تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 39 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 650 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 915 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1078 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 844 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 828 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 909 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92746 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190975 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56909 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26181 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #381  
قديم 30-01-2023, 11:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(367)
الحلقة (381)
صــ 7 إلى صــ 24




[ ص: 7 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الذين يربون .

و " الإرباء " الزيادة على الشيء ، يقال منه : " أربى فلان على فلان " إذا زاد عليه " يربي إرباء " والزيادة هي " الربا " " وربا الشيء " إذا زاد على ما كان عليه فعظم " فهو يربو ربوا " . وإنما قيل للرابية [ رابية ] ؛ لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم : " ربا يربو " . ومن ذلك قيل : " فلان في رباوة قومه " يراد أنه في رفعة وشرف منهم . فأصل " الربا " الإنافة والزيادة ، ثم يقال : " أربى فلان " أي أناف [ ماله حين ] صيره زائدا . وإنما قيل للمربي : " مرب " ؛ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه . ولذلك قال - جل ثناؤه - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) . [ آل عمران : 131 ] . [ ص: 8 ]

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :

ذكر من قال ذلك :

6235 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ؟ فيؤخر عنه .

6236 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6237 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : أن ربا أهل الجاهلية : يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاده وأخر عنه .

قال أبو جعفر : فقال - جل ثناؤه - : الذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا " لا يقومون " في الآخرة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني بذلك : يتخبله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يخنقه فيصرعه " من المس " يعني : من الجنون .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6238 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 9 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .

6239 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6240 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

6241 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : " خذ سلاحك للحرب " وقرأ : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

6242 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .

6243 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : [ ص: 10 ] " الذين يأكلون الربا لا يقومون " الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا وبهم خبل من الشيطان .

6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون .

6245 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : ( " لا يقومون يوم القيامة " ) .

6246 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا ، كالذي يتخبطه الشيطان من المس .

6247 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني : من الجنون .

6248 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " . قال : هذا مثلهم يوم القيامة ، لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق من الناس ، كأنه خنق ، كأنه مجنون . [ ص: 11 ]

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " يتخبطه الشيطان من المس " يتخبله من مسه إياه . يقال منه : " قد مس الرجل وألق ، فهو ممسوس ومألوق " كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن . ومنه قول الله - عز وجل - : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) [ الأعراف : 201 ] ومنه قول الأعشى :


وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق


فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحق هذا الوعيد من الله ؟

قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله - جل ثناؤه - : [ ص: 12 ] ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) [ سورة البقرة : 278 - 279 ] الآية ، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأن سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله :

6249 - " لعن الله آكل الربا ، ومؤكله ، وكاتبه ، وشاهديه إذا علموا به " .
القول في تأويل قوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا )

قال أبو جعفر : يعني ب " ذلك " - جل ثناؤه - : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون فقال - تعالى ذكره - : هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم ، وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون : " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده " مثل الربا " ؛ وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية ، كان إذا حل مال أحدهم [ ص: 13 ] على غريمه ، يقول الغريم لغريم الحق : " زدني في الأجل وأزيدك في مالك " . فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : " هذا ربا لا يحل " . فإذا قيل لهما ذلك قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال " . فكذبهم الله في قيلهم فقال : " وأحل الله البيع " .
القول في تأويل قوله تعالى ( وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 275 ) )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع " وحرم الربا " يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دينه عليه . يقول - عز وجل - : فليست الزيادتان - اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل - سواء . وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللت الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها ، فيستفضل فضلها . فقال الله - عز وجل - : ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ؛ لأني أحللت البيع ، وحرمت الربا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي . [ ص: 14 ]

ثم قال - جل ثناؤه - : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى " يعني ب " الموعظة " التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوفهم به في آي القرآن ، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب . يقول - جل ثناؤه - : فمن جاءه ذلك " فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه " فله ما سلف " يعني : ما أكل ، وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك " وأمره إلى الله " يعني : وأمر آكله - بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم وبعد انتهاء آكله عن أكله - إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه ، وإن شاء خذله عن ذلك " ومن عاد " يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله : " إنما البيع مثل الربا " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يعني : ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم ، فيها خالدون .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6250 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " أما " الموعظة " فالقرآن ، وأما " ما سلف " فله ما أكل من الربا .
[ ص: 15 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ( 276 ) )

قال أبو جعفر : يعني - عز وجل - بقوله : " يمحق الله الربا " ينقص الله الربا فيذهبه كما : -

6251 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس : " يمحق الله الربا " قال : ينقص .

وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

6252 - " الربا وإن كثر فإلى قل " . .

