ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 187 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28432 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60058 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 833 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-06-2021, 03:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم

ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم (1/2)


أ. طاهر العتباني





للشاعر صهيب محمد خير يوسف (2/1)


صهيب محمد خير يوسف يوسف شاعرٌ سوري شاب، ينتمي إلى مدرسة الأدب الإسلامي، صدر له ديوانان شعريان:
• الأول: تكوين حلم، صدر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، فائزاً بالمركز الأول في فئة الشعر من جائزة الشارقة للإبداع العربي – الدورة الثانية عشرة: 2008 - 2009م.
• الثاني: يوميات خلوق، وهو ديوان شعر للأطفال فاز بجائزة دولة قطر لأدب الطفل – الدورة الثانية - 2009م.

في هذه المقالة نتعرض لديوانه الأول (تكوين حلم) باعتباره إنجازاً شعريًّا متميزاً في مجال الكتابة الشعرية التي يلتقي فيها رافِدَا التراث والمعاصرة، كما يحمل في طياته قدراً كبيراً من الحساسية الشعرية ذات المذاق الحداثي الذي يأخذ من الحداثة إضافتها في الناحية الفنية الخالصة، وإن خالفها في مقولاتها الأيديولوجية التي تتبناها مثل القطيعة مع التراث، فهو ينغمر في التراث ويستوعبه ويستوحيه ويمتح من معينه، بنفس القدر الذي يعانق فيه أصداء الحداثة والتحديث في بعده الفني الخالص.

والسِّر في هذا الموقف الذي يصنعه الشاعر من خلال الديوان (تكوين حلم) هو انتماؤه – كما أشرنا – إلى دوحة الشعر الإسلامي المعاصر التي مدَّت جذورها في تربتنا الثقافية المعاصرة وأصبح لها عددٌ من الروَّاد الأوَل الذين مهَّدوا سبيلَها وارتقَوا بنماذجها، من أمثال نجيب الكيلاني ومحمود مفلح وعبد الله عيسى السلامة وعبد الرحمن العشماوي، ثم سيراً على الدرب جاء الجيل التالي الذي حاول تطوير القصيدة في بُعدها الفني وتعانُقها مع أصداء العصر وحساسيته الجديدة.

ومع ديوان تكوين حلم نكُون مع صورة من الجيل الثالث أو الرابع، أو من طلائعه، حيث يسير بالقصيدة مدًى أبعد، مُدركاً أن العمل الشعري المعاصر يحمل - أو يجب أن يحمل - قدراً من الخصوصية الفنية، ليشكل إضافة فنية لصياغات مدرسة الشعر الإسلامي المعاصر.

لا يقف الشاعر عند معطيات القصيدة العمودية التقليدية ليردد ما قال السابقون، ولكنه يحمل على عاتقه عبءَ الإضافة والتجديد والتحديث والتميز، ويصنع لنفسه حلماً يكوِّنه بنفسه، مرتكزاً على عددٍ من الأُسس، منها:
1- الموقف الإسلامي الملتزم بقضايا الأمة وإرثها الحضاري ومقوماتها التاريخية في الزمان والمكان.
2- الإصرار على التجديد والإضافة التي تتمثل التراث وتعيه ولا تنفصل عنه، ولكنها في ذات الوقت لا تمثِّل تكرارية ولا ترديداً لِما سبق.
3- الاستفادة من عطاءات المدارس الأدبية المختلفة والحداثية منها على وجه التحديد، واستلهام تجديداتها الشكلية، وتنزيل هذه العطاءات في إطار الرؤيا الإسلامية للشعر.


وإذا أردنا الدخول إلى عالم الديوان فستقابلنا في القصيدة الأولى ملامح تشي بالرؤيا الأساسية التي يحتويها الديوان والتي ترتكز على محاورَ ثلاثة:
المحور الأول: الحلم، والذي يؤكد حضوره بقوة في الديوان عنوان الديوان نفسه (تكوين حلم)، والذي تتكون مفرداته من الجامع الأموي الذي يمثل الرمز الإسلامي لحقبة من حقب الازدهار الإسلامي الأول في عصر بني أمية الذين كانت دمشق عاصمة لهم، كما مثلت للشاعر في نفس الوقت موطناً وحلماً. وهنا يظهر المحور الثاني للرؤيا: الوطن الذي يفتش عنه الشاعر ويبحث لعله يجده. ومن ثم يتبدى المحور الثالث لهذه الرؤيا الشعرية: الذات، التي تتشبث بالحلم وتبحث عن وطن:
- مَمَرٌّ يؤدِّيْ إلى الجامِعِ الأُمَوِيِّ -
رأَيتُ دِمَشقَ القَديمةَ تَجْتَرِحُ العابرينَ،
تُضِيءُ أصابِعَها،
وتُضيءُ القَمَرْ
ورأيتُ التَّراتيلَ تَخْضَرُّ غُصْناً فَغُصناً
لِتبقَى دمشقُ مُضمَّخةً بِجَلالِ السُّوَرْ
ورأيتُ المآذِنَ تتَّكِئُ الياسَمِينَ،
تُلَوِّحُ بالسِّندِيانِ إلى بَرَدَى،
وتُردِّدُ بَيْنَ القَناديلِ تَكْبِيرَها
في مَهَبِّ السَّفَرْ
.. بينَ تلكَ المآذِنِ كُنتُ أُفَتِّشُ عنْ وطَنٍ،
وَأُؤَلِّفُ وَعْدَ المَطَرْ... ( الديوان: 5 - 6).

نجد أنفسنا في هذه القصيدة الافتتاحية، أو القصيدة المفتاح، أمام خلاصة الرؤيا وأعمدتها الأساسية التي تنبثُّ في كل قصائد الديوان بشكل أو بآخر.

كما نجد مفرداتها تتمثل في (الجامع الأموي – دمشق – تضيء – التراتيل – المآذن – بردى – القناديل – التكبير – وطن). كل هذه المفردات ذات العمق والحس الإسلامي تعمِّق من عُمُد الرؤيا الأساسية (الحلم – الوطن – الذات)، وتعطي لها نكهة إسلامية واضحة تشي بالعمق الحضاري والتاريخي الذي يرتكز عليه الشاعر، وهو ما سنلاحظه عبر الديوان كلِّه، ففي كل قصائده سيلحظ القارئ هذا الطعم المتميز للمفردات المستعملة في الديوان، كما يؤكد عنوان القصيدة (بين القناديل) أن لحظة صناعة الحلم والتفتيش عن الوطن يلزمها زخم كبير من وضوح الرؤيا فتكون القناديل هي الكاشف للحظة توحد الذات مع الحلم والوطن.

