«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 304 - عددالزوار : 89327 )           »          نظرات في قوله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          القدوة الحق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          اتق المحارم تكن أعبد الناس- (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          بعض النصح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الكليبتومانيا.. عندما تكون السرقة مرضا واللص غير اللصوص! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          السخرية والاستهزاء بالآخرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          ولله على الناس حج البيت .. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          من السنن الموقوتة قبل الفجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          فضائل طاعة الزوجة لزوجها وأحكامها الفقهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 10-07-2022, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾


قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].

ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة دعوة اليهود والنصارى للمسلمين باتباعهم، وأمر المسلمين باتباع ملة إبراهيم والإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل إلى إبراهيم وغيره من النبيين، ثم بيَّن في هذه الآية أن اليهود والنصارى إن آمنوا بهذا فقد اهتدوا، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا على هدى، وأن الهداية ليست فيما يدعون إليه كما يزعمون، ولهذا قال بعده: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾.

قوله: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا ﴾ الفاء: للتفريع، أي: فإن صدق وأقر اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، وجاء الشرط بـ "إن" المفيدة للشك إيذاناً بأن إيمانهم غير مرجو.

﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ أي: بمثل الذي آمنتم به أيها المؤمنون، من الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واعتقاداً وعملاً، والإيمان بما أنزل على الأنبياء والرسل جميعاً، ولم يفرقوا بين أحد منهم.

﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ جواب الشرط وقرن بالفاء لاتصاله بـ "قد"، أي: فقد وفقوا أو سلكوا طريق الهداية والرشد وأصابوا الحق.

﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾أي: وإن أعرضوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به، أي: تولوا عن الحق إلى الباطل، والتولي إذا أطلق شمل التولي بالبدن والإعراض بالقلب.

﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، وجاء الجواب جملة اسمية للدلالة على استمرارهم وثبوتهم على هذه الحال، وهي حال الشقاق.

وبين قوله: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ وقوله: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ مقابلة ومشاكلة، و"إنما": أداة حصر، أي: ما حالهم إلا الشقاق.

﴿ فِي شِقَاقٍ ﴾ ﴿ فِي ﴾للظرفية تفيد تمكن الشقاق منهم، وإحاطته بهم من كل جانب وانغماسهم فيه، والشقاق: شدة المخالفة والعداوة، مأخوذ من الشق، وهو الجانب، فالمخالف يأخذ شقاً وجانباً غير شق صاحبه وجانبه.

والمعنى: فإنما هم في مخالفة ومحادة وعداوة لله ورسوله والمؤمنين، وليسوا من طلب الهداية والحق في شيء، وقد تولى القوم وأعرضوا، ولهذا قال الله عز وجل مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 59].

﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ الفاء: للتفريع والسين للتنفيس تفيد تحقق الوقوع وقربه. فهي هنا تفيد تحقق وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بكفايته إياهم وقرب ذلك.

و"يكفى": فعل مضارع ينصب مفعولين، الأول هنا: كاف الخطاب، والثاني: ضمير الغائب الهاء، ولفظ الجلالة فاعل، أي: فسيكفيك الله إياهم، أي: يكفيك شقاقهم ويحفظك من شرهم.

وفي هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بكفايته إياهم، وتسلية له وتطمين لقلبه، وإرشاد له إلى التوكل على الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95].
كما أن فيه وعيداً شديداً وتهديداً أكيداً لهؤلاء المتولين المعرضين.

﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ السميع: اسم من أسماء الله عز وجل، يدل على إثبات صفة السمع الواسع لله عز وجل الذي يسمع الدعاء، ويجيبه، ويسمع جميع الأقوال والأصوات.

﴿ الْعَلِيمُ ﴾ اسم من أسماء الله عز وجل يدل على إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي وسع كل شيء.

أي: وهو السميع- سبحانه وتعالى- لجميع أقوال العباد، ولما يدبره هؤلاء المعرضون عن الإيمان من الأذى بأقوالهم؛ "العليم" بضمائرهم وأفعالهم، وفي هذا تأكيد لوعده بكفايته إياهم، وتأكيد لوعيدهم وتهديدهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 10-07-2022, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾


قوله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾[البقرة: 138].

أبطل الله عز وجل دعوى اليهود والنصارى أن الهداية فيما هم عليه، وأمر باتباع ملة إبراهيم وهي الإيمان بما أنزل إلينا، وما أنزل على جميع الرسل والأنبياء، ثم أكد ذلك بقوله تعالى في هذه الآية: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾.

قوله: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ ﴿ صِبْغَةَ ﴾: مصدر، أي: صبغنا الله صبغة، أو صُبغنا صبغة الله، وهذا أقوى تناسباً مع قوله بعده: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾.

وقيل: ﴿ صِبْغَةَ ﴾ منصوب على الإغراء، أي: الزموا صبغة الله، ولا يبعدنكم هؤلاء عن دينكم، و"صبغة" مضاف، ولفظ الجلالة "الله" مضاف إليه.

والصبغة في الأصل: اللون، والمراد بـ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾: دين الله.

وسمي الدين صبغة لظهور أثره على المؤمن في سلوكه وأخلاقه؛ إخلاصاً لله عز وجل، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولظهور أثره على أسارير وصفحات وجه المؤمن، فهو بمنزلة الصبغ للثوب.

وأيضاً سُمي الدين صبغة للزومه كلزوم الصبغ للثوب، فمن دخل فيه لا يكاد ينفك عنه أو يفارقه بتوفيق الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه منه كما يكره أن يقذف في النار"[1].

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ الاستفهام للنفي والإنكار، ومجيء النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من النفي المجرد لتضمنه التحدي، أي: لا أحد أحسن من الله صبغة، أي: لا دين أحسن من دين الله تعالى.

وهذا ابتهاج من المؤمنين بهذه الصبغة، وبهذا الدين الذي فاق جميع الأديان كمالاً كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، وشمولاً كما قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وخلوداً، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وصدقاً وعدلاً، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا ﴾ [الأنعام: 115]، أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وعدم اختلاف، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

وفرق شاسع وبون واسع بين من آمن بالله عز وجل فهو يسير في هذه الحياة على نور من الله في جميع أعماله وأقواله وأخلاقه، وبين من كفر بالله فصار يسير على غير هدى، كما قال تعالى ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]، وقال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].

وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].

﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾الواو: عاطفة، والضمير "نحن" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين و﴿ لَهُ ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿ عَابِدُونَ ﴾، وقدم عليه؛ لإفادة الحصر، مع مراعاة الفواصل، أي: ونحن له وحده عابدون.

وفي قول المؤمنين: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ ما يوحي بفخرهم واعتزازهم وتشرفهم بعبادة الله عز وجل وحده شكراً له؛ لأن عبادته أشرف ما يمكن أن يتصف به العبد.

فكأنهم يقولون: ونحن له وحده عابدون ونفتخر ونعتز بذلك ونتشرف به، فالشرف كل الشرف والفخر كل الفخر والعز كل العز بعبادة الله وحده، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

أما على القول بأن قوله: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ منصوب على الإغراء تكون جملة ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾جارية مجرى التعليل له.

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] أخرجه البخاري في الإيمان (16)، ومسلم في الإيمان (43)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4987)، والترمذي في الإيمان (2624)، وابن ماجه في الفتن (4033)- من حديث أنس رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 10-07-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



الفوائد والأحكام في سورة البقرة من (135-138)

1- دعوة اليهود والنصارى إلى ما هم عليه من الباطل والضلال، وزعمهم أنه الحق والهدى، لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾ [البقرة: 135].

2- أن من يدعو إلى الباطل والضلال ويزعم أنه الحق والهدى من هذه الأمة ففيه شبه من اليهود والنصارى، كما يفعل أهل العقائد الباطلة كالرافضة وغيرهم، وكما يفعل أهل التحلل والسفور وأهل التغريب وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبرا بشبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"[1].

3- أن الملة التي يجب اتباعها، وهي خير الملل وأفضلها، وفيها كمال الاهتداء هي ملة إبراهيم عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [البقرة: 135].

4- فضل إبراهيم عليه السلام وإمامته؛ لأن الله أضاف ملة الإسلام إليه، وأمر باتباعه، ووصفه بتجريد التوحيد وعدم الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]، وقدمه على من ذكر في الآيات من الرسل، فقال: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ [البقرة: 136].

5- في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135] تعريض بأهل الكتاب وما هم عليه من الشرك بالله، مما يبطل دعواهم اتباع إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30].

وقال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31].

6- وجوب الإيمان بالله؛ بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 136]، وأن الإيمان بالله تعالى أصل الإيمان وأساسه؛ ولهذا قدم في الآية.

7- وجوب الإيمان بما أنزل إلينا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي في الكتاب والسنة قولاً واعتقاداً وعملاً؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ [آل عمران: 84].

وقدم هذا في الذكر على الإيمان بما أنزل على إبراهيم وغيره ممن ذكروا في الآية تقديماً للأهم والأفضل والأعظم وهو القرآن الكريم، ولأن من مقتضى الإيمان به: العمل به بخلاف الإيمان بغيره مما أنزل على الرسل فلا يقتضي العمل بذلك.

8- وجوب الإيمان بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والأسباط، وثبوت نبوتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [آل عمران: 84] وقوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [النساء: 163].

9- إثبات العلو لله عز وجل؛ لأن المنزل على الرسل من عنده- سبحانه وتعالى.

10- أن ما أوحاه عز وجل إلى رسله وأنبيائه منزل من عنده غير مخلوق.

11- وجوب الإيمان بما أوتي موسى وعيسى والنبيون كلهم من الآيات الشرعية والكونية، وأنهم مبلغون عن الله تعالى ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 136].

12- فضل موسى وعيسى عليهما السلام؛ لأن الله نص عليهما فقال: ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾ [البقرة: 136] فهما من أولي العزم من الرسل وأفضل أنبياء بني إسرائيل.

13- أن الإيمان بالرسل والكتب منه ما هو على طريق التفصيل، وهذا فيما فصل لنا وقص علينا من الرسل والكتب، ومنه ما هو على طريق الإجمال، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 136]، وقال تعالى: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾ [النساء: 164].

14- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لأنبيائه، وأنهم مبلغون عن الله تعالى ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾.

15- لا يجوز التفريق في الإيمان بين أحد من الرسل، بل يجب الإيمان بهم جميعاً، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فليس بمؤمن، وكذا يجب الإيمان بكل ما أنزل إليهم، فمن آمن ببعض ما أنزل الله وكفر ببعض فليس بمؤمن؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 136] أي: في الإيمان بهم وبما أنزل عليهم.

16- وجوب الاستسلام لله عز وجل والإخلاص له وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139].

17- لا بد من الجمع بين الاستسلام والانقياد لله تعالى باطناً وظاهراً، بين الإيمان والإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ [البقرة: 136]، وقوله: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136].

18- لا هداية لليهود والنصارى ولا لغيرهم إلا بالإيمان بما آمن به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ وهو ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، وما أنزل على الأنبياء والرسل قبله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137].

19- أن من لم يؤمن بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من قبله من الأنبياء والرسل فهو ضال؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ فمفهوم هذا أنهم إن لم يؤمنوا بذلك فهم على ضلال.

20- لا حجة لمن تولى عن الإيمان من اليهود والنصارى وغيرهم إلا الشقاق والمخالفة لأمر الله عز وجل ؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ [البقرة: 137].

21- مشاقة اليهود والنصارى ومخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ولأهل الإيمان منذ بعثته صلى الله عليه وسلم.

