فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 32 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         8 طرق تنظم إفراز دهون البشرة.. تمنع الحبوب وانسداد المسام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أعشاب طبيعية مفيدة للبشرة والشعر ومثالية كمشروبات دافئة فى الشتاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          المشويات مزاج ولو عاوز الطعم لذيذ.. اعرف سر الخلطة من حلقة "روح مصر" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          طريقة عمل طاجن الكبدة بالبصل والفلفل.. طبق شهي وسريع التحضير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          7 أفكار للحصول على غرفة نوم مهدئة للأعصاب.. هتريح العين وتخليك تسترخى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          طريقة عمل المسقعة باللحم المفروم.. طبق تقليدى لذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          6 نباتات طاردة للحشرات فى الشتاء.. احمى بلكونتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          9 أسباب وراء جفاف البشرة فى الشتاء.. أبرزها الاستحمام بالماء الساخن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          طريقة عمل الطرب المشوي في البيت .. وجبة لذيذة ومغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          لو حاسة بالبرد.. 6 مشروبات لذيذة تشعرك بالتدفئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #311  
قديم 02-12-2024, 08:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 311)

من صــ 361 الى صـ 375




أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لإلهنا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة

وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال من ... يقول: فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل أنه بإرادة
وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى ... وإصدارها عن الحكم محض المشيئة
وقولك: لم شاء الإله؟ هو الذي ... أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية
وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى ... يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ... وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة ... وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محبة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس ومال وحرمة
ولا تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم من كل جاء بفرية

وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع ثم الرياسة
وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى ... فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد ونمروذ وقوم لصالح ... وقوم لنوح ثم أصحاب أيكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا ... ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطي قديمة ... وكل حراك بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه ... كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة؟
وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم ... قبول لقول النذل ما وجه حيلتي؟
ويكفيك نقضا ما بجسم ابن آدم ... صبي ومجنون وكل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة فما ... يظن بخلق الفعل ثم العقوبة؟

وكيف ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة؟
كآكل سم أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك يا هذا كسم أكلته ... وتعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟
ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب ... لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب ودعوة ... تجاب من الجاني ورب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر ... علي كقول الذئب هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة ... كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه ... كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟
أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعل الشرور الشنيعة؟
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق واسمعن ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه ... وزن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى ... تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه فهو فعل الربوبية
وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من ... غدا عنه بل يجري بلا وجه حجة
وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد عذابا كاحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة ... وما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة

وقد قال قوم من أولي العلم لا رضا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه وما فينا فنلقي بسخطة
كما أنها للرب خلق وإنها ... لمخلوقه ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من ... الفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العذاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في رجاء وخشية
وأمر إله الخلق بين ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضي ... ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة ... ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك: هل اختار تركا لحكمة؟ ... كقولك: هل اختار ترك المشيئة؟
وأختار أن لا اختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك فافهم ما به قد أجبت من ... معان إذا انحلت بفهم غريزة
أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة
وصلى إله الخلق جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية
(يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس؛ لأن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان}

وفي صحيح مسلم أيضا {عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت:

اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك وقلنا: ادع الله يحييه لنا قال: استغفروا لصاحبكم ثم قال: إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان} وفي لفظ آخر لمسلم أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر} وقال لهم: {اذهبوا فادفنوا صاحبكم}.
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} إلى قوله: {والله شديد العقاب}. وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسونه أو يخرجونه؟ كما قال تبارك وتعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت فإنها إن كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز. وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بأن يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد؛ والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر.

والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا في الرؤية فإن عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئي وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا استغاث به بعض محبيه فقال: يا سيدي فلان فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.

(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131)
أي: هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه.
وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله تعالى {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها} وقوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها} وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقد دعاه المؤمنون بقولهم: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقال: " قد فعلت ". فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة. وهذا فصل الخطاب في هذا الباب.
(قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام. ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه كقوله: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} ثم قال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} ثم قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات. وقال في سورة النحل: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} الآية وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال: {ذلك جزيناهم ببغيهم}. وهذا كله يدل على أصح قولي العلماء وهو: أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم؛ وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ فكانوا أحق بالعقوبة.
وأيضا فإن الله تعالى أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا؛ فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه.

وأيضا فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية وقوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد} وقوله: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} إلى قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وهذا خطاب للمؤمنين ولهذا قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ثم قال: {وطعامكم حل لهم} فلو كان ما أحل لنا حلا لهم لم يحتج إلى هذا وقوله: {وطعامكم حل لهم} لا يدخل فيه ما حرم عليهم كما أن قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم كصيد الحرم وما أهل به لغير الله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #312  
قديم 02-12-2024, 08:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 312)

من صــ 376 الى صـ 390






(فصل في أن ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس نسخا للقرآن وإنما زيادة عليه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال - صلى الله عليه وسلم -: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال أحللناه؛ وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى} وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها: {أحل لكم الطيبات} فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو. فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع للعفو ليس نسخا للقرآن.
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)
فصل:
وأما قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا؛ فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به؛ فإن الله كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة. وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للموت وكما كتب أكل السم وجعله سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت. والله قدر وكتب هذا وهذا؛ كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسق والعصيان فإنه يعمل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك. وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله عنهم: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} وقال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}.

(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ... (152)
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.
ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)
{وقال عبد الله بن مسعود خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.

وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب - وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث - لا سيما في أخبار الصفات - حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحا بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة تلقيا لذلك عن متفلسف أو متكلم فيكون ذلك الاعتقاد صادا لهم عن سبيل الله كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها وتسلك الصراط المستقيم إليه وتعبده - كما فطروا عليه وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته - صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك حتى تجد خلقا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم؟ بل يجعلونه تنزيها مطلقا مجملا. ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحا ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك. مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة ولا له مكان ولا هو في السماء: أنه ليس في جوف السموات وهذا معنى صحيح؛ وإيمانه بذلك حق ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك وليس كذلك. بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلا ولا فوق السموات إلا عدم محض؛ ليس هناك إله يعبد ولا رب يدعى ويسأل ولا خالق خلق الخلائق ولا عرج بالنبي إلى ربه أصلا هذا مقصودهم.
(فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157)
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}
فذكر سبحانه انه يجزي الصادف عن آياته مطلقا ـ سواء كان مكذبا أو لم يكن ـ سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن لك من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عن اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.

ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين.
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)
[فصل: اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم]
وكذلك تعظيمهم للصليب، واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك.
كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه السلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم، ولعنوا من خالفهم فيها، حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح عليه السلام.
وأما المسلمون: فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده، بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم.
وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به:
فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ، ويكون بينهم فيه نزاع، ثم قد يكون نص الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا القول، وقد يكون مع هذا القول.
ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا، ويكون فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس.
وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة.