وأما قوله : " ويربي الصدقات " فإنه - جل ثناؤه - يعني أنه يضاعف أجرها ، يربها وينميها له .

وقد بينا معنى " الربا " قبل " والإرباء " وما أصله بما فيه الكفاية من إعادته . [ ص: 16 ]

فإن قال لنا قائل : وكيف إرباء الله الصدقات ؟

قيل : إضعافه الأجر لربها ، كما قال - جل ثناؤه - : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) [ سورة البقرة : 261 ] ، وكما قال : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ سورة البقرة : 245 ] وكما : -

6253 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا عباد بن منصور عن القاسم : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) [ سورة التوبة : 104 ] و " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " . . [ ص: 17 ]

6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال : حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال : إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة ، ولا يقبل إلا الطيب . " . [ ص: 18 ]

6255 - حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي قال : حدثنا ريحان بن سعيد قال : حدثنا عباد عن القاسم عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) . . [ ص: 19 ]

6256 - حدثني محمد بن عبد الملك قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه ، ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله . وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال : " في كف الله - عز وجل - حتى تكون مثل أحد ، فتصدقوا " . .

6257 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال [ ص: 20 ] سمعت يونس عن صاحب له ، عن القاسم بن محمد قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة بيمينه ، ولا يقبل منها إلا ما كان طيبا ، والله يربي لأحدكم لقمته كما يربي أحدكم مهره وفصيله ، حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد " . . [ ص: 21 ]

قال أبو جعفر : وأما قوله : " والله لا يحب كل كفار أثيم " فإنه يعني به : والله لا يحب كل مصر على كفر بربه ، مقيم عليه ، مستحل أكل الربا وإطعامه " أثيم " متماد في الإثم ، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه ، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 277 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - عز وجل - بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند ربهم من تحريم الربا وأكله ، وغير ذلك من سائر شرائع دينه " وعملوا الصالحات " التي أمرهم الله - عز وجل - بها ، والتي ندبهم إليها " وأقاموا الصلاة " المفروضة بحدودها ، وأدوها بسننها " وآتوا الزكاة " المفروضة عليهم في أموالهم ، بعد الذي سلف منهم من أكل الربا قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم " لهم أجرهم " يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم " عند ربهم " يوم حاجتهم إليه في معادهم ولا خوف عليهم " يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم من أكل ما كانوا أكلوا من الربا بما كان من إنابتهم وتوبتهم إلى الله - عز وجل - من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم ، [ ص: 22 ] وتصديقهم بوعد الله ووعيده " ولا هم يحزنون " على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به ، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى ، وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة ، فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه .
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ( 278 ) )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " يا أيها الذين آمنوا " صدقوا بالله وبرسوله " اتقوا الله " يقول : خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به ، والانتهاء عما نهاكم عنه " وذروا " يعني : ودعوا " ما بقي من الربا " يقول : اتركوا طلب ما بقي لكم من فضل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها " إن كنتم مؤمنين " يقول : إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم . .

قال أبو جعفر : وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم ، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم ، وبقي بعض ، فعفا الله - جل ثناؤه - لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية ، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه .

ذكر من قال ذلك :

6258 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى : " ولا تظلمون " قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة ، كانا [ ص: 23 ] شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله " ذروا ما بقي " من فضل كان في الجاهلية " من الربا " .

6259 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع . فلما كان الفتح ، استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير . فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " إلى " ولا تظلمون " . فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتاب وقال : " إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " وقال ابن جريج عن عكرمة قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " قال : كانوا يأخذون الربا على بني المغيرة ، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، بنو عمرو بن عمير ، فهم الذين كان لهم الربا على بني المغيرة ، فأسلم عبد ياليل وحبيب وربيعة وهلال ومسعود .

6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، [ ص: 24 ] عن الضحاك في قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " قال : كان ربا يتبايعون به في الجاهلية ، فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( فإن لم تفعلوا ) فإن لم تذروا ما بقي من الربا .

واختلف القرأة في قراءة قوله : " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة : " فأذنوا " بقصر الألف من " فآذنوا " وفتح ذالها ، بمعنى كونوا على علم وإذن .

وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين : " فآذنوا " بمد الألف من قوله : " فأذنوا " وكسر ذالها ، بمعنى فآذنوا غيركم ، أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " فأذنوا " بقصر ألفها وفتح ذالها ، بمعنى اعلموا ذلك واستيقنوه ، وكونوا على إذن من الله - عز وجل - لكم بذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #382  
قديم 30-01-2023, 11:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(368)
الحلقة (382)
صــ 25 إلى صــ 42




وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله - عز وجل - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقر على المقام عليه ، وأن يقتل المرتد عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام ، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يؤذنوه . فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون كان مشركا مقيما [ ص: 25 ] على شركه الذي لا يقر عليه ، أو يكون كان مسلما فارتد وأذن بحرب . فأي الأمرين كان ، فإنما نبذ إليه بحرب ، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عزم على ذلك . لأن الأمر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب ، لم يلزمهم حربه ، وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين ، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها .

وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6261 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) : فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضرب عنقه .

6262 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : " خذ سلاحك للحرب " .

6263 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال : حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله .

6264 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا . [ ص: 26 ]

6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، مثله .

6266 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " أوعد الآكل الربا بالقتل .

6267 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله .

قال أبو جعفر : وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ) إيذان من الله - عز وجل - لهم بالحرب والقتل ، لا أمر لهم بإيذان غيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " إن تبتم " فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله - عز وجل - " فلكم رءوس أموالكم " من الديون التي لكم على الناس ، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم ، كما :

6268 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " والمال الذي لهم على ظهور الرجال ، جعل لهم [ ص: 27 ] رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا .

6269 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : وضع الله الربا ، وجعل لهم رءوس أموالهم .

6270 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " قال : ما كان لهم من دين ، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ، ولا يزدادوا عليه شيئا .

6271 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " الذي أسلفتم ، وسقط الربا .

6272 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الفتح : " ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب " .

6273 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته : " إن كل ربا موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس " . .
[ ص: 28 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لا تظلمون ولا تظلمون ( 279 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : " لا تظلمون " بأخذكم رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم ، دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه ، أو لم يكن لكم قبل " ولا تظلمون " يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل ، يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه ، لأن ما زاد على رءوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6274 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون " فتربون " ولا تظلمون " فتنقصون .

6275 - وحدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم " ذو عسرة " يعني : معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم . [ ص: 29 ]

وقوله : " ذو عسرة " مرفوع ب " كان " فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا . وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .

وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وإن كان ذا عسرة ) ، بمعنى وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .

وأما قوله : ( فنظرة إلى ميسرة ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . .

و " الميسرة " المفعلة من " اليسر " مثل " المرحمة " و " المشأمة " .

ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم ، فيصير من أهل اليسر به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . [ ص: 30 ]

ذكر من قال ذلك :

6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الربا .

6278 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا هشام عن ابن سيرين : أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال : فقضى عليه وأمر بحبسه ، قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ! قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ! وإن الله قال في كتابه : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه .

6279 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

6280 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن الشعبي أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان ، إن كنت موسرا فأد ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .

6281 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن أيوب عن محمد قال : جاء رجل إلى شريح فكلمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ! ! قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس ، فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، [ ص: 31 ] فأنزل الله - عز وجل - : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " وقال الله - عز وجل - : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، فما كان الله - عز وجل - يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدوا الأمانات إلى أهلها .

6282 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .

6283 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها .

6284 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " يقول : إلى غنى .

6285 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " هذا في شأن الربا .

6286 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم . [ ص: 32 ]

6287 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " يعني المطلوب .

6288 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : الموت .

6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل عن جابر عن محمد بن علي مثله .

6290 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : هذا في الربا .

6291 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك عن منصور عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فرقة .

6292 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم : " فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

6293 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ، ولا يزد عليه . وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخره .

6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزد عليه . [ ص: 33 ]

وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا .

ذكر من قال ذلك :

6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدقوا خير لكم . قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه . وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .

6296 - حدثني علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الدين .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه ، أو لزمه [ ص: 34 ] من قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا . وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه .

غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته . فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه .

فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم فقد بطل دين رب المال ، وذلك ما لا يقوله أحد .

ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه فقد بطل دين رب الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد .

فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه سبيل ؛ لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه بالحبس .
[ ص: 35 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ( 280 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل وعز بذلك : وأن تتصدقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر " خير لكم " أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته ، لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر " إن كنتم تعلمون " موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : " وأن تصدقوا " برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم " خير لكم " .

ذكر من قال ذلك :

6297 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية . فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا " وأن تصدقوا خير لكم " يقول : أن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم .

6298 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة : [ ص: 36 ] " وأن تصدقوا " أي برأس المال ، فهو خير لكم .

6299 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم : ( وأن تصدقوا خير لكم ) قال : من رءوس أموالكم .

6300 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى عن سفيان عن المغيرة عن إبراهيم بمثله .

