|
|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
المعطف الأبيض (قصة)
المعطف الأبيض (قصة) السيد شعبان جادو الصمت يغلِّف المكان، لا يكاد يسمع غير أنفاسه تتردَّد في صدره، نظرات عينيه تنظر في سقف الحجرة، الأبواب مؤصدة، حتى الطيور لم يَعُد لها صوت، تُرى ماذا حدث الليلةَ؟ كانت الكلاب منذ ساعتين في وصلة نُباح لا ينقطع، هل جاؤوا؟ لقد أعدَّ عصاه لهذا الخطر، به خوفٌ من المجهول، من غير المعقول أن يرتهن في هذه الحجرة النائية، والعالمُ من حوله يَعِجُّ بالحياة، أمَا كفَاه أنه أغلَق قلبه، ثَمة صمتٌ قاتل تسرَّب إليه، غدا أسيرَ كتابه، حتى شهادة الطب التي كانت الفرحة الكبرى تحوَّلت إلى سرابٍ بقِيعَةٍ، تحطَّمت آماله، ما الذي أيْئَسَه من الحياة؟ هل لأنها رفضتْه؟ أم لأن المجتمع لا يَعترف به؟ لقد وقع في صدام مع نفسه يوم تخلَّت عنه ورحلت، وقبِلت بعادل. وماذا بعد؟ هي حرة في قرارها، لم تشأ أن تربط مصيرها برجل مثله مجهول الأب، المجتمع سيفه حادٌّ، لن يرحَم الصغار، سيَظل بلا هُوية حتى ولو علَّق ألف لافتة تُخبر أنه الطبيب! الأبناء معلَّقون بسلسلة نسَبِ آبائهم، تلك حقيقة لا يُمكن التبرؤ منها. فرَّ إلى هذه الحجرة، ولأن أفكاره هي الأخرى تَشي به، الناس في حالة من عدم الاتزان، الكل متهم، الآمال العِراض في بزوغ فجر جديد داستْ عليها الأقدامُ الغليظة، طاردتْه ومِن ثَم اجتمع عليه همُّ فَقْد حبيبته، وضياع حُلمه! انزوى وحيدًا إلا مِن ذكرى تُؤرِّقه، بدأت الرغبة تستبد به، كرِه ذلك القميص الذي ارتداه يومًا فارًّا بنفسه بعد المحنة الكبرى، آنَ له أن يرتدي المِعطف الأبيض، لكن أنَّى له أن يُخبر من حوله أنه طبيب؟! تسرَّبت إلى ذهنه فكرةٌ، سيذهب إلى المدرسة، يعرف الناظر جيدًا، سيَطلب منه أن يرى الأطفال، عليه أن يرتدي المِعطف الأبيض، سمَّاعة الأذن ما أجملها وهي تتدلَّى على صدره مثل وشاح التميز! ثمة عائق يَمنعه من أن يخرج من شرنقته التي تُحيط به، اللوائح يا لها من قيود بلا قلب، تقف أمامه عند كلِّ منعطف، تَمنعه أن يعيش إنسانًا ينتمي لهذا الوطن. ابن إنسان هو حتى ولو جاء به سِفاحًا، ليست جنايته أنْ طرَق باب الحياة مُشوَّه النَّسَب، ذاكَر واجتهَد، أراد أن يأخذ من المجتمع شهادة ثبوت بأنه جدير بالانتماء، كان يشعر أنه يومًا ستأتي العاصفة لتزيل ذلك الركام، حتى الثورة عايَشها بكل خلية من جسده، في المشفى الميداني افتخر بمعطفه الأبيض، رغم أن لونه استحال إلى حمرة، لكنه كان يسعى إلى ميلاد جديد، أن يكون من هؤلاء الذين يَغرسون جذورهم بعُمق في رصيف الميدان، الخيل والبغال والحمير عجَزت أن تذهب بأمله، يومها تعلَّق بها، شاركتْه الفرحة الكبرى، يوم أن سقَط القناع الزائف الذي عاش عمره مُرتهنًا بغبائه، رفرفت السعادة مثل طائر الأَيك، الهُتاف صار دويًّا، زَخات من العزيمة زغردت في سماء الوطن، لم يكن منتميًا إلا لهذا النهر، حمِيتْ بجسده ليالي الميدان الثماني عشرة، عاش العمر هنا، هُويته أن يكون معهم، أن يَرتجل البسمة، ويقتات الحب! ثم كانت العروس التي أجهضها الوباء الأصفر، اغتال فيها لحظات الأمل، ارتدتْ مسوح الحزن، أيامها حِداد متواصل! انتزعوا منه المعطف الأبيض، لا أبَ لك، هكذا قالوا، توالت في صلفٍ كلماتُهم، نصل حادٌّ، بل بصقة حمقاء طوتْ حُلمه، وألقتْ به في وادي السراب، لن يبقى هكذا مُحطمًا، عليه أن يدَعَ عينه ترى الضوءَ، ولو مِن ثَقْبِ إبرة.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |