فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 22 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         8 طرق تنظم إفراز دهون البشرة.. تمنع الحبوب وانسداد المسام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أعشاب طبيعية مفيدة للبشرة والشعر ومثالية كمشروبات دافئة فى الشتاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          المشويات مزاج ولو عاوز الطعم لذيذ.. اعرف سر الخلطة من حلقة "روح مصر" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          طريقة عمل طاجن الكبدة بالبصل والفلفل.. طبق شهي وسريع التحضير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          7 أفكار للحصول على غرفة نوم مهدئة للأعصاب.. هتريح العين وتخليك تسترخى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          طريقة عمل المسقعة باللحم المفروم.. طبق تقليدى لذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          6 نباتات طاردة للحشرات فى الشتاء.. احمى بلكونتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          9 أسباب وراء جفاف البشرة فى الشتاء.. أبرزها الاستحمام بالماء الساخن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          طريقة عمل الطرب المشوي في البيت .. وجبة لذيذة ومغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لو حاسة بالبرد.. 6 مشروبات لذيذة تشعرك بالتدفئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #211  
قديم 15-11-2022, 05:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 211)

من صــ 461 الى صـ 470





فَصْلٌ:
فَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ. وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى، إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا. فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا. بَلْ مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا. وَلِهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّفْسِ. فَإِنَّ الشيطان يزين لها السيئات. ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن. التي هي منافع لا مضار. كما فعل إبليس بآدم وحواء. فقال {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما} {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
ولهذا قال تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} وقال تعالى {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} وقال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}. وقوله {زينا لكل أمة عملهم} هو بتوسيط تزيين الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين للخير. وتزيين شياطين الجن والإنس للشر. قال تعالى {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم} فأصل ما يوقع الناس في السيئات: الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررا راجحا، أو ظن أنها تنفعهم نفعا راجحا. ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم " كل من عصى الله فهو جاهل " وفسروا بذلك قوله تعالى {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} كقوله {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} ولهذا يسمى حال فعل السيئات: الجاهلية. فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية.
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية؟ {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل. ومن تاب قبيل الموت: فقد تاب من قريب. وعن قتادة قال " أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو في جهالة، عمدا كان أو لم يكن. وكل من عصى الله فهو جاهل " وكذلك قال التابعون ومن بعدهم. قال مجاهد: من عمل ذنبا - من شيخ، أو شاب - فهو بجهالة، وقال: من عصى ربه فهو جاهل. حتى ينزع عن معصيته. وقال أيضا: هو إعطاء الجهالة العمد. وقال مجاهد أيضا: من عمل سوءا خطأ، أو إثما عمدا: فهو جاهل. حتى ينزع منه.

رواهن ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن قتادة، وعمرو بن مرة، والثوري، ونحو ذلك " خطأ، أو عمدا ". وروي عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما. ولكن من جهالته: حين دخل فيه. وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة وعن الحسن البصري: أنه سئل عنها؟ فقال: هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم. قيل له: أرأيت لو كانوا قد علموا؟ قال: فليخرجوا منها. فإنها جهالة. قلت: ومما يبين ذلك: قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكل من خشيه، وأطاعه، وترك معصيته: فهو عالم. كما قال تعالى {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وقال رجل للشعبي: أيها العالم. فقال: إنما العالم من يخشى الله. قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} يقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم. فإنه لا يخشاه إلا عالم.

ويقتضي أيضا: أن العالم من يخشى الله. كما قال السلف. قال ابن مسعود " كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار جهلا ". ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين. حصر الأول في الثاني. وهو مطرد، وحصر الثاني في الأول نحو قوله {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} وقوله {إنما أنت منذر من يخشاها} وقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}. وذلك: أنه أثبت الخشية للعلماء، ونفاها عن غيرهم. وهذا كالاستثناء. فإنه من النفي: إثبات، عند جمهور العلماء. كقولنا " لا إله إلا الله " قوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}. وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه. لم يثبت له ما ذكر. ولم ينف عنه. وهؤلاء يقولون ذلك في صيغة الحصر بطريق الأولى. فيقولون: نفى الخشية عن غير العلماء، ولم يثبتها لهم.
والصواب: قول الجمهور. أن هذا كقوله {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها.

لكن أثبتها للجنس. أو لكل واحد من العلماء؟ كما يقال: إنما يحج المسلمون. ولا يحج إلا مسلم. وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط؟ . ففي هذه الآية وأمثالها: هو مقتض. فهو عام. فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات. وترك السيئات. وكل عاص فهو جاهل. ليس بتام العلم. يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل، وعدم العلم. وإذا كان كذلك. فعدم العلم ليس شيئا موجودا. بل هو مثل عدم القدرة، وعدم السمع والبصر، وسائر الأعدام.

والعدم: لا فاعل له. وليس هو شيئا. وإنما الشيء الموجود. والله تعالى خالق كل شيء. فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله. لكن قد يقترن به ما هو موجود. فإذا لم يكن عالما بالله، لا يدعوه إلى الحسنات، وترك السيئات. والنفس بطبعها متحولة. فإنها حية. والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {أصدق الأسماء: حارث وهمام} فكل آدمي حارث وهمام. أي عامل كاسب، وهو همام. أي يهم ويريد. فهو متحرك بالإرادة. وقد جاء في الحديث {مثل القلب: مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وللقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا}. فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها. فإذا هداها الله: علمها ما ينفعها وما يضرها. فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها.
فصل:
والله سبحانه قد تفضل على بني آدم بأمرين، هما أصل السعادة:
أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين. وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}. فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئا. ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل. قال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.

وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع. الثاني: أن الله تعالى قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل. قال تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} وقال تعالى {الرحمن} {علم القرآن} {خلق الإنسان} {علمه البيان} وقال تعالى {سبح اسم ربك الأعلى} {الذي خلق فسوى} {والذي قدر فهدى} وقال تعالى {وهديناه النجدين}. ففي كل أحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له.
وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة. وجعل في فطرته محبة لذلك. لكن قد يعرض الإنسان - بجاهليته وغفلته - عن طلب علم ما ينفعه. وكونه لا يطلب ذلك ولا يريده: أمر عدمي لا يضاف إلى الله تعالى. فلا يضاف إلى الله: لا عدم علمه بالحق ولا عدم إرادته للخير. لكن النفس كما تقدم: الإرادة والحركة من لوازمها فإنها حية حياة طبيعية؛ لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيى الحياة النافعة الكاملة. وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبا لعذابها. فلا هي حية متنعمة بالحياة. ولا هي ميتة مستريحة من العذاب. قال تعالى {فذكر إن نفعت الذكرى} {سيذكر من يخشى} {ويتجنبها الأشقى} {الذي يصلى النار الكبرى} {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} فالجزاء من جنس العمل. لما كان في الدنيا: ليس بحي الحياة النافعة التي خلق لأجلها.
بل كانت حياته من جنس حياة البهائم. ولم يكن ميتا عديم الإحساس: كان في الآخرة كذلك. فإن مقصود الحياة: هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم. فإذا لم تحصل له اللذة: لم يحصل له مقصود الحياة فإن الألم ليس مقصودا. كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء. فهذا يبقى طول حياته يختار الموت ولا يحصل له. فلما كان من طبع النفس الملازم لها: وجود الإرادة والعمل إذ هو حارث همام. فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته: فذلك من تمام إنعام الله عليها.
وإلا فهي بطبعها لا بد لها من مراد معبود غير الله. ومرادات سيئة تضرها. فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده. وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل ومن كونها بطبعها لا بد لها من مراد معبود. فعبدت غيره. وهذا هو الشر الذي تعذب عليه. وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها. والقدرية يعترفون بهذا جميعه. وبأن الله خلق الإنسان مريدا. لكن يجعلون المخلوق كونه مريدا بالقوة والقبول. أي قابلا لأن يريد هذا وهذا.

وأما كونه مريدا لهذا المعين وهذا المعين: فهذا عندهم ليس مخلوقا لله وغلطوا في ذلك غلطا فاحشا. فإن الله خالق هذا كله. وإرادة النفس لما تريده من الذنوب وفعلها: هو من جملة مخلوقات الله تعالى فإن الله خالق كل شيء. وهو الذي ألهم النفس - التي سواها - فجورها وتقواها. {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها}. وهو سبحانه: جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره. وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. لكن هذا لا يضاف مفردا إلى الله تعالى لوجهين: من جهة علته الغائية ومن جهة سببه وعلته الفاعلية. أما الغائية: فإن الله إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر. وإن كان شرا إضافيا. فإذا أضيف مفردا: توهم المتوهم مذهب جهم: أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة. والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #212  
قديم 15-11-2022, 05:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 212)

من صــ 471 الى صـ 480




كما أنه إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض: كان هذا ذما لهم وكان باطلا. وإذا قيل: يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويقتلون من منعهم من ذلك: كان هذا مدحا لهم وكان حقا. فإذا قيل: إن الرب تبارك وتعالى حكيم رحيم. أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع وهو أرحم الراحمين. أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والخير كله بيديه. والشر ليس إليه. بل لا يفعل إلا خيرا. وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة: فله فيها حكمة عظيمة ونعمة جسيمة - كان هذا حقا. وهو مدح للرب وثناء عليه. وأما إذا قيل: إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد. ولا له فيها حكمة ولا رحمة.
ويعذب الناس بلا ذنب: لم يكن هذا مدحا للرب ولا ثناء عليه. بل كان بالعكس. ومن هؤلاء من يقول: إن الله تعالى أضر على خلقه من إبليس. وبسط القول في بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر. وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات: من الحكمة والرحمة. وما لم نعلم أعظم مما علمناه. فتبارك الله أحسن الخالقين وأرحم الراحمين وخير الغافرين. ومالك يوم الدين. الأحد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. الذي لا يحصي العباد ثناء عليه. بل هو كما أثنى على نفسه الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وله الحكم وإليه ترجعون. الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه إلى عباده. سبحانه وتعالى. يستحق أن يحمد لما له في نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده. هذا حمد شكر وذاك حمد مطلقا.