22- الوعيد الشديد لمن تولى عن الإيمان من اليهود والنصارى وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 137].

23- وعد الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيكفيه شر من تولى عن الإيمان من أهل الكتاب، وهكذا حصل، فظهر صلى الله عليه وسلم عليهم وفتح حصونهم، فأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وسبى بعضهم، وأذل بعضهم بأخذ الجزية منهم.

24- الإرشاد إلى التوكل على الله عز وجل وحده؛ لأنه سبحانه هو الكافي، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].

25- إثبات اسم الله تعالى: ﴿ السَّمِيعُ ﴾ [البقرة: 137] وما يدل عليه من إثبات صفة السمع الواسع لله عز وجل الذي يسمع جميع الأقوال والأصوات، ويجيب الدعوات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ [البقرة: 137].

26- إثبات اسم الله تعالى: ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137] وما يدل عليه من إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل لكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].

27- وجوب مراقبة الله عز وجل في الأقوال والأفعال في جميع الأحوال؛ لأنه سبحانه واسع السمع، واسع العلم لا يخفى عليه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].

28- في قوله عز وجل: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137] تأكيد لوعده عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بكفايته، وتأكيد لوعيده عز وجل لمن تولوا عن الإيمان.

29- في اجتماع سعة السمع مع سعة العلم في حقه عز وجل زيادة كماله إلى كمال.

30- وجوب التزام دين الله والتمسك به؛ لقوله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 138] أي: الزموا صبغة الله، أي: دينه وتمسكوا به.

31- عظمة الدين الإسلامي وشرفه وأحقيته؛ لأن الله عز وجل أضافه إلى نفسه فقال: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 138]؛ لأنه سبحانه هو الذي أحقه وشرعه.

32- لا دين أحسن من دين الله عز وجل؛ كمالاً وشمولاً وخلوداً وصدقاً وعدلاً، وصلاحاً للبشرية في دينها ودنياها وأخراها، وعدم اختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138].

33- وجوب إخلاص العبادة لله عز وجل، والذل والخضوع له وحده، وأن في ذلك الشرف والفخر والعز والسؤدد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138].

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] سبق تخريجه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 10-07-2022, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.. ﴾


قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139].

قوله: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ﴾ الأمر في قوله: ﴿ قُلْ ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم.

والخطاب في قوله: ﴿ أَتُحَاجُّونَنَا ﴾ لليهود والنصارى، وبخاصة المحاجين منهم والاستفهام للإنكار. والمحاجة: المجادلة والمخاصمة بين اثنين فأكثر، وإدلاء كل منهم بحجته لينقض حجة الآخر.

أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين يحاجونكم ويجادلونكم حسداً منهم على تفضيل الله لكم ولدينكم: أتحاجوننا وتجادلوننا في توحيد الله والإخلاص له وطاعته، وتزعمون أنكم أولى بالله وتختصون بفضله وكرامته دوننا؟

﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ الجملة حالية، أي: والحال أنه ربنا وربكم جميعاً، يجب علينا وعليكم توحيده والإخلاص له وطاعته، والأفضل عنده منا ومنكم من قام بحقوق ربوبيته، ووحده وأخلص له، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 137، 138]، وقال تعالى: ﴿ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ [البقرة: 139، 140].

﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: ولكل منا ومنكم أعمالهم خاصة وجزاؤها، فلا تُسألون عن أعمالنا، ولا نُسأل عن أعمالكم، وكل منا بريء من عمل الآخر، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 41] ، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 137، 138].

﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139] الواو: عاطفة، أي: ونحن لله وحده مخلصون العبادة على الدوام بلا رياء ولا شرك، وأنتم به مشركون.

قال الفضيل بن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجلهم شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما"[1].

فإذا كان الله عز وجل رب الجميع، ولكل منهم عملهم وجزاؤهم، فالأولى به عز وجل والأفضل عنده من قام بحقوق ربوبيته وأخلص له؛ وهم المؤمنون.

[1] انظر: "روح المعاني" (1 /397).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 19-07-2022, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


تفسير قوله تعالى:﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى... ﴾

قوله تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140].


ذكر عز وجل في الآيات السابقة زعم اليهود والنصارى أن الهداية فيما هم عليه ودعوتهم لذلك، وبين أن الهداية في ملة إبراهيم وأمر المؤمنين باتباعها، ثم ذكر في هذه الآية قولهم: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى، وأنهم أولى بهم من المسلمين، ورد عليهم وأبطل قولهم.

قوله: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب: ﴿ تَقُولُونَ ﴾ فتكون داخلة في حيز الأمر في قوله: ﴿ قُلْ ﴾ و﴿ أَمْ ﴾ هي المنقطعة، التي بمعنى "بل" التي للإضراب الانتقالي وهمزة الاستفهام، أي: بل أتقولون.

وقرأ الباقون بياء الغيبة: ﴿ يَقُولُونَ ﴾، فيكون الكلام مستأنفاً غير داخل تحت الأمر، أي: بل أيقولون.

وقيل: ﴿ أَمْ ﴾: متصلة، والاستفهام للتوبيخ، والإنكار على التقديرين.

فأنكر عليهم أولا محاجتهم في الله، ثم أنكر عليهم قولهم: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ أي: أنهم كانوا على اليهودية والنصرانية.

﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والخطاب في قوله: ﴿ أَأَنْتُمْ ﴾ لليهود والنصارى، والاستفهام للإنكار ﴿ أَمِ اللَّهُ ﴾ "أم" هي المتصلة، أي: بل الله أعلم.

وقد قال عز وجل: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67].

وإذا كان الله عز وجل العليم الخبير، أصدق القائلين نفى أن يكون إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً، وقرر إسلامه ومن تبعه من الأنبياء. وأنتم تقولون كان إبراهيم يهودياً أو نصرانيّاً، فأي القولين أحق؟ وأي الخبرين أصدق؟ لا شك أن قول الله أحق، وخبره أصدق، وحيث كان الجواب من الوضوح والبيان لم يحتج أن يقول: بل الله أعلم، وكما قال المتنبي[1]:
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل




وكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً والتوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعده، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65].

وهكذا وصل الحال بأهل الكتاب لما بعدوا عن وحي الله عز وجل وحرفوا وبدلوا، فصاروا يحاجون في الله وفي رسله وأنبيائه وفيما أنزل عليهم جدالاً بالباطل، فكذبوا الأخبار الصادقة، وشككوا في العقائد الثابتة فخرجوا عن منهج الحق، بل صار الحق عندهم باطلاً والباطل حقاً.

وهكذا وصل الحال بالرافضة اليوم بل وأشد من ذلك، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال "فمن""[2].

فطعنوا في الرب عز وجل، وفي الكتاب والسنة، وفي جبريل عليه السلام، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأزواجه أمهات المؤمنين، وفي صحابته الميامين- رضي الله عنهم أجمعين- ولم يبقوا على شيء من ثوابت الدين إلا طعنوا فيه، وصدق الله العظيم: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32].

﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ الواو: عاطفة، و"من": للاستفهام، ومعناه النفي والإنكار، أي: لا أحد ﴿ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ لأن العالم بشريعة الله عنده شهادة من الله بهذه الشريعة، فلا أظلم ممن كتم هذه الشهادة عنده من الله فلم يبينها، كما فعل أهل الكتاب كتموا ما في كتبهم من الشهادة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لم يكونوا هوداً أو نصارى بل كانوا مسلمين، فجمعوا بين كتم الحق وعدم النطق به، وإظهار الباطل والدعوة إليه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تهديد شديد ووعيد أكيد.

و"ما" في قوله: ﴿ عَمَّا ﴾ موصولة أو مصدرية، أي: وما الله بغافل عن الذي تعملون أو عن عملكم أيها اليهود والنصارى، بل هو محيط بكم وبأعمالكم وبجميع الخلق وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وسيجزي كلا بعمله.

وهذه من الصفات المنفية الدالة على كمال ضدها، وهو كمال علمه ورقابته على العباد وأعمالهم.

[1]انظر: "ديوانه" ص220.

[2]سبق تخريجه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 19-07-2022, 08:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


تفسير قوله تعالى:﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾


قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 141].


رد الله عز وجل في الآيات السابقة زعم اليهود والنصارى أنهم على دين يعقوب عليه السلام كذباً منهم وافتراءً، مبيناً أن يعقوب عليه السلام كان على ملة إبراهيم عليه السلام، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

ثم ذكر في هذه الآيات قولهم: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى وأبطل ذلك، ثم أتبعه بقوله: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

والإشارة في قوله: ﴿ تِلْكَ ﴾ في هذه الآية إلى إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء عليهم السلام، وفي الآيتين بيان وتأكيد أن لكل عمله لا يسأل أحد عن عمل من سبقه ولا ينبغي أن يتكل أحد على عمل غيره.

قال السعدي[1]: "وكررها لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب إلى الرجال".

[1] في "تيسير الكريم الرحمن" (1/ 154).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 26-07-2022, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



الفوائد والأحكام في سورة البقرة من (139-141)

1- الإنكار الشديد على اليهود والنصارى الذين يحاجون في الله وتوحيده والإخلاص له مع إقرارهم بأنه ربهم ورب غيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ [البقرة: 139].

2- إثبات ربوبية الله عز وجل العامة لجميع الخلق.

3- أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية والعبادة.

4- وجوب البراءة من أعمال الكفار وما هم عليه من الكفر والشرك، وعدم التشبه بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [البقرة: 139].

5- ينبغي للمسلم أن يتميز عن غيره بما هو عليه من الدين الحق والعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [البقرة: 139].

6- وجوب الإخلاص لله عز وجل والاعتزاز بذلك، وإعلانه لمن حآج في وحدانية الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139].

7- الإرشاد لطريق المحاجة لبيان الحق ودحض الباطل، وأنها مبنية على الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139].

أي: فإذا كان ربنا واحداً نحن وإياكم، ولكل منا ومنكم عمله، فلا فرق بيننا وبينكم في ذلك، ولا تفضيل لأحد إلا بالإخلاص لله تعالى، فمن كان لله أخلص فهو منه أقرب وعلى دينه وتوحيده أصوب، وهذه صفة المؤمنين دون غيرهم.

8- الإنكار على اليهود والنصارى وإبطال دعواهم أن إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى، وأنهم أولى بهم من المسلمين؛ لقوله تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 140] أي: قل بل الله أعلم، وقد بين عز وجل أن إبراهيم وهؤلاء الأنبياء مسلمون، كما قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67].

9- إثبات العلم التام الواسع المطلق المحيط بكل شيء لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ أي: بل الله أعلم.

10- جهل أهل الكتاب بتاريخ وأصول شرائعهم، حيث زعموا أن إبراهيم وأولاده وأحفاده كانوا على اليهودية والنصرانية.

11- إبطال كل ما خالف شرع الله من أقوال وقوانين البشر، ووجوب رد العلم في ذلك إلى الله العليم الخبير؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 140].

12- لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140] أي: كتم العلم الذي عنده من الله، فلم يبينه.

كما فعل أهل الكتاب عندهم الشهادة في التوراة والإنجيل بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لم يكونوا هوداً أو نصارى، بل كانوا مسلمين فكتموا ذلك، بل ادعوا أن إبراهيم وهؤلاء الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى، فكتموا الحق وأظهروا الباطل، ودعوا إليه وهذا أعظم الظلم، فمرتكبه متوعد بأشد العذاب.

13- عظم مسؤولية العلماء أمام الله عز وجل في بيان ما عندهم من العلم، وإرشاد الناس وتعليمهم شرع الله.

