تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 28 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 854519 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389459 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #271  
قديم 31-07-2022, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثالث
سُورَةُ التَّوْبَةِ
الحلقة (271)
صــ491 إلى صــ 498



والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم


قوله تعالى: والسابقون الأولون فيهم ستة أقوال .

أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة .

والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، وهي الحديبية ، قاله الشعبي .

والثالث: أنهم أهل بدر ، قاله عطاء بن أبي رباح .

والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته .

قال محمد بن كعب القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم في قوله: والسابقون الأولون

والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة ، سبقوا إلى ثواب الله تعالى ، وذكره الماوردي .

[ ص: 491 ] والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة ، ذكره القاضي أبو يعلى .

قوله تعالى: من المهاجرين والأنصار قرأ يعقوب: "والأنصار" . برفع الراء .

قوله تعالى: والذين اتبعوهم بإحسان من قال إن السابقين جميع الصحابة ، جعل هؤلاء تابعي الصحابة ، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين اتبعوهم بإحسان إلى أن تقوم الساعة .

ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة ، قال: هؤلاء تبعوهم في طريقهم ، واقتدوا بهم في أفعالهم ، ففضل أولئك بالسبق ، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل . وقال عطاء: اتباعهم إياهم بإحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحمون عليهم .

قوله تعالى: تجري تحتها الأنهار قرأ ابن كثير: "من تحتها" فزاد "من" وكسر التاء الثانية .

قوله تعالى: رضي الله عنهم يعم الكل . قال الزجاج : رضي الله أفعالهم ، ورضوا ما جازاهم به .
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم

قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون قال ابن عباس : مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون . قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة .

قوله تعالى: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق قال ابن عباس : مرنوا عليه وثبتوا ، منهم عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، والجلاس ، ومعتب ، [ ص: 492 ] ووحوح ، وأبو عامر الراهب . وقال أبو عبيدة: عتوا ومرنوا عليه ، وهو من قولهم: تمرد فلان ، ومنه: شيطان مريد .

فإن قيل: كيف قال: (ومن أهل المدينة مردوا) ، وليس يجوز في الكلام: من القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

أحدهن: أن تكون "من" الثانية مردودة على الأولى; والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون ، ثم استأنف "مردوا" .

والثاني أن يكون في الكلام "من" مضمر ، تقديره: ومن أهل المدينة من مردوا; فأضمرت "من" ، لدلالة "من" عليها كقوله: وما منا إلا له مقام معلوم [الصافات:164] يريد: إلا من له مقام معلوم; وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله "منافقون"

والثالث: أن "مردوا" متعلق بمنافقين ، تقديره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري .

قوله تعالى: لا تعلمهم فيه وجهان .

أحدهما: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم . والثاني: لا تعلم عواقبهم .

قوله تعالى: سنعذبهم مرتين فيه عشرة أقوال .

أحدها: أن العذاب الأول في الدنيا ، وهو فضيحتهم بالنفاق ، والعذاب الثاني: عذاب القبر ، قاله ابن عباس . قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا ، فقال "يا فلان" اخرج فإنك منافق ، ويا فلان اخرج" ففضحهم .

[ ص: 493 ] والثاني: أن العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم ، والثاني: عذاب القبر; وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم ، والآخر: الجهاد الذي يؤمرون به ، قاله الحسن .

والرابع: الجوع ، وعذاب القبر ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال أبو مالك .

والخامس: الجوع والقتل ، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .

والسادس: القتل والسبي ، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال ابن قتيبة: القتل والأسر .

والسابع: أنهم عذبوا بالجوع مرتين ، رواه خصيف عن مجاهد .

والثامن: أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، وفي الآخرة بالنار ، قاله ابن زيد .

والتاسع: أن الأول: عند الموت ، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، والثاني: في القبر بمنكر ونكير ، قاله مقاتل بن سليمان .

والعاشر: أن الأول بالسيف ، والثاني: عند الموت; قاله مقاتل بن حيان .

قوله تعالى: ثم يردون إلى عذاب عظيم يعني عذاب جهنم .
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم

قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

أحدهما: أنهم عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما [ ص: 494 ] دنا رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد .

فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال "من هؤلاء"؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك ، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم ، فقال "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين" فنزلت هذه الآية ، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم ،
رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة ، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان معه ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية ، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم . وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية . وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا سبعة .

والثاني: أنها نزلت في أبي لبانة وحده . واختلفوا في ذنبه على قولين .

أحدهما: أنه خان الله ورسوله بإشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح ، وهذا قول مجاهد ، وقد شرحناه في (الأنفال:27) .

[ ص: 495 ] والثاني: أنه تخلفه عن تبوك ، قاله الزهري . فأما الاعتراف ، فهو الإقرار بالشيء عن معرفة . والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول .

قوله تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء ، والمعنى: بآخر سيئ ، كما تقول: خلطت الماء واللبن .

وفي ذلك العمل قولان .

أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم ، والسيئ: التأخر عن الجهاد ، قاله السدي .

والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم والسيئ: تخلفهم ، ذكره الفراء . وفي قوله "عسى" قولان .

أحدهما: أنه واجب من الله تعالى ، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق ، وذلك يصد عن اللهو والإهمال .
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم

قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة قال المفسرون: لما تاب الله عز وجل على أبي لبابة وأصحابه ، قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا ، فقال:

[ ص: 496 ] "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا" فنزلت هذه الآية .


"وفي هذه الصدقة" قولان .

أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعا ، قاله ابن زيد ، والجمهور . والثاني: الزكاة ، ، قاله عكرمة .

قوله تعالى: تطهرهم وقرأ الحسن "تطهرهم بها" بجزم الراء . قال الزجاج : يصلح أن يكون قوله "تطهرهم" نعتا للصدقة ، كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهرة . والأجود أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، المعنى: فإنك تطهرهم بها فـ تطهرهم . بالجزم ، على جواب الأمر ، المعنى: إن تأخذ من أموالهم ، تطهرهم . ولا يجوز في "تزكيهم" إلا إثبات الياء ، اتباعا للمصحف . قال ابن عباس : "تطهرهم" من الذنوب ، "وتزكيهم": تصلحهم . وفي قوله: وصل عليهم قولان .

أحدهما: استغفر لهم ، قاله ابن عباس . والثاني: ادع لهم ، قاله السدي .

قوله تعالى: " إن صلواتك " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم "إن صلواتك" على الجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم "إن صلاتك" على التوحيد . وفي قوله: سكن لهم خمسة أقوال .

أحدها: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة: تثبيت وسكون . والثاني: رحمة لهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: قربة لهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع: وقار لهم ، قاله قتادة . والخامس: تزكية لهم ، حكاه الثعلبي . قال الحسن ، وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا .
[ ص: 497 ] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

قوله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة قرأ الجمهور "يعلموا" بالياء وروى عبد الوارث "تعلموا" بالتاء . وقوله: يقبل التوبة عن عباده قال أبو عبيدة: أي من عبيده ، تقول: أخذته منك ، وأخذته عنك .

قوله تعالى: ويأخذ الصدقات قال ابن قتيبة: أي: يقبلها . ومثله خذ العفو [الأعراف:199] أي: اقبله .

قوله تعالى: وقل اعملوا قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا .
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم

قوله تعالى: وآخرون مرجون وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي "مرجون" بغير همز . والآية نزلت في كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر ، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري; فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا [التوبة:118] . قال الزجاج : "وآخرون" عطف على قوله: "ومن أهل المدينة" ، فالمعنى: منهم منافقون ، ومنهم (آخرون مرجون) أي: مؤخرون; "وإما" [ ص: 498 ] لوقوع أحد الشيئين ، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم ، لكنه خاطب العباد بما يعلمون ، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء .

قوله تعالى: والله عليم حكيم أي: عليم بما يؤول إليه حالهم ، حكيم بما يفعله بهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #272  
قديم 31-07-2022, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثالث
سُورَةُ التَّوْبَةِ
الحلقة (272)
صــ499 إلى صــ 506




والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون

قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: "والذين" بواو ، وكذلك هي في مصاحفهم . وقرأ نافع ، وابن عامر: "الذين" بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام . قال أبو علي: من قرأ بالواو ، فهو معطوف على ما قبله ، نحو قوله: ومنهم من عاهد الله [التوبة:75] ، ومنهم من يلمزك [التوبة:58] ، ومنهم الذين يؤذون النبي [التوبة:61] ، والمعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا . ومن حذف الواو ، فعلى وجهين .

أحدهما: أن يضمر - ومنهم الذين اتخذوا كقوله: أكفرتم ، المعنى: فيقال لهم: أكفرتم .

والثاني: أن يضمر الخبر بعد ، كما أضمر في قوله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام [الحج:25] ، المعنى ينتقم منهم ويعذبون . قال أهل التفسير: لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فصلى فيه; حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وكانوا من منافقي الأنصار فقالوا: نبني مسجدا ، ونرسل إلى رسول الله فيصلي [ ص: 499 ] فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام; وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، عاداه ، فخرج إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن أعدوا من استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا ، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء; وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومجمع; وكان مجمع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت بما أرى"؟ فقال: والله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب . وقال مقاتل: الذي حلف مجمع . وقيل: كانوا سبعة عشر; فلما فرغوا منه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه; فدعى بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدخشم في آخرين، وقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه"، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف . ومات أبو عامر بالشام وحيدا غريبا .

فأما التفسير، فقال الزجاج : "الذين" في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا . و"ضرارا" انتصب مفعولا له المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد . فلما حذفت اللام، أفضى الفعل فنصب قال المفسرون:

[ ص: 500 ] والضرار بمعنى المضارة لمسجد قباء، (وكفرا) بالله ورسوله (وتفريقا بين المؤمنين) لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء جميعا، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار . وليحلفن إن أردنا أي: ما أردنا (إلا الحسنى) أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى; وفيها ثلاثة أوجه .