وقد ذكرنا - في غير هذا الموضع - ما قيل: من أن كل ما خلقه الله فهو نعمة على عباده المؤمنين. يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه وهو من آلائه. ولهذا قال في آخر سورة النجم {فبأي آلاء ربك تتمارى} وفي سورة الرحمن يذكر {كل من عليها فان} ونحو ذلك. ثم يقول عقب ذلك {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. وقال آخرون: منهم الزجاج وأبو الفرج بن الجوزي {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي من هذه الأشياء المذكورة. لأنها كلها ينعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. وهذا قالوه في سورة الرحمن.
وقالوا في قوله {فبأي آلاء ربك تتمارى} فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك؟ وقيل: تشك وتجادل؟ قال ابن عباس: تكذب؟ . قلت: قد ضمن {تتمارى} معنى تكذب. ولهذا عداه بالتاء. فإن التماري: تفاعل من المراء. يقال: تمارينا في الهلال. والمراء في القرآن كفر وهو يكون تكذيبا وتشكيكا. وقد يقال: لما كان الخطاب لهم. قال {تتمارى} أي تتمارون. ولم يقل: تمتري. فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا. قالوا: والخطاب للإنسان. قيل للوليد بن المغيرة. فإنه قال {أم لم ينبأ بما في صحف موسى} {وإبراهيم الذي وفى} {ألا تزر وازرة وزر أخرى} ثم التفت إليه فقال {فبأي آلاء ربك تتمارى} تكذب. كما قال {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} {وخلق الجان من مارج من نار} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده يحمد عليه حمد شكر وله فيه حكمة تعود إليه يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدا يستحقه لذاته.
فجميع المخلوقات: فيها إنعام على العباد كالثقلين المخاطبين بقوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} من جهة أنها آيات للرب يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة. فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته. والآيات التي بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم. وإهلاك عدوهم - كما ذكره في سورة النجم {وأنه أهلك عادا الأولى} {وثمود فما أبقى} {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} {والمؤتفكة أهوى} {فغشاها ما غشى} - تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي والوعد والوعيد. ما بشروا به وأنذروا به. ولهذا قال عقيب ذلك {هذا نذير من النذر الأولى} قيل: هو محمد. وقيل: هو القرآن.
فإن الله سمى كلا منهما بشيرا ونذيرا. فقال في رسول الله {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} وقال تعالى {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال تعالى في القرآن {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا} وهما متلازمان. وكل من هذين المعنيين: مراد. يقال: هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل الرسل المرسلين. ففي المخلوقات: نعم من جهة حصول الهدى والإيمان والاعتبار والموعظة بها. وهذه أفضل النعم. فأفضل النعم: نعمة الإيمان. وكل مخلوق من المخلوقات: فهو الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة. قال تعالى {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وقالي تعالى {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}. وما يصيب الإنسان إن كان يسره: فهو نعمة بينة. وإن كان يسوءه: فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه. ويثاب بالصبر عليه.

ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. وقد قال في الحديث {والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كانوالكتب الأولى. وقوله " من النذر " أي من جنسها. أي رسول من خيرا له. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}.
وإذا كان هذا وهذا: فكلاهما من نعم الله عليه. وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر. أما نعمة الضراء: فاحتياجها إلى الصبر ظاهر. وأما نعمة السراء: فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها.
فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا. وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وفي الحديث {أعوذ بك من فتنة الفقر. وشر فتنة الغنى}. والفقر: يصلح عليه خلق كثير.
والغنى: لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين. لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر. لكن لما كان في السراء: اللذة. وفي الضراء: الألم. اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء. قال تعالى {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} ولأن صاحب السراء: أحوج إلى الشكر وصاحب الضراء: أحوج إلى الصبر. فإن صبر هذا وشكر هذا: واجب. إذا تركه استحق العقاب. وأما صبر صاحب السراء: فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات. وقد يكون واجبا ولكن لإتيانه بالشكر - الذي هو حسنات - يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء: لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين. وقد يكون تقصيره في الشكر: مما يغفر له لما يأتي به من الصبر. فإن اجتماع الشكر والصبر جميعا: يكون مع تألم النفس وتلذذها يصبر على الألم ويشكر على النعم.
وهذا حال يعسر على كثير من الناس. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الله تعالى منعم بهذا كله وإن كان لا يظهر الإنعام به في الابتداء لأكثر الناس. فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون. فكل ما يفعله الله فهو نعمة منه.

وأما ذنوب الإنسان: فهي من نفسه. ومع هذا فهي - مع حسن العاقبة - نعمة وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان. ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله {اللهم لا تجعلني عبرة لغيري ولا تجعل أحدا أسعد بما علمتني مني}. وفي دعاء القرآن {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} كما فيه {واجعلنا للمتقين إماما} أي فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتم. ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى. و " الآلاء " في اللغة: هي النعم وهي تتضمن القدرة. قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السورة - سورة الرحمن - نعماءه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته. جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين ليفهم النعم ويقررهم بها.

وقد روى الحاكم في صحيحه والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها. ثم قال: ما لي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة - {فبأي آلاء ربكما تكذبان} - إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب. فلك الحمد}.
والله تعالى يذكر في القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته. ويذكر بآياته التي فيها نعمه وإحسانه إلى عباده. ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى. وهي كلها متلازمة. فكل ما خلق: فهو نعمة ودليل على قدرته وعلى حكمته. لكن نعمة الرزق والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس: ظاهرة لكل أحد. فلهذا يستدل بها كما في سورة النحل. وتسمى سورة النعم. كما قاله قتادة وغيره. وعلى هذا: فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر. من جهة أسبابه. فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة. والشكر أعم من جهة أنواعه. فإنه يكون بالقلب واللسان واليد. فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة: لم يكن الحمد إلا على نعمة. والحمد لله على كل حال. لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده. لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم. والجهمية والجبرية: بمعزل عن هذا.

وكذلك كل ما يخلقه: ففيه له حكمة. فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة. والجهمية أيضا بمعزل عن هذا. وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه. بل ما ثم إلا نفع الخلق.
فما عندهم إلا شكر كما ليس عند الجهمية إلا قدرة. والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة: لا يظهر فيها وصف حمد كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به ولا ينفع به أحدا. فهذا لا يحمد. فحقيقة قول الجهمية أتباع جهم: أنه لا يستحق الحمد. فله عندهم ملك بلا حمد مع تقصيرهم في معرفة ملكه. كما أن المعتزلة له عندهم نوع من الحمد بلا ملك تام. إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. وتحدث حوادث بلا قدرته. وعلى مذهب السلف: له الملك وله الحمد تامين. وهو محمود على حكمته كما هو محمود على قدرته ورحمته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #213  
قديم 15-11-2022, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 213)

من صــ 481 الى صـ 490



وقد قال {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فله الوحدانية في إلهيته وله العدل وله العزة والحكمة. وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم. فمن قصر عن معرفة السنة فقد نقص الرب بعض حقه. والجهمي الجبري لا يثبت عدلا ولا حكمة ولا توحيد إلهية. بل توحيد ربوبيته. والمعتزلي أيضا لا يثبت في الحقيقة توحيد إلهية ولا عدلا في الحسنات والسيئات ولا عزة ولا حكمة في الحقيقة وإن قال: إنه يثبت الحكمة بما معناها يعود إلى غيره. وتلك لا يصلح أن تكون حكمة من فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره هو عند العقلاء قاطبة بها ليس بحكيم بل سفيه. وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة فقد ثبت: أنه رأس الشكر.
فهو أول الشكر. والحمد - وإن كان على نعمته وعلى حكمته - فالشكر بالأعمال هو على نعمته. وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته. فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر. ولهذا عظم القرآن أمر الشكر. ولم يعظم أمر الحمد مجردا إذ كان نوعا من الشكر. وشرع الحمد - الذي هو الشكر المقول - أمام كل خطاب مع التوحيد. ففي الفاتحة: الشكر والتوحيد. والخطب الشرعية لا بد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان. فسبحان الله وبحمده: فيها الشكر والتنزيه والتعظيم. ولا إله إلا الله. والله أكبر: فيها التوحيد والتكبير. وقد قال تعالى {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}.

وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح وإن لم يكن باختياره أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية. كما قيل في الذم؟ فيه نظر ليس هذا موضعه. وفي الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد. ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد} هذا لفظ الحديث.
" أحق " أفعل التفضيل. وقد غلط فيه طائفة من المصنفين فقالوا {حق ما قال العبد}. وهذا ليس لفظ الرسول. وليس هو بقول سديد. فإن العبد يقول الحق والباطل. بل حق ما يقوله الرب. كما قال تعالى {فالحق والحق أقول}. ولكن لفظه {أحق ما قال العبد} خبر مبتدأ محذوف. أي الحمد أحق ما قال العبد. أو هذا - وهو الحمد - أحق ما قال العبد. ففيه بيان: أن الحمد لله أحق ما قاله العباد. ولهذا أوجب قوله في كل صلاة وأن تفتتح به الفاتحة. وأوجب قوله في كل خطبة وفي كل أمر ذي بال. والحمد ضد الذم. والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له. فإذا قيل: إنه سبحانه يفعل الخير والحسنات وهو حكيم رحيم بعباده أرحم بعباده من الوالدة بولدها: أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه.

وأما إذا قيل: بل يخلق ما هو شر محض لا نفع فيه ولا رحمة ولا حكمة لأحد. وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل. لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب. وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده. وهو - مع هذا - يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر ويفعل ما يفعل لا لحكمة - ونحو ذلك مما يقوله الجهمية -: لم يكن هذا موجبا لأن يحبه العباد ويحمدوه. بل هو موجب للعكس. ولهذا فإن كثيرا من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن. ويذكرون ذلك نظما ونثرا. وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر في كلامه ما يقتضي هذا. ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة أو يخاف من عموم المسلمين. وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا. وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله. ويجعلون الرب ظالما لهم.

وهو خلاف ما وصف الله به نفسه في قوله تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} وقوله {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقوله {وما ربك بظلام للعبيد}.
كيف يكون ظالما؟ وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض أو قصر في حقه لكان يؤاخذه ويعاقبه وينتقم منه. ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه. ولو قال: إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه: لم يكن هذا عذرا له عندهم باتفاق العقلاء. فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجا بالقدر. فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجا بالقدر. وهو سبحانه الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة. وإن تك حسنة يضاعفها. ويؤت من لدنه أجرا عظيما. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فقوله {أحق ما قال العبد} يقتضي: أن حمد الله أحق ما قاله العبد. فله الحمد على كل حال. لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان الذي يستحق الحمد عليه سبحانه وتعالى. وإن كان العباد لا يعلمون. وهو سبحانه خلق الإنسان وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لا بد فيها من الشر لحكمة بالغة ورحمة سابغة.
فإذا قيل: فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه؟ . قيل: كان يكون ذلك خلقا غير الإنسان. وكانت الحكمة التي خلقها بخلق الإنسان لا تحصل. وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وما لم تعلمه الملائكة فكيف يعلمه آحاد الناس. ونفس الإنسان خلقت كما قال الله تعالى {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وقال تعالى {خلق الإنسان من عجل}. فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة ورحمة عميمة. فكان ذلك خيرا ورحمة. وإن كان فيه شر إضافي كما تقدم. فهذا من جهة الغاية مع أنه لا يضاف الشر إلى الله. وأما الوجه الثاني من جهة السبب: فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس. فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته.

وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك. وهذا كله من فضل الله وإحسانه. لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها بل حصل لها من زين لها السيئات - من شياطين الإنس والجن - مالت إلى ذلك وفعلت السيئات. فكان فعلها للسيئات. مركبا من عدم ما ينفع وهو الأفضل. ووجود هؤلاء الذين حيروها. والعدم لا يضاف إلى الله. وهؤلاء: القول فيهم كالقول فيها: خلقهم لحكمة. فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح: هو أحد السببين. وكان الشر المحض الذي لا خير فيه: هو العدم المحض والعدم لا يضاف إلى الله. فإنه ليس شيئا. والله خالق كل شيء: كانت السيئات منها باعتبار أن ذاتها في نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التي تحصل منها - مع عدم ما يصلحها - تلك السيئات.

والعبد إذا اعترف وأقر بأن الله خالق أفعاله كلها فهو على وجهين. إن اعترف به إقرارا بخلق الله كل شيء بقدرته ونفوذ مشيئته وإقرارا بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر واعترافا بفقره وحاجته إلى الله وأنه إن لم يهده فهو ضال. وإن لم يتب عليه فهو مصر. وإن لم يغفر له فهو هالك: خضع لعزته وحكمته. فهذا حال المؤمنين الذين يرحمهم الله ويهديهم ويوفقهم لطاعته. وإن قال ذلك احتجاجا على الرب ودفعا للأمر والنهي عنه وإقامة لعذر نفسه فهذا ذنب أعظم من الأول. وهذا من أتباع الشيطان. ولا يزيده ذلك إلا شرا. وقد ذكرنا أن الرب سبحانه محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه.
ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده. ويستحق أن يرضى العبد بقضائه. لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيرا وعدلا. ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له}. فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه - من الحمد والثناء - ولأنه محسن إلى المؤمن. وما تسأله طائفة من الناس وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له} وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب. فكيف يكون ذلك خيرا؟ .
وعنه جوابان:
أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث، إنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب كما في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولهذا قال {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له} فجعل القضاء: ما يصيبه من سراء وضراء. هذا ظاهر لفظ الحديث. فلا إشكال عليه. الوجه الثاني: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن}. فإذا قضى له بأن يحسن فهذا مما يسره. فيشكر الله عليه. وإذا قضى عليه بسيئة: فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها. فإن تاب أبدلت بحسنة. فيشكر الله عليها.
وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها فصبر عليها. فيكون ذلك خيرا له. والرسول صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن} والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب بل يتوب منه. فيكون حسنة كما قد جاء في عدة آيات. إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله. لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة.
والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه ودعاء الله واستغفاره إياه وشهوده بفقره وحاجته إليه وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو.

فيحصل للمؤمن - بسبب الذنب - من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك. فيكون هذا القضاء خيرا له. فهو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها. فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء في بعض الأحاديث {يقول الله تعالى أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل شكري أهل زيادتي. وأهل طاعتي أهل كرامتي. وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي. إن تابوا فأنا حبيبهم} أي محبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم. أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب}. وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يركن إلى نفسه ولا يسكن إليها. فإن الشر لا يجيء إلا منها. ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #214  
قديم 15-11-2022, 06:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 214)

من صــ 491 الى صـ 500


فإن ذلك من السيئات التي أصابته. وهي إنما أصابته بذنوبه. فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها. ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله. ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر. ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإنه إذا هداه هذا الصراط: أعانه على طاعته وترك معصيته. فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان. وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة: وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب.
ليس كما يقوله طائفة من المفسرين: إنه قد هداه. فلماذا يسأل الهدى؟ . وأن المراد بسؤال الهدى: الثبات أو مزيد الهداية. بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله. وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور في كل يوم. وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدا للعمل بعلمه وإلا كان العلم حجة عليه. ولم يكن مهتديا. والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة. فإنه لا يكون مهتديا إلى الصراط المستقيم - صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - إلا بهذه العلوم والإرادات والقدرة على ذلك.
ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه. فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء. وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن والمأمورين بهذا الدعاء. ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها في الدنيا والآخرة. فيعلم أن الله - بفضله ورحمته - جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر. ومما يبين ذلك: أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا. وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول وكانا مشتركين في المقتضي للحكم. فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط.

ولكن الأمر كما قال تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وكما قال تعالى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} وقال تعالى {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} وقال تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟}. وقال {لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها: شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: فمن؟} وكلا الحديثين في الصحيحين.

{ولما كان في غزوة حنين كان للمشركين شجرة - يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وينوطونها بها ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر. قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم}. وقد بين القرآن: أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله. فأعظم السيئات: جحود الخالق. والشرك به وطلب النفس أن تكون شريكة وندا له أو أن تكون إلها من دونه. وكلا هذين وقع فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبودا دون الله تعالى. وقال {ما علمت لكم من إله غيري} وقال {أنا ربكم الأعلى} وقال لموسى {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} و {فاستخف قومه فأطاعوه}.
وإبليس يطلب: أن يعبد ويطاع من دون الله. فيريد: أن يعبد ويطاع هو ولا يعبد الله ولا يطاع. وهذا الذي في فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل. وفي نفوس سائر الإنس والجن: شعبة من هذا وهذا. إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان. قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون غير أن فرعون قدر فأظهر. وغيره عجز فأضمر. وذلك: أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس وسمع أخبارهم: رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته.
فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة بحسب إمكانها فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه ويعادي من يخالفه في هواه. وإنما معبوده: ما يهواه ويريده. قال تعالى {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} والناس عنده في هذا الباب: كما هم عند ملوك الكفار من المشركين من الترك وغيرهم. يقولون " يا رباعي " أي صديق وعدو. فمن وافق هواهم: كان وليا وإن كان كافرا مشركا. ومن لم يوافق هواهم: كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين. وهذه هي حال فرعون. والواحد من هؤلاء: يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون: من دعوى الإلهية وجحود الصانع. وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع - لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم: فقد يعادونه كما عادى فرعون موسى. وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد بل يطلب لنفسه ما هو عنده.

فإن كان مطاعا مسلما: طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله. ويكون من أطاعه في هواه: أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه. وهذه شعبة من حال فرعون. وسائر المكذبين للرسل. وإن كان عالما - أو شيخا - أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره حتى لو كانا يقرآن كتابا واحدا كالقرآن أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها كالصلوات الخمس. فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به: أكثر من غيره. وربما أبغض نظيره وأتباعه حسدا وبغيا كما فعلت اليهود لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى. قال تعالى {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} وقال تعالى {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} وقال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}.

ولهذا أخبر الله تعالى عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون. وسلط عليهم من انتقم به منهم. فقال تعالى عن فرعون {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وقال تعالى عنهم {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} ولهذا قال تعالى {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا}
والله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوا الله وحده وليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا كما أرسل كل رسول بمثل ذلك. قال تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}.
وقد أمر الله الرسل كلهم بهذا وأن لا يتفرقوا فيه. فقال {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} وقال تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون}.

قال قتادة: أي دينكم دين واحد. وربكم رب واحد. والشريعة مختلفة. وكذلك قال الضحاك عن ابن عباس {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي دينكم دين واحد. قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد نحو ذلك. وقال الحسن: بين لهم ما يتقون وما يأتون. ثم قال: إن هذه سنتكم سنة واحدة. وهكذا قال جمهور المفسرين. و " الأمة " الملة. والطريقة كما قال تعالى {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} - مقتدون كما يسمى " الطريق " إماما. لأن السالك فيه يأتم به فكذلك السالك يؤمه ويقصده. و " الأمة " أيضا معلم الخير الذي يأتم به الناس. كما أن " الإمام " هو الذي يأتم به الناس. وإبراهيم عليه السلام جعله الله إماما. وأخبر أنه {كان أمة}

وأمر الله الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدا. لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إنا معشر الأنبياء ديننا واحد} وقد قال الله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ولهذا كان جميع رسل الله وأنبيائه يصدق بعضهم بعضا. لا يختلفون مع تنوع شرائعهم. فمن كان من المطاعين - من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك - متبعا للرسل: أمر بما أمروا به. ودعا إلى ما دعوا إليه. وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه. فإن الله يحب ذلك.

فيحب ما يحبه الله تعالى. وهذا قصده في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله تعالى وحده وأن يكون الدين كله لله. وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك: فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود. فله نصيب من حال فرعون وأشباهه. فمن طلب أن يطاع دون الله: فهذا حال فرعون. ومن طلب أن يطاع مع الله: فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. والله سبحانه وتعالى أمر: أن لا يعبد إلا إياه وأن لا يكون الدين إلا له وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه. وأن لا يتوكل إلا عليه ولا يستعان إلا به. فالمؤمن المتبع للرسل: يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل ليكون الدين كله لله لا له. وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك: أحبه وأعانه وسر بوجود مطلوبه.
وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم: ابتغاء وجه ربه الأعلى. ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنا ولم يجعله مسيئا فيرى أن عمله لله وأنه بالله. وهذا مذكور في فاتحة الكتاب التي ذكرنا أن جميع الخلق محتاجون إليها أعظم من حاجتهم إلى أي شيء. ولهذا فرضت عليهم قراءتها في كل صلاة دون غيرها من السور ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. فإن فيها {إياك نعبد وإياك نستعين}. فالمؤمن يرى: أن عمله لله لأنه إياه يعبد وأنه بالله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #215  
قديم 15-11-2022, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 215)

من صــ 1 الى صـ 10


لأنه إياه يستعين. فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا. لأنه إنما عمل له ما عمل لله كما قال الأبرار {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه. فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان. وأن المنة لله عليه وعلى ذلك الشخص. فعليه هو: أن يشكر الله. إذ يسره لليسرى. وعلى ذلك: أن يشكر الله. إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزق أو علم أو نصر أو غير ذلك. ومن الناس: من يحسن إلى غيره ليمن عليه أو يرد الإحسان له بطاعته إليه وتعظيمه أو نفع آخر. وقد يمن عليه. فيقول: أنا فعلت بك كذا. فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه. ولا عمل لله ولا عمل بالله. فهو المرائي. وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي.
قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}.

قال قتادة {وتثبيتا من أنفسهم} احتسابا من أنفسهم وقال الشعبي: يقينا وتصديقا من أنفسهم. وكذلك قال الكلبي. قيل: يخرجون الصدقة طيبة بها أنفسهم. على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله. يعلمون: أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه. قلت: إذا كان المعطي محتسبا للأجر عند الله مصدقا بوعد الله له: طالب من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه. كما لو قال رجل لآخر: أعط مماليكك هذا الطعام وأنا أعطيك ثمنه؛ لم يمن على المماليك. لا سيما إذا كان يعلم: أن الله قد أنعم عليه بالإعطاء.

فصل:
الفرق السادس: أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية - وإن كانت خلقا لله - فهو عقوبة له على عدم فعله ما خلقه الله له. وفطره عليه. فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له. ودله على الفطرة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل مولود يولد على الفطرة} وقال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
فهو لما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه وما أمر به - من معرفة الله وحده. وعبادته وحده - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي. قال تعالى للشيطان {اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} - إلى قوله - {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقال تعالى {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}. وقال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
فقد تبين: أن إخلاص الدين لله: يمنع من تسلط الشيطان ومن ولاية الشيطان التي توجب العذاب. كما قال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}. فإذا أخلص العبد لربه الدين: كان هذا مانعا له من فعل ضد ذلك ومن إيقاع الشيطان له في ضد ذلك. وإذا لم يخلص لربه الدين ولم يفعل ما خلق له وفطر عليه: عوقب على ذلك. وكان من عقابه:تسلط الشيطان عليه حتى يزين له فعل السيئات. وكان إلهامه لفجوره عقوبة له على كونه لم يتق الله.

وعدم فعله للحسنات: ليس أمرا وجوديا حتى يقال: إن الله خلقه بل هو أمر عدمي. لكن يعاقب عليه لكونه: عدم ما خلق له وما أمر به. وهذا يتضمن العقوبة على أمر عدمي. لكن بفعل السيئات لا بالعقوبات - التي يستحقها بعد إقامة الحجة عليه - بالنار ونحوها. وقد تقدم أن مجرد عدم المأمور: هل يعاقب عليه؟ فيه قولان. والأكثرون يقولون: لا يعاقب عليه لأنه عدم محض. ويقولون: إنما يعاقب على الترك. وهذا أمر وجودي. وطائفة - منهم: أبو هاشم - قالوا: بل يعاقب على هذا العدم. بمعنى أنه يعاقب عليه كما يعاقب على فعل الذنوب بالنار ونحوها.

وما ذكر في هذا الوجه: هو أمر وسط. وهو أن يعاقبه على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة عليها. ولا يعاقبه عليها حتى يرسل إليه رسوله. فإذا عصى الرسول: استحق حينئذ العقوبة التامة. وهو أولا: إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بأن يتوب منه.
أو بأن لا تقوم عليه الحجة. وهو كالصبي الذي لا يشتغل بما ينفعه بل بما هو سبب لضرره ولكن لا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ. فإذا بلغ عوقب. ثم ما تعوده من فعل السيئات: قد يكون سببا لمعصيته بعد البلوغ وهو لم يعاقب إلا على ذنبه. ولكن العقوبة المعروفة: إنما يستحقها بعد قيام الحجة عليه. وأما اشتغاله بالسيئات: فهو عقوبة عدم عمله للحسنات. وعلى هذا: فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه. فإنه - وإن كان الله خالق أفعال العباد - فخلقه للطاعات: نعمة ورحمة وخلقه للسيئات: له فيه حكمة ورحمة وهو - مع هذا - عدل منه فما ظلم الناس شيئا. ولكن الناس ظلموا أنفسهم. وظلمهم لأنفسهم نوعان: عدم عملهم بالحسنات. فهذا ليس مضافا إليه. وعملهم للسيئات: خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها وأمرهم بها. فكل نعمة منه فضل. وكل نقمة منه عدل.

ومن تدبر القرآن: تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل. كقوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} وقال تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال تعالى {وأما من بخل واستغنى} {وكذب بالحسنى} {فسنيسره للعسرى}. وهذا وأمثاله: بذلوا فيه أعمالا عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور. وتلك الأمور إنما كانت منهم وخلقت فيهم لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له. ولا بد لهم من حركة وإرادة. فلما لم يتحركوا بالحسنات: حركوا بالسيئات عدلا من الله. حيث وضع ذلك موضعه في محله القابل له - وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملا - فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في عمل السيئة.

كما قيل: نفسك إن لم تشغلها شغلتك. وهذا الوجه - إذا حقق - يقطع مادة كلام القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله. ويجعلون خلقها والتعذيب عليها ظلما. والذين يقولون: إنه خلق كفر الكافرين ومعصيتهم وعاقبهم على ذلك لا لسبب ولا لحكمة.
فإذا قيل لأولئك: إنه إنما أوقعهم في تلك الذنوب وطبع على قلوبهم: عقوبة لهم على عدم فعلهم ما أمرهم به. فما ظلمهم ولكن هم ظلموا أنفسهم. يقال: ظلمته إذا نقصته حقه. قال تعالى {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا}. وكثير من أولئك يسلمون أن الله خلق للعبد من الأعمال ما يكون جزاء له على عمل منه متقدم. ويقولون: إنه خلق طاعة المطيع. فلا ينازعون في نفس خلق أفعال العباد. لكن يقولون: ما خلق شيئا من الذنوب ابتداء بل إنما خلقها جزاء لئلا يكون ظالما. فنقول: أول ما يفعله العبد من الذنوب: هو أحدثه لم يحدثه الله. ثم ما يكون جزاء على ذلك: فالله محدثه. وهم لا ينازعون في مسألة خلق الأفعال إلا من هذه الجهة. وهذا الذي ذكرناه: يوافقون عليه. لكن يقولون: أول الذنوب لم يحدثه الله بل يحدثه العبد لئلا يكون الجزاء عليه ظلما. وما ذكرناه: يوجب أن الله خالق كل شيء.
فما حدث شيء إلا بمشيئته وقدرته. لكن أول الذنوب الوجودية: هو المخلوق. وذاك عقوبة على عدم فعل العبد لما خلق له ولما كان ينبغي له أن يفعله. وهذا العدم لا يجوز إضافته إلى الله. وليس بشيء حتى يدخل في قولنا {الله خالق كل شيء} وما أحدثه من الذنوب الوجودية فأولها: عقوبة للعبد على هذا العدم. وسائرها: قد يكون عقوبة للعبد على ما وجد. وقد يكون عقوبة له على استمراره على العدم. فما دام لا يخلص لله العمل: فلا يزال مشركا. ولا يزال الشيطان مسلطا عليه. ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه - بأن استعمله ابتداء فيما خلق له وهذا لم يستعمله - هو تخصيص منه بفضله ورحمته. ولهذا يقول الله {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} ولذلك حكمة ورحمة هو أعلم بها كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية وغير ذلك من حكمته. وبتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب. والله أعلم بالصواب.
فصل:
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان: قوله تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وهذا من تمام قوله {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} الآية فذكر: أن هذا التقليب إنما حصل لقلوبهم لما لم يؤمنوا به أول مرة وهذا عدم الإيمان. لكن يقال: إنما كان هذا بعد دعوة الرسول لهم وهم قد تركوا الإيمان وكذبوا الرسول. وهذه أمور وجودية لكن الموجب للعذاب: هو عدم الإيمان. وما ذكر شرط في التعذيب بمنزلة إرسال الرسول. فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح - من أكل وشرب وبيع وسفر وغير ذلك - وهذا الجنس لا يستحق عليه العقوبة إلا لأنه شغله عن الإيمان الواجب عليه. ومن الناس من يقول: ضد الإيمان هو تركه. وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك.
فصل:

الفرق السابع: من الحسنات والسيئات التي تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس. وتلك تضاف إلى الله: أن السيئات التي تصيب الإنسان - وهي مصائب الدنيا والآخرة - ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه. فانحصرت في نفسه. وأما ما يصيبه من الخير والنعم: فإنه لا تنحصر أسبابه. لأن ذلك من فضل الله وإحسانه يحصل بعمله وبغير عمله. وعمله نفسه من إنعام الله عليه. وهو سبحانه لا يجزي بقدر العمل بل يضاعفه له. ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه. فيرجع فيها إلى الله. فلا يرجو إلا الله. ولا يتوكل إلا عليه. ويعلم أن النعم كلها من الله. وأن كل ما خلقه فهو نعمة كما تقدم. فهو يستحق الشكر المطلق العام التام الذي لا يستحقه غيره.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #216  
قديم 15-11-2022, 06:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 216)

من صــ 11 الى صـ 20


ومن الشكر: ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما. فإنه {من لا يشكر الناس لا يشكر الله} لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه: أن يشكر بمعصية الله أو أن يطاع بمعصية الله. فإن الله هو المنعم بالنعم العظيمة التي لا يقدر عليها مخلوق. ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضا. قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وجزاؤه سبحانه على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله. فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق كما قال تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} وقال في الآية الأخرى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {على المرء المسلم: السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة}.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {إنما الطاعة في المعروف} وقال {من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه} وقال {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله وأنه لا مقدر أن يأتي بها إلا الله. فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب السيئات إلا هو. وأنه {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده. وكذلك إذا علم ما يستحقه الله من الشكر - الذي لا يستحقه غيره - صار علمه بأن الحسنات من الله: يوجب له الصدق في شكر الله والتوكل عليه. ولو قيل: إنها من نفسه لكان غلطا.

لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل. وما كان لعمله فيه مدخل: فإن الله هو المنعم به. فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. وعلم أن الشر قد انحصر سببه في النفس. فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى. فاستغفر ربه مما فعل وتاب. واستعان الله واستعاذ به مما لم يعمل بعد كما قال من قال من السلف " لا يرجون عبد إلا ربه. ولا يخافن عبد إلا ذنبه ".
وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم الذين يقولون: إن الله يعذب بلا ذنب ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائما أبدا بلا ذنب. فإن هؤلاء يقولون: يخاف الله خوفا مطلقا سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب. ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته. فإذا صدق العبد بقوله تعالى {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} علم بطلان هذا القول وأن الله لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه حتى المصائب التي تصيب العبد كلها بذنوبه. وقد تقدم قول السلف - ابن عباس وغيره - أن ما أصابهم يوم أحد من الغم والفشل: إنما كان بذنوبهم. لم يستثن من ذلك أحد. وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه}.
فصل:
الفرق الثامن: أن السيئة إذا كانت من النفس. والسيئة خبيثة مذمومة وصفها بالخبث في مثل قوله {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات}.
قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين. وقد قال تعالى {ضرب الله مثلا كلمة طيبة} {ومثل كلمة خبيثة} وقال الله {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل. فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها. فمن أراد: أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير: لم يصلح.

ومن أراد: أن يجعل الذي يكذب شاهدا على الناس لم يصلح. وكذلك من أراد: أن يجعل الجاهل معلما للناس مفتيا لهم. أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس. أو يجعل الأحمق الذي لا يعرف شيئا سائسا للناس أو للدواب: فمثل هذا يوجب الفساد في العالم. وقد يكون غير ممكن. مثل من أراد أن يجعل الحجارة تسبح على وجه الماء كالسفن أو تصعد إلى السماء كالريح ونحو ذلك. فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء. فإن ذلك موجب للفساد أو غير ممكن. بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت حتى تصلح لسكنى الجنة.

كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن المؤمنين إذا نجوا من النار - أي عبروا الصراط - وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا. فإذا هذبوا ونقوا: أذن لهم في دخول الجنة}.
وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يخلص المؤمنون من النار. فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا: أذن لهم في دخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا}. والتهذيب: التخليص كما يهذب الذهب. فيخلص من الغش. فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط؟ .
وأيضا فإذا كان سببها ثابتا فالجزاء كذلك بخلاف الحسنة. فإنها من إنعام الحي القيوم الباقي الأول الآخر. فسببها دائم فيدوم بدوامه. وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه: لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل علم تحقيق قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} وقوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
وعلم أن الرب عليم حليم رحيم عدل وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان. وكل نعمة منه فضل. وكل نقمة منه عدل. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه. والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع}. وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل ولا وضع للأشياء مواضعها.
فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه. وهو سبحانه قد شهد {أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. ولهذا يقولون: لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات. بل يجوز عندهم: أن يعفو عن الجميع. ويجوز عندهم: أن يعذب الجميع. ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة. بل يعفو عن شر الناس ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة ولا يغفرها له. وهم يقولون: السيئة لا تمحى لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك. وقد لا يفرقون به بين الصغائر والكبائر.

قالوا: لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر خبر الله ورسوله. قالوا: وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل الله بمن كسب السيئات إلا الكفر. وتأولوا قوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بأن المراد بالكبائر: قد يكون هو الكفر وحده. كما قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وغيره ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جهم بن صفوان في القدر وفي الوعيد. وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة في القدر والوعيد.

فأولئك لما قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد وأنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. وسلكوا مسلك نفاة القدر في هذا وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج. قالوا: إن من دخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها. بل يكون عذابه مؤبدا. فصاحب الكبيرة أو من رجحت سيئاته - عندهم - لا يرحمه الله أبدا. بل يخلده في النار. فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه في القدر. وناقضهم جهم في هذا وهذا. وسلك هؤلاء مسلك جهم.
مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث وأتباع السلف. وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه. وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة: نوع في الأسماء والصفات. فغلا في نفي الأسماء والصفات. ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم. ووافقه المعتزلة في نفي الصفات دون الأسماء. والكلابية - ومن وافقهم من السالمية. ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية - وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات. والكرامية ونحوهم: وافقوه على أصل ذلك.
وهو امتناع دوام ما لا يتناهى. وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلما إذا شاء وفعالا لما يشاء إذا شاء. لامتناع حوادث لا أول لها. وهو عن هذا الأصل - الذي هو نفي وجود ما لا يتناهى في المستقبل - قال بفناء الجنة والنار. وقد وافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال: بتناهي الحركات. فالمعتزلة في الصفات: مخانيث الجهمية.
وأما الكلابية: فيثبتون الصفات في الجملة. وكذلك الأشعريون ولكنهم - كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري -: الجهمية الإناث. وهم مخانيث المعتزلة. ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. وقد ذكر الأشعري وغيره هذا. لأن قائله لم يعلم أن جهما سبق هؤلاء إلى هذا الأصل أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه. وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جدا. والشهرستاني يذكر عن شيوخهم: أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة.

لأن الشهرستاني إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية في الصفات ونحوها مع المعتزلة بخلاف أئمة السنة والحديث. فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية. وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفي الصفات. وأهل النفي للصفات والتعطيل لها: هم عند السلف يقال لهم: الجهمية. وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف. وأما المعتزلة: فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد. وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #217  
قديم 15-11-2022, 06:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 217)

من صــ 21 الى صـ 30


وبعدهم حدثت الجهمية. وكان القدر: قد حدث أهله قبل ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير بعد موت معاوية ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وغيرهما. وابن عباس مات قبل ابن الزبير. وابن عمر مات عقب موته وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين. فبقي الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق وأكثره: كان بالشام والعراق بالبصرة وأقله: كان بالحجاز. ثم لما حدثت المعتزلة - بعد موت الحسن وتكلم في المنزلة بين المنزلتين وقالوا بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد في النار وأن النار لا يخرج منها من دخلها. وهذا تغليظ على أهل الذنوب - ضموا إلى ذلك القدر. فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب. ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئا من نفي الصفات.
إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال " أيها الناس ضحوا. تقبل الله ضحاياكم. فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم: أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما. تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه. وهذا كان بالعراق. ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من ترمذ. ومنها ظهر رأي جهم. ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق: أكثر كلاما في رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق مثل إبراهيم بن طهمان وخارجة بن مصعب ومثل عبد الله بن المبارك وأمثالهم - وقد تكلم في ذمهم - وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم. وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة.

فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا. فإنه كان قد أقام بخراسان مدة. واجتمع بهم. ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين. وفيها مات. وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين. وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام. فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم: جهل وظلم. وأراد المعتصم إطلاقه. فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة. فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم في العامة وخافوا الفتنة. فأطلقوه. وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف. فجمع له مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث من أكابر النجارية أصحاب حسين النجار. وأئمة السنة - كابن المبارك وأحمد، وإسحاق والبخاري وغيرهم - يسمون جميع هؤلاء: جهمية. وصار كثير من المتأخرين - من أصحاب أحمد وغيرهم - يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة. ويظنون أن بشر بن غياث المريسي - وإن كان قد مات قبل محنة أحمد وابن أبي دؤاد ونحوهما - كانوا معتزلة. وليس كذلك.
بل المعتزلة كانوا نوعا من جملة من يقول القرآن مخلوق. وكانت الجهمية أتباع جهم والنجارية أتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمرو والمعتزلة هؤلاء يقولون: القرآن مخلوق. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن جهما اشتهر عنه نوعان من البدعة. أحدهما:نفي الصفات،
والثاني: الغلو في القدر والإرجاء. فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب. وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة. وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما. وأما الأشعري: فوافقه على أصل قوله ولكن قد ينازعه منازعات لفظية. وجهم لم يثبت شيئا من الصفات - لا الإرادة ولا غيرها - فهو إذا قال: إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي. فمعنى ذلك عنده: الثواب والعقاب. وأما الأشعري: فهو يثبت الصفات - كالإرادة - فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة: هل هي المحبة أم لا؟ وأن المعاصي: هل يحبها الله أم لا؟ فقال: إن المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها. وذكر أبو المعالي الجويني: أنه أول من قال ذلك وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون: إن الله لا يحب المعاصي. وذكر الأشعري في الموجز: أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم. أشك في بعضهم.
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة فصاروا يوافقون جهما في مسائل الأفعال والقدر وإن كانوا مكفرين له في مسائل الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب " ذم الكلام " فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات. وله كتاب " تكفير الجهمية " ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث. وربما كان يلعنهم.

وقد قال له بعض الناس - بحضرة نظام الملك - أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول: ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي. وقام من عنده مغضبا. ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال: أبلغ من الأشعرية. لا يثبت سببا ولا حكمة بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة. والحكم عنده: هي المشيئة. لأن العارف المحقق - عنده - هو من يصل إلى مقام الفناء. فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق. وجميع الكائنات مرادة له. وهذا هو الحكم عنده. و " الحسنة " و " السيئة " يفترقان في حظ العبد لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه. والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس. ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق.