14- كمال علم الله عز وجل ومراقبته لأعمال عباده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140] وهذه من الصفات المنفية الدالة على كمال ضدها، وهو كمال علمه عز وجل ورقابته على العباد وأعمالهم، ومحاسبتهم ومجازاتهم عليها. وفي هذا وعد ووعيد وترغيب وترهيب.

15- في تكرار هذه الآية: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 141]، تأكيد وتقرير أن لكل عمله وجزاءه، لا يسأل عن عمل غيره، ولا يؤخذ بجريرة من سواه.

كما قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ [الإسراء: 13]، وقال تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

وفي هذا كله تأكيد على إطراح ما كان متأصلاً في نفوس الكفار من الافتخار بالآباء، والتقليد الأعمى لهم، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 26-07-2022, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



سـبب النـزول قوله تعالى:﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ.... ﴾

إلى ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ


تفسير قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 142، 143].

كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذا صلى صلى إلى بيت المقدس، وجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر إلى المدينة صلى ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي إلى البيت الحرام قبلة إبراهيم- عليه السلام- والأنبياء بعده، وكان يقلب وجهه في السماء داعياً الله- عز وجل- أن يأمره بالتولي نحو هذا البيت، وقد استجاب الله- عز وجل- له فأمره صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتولي شطر المسجد الحرام. ولما كان هذا الحدث من أعظم الوقائع في الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، قدَّم له- عز وجل- توطئة وتمهيداً، وتقريراً له- بعدة مقدمات من أهمها ما يلي:
أولاً: ذكر طبيعة وحال بني إسرائيل، وما هم عليه من الكفر والتكذيب، واشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً، ولبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، والشرك والظلم، والتمرد والعناد، والتعنت في سؤال أنبيائهم، وتبديل قول الله، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتوليهم وإعراضهم بعد أخذ الميثاق عليهم، واعتدائهم، وتحريفهم وافترائهم الكذب على الله، وزعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، وقتل بعضهم لبعض، وإخراجهم فريقاً منهم من ديارهم إثماً وعدواناً، وشرائهم الحياة الدنيا بالآخرة، واستكبارهم، وتكذيبهم الرسل والأنبياء وقتل فريق منهم، وكفرهم بما أنزل الله مصدقاً لما معهم، وقولهم: سمعنا وعصينا، وحبهم عبادة العجل، وحرصهم على الحياة، ونقضهم العهود، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، واتباعهم ما تتلوا الشياطين والسحرة على ملك سليمان، وكراهيتهم أن يُنزَّل على المؤمنين خير من ربهم، ومودتهم رد المؤمنين من بعد إيمانهم كفاراً حسداً من عند أنفسهم، وزعمهم الباطل أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارىٰ، وتكذيب بعضهم لبعض، ومنعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والسعي في خرابها، ونسبتهم الولد إلى الله- تعالى الله عن ذلك- وعدم رضاهم إلا باتباع ملّتهم، وقولهم: ﴿ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾[البقرة: 135]، وشقاقهم وظلمهم، وكتمانهم ما عندهم من الشهادة في كتبهم من الله- على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك.

ثانياً: تحذير المؤمنين من مسلك أهل الكتاب، في كفرهم، وتكذيبهم، وتعنتهم في سؤال أنبيائهم، والتحذير من طاعتهم، لكراهتهم الخير للمؤمنين، ومودتهم إرجاعهم بعد إيمانهم كفاراً وحسدهم لهم.

ثالثاً: تقرير النسخ، وأنه- عز وجل- ما ينسخ من آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها.

رابعاً: تقرير أن لله عز وجل المشرق والمغرب، وأن العباد أينما تولوا فثم وجه الله.

خامساً: الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتعظيم ملّته، وإعلان إمامته للناس، وإتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات، ووفاؤه، وإيجاب اتباع ملته، وتسفيه من يرغب عنها.

سادساً: الامتنان على هذه الأمة بجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، ورفع إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لقواعده، وتطهيره للطائفين، والعاكفين والركع السجود، وتأكيد عظمته وحرمته، وشرفه وفضله.
إلى غير ذلك.

ثم بعد هذه المقدمات أعلمهم- عز وجل- بما سيقول السفهاء من الناس من أهل الكتاب وغيرهم، لئلا يفاجؤوا في ذلك فيعظم عليهم ذلك، مؤكداً أن لله- عز وجل- المشرق والمغرب... إلخ.

سـبب النـزول:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس في جماعة ذكرهم، فقالوا له: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك. وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله فيهم: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ إلى قوله: ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾"[1].

وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، فأنزل الله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144] وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم- قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي مات على القبلة قَبْل أن تحول قِبَلَ البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾"[2].

وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، أي: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾؟ فأنزل الله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾".

وفي رواية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "فكان أول ما نسخ الله- عز وجل- من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله- جل وعز- أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان يدعو الله- جل وعز- وينظر إلى السماء، فأنزل الله جل وعز: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، يعني: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]. فأنزل الله- جل وعز: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 142]، وقال: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، وقال جل وعز: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]. قال ابن عباس: ليتميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة"[3].

[1] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (2/619)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/247، 248)- الأثر (1327)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/575).

[2] أخرجه البخاري في الإيمان (40)، وفي الصلاة (399)، وفي التفسير (4486)، وأحمد (4/283).

[3] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (2/450، 623، 658)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/248، 253)- الأثران (1329، 1355)، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (1/455-456)- الأثر (22).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 26-07-2022, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[البقرة: 142]
قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ السين للاستقبال، وتحقيق صدور هذه المقالة من هؤلاء السفهاء، واستمرارهم عليها، وفيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، للاستعداد لتحمل ذلك، ومدافعته، والصبر عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب"[1]؛ ليستعد لمجادلتهم ومحاجتهم.