أحدها: طاعة الله . والثاني: الجنة . والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة . وقد ذكرنا اسم الحالف .
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين

قوله تعالى: لا تقم فيه أي: لا تصل فيه أبدا . لمسجد أسس على التقوى أي: بني على الطاعة، وبناه المتقون (من أول يوم) أي: منذ أول يوم . قال الزجاج : "من" في الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال . وجائز دخول "من" لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير:


لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر


وقيل معناه: من مر حجج ومن مر شهر . وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره . روى سهل بن سعد أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على [ ص: 501 ] التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال "هو مسجدي هذا" وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب .

والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل .

والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب .

قوله تعالى: فيه رجال يحبون أن يتطهروا سبب نزولها أن رجالا من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي .

قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما الذي أثنى الله به عليكم" فقالوا: إنا نستنجي بالماء . فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء . وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذنوب .
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين

قوله تعالى: أفمن أسس بنيانه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة [ ص: 502 ] والكسائي "أسس" بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النون فيهما . وقرأ نافع، وابن عامر "أسس: بضم الألف "بنيانه" برفع النون . والبنيان مصدر يراد به المبني . والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج : وشفا الشيء: حرفه وحده . والشفا، مقصور، يكتب بالألف، ويثنى شفوان .

قوله تعالى: جرف قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، والكسائي "جرف" مثقلا . وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: "جرف" ساكنة الراء . قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل . قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر . والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية . والهائر: الساقط . ومنه: تهور البناء وانهار: إذا سقط . وقرأ ابن كثير، وحمزة "هار" بفتح الهاء . وأمال الهاء نافع، وأبو عمرو . وعن عاصم كالقراءتين .

قوله تعالى: فانهار به أي: بالباني في نار جهنم قال الزجاج : وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها . وقال قتادة: ذكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان . قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان .
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

قوله تعالى: لا يزال بنيانهم يعني مسجد الضرار الذي بنوا ريبة في قلوبهم وفيها ثلاثة أقوال [ ص: 503 ] أحدها: شكا ونفاقا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد .

والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل .

والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم، قاله السدي، والمبرد .

قوله تعالى: إلا أن تقطع قلوبهم قرأ الأكثرون: "إلا" وهو حرف استثناء . وقرأ يعقوب "إلى أن" فجعله حرف جر . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "تقطع" بضم التاء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: "تقطع" بفتح التاء ثم في المعنى قولان .

أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين .

والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم، ذكره الزجاج .
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

قوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم سبب نزولها أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم"، قالوا: فإذا [ ص: 504 ] فعلنا ذلك، فما لنا؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت إن الله اشترى . . . الآية، قاله محمد بن كعب القرظي . فأما اشتراء النفس فبالجهاد .

وفي اشتراء الأموال وجهان . أحدهما: بالإنفاق في الجهاد . والثاني: بالصدقات . وذكر الشراء هاهنا مجاز، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله: من ذا الذي يقرض الله [البقرة:245] . والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة، فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض ومعوض . وكان الحسن يقول: لا والله، إن في الدنيا مؤمن إلا وقد أخذت بيعته . وقال قتادة: ثامنهم والله فأغلى لهم .

قوله تعالى: فيقتلون ويقتلون قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم "فيقتلون ويقتلون" فاعل ومفعول . وقرأ حمزة، والكسائي "فيقتلون ويقتلون" مفعول وفاعل . قال أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم; فإن لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى: يقتل من بقي منهم بعد قتل، من قتل كما أن قوله: فما وهنوا لما أصابهم [آل عمران:146] ما وهن من بقي بقتل من قتل . ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قتلوا أو قتلوا . "وعدا عليه"، قال الزجاج : نصب "وعدا" بالمعنى، لأن معنى قوله بأن لهم الجنة : وعدا عليه حقا قال: وقوله: في التوراة والإنجيل يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة .

[ ص: 505 ] قوله تعالى: ومن أوفى أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله فاستبشروا أي: فافرحوا بهذا البيع .
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين

قوله تعالى: التائبون سبب نزولها: أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول الله، وإن سرق وإن زنا وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس . قال الزجاج : يصلح الرفع هاهنا على وجوه . أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون . ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون; فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفع بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذكر معهم لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد .

وللمفسرين في قوله: "التائبون" قولان . أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي . والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر .

وفي قوله: العابدون ثلاثة أقوال . أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس .

والثالث: الموحدون، قاله سعيد بن جبير .

قوله تعالى: الحامدون قال قتادة: يحمدون الله على كل حال .

وفي السائحين أربعة أقوال . [ ص: 506 ] أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين . قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحا تشبيها بالسائح، لأن السائح لا زاد معه; والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه: صائم وذلك أن له قوتين، غدوة وعشية، فشبه به صيام الآدمي لتسحره وإفطاره .

والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء . والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة . والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: الراكعون الساجدون يعني في الصلاة . الآمرون بالمعروف وهو طاعة الله . والناهون عن المنكر وهو معصية الله .

فإن قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: "والناهون" فعنه جوابان .

أحدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السبعة، كقوله: وثامنهم كلبهم [الكهف:22] وقوله في صفة الجنة: وفتحت أبوابها [الزمر:73]، ذكره جماعة من المفسرين .

والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات .

قوله تعالى: والحافظون لحدود الله قال الحسن: القائمون بأمر الله .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #273  
قديم 31-07-2022, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثالث
سُورَةُ التَّوْبَةِ
الحلقة (273)
صــ507 إلى صــ 514



ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

[ ص: 507 ] قوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين في سبب نزولها أربعة أقوال .

أحدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا . الآية، ونزلت إنك لا تهدي من أحببت [القصص:56]، أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه . وقيل: إنه لما مات أبو طالب، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية . قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" قبل أن يموت، [ ص: 508 ] وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه .

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم بكى، فبكى الناس لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال: "مررت بقبر أمي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فبكيت، ثم عدت فصليت ركعتين، واستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزجرت زجرا، فأبكاني"، ثم دعا براحلته فركبها; فما سار إلا هنيأة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي; فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا والآية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثالث: أن رجلا استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك علي للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام .

والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا [ ص: 509 ] نستغفر لهم؟ فقال: "بلى، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه"، فنزلت هذه الآية، وبين عذر إبراهيم، قاله قتادة . ومعنى قوله: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارا .

قوله تعالى: إلا عن موعدة وعدها إياه فيه قولان .

أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله: سأستغفر لك ربي [مريم:47]، وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك .

والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن; فلما تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى: بموته على الكفر، ترك الدعاء له . فعلى الأول، تكون هاء الكناية في "إياه" عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم . وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: "وعدها أباه" بالباء

وفي الأواه ثمانية أقوال .

أحدها: أنه الخاشع الدعاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني: أنه الدعاء، رواه زر عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير .

والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة .

والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك .

والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد وابن أبي طلحة عن ابن عباس .

[ ص: 510 ] والسادس: أنه المسبح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن جبير .

والسابع: أنه المتأوه لذكر عذاب الله، قاله الشعبي . قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فعال من التأوه، ومعناه: متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه، قال المثقب:


إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


والثامن: أنه الفقيه رواه ابن جريج عن مجاهد . فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب .
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير

قوله تعالى: وما كان الله ليضل قوما الآية، سبب نزولها: أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال قوم: المعنى أنه بين أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فإذا حرمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا . وقال ابن الأنباري: في الآية حذف، واختصار، والتأويل: حتى [ ص: 511 ] يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضلال; فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال; يريدون: فتجرت فكسبت .
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم

قوله تعالى: لقد تاب الله على النبي قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف . وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين، ذكر معهم كقوله: فأن لله خمسه وللرسول [الأنفال:41] .

قوله تعالى: الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال الزجاج : هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حر شديد، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر . وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده . فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع لنا . قال: "تحب [ ص: 512 ] ذلك"؟ قال: نعم فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر .

قوله تعالى: من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: "كاد يزيغ" بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هموا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تزغ عن الإيمان، قاله الزجاج .

والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشدة، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: ثم تاب عليهم كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبه ثم أعاد ذكر التوبة .
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم

قوله تعالى: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر: "خالفوا" بألف . وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد: [ ص: 513 ] "خلفوا" بفتح الخاء واللام المخففة . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: "خلفوا" بفتح الخاء واللام مع تشديدها . وهؤلاء هم المرادون بقوله: وآخرون مرجون وقد تقدمت أسماؤهم [التوبة:106] . وفي معنى "خلفوا" قولان .

أحدهما: خلفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد . فيكون المعنى: خلفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك .

والثاني: خلفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة . وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك، وقد رويتها في كتاب "الحدائق"

قوله تعالى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي: ضاقت مع سعتها، وذلك أن المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم، وأمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم . وضاقت عليهم أنفسهم بالهم والغم . (وظنوا) أي: أيقنوا أن لا ملجأ أي: لا معتصم من الله ومن عذابه إلا هو . ثم تاب عليهم أعاد التوبة تأكيدا، ليتوبوا قال ابن عباس : ليستقيموا . وقال غيره: وفقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها . وسئل بعضهم عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين في سبب نزولها قولان .

أحدهما: أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين . [ ص: 514 ] والثاني: أنها في أهل الكتاب . والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين .

وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال .

أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر .

والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك . وقد قرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: "مع الصادقين" بفتح القاف وكسر النون على التثنية .

والثالث: أنهم الثلاثة الذين خلفوا صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم قاله السدي .

والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج . قال أبو سليمان الدمشقي: وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا إلى قوله: أولئك هم الصادقون [الحشر:8] من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم . قال: فإن الله تعالى يقول: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء .

والخامس: أنه عام، قاله قتادة . "ومع" بمعنى "من" وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: وكونوا من الصادقين" .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #274  
قديم 31-07-2022, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثالث
سُورَةُ التَّوْبَةِ
الحلقة (274)
صــ515 إلى صــ 522




ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا [ ص: 515 ] إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون

قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب قال ابن عباس : يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم . وغفار، أن يتخلفوا عن رسول الله في غزوة غزاها، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله في الحر والمشقة . يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه .

قوله تعالى: ذلك أي: ذلك النهي عن التخلف بأنهم لا يصيبهم ظمأ وهو العطش ولا نصب وهو التعب ولا مخمصة وهى المجاعة ولا ينالون من عدو نيلا أسرا أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أن يجازيهم على جميع ذلك .

قوله تعالى: ولا ينفقون نفقة صغيرة قال ابن عباس : تمرة فما فوقها . ولا يقطعون واديا مقبلين أو مدبرين إلا كتب لهم أي: أثبت لهم أجر ذلك . ليجزيهم الله أحسن أي: بأحسن ما كانوا يعملون

فصل

قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الجهاد يلزم الكل; ثم نسخ ذلك بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة: 122]; [ ص: 516 ] وقالت طائفة فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين:

أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم .

والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدين كله، فأمروا بالتظاهر لئلا يقل العدد، وهذا الحكم باق إلى وقتنا; فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا . فعلى هذا الآية محكمة . قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق .
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون

قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة في سبب نزولها أربعة أقوال .

أحدها: أنه لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سرية أبدا . فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعا، وتركوا رسول الله وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم; فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها إلى المدينة من الجهد، ويظهرون الإسلام وهم كاذبون; فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثالث: أن ناسا أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم، فنزلت: [ ص: 517 ] إلا تنفروا يعذبكم [التوبة:39]، فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة .

والرابع: أن ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به; فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا; فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد . قال الزجاج : ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [التوبة:113]، والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض . قال الفراء: ينفر وينفر، بكسر الفاء وضمها لغتان . واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين .

أحدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة . (ليتفقهوا في الدين) يعني الفرقة القاعدين . فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .

والثاني: أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية . فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه . وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم .
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين [ ص: 518 ] آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون قوله تعالى: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قد أمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يبتدأ بالأقرب فالأقرب . وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال .

أحدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر . والثاني: قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، قاله ابن عباس . والثالث: الديلم، قاله الحسن . والرابع: العرب، قاله ابن زيد . والخامس: أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، قاله قتادة . وقال الزجاج : في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم . قال: وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له، فأمر بقتال من يليه ليستن بذلك . وفي الغلظة ثلاث لغات: غلظة، بكسر الغين; وبها قرأ الأكثرون . وغلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم . وغلظة، بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم . ومثلها: جذوة وجذوة وجذوة، ووجنة ووجنة ووجنة، ورغوة ورغوة ورغوة، وربوة وربوة وربوة، وقسوة وقسوة وقسوة، وألوة وإلوة وألوة، في اليمين . وشاة لجبة ولجبة ولجبة: قد ولى لبنها . قال ابن عباس في قوله "غلظة": شجاعة . وقال مجاهد: شدة .

قوله تعالى: فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاء بقول الله تعالى . فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا لأنهم [ ص: 519 ] إذا صدقوا بها وعملوا بما فيها، زادتهم إيمانا . وهم يستبشرون أي: يفرحون بنزولها . وأما الذين في قلوبهم مرض أي: شك ونفاق .

وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال .

أحدها: الشك، قاله ابن عباس . والثاني: الإثم، قاله مقاتل . والثالث: الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج .

قوله تعالى: أولا يرون يعني المنافقين . وقرأ حمزة: "أولا ترون" بالتاء على الخطاب للمؤمنين . وفي معنى يفتنون ثمانية أقوال .

أحدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يضلون بها، قاله حذيفة بن اليمان .

والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثالث: يبتلون بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة .

والرابع: يفتنون بالسنة والجوع، قاله مجاهد .

والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية .

والسادس: ينقضون عهدهم مرة أو مرتين، قاله يمان .

والسابع: يكفرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلموا به إذ خلوا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان .

والثامن: يفضحون بإظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان .

قوله تعالى: ثم لا يتوبون أي: من نفاقهم . ولا هم يذكرون أي: يعتبرون ويتعظون .
[ ص: 520 ] وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون

قوله تعالى: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض قال ابن عباس : كانت إذا أنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون: ( هل يراكم من أحد) من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد . قال الزجاج : كأنهم يقولون ذلك إيماء لئلا يعلم بهم أحد، "ثم انصرفوا" عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون . وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به .

قوله تعالى: صرف الله قلوبهم قال ابن عباس : عن الإيمان . وقال الزجاج : أضلهم مجازاة على فعلهم .
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم

قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم قرأ الجمهور بضم الفاء . وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها . وفي المضمومة أربعة أقوال .

أحدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس; وقال: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة .

والثالث: من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصادق، [ ص: 521 ] الرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمن هو مثلكم، قاله . الزجاج وفي المفتوحة ثلاثة أقوال .

أحدها: أفضلكم خلقا . والثاني: أشرفكم نسبا . والثالث: أكثركم طاعة لله عز وجل .

قوله تعالى: عزيز عليه ما عنتم فيه قولان

أحدهما: شديد عليه ما شق عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس . قال الزجاج : شديد عليه عنتكم والعنت: لقاء الشدة .

والثاني شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

قوله تعالى: حريص عليكم قال الحسن حريص عليكم أن تؤمنوا .

قوله تعالى: بالمؤمنين رءوف رحيم قال ابن عباس : سماه باسمين من أسمائه . وقال أبو عبيدة: "رؤوف" فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة; ويقال: "رؤف"، وأنشد:


ترى للمؤمنين عليك حقا كفعل الوالد الرؤف الرحيم


وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين .
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

قوله تعالى: فإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان فقل حسبي الله أي: يكفيني رب العرش العظيم . وقرأ ابن محيصن: "العظيم" برفع [ ص: 522 ] الميم . وإنما خص العرش بالذكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر . قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الثالث من "زاد المسير في علم التفسير" ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة [يونس]
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

قوله تعالى: فإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان فقل حسبي الله أي: يكفيني رب العرش العظيم . وقرأ ابن محيصن: "العظيم" برفع [ ص: 522 ] الميم . وإنما خص العرش بالذكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر . قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الثالث من "زاد المسير في علم التفسير" ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة [يونس]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #275  
قديم 31-07-2022, 11:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (275)
صــ3 إلى صــ 9



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ يُونُسَ


فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

رَوَى عَطِيَّةُ ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ . وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ قَوْلَهُ : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُسَ 40] . وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنَ الْمَدَنِيِّ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يُونُسَ 94] إِلَى رَأْسِ ثَلَاثِ آيَاتٍ ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ ، قَوْلُهُ : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وَالَّتِي تَلِيهَا [يُونُسَ 94 ،95] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا [يُونُسَ 58 ،59] .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

فَأَمَّا قَوْلُهُ : (آلر) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " آلر " بِفَتْحِ الرَّاءِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : " آلر " عَلَى الْهِجَاءِ مَكْسُورَةً . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) مَا يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ [ ص: 4 ] بِسِتَّةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا : أَنَا اللَّهُ أَرَى ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَا اللَّهُ الرَّحْمَنُ ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعْضُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ . رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " آلر " وَ " حَم " وَ " نُونْ " حُرُوفُ الرَّحْمَنِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَفِي قَوْلِهِ : " تِلْكَ " قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى " هَذِهِ " قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ . ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَة ِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ; فَيَكُونُ الْمَعْنَى : هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا ، تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي وُصِفَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا ، مِنَ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ " تِلْكَ " إِشَارَةٌ إِلَى " آلر " وَأَخَوَاتِهَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، أَيْ : تِلْكَ الْحُرُوفُ الْمُفْتَتَحَةُ بِهَا السُّورُ هِيَ (آيَاتُ الْكِتَابِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ بِهَا يُتْلَى ، وَأَلْفَاظُهُ إِلَيْهَا تَرْجِعُ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : (الْحَكِيمُ) بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ الْمُبَيَّنُ الْمُوَضَّحُ ; وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ فَعِيلًا فِي مَعْنَى مُفْعِلٍ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23 : 18] أَيْ : مُعَدٍّ
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون

[ ص: 5 ] قوله تعالى : أكان للناس عجبا سبب نزولها : أن الله تعالى لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم أنكرت الكفار ذلك، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فنزلت هذه الآية . والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة ، والمراد بالرجل : محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى " منهم " : يعرفون نسبه ، قاله ابن عباس ، فأما الألف فهي للتوبيخ والإنكار . قال ابن الأنباري والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إرسال محمد ، محذوف هاهنا ، وهو مبين في قوله : نحن قسمنا بينهم معيشتهم [الزخرف :32] أي : فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة ، فلا تنكروا تفضيل الله من شاء بالنبوة ; وإنما حذفه هاهنا اعتمادا على ما بينه في موضع آخر . قال : وقيل : إنما عجبوا من ذكر البعث والنشور ، لأن الإنذار والتبشير يتصلان بهما ، فكان جوابهم في مواضع كثيرة تدل على كون ذلك ، مثل قوله : وهو أهون عليه [الروم :27] ، وقوله : يحييها الذي أنشأها أول مرة [يس :79] .

وفي المراد بقوله : " قدم صدق " سبعة أقوال :

أحدها : أنه الثواب الحسن بما قدموا من أعمالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى عنه أبو صالح قال: عمل صالح يقدمون عليه .

والثاني : أنه ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : سابقة صدق .

والثالث : شفيع صدق ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم يوم القيامة ، قاله الحسن .

والرابع : سلف صدق تقدموهم بالإيمان ، قاله مجاهد ، وقتادة .

والخامس : مقام صدق لا زوال عنه ، قاله عطاء . [ ص: 6 ] والسادس : أن قدم الصدق : المنزلة الرفيعة ، قاله الزجاج

والسابع : أن القدم هاهنا : مصيبة المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته ، ذكره ابن الأنباري .