وهذه المسألة وقعت في زمن الجنيد كما ذكر ذلك في غير موضع. وبين لهم الجنيد الفرق الثاني. وهو أنهم - مع مشاهدة المشيئة العامة - لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه وهو الفرق بين ما يحبه وما يبغضه. وبين لهم الجنيد كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم. فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد. ومن لم يسلك في القدر مسلكه بل سوى بين الجميع: لزمه أن لا يفرق بين الحسنات والسيئات وبين الأنبياء والفساق. فلا يقول: إن الله يحب هؤلاء وهذه الأعمال.
ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال. بل جميع الحوادث: هو يحبها كما يريدها كما قاله الأشعري. وإنما الفرق: أن هؤلاء ينعمون. وهؤلاء يعذبون. والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا - بالنسبة إلى المخلوق - كان أعقل منهم. فإن هؤلاء يدعون: أن العارف الواصل إلى مقام الفناء لا يفرق بين هذا وهذا.
وهم غلطوا في حق العبد وحق الرب. أما في حق العبد: فيلزمهم أن تستوي عنده جميع الحوادث. وهذا محال قطعا. وهم قد تمر عليهم أحوال يفنون فيها عن أكثر الأشياء. أما الفناء عن جميعها: فممتنع. فإنه لا بد أن يفرق كل حي بين ما يؤلمه وبين ما يلذه. فيفرق بين الخبز والتراب والماء والشراب. فهؤلاء: عزلوا الفرق الشرعي الإيماني الرحماني الذي به فرق الله بين أوليائه وأعدائه. وظنوا أنهم مع الجمع القدري.
وعلى هذا: فإن تسوية العبد بين جميع الحوادث ممتنع لذاته بل لا بد للعبد من أن يفرق. فإن لم يفرق بالفرق الشرعي - فيفرق بين محبوب الحق ومكروهه وبين ما يرضاه وما يسخطه - وإلا فرق بالفرق الطبعي بهواه وشيطانه. فيحب ما تهواه نفسه وما يأمر به شيطانه. ومن هنا: وقع منهم خلق كثير في المعاصي. وآخرون في الفسوق. وآخرون في الكفر. حتى جوزوا عبادة الأصنام. ثم كثير منهم من ينتقل إلى وحدة الوجود. وهم الذين خالفوا الجنيد وأئمة الدين في التوحيد. فلم يفرقوا بين القديم والمحدث. وهؤلاء صرحوا بعبادة كل موجود. كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وهو قول أهل الوحدة كابن عربي الحاتمي وابن سبعين والقونوي والتلمساني والبلياني وابن الفارض وأمثالهم. والمقصود هنا: الكلام على من نفى الحكم والعدل والأسباب في القدر بين أهل الكلام والمتصوفة الذين وافقوا جهما في هذا الأصل. وهو بدعته الثانية التي اشتهرت عنه بخلاف الإرجاء.

فإنه منسوب إلى طوائف غيره. فهؤلاء يقولون: إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ويمكن فعله من غير مراعاة حكمة ولا رحمة ولا عدل. ويقولون: إن مشيئته هي محبته. ولهذا تجد من اتبعهم: غير معظم للأمر والنهي والوعد والوعيد بل هو منحل عن الأمر الشرعي كله أو عن بعضه أو متكلف لما يعتقده أو يعلمه. فإنهم أرادوا: أن الجميع بالنسبة إلى الرب سواء وأن كل ما شاءه فقد أحبه. وأنه يحدث ما يحدثه بدون أسباب يخلقه بها ولا حكمة يسوقه إليها بل غايته: أنه يسوق المقادير إلى المواقيت.

لم يبق عندهم فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور. بل وافقوا جهما ومن قال بقوله - كالأشعري - في أنه في نفس الأمر: لا حسن ولا سيئ. وإنما الحسن والقبح: مجرد كونه مأمورا به ومحظورا. وذلك فرق يعود إلى حظ العبد. وهؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ. فتارة: يقولون في امتثال الأمر والنهي: إنه من مقام التلبيس أو ما يشبه هذا. كما يوجد في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين.
وتارة يقولون: يفعل هذا لأهل المارستان أي العامة. كما يقوله الشيخ المغربي إلى أنواع ليس هذا موضع بسطها. ومن يسلك مسلكهم: غايته - إذا عظم الأمر والنهي - أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودا. والفرق على لسانك موجودا. ولهذا يوجد في كلامه وكلام غيره: أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي. مثل أن يدعو: أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده: أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات بل أفضل منهم. ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وآخرون من عوام هؤلاء يجوزون: أن يكرم الله بكرامات أكابر الأولياء من يكون فاجرا بل كافرا. ويقولون: هذه موهبة وعطية يعطيها الله من يشاء. ما هي متعلقة لا بصلاة ولا بصيام. ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء

. وتكون كراماتهم: من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان. قال الله تعالى {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #218  
قديم 15-11-2022, 08:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 218)

من صــ 31 الى صـ 40

والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن: عدل كثير منهم - ممن أضله الشيطان من المنتسبين إلى الإسلام - إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تتلوه الشياطين. فلا يعظم أمر القرآن ولا نهيه. ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته. ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته. بل يعظم من رآه يأتي ببعض خوارقهم التي يأتي بمثلها السحرة والكهان. بإعانة الشياطين. وهي تحصل بما تتلوه الشياطين. ثم منهم من يعرف: أن هذا من الشيطان. ولكن يعظم ذلك لهواه ويفضله على طريق القرآن ليصل به إلى تقديس العامة. وهؤلاء كفار. كالذين قال الله تعالى فيهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} {أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا}.
وهؤلاء ضاهوا الكفار الذين قال الله تعالى فيهم {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الآية. ومنهم: من لا يعرف أن هذا من الشياطين. وقد يقع في مثل هذا طوائف من أهل الكلام والعلم وأهل العبادة والتصوف. حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام. لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة. التي تعينهم عليها الشياطين. لما يحصل لهم بها من بعض أغراضهم من الظلم والفواحش فلا يبالون بشركهم بالله ولا كفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس. وتعظيمهم لهم. لرياسة ينالونها أو مال ينالونه. وإن كانوا قد علموا أنه الكفر والشرك: عملوه ودعوا إليه. بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أو اعتقاد أن الرسول خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن. لأجل مصلحة الجمهور. كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والملاحدة والباطنية. وقد دخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء. وهذا مما ضاهوا به فارس والروم وغيرهم.

فإن فارس كانت تعظم الأنوار وتسجد للشمس وللنار. والروم كانوا - قبل النصرانية - مشركين يعبدون الكواكب والأصنام فهؤلاء الذين أشبهوا فارس والروم: شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى. فإن أولئك ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ. وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له من المجوس والمشركين فارس والروم ومن دخل في ذلك من الهند واليونان. ومذهب الملاحدة الباطنية: مأخوذ من قول المجوس بالأصلين ومن قول فلاسفة اليونان بالعقول والنفوس. وأصل قول المجوس: يرجع إلى أن تكون الظلمة المضاهية للنور: هي إبليس وقول الفلاسفة بالنفس. فأصل الشر: عبادة النفس والشيطان وجعلهما شريكان للرب وأن يعدلا به. ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان. وقد {علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يقول - إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه - اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة.
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}. وهذا من تمام تحقيق قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مع قوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقوله {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وقد ظهرت دعوى النفس الإلهية في فرعون ونحوه ممن ادعى أنه إله مع الله أو من دونه وظهرت فيمن ادعى إلهية بشر مع الله كالمسيح وغيره.
وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض. يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. كما قال تعالى {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} {وقد أضلوا كثيرا} وهذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح.

فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق الله أهل الأرض ثم صارت إلى العرب. كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره. إن لم تكن أعيانها وإلا فهي نظائرها. وأما الشرك بالشيطان: فهذا كثير. فمتى لم يؤمن الخلق بأنه " لا إله إلا الله " بمعنى: أنه المعبود المستحق للعبادة دون ما سواه. وأنه يحب أن يعبد وأنه أمر أن يعبد وأنه لا يعبد إلا بما أحبه مما شرع من واجب ومستحب - فلا بد أن يقعوا في الشرك وغيره. فالذين جعلوا الأقوال والأفعال كلها بالنسبة إلى الله سواء. لا يحب شيئا دون شيء: فلا فرق عنده بين من يعبده وحده لا يشرك به شيئا. وبين من يعبد معه آلهة أخرى. وجعلوا الأمر معلقا بمشيئة. ليس معها حكمة ولا رحمة ولا عدل. ولا فرق فيها بين الحسنات والسيئات: طمعت النفس في نيل ما تريده بدون طاعة الله ورسوله. ثم إذا جوزوا الكرامات لكل من زعم الصلاح ولم يقيدوا الصلاح بالعلم الصحيح والإيمان الصادق والتقوى بل جعلوا علامة الصلاح هذه الخوارق. وجوزوا الخوارق مطلقا. وحكوا في ذلك مكاشفات وقالوا أقوالا منكرة.

فقال بعضهم: إن الولي يعطى قول " كن " وقال بعضهم: إنه لا يمتنع على الولي فعل ممكن. كما لا يمتنع على الله تعالى فعل محال. وهذا قاله ابن عربي والذين اتبعوه. قالوا: إن الممتنع لذاته مقدور عليه ليس عندهم ما يقال: إنه غير مقدور عليه للولي حتى ولا الجمع بين الضدين ولا غير ذلك. وزاد ابن عربي: أن الولي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات. والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات: هو الله وحده. فهذا تصريح منهم: بأن الولي مثل الله إن لم يكن هو الله.
وصرح بعضهم: بأنه يعلم كل ما يعلمه الله. ويقدر على كل ما يقدر الله عليه. وادعوا أن هذا كان للنبي ثم انتقل إلى الحسن بن علي ثم من الحسن إلى ذريته واحدا بعد واحد. حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي ثم إلى ابنه. خاطبني بذلك: من هو من أكابر أصحابهم. وحدثني الثقة من أعيانهم أنهم يقولون: إن محمدا هو الله. وحدثني بعض الشيوخ الذين لهم سلوك وخبرة: أنه كان هو وابن هود في مكة فدخلا الكعبة.

فقال له ابن هود - وأشار إلى وسط الكعبة - هذا مهبط النور الأول. وقال له: لو قال لك صاحب هذا البيت: أريد أن أجعلك إلها ماذا كنت تقول له؟ قال: وقف شعري من هذا الكلام وانخنست - أو كما قال. ومن الناس من يحكي عن سهل بن عبد الله: أنه لما دخل الزنج البصرة. قيل له في ذلك. فقال: هاه إن ببلدكم هذا من لو سألوا الله أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها. ولو سألوه:أن لا يقيم القيامة لما أقامها. لكنهم يعلمون مواضع رضاه فلا يسألونه إلا ما يحب. وهذه الحكاية: إما كذب على سهل - وهو الذي نختار أن يكون حقا - أو تكون غلطا منه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وذلك: أن ما أخبر الله أن يكون فلا بد أن يكون. ولو سأله أهل السموات والأرض أن لا يكون: لم يجبهم مثل إقامة القيامة وأن لا يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين وغير ذلك. بل كل ما علم الله أنه يكون فلا يقبل الله دعاء أحد في أن لا يكون. لكن الدعاء سبب يقضي الله به ما علم الله: أنه سيكون بهذا السبب كما يقضي بسائر الأسباب ما علم: أنه سيكون بها.

وقد سأل الله تعالى - من هو أفضل من كل من في البصرة بكثير - ما هو دون هذا فلم يجابوا. لما سبق الحكم بخلاف ذلك كما سأله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يغفر لأبيه. وكما سأله نوح عليه السلام سأله نجاة ابنه. فقيل له {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم}. وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قيل له في شأن عمه أبي طالب {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وقيل له في المنافقين {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} وقد قال تعالى عموما {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فمن هذا الذي لو سأل الله ما يشاؤه هو أعطاه إياه. {وسيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. أخبر أنه يسجد تحت العرش ويحمد ربه ويثني عليه. فيقال له: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع. وسل تعط. واشفع تشفع.
قال: فيحد لي حدا. فأدخلهم الجنة} وقد قال تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}. وأي اعتداء أعظم وأشنع من أن يسأل العبد ربه: أن لا يفعل ما قد أخبر أنه لا بد أن يفعله أو أن يفعل ما قد أخبر أنه لا يفعله. وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقال {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم: إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته. وإما أن يدخر له من الخير مثلها. وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها}. فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب أو مثله. وهذا غاية الإجابة. فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا. أو مفسدا للداعي أو لغيره. والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه. والرب قريب مجيب.
وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه: أعطاه نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له. فإنه يعطيه من ماله نظيره. ولله المثل الأعلى. وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم - لما طلبت منه طائفة من بني عمه أن يوليهم ولاية لا تصلح لهم - فأعطاهم من الخمس ما أغناهم عن ذلك وزوجهم كما فعل بالفضل بن عباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وقد روي في الحديث {ليس شيء أكرم على الله من الدعاء} وهذا حق.
فصل:
ولما كان الأمر كما أخبر الله به في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أوجب هذا: أن لا يطلب العبد الحسنات - والحسنات تدخل فيها كل نعمة - إلا من الله. وأن يعلم أنها من الله وحده فيستحق الله عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره. ويعلم أنه لا إله إلا هو. كما قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله}. فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده. ثم قال {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وهذا إخبار عن حالهم والجؤار: يتضمن رفع الصوت. والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر. وأما في حال النعمة: فهو ساكن إما شاكرا وإما كفورا {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #219  
قديم 15-11-2022, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 219)

من صــ 41 الى صـ 50


وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه وإسباغ النعماء عليه فيضيف العبد - بعد ذلك - الإنعام إلى غيره. ويعبد غيره تعالى. ويجعل المشكور غيره على النعم كما قال تعالى {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} وقال تعالى {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} وقال تعالى {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}.
وقوله {نسي ما كان يدعو إليه} أي نسي الضر الذي كان يدعو الله لدفعه عنه كما قال في سورة الأنعام {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}. فذم الله سبحانه حزبين: حزبا لا يدعونه في الضراء. ولا يتوبون إليه. وحزبا يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه. فإذا كشف الضر عنهم: أعرضوا عنه وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه. فهذا الحزب نوعان - كالمعطلة والمشركة - حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعوا الله ولم يتضرعوا إليه ولم يتوبوا إليه كما قال {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} وقال تعالى {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} وقال تعالى {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} وقال تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وحزب يتضرعون إليه في حال الضراء.

ويتوبون إليه. فإذا كشفها عنهم: أعرضوا عنه كما قال تعالى {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} وقال تعالى {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} وقال تعالى {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} وقال في المشركين ما تقدم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}. والممدوح: هو القسم الثالث. وهم الذين يدعونه ويتوبون إليه. ويثبتون على عبادته والتوبة إليه في حال السراء. فيعبدونه ويطيعونه في السراء والضراء. وهم أهل الصبر والشكر كما ذكر ذلك عن أنبيائه عليهم السلام. فقال تعالى {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} وقال تعالى {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب}

{قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} وقال تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} {إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب} {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} وقال تعالى عن آدم وحواء {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.
وقال تعالى عن المؤمنين الذين قتل نبيهم {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}. وقوله " قتل " أي النبي قتل. هذا أصح القولين. وقوله {معه ربيون كثير} جملة في موضع الخبر صفة للنبي - صفة بعد صفة - أي كم من نبي معه ربيون كثير قتل ولم يقتلوا معه. فإنه كان يكون المعنى: أنه قتل وهم معه. والمقصود: أنه كان معه ربيون كثير وقتل في الجملة. وأولئك الربيون {ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}.

و " الربيون " الجموع الكثيرة. وهم الألوف الكثيرة. وهذا المعنى: هو الذي يناسب سبب النزول وهو ما أصابهم يوم أحد لما قيل: " إن محمدا قد قتل " وقد قال قبل ذلك {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} وهي التي تلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم. وقال " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".

فإنه عند قتل النبي وموته: تحصل فتنة عظيمة للناس - المؤمنين والكافرين - وتحصل ردة ونفاق لضعف قلوب أتباعه لموته ولما يلقيه الشيطان في قلوب الكافرين: إن هذا قد انقضى أمره وما بقي يقوم دينه. وأنه لو كان نبيا لما قتل وغلب. ونحو ذلك. فأخبر الله تعالى: أنه كم من نبي قتل؟ . فإن بني إسرائيل قتلوا كثيرا من الأنبياء. والنبي معه ربيون كثير أتباع له. وقد يكون قتله في غير حرب ولا قتال. بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير. فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله وما ضعفوا. وما استكانوا. والله يحب الصابرين. ولكن استغفروا لذنوبهم التي بها تحصل المصائب - فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم - وسألوا الله أن يغفر لهم وأن يثبت أقدامهم فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا. ولا ينكلوا عن الجهاد. قال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وسألوه أن ينصرهم على القوم الكافرين.
سألوا ربهم ما يفعل لهم في أنفسهم من التثبيت وما يعطيهم من عنده من النصر. فإنه هو الناصر وحده. وما النصر إلا من عند الله. وكذا أنزل الملائكة عونا لهم. قال تعالى لما أنزل الملائكة {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} وقال تعالى {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا: أنه لما كانت الحسنة من إحسانه تعالى والمصائب من نفس الإنسان - وإن كانت بقضاء الله وقدره - وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه. وألا يتوكل إلا عليه وحده. فلا يأتي بالحسنات إلا هو. فأوجب ذلك للعبد: توحيده والتوكل عليه وحده والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب.
وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة. كما ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد} فهذا حمد وهو شكر لله تعالى. وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد. ثم يقول بعد ذلك {اللهم لا مانع لما أعطيت.

ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد}. وهذا تحقيق لوحدانيته: لتوحيد الربوبية. خلقا وقدرا وبداية وهداية. هو المعطي المانع. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية - شرعا وأمرا ونهيا - وهو أن العباد وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة وبختا ورياسة في الظاهر أو في الباطن كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة {فلا ينفع ذا الجد منك الجد} أي لا ينجيه ولا يخلصه من سؤالك وحسابك حظه وعظمته وغناه. ولهذا قال {لا ينفعه منك} ولم يقل " لا ينفعه عندك " فإنه لو قيل ذلك: أوهم أنه لا يتقرب به إليك لكن قد لا يضره. فيقول صاحب الجد: إذا سلمت من العذاب في الآخرة فما أبالي كالذين أوتوا النبوة والملك لهم ملك في الدنيا وهم من السعداء فقد يظن ذو الجد - الذي لم يعمل بطاعة الله من بعده - أنه كذلك. فقال {ولا ينفع ذا الجد منك} ضمن " ينفع " معنى " ينجي ويخلص " فبين أن جده لا ينجيه من العذاب.

بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك. فلا ينجيه ولا يخلصه. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد وتحقيق قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} وقوله {فاعبده وتوكل عليه} وقوله {عليه توكلت وإليه أنيب} وقوله {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}. فقوله {لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت} توحيد الربوبية الذي يقتضي: أنه سبحانه: هو الذي يسأل ويدعى ويتوكل عليه. وهو سبب لتوحيد الإلهية ودليل عليه. كما يحتج به في القرآن على المشركين. فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد - توحيد الربوبية - ومع هذا يشركون بالله. فيجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله. ويقولون: إنهم شفعاؤنا عنده وإنهم يتقربون بهم إليه. فيتخذونهم شفعاء وقربانا كما قال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وقال تعالى {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون} {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون}.
وهذا التوحيد: هو عبادة الله وحده لا شريك له. وأن لا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه. وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله - صلوات الله عليهم - فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما. وهو يتضمن: أن يحب الله حبا لا يماثله ولا يساويه فيه غيره بل يقتضي: أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. فإذا كان الرسول - لأجل أنه رسول الله - يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه فكيف بربه سبحانه وتعالى؟ .
وفي صحيح البخاري {أن عمر قال يا رسول الله والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: فوالذي بعثك بالحق إنك لأحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر}. وقد قال تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}. فإن لم يكن الله ورسوله والجهاد في سبيله: أحب إلى العبد من الأهل والمال - على اختلاف أنواعه - فإنه داخل تحت هذا الوعيد.

