فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 11 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         8 طرق تنظم إفراز دهون البشرة.. تمنع الحبوب وانسداد المسام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          أعشاب طبيعية مفيدة للبشرة والشعر ومثالية كمشروبات دافئة فى الشتاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          المشويات مزاج ولو عاوز الطعم لذيذ.. اعرف سر الخلطة من حلقة "روح مصر" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          طريقة عمل طاجن الكبدة بالبصل والفلفل.. طبق شهي وسريع التحضير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          7 أفكار للحصول على غرفة نوم مهدئة للأعصاب.. هتريح العين وتخليك تسترخى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          طريقة عمل المسقعة باللحم المفروم.. طبق تقليدى لذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          6 نباتات طاردة للحشرات فى الشتاء.. احمى بلكونتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          9 أسباب وراء جفاف البشرة فى الشتاء.. أبرزها الاستحمام بالماء الساخن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          طريقة عمل الطرب المشوي في البيت .. وجبة لذيذة ومغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          لو حاسة بالبرد.. 6 مشروبات لذيذة تشعرك بالتدفئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #101  
قديم 07-04-2022, 01:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (101)

من صــ 481 الى صـ
ـ 488



وَقَالَ أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه وقال: " {إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها - من عظم حقه عليها} ولما أتي علي بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.
فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير. فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالح في حياته وحضوره وبين سؤاله في مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم؛ لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه: ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك؛ لا في مغيبه ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب؛ فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله. مرتين أو ثلاثا} وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} وقال الخليل عليه السلام {أئفكا آلهة دون الله تريدون} {فما ظنكم برب العالمين}. فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا. وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها: من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين: من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك
فكثير من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك: افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس؛ لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: " {اللهم: إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة.
يا محمد: يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفعه في} فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: " {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة.
خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. قالوا ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو قوله: {كان على ربك وعدا مسئولا} وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " {يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم قال. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} وقد جاء في غير حديث: " {كان حقا على الله كذا وكذا} كقوله: " {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال - قيل: وما طينة الخبال؟ قال:{عصارة أهل النار}.
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - {أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل. فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم: حوالينا ولا علينا. اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال: وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس} ففي هذا الحديث أنه قال: ادع الله لنا أن يمسكها عنا.
وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال: إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا.
فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية. والدعاء مخ العبادة. والعبادة مبناها على السنة والاتباع لا على الأهواء والابتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور.
(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

جماع معنى الاعتكاف والاحتباس والوقوف والمقام.
يقال: عكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفا, وربما قيل: عكفا: إذا أقبل عليه مواظبا. ومنه قوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: آية 138]. وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52] وقوله أيضا: {قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71].
فعداه باللام؛ لأن المعنى: أنتم لها عابدون ولها قانتون.

777 - ومر علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!
ويقال: فلان عاكف على فرج حرام
وعكف حول الشيء: استداروا.
وقال الطرماح:
فبات بنات اليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #102  
قديم 07-04-2022, 01:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (102)

من صــ 489 الى صـ
ـ 496





ثم صار هذا في لسان الشرع عند الإطلاق مختصا بالعكوف لله وعليه في بيته:
كما قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187].
وقال تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
وقال في موضع آخر: {للطائفين والقائمين} [الحج: آية 26].
ولم يذكر العكوف لمن, وعلى من؛ لأن عكوف المؤمن لا يكون إلا لله.
ويستعمل متعديا أيضا, فيقال: عكفه يعكفه ويعكفه عكفا: إذا حبسه ووقفه؛ كما قال تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: آية 25] , ويقال: ما عكفك عن كذا؟ أي: ما حبسك عنه, وعكف الجوهر في النظم.
والتاء في الاعتكاف تفيد ضربا من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة؛ كما يقال: لست وألست, وعمل واعتمل, وقطع واقتطع.
وربما حسب بعضهم أنه مطاوع عكفه فاعتكف, كما يقال: انعكف عليه, وهو ضعيف.
ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه؛ كما كان المشركون يعكفون على أصناهم وتماثيلهم, ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.
وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك؛ فلذلك كان الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه.
ولو قيل: لعبادة الله فيه؛ كان أحسن؛ فإن الطاعة موافقة الأمر, وهذا يكون بما هو في الأصل عبادة؛ كالصلاة, وبما هو في الأصل غير عبادة, وإنما يصير عبادة بالنية؛ كالمباحات كلها؛ بخلاف العبادة؛ فإنها التذلل للإله سبحانه وتعالى.
وأيضا؛ فإن ما لم يؤمر به من العبادات, بل رغب فيه: هو عبادة, وإن لم يكن طاعة؛ لعدم الأمر.
ويسمى أيضا الجوار والمجاورة.
778 - قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد, فأرجله وأنا حائض». رواه البخاري.
لأنه قد جاور الله سبحانه بلزوم بيته ومكانا واحدا لعبادته:
779 - كما في الحديث: يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرني».
ويسمى المقام بمكة مجاورة؛ لأنه مجاور بيت الله؛ كما يجاور الرجل بيت الرجل.
مسألة:
وهو سنة لا يجب إلا بالنذر.
في هذا فصلان:

أحدهما: أن الاعتكاف سنة وقربة بالكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب:
فقوله تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
وقوله في الآية الأخرى: {والقائمين} [الحج: آية 26].
وقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: آية 178].
وأما السنة:
780 - فروى ابن عمر؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان».
781 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى, ثم اعتكف أزواجه من بعده». متفق عليهما.