فإن قيل : لم آثر القدم هاهنا على اليد ، والعرب تستعمل اليد في موضع الإحسان ؟

فالجواب : أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم ، لأن العادة جارية بتقدم الساعي على قدميه ، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخر ، قال ذو الرمة :


لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر


فإن قيل : ما وجه إضافة القدم إلى الصدق ؟

فالجواب : أن ذلك مدح للقدم وكل شيء أضفته إلى الصدق ، فقد مدحته; ومثله : أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق [الإسراء :80] ، وقوله : في مقعد صدق [القمر :55] . وفي الكلام محذوف ، تقديره : أوحينا إلى رجل منهم ، فلما أتاهم الوحي " قال الكافرون إن هذا لسحر مبين " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : " لساحر " بألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " لسحر " بغير ألف . قال أبو علي : قد تقدم قوله : " أن أوحينا إلى رجل منهم " فمن قال : ساحر ، أراد الرجل ; ومن قال : سحر ، أراد الذي أوحي ، سحر ، أي : الذي تقولون أنتم فيه : إنه وحي ، سحر . قال الزجاج : [ ص: 7 ] لما أنذرهم بالبعث والنشور ، فقالوا : هذا سحر ، أخبرهم أن الذي خلق السموات والأرض قادر على بعثهم بقوله : " إن ربكم الله " وقد سبق تفسيره في (الأعراف 54) .

قوله تعالى : يدبر الأمر قال مجاهد : يقضيه . وقال غيره يأمر به ويمضيه .

قوله تعالى : ما من شفيع إلا من بعد إذنه فيه قولان :

أحدهما : لا يشفع أحد إلا أن يأذن له ، قاله ابن عباس . قال الزجاج : لم يجر للشفيع ذكر قبل هذا ، ولكن الذين خوطبوا كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا .

والثاني : أن المعنى : لا ثاني معه ، مأخوذ من الشفع ، لأنه لم يكن معه أحد ، ثم خلق الأشياء . فقوله : " إلا من بعد إذنه " أي : من بعد أمره أن يكون الخلق فكان ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " فاعبدوه " قال مقاتل : وحدوه . وقال الزجاج : المعنى : فاعبدوه وحده . وقوله : " تذكرون " معناه : تتعظون .
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

قوله تعالى : " إليه مرجعكم جميعا " أي : مصيركم يوم القيامة " وعد الله حقا " قال الزجاج : " وعد الله " منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا ، لأن قوله : " إليه مرجعكم " معناه : الوعد بالرجوع ، و " حقا " منصوب على : أحق ذلك حقا .

قوله تعالى : " إنه يبدأ الخلق " قرأه الأكثرون بكسر الألف . وقرأت [ ص: 8 ] عائشة ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو العالية ، والأعمش : بفتحها . قال الزجاج : من كسر ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح ، فالمعنى : إليه مرجعكم ، لأنه يبدأ الخلق . قال مقاتل : يبدأ الخلق ولم يكن شيئا ثم يعيده بعد الموت . وأما القسط ، فهو العدل .

فإن قيل : كيف خص جزاء المؤمنين بالعدل ، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضا ؟

فالجواب : أنه لو جمع الفريقين في القسط ، لم يتبين في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم ، ففصلهم من المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل أيضا ، ذكره ابن الأنباري . فأما الحميم ، فهو الماء الحار . وقال أبو عبيدة : كل حار فهو حميم .
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين .

قال تعالى : " هو الذي جعل الشمس ضياء " قرأ الأكثرون : " ضياء " بهمزة [ ص: 9 ] واحدة . وقرأ ابن كثير : " ضئاء " بهمزتين في كل القرآن ، أي : ذات ضياء . " والقمر نورا " أي : ذات نور . " وقدره منازل " أي : قدر له ، فحذف الجار والمعنى : هيأ ويسر له منازل . قال الزجاج : الهاء ترجع إلى " القمر " لأنه المقدر لعلم السنين والحساب . وقد يجوز أن يعود إلى الشمس والقمر ، فحذف أحدهما اختصارا . وقال الفراء : إن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ، لأن به تعلم الشهور ، وإن شئت جعلت التقدير لهما ، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه ، كقوله : والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة :62] . قال ابن قتيبة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة ، ثم يستسر . وهذه المنازل ، هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وأسماؤها عندهم كـ الشرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، والرشاء وهو الحوت .

قوله تعالى : " ما خلق الله ذلك إلا بالحق " أي : للحق، من إظهار صنعه وقدرته والدليل على وحدانيته . " يفصل الآيات " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : " يفصل " بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " نفصل الآيات " بالنون ، والمعنى : نبينها . " لقوم يعلمون " يستدلون بالأمارات على قدرته .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #276  
قديم 31-07-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (276)
صــ 10 إلى صــ 16


قوله تعالى : " لآيات لقوم يتقون " فيه قولان : أحدهما : يتقون الشرك . [ ص: 10 ] والثاني : عقوبة الله . فيكون المعنى : إن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق .

قوله تعالى : " لا يرجون لقاءنا " قال ابن عباس : لا يخافون البعث . " ورضوا بالحياة الدنيا " اختاروا ما فيها على الآخرة . " واطمأنوا بها " آثروها . و قال غيره : ركنوا إليها ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . " والذين هم عن آياتنا غافلون " فيها قولان : أحدهما : أنها آيات القرآن ومحمد ، قاله ابن عباس . والثاني : ما ذكره في أول السورة من صنعه ، قاله مقاتل . فأما قوله : " غافلون " فقال ابن عباس : مكذبون . وقال غيره : معرضون ، قال ابن زيد : وهؤلاء هم الكفار .

قوله تعالى :

بما كانوا يكسبون

قال مقاتل : من الكفر والتكذيب .

قوله تعالى : " يهديهم ربهم بإيمانهم " فيه أربعة أقوال : أحدها : يهديهم إلى الجنة ثوابا بإيمانهم . والثاني : يجعل لهم نورا يمشون به بإيمانهم . والثالث : يزيدهم هدى بإيمانهم . والرابع : يثيبهم بإيمانهم . فأما الهداية ، فقد سبقت لهم .

قوله تعالى : " تجري من تحتهم الأنهار " أي : تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو .

قوله تعالى : " دعواهم فيها " أي : دعاؤهم . وقد شرحنا ذلك في أول (الأعراف 5) .

وفي المراد بهذا الدعاء قولان :

أحدهما : أنه استدعاؤهم ما يشتهون . قال ابن عباس : كلما اشتهى أهل الجنة شيئا ، قالوا : " سبحانك اللهم " فيأتيهم ما يشتهون ; فإذا طعموا ، قالوا : " الحمد لله رب العالمين " فذلك آخر دعواهم . وقال ابن جريج : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : " سبحانك اللهم " فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم ، [ ص: 11 ] فيردون عليه : فذلك قوله : " وتحيتهم فيها سلام " . فإذا أكلوا ، حمدوا ربهم ، فذلك قوله : " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " .

والثاني : أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله تعالى في دعاء يدعونه به ، قالوا : " سبحانك اللهم " ، قاله قتادة .

قوله تعالى : " وتحيتهم فيها سلام " فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تحية بعضهم لبعض ، وتحية الملائكة لهم ، قاله ابن عباس . والثاني : أن الله تعالى يحييهم بالسلام . والثالث : أن التحية : الملك ، فالمعنى : ملكهم فيها سالم ذكرهما الماوردي .

قوله تعالى : " وآخر دعواهم " أي : دعاؤهم وقولهم : " أن الحمد لله رب العالمين " قرأ أبو مجلز ، وعكرمة ، ومجاهد ، و ابن يعمر ، وقتادة ، ويعقوب : " أن الحمد لله " بتشديد النون ونصب الدال . قال الزجاج : أعلم الله أنهم يبتدؤون بتعظيم الله وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون كلامهم بالتوحيد ، ويختمونه بالتوحيد .
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

قوله تعالى : " ولو يعجل الله للناس الشر " ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [الأنفال :8] . والتعجيل : تقديم الشيء قبل وقته . وفي المراد بالآية قولان :

أحدهما : ولو يعجل الله للناس الشر إذا دعوا على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم ، واستعجلوا به ، كما يعجل لهم الخير ، لهلكوا ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

[ ص: 12 ] والثاني : ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجل لهم خير الدنيا من المال والولد ، لعجل لهم قضاء آجالهم ليتعجلوا عذاب الآخرة ، حكاه الماوردي . ويقوي هذا تمام الآية وسبب نزولها . وقد قرأ الجمهور : " لقضي إليهم " بضم القاف " أجلهم " بضم اللام . وقرأ ابن عامر : " لقضى " بفتح القاف " أجلهم " بنصب اللام . وقد ذكرنا في أول (سورة البقرة :15) معنى الطغيان والعمه .
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون

قوله تعالى : " وإذا مس الإنسان الضر " اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في أبي حذيفة واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : أنها نزلت في عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، قاله عطاء . و " الضر " : الجهد والشدة . واللام في قوله : " لجنبه " بمعنى " على " . وفي معنى الآية قولان : أحدهما : إذا مسه الضر دعا على جنبه ، أو دعا قاعدا ، أو دعا قائما ، قاله ابن عباس . والثاني : إذا مسه الضر في هذه الأحوال ، دعا ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " فلما كشفنا عنه ضره مر " فيه ثلاثة أقوال .

أحدها : أعرض عن الدعاء ، قاله مقاتل ، والثاني : مر في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ، ولم يتعظ بما يناله ، قاله الزجاج . والثالث : مر طاغيا على ترك الشكر .

قوله تعالى : " كأن لم يدعنا " قال الزجاج : " كأن " هذه مخففة من الثقيلة ، المعنى : كأنه لم يدعنا ، قالت الخنساء :

[ ص: 13 ]
كأن لم يكونوا حمى يتقى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا


قوله تعالى : " كذلك زين للمسرفين " المعنى : كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء ، والإعراض عند الرخاء ، كذلك زين للمسرفين ، وهم المجاوزون الحد في الكفر والمعصية ، عملهم .
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين

قوله تعالى : " ولقد أهلكنا القرون من قبلكم " قال مقاتل : هذا تخويف لكفار مكة . والظلم هاهنا بمعنى الشرك . وفي قوله : " وما كانوا ليؤمنوا " قولان : أحدهما : أنه عائد على أهل مكة ، قاله مقاتل . والثاني : على القرون المتقدمة ، قاله أبو سليمان . قال ابن الأنباري : ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق وإيثارهم الباطل . وقال الزجاج : جائز أن يكون جعل جزاءهم الطبع على قلوبهم ، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم .

قوله تعالى : " كذلك نجزي " أي : نعاقب ونهلك " القوم المجرمين " يعني المشركين من قومك .
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون

قوله تعالى: " ثم جعلناكم خلائف " قال ابن عباس : جعلناكم يا أمة محمد خلائف ، أي : استخلفناكم في الأرض . وقال قتادة : ما جعلنا الله خلائف إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار .
[ ص: 14 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

قوله تعالى : " وإذا تتلى عليهم آياتنا " اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في مشركي مكة ، قاله مجاهد ، وقتادة . والمراد بالآيات : القرآن . " ويرجون " بمعنى : يخافون . وفي علة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان : أحدهما : أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة ، وآية الرحمة بالعذاب ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور ، لأنهم لا يؤمنون به ، وكرهوا عيب آلهتهم ، فطلبوا ما يخلو من ذلك ، قاله الزجاج . والفرق بين تبديله والإتيان بغيره ، أن تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه .

قوله تعالى : " ما يكون لي " حرك هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ; وأسكنها الباقون . " من تلقاء نفسي " حركها نافع ، وأبو عمرو ; وأسكنها الباقون ، والمعنى : من عند نفسي ، فالمعنى : أن الذي أتيت به ، من عند الله ، لا من عندي فأبدله . " إني أخاف " فتح هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو . " إن عصيت ربي " أي : في تبديله أو تغييره " عذاب يوم عظيم " يعني في القيامة .

فصل

وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بينا في نظيرتها في [ ص: 15 ] (الأنعام :15) . ومقصود الآيتين تهديد المخالفين ; وأضيف ذلك إلى الرسول ليصعب الأمر فيه .
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون .

قوله تعالى : " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم " يعني القرآن ; وذلك أنه كان لا ينزله علي ، فيأمرني بتلاوته عليكم . " ولا أدراكم به " أي : ولا أعلمكم الله به . قرأ ابن كثير : " ولأدراكم " بلام التوكيد من غير ألف بعدها ، يجعلها لاما دخلت على " أدراكم " . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " أدريكم " بالإمالة . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة ، وشيبة بن نصاح : " ولا أدرأتكم " بتاء بين الألف والكاف . " فقد لبثت فيكم عمرا " وقرأ الحسن ، والأعمش : " عمرا " بسكون الميم . قال أبو عبيدة : وفي العمر ثلاث لغات : عمر ، وعمر ، وعمر . قال ابن عباس : أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم بشيء من القرآن " أفلا تعقلون " أنه ليس من قبلي . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " يريد : إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا . والمجرمون هاهنا : المشركون .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #277  
قديم 31-07-2022, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (277)
صــ 17 إلى صــ 23



ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ ص: 16 ] قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم " أي : لا يضرهم إن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إن عبدوه ، قاله مقاتل ، والزجاج .

قوله تعالى : " ويقولون " يعني المشركين . " هؤلاء " يعنون الأصنام . قال أبو عبيدة : خرجت كنايتها على لفظ كناية الآدميين . وقد ذكرنا هذا المعنى في (الأعراف :191) عند قوله : " وهم يخلقون " وفي قوله : " شفعاؤنا عند الله " قولان : أحدهما : شفعاؤنا في الآخرة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا ، لأنهم لا يقرون بالبعث ، قاله الحسن .

قوله تعالى: " قل أتنبئون الله بما لا يعلم " قال الضحاك : أتخبرون الله أن له شريكا ، ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض .
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون

قوله تعالى : " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " قد شرحنا هذا في سورة (البقرة :213) وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحدين ، فاختلفوا وعبدوا الأصنام ، فكان أول من بعث إليهم نوح عليه السلام .

قوله تعالى : " ولولا كلمة سبقت من ربك " فيه ثلاثة أقوال .

أحدها : ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم ، لقضي بينهم بنزول العذاب ، فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون من الدين .

والثاني : أن الكلمة : أن لكل أمة أجلا ، وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته . [ ص: 17 ] والثالث : أن الكلمة : أنه لا يأخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه .

وفي قوله : " لقضي بينهم " قولان : أحدهما لقضي بينهم بإقامة الساعة . والثاني : بنزول العذاب على المكذبين .
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين

قوله تعالى : " ويقولون " يعني المشركين " لولا " أي : هلا " أنزل عليه آية من ربه " مثل العصا واليد وآيات الأنبياء . " فقل إنما الغيب لله " فيه قولان : أحدهما : أن سؤالكم : لم لم تنزل الآية ؟ غيب ، ولا يعلم علة امتناعها إلا الله .

والثاني : أن نزول الآية متى يكون ؟ غيب ، ولا يعلمه إلا الله

قوله تعالى : " فانتظروا " فيه قولان : أحدهما : انتظروا نزول الآية . والثاني : قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل .
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون

قوله تعالى : " وإذا أذقنا الناس رحمة " سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين ، أتاه أبو سفيان فقال : ادع لنا بالخصب ، فإن أخصبنا صدقناك ، فدعا لهم فسقوا ، ولم يؤمنوا ، ذكره الماوردي . قال المفسرون : المراد بالناس هاهنا : الكفار . وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الرحمة : العافية والسرور ، والضراء : الفقر والبلاء ، قاله ابن عباس .

[ ص: 18 ] والثاني : الرحمة : الإسلام ، والضراء : الكفر ، وهذا في حق المنافقين ، قاله الحسن .

والثالث : الرحمة : الخصب ، والضراء : الجدب قاله الضحاك .

وفي المراد بالمكر هاهنا أربعة أقوال : أحدها أنه الاستهزاء والتكذيب ، قاله مجاهد ، ومقاتل .

والثاني : أنه الجحود والرد ، قاله أبو عبيدة .

والثالث : أنه إضافة النعم إلى غير الله ، فيقولون : سقينا بنوء كذا ، قاله مقاتل بن حيان .

والرابع : أن المكر: النفاق ، لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " قل الله أسرع مكرا " أي : جزاء على المكر " إن رسلنا " يعني الحفظة " يكتبون ما تمكرون " أي : يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه . وقرأيعقوب إلا رويسا وأبا حاتم ، وأبان عن عاصم : " يمكرون " بالياء .
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ ص: 19 ] قوله تعالى : " هو الذي يسيركم " أي : الله الذي هو أسرع مكرا ، هو الذي يسيركم " في البر " على الدواب ، وفي البحر على السفن ، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : " ينشركم " بالنون والشين من النشر ، وهو في المعنى مثل قوله : وبث منهما رجالا كثيرا [النساء :2] . والفلك : السفن . قال الفراء : الفلك تذكر وتؤنث ، وتكون واحدة وتكون جمعا ، قال تعالى هاهنا : " جاءتها " فأنث ، وقال في (يس :41) (في الفلك المشحون ) فذكر .

قوله تعالى : " وجرين بهم " عاد بعد المخاطبة لهم إلى الإخبار عنهم . قال الزجاج : كل من أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز أن يرده إلى الغائب ، قال الشاعر :


شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنة مخرم


قوله تعالى : " بريح طيبة " أي : لينة . " وفرحوا بها " للينها . " جاءتها " يعني الفلك . قال الفراء : وإن شئت جعلتها للريح ، كأنك قلت : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف ، والعرب تقول : عاصف وعاصفة ، وقد عصفت الريح وأعصفت ، والألف لغة لبني أسد . قال ابن عباس : الريح العاصف : الشديدة . قال الزجاج : يقال عصفت الريح ، فهي عاصف وعاصفة ، وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة . " وجاءهم الموج من كل مكان " أي : من كل أمكنة الموج .

قوله تعالى : " وظنوا " فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى اليقين . والثاني : أنه التوهم . وفي قوله " أحيط بهم " قولان :

أحدهما : دنوا من الهلكة . قال ابن قتيبة : وأصل هذا أن العدو إذا أحاط [ ص: 20 ] ببلد ، فقد دنا أهله من الهلكة . وقال الزجاج : يقال لكل من وقع في بلاء : قد أحيط بفلان ، أي : أحاط به البلاء .

والثاني : أحاطت بهم الملائكة ، ذكره الزجاج .

قوله تعالى : " دعوا الله مخلصين له الدين " دون أوثانهم . قال ابن عباس : تركوا الشرك ، وأخلصوا لله الربوبية ، وقالوا : " لئن أنجيتنا من هذه " الريح العاصف " لنكونن من الشاكرين " أي : الموحدين .

قوله تعالى : " يبغون في الأرض " البغي : الترامي في الفساد . قال الأصمعي : يقال : بغى الجرح : إذا ترامى إلى فساد . قال ابن عباس : يبغون في الأرض بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد .

" يا أيها الناس " يعني أهل مكة . " إنما بغيكم على أنفسكم " أي : جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم . وقال الزجاج : عملكم بالظلم عليكم يرجع .

قوله تعالى : " متاع الحياة الدنيا " قرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وحفص ، وأبان عن عاصم : " متاع الحياة الدنيا " بنصب المتاع . قال الزجاج : من رفع المتاع ، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إنما تنتفعون به في الدنيا ، ومن نصب المتاع ، فعلى المصدر . فالمعنى : تمتعون متاع الحياة الدنيا . وقرأ أبو المتوكل ، واليزيدي في اختياره ، وهارون العتكي عن عاصم : " متاع الحياة " بكسر العين ، قال ابن عباس : " متاع الحياة الدنيا " ، أي : منفعة في الدنيا .
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت [ ص: 21 ] الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون

قوله تعالى: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء " هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية ، فشبهها بمطر نزل من السماء " فاختلط به نبات الأرض " يعني التف النبات بالمطر ، وكثر " مما يأكل الناس " من الحبوب وغيرها " والأنعام " من المرعى . " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها " قال ابن قتيبة : زينتها بالنبات . وأصل الزخرف : الذهب ، ثم يقال للنقش والنور والزهر وكل شيء زين : زخرف . وقال الزجاج : الزخرف كمال حسن الشيء .