والحلم لا يتكون بسهولة، ورغم ذلك فإنه يحاول أن يتكون، لكن عقبةً كأداء تقف في طريق تكوينه:
(فاللَّيلُ مازالَ مُلتَصِقاً بالسَّماءِ) الديوان: 7.

ولكن الذات التي تصنع الحلم لا تنتظر حتى يصنع، إنها تمتد لتكوِّن صورة الحلم نفسه:
أنا صُورةُ الحُلْمِ في الأَرضِ
حَيًّا سأَخرُجُ مِن جُثَّتيْ،
وأَسِيرُ قُروناً تُخادِعُني بالجِهاتِ
.. خُذِينيْ لأَبْعَدَ مِن جُثَّتيْ يا جِهاتُ:
إلى واقِعِيْ المُشتَهَى
أوْ إلى سِدرَةِ المُنتَهَى ( الديوان: 7).

ثم ها هو يوجه الذات لتكُون على قدر عظمة الحلم:
- للتَّوَحُّدِ في صَحْوَةِ الحُلْمِ كُنْ جامِحاً وأنِيقاً كَحُلْمِكَ،
واتْبَعْ حَنِينَكَ حِينَ يُناديْ الغِيابَ
.. وفكِّرْ:
أيَكْفِيْ السُّقُوطُ الأخيرُ لأَطْوِيَ مِن أَجْلِهِ كُلَّ حُلْمِيْ؟! -. (الديوان: 8).

إنه يتشبث بالحلم ويؤكد أن الذات يجب أن تكون على قدر الحلم جموحاً وأناقة، ولا يعترف بالفشل الذي قد تكرر مراتٍ، فعبارة (السقوط الأخير) تشي بأن محاولة تكوين الحلم ولحظاتِ صحوِهِ قد تكررت، ولكن ذلك لا يعني طيَّ صفحات ذلك الحلم، بل يعني معاودة تكوينه مرةً أخرى، بل مراتٍ أخرى.

وإذا كانت الذات تتحمل كل هذه العذابات وهي تحاول تكوين الحلم، فإنها تتوحد مع الآخرين الذين يتمثل فيهم الوطن رموزاً، وهذا واحد منهم: إنه الفتى (الذي...). لا يذكر الشاعر صهيب جملة الصلة في عنوان القصيدة ليترك كلمات القصيدة تشي بملامح ذلك الفتى (الذي...):
جَمْرةٌ في يَدِهْ
وعلى وَجْهِهِ أثَرٌ
لِفَتًى كانَ في أُحُدِهْ
يَنتَبِهْ..
في لياليْ الحَنينِ..
فيَرفَعُ أحزانَهُ
جَمرةً جَمرةً.. بِيَدِهْ
اَلَّذيْ يُتقِنُ المَشْيَ فوقَ الصِّراطِ
إلى مَسْجِدِهْ
والَّذيْ كُلَّما انطفَأَ اللَّيلُ
أشعَلَ نَجْماً جديداً على بَلَدِهْ
وتوضَّأَ بالنُّورِ،
بالأَزْرَقِ المُتَلألئِ في أَبَدِهْ (الديوان: 9 - 10).

إنها صورة الذي....، أو جملة الصلة التي افتقدت في العنوان.

ثم يعلن الشاعر لحظة التوحد بهذا الذي....، فيقول:
أَتَبَتَّلُ مِثلَ الَّذيْ..
فأَمُدُّ لِقَلبِيَ سَجَّادةً حُرَّةً
تَطمَئنُّ إلى مَدَدِهْ:
مَنْ أنا؟
يا إلهِيْ، أنا سالِكٌ..
عادَ يَحْمِلُ ذُلَّ الذُّنوبِ إلى سَيِّدِهْ (الديوان: 10 – 11).
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-06-2021, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم

تتمثل الذات هنا في صورة السالك الذي يقوم بواجب العبودية الكاملة إلى ربه في تبتلٍ وابتهال، وتحمل ملامح نبوية، فإذا هي صورة لكثيرين ممن يملؤون ربوع الوطن (كأحد المحاور الثلاثة)، إنهم كما يسميهم الشاعر – متمثلاً المعنى النَّبوي –: القابضونَ على الجَمْر، وهُم هم كذلك القابضُون على الفَجْر، والذين يمتلكون رؤيةً مغايرة لما هو سائد في ربوع الوطن، وبذلك يصبحون جزءًا من طاقة الحلم الذي يسعى الشاعر إلى تكوينه في إصرارٍ ويقين.

وكما تتوحد الذات بالآخرين، فإنها تبصر من بينهم بصفةٍ خاصة الشهيدَ، فتفرد له أغرودةً خاصة به. إنه ما يصنعه الشاعر في قصيدة (عندما لا يعودون) حين يغني للشهيد:
كانَ يَترُكُ في دفترِ الذِّكرَياتِ الأنيقِ سُطوراً مِن الحُبِّ والأُمنياتِ القَدِيْمَةِ..
يَكتبُ عن سَبْعَةِ الأصدِقاءِ، يُحاوِرُ أسماءَهمْ،
يَتَسَلَّلُ مِن لَحَظَاتِ الوداعِ إلى لَحَظاتِ اللِّقاءِ..
يَعُدُّ القُرَى والممَرَّاتِ:
كانَ هُنا مَعَ صاحبِهِ، وهُنا سارَ وَحْدَ النَّشيدِ وعادَ حَزِيناً (الديوان: 13).

إنه يتمثل ذكراه في أشيائه المختلفة:
لِذِكْراهُ وَجْهانِ؛ فالهمُّ لا يَعرِفُ الذِّكْرَياتِ السَّعيدةَ دَومًا..
هُنا:
مَرَضٌ صامِتٌ، بَيتُ شِعرٍ تقَاسمَ سَطرًا وهامِشُ نقدٍ،
غِيابُ صديقٍ عن الأرضِ، خَرْبشَةٌ دُوْنَ مَعْنًى،
عِتابٌ بِحِبْرٍ رَشِيْقٍ، خَواطِرُ تَنْتَظِرُ القارِئينَ، انفِعالٌ..
وأشياءُ يَترُكُها تعِبًا، ويَعُودُ إلى غَيْرِها في المَساءْ (الديوان: 14).

إنها أشياء توحي بأنه شهيدٌ غير عادي!.. إنه شهيد مِن ذكرياته بيت شعر وهامش نقد وحبر رشيق وخواطر تنتظر القارئين وانفعال.

إنه شهيد من شهداء الكلمة يتوحد معه الشاعر ولعله شهيد مجازي يرسمه الشاعر لصورة الذات في محاولتها تكوين الحلم.. ويحدث الإخفاق لهذا التكوين.. وتسقط الذات الشهيدة في صراعها من أجل الحلم.

وتتطور صورة الشهيد لترسم آفاقاً أبعد وأوسع بعد أن رحل، وبعد استعراض لحظات رحيله، وما على قبره من ورود، وما امتد حول قبره من جليد النسيان، كشهيد ينتمي للبؤساء ويخرج من بينهم، ويجرد الشاعر من معنى الشهيد عدداً من التجريدات تتمثل صورته في شكلها الأخير والنهائي:
الشَّهيدُ التِقاءُ التُّرابِ مَعَ الأبْيَضِ الأبَدِيِّ..
الشهيدُ الخُلودُ: يُسافِرُ بينَ الفَرادِيْسِ ما شاءَ
.. بَعْدَ نهايةِ تِلكَ الحَياةِ أليسَ جَميلاً إذا عاشَ كُلَّ الحَياهْ؟ (الديوان: 17).

يتحول الشهيد إذاً في النهاية إلى قيمة مجردة، تهَب الحياة معناها، وتسمو فوق ذكريات اللحظة والموقف، وينغمس الشاعر في معطياته المرجعية التي تندغم مع القول النبوي في ضحك الله للشهداء:
(يَضحَكُ اللهً لِلشُّهَدَاءِ..) الديوان: 17.

على أن محور الوطن يشتعل في عدة مواطن في الديوان ويتعانق كذلك – كما مرَّ بنا – مع المحورين الآخرين (الذات والحلم) ليشكل الثلاثةُ في كل قصيدة نوعاً من التناغم والالتحام، كما أن مفهوم الوطن عبر الديوان يتسع لا ليقف عند سورية ودمشق بما يحفلان به من امتدادات زمانية وتاريخية – كوطن أُم بالنسبة للشاعر – بل يتماهى مع المفهوم العربي للوطن والمفهوم الإسلامي ببعديهما التاريخي والروحي.

وفي قصيدة (مقام عراقي) تظهر صورة الوطن المأساة محملةً بزخمٍ روحي:
اليومَ قدْ تبكِيْ السَّماءُ.
تقولُ مِئذَنةٌ لِمئذنةٍ
قُبَيلَ سُقوطِها عَن غَيمةٍ
مَرَّتْ لِتَهطِلَ بَيْنَ أَصْداءِ الأذانِ السَّرمَدِيِّ
.. الغَيمةُ اقترَبَتْ لِتَرثيَها... ( الديوان: 19).

ومحملة بزخمٍ مأساوي يمتد عبر القصيدة كلها:
الخوفُ يَفترِسُ الضَّحايا
والقنائصُ كَالجَرادِ
.. على المقابِرِ لَمْ أجِدْ إِسْماً يُمَيِّزُ بَيْنَ مَوتِكُما
فَنَامَا في لِسانِ الرَّملِ.. نامَا صامِتَينِ.
يقولُ حَفَّارُ القُبُورِ لِجُثَّتَينْ ( الديوان: 20).

ويصبح العدم المأساوي هو المسيطر على المشهد كله في العراق، حيث أصبح الموتُ خبزاً يوميًّا يقتاته الأحياء قبل الأموات.

والشاعر/الذات لا يؤمن إلا بالبندقية، حيث يقول القناص الذي يقع عليه عبء الثأر، والذي نرجح أنه صوت الشاعر في هذه القصيدة متعددة الأصوات:
لِلبُنْدُقيَّةِ أنْ تكُونَ حَدِيقةً،
لِلبُندُقيَّةِ أنْ تكُونَ صَدِيقةً،
لِلبُندُقيَّةِ أنْ تكُونَ، وأنْ تكُونَ... ( الديوان: 22).

وإذا كان هذا هو صوت القناص الثائر، فإن الأصوات الأخرى تتناغم مع صوته كلٌّ بطريقته الفريدة التي تعبِّر عن مدى عمق المأساة في الوطن، فالدم يتكلم ويقول، وحفار القبور الذي يواري الجثث يتكلم ويقول، والفتى الذي تشكله ذكريات هذه الصور كلها، متمثلة في العدم وجثة المنزل الذي كانت تعود إليه الجدة الفقيرة والمحاريث الفقيرة والدنانير الفقيرة وابتسامات المساء.

ويمتد حوار المتكلمين عبر القصيدة لنجد من بينهم الغريب واليتيم الذي يخلفه القتل، كما يمتد ليشمل (الرشيد) كواحد من أعظم من حكموا المسلمين من العراق:
قالَ الرَّشِيدُ: وَلَوْ تَبَقَّتْ نَخْلَتانِ فَلا تَغِيبُوا عَن عِراقِ النَّخلَتَينْ،
وبَكَى الرَّشيدُ على العِراقِ..
بَكَتْ سَماءُ الرَّافِدَينْ ( الديوان: 23).

هنا نجد التِحام الذات التاريخية التي تسترفد الحلم مع الوطن المأساة لتظهر - في عمق المقارنة بين التاريخ والحاضر – رؤية فنية يؤكدها الشاعر من خلال الربط بين التاريخ واللحظة الراهنة ليستطيع من خلالها استشراف المستقبل/الحلم.