782 - وقد تقدم حديث أبي سعيد: «أنه اعتكف هو وأصحابه العشر الأوسط والآخر».
وفي رواية: «اعتكف العشر الأول أيضا».

783 - وكان يعتكف أزواجه معه.
وفاته الاعتكاف عاما فاعتكف في العام القابل عشرين.
وتركه مرة في رمضان فاعكتف العشر الأول من شوال.
وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم.
وأجمع المسلمون على أنه قربة وعمل صالح.
وأيضا؛ ففيه من القرب والمكث في بيت الله, وحبس النفس على عبادة الله, وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله, والتخلي لأنواع العبادات المحضة من التفكر وذكر الله وقراءة القرآن والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب.
784 - وقد روي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب, ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها». رواه ابن ماجه.
وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المعتكف قد حبس الذنوب ووقفها, وامتنع منها؛ فلا تخلص إليه.
785 - كما قال: «الصوم جنة».
وقد تهيأ لجميع العبادات.
فإن قيل: هذا الحديث فيه فرقد السبخي, وقد تكلم فيه, ولهذا قال أبو داوود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا؛ إلا شيئا ضعيفا. وكذلك تقل أبو طالب.
قيل: فرقد السبخي رجل صالح, قد كتب الناس أحاديثه, وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب؛ سهلنا, إذا جاء الحلال والحرام؛ شددنا.
وقول أحمد: «إلا شيئا ضعيفا»: إشارة إلى أن إسناده ليس قويا, وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام؛ فكيف في الفضائل.
786 - وقد روى إسحاق بن راهوية, عن أبي الدرداء؛ قال: «من اعتكف ليلة؛ كان له كأجر عمرة, ومن اعتكف ليلتين؛ كان له كأجر عمرتين. . .» ثم ذكر على قدر ذلك.

الفصل الثاني: أنه ليس بواجب في الشرع, بل يجب بالنذر, وهذا إجماع.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا؛ إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا, فيجب عليه.
وهذا لأن الله لم يوجبه ولا رسوله, وكان أكثر الناس لا يعتكفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرهم به.
787 - بل قال لهم لما اعتكف العشر الأوسط: «إني أتيت, فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف؛ فليعتكف».
وترك الاعتكاف مرة, وهو مقيم, ثم قضاه في شوال.
وأما وجوبه بالنذر:
788 - فلما روت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع
الله؛ فليطعمه, ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصيه».
789 - وعن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: - «أوف بنذرك». متفق عليهما.
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

قال الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم وخص الحج بالذكر تمييزا له؛ ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم ولأنه يكون في آخر شهور الحول. فيكون علما على الحول كما أن الهلال علم على الشهر ولهذا يسمون الحول حجة فيقولون: له سبعون حجة وأقمنا خمس حجج. فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداء. أو سببا من العبادة. وللأحكام التي تثبت بشروط العبد. فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة. وهذه الخمسة في القرآن.
قال الله تعالى: {شهر رمضان} وقال تعالى: {الحج أشهر معلومات} وقال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} وقال تعالى: {فصيام شهرين متتابعين} وكذلك قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}. وكذلك صوم النذر وغيره.
وكذلك الشروط من الأعمال المتعلقة بالثمن ودين السلم والزكاة والجزية والعقل والخيار والأيمان وأجل الصداق ونجوم الكتابة والصلح عن القصاص وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما. وقال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} فقوله: {لتعلموا} متعلق والله أعلم بقوله: {وقدره} لا بجعل. لأن كون هذا ضياء.
وهذا نورا لا تأثير له في معرفة عدد السنين والحساب؛ وإنما يؤثر في ذلك انتقالها من برج إلى برج. ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة وإنما علق ذلك بالهلال. كما دلت عليه تلك الآية ولأنه قد قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر والشهر هلالي بالاضطرار.
فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال. وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية وكما تفعله النصارى في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط ولهم اصطلاحات في عدد شهورها؛

لأنها وإن كانت طبيعية فشهرها عددي وضعي. ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #103  
قديم 07-04-2022, 01:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (103)

من صــ 497 الى صـ
ـ 4





وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار. ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سموه هلالا؛ لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان: إما سمعا وإما بصرا كما يقال: أهل بالعمرة وأهل بالذبيحة لغير الله إذا رفع صوته ويقال لوقع المطر الهلل. ويقال: استهل الجنين إذا خرج صارخا. ويقال: تهلل وجهه إذا استنار وأضاء.
وقيل: إن أصله رفع الصوت.
ثم لما كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته سموه هلالا ومنه قوله: يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال. فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس ولا يشرك الهلال في ذلك شيء فإن اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال: أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير واشتغال عما يعني الناس وما لا بد له منه وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لا بد فيه من الحساب والعدد فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس وتكون السنة مطابقة للشهور؛ ولأن السنين إذا اجتمعت فلا بد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها فكان عدد الشهور موافقا لعدد البروج جعلت السنة اثني عشر شهرا بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية. وبهذا كله يتبين معنى قوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل.
وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال وكذلك قوله تعالى {قل هي مواقيت للناس والحج}. فظهر بما ذكرناه أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال ألبتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد:
ازداد شكره على نعمة الإسلام مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئا من ذلك وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظا لهذا الدين عن إدخال المفسدين فإن هذا مما يخاف تغييره فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته فزادت به في السنة شهرا جعلتها كبيسا؛ لأغراض لهم.
وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم وتارة في صفر. حتى يعود الحج إلى ذي الحجة حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم فوافى حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد استدار الزمان كما كان ووقعت حجته في ذي الحجة فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما:

{إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة. وهذا من أسباب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج. وأنزل الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}.

فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيما؛ لما يدخله من الانحراف والاضطراب. ونظير الشهر والسنة اليوم والأسبوع. فإن اليوم طبيعي من طلوع الشمس إلى غروبها.
وأما الأسبوع فهو عددي من أجل الأيام الستة: التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم استوى على العرش. فوقع التعديل بين الشمس والقمر: باليوم والأسبوع بسير الشمس.
والشهر والسنة: بسير القمر وبهما يتم الحساب. وبهذا قد يتوجه قوله: {لتعلموا} إلى {جعل} فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله. فأما قوله تعالى {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} فقد قيل: هو من الحساب. وقيل: بحسبان كحسبان الرحا. وهو دوران الفلك. فإن هذا مما لا خلاف فيه بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة.
فصل:
لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الأهلة. وجب أن يكون المواقيت كلها معلقة بها. فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية: مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم أو يولي من امرأته في هلال المحرم أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة. فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة. وإن كان بعضها أو جميعها ناقصا.
فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر. فقد قيل: تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة في أثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يوما وإن كان إلى ستة أشهر عد مائة وثمانين يوما فإذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهى العشرين من المحرم. وقيل: بل يكمل الشهر بالعدد والباقي بالأهلة. وهذان القولان روايتان عن أحمد وغيره. وبعض الفقهاء يفرق في بعض الأحكام.

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال: وقوله: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} قال: والقصاص ليس بعدوان؟ فيقال: العدوان مجاوزة الحد لكن إن كان بطريق الظلم كان محرما وإن كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا فلفظ العدوان في مثل هذا هو تعدي الحد الفاصل لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه والاعتداء الأول ظلم والثاني مباح ولفظ عدل مباح. ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين أنه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فإنه ظلم فإذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء: إذ الأصل عدم ما يقابله.
(فصل)
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

" وجماع الأمر " أن الذنوب كلها ظلم: فإما ظلم العبد لنفسه فقط أو ظلمه مع ذلك لغيره؛ فما كان من ظلم الغير فلا بد أن يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا كما قال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التي هي قتاله: {بأنهم ظلموا}.

وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فبين أن الظالم يعتدى عليه: أي بتجاوز. الحد المطلق في حقه؛ وهو العقوبة وهذا عدوان جائز كما قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

وقول بعضهم: إن هذا ليس بعدوان في الحقيقة وإنما سماه عدوانا على سبيل المقابلة كما قالوا مثل ذلك في قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. لا يحتاج إليه؛ فإن العدوان المطلق هو مجاوزة الحد المطلق وهذا لا يجوز في حقه إلا إذا اعتدى فيتجاوز الحد في حقه بقدر تجاوزه.
(وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ... (196)
جماع معنى الحج في أصل اللغة: قصد الشيء وإتيانه، ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه، ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة، وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ".
وقول في حاجة الله، وحاجة رسوله.
ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى: ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة: الحج القصد، ويقول بعضهم: هو القصد إلى من يعظم، ويقول بعضهم: كثرة القصد إلى من يعظمه. ورجل محجوج، ومكان محجوج، أي مقصود مأتي. ومنه قوله:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت: يقول يكثرون الاختلاف إليه.
وقوله:
قالت تغيرتم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج
ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله - سبحانه وتعالى - وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] وقال سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] وقد بين المحجوج في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فإن اللام في قوله {البيت} [البقرة: 158] لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الآخر.

وفيه لغتان قد قرئ بهما. الحج، والحج، والحجة بفتح الحاء وكسرها. ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت، فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة ; إما في الحج الأكبر، أو الأصغر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #104  
قديم 07-04-2022, 01:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (104)

من صــ 5 الى صـ
ـ 12





سئل شيخ الإسلام - رحمه الله ورضي عنه -:
عن العمرة هل هي واجبة؟ وإن كان فما الدليل عليه؟
فأجاب:
فصل:
والعمرة في وجوبها قولان للعلماء هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عنهما وجوبها. والقول الآخر لا تجب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله: {ولله على الناس حج البيت} لم يوجب العمرة وإنما أوجب إتمامهما. فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما وفي الابتداء إنما أوجب الحج. وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وهذا كله داخل في الحج.

وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين فلم يفرض وقتين ولا طوافين ولا سعيين ولا فرض الحج مرتين. وطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع.

ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج. ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة. لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لسبب عارض. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
وقال - رحمه الله تعالى -:
والأظهر أن العمرة ليست واجبة وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه سواء ترك العمرة عامدا أو ناسيا؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله: {ولله على الناس حج البيت}. ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج كقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} وقوله: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس.
وآية آل عمران نزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر، وفيها فرض الحج. ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرا. ومن قال: إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام وهو غلط فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة. والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية. فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام. ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالمشروع فيجب إتمامهما. وتنازعوا في الصيام والصلاة والاعتكاف.
وأيضا فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال وهذا كله موجود في الحج.
والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين ولا فرض شيئا من فرائضه مرتين لم يفرض فيه وقوفين ولا طوافين؛ بل الفرض طواف الإفاضة وأما طواف الوداع فليس من الحج وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة ولهذا لا يطوف من أقام بمكة وليس فرضا على كل أحد بل يسقط عن الحائض ولو لم يفعله لأجزأه دم ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض والوقوف. وكذلك السعي لا يجب إلا مرة واحدة والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة. فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة.
والحديث المأثور في {أن العمرة هي الحج الأصغر} قد احتج به بعض من أوجب العمرة وهو إنما يدل على أنها لا تجب؛ لأن هذا الحديث دال على حجين: أكبر وأصغر. كما دل على ذلك القرآن في قوله: {يوم الحج الأكبر} وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين: أكبر وأصغر.
والله تعالى لم يفرض حجين وإنما أوجب حجا واحدا والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر وهو الذي فرضه الله على عباده وجعل له وقتا معلوما لا يكون في غيره كما قال {يوم الحج الأكبر} بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه بل تفعل في سائر شهور العام. ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء.

فكذلك الحج؛ فإنهما عبادتان من جنس واحد: صغرى وكبرى. فإذا فعل الكبرى لم يجب عليه فعل الصغرى ولكن فعل الصغرى أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل. وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال: {دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة} كما قد بسط في موضع آخر. والله أعلم.

وسئل رحمه الله:
ماذا يقول أهل العلم في رجل ... آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا
فهزه الشوق نحو المصطفى طربا ... أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
أم حجة عن أبيه ذاك أفضل أم ... ماذا الذي يا سادتي ظهرا
فأفتوا محبا لكم فديتكمو ... وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
فأجاب رضي الله عنه:
نقول فيه بأن الحج أفضل من ... فعل التصدق والإعطاء للفقرا
والحج عن والديه فيه برهما ... والأم أسبق في البر الذي ذكرا
لكن إذا الفرض خص الأب كان إذا ... هو المقدم فيما يمنع الضررا
كما إذا كان محتاجا إلى صلة ... وأمه قد كفاها من برا البشرا
هذا جوابك يا هذا موازنة ... وليس مفتيك معدودا من الشعرا.
[مسألة الإحصار]
مسألة: (والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام).

وجملة ذلك: أن المحرم بالحج إذا صده عدو عن البيت، ولم يكن له طريق آخر يذهب فيه، أو صد عن دخول الحرم: فإنه يجوز له التحلل ويرجع لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والتحلل لا يكون إلا بنية الإحلال والخروج من الإحرام. فلو حلق، أو ذبح، أو فعل شيئا من المحظورات غير ناو للتحلل: لم يصر حلالا، بخلاف ما لو فعل ذلك بعد إتمام النسك؛ لأنه إذا تم نسكه صار حلالا بالشرع حتى لو نوى دوام الإحرام لم يصح، كالصيام إذا غربت الشمس؛ والمصلي إذا سلم.
وإذا لم يتم: فهو مخير بين الإتمام والإحلال كالمريض الصائم والمصلي الذي يجوز له قطع الصلاة. لا يخرج من العبادة إلا بما ينافيها من النية ونحوها، لكن المحرم لا يفسد إحرامه إلا بالوطء ولا بد من .. . .
وليس له أن يتحلل حتى ينحر هديا إن أمكنه؛ لأن الله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] فأمر بإتمام الحج والعمرة وجعل ما استيسر من الهدي في حق المحصر قائما مقام الإتمام.
وهذا يدل على وجوب الهدي من وجوه؛ أحدها: أن التقدير: فإن أحصرتم فعليكم ما استيسر من الهدي، أو ففرضكم ما استيسر فهو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، ترك ذكر المحذوف لدلالة سياق الكلام عليه، كما قال:

{ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]، وكما قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #105  
قديم 07-04-2022, 05:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (105)

من صــ 13 الى صـ
ـ 20



الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ قَائِمًا مَقَامَ الْإِتْمَامِ. وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ فَمَا قَامَ مَقَامَهُ يَكُونُ وَاجِبًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَنْحَرَ الهدي؛ لأنه بدل عن تمام النسك. ولا يجوز له التحلل حتى يتم النسك.
الثالث: أن قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] كقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، وذلك أن الإحصار المطلق هو الذي يتعذر معه الوصول إلى البيت، وهذا يوجب الهدي لا محالة.
الرابع: أنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] وهذا عام .. . فإن أراد التحلل قبل النحر: لم يكن له ذلك. حتى لو رفض إحرامه وفعل شيئا من المحظورات فهو باق على إحرامه.
قال أصحابنا: فإن تحلل قبل الهدي فعليه دم لأجل إحلاله.
وقال أبو الخطاب: وإن نوى التحلل قبل الهدي والصيام ورفض الإحرام: لزمه دم وهو على إحرامه. ومعناه: إذا كان الرفض بالحلق ونحوه. فأما إن تعددت المحظورات .. . .
وإذا نحر الهدي: صار حلالا بمجرد ذلك مع نية الإحلال في إحدى الروايتين اختارها القاضي. وهذا ينبني على أن الحلاق ليس بواجب على المحرم المتم. فعلى المحصر أولى، وينبني أيضا على أن الحلق .. . .
قال القاضي: فعلى هذا يحل من إحرامه بأدنى ما يحظره الإحرام من طيب، أو غيره، والأشبه: أنه لا يحتاج إلى ذلك بل بنفس الذبح.
والرواية الثانية: عليه أن يحلق رأسه؛ لأن الحلاق واجب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حلقوا رءوسهم في عمرة الحديبية.
فصل
وينحر الهدي في موضع حصره حيث كان من حل، أو حرم، هذا هو المنصوص عن - في مواضع - وعليه أكثر أصحابه.
وقال أبو بكر: إن أمكنه أن يبعث بالهدي حتى ينحر بمكة في الموضع بعث به، وإلا حل يوم النحر.
قال ابن أبي موسى: قال بعض أصحابنا: لا ينحر هدي الإحصار إلا بالحرم.
لقوله {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33]؛ لأن الله قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] والهدي المطلق: إنما هو ما أهدي إلى الحرم بخلاف النسك، ثم إنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. وهدي المحصر داخل في هذا، لا سيما وقد تقدم ذكره.
ومحل الهدي: الحرم لقوله سبحانه: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله، ومن قال هذا زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر بالحرم، وأن طرف الحديبية من الحرم.

ووجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية: نحروا وحلقوا بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل.

ولأن الحل: موضع للتحلل في حق المحصر، فيكون موضعا للنحر كالحرم، وهذا لأن محل شعائر الله إلى البيت العتيق من الأعمال والهدي، فمتى طاف المحرم بالبيت: فقد شرع في التحلل، ومتى وصلت الهدايا إلى الحرم: فقد بلغت محلها. وهذا عند القدرة والاختيار.
فأما في موضع العجز: فقد جوز الله للمحصر أن يحل من إحرامه بالحل، وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه، ولا يقال: الهدي قد يمكن إرسالها .. . .
وأما قوله: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فإن محله المكان الذي يحل فيه؛ وهذا في حال الاختيار هو الحرم، كما قال: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: 25]. فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره.
[مسألة هدي التمتع]
مسألة: (الضرب الثاني: على الترتيب وهو هدي التمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فيصام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع).
هذا الهدي واجب بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
وبالسنة كما تقدم عن ابن عمر، وبالإجماع.
وفيه فصول: -
الأول: في الهدي ويجزئ فيه ما يجزئ في الأضحية وهو بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم؛ لأن الله قال: {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والغنم: الهدي بدليل قوله في جزاء الصيد: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، ولا يقال: فقد يدخل في الجزاء ما لا يدخل في مطلق الهدي من الصغير والمعيب ويسمى هديا؛ لأن ذلك إنما وجب باعتبار المماثلة المذكورة في قوله: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] وفي آية التمتع أطلق الهدي، ولم يعتبر فيه مماثلة شيء؛ ولأن ذلك يدل على أن المعيب والصغير من الأزواج الثمانية يكون هديا، وهذا صحيح، كما أن الرقبة المعيبة تكون رقبة في العتق، لكن الواجب في مطلق الهدي والرقبة: إنما يكون صحيحا على الوجه المشروع.
وعلم ذلك بالسنة؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم («أهدى مرة غنما») متفق عليه.
وعن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: («قسم بين أصحابه في متعتهم غنما، فأصاب سعدا يومئذ تيس») رواه سعيد.
ولا يجب عليه الهدي حتى يكون واجدا له؛ إما بأن يكون مالكه، أو يجد ثمنه. فإن كان عادما بمكة واجدا ببلده بحيث يمكنه أن يقترض: لم يجب ذلك عليه نص عليه في رواية الأثرم إذا وجب عليه هدي متعة وليس معه نفقة وهو ممن لو استقرض أقرض فلا يستقرض ويهدي، قال الله: {فمن لم يجد فصيام} [البقرة: 196] وهذا ليس بواجد؛ وذلك لأنه قد وجب عليه الهدي، أو بدله في مكة فلم يجب عليه الاقتراض، كما لو عدم الماء، وهذا بخلاف عادم الرقبة في الظهار على أحد .. . .
ولأنها عبادة مؤقتة ذات بدل، فإذا عدم المبدل حين الوجوب: جاز له الانتقال إلى بدله كالطهارة.
فصل
وأما صيام السبعة فيجوز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله، فإذا رجع إليهم فإن صامها في طريقه، أو في مكة بعد أيام منى وبعد التحلل الثاني جاز، وإن صامها قبل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول لم يجز سواء رجع إلى وطنه، أو لم يرجع ذكره القاضي .. . .
قال - في رواية أبي طالب -: إن قدر على الهدي وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء.
وقال - في رواية الأثرم - وقد سأله عن صيام السبعة، يصومهن في الطريق أم في أهله؟ فقال: كل قد تأوله الناس ووسع في ذلك كله.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
فذهب القاضي وأصحابه وغيرهم إلى أن معنى ذلك: إذا رجعتم من الحج؛ لأنه قد قال تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] ثم قال: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] فتقدير الرجوع من الحج - الذي تقدم ذكره - أولى من تقدير الرجوع من السفر؛ لأنه لم يذكر، ولأنه لو رجع إلى أهله قبل الإحلال الثاني، لم يجز الصوم. فعلم أن الحكم مقيد بالرجوع من الحج فقط، ويصح تسميته راجعا من الحج بمعنيين:
أحدهما: أنه قد عاد إلى حاله قبل الإحرام من الإحلال.
والثاني: أنه يفعل في أماكن مخصوصة، فإذا قضاه ورجع عن تلك الأماكن وانتقل عنها سمي راجعا بهذا الاعتبار.
وفيها طريقة أخرى أحسن من هذه، وهي طريقة أكثر السلف أن معنى الآية: إذا رجعتم إلى أهلكم وهي طريقة أحمد؛ لأنه قال: إذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم.
وقال - في رواية جماعة -: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم؛ وإن شاء صام في الطريق؛ وذلك لما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(«لما قدم مكة، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله»). وذكر الحديث. وهذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم -.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #106  
قديم 07-04-2022, 05:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (106)