قوله تعالى : " وازينت " قرأه الجمهور " وازينت " بالتشديد . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن يعمر : بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي : ، على وزن وأفعلت . قال الزجاج : من قرأ " وازينت " بالتشديد ، فالمعنى : وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي : ، وأسكنت الزاي : فاجتلبت لها ألف الوصل ; ومن قرأ " وأزينت " بالتخفيف على أفعلت ، فالمعنى : جاءت بالزينة . وقرأ أبي ، وابن مسعود : " وتزينت " .

قوله تعالى : " وظن أهلها " أي : أيقن أهل الأرض " أنهم قادرون عليها " أي : على ما أنبتته ، فأخبر عن الأرض ، والمراد النبات ، لأن المعنى مفهوم . " أتاها أمرنا " أي : قضاؤنا بإهلاكها " فجعلناها حصيدا " أي : محصودا لا شيء فيها . والحصيد : المقطوع المستأصل . " كأن لم تغن بالأمس " قال الزجاج : لم تعمر . والمغاني : المنازل التي يعمرها الناس بالنزول فيها . يقال : غنينا بالمكان : إذا نزلوا به . وقرأ الحسن : " كأن لم يغن " بالياء ، يعني الحصيد . قال بعض المفسرين : [ ص: 22 ] تأويل الآية : أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب ، حتى إذا استتم ذلك عند صاحبه ، وظن أنه ممتع بذلك ، سلب عنه بموته ، أو بحادثة تهلكه ، كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته ، فإذا تزينت به الأرض ، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك ، أهلكه الله ، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن .
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

قوله تعالى : " والله يدعو إلى دار السلام " يعني الجنة . وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله : " لهم دار السلام عند ربهم " [الأنعام :127] . واعلم أن الله عم بالدعوة وخص الهداية من شاء ، لأن الحكم له في خلقه .

وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال :

أحدها : كتاب الله ، رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : الإسلام ، رواه النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : الحق ، قاله مجاهد ، وقتادة . والرابع : المخرج من الضلالات والشبه ، قاله أبو العالية .

[ ص: 23 ] قوله تعالى : " للذين أحسنوا " قال ابن عباس : قالوا : لا إله إلا الله . قال ابن الأنباري : الحسنى : كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها ، لأن العرب توقعها على الخلة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها ، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها ، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرف من جهتها ، يدل على هذا قول امرئ القيس :


فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
ورضت فذلت صعبة أي إذلال

أي : إلى الأمر المحبوب . وهصرت بمعنى مددت . والغصن كناية عن المرأة . والباء مؤكدة للكلام ، كما تقول العرب : ألقى بيده إلى الهلاك ، يريدون : ألقى يده . والشماريخ كناية عن الذوائب . ورضت ، معناه : أذللت . ومن أجل هذا قال : أي إذلال ، ولم يقل : أي رياضة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #278  
قديم 31-07-2022, 11:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (278)
صــ 24 إلى صــ 30




وللمفسرين في المراد بالحسنى خمسة أقوال :

أحدها : أنها الجنة ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الأكثرون . والثاني : أنها الواحدة من الحسنات بواحدة ، قاله ابن عباس . والثالث : النصرة قاله عبد الرحمن بن سابط . والرابع : الجزاء في الآخرة ، قاله ابن زيد . والخامس : الأمنية ، ذكره ابن الأنباري . وفي الزيادة ستة أقوال :

أحدها : أنها النظر إلى الله عز وجل . روى مسلم في " صحيحه " من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل " . وبهذا القول قال أبو بكر الصديق ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والسدي ، ومقاتل .

والثاني : أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، رواه الحكم عن علي ، ولا يصح .

[ ص: 25 ] والثالث : أن الزيادة : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، قاله ابن عباس ، والحسن .

والرابع : أن الزيادة : مغفرة ورضوان ، قاله مجاهد .

والخامس : أن الزيادة : أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة ، قاله ابن زيد .

والسادس : أن الزيادة : ما يشتهونه ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " ولا يرهق " أي : لا يغشى " وجوههم قتر " وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش : " قتر " بإسكان التاء ، وفيه أربعة أقوال :

أحدها : أنه السواد . قال ابن عباس : سواد الوجوه من الكآبة . وقال الزجاج : القتر : الغبرة التي معها سواد . والثاني : أنه دخان جهنم ، قاله عطاء . والثالث : الخزي ، قاله مجاهد . والرابع : الغبار ، قاله أبو عبيدة .

وفي الذلة قولان :

أحدهما : الكآبة ، قاله ابن عباس . والثاني : الهوان ، قاله أبو سليمان .
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

قوله تعالى : " والذين كسبوا السيئات " قال ابن عباس : عملوا الشرك . " جزاء سيئة بمثلها " في الآية محذوف ، وفي تقديره قولان :

أحدهما : أن فيها إضمار " لهم " ، المعنى : لهم جزاء سيئة بمثلها ، وأنشد ثعلب :


فإن سأل الواشون عنه فقل لهم وذاك عطاء للوشاة جزيل

[ ص: 26 ] ملم بليلى لمة ثم إنه
لهاجر ليلى بعدها فمطيل


أراد : هو ملم ، وهذا قول الفراء .

والثاني : أن فيها إضمار " منهم " ، المعنى : جزاء سيئة منهم بمثلها ، تقول العرب : رأيت القوم صائم وقائم ، أي : منهم صائم وقائم ، أنشد الفراء :


حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود


أي : منه ملوي ، وهذا قول ابن الأنباري . وقال بعضهم : الباء زائدة هاهنا ، و " من " في قوله : " من عاصم " صلة ، والعاصم : المانع . " كأنما أغشيت وجوههم " أي : ألبست " قطعا " قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة : " قطعا " مفتوحة الطاء ، وهي جمع قطعة . وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، ويعقوب : " قطعا " بتسكين الطاء . قال ابن قتيبة : وهو اسم ما قطع . قال ابن جرير : وإنما قال : " مظلما " ولم يقل : " مظلمة " لأن المعنى : قطعا من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من " المظلم " فلما صار نكرة ، وهو من نعت الليل ، نصب على القطع ; وقوم يسمون ما كان كذلك حالا ، وقوم قطعا .
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين

قوله تعالى : " ويوم نحشرهم جميعا " قال ابن عباس : يجمع الكفار وآلهتهم . " ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم " أي : آلهتكم . قال الزجاج : [ ص: 27 ] " مكانكم " منصوب على الأمر ، كأنهم قيل لهم : انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم ، والعرب تتوعد فتقول : مكانك ، أي : انتظر مكانك ، فهي كلمة جرت على الوعيد .

قوله تعالى : " فزيلنا بينهم " وقرأ ابن أبي عبلة : " فزايلنا " بألف ، قال ابن عباس : فرقنا بينهم وبين آلهتهم . وقال ابن قتيبة : هو من زال يزول وأزلته . وقال ابن جرير : إنما قال " فزيلنا " ولم يقل : " فزلنا " لإرادة تكرير الفعل وتكثيره .

فإن قيل : " كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار ، لقوله : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " [الأنبياء :98]

فالجواب : أن الفرقة وقعت بتبري كل معبود ممن عبده ، وهو قوله : " وقال شركاؤهم " ، قال ابن عباس : آلهتهم ، ينطق الله الأوثان ، فتقول : " ما كنتم إيانا تعبدون " أي : لا نعلم بعبادتكم لنا ، لأنه ما كان فينا روح ، فيقول العابدون : بلى قد عبدناكم ، فتقول الآلهة : " فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين " لا نعلم بها . قال الزجاج : " إن كنا " معناه : ما كنا إلا غافلين .

فإن قيل : ما وجه دخول الباء في قوله : " فكفى بالله شهيدا " ؟

فعنه جوابان . أحدهما : أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا : أظرف بعبد الله ، وأنبل بعبد الرحمن ، وناهيك بأخينا ، وحسبك بصديقنا ، هذا قول الفراء وأصحابه . والثاني أنها دخلت توكيدا للكلام ، إذ سقوطها ممكن ، كما يقال : خذ بالخطام ، وخذ الخطام ، قاله ابن الأنباري .
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون

قوله تعالى : " هنالك تبلو " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : " تبلو " بالباء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وزيد عن يعقوب : [ ص: 28 ] " تتلو " بالتاء . قال الزجاج : " هنالك " ظرف ، والمعنى : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بتبلو ، إلا أنه غير متمكن ، واللام زائدة ، والأصل : هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة . " وتبلو " تختبر ، أي : تعلم ومن قرأ " تتلو " بتاءين فقد فسرها الأخفش وغيره : تتلو من التلاوة ، أي : تقرأ . وفسروه أيضا : تتبع كل نفس ما أسلفت . ومثله قول الشاعر :


قد جعلت دلوي تستتليني ولا أريد تبع القرين


أي : تستتبعني ، أي : من ثقلها تستدعي اتباعي إياها .

قوله تعالى : " وردوا " أي : في الآخرة " إلى الله مولاهم الحق " الذي يملك أمرهم حقا ، لا من جعلوا معه من الشركاء . " وضل عنهم " أي : زال وبطل " ما كانوا يفترون " من الآلهة .
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون

قوله تعالى : " قل من يرزقكم من السماء " المطر ، ومن الأرض النبات ، " أمن يملك السمع " أي : خلق السمع والأبصار . وقد سبق معنى إخراج الحي من الميت ، والميت من الحي . [آل عمران :27] .

قوله تعالى : " ومن يدبر الأمر " أي : أمر الدنيا والآخرة " فسيقولون الله " لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا الله ، فكان في ذلك دليل توحيده .

وفي قوله : " أفلا تتقون " قولان ; أحدهما : أفلا تتعظون ، قاله ابن عباس . والثاني : تتقون الشرك ، قاله مقاتل .
[ ص: 29 ] فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون

قوله تعالى : " فذلكم الله ربكم الحق " قال الخطابي : الحق هو المتحقق وجوده ، وكل شيء صح وجوده وكونه ، فهو حق .