والسفهاء: جمع سفيه، والسفه: خفة وطيش، ينشأ عنه سوء تصرف في الأقوال والأعمال والأموال. والسفيه: من لا يحسن التصرف، ولا يهتدي إلى طرق الخير، لقصور في عقله كالمجنون، والصغير، وغير الرشيد.

والسفه يكون في الدين، ويكون في الولاية، ويكون في المال.

فالسفه في الدين: بالكفر وارتكاب المعاصي، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 140]، وقال تعالى حكاية عن الجن أنهم قالوا: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴾ [الجن: 4].

والسفه في الولاية: أن يكون الشخص لا يحسن التصرف في الولاية، فتنقل إلى غيره، كما إذا كان لا يعرف الكفء في ولاية النكاح، فتنقل الولاية إلى غيره، ونحو ذلك.
والسفه في المال: أن يكون الشخص لا يحسن التصرف في المال، ولا يعرف وجوه المصالح والمفاسد فيه، فهذا يحجر عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء: 5].

والمراد بالسفه في قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ﴾ السفه في الدين وهو أشد أنواع السفه.

والمراد بـ"السفهاء من الناس" اليهود، فهم أسفه الناس، قد بلغوا من السفه غايته، ولهذا قال "السفهاء" بالتعريف، وذلك؛ لأنهم كذبوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الوحي من عند الله- عز وجل- وخالفوه، واعترضوا على حكمه، وتركوا الحق بعدما عرفوه، حسداً منهم وبغياً، فجمعوا بين تكذيبه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق، وتكذيب ما جاء في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم من البشارة به صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 146، 147].

وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 20].

و"من" في قوله: ﴿ مِنَ النَّاسِ ﴾بيانية، والمعنى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ وهم اليهود، ومن مالأهم من المنافقين والمشركين- تكذيباً للحق وتشكيكاً للناس فيه.

والناس: أصله "أناس" كما قال الشاعر:
إن المنايا يطلع
ن على الأناس الآمنينا[2]




وهو مشتق من النوس، وهو الحركة، أو من الأنس؛ لأنهم يأنس بعضهم ببعض، أو من الإيناس، وهو الرؤية والمشاهدة؛ لأنهم يُرون ويُشاهدون، بخلاف الجن فهم مستترون.

﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ الجملة في محل نصب مقول القول.

﴿ مَا ﴾ اسم استفهام، أي: أيُّ شيء صرفهم، ﴿ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ﴾ بيت المقدس، ﴿ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ أي: التي كانوا يستقبلونها- يعني- قبل الأمر بالتحول إلى الكعبة.

وقبلة كل شيء ما قابل وجهه. والقبلة في الشرع: ما يستقبله الناس في صلاتهم، كما قال تعالى لموسى وهارون- عليهما السلام: ﴿ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 87].

والمعنى: أن هؤلاء السفهاء سيقولون اعتراضاً على حكم الله وشرعه وتكذيباً له وإنكاراً: ما الذي جعلهم يتولون وينصرفون ﴿ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ وهي بيت المقدس إلى المسجد الحرام، ولم يقولوا: "عن قبلتنا التي كنا عليها"، بل قالوا: ﴿ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ لقصد الإثارة والإلزام للمسلمين، أي: أنه إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركوا الحق، وإن كانت باطلاً، فقد كانوا على باطل، حيث صلوا إليها.

وقالوا أيضاً: اشتاق محمد إلى بلده ومولده.

كما قال المنافقون: ما بال محمد مرة يحولنا إلى هـٰهنا، ومرة يحولنا إلى هـٰهنا.

وقال المشركون: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم.

وفي وصف هؤلاء القائلين بالسفهاء تخفيف لوقع هذه المقالة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حيث صدرت ممن لا يحسن النظر لنفسه، فلا يلقى لها بال، ولا قيمة لها.

وفي قوله: ﴿ مِنَ النَّاسِ ﴾ ما يفيد أن كل من صدرت منه هذه المقالة من اليهود أو المنافقين أو غيرهم فهو سفيه، وكذا كل من اعترض على حكم الله فهو سفيه.

﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تولى عز وجل تعليم نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الرد المفحم لهم، أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود السفهاء ردًّا عليهم: ﴿ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

وإنما أجيبوا بهذا الجواب المسكت المبكت؛ لأن إنكارهم للقبلة اعتراض على حكم الله وعناد وتكذيب، وحسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنهم- يعني اليهود- لا يحسدوننا على شيء، كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين"[3].

ولم يكن قولهم: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ لطلب الحق والحكمة في ذلك، ولو كان هدفهم ذلك لبيّن لهم السبب، بأن الله أمر بذلك، وأن الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، وأول بيوت الله في الأرض، وأعظمها وأفضلها.

وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم- كما في حديث قتيلة- مقالة ذلك اليهودي: إنكم تشركون، تقولون: "ما شاء الله، وشئت"، وتقولون: "والكعبة" فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: "ورب الكعبة" وأن يقولوا: "ما شاء الله ثم شئت"[4]؛ وذلك لأن هذه المقالة حق، وإن كان اليهودي إنما أراد بهذه المقالة عيب الإسلام، وتنقص المسلمين.

وقُدِّم الخبر في قوله: ﴿ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ لإفادة الحصر، أي: لله وحده المشرق والمغرب، أي: جنس المشرق والمغرب للشمس والقمر وسائر الكواكب.

والمراد أن له- عز وجل- جميع الجهات والأرض كلها؛ لأن الناس يقسِّمون الأرض إلى نصفين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها.

وإذا كان عز وجل له جميع الجهات، وله الأرض كلها، فله- عز وجل- أن يوجِّه عباده للصلاة لأي جهة أراد، فالخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، ولهذا قال بعد ذلك: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

وهداية الله- عز وجل- تنقسم إلى قسمين:
هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وهذه عامة، فالله- عز وجل- هاد، والرسل والدعاة إلى الله هُداة بهذا المعنى، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].