ومما نلاحظه في هذه القصيدة اللغة الحوارية التي تستشرف آفاقا درامية للعمل الشعري، وهو ما سنلاحظ أن الشاعر يلجأ إليه في قصائد أخرى من الديوان، يأتي هذا العنصر ممتزجاً بعنصر القَص، مما يؤكد أن للشاعر رؤية درامية يريد أن يؤكدها ويعالج من خلالها رؤياه الفنية ولعل هذه الإمكانية الفنية تطرح نفسها في عمل درامي مستقل للشاعر مستقبلاً.

ولا يزال محور الوطن على مدار قصائد الديوان متوهجاً مشتعلاً والشاعر، يتمثله هذه المرة في صورته الروحية والتاريخية في آنٍ واحد، من خلال رمز المدينة المنورة وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.

أول ما يتمثل معنى الوطن في قصيدة (في الطريق إليه) والتي نظن أن الشاعر استلهمها من زيارته للمدينة المنورة إن كان زارها، ويتخذ فيها من الهجرة النبوية ومفرداتها ومتعلقاتها لُحْمَةَ التجربة وسَدَاها، ويتمثل انتظار الوطن الجديد/المدينة المنورة للمنقذ صلى الله عليه وسلم:
سيِّدٌ أخضرُ الوَمضِ، يَنتظرُ النَّخلُ إشراقَهُ
.. في المدينةِ طقسٌ مِن الدَّمعِ والشَّمْعِ:
"كيفَ سيأتي ؟" ( الديوان: 25).

وما بين وطنين (قديمٍ وجديد) تنتظر الذاتُ المهاجرة، بل إنها تسكن مِنطقةَ الانتظار، وذلك بعد أن أصبح الوطن القديم عائقاً أمام إشراق الومض الأخضر. تحت عنوان: (قريش.. دار الندوة) يقول الشاعر في هذا المقطع الثالث من القصيدة التي تمتد عبر خمسة عشر مقطعاً، لكل مقطع عنوانٌ خاص:
رتَّبوا مَوتَهُ جَيِّدَا:
"سوفَ نُطْفِئُهُ قبلَ أن يتسرَّبَ نُورُ الهُدى"
.. وهُناكَ حُضورٌ لِجِبريلَ
يَستكمِلُ المَشْهدَ النَّبويَّ/الغَدا.
يا.. غَدا
يا أحَبَّ البِلادِ إليهِ، سيَمضيْ
ويأتيْ غداً..
سَيِّدا. ( الديوان: 27).

إن هذا المشهد الدرامي، بما يحويه من ظلال الحوار ومن حالة القَص والسَّرد، يؤكد قدرة الشاعر الدرامية، وهذه القدرة الدرامية مرشحة لأن تجعل مِن مثل هذه التجربة (الهجرة النبوية) عملاً مسرحيًّا شعريًّا أكدته قدرة الشاعر هذه على معالجة الهجرة النبوية بطريقة جديدة ومبتكرة.

ثم بعد هذا المشهد، وعلى مدار مقاطع القصيدة يتوقف الشاعر عند عدد من المشاهد من مشاهد الهجرة النبوية المباركة:
• النبي صلى الله عليه وسلم والصديق.
• الغار إذ هما فيه.
• فتية الغار القديم/الكهف، في تداعٍ مع صورة الغار في الهجرة النبوية.
• دليل الرسول في هجرته عبد الله بن أُرَيقِط، الذي كان مشركاً ومع ذلك ساهم مستأجَراً في الهجرة.
• شاعر الجن: ويتحدث هذا المقطع عن تلك الأبيات التي قيل إن هناك من كان يرددها إبَّان الهجرة ويسمعه الناس ولا يرونه، ويتماهى الشاعر فنيًّا معها.
• قصة سُراقة بن مالك الذي خرج يطلب النبيَّ صلى الله عليه وسلم للقبض عليه.
• مسجد قباء.
• موقف عمر بن الخطاب من الهجرة، وهجرته علناً وتحدياً للمشركين.
• موقف صهيب بن سِنان الرومي، والذي يمثل التضحية من أجل المنهج ومن أجل وطن جديد يتمثل فيه هذا المنهج.
• صورة المستضعفين في مكة.
• هجرة المستضعفين.
• ثم في المشهد الأخير من داخل الروضة النبوية المشرفة، وكأنه يستحضر ذلك الشريط الطويل من ذكريات الهجرة وهو في الطريق إلى المدينة في لحظة من لحظات التعانق الروحي مع هذا الوطن الروحي التاريخي الجميل، ويتأكد أن القصيدة كانت - كما ألمحنا - تجربةً فنية منبثقة من هذه الزيارة.

يشهد البناء الفني لهذه القصيدة على قدرة الشاعر الفنية التي استطاع من خلالها أن يقدم نموذجاً جديداً، طويلاً نسبيًّا، لإضاءة السيرة النبوية شعريًّا، ملتقطاً مجموعة من المواقف والأحداث، دامجاً بينها في بنيةٍ شعرية جديدة تماماً، تؤكد قدرةَ الشاعر وقدرة الشعر الحديث، والإسلامي منه بوجهٍ خاص، على إعادة كتابة واسترجاع المواقف المضيئة في تاريخنا بصورة جديدة تختلف عن الأسلوب التقليدي الذي درج عليه شعراء العمود الشعري في التعامل مع السيرة النبوية وأحداثها ومواقفها.

هذا الأسلوب الجديد لا ينسى أنه ينتمي لعصر له حساسيته الخاصة وتدفقه المختلف واندماجه المتماهي مع حداثة الشكل، في الوقت الذي يتخذ فيه موقفاً فكريًّا مختلفاً، منطلقاً من الخصوصية الحضارية والثقافية والفكرية لأمة الإسلام. (يتبع 2/2).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-06-2021, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم

ثلاثية الحلم والوطن والذات في ديوان تكوين حلم (2/2)


أ. طاهر العتباني


... بين ثلاثية (الحلم والذات والوطن) يتدرج بنا الشاعر إذاً من موقفٍ إلى موقف، ويظهر في قصائده أحد هذه المحاور باعتباره المحور الأساسي، ثم يكون المحوران الآخران حاضرَين من علاقة التشارك والتمازج بين هذه المحاور الثلاثة، وإذا كانت قصيدة (في الطريق إليه) قد برز فيها الوطن بشكلٍ واضح على أنه المحور الأساسي، فإن قصيدة (إلى الله) تبرز محور الذات حينما تبوح بكل ما فيها من الغربة والوجع إلى الله تعالى، حيث تمسح هذه الترنيمات التي يرسلها الشاعر جراحَ السير على طريق الاغتراب عبر الزمان والمكان:


إلى اللهِ حينَ يكونُ المساءُ تقِيًّا،
وَتكتَمِلُ العَبَراتُ
يَمُدُّونَ أَيدِيَهُمْ في خُشوعٍ
يَفِرُّونَ مِنْهُ إلَيهِ
وَباباً فباباً يَدُقُّونَ
تَطْهُرُ أَرْواحُهمْ في الصُّعُودِ إلى الكَوثَرِ العَذْبِ والمغفِرَهْ
وتَصْفُوْ الأَعاشِيقُ لِلخائفِيْنَ:
"أيا رَبُّ، يا ربُّ، يا ربُّ"..
حَتَّى يَرَوا كَوْثَرَهْ (الديوان: 41 – 42).

إنه واحد من هؤلاء المتبتِّلين والمستجيرين بالكنَف الأعلى، يرى نفسه واحداً منهم، فيخلص مثلهم الدعاء ويرجو مثلهم المغفرة.

ثم في دمعات العيون التي يذرفها في ساحة الدعاء يجد المهاجر سلواناً يعينه على قسوة غربته:
.. رَأَيْتُ دُموعَ المُهاجرٍ توْقِظُ صحراءَ غُربتِهِ
بِدَمْعَتهِ يتسامَى النَّخيلُ. بدَمْعَتِهِ
تَعُودُ إلى العِطرِ رَوْعَتُهُ..
وتعودُ الحياةُ لرحلتِهِ
بِدَمْعَتِهِ (الديوان: 43).

وهو يرى أن هذه الغربة تشمل المدائن كلها والمواطن كلها، فتعود العلاقة بين الوطن والذات المغتربة إلى الظهور، إنه ليس الاغتراب المكاني بل هو الاغتراب داخل المكان/الوطن، ولذا فهو يحلم بالمئذنة تشرق في الرماد ويحلم باخضرارٍ يغمر كل البلاد:
يُحِبُّونَ صَوْتَ المؤَذِّنِ
.. رغْمَ احتفالِ الرَّصاصِ بِمَوتِ الحضارةِ
لا بُدَّ تُشْرِقُ مِئذَنةٌ في الرَّمادِ
وَيَخْضَرُّ فيها بِلالٌ، يُنادِي:
"إلى اللهِ"
تَكْبيرَةٌ، واثنتانِ..
ستَخْضَرُّ كُلُّ البِلادِ (الديوان: 45).

وللون الأخضر عند الشاعر في هذا الديوان حضورٌ كبير، فقد رأيناه في أكثر من موطن: (سيِّدٌ أخضَر الوَمض – يخضرُّ فيها بلال – ستخضَرُّ كل البلادِ – ستمتدُّ خُضرته – ينتظر النَّخلُ إشراقه – فلا تغِيبُوا عن عراق النَّخلتَين - ولَم تبتسِم حين جاء الرَّبيعُ وجوهُ القمر – سِدرة المنتهى).

وهكذا ترد ألفاظ الخضرة والأشياء التي يميزها اللون الأخضر (النخيل – الربيع – السِّدرة) لتؤكد عمقَ النظرة المتفائلة والمتشبثة بالحُلم، كما يؤكد اللون الأخضر الأملَ الزاهي في رسم الحلم وتكوينه بلونه.

وفي إطار محور الغربة - غربة الذات يكون الفرار إلى الله ماسحاً لجراح هذه الغربة، وتكون القصائد التي يبدعها زُلفى وتقرباً إلى الله:
﴿فَفِرُّوا إلى اللهِ﴾..
يَقْرَؤها شاعِرٌ فَيَغِيْبُ قَلِيلا
.. خَطاياهُ عُمْرٌ
وَتِلكَ القصائدُ زُلْفَى إلى اللهِ تَبكِيْ قَلِيلا:
أنا لسْتُ عنهمْ غريباً، ولا أَرتَديْ شُبهَةً..
فَلِماذا إذا أبصَرُوْنِيَ يَستَفهِمونَ،
وَيَتَّخِذونَ الطَّرِيقَ الطَّوِيلا؟ (الديوان: 48).

وإذا كان عالم الغرباء، الذين يتوحد الشاعر بهم في قصيدته، يضمُّ مغتربينَ آخرين من أوطانٍ أخرى، فإنه يلتحم بهم من خلال الحروف:
شِماليَّةٌ أَحْرُفيْ حِينَ أبكِيْ
ونَجْدِيَّةٌ إذْ أَحِنُّ
وشاميَّةٌ حِينَ أشتاقُ لِلياسَمينْ
.. إلَيها سَأَرْجِعُ يَوماً
وَأَلْقَى دِمشقَ الغُصونْ (الديوان: 50).

وفي قصيدة (اختزال) يعيد تشكيلَ الحُلم مرةً أخرى؛ وذلك أنَّ هاجس الحلم هو محور الديوان وهمُّه الأساسي، وينتبَّه من خلال قارئٍ يقظ (لعلَّه أحد قراء شعره الحقيقيين) أنَّ التفسير ليس مطلوباً، لأن الحلم ليس إلاَّ رموزاً لا يفسرها إلاَّ من يحلم مثله، أما الآخرون غير المعنيِّين بالأحلام فلا يصلح معهم تفسير الحلم، لأنه حينئذ سيكون خارج النص. ويتوحد في رؤية الشاعر من هنا الحلم والكتابة أو الحلم والكتاب:
أوَّلُ الحُلْمِ كانَ كِتاباً.
• • •
أكْتُبُ الحُلْمَ كَيْ لا يَضِيعْ
.. أوْ أَضيعْ (الديوان: 52 - 53).
وفي لحظة تكوين الحلم وصناعته تتماهى الذات في الحلم، والحلم في الذات:
لأُخَمِّنْ:
أنَسْرُدُ أَعْماقَنا حِيْنَ نَحْلُمُ؟
أمْ أنَّ أعماقَنا هيَ تَسْرُدُنا؟
• • •
الرُّؤى؟ أمْ.. أنا؟
مَن يُفَلْسِفُ مَن؟
مَن يُفسِّرُ مَن؟ (الديوان: 53).