من صــ 21 الى صـ
ـ 28


فصل
ويجوز أن يصوم كل واحد من الثلاثة والسبعة متفرقا، كما يجوز أن يصومه متتابعا نص عليه؛ لأن الله - سبحانه - أطلقه ولم يقيده بالتتابع، فيبقى على ما أطلقه الله - سبحانه -.
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... (197)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال: وقوله: {أشهر معلومات} والأشهر ليست هي الحج؟ فيقال: معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان ولا يفهم هذا أحد من اللفظ ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى.
فالأول كقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} فمعلوم أن المراد فضرب فانفلق لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ إذ كان قوله: قلنا: (أن اضرب)؛ فانفلق: دليلا على أنه ضرب فانفلق. وكذلك قوله: {من آمن} تقديره بر من آمن أو صاحب من آمن. وكذلك قوله: {الحج أشهر} أي: أوقات الحج أشهر فالمعنى متفق عليه لكن الكلام في تسمية هذا مجازا وقول القائل: نفس الحج ليس بأشهر؛ إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام؛ وليس كذلك بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه: أن أوقات الحج أشهر معلومات.
[مسألة أشهر الحج]
مسألة: (وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وقال في رواية ... .
ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر، نص عليه في رواية حرب وأبي طالب، وذلك لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم.

[وعن ابن الزبير في قوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم]، وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر " رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه.

وعن الضحاك عن ابن عباس قال: " أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه الدارقطني.
وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني، وفي لفظ: وعشر ذي الحجة، وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن، ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله، كما قد جاء في روايات أخرى.
وعشر ذي الحجة:
اسم لمجموع الليالي وأيامها، فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: («ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر») وقال تعالى: {وليال عشر} [الفجر: 2] ويوم النحر داخل فيها، وقال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142]ويوم النحر هو آخر الأربعين، ولفظ العشر - وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء -: فإنما دخل فيه اليوم لسببين:
أحدهما: أنهم في التاريخ إنما يؤرخون بالليالي؛ لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا، ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر.
الثاني: أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - («من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال») وقوله: (من هذه الأيام العشر).
وأيضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر.
وأيضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه، والحج له إحرام وإحلال، فأشهره هي: الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه.
وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال: يوم النحر، وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه، وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره.
وأيضا: فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر، والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين.
فإن قيل: فقد روى عروة بن الزبير قال: قال عمر بن الخطاب: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197] قال عمر بن الخطاب: لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال: إني أحب أن يزار البيت، إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا ".
وعن التميمي عن ابن عباس قال: " شوال وذو القعدة وذو الحجة " [ذكره البخاري، وعن مجاهد عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة] رواهن سعيد.

قيل: ليس بين الروايتين اختلاف في المعنى، كما يقال: قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث، ويقال: له خمسون سنة وإن كان لم يكملها، فكثير ما يعبر بالسنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص، فمن قال: وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة، ومن قال: وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل.

فإن قيل: فقد قال {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197].
قلنا: الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا، لا سيما إذا كانت بالأهلة.
وذكر القاضي: أن فائدة هذه المسألة اليمين. وليس كذلك، وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر، وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها، وأن الأفضل أن يعتمر قبلها، وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا، وقبل ذلك هو وقت الصيام، فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج.
ومن فوائده: أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره، فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك؛ لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها، وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل.
وذكر ابن عقيل: أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه.

(وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب (197)

عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون يقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا سألوا الناس؛ فقال الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجا كان مطيعا لله في هذين الأمرين بخلاف من ترك ذلك ملتفتا إلى أزواد الحجيج كلا على الناس؛ وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين فهو ملتفت إلى الجملة لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #107  
قديم 07-04-2022, 05:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (107)

من صــ 29 الى صـ
ـ 36





(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)
سئل شيخ الإسلام:
أيما أفضل: يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر؟
فأجاب:
الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء. وأفضل أيام العام هو يوم النحر. وقد قال بعضهم يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر} لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {يوم النحر هو يوم الحج الأكبر}. وفيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الإفاضة فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم.
وسئل: (*)
عن يوم الجمعة ويوم النحر أيهما أفضل؟

فأجاب:
يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام. قال ابن القيم: وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.
وسئل:
عن أفضل الأيام؟
فأجاب:
الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها. وأفضل أيام العام: يوم النحر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر}.