وهي أيضاً عامة من وجه آخر، وهو شمولها لكل من بلغته الرسالة؛ لأن الله- عز وجل- أنزل لأجلها الكتب وأرسل الرسل، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 1].

والقسم الثاني: هداية التوفيق، وهذه خاصة بالله- عز وجل- كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56].

والمراد بالهداية في الآية هنا ما يشمل الهدايتين: هداية الدلالة والإرشاد والبيان، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3] أي: دللناه وأرشدناه للسبيل وبيناه له، وقال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10] أي: بيّنا له طريق الخير وطريق الشر.

وهداية التوفيق، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 54].

وحيثما جاءت الهداية مسندة إلى الله فإنها تشمل القسمين: هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق.

وحيثما أسندت إلى غير الله، فالمراد بها هداية الدلالة والإرشاد فقط.

﴿ يَ مَنْ يَشَاءُ ﴾ "من" اسم موصول بمعنى "الذي" في محل نصب مفعول "يهدي"، أي: يدل ويوفق الذي يشاء، والمشيئة هي الإرادة الكونية، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الصراط: الطريق المسلوك والسبيل الواضح.

و"المستقيم" في الأصل: أقرب خط يصل بين نقطتين، أي: العدل الذي لا اعوجاج فيه، أي: إلى طريق مسلوك وسبيل واضح، عدل، لا اعوجاج فيه، وهو صراط الله عز وجل، ونكَّره للتعظيم، كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213، النور: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 39]، وقال تعالى: ﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 54].

ومعنى الآية: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: يدل، ويوفق الذي يريد من عباده إلى طريق مسلوك، وسبيل واضح، عدل، لا اعوجاج فيه، بهدايته لهم، لأعظم قبلة، وتوفيقهم لمعرفة الحق، والعمل به، للعلم النافع، والعمل الصالح، وفي هذا تنويه بقبلتهم، وإشارة إلى أن الشأن كل الشأن في الإيمان بالله- عز وجل- كما قال تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ الآية [البقرة: 177].

[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1496)، ومسلم في الإيمان (19)، وأبوداود في الزكاة (1584)، والنسائي في الزكاة (2435)، والترمذي في الزكاة (625)، وابن ماجه في الزكاة (1783)، من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما.

[2] البيت لذي جرن الحميري. انظر: "اشتقاق أسماء الله الحسنى" ص32، "لسان العرب"، مادة "نوس".

[3] أخرجه أحمد (6/ 134، 135) من حديث عائشة- رضي الله عنها.

[4] أخرجه النسائي في الأيمان والنذور (3773)، وأحمد (6/ 371-372). وأخرجه ابن سعد والطبراني وابن منده. انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (598).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 09-08-2022, 06:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ... ﴾

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].

قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ الجملة معترضة بين قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 142] الآية، وبين قوله: ﴿ َمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ الآية.

ذكر الله- عز وجل- في الآية السابقة فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة في هدايته لهم إلى صراط مستقيم، ثم أتبعه بذكر فضله- عز وجل- عليهم بجعلهم أمة وسطًا.

والكاف في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ للتشبيه بمعنى: "مثل"، والإشارة إلى ما سبق، وهو فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة بهدايتهم إلى صراط مستقيم، أي: مثل ما هديناكم إلى صراط مستقيم، كذلك ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.

و"جعل" بمعنى صيَّر تنصب مفعولين، الأول ضمير المخاطبين، والثاني "أمة وسطا".

والجعل نوعان: كوني، وشرعي، والمراد به هنا ما يشمل النوعين، أي: جعلناكم كونًا وقدرًا، وشرعًا، بما شرعناه لكم من هذا الشرع المطهر ﴿ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.

و﴿ أُمَّةً ﴾ أي: جماعة وطائفة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24].

أي: وما من جماعة وطائفة ﴿ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.

وتطلق الأمة على الزمن والمدة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]. أي: وادَّكر بعد مدة.

وتطلق على الملة، كما قال تعالى عن المشركين: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22، 23] أي: على ملة وطريقة.

وتطلق على الإمام والقدوة، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120].

والمراد بالأمة في الآية ﴿ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾: أمة الإجابة.

﴿ وَسَطًا ﴾: عدلًا خيارًا، قال صلى الله عليه وسلم: "والوَسَط: العدل"[1]، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾ [القلم: 28] أي: أعدلهم رأيًا. قال زهير بن أبي سلمى:
هُمُ وَسَط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل[2]




أي: جعلناكم عدولًا خيارًا بين الأمم، دينكم الإسلام، أكمل الأديان، وكتابكم القرآن الكريم، أعظم الكتب، ورسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، وشريعتكم أيسر الشرائع، الحنيفية السمحة، ملة أبيكم إبراهيم، وقبلتكم الكعبة المشرفة، قبلة أبيكم إبراهيم- عليه السلام- أشرف قبلة، وأعظم بقعة، وأول البيوت، وأعظمها حرمة، بناها خليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام- على اسم الله- عز وجل- وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].

فامتنَّ الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية بأن جعلهم أمة وسطًا، أي: عدولًا خيارًا بين الأمم في كل شيء، فلا هم أهل غلو وإفراط كالنصارى، ولا أهل جفاء وتفريط كاليهود، الذين حرَّفوا كتاب الله وكذَّبوا رسله وقتلوهم، بل هم خير الأمم وأفضلها وأعدلها، كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

ودينهم أكمل الأديان لا يقبل بعده من أحد سواه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

وكتابهم القرآن الكريم المهيمن على جميع الكتب السماوية، وأكملها وأعظمها وأخلدها، كما قال تعالى ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وقال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"[3].

وشريعتهم أيسر الشرائع، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].

وقبلتهم أعظم قبلة، البيت الحرام، قبلة أبيهم إبراهيم- عليه السلام.