قوله تعالى : " فأنى تصرفون " قال ابن عباس : كيف تصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت ؟
كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون

قوله تعالى : " كذلك حقت كلمت ربك " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : " كلمة ربك " ، وفي آخر السورة كذلك . وقرأ نافع ، وابن عامر الحرفين " كلمات " على الجمع .

قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي : مثل أفعالهم جازاهم ربك والمعنى : حق عليهم أنهم لا يؤمنون . وقوله : " أنهم لا يؤمنون " بدل من " كلمة ربك " . وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، وتكون الكلمة ما وعدوا به من العقاب .

وذكر ابن الأنباري في " كذلك " قولين :

[ ص: 30 ] أحدهما : أنها إشارة إلى مصدر " تصرفون " ، والمعنى : مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك .

والثاني : أنه بمعنى هكذا .

وفي معنى " حقت " قولان : أحدهما : وجبت . والثاني : سبقت .

وفي كلمته قولان : أحدهما : أنها بمعنى وعده . والثاني : بمعنى قضائه . ومن قرأ " كلمات " جعل كل واحدة من الكلم التي توعدوا بها كلمة . وقد شرحنا معنى الكلمة في (الأعراف :137 و158)

قوله تعالى : " قل الله يهدي للحق " أي : إلى الحق .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #279  
قديم 31-07-2022, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (279)
صــ 31 إلى صــ 37




قوله تعالى : " أمن لا يهدي " قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وورش عن نافع : " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال . قال الزجاج : الأصل يهتدي ، فأدغمت التاء في الدال ، فطرحت فتحتها على الهاء . وقرأ نافع إلا ورشا ، وأبو عمرو : " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال ، غير أن أبا عمرو كان يشم الهاء شيئا من الفتح . وقرأ حمزة ، والكسائي : " يهدي " بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال . قال أبو علي : والمعنى : لا يهدي غيره إلا أن يهدى هو ، ولو هدي الصم لم يهتد ، ولكن لما جعلوها كمن يعقل ، أجريت مجراه . وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم : " يهدي " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضل وعبد الوارث ، قال الزجاج : أتبعوا الكسرة الكسرة ، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء . وروى حفص عن عاصم ، والكسائي عن أبي بكر عنه : " يهدي " بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، قال الزجاج : وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء ، إلا أن الهاء كسرت لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن السميفع : " يهتدي " بزيادة تاء . والمراد بقوله : " أم من لا يهدي " الصم [ ص: 31 ] " إلا أن يهدى " . وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إن هديت اهتدت وليست كذلك ، لأنها حجارة لا تهتدي ، إلا أنهم لما اتخذوها آلهة ، عبر عنها كما يعبر عمن يعقل ، ووصفت صفة من يعقل وإن لم تكن في الحقيقة كذلك ; ولهذا المعنى قال في صفتها : " أمن " لأنهم جعلوها كمن يعقل . ولما أعطاها حقها في أصل وضعها ، قال : " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع " [مريم :42] . وقال الفراء : " أمن لا يهدي " أي : أتعبدون ما لا يقدر أن ينتقل من مكانه إلا أن يحول ؟ وقد صرف بعضهم الكلام إلى الرؤساء والمضلين ، والأول أصح .

قوله تعالى : " فما لكم " قال الزجاج : هو كلام تام ، كأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة الأوثان ؟ ثم قيل لهم : " كيف تحكمون " أي : على أي حال تحكمون ؟ وقال ابن عباس : كيف تقضون لأنفسكم ؟ وقال مقاتل : كيف تقضون بالجور ؟
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون

قوله تعالى : " وما يتبع أكثرهم " أي : كلهم " إلا ظنا " أي : ما يستيقنون أنها آلهة ، بل يظنون شيئا فيتبعونه . " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " أي : ليس هو كاليقين ، ولا يقوم مقام الحق وقال مقاتل : ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئا ، وقال غيره : ظنهم أنها تشفع لهم لا يغني عنهم .
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين

[ ص: 32 ] قوله تعالى : " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله " قال الزجاج : هذا جواب قولهم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله [يونس :15] وجواب قولهم : افتراه [الفرقان :4] . قال الفراء : ومعنى الآية : ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، فجاءت " أن " على معنى ينبغي . وقال ابن الأنباري : يجوز أن تكون " أن " مع " يفترى " مصدرا ، وتقديره : وما كان هذا القرآن افتراء . ويجوز أن تكون " كان " تامة فيكون المعنى : ما نزل هذا القرآن ، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى ، وبأن يفترى ، فتنصب " أن " بفقد الخافض في قول الفراء ، وتخفض بإضمار الخافض في قول الكسائي . وقال ابن قتيبة : معنى " أن يفترى " أي : يضاف إلى غير الله ، أو يختلق .

قوله تعالى : " ولكن تصديق الذي بين يديه " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه تصديق الكتب المتقدمة ، قاله ابن عباس . فعلى هذا ، إنما قال : " الذي " لأنه يريد الوحي .

والثاني : ما بين يديه من البعث والنشور ، ذكره الزجاج .

والثالث : تصديق النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين يدي القرآن ، لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن ، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى : " وتفصيل الكتاب " أي : وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرائض التي فرضها عليهم .
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

قوله تعالى : " أم يقولون افتراه " في " أم " قولان : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، قاله أبو عبيدة . والثاني : بمعنى بل ، قاله الزجاج .

[ ص: 33 ] قوله تعالى : " فأتوا بسورة مثله " قال الزجاج : المعنى : فأتوا بسورة مثل سورة منه ، فذكر المثل لأنه إنما التمس شبه الجنس ، " وادعوا من استطعتم " ممن هو في التكذيب مثلكم " إن كنتم صادقين " أنه اختلقه .
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

قوله تعالى : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " فيه قولان : أحدهما : أن المعنى : بما لم يحيطوا بعلم ما فيه ذكر الجنة والنار والبعث والجزاء . والثاني : بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به ، لأنهم شاكون فيه .

وفي قوله : " ولما يأتهم تأويله " قولان : أحدهما : تصديق ما وعدوا به من الوعيد . والتأويل : ما يؤول إليه الأمر . والثاني : ولم يكن معهم علم تأويله ، قاله الزجاج .

قيل لسفيان بن عيينة : يقول الناس : كل إنسان عدو ما جهل ، فقال : هذا في كتاب الله . قيل : أين ؟ فقال : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " .

وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن : من جهل شيئا عاداه ؟ فقال : نعم ، في موضعين . قوله : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " وقوله : وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [الأحقاف :11]
ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

قوله تعالى : " ومنهم من يؤمن به " في المشار إليهم قولان :

[ ص: 34 ] أحدهما : أنهم اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : قريش ، قاله مقاتل بن سليمان .

وفي هاء " به " قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، قاله مقاتل . والثاني : إلى القرآن ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

وهذه الآية تضمنت الإخبار عما سبق في علم الله ، فالمعنى : ومنهم من سيؤمن به . وقال الزجاج : منهم من يعلم أنه حق فيصدق به ويعاند فيظهر الكفر ، " ومنهم من لا يؤمن به " أي : يشك ولا يصدق .

قوله تعالى : " وربك أعلم بالمفسدين " قال عطاء : يريد المكذبين ، وهذا تهديد لهم .
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي . . . " الآية . قال أبو صالح عن ابن عباس : نسختها آية السيف ; وليس هذا بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين .
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون

قوله تعالى : ومنهم من يستمعون إليك اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : في يهود المدينة ، كانوا يأتون رسول الله ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشقاء ، فنزلت هذه الآية .

والثاني : أنها نزلت في المستهزئين ، كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم للاستهزاء والتكذيب ، فلم ينتفعوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، والقولان مرويان عن ابن عباس .

[ ص: 35 ] والثالث : أنها نزلت في مشركي قريش ، قاله مقاتل . قال الزجاج : ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم . " ولو كانوا لا يعقلون " أي : ولو كانوا مع ذلك جهالا . وقال ابن عباس : يريد أنهم شر من الصم ، لأن الصم لهم عقول وقلوب ، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم .
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون

قوله تعالى : " ومنهم من ينظر إليك " قال ابن عباس ; يريد : متعجبين منك . أفأنت تهدي العمي " يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون . وقال الزجاج : ومنهم من يقبل عليك بالنظر ، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى . وقال ابن جرير : ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى حججك على نبوتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيق . وقال مقاتل : و " لو " في الآيتين بمعنى " إذا " .
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون .

قوله تعالى : " إن الله لا يظلم الناس شيئا " لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة ، أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم ، لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ، وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم بذلك ، لأن الفعل منسوب إليهم ، وإن كان بقضاء الله .

قوله تعالى : " ولكن الناس " قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : " ولكن الناس " بتخفيف النون وكسرها ، ورفع الاسم بعدها .
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين

[ ص: 36 ] قوله تعالى : " ويوم نحشرهم " وقرأ حمزة : " يحشرهم " بالياء . قال أبو سليمان الدمشقي : هم المشركون .

قوله تعالى : " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار " فيه قولان :

أحدهما : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، قاله ابن عباس . والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل . قال الضحاك : قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم ، فصار كالساعة من النهار ، لهول ما استقبلوا من القيامة .

قوله تعالى : " يتعارفون بينهم " قال ابن عباس : إذا بعثوا من القبور تعارفوا ، ثم تنقطع المعرفة . قال الزجاج : وفي معرفة بعضهم بعضا ، وعلم بعضهم بإضلال بعض ، التوبيخ لهم ، وإثبات الحجة عليهم . وقيل : إذا تعارفوا وبخ بعضهم بعضا ، فيقول هذا لهذا : أنت أضللتني ، وكسبتني دخول النار .

قوله تعالى : " قد خسر الذين كذبوا " هو من قول الله تعالى ، لا من قولهم ، والمعنى : خسروا ثواب الجنة إذ كذبوا بالبعث " وما كانوا مهتدين " من الضلالة .
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

قوله تعالى : " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " قال المفسرون : كانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته من عذابهم . " أو نتوفينك " قبل أن نريك " فإلينا مرجعهم " بعد الموت ، والمعنى : إن لم ننتقم منهم عاجلا ، انتقمنا آجلا .