6301 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم : " وأن تصدقوا خير لكم " قال : أن تصدقوا برءوس أموالكم .

وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك .

ذكر من قال ذلك :

6302 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وأن تصدقوا خير لكم " قال : وأن تصدقوا برءوس أموالكم على الفقير ، فهو خير لكم ، فتصدق به العباس .

6303 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، يقول : وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك .

6304 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك في قوله : ( وأن تصدقوا خير لكم ) ، يعني : على المعسر ، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل .

6305 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن [ ص: 37 ] جويبر عن الضحاك : وأن تصدقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة . فاختار الله - عز وجل - الصدقة على النظارة .

6306 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم " قال : من النظرة " إن كنتم تعلمون " .

6307 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك : ( فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، والنظرة واجبة ، وخير الله - عز وجل - الصدقة على النظرة ، والصدقة لكل معسر ، فأما الموسر فلا .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه : " وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم " لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين . وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه .

قال أبو جعفر : وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا ، هن آخر آيات نزلت من القرآن .

ذكر من قال ذلك :

6308 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، [ ص: 38 ] وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة .

6039 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم ، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم " . [ ص: 39 ]

6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا قبيصة قال : حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن الشعبي عن ابن عباس قال : آخر ما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .
القول في تأويل قوله تعالى ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( 281 ) )

قال أبو جعفر : وقيل : هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن .

ذكر من قال ذلك :

6311 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو تميلة قال : حدثنا الحسين بن واقد [ ص: 40 ] عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .

6312 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . . . " الآية ، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت .

6313 - حدثني محمد بن عمارة قال : حدثنا سهل بن عامر قال : حدثنا مالك بن مغول عن عطية قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " .

[ ص: 41 ] 6314 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن السدي قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .

6315 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس وحجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس آخر آية نزلت من القرآن : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " قال ابن جريج : يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بعدها تسع ليال ، وبدئ يوم السبت ، ومات يوم الاثنين .

6316 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين .

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واحذروا أيها الناس يوما ترجعون [ ص: 42 ] فيه إلى الله " فتلقونه فيه ، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم ، أو بمخزيات تخزيكم ، أو بفاضحات تفضحكم ، فتهتك أستاركم ، أو بموبقات توبقكم ، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به ، وإنه يوم مجازاة بالأعمال ، لا يوم استعتاب ، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة ، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة ، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح ، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت ، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها ، وهم لا يظلمون . وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها ؟ ! كلا بل عدل عليك أيها المسيء ، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن ، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره ، وراقبه أن يهجم عليه يومه ، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ، ومن صالحات الأعمال خفيف ، فإنه - عز وجل - حذر فأعذر ، ووعظ فأبلغ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #383  
قديم 30-01-2023, 11:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(369)
الحلقة (383)
صــ 43 إلى صــ 60



. [ ص: 43 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : " إذا تداينتم " يعني : إذا تبايعتم بدين ، أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم أو أخذتم به " إلى أجل مسمى " يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم . وقد يدخل في ذلك القرض والسلم ، وكل ما جاز [ فيه ] السلم مسمى أجل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه . ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة . كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى ، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه .

وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة .

ذكر الرواية عنه بذلك :

6317 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن عيسى الرملي عن سفيان عن ابن أبي نجيح قال قال ابن عباس في : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " قال : السلم في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم . [ ص: 44 ]

6318 - حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال : حدثنا يحيى بن الصامت قال : حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن أبي حيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عباس : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " قال : نزلت في السلم ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

6319 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان عن أبي حيان عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " في السلم ، في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

6320 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن محبب قال : حدثنا سفيان عن [ ص: 45 ] أبي حيان التيمي عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " في السلف في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

6321 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي ، عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله - عز وجل - قد أحله وأذن فيه . ويتلو هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " [ ص: 46 ]

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه قوله : " بدين " وقد دل بقوله : " إذا تداينتم " عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن يقال " بدين " ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولا عندها : " تداينا " بمعنى تجازينا ، وبمعنى : تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله : " بدين " المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله : " تداينتم " حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة .

وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ سورة الحجر : 30\ سورة ص : 73 ] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع .
[ ص: 47 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فاكتبوه )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " فاكتبوه " فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض .

واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب .

فقال بعضهم : هو حق واجب وفرض لازم .

ذكر من قال ذلك :

6322 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال : من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب ، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى .

6323 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال : فمن ادان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد .

6324 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " فكان هذا واجبا .

6325 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بمثله وزاد فيه ، قال : ثم قامت الرخصة والسعة . قال : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) [ ص: 48 ] .