(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)

قالت عائشة: " «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله: " {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199]»
" وفي لفظ: " «قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: {أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] رجعوا إلى عرفات» " متفق عليه.
وعن جبير بن مطعم قال: " «أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس، فما شأنه هاهنا، وكانت قريش تعد من الحمس» " متفق عليه.
وعن جابر قال: «كانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض حتى أتى عرفات فنزل» رواه مسلم.
فإن قيل: كيف قيل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] والإفاضة من عرفات بعد قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198].
قيل: قد قيل: إنه لترتيب الإخبار، ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفات أن تذكروه عند المشعر الحرام، ثم يأمركم أن تفيضوا من حيث أفاض الناس، وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيب الفعل المأمور به، وإنما أمر بهذا بعد هذا لأن الأول أمر لجميع الحجيج، والثاني: أمر للحمس خاصة، ويقال: إنه معطوف على قوله: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} [البقرة: 197] إلى قوله: فاتقوا. . . {ثم أفيضوا} [البقرة: 199] ويكون معناه: فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسق، ثم بعد فرض الحج يفيض من حيث أفاض الناس، ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات.
فإن قيل: لم ذكر لفظ الإفاضة دون الوقوف؟
قيل: لأنه لو قال: ثم قفوا حيث وقف الناس لظن أن الوقوف بعرفة يجزئ في كل وقت بحيث يجوز تقديمه، وأما الإفاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف، وقد علموا أن وقت الدفع هو آخر يوم عرفة، فإذا أمروا بالإفاضة منها علم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج، فلا تتجاوز ولا يقصر عنها ; لأن المقصر والمجاوز لا يفيضان منها.
وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي: " «أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلا خلفه ينادي بهن» " رواه الخمسة، قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.
وفي رواية لسعيد: «من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».

وفي رواية له: «فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».
(واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)


[مسألة الرمي]
مسألة: (والرمي).
لا يختلف المذهب أن الرمي واجب ; لأن الله سبحانه قال: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] إلى قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] إلى قوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول} [البقرة: 200] الآية. إلى قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} [البقرة: 203].

فأمر سبحانه - بعد قضاء المناسك - بذكر الله سبحانه، وأمر بذكره في أيام معدودات أمرا يختص الحاج ; لأنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم} [البقرة: 203]
{عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة: 203] وإنما يمكن ذلك للحاج. فعلم أنهم مأمورون بهذا الذكر بمنى، وليس بمنى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما جعل الطواف بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» "، فعلم أن رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله المأمور به في قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203].
وأيضا: فإنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203] فعلم أنه من تعجل قبل اليومين لا يزول عنه الإثم، وإنما ذاك لأن بمنى فعلا واجبا، ولا فعل بها إلا رمي الجمار، لأن المبيت أخف منه، وإنما وجب تبعا له.
وأيضا: فإنه أمر بالذكر في الأيام، وجعل التعجيل فيها: فلا بد من فعل واجب في الأيام.
وأيضا: فما روى.
ومن رمى بحجر قد رمى به: لم يجزه ومن رمى بذهب، أو فضة: لم يجزه قولا واحدا.
وفي غير الحصى روايتان؛ إحداهما لا يجزئه إلا الحجر، فليعد الرمي.
والثانية: يجزئه مع الكراهة.

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
إذا فعل العبد ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن. وفي مثله أنزل الله قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب: " أن رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا ولكنه ممن قال الله فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد}.

__________
Qقال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 204):
وهذا السؤال، والجواب، والتعليق، ذكره ابن القيم في (البدائع) أيضا: 3/ 162.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #108  
قديم 07-04-2022, 05:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (108)

من صــ 37 الى صـ
ـ 44



[فصل البرهان الثامن " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " والجواب عليه]
فصل قال الرافضي: " البرهان الثامن: قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [سورة البقرة: 7 - 2].
قال الثعلبي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، فقال له: «يا علي، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه - إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله.

إليها: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد - عليه الصلاة والسلام - فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فنزلا، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة؟ فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}» [سورة البقرة: 207].

وقال ابن عباس: إنما نزلت في علي لما هرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين إلى الغار، وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام ".
الجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل. ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم، ليس بحجة باتفاق طوائف [أهل] السنة والشيعة. لأن هذا مرسل متأخر، ولم يذكر إسناده، وفي نقله من هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يعلم أنها باطلة، وإن كان هو لم يتعمد الكذب.
ثانيها: أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي، وإنما كان مطلوبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به، كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته، وترك عليا في فراشه ليظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت فلا يطلبوه، فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم، ولم يؤذوا عليا، بل سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرهم أنه لا علم له به، ولم يكن هناك خوف على علي من أحد، وإنما كان الخوف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، ولو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه، فلما لم يتعرضوا له دل على أنهم لا غرض لهم فيه، فأي فداء هنا بالنفس؟.

والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه ; هو أبو بكر. كان يذكر الطلبة فيكون خلفه، ويذكر الرصد فيكون أمامه، وكان يذهب فيكشف له الخبر. وإذا [كان] هناك ما يخاف أحب أن يكون به لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب، فمنهم من قتل بين يديه، ومنهم من شلت يده، كطلحة بن عبد الله. وهذا واجب على المؤمنين كلهم. فلو قدر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي؟.

قال: ابن إسحاق في " السيرة " - مع أنه من المتولين لعلي المائلين إليه - وذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله، واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به، قال: " «فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