قال ابن القيم[4]: "وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة وأشرفها لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة والرسول والكتاب والشريعة".

وقال السعدي[5]: "وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله ﴿ وَسَطًا ﴾ فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطًا إلا في بعض الأمور".

﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ كقوله تعالى: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الحج: 78].

قوله: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ اللام للتعليل، أي: جعلناكم أمة عدولًا خيارًا؛ لأجل أن تكونوا ﴿ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾.

و"شهداء" جمع "شهيد" أي: تشهدون على الناس بأن الرسل بلغتهم رسالات الله، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وذلك بما عندكم من العلم اليقيني بذلك بما جاءكم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يقوم مقام المعاينة والمشاهدة.

ولهذا لما قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حديث الإسراء وكذّبه مَن كذّبه شهد أبوبكر- رضي الله عنه- بصدقه، وقال: "صدقناه في خبر السماء، أفلا نصدقه في خبر الأرض"[6].

ونحو من هذا، قال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "لما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى الفرس من الأعرابي، فجعل صلى الله عليه وسلم شهادته تعدل شهادة رجلين"[7].

وأيضًا: ليشهد بعضكم على أعمال بعض، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: مَروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مَروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت" فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"[8].

وقد استدلَّ ابن القيم بهذه الآية على وجوب اتباع الصحابة، قال[9]: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولًا، هذه حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها، في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونيَّاتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم، والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86] ".

﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ معطوف على ما سبق و"ال" في الرسول في هذا الموضع والذي بعده للعهد الذهني، أي: ويكون الرسول المعهود محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا إشارة إلى أنه لا رسول بعده، أي: رسولكم الذي لا رسول بعده.

﴿ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ بأنه بلغكم رسالة ربه البلاغ المبين، وشهيدًا عليكم بأعمالكم، كما قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41].

وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد"[10].

فأشهد صلى الله عليه وسلم ربه- عز وجل- على إقرار أمته له بالبلاغ.

وعن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزِل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى أتيت على قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: "حسبك" فنظرت إليه، فإذا عيناه تذرفان"[11].

وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلّغ ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ فذلك قوله- جل ذكره: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ والوسط: العدل"[12].

وفي رواية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. فيقال: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلّغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك: أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه، قال: فذلكم قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ "[13].

وعن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلّغ رسالة ربه- عز وجل"[14].

كما تشهد الأمة بعضها على بعض، فعن أبي الأسود- رضي الله عنه قال: "قدمت المدينة، وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر- رضي الله عنه: وجبت. ثم مر بأخرى، فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر- رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بالثالثة، فأُثني على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت. فقال أبوالأسود: فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة. قال: وثلاثة. فقلنا: واثنان. قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد"[15].

وعن أبي بكر بن زهير الثقفي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بِم ذاك يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيئ، أنتم شهداء الله بعضكم على بعض"[16].

وعن مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- قال: "شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: والله يا رسول الله، لنعم المرء كان، لقد كان عفيفًا مسلمًا، وكان...، وأثنوا عليه خيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بما تقول؟" فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت". ثم شهد جنازة في بني حارثة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يا رسول الله، بئس المرء كان، إن كان لَفَظًّا غليظًا، فأثنوا عليه شرًّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بالذي تقول؟" فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت". قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾"[17].

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يصلي عليها، فقال الناس: نعم الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". وأتي بجنازة أخرى، فقال الناس: بئس الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". قال أبي بن كعب: ما قولك وجبت؟ فقال: "قال الله عز وجل: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾"[18].

﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ الواو عاطفة، والجملة معطوفة على قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 142] وما بينهما اعتراض.

و"ما" نافية، ﴿ جَعَلْنَا ﴾ من الجعل الشرعي، أي: وما شرعنا لك التوجه إلى القبلة التي كنت عليها وهي بيت المقدس أول أمرك، ثم صرفناك عنها إلى المسجد الحرام.

وفي هذا دلالة على أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس في الصلاة كان بأمر من الله- عز وجل- لتأليف اليهود للإسلام، لكن لم ينجع ذلك فيهم.

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ "إلا" أداة حصر، أي: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها لأي حال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾.

واللام في قوله: ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ للتعليل، أي: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ إلا لأجل أن نعلم مَن يتبع الرسول أي: لهذا السبب وحده، أي: إلا لأجل أن نعلم علم ظهور يترتب عليه الجزاء والثواب والعقاب.

وقيل: إن الفعل "نعلم" ضمن معنى "نميّز" كما في قوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37].

﴿ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾"من" موصولة، أي: إلا لنعلم الذي ﴿ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾.

وأظهر في مقام الإضمار، ولم يقل: "من يتبعك"؛ تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، وتأكيدًا لوجوب اتباعه، أي: إلا لأجل أن نعلم من يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوجه في الصلاة حيث توجه صلى الله عليه وسلم.

﴿ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ "ممن" مركبة من حرف الجر "مِنْ" و"مَنْ" الموصولة، أي: من الذي يرجع على عقبيه، أي: يرجع عن دينه، شاكًّا مرتابًا، مكذبًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أنزل الله عليه من الوحي، في تحويل القبلة، وغير ذلك.

وفي قوله: ﴿ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ ما فيه من المبالغة في التحذير والتنفير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشد وأبلغ مما لو قال: (ممن لم يتبع الرسول)؛ لأن المنقلب على عقبيه مع عدم اتباعه، لم يثبت مكانه، بل نكص على عقبيه، ورجع القهقرى، وسار على غير هدى، ومشى على غير بصيرة. وهذا كما قال تعالى في تبكيت وتوبيخ المكذبين المترفين: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴾ [المؤمنون: 66].
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 238.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 233.07 كيلو بايت... تم توفير 5.69 كيلو بايت...بمعدل (2.38%)]