إن تشبثه بحلمه ومحاولة تفسيره و تأويله تقوده – بعد أن انتبه إلى عبثية التفسير لغير الحالمين – إلى محاولةٍ يمكن أن نسميها محاولة لدراسة أفق الحلم من خلال عددٍ من المشاهدات السريعة التي ترسم أبعاداً للحلم بعد أن اقتنعت بعدم جدوى التفسير:
لوْ تكلَّمَ حُلْميْ لقالَ كثيراً مِنَ الرَّغَباتْ.
لوْ تكلَّمَ حُلْمُكَ لالتَزَمَ الصَّمْتَ في مَطَرِ الغَزَواتْ.
• • •
اَلحياةُ التي تَتَحدَّرُ مِنْكِ..
سَتَغسِلُ أَضغاثَ أحلامِنا
- يا غُيومِيْ التي استَنْبَتَتْ بَذْرةَ الزَّاهِدين -.
• • •
لا تَمُوتُ رُؤًى أصْلُها في السَّماء.
• • •
اَلفُصُولُ تَمُرُّ على حُلُمِي..
تستَفِزُّ بَنفسَجَهُ.. وتَعُودْ.
• • •
الحُدُودُ خِداعُ المكانِ..
وَحُلْمِيْ على غَيمَةٍ تستّفِزُّ الحُدودْ (الديوان: 54 - 55).

إلى أن يقول مختتماً هذه القصيدة التي يتكلم فيها ويبوح بأمنياته حول حُلمه:
لا أُريدُ لِشَخصِيَ حُلْماً رَتِيباً قصيراً
سأُنسَى إذا لمْ تُخبِّئْ مُخيِّلَتيْ دَهْشَةً خالِدَة.
• • •
حُلُمٌ واحِدٌ:
وَردةٌ واحِدَة.
• • •
لِيَ حُلْمٌ..
وَلِلحُلْمِ حُلْمٌ..
وكُلُّ هَواجِسِنا ساجِدَة (الديوان: 58).

ويبلغ عمق جرح الذات أقصاه عندما تفتقد الحلم وتأتي قصيدة (كلانا كلانا!) التي كتبها أو أهداها إلى زهير المناور، الذي يبدو أن الشاعر يحتفظ معه بذكريات جمَّةٍ تشكل قسماً كبيراً من تجربته الأدبية والفنية.

تأتي هذه القصيدة كأطول قصيدة في الديوان لتشكل حلم الشاعر الضائع، ويبدو أن افتقاد الشاعر لهذا الوجه - الذي كان يشاركه في صنع الحلم ويفسره معه - كان وقعُه على الشاعر فادحاً، لقد كان هذا الفقد مفجراً لهذه القصيدة الثرَّة بالمعاني والمواقف والصور. ويبدأ الشاعر من تناغم الجرحين والاسمين في الوزن والحزن والهم والهمس:
تَناغُمُ جُرحَينِ في كُلِّ هذا الزِّحامِ يؤكِّدُ ليْ أنَّ لِلألَمِ الأُرْجُوانيِّ أَسْرارَهُ في السَّماءِ
وأنْ يَتشابهَ إِسْمَانِ في الوَزنِ والحُزنِ والهَمِّ والهَمْسِ:
هذا هُوَ الشِّعرُ حَقَّ اليقِيْنِ!..
انْسَنِيْ أيُّها العَربيُّ الَّذي عَتَّقَ الشَّمْسَ في حاجِبَيَّ وقَمَّصَنيْ نفْسَهُ؛
أنتَ مَن شَدَّني لِلفَضاءِ الجديدِ وقالَ: انْفَرِدْ بالنشيدِ كمِئذنةٍ..
ثُمَّ عادَ لأَرْضِ المِنَصَّةِ يَسْقِيْ البَلاغةَ دِفءَ الجَمالِ المُكَمَّلَ بالرَّعَشاتِ.. لِكَيْ يُصبِحَ الشِّعرُ مِثْلَ أَكُفِّ الصِّغارِ إذا ارْتادَها البَرْدُ... (الديوان: 59).

إن الشاعر يؤكد أن رؤياه الشعرية تستقي من بين ما تستقي من الخبرة الجمالية التي يمثلها زهير المناور:
(أنتَ مَن شَدَّني لِلفَضاءِ الجديدِ وقالَ: انْفَرِدْ بالنشيدِ كمِئذنةٍ..)

وهذا الانفراد يعني من بين ما يعني نوعاً من الغربة التي تجد الحنوَّ والتأييد على سلوك الدرب الذي تملؤه الريح:
في غُربَتيْ كَمْ تَساقَطْتُ بَينَ يَدَيهِ؛ وَكانَ يُلَمْلِمُنيْ قَبْلَ أنْ تَمْضِيَ الرِّيحُ بِيْ،
يَحتَوينيْ بِمِعْطَفهِ الشَّاعِرِيِّ،
يُشارِكُ قافِيَتيْ بَيتَها العَرَبيَّ، يُرَتِّبُنيْ مِن جَديدٍ:
إذا هَبَّتِ الرِّيحُ أَرْخِ الشِّراعَ وَثِقْ بالقَصِيدةِ، لِلشِّعرِ يَهطِلُ غَيْثُ المَعانِيْ... (الديوان: 60).

إن الشاعر يجد الأُنس في غربته من خلال احتوائه هذا الرمز – زهير المناور – لهذه الغربة ومشاركته إياها، ولكنها ليست غربةً كأي غربة، إنها غربة الكلمة حين تجد نفسها فريدةً وحيدة في جوٍّ صاخب بالمألوف والسائد والتقليدي الذي يعزف على أوتارٍ مكررة، وزهير المناور بحديثه عن الشاعر كان يصنع هذا الموقف المساند، فليمض الشاعر في هذه القصيدة متحدثا عنه، يقول صهيب:
كمْ كانَ قلبُكَ يَنْزِفُ بَينَ حِرابِ المَغُوْلِ.. ويَسْفِكُ حتَّى الثُّمالَةِ جَوْهَرَهُ،
ثُمَّ يَعْلُوْ بإيقاعِنا لِيُوَلِّدَ فِكْراً صَغيراً يُؤَكِّدُنا ويَلِيْقُ بِهذا الخَرَابِ (الديوان: 61).

ويظل حديث الشاعر عن زهير المناور وعن تجربته وغربته وتشرده ملتحماً معه ومع تجربته الجمالية واللغوية والفنية كما يبدو من فقرات القصيدة من أجل هدفٍ واحد هو استعادة السيادة للشعر:
تَشَرَّدتَ كَيْ تَستَعيدَ السِّيادَةَ للشِّعرِ..
لا بُدَّ لِلشِّعرِ أنْ يَرْجِعَ الآنَ؛ فالرِّيحُ والنَّارُ لَمْ يَبْقَ إلاَّ احتِكاكُهُما..
الآنَ، والآنَ بالذَّاتِ، تَشَّقَقُ الأرضُ عمَّا أُسَمِّيهِ زَهْراً تَعَلُّقُهُ بالتُّرابِ المُباحِ يَشِيْ أنَّهُ لا يُحِبُّ التُّرابَ؛ سَيَكْتُبُ أسْماءَنا ونُخَيلاتِنَا في السَّحَابِ ويَشْطُبُ أسماءَهُمْ وتَماثِيْلَهُمْ
.. وَيُسَمَّى زُهَيراً (الديوان: 66).

ممَّا نلاحظه في هذا الديوان، وفي هذه القصيدة بالذات، الاتكاءُ على لغةٍ مجازيَّة عالية، والانسياب للسطور. كما نلاحظ في هذه القصيدة إهمال القافية إلاَّ في مواطن قليلة جدًّا، مما يجعل القصيدة تأخذ أشكال التدوير المحبب المنساب، والذي يشي بأن البوح الذي تحتويه القصيدة بعيدٌ كل البعد عن التكلف كما هو بعيدٌ عن التوقف من خلال ارتباط السطور تفعيليًّا ببعضها البعض، إنه ينساب في لغة حالمة مزهرة رائعة تصنع مونولوجاً داخليًّا حارًّا مِن خلال شكل المناجاة مع بطل القصيدة – زهير – حتى يصبح هذا البطل رمزاً من رموز مدينة حلمه ووطنه دمشق:
.. وَلَوْلاكَ كانتْ دِمَشْقُ خَيالاً بِلا شاعِرٍ عاشِقٍ، وَبِلا شُعَراءَ؛
أَتَبْتَكِرُ الشُّعَراءَ وتَسْأَلُهُمْ أنْ يَكُوْنوكَ؟
كُنْتُكَ قَبْلَ الشِّتاءِ. فكُنِّيْ وَلَو في الرَّبيعِ..
ولَو في الرُّجُوعِ (الديوان: 67).

وبينما يفتقد الشاعر صديقه العزيز، وربما أستاذه العزيز أيضاً، يجد نفسَه ملقًى على قارعة الشعر وحدَه:
مُلْقًى بِقارِعَةِ الشِّعرِ وَحْدِيْ.. وَوَحْدَكَ:
مَن سَنَكُونُ؟
خِيارانِ:
إمَّا أَكُونُكَ، أَو لا أكُونُ. وما أَصْعَبَ الموتَ بَينَهُما في الحِيادِ.
لقَد كُنتُ وَحْدِيَ دَوماً.
وكُنتُ. وها أَنا أَنْتَ.. فَمَنْ أنتَ إنْ لَمْ تَكُنِّي؟!
كِلانا: كِلانا! (الديوان: 69).

بهذه الحوارية وتلك المفاجأة مع ذلك الروح البعيد القريب، الغريب الحاضر، يختتم الشاعر قصيدته التي تؤكد عمق أصالة التلقي والتوحد والانطراح على أعتاب مملكة الكلمة الشاعرة في انتظار تكوين الحلم، وهو ما سنقف أمامَه في آخر قصيدة في الديوان، والتي تركتْ عنوانها على غلافه:

تأتي قصيدة (تكوين حلم) لتعبِّر عن الخيط الأساسي أو المحور الأساسي في الديوان من خلال ارتباطاته ونموه على مدار الديوان كلِّه مع محوري الذات والوطن.

إنه في أول القصيدة يريد أن يقول إن البوح المطلوب بالسر لم يبدأ إلا مع قصيدة (تكوين حلم)، مع أن الشاعر باح كثيراً على مدار الديوان بحيث استطعنا أن نرسم صورة لوجعه وهمه متمثلاً في أبعاده الثلاثة (الحلم – الوطن – الذات).

إنه على الرغم من البوح لا زال يحتفظ بسرِّ الحلم وهو في أوج تكوينه. إنه في أوج تكوينه يعترف أن حلمَه قد لا يكون منتبهاً؛ فيوقظه بما أوتي من الأمل، وقد يكون هذا الحلم تكراراً لما يتحدث الشعراء عنه، كما أنه قد يكون أحياناً بين يدي الله صوفيًّا يرتل آيةَ الكرسيِّ في الأسحار، كما أنه قد يراه أفقاً لانهائيَّ الجمال، أو صفًّا من صفوف المصلين في المسجد النبوي، وبالتحديد في روضة النبي صلى الله عليه وسلم:
لأَبُحْ بسِرِّيْ الآنَ..
- لِلأشياءِ أنْ تُصْغِي -
يَكُونُ الحُلْمُ في عَينيَّ مُنتبِهاً..
وَقدْ يَغفُو لأُوقِظَهُ وأُوقِظَهُ بما أُوتِيتُ مِن أَمَلٍ
وحُزنٍ قَدْ أَجِفُّ ولا يَجِفُّ
ويَكُونُ تَكْراراً لِما يتَحدَّثُ الشُّعَراءُ عنهُ،
يَكُونُ إخباتاً أمامَ الحقِّ؛ عَلَّ الحقَّ يَعفُوْ
• • •
وأُراهُ في التَّكوينِ صُوفِيًّا يُرتِّلُ آيةَ الكُرسيِّ في الأسْحارِ،
بالأذكارِ يَصْفُوْ
وأُراهُ أُفْقاً لا نِهائيَّ الجَمالِ..
كأنَّهُ في رَوضةِ المُختارِ صَفُّ (الديوان: 75 - 76).

ولنا على هذا المقطع ملاحظة يؤكدها استخدام الفعل "يكُون" ثلاث مراتٍ مع المصدر (التكوين) الذي فِعلُه يتكون. هذه الملاحظة خُلاصتها أن الشاعر بإزاء انهماكه في عملية التكوين يجده متكوناً بالفعل في الأشياء التي ذكرها:
ما يقوله الشعراء وما يتحدثون عنه.
الصوفي الذي يرتل آية الكرسي في الأسحار.
الأفق اللانهائي الجمال.
صف الصلاة في روضة المختار.

إنها خطوط عامة منبثقة من التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان: فالطبيعة التي أبدعها الخالق من مفردات الحلم (أفقاً لانهائيَّ الجمال)، والإنسان الفَرد العابد المتبتل بالأسحار (صوفيًّا يرتلُ آية الكرسي في الأسحار)، والمجتمع العابد المتبتل الواقف خلف إمامٍ متمثلاً في مجتمع الصلاة (في روضةِ المُختار صفُّ).. كل هذه الأشياء من مفردات الحلم.

وهكذا تتضامُّ هذه الخطوط لتصنع رؤيا منبثقةً من حالة الإخبات أمام الحق (الله) والنبي (المختار) في رؤيا الشاعر أساس الرؤية والتجربة، على أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم حاضرةٌ بقوة في الديوان، وذلك من خلال قصيدة (في الطريق إليه) التي تحدثنا عنها، كما أن الله تعالى حاضرٌ بقوة في رؤيا الشاعر في الديوان من خلال قصيدته (إلى الله) التي تمثل ترنيمةً عذبة من ترانيم هذا الديوان.

ويظل تكوين الحلم منبثقا عبر القصيدة، متمثلاً هذه المرة في استحضار موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه في الغار وهو يقول: ﴿لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا﴾:
لأنَّ الحُلْمَ في التَّشبيهِ صَوتٌ مُوغِلٌ في غارِ ﴿لاَ تَحْزَنْ (الديوان: 76).
كما يتبدَّى الحلم في ظلال التوبة والتطهر والأوبة إلى الله من جديد:
وسُمُوُّ نَفْسٍ آمَنَتْ فِيها كُؤوسُ الخَمرِ..
حِينَ تَطَهَّرَتْ بِيَدَيْ أَبِي مِحْجَنْ (الديوان: 76).

تظهر صورة الفارس التائب أبي محجن الثقفي، الذي يتوب من الخمر ويخرج من محبسه ليلتحق بكتائب الجهاد في معركة القادسية، لتكون خطًّا أساسيًّا من خطوط الحُلم الذي يكوِّنه الشاعر.

ثم يتحول الحلم في نظر الشاعر – في تجريده له – ليتخذ معنى الضياء والنُّور، حين يتحول الشاعر المتكون من لحم ودم وعواطف متوقدة إلى حالة من الضياء والنور:
كنتُ أَحلُمُ أنَّنيْ أُؤتَى الضِّياءَ..
وأنْ أَسِيرَ مَعَ الضِّياءِ..
وأنْ أُحلِّقَ في الضِّياءِ..
فَرُبَّما أَصبَحْتُ نُوْرا؟ (الديوان: 77).

والشاعر إزاءَ حُلمه ومحاولته تكوينَه يلتحمُ بالبؤساء والفقراء (الجياع) ليكون لهم الحلم خبزاً ودفئًا:
سَهرانُ كَي أجِدَ الضَّياعَ..
وكَي أَزُفَّ إلى الجِياعِ عَشاءَهُمْ،
وإلى خِيامِهِمُ بَخُورا (الديوان: 77).

وأخيراً تبوح القصيدة بالمحاور الثلاثة التي حاولنا التماسها ونحن نحلل بنية الديوان وبنية هذه القصيدة الأخيرة:
(الحُلْمُ – لِي - وَطَن).

يتضامُّ ويتوحد إذاً الحلمُ بالوطن بالذات، بل تقف (الذات) بينهما (الحلم والوطن) حاضرةً بكل قوة، حتى في شكل بنية هذه الجملة المفتاح:
(الحُلْمُ لِي: وَطَنُ القَصيدةِ، مَشْرِقُ الكَلِماتِ..)

ليتأكد لنا أنَّ مهمة القصيدة كانت هي البحث عن وطنٍ هو والحلم مرتبطان معاً على مدار الديوان وبوضوحٍ كبير في هذه القصيدة.

وكما تنضج القصيدة في أعماق الذات وهي تتحسى أوجاع الحلم والبحث عنه كي يولد ويتكون، كذلك ينضج الحلم ويكتمل:
لأَبُحْ بِسِرِّيْ..
الآنَ صارَ الحُلْمُ في شَفَتَيَّ مُكْتَمِلاً كَمَوَّالٍ..
وفي كَفِّي - غَداً - سَيَكُونُ دُفُّ
دُفٌّ.. وَزَحفُ. (الديوان: 78).

إن رحلة الحلم من الأعماق إلى الشفتين، مع لحظة اكتماله ثم امتلاكه بالأكف ليكون واقعاً عمليًّا، ويصبح حلماً متحققاً في ذلك الزَّحفِ الذي يرجعنا إلى ظلال القرن الأوَّل من الهجرة النبوية، حيث كانت الأُمَّة كلها في زحفٍ وامتداد واتساع بهذا الدِّين إلى الآفاق، هو ما يلحُّ عليه الشاعر ويختم به قصيدته وديوانه.

ويبقى التطلع إلى رسم صورة هذا الزحف وآفاقه هو التجربة التي نرى أن على الشاعر أن يعِدَنا بها فيما هو جديد من إبداعه..

إن هذه الرحلة رحلةٌ فريدة أغرانا الشاعر أن نخوض غمارها بكل هذا الحضور الفكري والفني الذي يتجلى في هذا الديوان، لتُضاف إلى الشعر الإسلامي تجربةٌ من أخصب تجاربه ذات الحساسية الحداثية التي تقدِّم الرؤيا الإسلامية في حلة بهيجة جديدة وثوبٍ قشيب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 102.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 99.91 كيلو بايت... تم توفير 2.85 كيلو بايت...بمعدل (2.77%)]