قال: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى، ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامهم قال لعلي: نم على فراشي واتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لما اجتمعوا له، وفيهم: أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم [من] بعد موتكم، فجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه، فلا يرونه. . . ولم يبق منهم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا.
قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش مسجى ببرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه بردة.
فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا وكان مما أنزل الله [من القرآن] ذلك اليوم: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [سورة الأنفال: 30]وقوله: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} الآية [سورة الطور: 30] وأذن الله لنبيه في الهجرة عند ذلك». فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا.
وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " اتشح ببردي هذا الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه ". فوعده - وهو الصادق - أنه لا يخلص إليه مكروه، وكان طمأنينته بوعد الرسول [- صلى الله عليه وسلم -].
الرابع: أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن، فكيف يقول الله لهما: أيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
ثم إن كان الله قضى بأن عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه، وإن قضاه لواحد وأراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول، أو يؤثر به أحدهما الآخر، وهما راضيان بذلك، فلا كلام. وأما إن كانا يكرهان ذلك، فكيف يليق بحكمة الله ورحمته أن يحرش بينهما، ويلقي بينهما العداوة؟ ولو كان ذلك حقا - تعالى الله عن ذلك - ثم هذا القدر لو وقع مع أنه باطل، فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة؟ وإنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما.
الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليا ولا غيره، بل كل ما روي في هذا فهو كذب.
وحديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك - مع ضعفه وبطلانه - إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي، فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين.
وأيضا فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
السادس: أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات ; فإن الله يحفظ من شاء من خلقه بدون هذا. وإنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
السابع: أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته.

وقد قيل: إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ربح البيع أبا يحيى ". وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد. وهذا ممكن ; فإن صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #109  
قديم 07-04-2022, 05:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (109)

من صــ 45 الى صـ
ـ 52



قال ابن جرير: " اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه، ومن عني بها فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعني بها المجاهدون في سبيل الله ".
وذكر بإسناده هذا القول " وعن قتادة قال: وقال بعضهم: نزلت في قوم بأعيانهم " وروى عن " القاسم قال: حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: «نزلت في صهيب وأبي ذر جندب، أخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضا حتى قدم عليه، وأما صهيب فأخذ أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان،فخرج له مما بقي من ماله فخلى سبيله».
وقال آخرون: عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيل الله، وأمر بمعروف ".
ونسب هذا القول إلى عمر بل وابن عباس، وأن صهيبا كان سبب النزول.
الثامن: أن لفظ الآية مطلق، ليس فيه تخصيص. فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها.
وأحق من دخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه فإنهما شريا نفسهما ابتغاء مرضات الله، وهاجرا في سبيل الله، والعدو يطلبهما من كل وجه.

التاسع: أن قوله: " هذه فضيلة لم تحصل لغيره [فدل على أفضليته] فيكون هو الإمام ".
فيقال: لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنة والإجماع، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام.
فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه. يقول الله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا، بخلاف الوقاية بالنفس، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. وهذا واجب على كل مؤمن، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة.
والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات. يبين ذلك أنه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته على فراش النبي، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: تارة بالضرب، وتارة بالجرح، وتارة بالقتل. فمن فداه وأوذي أعظم ممن فداه ولم يؤذ. وقد قال العلماء: ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة، شاركه فيها غيره، بخلاف الصديق، فإن كثيرا من فضائله - وأكثرها - خصائص له، لا يشركه فيها غيره. وهذا مبسوط في موضعه.
(ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208)
قال مجاهد: وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك والجمهور يقولون: {في السلم} أي في الإسلام وقالت طائفة:
هو الطاعة وكلاهما مأثور عن ابن عباس وكلاهما حق فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال. وأما قوله: {كافة} فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه وهذا هو الصحيح فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره وإنما يؤمر بما يقدر عليه.
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
[فصل: بيان فساد قولهم في تفسير آية سورة البقرة (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)]
وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم: في تفسير آية البقرة، فإنهم قالوا: وقال: في سورة البقرة {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] قالوا: فأعني بقوله: أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر ; لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال: ومعهم الكتب ; لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد ; لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر.
فيقال: لهم: قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير.
وأيضا، فإنه قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] أي فاختلفوا. {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء.
وأيضا فإنه قال: وأنزل معهم الكتاب.
والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح، ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب، فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها ; كما في قوله: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] وفي قوله: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] وفي القراءة الأخرى (وكتابه ورسله) وكذلك قوله عن مريم: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [التحريم: 12] وفي القراءة الأخرى (وكتابه) وأيضا قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
وقال - تعالى -: في سورة يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس: 19] وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين، واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح ; كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم ; كما قال - تعالى -:
{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253] وقال - تعالى -: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله:{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] وقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 118] وأيضا: فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن، فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل.
وأيضا فإنه قال: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [البقرة: 213].
وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن أوتوا الكتاب فاختلفوا.

والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا، وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #110  
قديم 07-04-2022, 05:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,540
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (110)

من صــ 53 الى صـ
ـ 60


وهذا يتناول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]
وأما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين، فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك.

أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وأنه يتعب وغير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا: عن المسيح أنه خالق السماوات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] الآية.
والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى.
وأما الأنبياء - عليهم السلام - فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا ; كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].
والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم.
وفي الصحيحين «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله. والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله ; كما قال - تعالى -: في النصارى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال:

في اليهود {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به.

ومن لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها.
ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته، فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما.
وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه.
والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى.

وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات، حتى منعوا من مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك.

والمسيح - عليه السلام - أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا: ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس، لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك، فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى. والمسيح - عليه السلام - جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا، وجعلته النصارى هو الله خالق السماوات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فشهدوا أنه عبد الله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب، فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل، فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق ;
كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع ; كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات.

(كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)

وسئل شيخ الإسلام:
عن {قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته} " ما معنى تردد الله؟
فأجاب: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:

الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح {حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره} وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 307.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 301.94 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.88%)]