والمقصود هنا: أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة، فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة، وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول، وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى، وفيهم فجور ومعاصي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من ذلك، كما قال تعالى له: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216].
وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فإن هذا تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة.
وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم، فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم.
وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن، ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء، حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن متى وغيرهما، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم، وهو منقول عنه صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن.
وأما النصارى، فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح عليه السلام ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح، بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما، ثم زادوا فيه عشرة أيام، ونقلوه إلى الربيع، وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح عليه السلام.
وكذلك حجهم للقمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح عليه السلام، بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس - وهو القداس - وعيد الخميس وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب، لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح عليه السلام بمائتين من السنين، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم، فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى، بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز وجل كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18].
وقال: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36].
وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} [الأعراف: 29].
وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 18].
والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله، ويدعون غير الله.
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)

" والحنيف " للسلف فيه ثلاث عبارات. قال محمد بن كعب: مستقيما. وقال عطاء: مخلصا. وقال آخرون: متبعا. فهو مستقيم القلب إلى الله دون ما سواه قال الله تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} وقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة. فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء؛ ولا بالسؤال؛ ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون إلا إياه؛ لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم إلى غيره. ولهذا {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا متشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك} - فالسائل بلسانه والمتشرف بقلبه - متفق على صحته.
(قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟. فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء. والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه} - وفي لفظ - {من ينح عليه يعذب بما نيح عليه} " وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول: واعضداه واناصراه فلما أفاق قال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟. وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة. فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة: كالمزني وغيره. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا. والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.
وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه} وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى: {أنهم يبكون عليه وإنه ليعذب في قبره}. والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره فجوزوا أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة فالذي دل عليه الكتاب والسنة أن الله لا يدخل النار إلا من عصاه كما قال: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} فلا بد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع فمن لم يتبع إبليس لم يدخل النار.
سورة الأعراف
(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
فصل:
قد أمرنا الله تعالى باتباع ما أنزل إلينا من ربنا وباتباع ما يأتي منه من الهدى وقد أنزل علينا الكتاب والحكمة كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} والحكمة من الهدى قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التي بعث بها الرسول وباتباعه وطاعته مطلقا. وقال تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} وقال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} وقال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #313  
قديم 02-12-2024, 08:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 313)

من صــ 391 الى صـ 405






وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعا كقوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} وقوله تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} وقوله: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} إلى قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} إلى قوله تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} إلى قوله: {أو يصيبهم عذاب أليم} وقوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقوله تعالى
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} وقوله تعالى {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} إلى قوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} وقوله تعالى {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} وقوله تعالى {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا}
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} {ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} وقوله تعالى {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} فهذه النصوص توجب اتباع الرسول وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه في الكتاب كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصا بعينه في حديث عن الرسول غير الكتاب. فعلينا أن نتبع الكتاب وعلينا أن نتبع الرسول واتباع أحدهما هو اتباع الآخر؛ فإن الرسول بلغ الكتاب والكتاب أمر بطاعة الرسول. ولا يختلف الكتاب والرسول ألبتة كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضا قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
والأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباع الكتاب وفي وجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم كقوله: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم} هذا الحديث في السنن والمسانيد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جهات من حديث أبي ثعلبة وأبي رافع وأبي هريرة وغيرهم.
وفي صحيح مسلم عنه من حديث جابر أنه قال في خطبة الوداع: {وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله تعالى} وفي الصحيح عن {عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قيل: فكيف كتبه على الناس الوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله}. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن كما فسرت أعداد الصلوات وقدر القراءة فيها والجهر والمخافتة وكما فسرت فرائض الزكاة ونصبها وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت والسعي ورمي الجمار ونحو ذلك. وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه كالسنة المفسرة لنصاب السرقة والموجبة لرجم الزاني المحصن فهذه السنة أيضا مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين إلا من نازع في ذلك من الخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم. فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قاتلهم يوم القيامة}.
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة في وصفهم وذمهم والأمر بقتالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد روى مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه كأنها هي التي أشار إليها أحمد بن حنبل فإن مسلما أخذ عن أحمد. وقد روى البخاري حديثهم من عدة أوجه وهؤلاء أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد اعدل فإنك لم تعدل. فمن جوز عليه أن يظلمه فلا يعدل كمن يوجب طاعته فيما ظلم فيه؛ لكنهم يوجبون اتباع ما بلغه عن الله وهذا من جهلهم وتناقضهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل وقال: لقد خبت وخسرت إن لم أعدل} أي: إن اتبعت من هو غير عادل فأنت خائب خاسر.

وقال: {أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني} يقول: إذا كان الله قد ائتمنني على تبليغ كلامه أفلا تأمنوني على أن أؤدي الأمانة إلى الله؟ قال تعالى: {وما كان لنبي أن يغل}. وفي الجملة فالقرآن يوجب طاعته في حكمه وفي قسمه ويذم من يعدل عنه في هذا أو هذا كما قال تعالى في حكمه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى:

{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
وقال في قسمه للصدقات والفيء قال في الصدقات: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وقال في الفيء {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} الآيات الثلاث.
فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه - كالخوارج - طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارق لجماعة المسلمين وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تمرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق}.
ولهذا لما ناظرهم من ناظرهم كابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما بينوا لهم بطلان قولهم بالكتاب والميزان كما بين لهم ابن عباس حيث أنكروا على علي بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل ونهيه عن اتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وكانت حجة الخوارج أنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم وإن كانوا كفارا أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم فأجابهم ابن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين وبين أن أمهات المؤمنين حرام فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله. وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمنا لم يبح قتاله بحال وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل عليا كافر؛فإن هذا خلاف القرآن قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون وأمر إن بغت إحداهما على الأخرى أن تقاتل التي تبغي فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل وقال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي وأنه يأمر بقتال الباغية حيث أمر الله به.

وكذلك عمر بن عبد العزيز لما ناظرهم وأقروا بوجوب الرجوع إلى ما نقله الصحابة عن الرسول من فرائض الصلاة بين لهم عمر أنه كذلك يجب الرجوع إلى ما نقلوه عنه صلى الله عليه وسلم من فريضة الرجم ونصاب الزكاة وأن الفرق بينهما فرق بين المتماثلين فرجعوا إلى ذلك. وكذلك ابن عباس ناظرهم لما أنكروا تحكيم الرجال بأن الله قال في الزوجين: إذا خيف شقاق بينهما أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها وقال: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} وأمر أيضا أن يحكم في الصيد بجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم فمن أنكر التحكيم مطلقا فقد خالف كتاب الله تعالى وذكر ابن عباس أن التحكيم في أمر أميرين لأجل دماء الأمة أولى من التحكيم في أمر الزوجين؛ والتحكيم لأجل دم الصيد. وهذا استدلال من ابن عباس بالاعتبار وقياس الأولى وهو من الميزان فاستدل عليهم بالكتاب والميزان قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.

أمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منا وأمر إن تنازعنا في شيء أن نرده إلى الله والرسول فدل هذا على أن كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم أن يردوه إلى الله والرسول والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتا وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدى وطاعة لله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ أن يأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول. ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا فإنهم لا يجتمعون على ضلالة ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولى بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم إذا تنازعوا فقد يكون أحد الفريقين مطيعا لله والرسول.
فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم - خرج عن ذلك - فلأن يؤمروا بذلك إذا قدر خروجهم كلهم عنه بطريق الأولى والأحرى أيضا فقد قال لهم {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. فلما نهاهم عن التفرق مطلقا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا كما قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم؛ ومما من به عليهم فلم يكن ذلك اجتماعا على باطل؛ لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور. انتهى والحمد لله رب العالمين.
(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -
فصل:
حجة إبليس في قوله: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} هي باطلة لأنه عارض النص بالقياس. ولهذا قال بعض السلف: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

ويظهر فسادها بالعقل من وجوه خمسة. " أحدها " أنه ادعى أن النار خير من الطين وهذا قد يمنع فإن الطين فيه السكينة والوقار والاستقرار والثبات والإمساك ونحو ذلك وفي النار الخفة والحدة والطيش والطين فيه الماء والتراب. " الثاني " أنه وإن كانت النار خيرا من الطين فلا يجب أن يكون المخلوق من الأفضل أفضل فإن الفرع قد يختص بما لا يكون في أصله وهذا التراب يخلق منه من الحيوان والمعادن والنبات ما هو خير منه والاحتجاج على فضل الإنسان على غيره بفضل أصله على أصله حجة فاسدة احتج بها إبليس وهي حجة الذين يفخرون بأنسابهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {من قصر به عمله لم يبلغ به نسبه} ". " الثالث " أنه وإن كان مخلوقا من طين فقد حصل له بنفخ الروح المقدسة فيه ما شرف به فلهذا قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فعلق السجود بأن ينفخ فيه من روحه فالموجب للتفضيل هذا المعنى الشريف الذي ليس لإبليس مثله. " الرابع " أنه مخلوق بيدي الله تعالى كما قال تعالى:

{ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وهو كالأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وعن عبد الله بن عمرو في تفضيله على الملائكة حيث قالت الملائكة: " {يا رب قد خلقت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون وينكحون؛ فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا فقال: لا أفعل. ثم أعادوا. فقال: لا أفعل ثم أعادوا فقال: وعزتي لا أجعل صالح من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} ". " الخامس " أنه لو فرض أنه أفضل فقد يقال: إكرام الأفضل للمفضول ليس بمستنكر.
(ولباس التقوى ذلك خير ... (26)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباسا. كما قال تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} في أشهر القولين. وكما قال في الحديث: {خذوا جنتكم قالوا: يا رسول الله من عدو حضر قال: لا ولكن جنتكم من النار: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر}.

(إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27)

سئل الشيخ - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} الآية الكريمة. هل ذلك عام لا يراهم أحد أم يراهم بعض الناس دون بعض؟ وهل الجن والشياطين جنس واحد ولد إبليس أم جنسين: ولد إبليس وغير ولده؟.
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله ورضي عنه آمين - فقال:
الحمد لله، الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال؛ بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضا؛ لكن لا يرونهم في كل حال والشياطين هم مردة الإنس والجن وجميع الجن ولد إبليس. والله أعلم.
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:

قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} والفاحشة أريد بها كشف السوآت فيستدل به على أن في الأفعال السيئة من الصفات ما يمنع أمر الشرع بها فإنه أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء فدل ذلك على أنه منزه عنه فلو كان جائزا عليه لم يتنزه عنه. فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في نفسه سيئا فعلم أن كلما كان في نفسه فاحشة فإن الله لا يجوز عليه الأمر به وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء كما يقوله أكثر العلماء كالتميميين وأبي الخطاب؛ خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #314  
قديم 02-12-2024, 09:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 314)

من صــ 406 الى صـ 420






وكذلك قوله: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} علل النهي عنه بما اشتمل عليه من أنه فاحشة وأنه ساء سبيلا فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلا بالنهي لما صح ذلك؛ لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه ومثل ذلك كثير في القرآن. وأما في الأمر فقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} دليل على أنه أمر به؛ لأنه خير لنا؛ ولأن الله علم فيه ما لم نعلمه. ومثله قوله في آية الطهور {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دليل على أنه أمر بالطهور؛ لما فيه من الصلاح لنا وهذا أيضا في القرآن كثير.
سئل - رحمه الله تعالى -:
عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان؟ وأن الشر هو بيد العبد، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فإذا أنكر عليه في هذه يقول: قال الله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} {فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} وإن عقيدة هذا، أن الخير من الله وأن الشر بيده، فإذا أراد أن يفعل الشر فعله؛ فإنه قال: إن لي مشيئة فإذا أردت أن أفعل الشر فعلته، فهل له مشيئة فعالة أم لا؟.
فأجاب:

الحمد لله، أصل هذا الكلام له مقدمتان:
إحداهما: أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح، ويحب الحسنات ويرضاها، ويكرم أهلها، ويثيبهم ويواليهم، ويرضى عنهم، ويحبهم ويحبونه، وهم جند الله المنصورون، وحزب الله الغالبون، وهم أولياؤه المتقون، وحزبه المفلحون، وعباده الصالحون أهل الجنة، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهم أهل الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان، وهو يبغض ذلك ويمقت أهله، ويلعنهم ويغضب عليهم، ويعاقبهم ويعاديهم، وهم أعداء الله ورسوله، وهم أولياء الشيطان، وهم أهل النار
وهم الأشقياء. لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق، وعاص ليس بكافر ولا فاسق.

والمقدمة الثانية: أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه. لا رب غيره؛ ولا خالق سواه، وأنه ما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن؛ لا حول ولا قوة إلا به؛ ولا ملجأ منه إلا إليه؛ وأنه على كل شيء قدير. فجميع ما في السماوات والأرض: من الأعيان وصفاتها؛ وحركاتها؛ فهي مخلوقة له؛ مقدورة له؛ مصرفة بمشيئته، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه؛ ولا يشركه في شيء من ذلك غيره؛ بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد؛ وهو على كل شيء قدير، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين؛ فمن يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له. فإذا ثبتت هاتان " المقدمتان ".
فنقول: إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله؛ ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وكل إلى حوله وقوته. فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره؛ لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة؛ بل {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. وعلى العبد أن يؤمن بالقدر، وليس له أن يحتج به على الله؛ فالإيمان به هدى؛ والاحتجاج به على الله ضلال وغي، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا؛ صبورا على البلاء، شكورا على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره، سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله.

وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله، وكانت مكتوبة على العبد؛ كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.

قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب، ولا يحتج على الله بالقدر، ولا يقول: أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب؛ بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه؛ لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وفعل الفاحشة،وهو الذي ظلم نفسه؛ كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد، فهو الموصوف بهذه الأفعال؛ وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب بهذه المحدثات، له ما كسب وعليه ما اكتسب، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك}. فعلى العبد أن يصبر على المصائب، وأن يستغفر من المعائب.
والله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولا يحب الفساد، وهو سبحانه خالق كل شيء؛ وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ ومشيئة العبد للخير والشر موجودة، فإن العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا. وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه؛ لا خالق غيره؛ ولا رب سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقد أثبت الله " المشيئتين " مشيئة الرب؛ ومشيئة العبد؛ وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} {لمن شاء منكم أن يستقيم} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} وقد قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.

وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي؛ فيتنازعون هذا يقول: قل كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله، والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية؛ فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات، النعم والمصائب. كما في قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء.
ومعنى الآية في المنافقين: كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية. قالوا: هذا من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا: هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس، وابتلينا لأجله بهذه المصائب، فقال الله تعالى: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، وما أصابك من نعمة: نصر وعافية ورزق فمن الله، نعمة أنعم الله بها عليك، وما أصابك من سيئة: فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك. كما قال في الآية الأخرى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم. فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم. فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه. كما قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. ومن قال: لا مشيئة له في الخير ولا في الشر فقد كذب.

ومن قال: إنه يشاء شيئا من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب؛ بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، بل هؤلاء الضالون. كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر، بل يقابلوه بالحق والباطل، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم؛ وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه. وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر، فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر.

كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة؛ والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة. والله سبحانه أعلم.
(قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
وقال شيخ الإسلام:

فصل جامع:
قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد: وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم وهذا أصل جامع عظيم. وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات وهو إخلاص الدين كله لله وما لم يحصل فيه هذا المقصود: فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا.
وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم. ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين والاعتصام بالكتاب وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء أو بعضه ككفار أهل الكتاب. وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين.
أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات. فالأول: شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله. وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار: عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}.
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه: هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة بل أصول دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات ولهذا قال لهم المسيح: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة وأفعال مجملة فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. قررته في غير هذا الموضع بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك فإن إخلاص الدين لله أصل العدل كما أن الشرك بالله ظلم عظيم.

(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود هنا: أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.

وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضا وقوله: {أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا أصل الدين وضده هو الذنب الذي لا يغفر قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
ولهذا ترجم البخاري في صحيحه " باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد " وذكر الحديث الصحيح في ذلك وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين. قال نوح عليه السلام {وأمرت أن أكون من المسلمين} وقال تعالى في قصة إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}. وقال في قصة بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}.
وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم كما أخرجا في الصحيحين عن {عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} "؟ وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية}.

(ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)

وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على قول الله عز وجل: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}: هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما؛ وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا. وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع.
والضر فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة ويدعو خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وعلى هذا فقوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني.

وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان. وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع وقل ما يفطن له. وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدا فهي من هذا القبيل. مثال ذلك قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} فسر " الدلوك " بالزوال وفسر بالغروب وليس بقولين؛ بل اللفظ يتناولهما معا؛ فإن الدلوك هو الميل. ودلوك الشمس ميلها. ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى فمبتدؤه الزوال ومنتهاه الغروب واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار. ومثاله أيضا تفسير " الغاسق " بالليل وتفسيره بالقمر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #315  
قديم 02-12-2024, 09:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 315)

من صــ 421 الى صـ 435






فإن ذلك ليس باختلاف؛ بل يتناولهما لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة. ومن ذلك قوله تعالى {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي دعاؤكم إياه وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ومحل الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا فالمراد به نوعي الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه وعبادته تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا أعقبه: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} الآية. ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا. وروى الترمذي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - على المنبر - " {إن الدعاء هو العبادة. ثم قرأ قوله تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} الآية} قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وأما قوله تعالى {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الآية. وقوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثا} الآية. وقوله: {وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل} الآية. وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر؛ لوجوه ثلاثة: " أحدها " أنهم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم. " الثاني " أن الله تعالى: فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى: {وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون} {من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} وقوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}. وقوله تعالى {لا أعبد ما تعبدون} فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم.

" الثالث " أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة. وقوله تعالى {فادعوا الله مخلصين له الدين} هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم عليه السلام {إن ربي لسميع الدعاء} فالمراد بالسمع هاهنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام؛ لأنه سميع لكل مسموع. وإذا كان كذلك فالدعاء: دعاء العبادة ودعاء الطلب وسمع الرب تعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع هذا وهذا. وأما قول زكريا عليه السلام {ولم أكن بدعائك رب شقيا} فقد قيل: إنه دعاء المسألة والمعنى: أنك عودتني إجابتك ولم تشقني بالرد والحرمان؛ فهو توسل إليه سبحانه وتعالى بما سلف من إجابته وإحسانه وهذا ظاهر هاهنا.
وأما قوله تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية: فهذا الدعاء: المشهور أنه دعاء المسألة وهو سبب النزول. قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول مرة: " يا الله " ومرة " يا رحمن " فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. وأما قوله {إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} فهذا دعاء العبادة المتضمن للسلوك رغبة ورهبة والمعنى: إنا كنا نخلص له العبادة؛ وبهذا استحقوا أن وقاهم الله عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره؛ فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض {لن ندعو من دونه إلها} أي: لن نعبد غيره. وكذا قوله: {أتدعون بعلا} الآية. وأما قوله: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم} فهذا دعاء المسألة يكبتهم الله ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم أن شركاءهم لا يستجيبون لهم دعوتهم وليس المراد اعبدوهم. وهو نظير قوله تعالى {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}.

إذا عرف هذا: فقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} يتناول نوعي الدعاء؛ لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت أي ما كانت إلا همسا بينهم وبين ربهم عز وجل؛ وذلك أن الله عز وجل يقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وأنه ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا}. وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: " أحدها " أنه أعظم إيمانا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي. و " ثانيها " أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.

و " ثالثها " أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه. وذلت جوارحه وخشع صوته؛ حتى أنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. وقلبه يسأل طالبا مبتهلا ولسانه لشدة ذلته ساكتا وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلا. و " رابعها " أنه أبلغ في الإخلاص. و " خامسها " أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
و " سادسها " - وهو من النكت البديعة جدا - أنه دال على قرب صاحبه للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: {إذ نادى ربه نداء خفيا}فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح: {لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} ". وقد قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب. و " سابعها " أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له؛ بخلاف من خفض صوته. و " ثامنها " أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته؛ فيضعف أثر الدعاء ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة. و " تاسعها " أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.

وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} الآية. وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله تعالى قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد والقوم أعظم شيئا كتمانا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأنس به وجمعية القلب ولا سيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه - بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم به - لم يبال. وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله.

وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو من عظيم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة. و " عاشرها " أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " {أفضل الدعاء الحمد لله} " فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب؛ فالحامد طالب للمحبوب فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب؛ فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
و " المقصود " أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح وتأمل كيف قال في آية الذكر: {واذكر ربك} الآية.
وفي آية الدعاء: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها؛ ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التواني والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله.

ومحبته له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجلا أنه أنكر على بعض هؤلاء خلوة له ترك فيها الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط؟ فقال له: بلى. فقال له: فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم - أو كما قال - وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه. فقال له: هذا غرور بك الواجب الخروج إلى أمر الله عز وجل. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف أدى إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من خاصة الخاصة.

وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما كلها شيء كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق.
والرجا حاد يحدوها يطلب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يشوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق خرجت عن الطريق وظلت عنها. فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر والخفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخفية بالدعاء والخيفة بالذكر أيضا وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه؛ إذ طلب ما لا طمع له فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه فذكر في كل آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور.
وقوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد روى أبو داود في سننه عن {عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء} وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات.
وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية: من الحاجة إلى الطعام والشراب. ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. وبعد: فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء: دعاء كان أو غيره؛ كما قال تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وعلى هذا: فيكون أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا؛ فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع؛ بل دعاء هذا كالمستغني المدلي على ربه وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل.

فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد. ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع ويثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعائه: الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب. وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين: " أحدهما " محبوب للرب سبحانه وهو الدعاء تضرعا وخفية. " الثاني " مكروه له مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير وهو لا يحب فاعله ومن لا يحبه الله فأي خير يناله؟ وقوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} عقيب قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم؛ فقسمت الآية الناس إلى قسمين؛ داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك.

وقوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والداعي إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله مفسد فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم الفساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو الشرك بالله ومخالفة أمره.
قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} قال عطية في الآية: ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فالدواب تلعن عصاة بني آدم فتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر. و " بالجملة " فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره أو مطاع متبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة: فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وبالأمر بالتوحيد ونهى عن فسادها بالشرك به ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك؛ فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي غيره عموما وخصوصا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى {وادعوه خوفا وطمعا} إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر أيضا أن يكون الدعاء خوفا وطمعا. وفصل الجملتين بجملتين: " إحداهما " خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله: {إنه لا يحب المعتدين}.

و " الثانية " طلبية. وهي قوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} والجملتان مقررتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها. ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضاده أمر بدعائه خوفا وطمعا؛ لتعلق قوله {إنه لا يحب المعتدين} بقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}. ولما كان قوله: {وادعوه خوفا وطمعا} مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء: عقبها بقوله {إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي: إنما تنال من دعاه خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة. ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين}. وانتصاب قوله: {تضرعا وخفية} {خوفا وطمعا} على الحال أي ادعوه متضرعين إليه مختفين خائفين مطيعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #316  
قديم 03-12-2024, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 316)

من صــ 436 الى صـ 450



وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعا وخفية وخوفا وطمعا. فقرر مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله تعالى {إن رحمة الله قريب من المحسنين} له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه. فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان وهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين.
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسان من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعد ببعد وقرب بقرب فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيء منه والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية.
فهذا هو مقام " الإحسان " كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان؛ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه} " فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريب من صاحبه؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟. وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة} ". آخر الكلام على الآيتين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله سبحانه: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين} {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ظاهره دليل على أن شعيبا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم؛ لقولهم: {أو لتعودن في ملتنا} ولقول شعيب: (أنعود فيها {أولو كنا كارهين} ولقوله: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم} فدل على أنهم كانوا فيها. ولقوله: {بعد إذ نجانا الله منها}.
فدل على أن الله أنجاهم منها بعد التلوث بها؛ ولقوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ولا يجوز أن يكون الضمير عائدا على قومه؛ لأنه صرح فيه بقوله: {لنخرجنك يا شعيب} ولأنه هو المحاور له بقوله: {أولو كنا كارهين} إلى آخرها وهذا يجب أن يدخل فيه المتكلم ومثل هذا في سورة إبراهيم {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الآية.
وقال شيخ الإسلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها،
ومنها قوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} الآية وما في معناها. التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه. قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر،كافر والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به. قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} الآية. وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق وكلاهما عرفوه بالوحي.

وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي فإنه سيد ولد آدم والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم. ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم} الآية. {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم} الآية. وذلك أن نوحا أول رسول بعث إلى المشركين وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين. وقوم إبراهيم مبدؤه من عبادة الكواكب ذاك الشرك الأرضي وهذا السماوي؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا.

(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قد أخبر الله بأنه بارك في أرض الشام في آيات: منها قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}. ومنها قوله: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}. ومنها قوله: {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}. ومنها قوله: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة} وهي قرى الشام وتلك قرى اليمن والتي بينهما قرى الحجاز ونحوها وبادت. ومنها قوله: {إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
وقال تعالى: {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} وإنما دمر ما بنوه وعرشوه فأما الأعراض التي قامت بهم فتلك فنيت قبل أن يغرقوا وقوله: {وما كانوا يعرشون} دليل على أن العروش مفعول لهم هم فعلوا العرش الذي فيه وهو التأليف.
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146)
وقال شيخ الإسلام:

فصل:
جاء في حديث {إن أكبر الكبائر الكفر والكبر} وهذا صحيح فإن هذين الذنبين أساس كل ذنب في الإنس والجن فإن إبليس هو الذي فعل ذلك أولا وهو أصل ذلك. قال الله تعالى: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وقال: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر} فجعل الكبر يضاد الإيمان. وكذلك الشرك في مثل قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من مات وهو لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة} قال: وأنا أقول: من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار.
ثم من الناس من يجمع بينهما ومنهم من ينفرد له أحدهما والمؤمن الصالح عافاه الله منهما فإن الإنسان إما أن يخضع لله وحده أو يخضع لغيره مع خضوعه له أو لا يخضع لا لله ولا لغيره فالأول هو المؤمن والثاني هو المشرك والثالث هو المتكبر الكافر وقد لا يكون كافرا في بعض المواضع والنصارى آفتهم الشرك واليهود آفتهم الكبر كما قال تعالى عن النصارى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال عن اليهود: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ولهذا عوقبت اليهود بضرب الذلة والمسكنة عليهم والنصارى بالضلال والبدع والجهالة.
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال ... (157)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن أميته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب فإنه إمام الأئمة في هذا. وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا. كما قال الله فيه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك}.
وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له؟ أم لم يكتب؟ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله وأكبر معجزاته فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل وعلم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده وأما سائر أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم إليها إذ لم يؤت أحد منهم من الوحي ما أوتيه صارت أميته المختصة به كمالا في حقه من جهة الغنى بما هو أفضل منها وأكمل ونقصا في حق غيره من جهة فقده الفضائل التي لا تتم إلا بالكتابة.
وقال - رحمه الله تعالى
فالله تعالى أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان:
ما خبثه لعينه لمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير. وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر. فأما الأول فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب وحرم أشياء من الملابس.
(قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ... (158)
(فصل)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم ملوكهم وزهادهم الأولياء منهم وغير الأولياء فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرا ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل لا في العلوم ولا الأعمال وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجور للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه؛ فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يذبح الشاة؛ التي خاف عليها الموت وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل ولهذا قال ابن عباس لنجدة: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم.
وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين.
[فصل: شخصية الرسول وشريعته وأمته، وكرامات الصالحين منها، كل ذلك من آياته]
وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته. وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث، ومن حيث بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، ونجعل له ابنين: إسماعيل، وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم، مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.

وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.

، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة، ولا لرهبة،فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف، والمال، والجاه مع أعدائه.

وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة. وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة، وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة، وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة، وهو - على ذلك - لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم - حين قدموا الشام - قالوا:
ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهما ولا دينارا، ولا شاة ولا بعيرا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.
وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل، وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم، تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم، وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة.

فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده كالحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة، وغيرهم حتى أدخلوا - لما غيروا دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] (136) {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #317  
قديم 03-12-2024, 11:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 317)

من صــ 451 الى صـ 465





وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286].
وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب، موافقا لما عندهم، صدقوه، وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا أنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند أو الفرس أو اليونان أو غيرهم، كان - عندهم - من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة».
وقد تنازع بعض المسلمين، مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما، ودين محمد خصوصا.
ومن خالف في هذا الأصل كان - عندهم - ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم، ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء.
والله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل، حصل له سعادة الدنيا والآخرة. وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا.
ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته.
فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذوه عن نبيهم، مع ما يظهر لكل عاقل: أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله:
{إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف: 158].

لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا.
وما ذكر من كمال علمه ودينه، يناقض الشر والخبث والجهل، فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله:
{إني رسول الله} [الأعراف: 158].
لأن الذي لم يكن صادقا: إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا، والأول: يوجب أنه كان ظالما غاويا، والثاني: يقتضي أنه كان جاهلا ضالا، وكمال علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب. فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق ; ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى:
{والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى - وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 1 - 4].
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به:
{إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21].
، ثم قال عنه:
{وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين} [التكوير: 22 - 24].
أي: بمتهم أو بخيل، كالذي لا يعلم إلا بجعل، أو لمن يكرمه:{وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين} [التكوير: 25 - 27].
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 - 195].
إلى قوله:

{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر: وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب، إما عمدا وإما خطأ، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا، كما قال ابن مسعود - لما سئل عن مسألة -: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه ".
فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول، فإنه قد يخطئ، ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم ; ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي:
{إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر - قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن - قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 40 - 43].
(واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163)
(فصل في أن الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
" الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة. فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف؛ وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} إلى قوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم} وقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم. وقوله: {ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} ويشهد له قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا،والحرج: الضيق فما أوجب الله ما يضيق؛ ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله: {إن الله مبتليكم بنهر} الآية. ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع. وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه؛ ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف. فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا؛ مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله. وإما أن يكون ظاهرا؛ مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم؛ إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر؛ إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به؛ وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} فأخبر أنه بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة. كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه. ولا يؤتى به يوم حله؛ أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا. ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله: {الآن خفف الله عنكم} وقد تقدم نظائرها.
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)
[فصل البرهان التاسع والثلاثون " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي.: " البرهان التاسع والثلاثون: قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [سورة الأعراف: 172] في. كتاب " الفردوس "
لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد. قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} [سورة الأعراف: 172]. قالت الملائكة: بلى، فقال - تبارك وتعالى - أنا ربكم، ومحمد نبيكم، وعلي أميركم». وهو صريح في الباب ".

والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة، والمطالبة بتقريرها. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب " الفردوس " لا تدل على أن الحديث صحيح، فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة * وأحاديث موضوعة، وإن كان من أهل العلم والدين، ولم يكن ممن يكذب هو، لكنه نقل ما في كتب الناس، والكتب *. فيها الصدق والكذب، ففعل. كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث: إما بالأسانيد، وإما محذوفة الأسانيد.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. .
الثالث: أن الذي في القرآن أنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير، وفيه قوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [سورة الأعراف: 173]. فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ; ليس فيه ميثاق النبوة ; فكيف ما دونها؟.
الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا، التي في المسند والسنن والموطأ. وكتب التفسير وغيرها، ليس فيها شيء من هذا. ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس، وينفرد به من لا يعرف صدقه، بل يعرف أنه كذب.
الخامس: أن الميثاق أخذ على جميع الذرية، فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم، من نوح إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كلام المجانين ; فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا، فكيف يكون أميرا عليهم؟.
وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه. أما الإمارة على من خلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول. .
ومن العجب أن هذا الحمار الرافضي الذي. هو أحمر من عقلاء اليهود، الذين قال الله فيهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [سورة الجمعة: 5]. والعامة معذورون في

قولهم: الرافضي حمار اليهودي، وذلك أن عقلاء اليهود يعلمون أن هذا ممتنع عقلا وشرعا، وأن هذا كما يقال: خر عليهم السقف من تحتهم فيقال.: لا عقل ولا قرآن.
وكذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم.، وإنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين، وأن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمان والمرتبة، وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة. الذين يقولون إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، الذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة 206. فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوي الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
ثم إن هذا الحمار الرافضي يقول: " وهو صريح في الباب " فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب؟ أو يحتج بهذا من يستحق.
أو يؤهل للخطاب؟ فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة وتضليلهم وتكفيرهم وتجهيلهم؟.
ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين - لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله.
(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
وسئل:
عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما ولا يقول: يا حنان يا منان ولا يقول: يا دليل الحائرين فهل له أن يقول ذلك؟.
فأجاب:
الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد بن حزم وغيره؛ فإن جمهور العلماء على خلافه وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها وهو الصواب لوجوه.
أحدها أن التسعة والتسعين اسما لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجه. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف. وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين لم يمكنه استخراجها من القرآن وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور فكل اسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور ويمكن أن يكون من المحظور وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة. قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين.

الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث مثل اسم " الرب " فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم كقول آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا}. وقول نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} وقول إبراهيم: {ربنا اغفر لي ولوالدي} وقول موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقول المسيح: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} وأمثال ذلك.
حتى أنه يذكر عن مالك وغيره أنهم كرهوا أن يقال يا سيدي بل يقال: يا رب لأنه دعاء النبيين وغيرهم كما ذكر الله في القرآن. وكذلك اسم " المنان " ففي الحديث الذي رواه أهل السنن {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع داعيا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى} وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان. وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - لرجل ودعه قل: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #318  
قديم 03-12-2024, 11:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 318)

من صــ 466 الى صـ 480






وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر وأبي الوفاء ابن عقيل أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول ولو كان الدليل ما يستدل به فالعبد يستدل به أيضا فهو دليل من الوجهين جميعا.
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله وتر يحب الوتر}. وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين وثبت عنه في الصحيح أنه " قال: {إن الله جميل يحب الجمال} وليس هو فيها وفي الترمذي وغيره أنه قال: {إن الله نظيف يحب النظافة} وليس هذا فيها وفي الصحيح عنه أنه قال: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا} وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول. ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الحبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي القيوم. الواجد. الماجد. الأحد - ويروى الواحد - الصمد القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور.
الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين اسمه: السبوح وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {سبوح قدوس} واسمه " الشافي " كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: {أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما} وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين وليس من هذه التسعة والتسعين. الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره وهو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك.
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم في الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وشفاء صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن} رواه الإمام أحمد في المسند وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الخطابي وغيره: فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها وذلك يدل على أن قوله: {إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة} أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل: إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة وإن كان ماله أكثر من ذلك. والله في القرآن قال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فأمر أن يدعى بأسمائه الحسنى مطلقا ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسما والحديث قد سلم معناه والله أعلم.
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)
فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} من أموالهم. هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين.
وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير
ما يحب أو ما يكره. فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به ولا يطالبهم بزيادة. وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم وأما هو فيأمرهم بالمعروف. وهذا باب واسع.
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)
إن " المتقين " كما وصفهم الله بقوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا فيبصرون.
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله؛ فيكظم الغيظ. وقال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات فإذا أبصر رجع.
ثم قال: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}. أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات. ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه. وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب. فذلك النور والإبصار. وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه. وهذا: كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئا وإن لم يكن أعمى؛ فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق. وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وهكذا جاء في الآثار: قال أحمد بن حنبل في كتاب (الإيمان): حدثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ينزع منه الإيمان؛ فإن تاب أعيد إليه}. وقال: حدثنا يحيى عن عوف قال: قال الحسن: " يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان ". وقال أحمد: حدثنا معاوية عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث - {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية بن الوليد حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي أنه أخبره {عن أبي هريرة أنه كان يقول: إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويقلعه أخرى} وكذلك رواه بإسناده عن عمر وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم {إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان}. وهذا (إن شاء الله) يبسط في موضع آخر.
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص. ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد وهذا قول جمهور السلف والخلف وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه وهو أحد قولي الشافعي واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات.
ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد.
وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال الله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال} فأمر بذكر الله في نفسه فقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك: {ودون الجهر من القول} وقد يقال وهو أصح: بل ذكر الله في نفسه باللسان مع القلب وقوله: {ودون الجهر من القول} كقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}. وفي الصحيح عن عائشة قالت نزلت في الدعاء. وفي الصحيح عن {ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه فقال الله: لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه}. فنهاه عن الجهر والمخافتة. فالمخافتة هي ذكره في نفسه والجهر المنهي عنه هو الجهر المذكور في قوله: {ودون الجهر}
لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
فإن الجهر هو الإظهار الشديد يقال: رجل جهوري الصوت ورجل جهير. وكذلك قول عائشة في الدعاء فإن الدعاء كما قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة والجهر مثل المناداة المطلقة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم {لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} " ونظير قوله: {واذكر ربك في نفسك} قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه
" {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} " وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه فإنه جعله قسيم الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {ودون الجهر من القول} والدليل على ذلك أنه قال: {بالغدو والآصال} ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب مثل صلاتي الفجر والعصر والذكر المشروع عقب الصلاتين وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النهار بالغدو والآصال. وقد يدخل في ذلك أيضا ذكر الله بالقلب فقط؛ لكن يكون الذكر في النفس كاملا وغير كامل؛ فالكامل باللسان مع القلب وغير الكامل بالقلب فقط.
ويشبه ذلك قوله تعالى {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس استدلوا بهذه الآية وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين: " أحدهما " أنهم قالوا بألسنتهم قولا خفيا.
و " الثاني " أنه قيده بالنفس وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به} " فقوله حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق وأنه ليس باللسان. وقد احتج بعض هؤلاء بقوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} وجعلوا القول المسر في القلب دون اللسان؛ لقوله: {إنه عليم بذات الصدور} وهذه حجة ضعيفة جدا؛ لأن قوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة. وقوله بعد ذلك: {إنه عليم بذات الصدور} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى. ونظيره قوله: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}.
(إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما " سجود التلاوة " فهو خضوع لله وكان ابن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء وعن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة قال: تومئ برأسها وكذلك قال سعيد بن المسيب " قال: ويقول: اللهم لك سجدت. وقال الشعبي: من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه وقد سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ففعله الكافر والمسلم وسجد سحرة فرعون. وعلى هذا فليس بداخل في مسمى الصلاة.
ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة فإنها قيام مجرد لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل؛ ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها ورخص ابن عباس في التيمم لها إذا خشي الفوات وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهي كسجدتي السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف كما في الصلاة والمؤتم فيه تبع للإمام لا يكبر قبله ولا يسلم قبله كما في الصلاة؛ بخلاف سجود التلاوة فإنه عند كثير من أهل العلم يسجد وإن لم يسجد القارئ. والحديث الذي يروى {إنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا} من مراسيل عطاء وهو من أضعف المراسيل قاله أحمد وغيره ومن قال: إنه لا يسجد إلا إذا سجد لم يجعله مؤتما به من كل وجه فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعا صفا كما يسجدون خلف الإمام للسهو ولا يشترط أن يكون الإمام إمامه كما في الصلاة وللمأموم أن يرفع قبل إمامه فعلم أنه ليس بمؤتم به في صلاة وإن قيل: إنه مؤتم به في غير صلاة كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعي وائتمام المستمع بالقارئ.
وقال شيخ الإسلام:

فصل: في " سجود القرآن "
وهو نوعان: خبر عن أهل السجود ومدح لهم أو أمر به وذم على تركه. فالأول سجدة الأعراف {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر. وفي الرعد {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} وفي النحل {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون}{يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} وفي سبحان: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
وكذلك في مريم {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلى عليهم القرآن يسجدون. وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة وكقوله {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وإن كان المراد به الركوع. فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر. قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المسمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا. وفي " سورة الحج " الأولى خبر: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} والثانية أمر مقرون بالركوع ولهذا صار فيها نزاع. وسجدة الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد ليس هو مدحا. وكذلك سجدة " النمل ": {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله ولم يسجد لله. ومن قرأ ألا يا اسجدوا. كانت أمرا.

وفي " الم تنزيل السجدة " {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفى الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها. وفي " ص " خبر عن سجدة داود وسماها ركوعا. و " حم تنزيل " أمر صريح: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}. و " النجم " أمر صريح: {فاسجدوا لله واعبدوا} و " الانشقاق " أمر صريح عند سماع القرآن {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}. و " {اقرأ باسم ربك الذي خلق} " أمر مطلق: {واسجد واقترب} فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح. والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد إلا " ص " فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #319  
قديم 03-12-2024, 12:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
الحلقة( 319)

من صــ 481 الى صـ 495



قيل: يجب " وقيل لا يجب " وقيل يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة وهو رواية عن أحمد والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج والفرقان واقرأ وهذا ضعيف فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها. وإذا كان سامعا لها فقد ذكر بها. وكذلك " سورة الانشقاق " {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}.
وكذلك " سورة النجم " قوله: {أفمن هذا الحديث تعجبون} {وتضحكون ولا تبكون} {وأنتم سامدون} {فاسجدوا لله واعبدوا} أمر بالغا عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة فمن ظن هذا أو هذا فقد غلط بل هو متناول لهما جميعا كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.
فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة سواء تليت مع سائر القرآن أو وحدها ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود فالأمر يتناوله. وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ فإنه سبحانه وتعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه وهو لا يستكبر. ومعلوم أن قوله: {بآياتنا} ليس يعني بها آيات السجود فقط بل جميع القرآن فلا بد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا وهذا حال المصلي فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام والإمام يذكر بقراءة نفسه فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا وهو سجودهم في الصلاة وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود والسجود مثنى كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى وخرور من قعود وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل والطمأنينة فيها كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف أو كان إلى القعود أقرب لم يكن هذا خرورا. ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض كيف ما كان. وليس كذلك. بل هو مأمور به كما قال: {إذا ذكروا بها خروا سجدا} ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به كما ذكره في هذه الآية ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة.
يدل على ذلك قوله تعالى {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} فمدح هؤلاء وأثنى عليهم بخرورهم للأذقان أي على الأذقان سجدا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون. فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة يحبها الله وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض كما تلصق الجبهة والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع والسجود منتهاه فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه لكنه يخر على ذقنه والذقن آخر حد الوجه وهو أسفل شيء منه وأقربه إلى الأرض.
فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا لله. ومن حينئذ قد شرع في السجود فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود فالخرور على الذقن أول السجود وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود وقد روي عن ابن عباس {يخرون للأذقان} أي للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه فلذلك قال: {للأذقان} ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس. قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن فليس الذقن من أعضاء السجود بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين والقدمين} ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته والجمع بينهما متعذر أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ يمنع إلصاقهما معا بالأرض في حال واحدة فالساجد يخر على ذقنه ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: {ويخرون للأذقان يبكون} فهذا خرور البكاء قد يكون معه سجود وقد لا يكون.

فالأول كقوله: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهذا خرور وسجود وبكاء. والثاني: كقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضا؛ لما فيه من الخرور لله والبكاء له. وكلاهما عبادة لله فإن بكاء الباكي لله كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي {عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين}.

فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها وقد صنف مصنف في نعتهم سماه (اللمعة في أوصاف السبعة. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة والشاب الناشئ في عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله والذي قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}. والعفيف: كمل الخوف من الله والمتصدق كمل الصدقة لله؛ والباكي: كمل الإخلاص.
وأما قوله عن داود عليه السلام {وخر راكعا وأناب} لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة وإجماع المسلمين أنه سجد لله والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا وهذا أول السجود وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا ليبين أن هذا عبادة مقصودة وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثنى على النبيين بأنهم كانوا {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} {الذين أوتوا العلم من قبله} أنهم {إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر فإن المتكبر يكره أن يخر ويحب أن لا يزال منتصبا مرتفعا إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله لئلا يخر وينحني.
فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله وهو قد خلق رفيعا منتصبا فإذا خفضه لا سيما بالسجود كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا لله فمن سجد لغيره فهو مشرك ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر من أهل النار.
قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقال في قصة بلقيس: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} والشمس أعظم ما يرى في عالم الشهادة وأعمه نفعا وتأثيرا.
فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والأشجار وغير ذلك. وقوله: {واسجدوا لله الذي خلقهن} دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق وإن عظم قدره؛ بل لمن خلقه.
وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: {إن كنتم إياه تعبدون} لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات قال تعالى: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم " بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة. بخلاف الآدميين فوصفهم هنا بالتسبيح له ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}وهم يصفون له صفوفا كما قالوا: {وإنا لنحن الصافون} {وإنا لنحن المسبحون}. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف}.
فصل:
فآياته سبحانه توجب شيئين: أحدهما: فهمها وتدبرها ليعلم ما تضمنته.
والثاني: عبادته والخضوع له إذا سمعت فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا فلو سمعها السامع ولم يفهمها كان مذموما ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما بل لا بد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لا بد لكل أحد من استماعها فالمعرض عن استماعها كافر والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو سبحانه يذم الكفار بهذا وهذا. وهذا كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} وقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقوله: {كتاب
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ونظائره كثيرة. وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فذمهم على أنهم لا يفهمون ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وقال: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا}. قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمن لم يروها.
وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكي وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يفتخر وإن لم يكن قام ولا قعد. قلت: في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره حكمة فإنهم لو خروا وكانوا صما وعميانا لم يكن ذلك ممدوحا بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلا بد من شيئين: من الخرور والسجود. ولا بد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدى والبيان.
وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة في القيام ثم الركوع والسجود. فأول ما أنزل الله من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود فقال: {واسجد واقترب} فقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم} يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح وإنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجدا ويسبح بحمد ربه فليس بمؤمن وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود وهي جمهور آيات القرآن ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية وأما آيات السجدة فبضع عشرة آية.
وقوله: {ذكروا بها} يتناول جميع الآيات فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود فقد عصى الله ورسوله وإذا أتى بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن قيل: إذا كان المؤمن حقا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات: فقد قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} ولم يذكر إلا خمسة أشياء. وكذلك قال في الآية الأخرى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. وكذلك قوله: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله}. قيل عن هذا جوابان:
(أحدهما): أن يكون ما ذكر مستلزما لما ترك؛ فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع؛ فكان هذا مستلزما للباقي؛ فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه. وقد فسروا (وجلت) بفرقت. وفي قراءة ابن مسعود: (إذا ذكر الله فرقت قلوبهم). وهذا صحيح؛ فإن " الوجل في اللغة " هو الخوف يقال: حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنه قوله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} {قالت عائشة: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه}.
وقال السدي في قوله تعالى {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنه. وهذا كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛ فيتركها خوفا من الله. وإذا كان " وجل القلب من ذكره " يتضمن خشيته ومخافته؛ فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس تصديقا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
(فصل فيمن يصعق أو يخر ميتا عند سماع القرآن)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه. كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فإذا نقر في الناقور} فخر ميتا وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم. والمنكرون لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا.

يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق. ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.

لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}وقال: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: (أحدها حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود.
قال الله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} وقال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
و (الثانية) حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك. فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة.
كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #320  
قديم 03-12-2024, 12:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 320)

من صــ 1 الى صـ 10




فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.
ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة: لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل.
والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة وذلك لشدة الخوف فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء وهو حال الصحابة رضي الله عنهم.
(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)
وقال شيخ الإسلام:
فصل:
قال سبحانه في قصة بدر: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم} فوعدهم بالإمداد بألف وعدا مطلقا وأخبر أنه جعل إمداد الألف بشرى ولم يقيده وقال في قصة أحد: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} فإن هذا أظن فيه قولين: " أحدهما " أنه متعلق بأحد؛ لقوله بعد ذلك: {ليقطع طرفا من الذين كفروا} الآية.
ولأنه وعد مقيد وقوله فيه: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به} يقتضي خصوص البشرى بهم. وأما قصة بدر فإن البشرى بها عامة فيكون هذا كالدليل على ما روي من أن ألف بدر باقية في الأمة فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم (به) على (لكم) عناية بالألف وفي أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط.
[فصل: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته]

النوع السادس: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته قال الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] الآية. وقال تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران: 124]، وقال تعالى: في الخندق:{إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [الأحزاب: 9]. وقال تعالى في حنين: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26]. وقال تعالى في الهجرة: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40].
وقال تعالى في بدر: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال: 12]. وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى أسقط رداءه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
فأنزل الله عز وجل:سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
{سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
{أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9]
فأمده الله بالملائكة.

قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة
الجزء التاسع
سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
{سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
{أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»

وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار وروى البخاري عن أنس قال: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلوات الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
وفي المغازي من غير طريق أن الصحابة رأوا جبريل في صورة دحية الكلبي، وأنه معتم بعمامة أرخى طرفها بين كتفيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثه الله إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويلقي الرعب في قلوبهم»
وروى البخاري عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»
وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي ثم قال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا».
(فصل)

وسئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه -:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وفقهم الله لطاعته فيمن يقول: لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحرم عليه هذا القول وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم (*) وأنه يشفع لهم. ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل.
وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وفي سنن أبي داود وغيره {أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك} وذكر تمام الحديث فأنكر قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه فعلم جوازه فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع؛ وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك: فهذا مصيب في ذلك بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا. كما قال الله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وكما قال تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} وكما قال تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله} وقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة: يجب إثباتها والمعاني المنفية بالكتاب والسنة؛ يجب نفيها والعبارة الدالة على المعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها. وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع فيه إليه. وقد يكون في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبارة لها معنى صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا يرد عليه فهمه.

كما روى الطبراني في معجمه الكبير {أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله} فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش له ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله وأن كل غوث فمن عنده وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز. قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة قالوا واجتمعت الأمة على ذلك.

وقال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث وأكثر ما يقال غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: {اللهم أغثنا اللهم أغثنا} يقال أغاثه إغاثة وغياثا وغوثا وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر. قالوا الفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث.
والداعي ينادي بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر فإن من صيغة الاستغاثة يا لله للمسلمين وقد روي عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول وا غوثاه ويقول إني سمعت الله يقول: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} وفي الدعاء المأثور {: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك}. والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة ففي الحديث: {أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق} وفيه {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك}.
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: {أعوذ بكلمات الله التامة} قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق. وكذلك القسم قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وفي لفظ {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف " بعزة الله " و " لعمر الله " ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به وإما مخطئ ضال. وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وفي دعاء موسى عليه السلام " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك " ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصا بالله: صح إطلاق نفيه عما سواه ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.

وكذلك الاستغاثة أيضا فيها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستنصار. قال الله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله. ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة: فإنه يكون إما كافرا وإما فاسقا وإما عاصيا إلا أن يكون مؤمنا مجتهدا مخطئا فيثاب على اجتهاده ويغفر له خطؤه وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة فإن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك إما بالقتل وإما بدونه والله أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 292.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 286.33 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.99%)]