فهذا التوحيد - توحيد الإلهية - يتضمن فعل المأمور وترك المحظور. ومن ذلك: الصبر على المقدور كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع إلا الله وحده. فيقتضي: أن لا يسأل العبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به كما قال تعالى في النوعين {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال {فاعبده وتوكل عليه}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #220  
قديم 15-11-2022, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 220)

من صــ 51 الى صـ 60


وهذا التوحيد: هو الفارق بين الموحدين والمشركين. وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة. فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين. فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. أما توحيد الربوبية: فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره ويحبونهم كما يحبونه. فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية - حجة عليهم. فإذا كان الله هو رب كل شيء ومليكه ولا خالق ولا رازق إلا هو. فلماذا يعبدون غيره معه وليس له عليهم خلق ولا رزق ولا بيده لهم منع ولا عطاء بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فإن قالوا " ليشفع " فقد قال الله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فلا يشفع من له شفاعة - من الملائكة والنبيين - إلا بإذنه.
وأما قبورهم - وما نصب عليها من قباب وأنصاب - أو تماثيلهم - التي مثلت على صورهم مجسدة أو مرقومة - فجعل الاستشفاع بها استشفاعا بهم فهذا باطل عقلا وشرعا. فإنها لا شفاعة لها بحال ولا لسائر الأصنام التي عملت للكواكب والجن والصالحين وغيرهم.
وإذا كان الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى: فما بقي الشفعاء شركاء كشفاعة المخلوق عند المخلوق. فإن المخلوق يشفع عنده نظيره - أو من هو أعلى منه أو دونه - بدون إذن المشفوع إليه. ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته: إما لرغبته إليه أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه وإما لرهبته منه وإما لمحبته إياه وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة وإما لغير ذلك من الأسباب. وتكون شفاعة الشفيع: هي التي حركت إرادة المشفوع إليه وجعلته مريدا للشفاعة بعد أن لم يكن مريدا لها.

كأمر الآمر الذي يؤثر في المأمور. فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريدا لفعله. وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق: فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله. فالشفيع: كما أنه شافع للطالب شفاعته في الطلب. فهو أيضا قد شفع المشفوع إليه. فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب. فقد شفع الطالب والمطلوب. والله تعالى وتر لا يشفعه أحد. فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فالأمر كله إليه وحده. فلا شريك له بوجه. ولهذا ذكر سبحانه نفي ذلك في آية الكرسي التي فيها تقرير التوحيد. فقال {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. إذا سجد وحمد ربه. يقال له " ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فيحد له حدا. فيدخلهم الجنة " فالأمر كله لله. كما قال {قل إن الأمر كله لله} وقال لرسوله {ليس لك من الأمر شيء} وقال {ألا له الخلق والأمر}.

فإذا كان لا يشفع عند الله أحد إلا بإذنه. فهو يأذن لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}. وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع. فسمع الدعاء وقبل الشفاعة: لم يكن هذا مؤثرا فيه. كما يؤثر المخلوق في المخلوق. فإنه سبحانه هو الذي جعل هذا يدعو وهذا يشفع. وهو الخالق لأفعال العباد. فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها. وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه عليه. وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. فما يؤثر فيه شيء من المخلوقات. بل هو سبحانه الذي جعل ما يفعله سببا لما يفعله. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
وهو خالق أفعال العباد كما هو خالق سائر المخلوقات. قال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. ولكن هذا يناقض قول القدرية. فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذي يحدث ويخلق أفعاله بدون مشيئة الله وخلقه: لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلا لما لم يكن فاعلا له. فبدعائه جعله مجيبا له وبتوبته جعله قابلا للتوبة وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة. وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه. فإن " الإذن " نوعان: إذن بمعنى المشيئة والخلق وإذن بمعنى الإباحة والإجازة. فمن الأول: قوله في السحر {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} فإن ذلك بمشيئة الله وقدرته. وإلا فهو لم يبح السحر.

والقدرية تنكر هذا " الإذن " وحقيقة قولهم: إن السحر يضر بدون إذن الله. وكذلك قوله {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} فإن الذي أصابهم من القتل والجراح والتمثيل والهزيمة: إذا كان بإذنه فهو خالق لأفعال الكفار ولأفعال المؤمنين. والنوع الثاني: قوله {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {وداعيا إلى الله بإذنه} وقوله {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} فإن هذا يتضمن إباحته لذلك وإجازته له ورفع الجناح والحرج عن فاعله مع كونه بمشيئته وقضائه. فقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه.

ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر. فإن السحر وانتصار الكفار على المؤمنين كان بذلك الإذن. فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون الله خالقا لها وقادرا عليها ومشيئا لها فعنده: كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته وإن كان قد أباح الشفاعة. وأما الكفر والسحر وقتال الكفار: فهو عندهم بغير إذنه لا هذا الإذن ولا هذا الإذن. فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين. وعندهم: أنه لم يشأه ولم يخلقه. بل كان بدون مشيئته وخلقه. والمشركون المقرون بالقدر يقولون: إن الشفعاء يشفعون بالإذن القدري وإن لم يأذن لهم إباحة وجوازا. ومن كان مكذبا بالقدر - مثل كثير من النصارى - يقولون: إن شفاعة الشفعاء بغير إذن لا قدري ولا شرعي. والقدرية من المسلمين يقولون: يشفعون بغير إذن قدري.
ومن سأل الله بغير إذنه الشرعي: فقد شفع عنده بغير إذن قدري ولا شرعي. فالداعي المأذون له في الدعاء: مؤثر في الله عندهم. لكن بإباحته. والداعي غير المأذون له: إذا أجاب دعاءه فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره. والله تعالى يقول {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فإن قيل: فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن الله الشرعي وإن كان خالقا لفعله - كشفاعة نوح لابنه وشفاعة إبراهيم لأبيه وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي ابن سلول حين صلى عليه بعد موته. وقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} قد قلتم: إنه يعم النوعين. فإنه لو أراد الإذن القدري: لكان كل شفاعة داخلة في ذلك كما يدخل في ذلك كل كفر وسحر. ولم يكن فرق بين ما يكون بإذنه وما لا يكون بإذنه. ولو أراد الإذن الشرعي فقط: لزم قول القدرية. وهؤلاء قد شفعوا بغير إذن شرعي؟.
قيل: المنفي من الشفاعة بلا إذن: هي الشفاعة التامة وهي المقبولة كما في قول المصلي " سمع الله لمن حمده " أي استجاب له. وكما في قوله تعالى {هدى للمتقين} وقوله {إنما أنت منذر من يخشاها} وقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} ونحو ذلك. فإن الهدى والإنذار والتذكير والتعليم لا بد فيه من قبول المتعلم. فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود. وإلا قيل: علمته فلم يتعلم. كما قيل {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فكذلك الشفاعة.

فالشفاعة: مقصودها قبول المشفوع إليه - وهي الشفاعة التامة. فهذه هي التي لا تكون إلا بإذنه. وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته: كانت كعدمها وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها. كما قال نوح {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وكما نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين. وقال له {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وقال له {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}. ولهذا قال على لسان المشركين {فما لنا من شافعين} {ولا صديق حميم}. فالشفاعة المطلوبة: هي شفاعة المطاع الذي تقبل شفاعته. وهذه ليست لأحد عند الله إلا بإذنه قدرا وشرعا.

فلا بد أن يأذن فيها. ولا بد أن يجعل العبد شافعا. فهو الخالق لفعله والمبيح له كما في الداعي: هو الذي أمره بالدعاء وهو الذي يجعل الداعي داعيا فالأمر كله لله خلقا وأمرا. كما قال {ألا له الخلق والأمر}. وقد روي في حديث - ذكره ابن أبي حاتم وغيره - أنه قال {فمن يثق به فليدعه} أي فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر. ولما كان المراد بالشفاعة المثبتة: هي الشفاعة المطلقة وهي المقصود بالشفاعة وهي المقبولة بخلاف المردودة. فإن أحدا لا يريدها لا الشافع ولا المشفوع له ولا المشفوع إليه. ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد: لم يفعلوها. والشفاعة المقبولة: هي النافعة. بين ذلك في مثل قوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له.
وهو الإذن الشرعي بمعنى: أباح له ذلك. وأجازه. كما قال تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} وقوله {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} وقوله {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ونحو ذلك. وقوله {إلا لمن أذن له} هو إذن للمشفوع له. فلا يأذن في شفاعة مطلقة لأحد. بل إنما يأذن في أن يشفعوا لمن أذن لهم في الشفاعة فيه. قال تعالى {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} وفيه قولان: قيل: إلا شفاعة من أذن له الرحمن. وقيل: لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن. فهو الذي تنفعه الشفاعة. وهذا هو الذي يذكره طائفة من المفسرين. لا يذكرون غيره لأنه لم يقل " لا تنفع إلا من أذن له " ولا قال " لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له " بل قال {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له} فهي لا تنفع ولا ينتفع بها ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم. كما قال تعالى في الآية الأخرى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. ولا يقال: لا تنفع إلا لشفيع مأذون له.

بل لو أريد هذا لقيل: لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له. وإنما قال {إلا لمن أذن له} وهو المشفوع له الذي تنفعه الشفاعة. وقوله {حتى إذا فزع عن قلوبهم} لم يعد إلى " الشفعاء " بل عاد إلى المذكورين في قوله {وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} ثم قال {ولا تنفع الشفاعة عنده} ثم بين أن هذا منتف {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} فلا يعلمون ماذا قال حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه؟ . وهو سبحانه إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع. فهذا الإذن هو الإذن المطلق بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط. فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له. إذ قد يأذن له إذنا خاصا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 301.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 295.30 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]