قوله تعالى : " ثم الله شهيد على ما يفعلون " من الكفر والتكذيب . قال [ ص: 37 ] الفراء : " ثم " هاهنا عطف ، ولو قيل : معناها هناك الله شهيد ، كان جائزا . وقال غيره : " ثم " هاهنا بمعنى الواو . وقرأ ابن أبي عبلة : " ثم الله شهيد " بفتح الثاء ، يراد به : هنالك الله شهيد .

قوله تعالى : " فإذا جاء رسولهم قضي بينهم " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : إذا جاء في الدنيا بعد الإذن له في دعائهم ، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم ، قاله الحسن . وقال غيره : إذا جاءهم في الدنيا ، حكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة والمعصية .

والثاني : إذا جاء يوم القيامة ، قاله مجاهد . وقال غيره : إذا جاء شاهدا عليهم .

والثالث : إذا جاء في القيامة وقد كذبوه في الدنيا ، قاله ابن السائب .

قوله تعالى : " قضي بينهم بالقسط " فيه قولان : أحدهما : بين الأمة ، فأثيب المحسن وعوقب المسيء . والثاني : بينهم وبين نبيهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #280  
قديم 31-07-2022, 11:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الرابع
سُورَةُ يُونُسَ
الحلقة (280)
صــ 38 إلى صــ 44


ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين

قوله تعالى : " ويقولون متى هذا الوعد " في القائلين هذا قولان :

أحدهما : الأمم المتقدمة ، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم ، قاله ابن عباس .

والثاني : أنهم المشركون الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو سليمان .

وفي المراد بالوعد قولان : أحدهما : العذاب ، قاله ابن عباس . والثاني : قيام الساعة . " إن كنتم صادقين " أنت وأتباعك .
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه [ ص: 38 ] المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون

قوله تعالى : " قل لا أملك لنفسي ضرا . . . " الآية ، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من (الأعراف :34 و188) .

قوله تعالى : " إن أتاكم عذابه بياتا " قال الزجاج : البيات : كل ما كان بليل . وقوله : " ماذا " في موضع رفع من جهتين . إحداهما : أن يكون " ذا " بمعنى الذي ، المعنى : ما الذي يستعجل منه المجرمون ؟ ويجوز أن يكون " ماذا " اسما واحدا ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون ؟ والهاء في " منه " تعود على العذاب . وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى ؟ وعودها على العذاب أجود ، لقوله : " أثم إذا ما وقع آمنتم به " . وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين : المشركون ، وكانوا يقولون : نكذب بالعذاب ونستعجله ، ثم إذا وقع العذاب آمنا به ; فقال الله تعالى موبخا لهم : " أثم إذا ما وقع آمنتم به " أي : هنالك تؤمنون فلا يقبل منكم الإيمان ، ويقال لكم : الآن تؤمنون ؟ فأضمر : تؤمنون به مع " آلآن وقد كنتم به تستعجلون " مستهزئين ، وهو قوله : " ثم قيل للذين ظلموا " أي : كفروا ، عند نزول العذاب " ذوقوا عذاب الخلد " لأنه إذا نزل بهم العذاب ، أفضوا منه إلى عذاب الآخرة الدائم .
ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين

قوله تعالى : " ويستنبئونك " أي : ويستخبرونك " أحق هو " يعنون البعث [ ص: 39 ] والعذاب . " قل إي " المعنى : نعم " وربي " وفتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو . وإنما أقسم مع إخباره تأكيدا . وقال ابن قتيبة : " إي " بمعنى " بل " ولا تأتي إلا قبل اليمين صلة لها .

قوله تعالى : " وما أنتم بمعجزين " قال ابن عباس : بسابقين . وقال الزجاج : لستم ممن يعجز أن يجازى على كفره .
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون

قوله تعالى : " ولو أن لكل نفس ظلمت " قال ابن عباس : أشركت . " ما في الأرض لافتدت به " عند نزول العذاب . " وأسروا الندامة " يعني : الرؤساء أخفوها من الأتباع . " وقضي بينهم " أي : بين الفريقين . وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضل : " أسروا الندامة " بمعنى أظهروا ، لأنه ليس بيوم تصنع ولا تصبر ، والإسرار من الأضداد ; يقال : أسررت الشيء ، بمعنى : أخفيته . وأسررته : أظهرته ، قال الفرزدق :


ولما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا


يعني : أظهر . فعلى هذا القول : أظهروا الندامة عند إحراق النار لهم ، لأن [ ص: 40 ] النار ألهتهم عن التصنع والكتمان . وعلى الأول : كتموها قبل إحراق النار إياهم .

وقوله تعالى : " ألا إن وعد الله حق " قال ابن عباس : ما وعد أولياءه من الثواب ، وأعداءه من العقاب . " ولكن أكثرهم " يعني المشركين " لا يعلمون " .
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين

قوله تعالى : " يا أيها الناس " قال ابن عباس : يعني قريشا . " قد جاءتكم موعظة " يعني القرآن . " وشفاء لما في الصدور " أي : دواء لداء الجهل . " وهدى " أي : بيان من الضلالة .
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

قوله تعالى : " قل بفضل الله وبرحمته " فيه ثمانية أقوال :

أحدها : أن فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وهلال بن يساف . وروي عن الحسن ، ومجاهد في بعض الرواية عنهما ، وهو اختيار ابن قتيبة .

والثاني : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : أن جعلهم من أهل القرآن ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال أبو سعيد الخدري ، والحسن في رواية .

والثالث : أن فضل الله : العلم ، ورحمته : محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والرابع : أن فضل الله : الإسلام ، ورحمته تزيينه في القلوب ، قاله ابن عمر .

والخامس : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإسلام ، قاله الضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابنه ومقاتل .

[ ص: 41 ] والسادس : أن فضل الله ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، واختاره الزجاج .

والسابع : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : السنة ، قاله خالد بن معدان .

والثامن : فضل الله : التوفيق ، ورحمته : العصمة ، قاله ابن عيينة .

قوله تعالى : " فبذلك فليفرحوا " وقرأ أبي بن كعب ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وأبو العالية ، ورويس عن يعقوب : " فلتفرحوا " بالتاء . وقرأ الحسن ، ومعاذ القارئ ، وأبو المتوكل مثل ذلك ، إلا أنهم كسروا اللام . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : " فبذلك فافرحوا " . قال ابن عباس : بذلك الفضل والرحمة . " هو خير مما يجمعون " أي : مما يجمع الكفار من الأموال . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ورويس : " تجمعون " بالتاء ، وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله : " بفضل الله " خبر لاسم مضمر ، تأويله : هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله ورحمته ، فبذلك التطول من الله فليفرحوا .
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

قوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق " قال المفسرون : هذا خطاب لكفار قريش ، كانوا يحرمون ما شاؤوا ، ويحلون ما شاؤوا . و " أنزل " بمعنى خلق . وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في (المائدة :103) و(الأنعام :139) .

قوله تعالى : " قل آلله أذن لكم " أي : في هذا التحليل والتحريم .
[ ص: 42 ] وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون

قوله تعالى : " وما ظن الذين يفترون على الله الكذب " في الكلام محذوف ، تقديره : ما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم ، " إن الله لذو فضل على الناس " حين لم يعجل عليهم بالعقوبة " ولكن أكثرهم لا يشكرون " تأخير العذاب عنهم .
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين

قوله تعالى : " وما تكون في شأن " أي : في عمل من الأعمال ، وجمعه : شؤون . " وما تتلو منه " في هاء الكناية قولان :

أحدهما : أنها تعود إلى الشأن . قال الزجاج : معنى الآية : أي وقت تكون في شأن من عبادة الله ، وما تلوت من الشأن من قرآن .

والثاني : أنها تعود إلى الله تعالى ، فالمعنى : وما تلوت من الله ، أي : من نازل منه من قرآن ، ذكره جماعة من العلماء . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته داخلون فيه ، بدليل قوله : " ولا تعملون من عمل " قال ابن الأنباري : جمع في هذا ، ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين .

قوله تعالى : " إذ تفيضون فيه " الهاء عائدة على العمل . قال ابن قتيبة : تفيضون بمعنى تأخذون فيه . وقال الزجاج : تنتشرون فيه ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إذا انتشروا فيه وخاضوا . " وما يعزب " معناه : وما يبعد . وقال ابن قتيبة : [ ص: 43 ] ما يبعد ولا يغيب . وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي هاهنا وفي (سبإ :3) . وقد بينا " مثقال ذرة " في سورة (النساء :40) .

قوله تعالى : " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما . وقرأ حمزة ، وخلف ، ويعقوب برفع الراء فيهما . قال الزجاج : من قرأ بالفتح ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ، ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر ، والموضع موضع خفض ، إلا أنه فتح لأنه لا ينصرف . ومن رفع ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر . ويجوز رفعه على الابتداء ، فيكون المعنى ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، " إلا في كتاب مبين " قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم

قوله تعالى : " ألا إن أولياء الله " روى ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، من أولياء الله ؟ قال " الذين إذا رؤوا ذكر الله " . وروى عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عز وجل " قالوا : يا رسول الله ، من هم ، وما أعمالهم لعلنا نحبهم ؟ قال " هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم [ ص: 44 ] ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس " ، ثم قرأ " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "

قوله تعالى : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو ترى له ، رواه عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني : أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت ، قاله الضحاك ، وقتادة ، والزهري .

والثالث : أنها ما بشر الله به في كتابه من جنته وثوابه ، كقوله : وبشر الذين آمنوا [البقرة :25] ، وأبشروا بالجنة [فصلت :30] ، يبشرهم ربهم [التوبة :21] ، وهذا قول الحسن ، واختاره الفراء ، والزجاج ، واستدلا بقوله : " لا تبديل لكلمات الله " . قال ابن عباس : لا خلف لمواعيده ، وذلك أن مواعيده بكلماته ، فإذا لم تبدل الكلمات ، لم تبدل المواعيد .

فأما بشراهم في الآخرة ، ففيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها الجنة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واختاره ابن قتيبة .

[ ص: 45 ] والثاني : أنه عند خروج الروح تبشر برضوان الله ، قاله ابن عباس .

والثالث : أنها عند الخروج من قبورهم ، قاله مقاتل .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 481.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 475.75 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]