكي على فِراقِها، واستشفع إليها بالرسول الكريم، فقالت للرسول: أتأمر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((بل أشفع))، فقالت: لا أريده، وقالت عائشة رضي الله عنها: إن النبي جعل عِدَّتها حين فارقته عِدَّة المطلقة، وقد قيل في بعض الروايات: إن مغيثًا زوجها كان حُرًّا، وقيل: بل كان عبدًا أسود.

هي شخصية فريدة، خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ومولاتها أُمُّنا عائشة رضي الله عنها سنواتٍ طوالًا؛ بل وجاهدت في سبيل الله في صحبة عائشة رضي الله عنها، وكانت في السقاة، وكانت مثالًا في الكرم والجود والعطاء، وعاشت صابرةً مؤمنةً محافظةً على دينها وإسلامها، وعاشت حتى زمنِ يَزيد.

تذكُر كتب السيرة أن لهذه الصحابية موقفًا مشرفًا مع عائشة رضي الله عنها، وكذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم روتها الأحاديث:
ففي حادثة الإفك، قبل نزول البراءة من الله، أشار علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم بسؤالها؛ لأنه يعلم صدقها، فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وأن تسأل الجارية تصدق الخبر، فدعا الرسول الجارية بريرة، فقال لها: ((أي بريرةُ، هل رأيتِ من شيء يريبك من عائشة؟))، فقالت بريرة: والذي بعَثَكَ بالحَقِّ، إن ما رأيت عليها أمرًا قط أغْمِضُه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السِّنِّ – صغيرة السن- تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.

عن عائشة رضي الله عنها: قالت كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عَتَقَتْ، وأُهدي لها لحم، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار، فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: ((ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟))، قالوا: بلى، يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة، فكرهنا أن نُطعِمَك منه، فقال: ((هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ((إنما الولاء لمن أعتق)).

جاء في صحيح البخاري: عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها قالت: جَاءَتْ بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: إنِّي كَاتَبْتُ أهْلِي علَى تِسْعِ أوَاقٍ في كُلِّ عَامٍ وقِيَّةٌ، فأعِينِينِي، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدَّهَا لهمْ عَدَّةً واحِدَةً وأُعْتِقَكِ، فَعَلْتُ، ويَكونَ ولَاؤُكِ لِي، فَذَهَبَتْ إلى أهْلِهَا فأبَوْا ذلكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إنِّي قدْ عَرَضْتُ ذلكَ عليهم فأبَوْا، إلَّا أنْ يَكونَ الوَلَاءُ لهمْ، فَسَمِعَ بذلكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَنِي فأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ((خُذِيهَا، فأعْتِقِيهَا، واشْتَرِطِي لهمُ الوَلَاءَ، فإنَّما الوَلَاءُ لِمَن أعْتَقَ))، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قَالَ: ((أمَّا بَعْدُ، فَما بَالُ رِجَالٍ مِنكُم يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليسَتْ في كِتَابِ اللَّهِ، فأيُّما شَرْطٍ ليسَ في كِتَابِ اللَّهِ، فَهو بَاطِلٌ، وإنْ كانَ مِئَةَ شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللَّهِ أحَقُّ، وشَرْطُ اللَّهِ أوْثَقُ، ما بَالُ رِجَالٍ مِنكُم يقولُ أحَدُهُمْ: أعْتِقْ يا فُلَانُ ولِيَ الوَلَاءُ، إنَّما الوَلَاءُ لِمَن أعْتَقَ)).

جاء في صحيح البخاري وصحيح ابن ماجه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانَ زوجُ بريرةَ عبدًا يقالُ لهُ مُغيثٌ، كأنِّي أنظرُ إليهِ يطوفُ خلفَها ويبكي ودموعُهُ تسيلُ على خدِّهِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للعبَّاسِ: ((يا عبَّاسُ، ألا تعجَبُ من حبِّ مغيثٍ بريرةَ، ومن بُغضِ بريرةَ مُغيثًا؟!))، فقالَ لها النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لو راجعتيهِ فإنَّهُ أبو ولَدِكِ؟))، قالت: يا رسولَ اللَّهِ، تأمُرُني؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما أشفَعُ))، قالت: لا حاجةَ لي فيهِ.

قال عبدُالملك بن مروان الخليفة: كُنتُ أُجالِس بَرِيرَةَ قبلَ أن أَلِيَ هذا الأَمْرَ، فكانت تَقولُ: يا عبدَالملك، إنَّ فِيكَ خِصالًا، وإنَّك لَجَدِيرٌ أن تَلِيَ أَمْرَ هذه الأُمَّةِ، فاحْذَر الدِّماء؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَع عن بابِ الجَنَّة أن يَنْظُرَ إليها على مِحْجَمَةٍ مِن دَمٍ يُريقُه مِن مُسلِم بِغيرِ حَقٍّ)).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 72.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.97 كيلو بايت... تم توفير 1.78 كيلو بايت...بمعدل (2.45%)]