6326 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه .

وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) .

ذكر من قال ذلك :

6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن ابن شبرمة عن الشعبي قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد ، لقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال ابن عيينة قال ابن شبرمة عن الشعبي : إلى هذا انتهى .

6328 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : رخص من ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه . [ ص: 49 ]

6329 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن الشعبي قال : إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب .

6330 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : " فإن أمن بعضكم بعضا " نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود ، رخصة ورحمة من الله .

6331 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال غير عطاء : نسخت الكتاب والشهادة : " فإن أمن بعضكم بعضا " .

6332 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : فلولا هذا الحرف ، لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن . فلما جاءت هذه نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة .

6333 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد ؟ قال : ألم تر أن الله - عز وجل - يقول : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟

6334 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا [ ص: 50 ] داود عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .

6335 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن داود عن الشعبي في قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حل وسعة .

6336 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي : أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قد نسخ ما كان قبله .

6337 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال : حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة ، [ عن أبيه ] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " إلى : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال : هذه نسخت ما قبلها .
[ ص: 51 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين " كاتب بالعدل " يعني : بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحق حقه ، ولا يبخسه ، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه ، كما :

6338 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ، ولا يزيدن فيه باطلا .

وأما قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فإنه يعني : ولا يأبين كاتب استكتب ذلك ، أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه .

وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك ، [ ص: 52 ] نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق .

ذكر من قال ذلك :

6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " ولا يأب كاتب " قال : واجب على الكاتب أن يكتب .

6340 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب " أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم قال : ابن جريج ، وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب .

6341 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " بمثله .

6342 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن عامر وعطاء قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت ، فلا تأب أن تكتب لهم .

ذكر من قال : " هي منسوخة " . قد ذكرنا جماعة ممن قال : " كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها " وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني .

6343 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن [ ص: 53 ] جويبر عن الضحاك : " ولا يأب كاتب " قال : كانت عزيمة ، فنسختها : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

6344 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر . عن أبيه ، عن الربيع : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فكان هذا واجبا على الكتاب .

وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه .

ذكر من قال ذلك :

6345 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله - عز وجل - أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب . ولا دلالة تدل على أن أمره - جل ثناؤه - باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه .

ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . لأن ذلك إنما أذن الله - تعالى ذكره - به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب . فأما والكتاب والكاتب موجودان فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله - تعالى ذكره - به في قوله : " فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " . [ ص: 54 ]

وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها . فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .

ولو وجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ناسخا قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " - لوجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) [ سورة المائدة : 6 ] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله - عز وجل - بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) [ سورة المائدة : 6 ] وأن يكون قوله في كفارة الظهار : ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) [ سورة المجادلة : 4 ] ناسخا قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) [ سورة المجادلة : 3 ] . فيسأل القائل إن قول الله - عز وجل - : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ناسخ قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " : ما الفرق بينه وبين قائل في التيمم وما ذكرنا قوله فزعم أن كل ما أبيح في حال [ ص: 55 ] الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ؟

فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " كلام منقطع عن قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : " فرهان مقبوضة " . وإنما عنى بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " فأمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .

قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله : " ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " ؟

وأما الذين زعموا أن قوله : " فاكتبوا " وقوله : " ولا يأب كاتب " على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله - عز وجل - الذي أمر في كتابه ، ويسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره . فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .

ذكر من قال : " العدل " في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " : الحق . [ ص: 56 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا )

قال أبو جعفر : يعني بذلك : " فليكتب " الكاتب وليملل الذي عليه الحق " وهو الغريم المدين يقول : ليتول المدين إملال كتاب ما عليه من دين رب المال على الكاتب " وليتق الله ربه " المملي الذي عليه الحق ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئا أن ينقصه منه ظلما أو يذهب به منه تعديا ، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من سيئاته ، كما :

6346 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فليكتب وليملل الذي عليه الحق " فكان هذا واجبا - " وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا " يقول : لا يظلم منه شيئا .

6347 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يبخس منه شيئا " قال : لا ينقص من حق هذا الرجل شيئا إذا أملى .
[ ص: 57 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " فإن كان المدين الذي عليه المال " سفيها " يعني : جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب ، كما : -

6348 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " أما السفيه : فالجاهل بالإملاء والأمور .

وقال آخرون : بل " السفيه " في هذا الموضع الذي عناه الله : الطفل الصغير .

ذكر من قال ذلك :

6349 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط عن السدي : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " أما السفيه فهو الصغير .

6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " قال : هو الصبي الصغير ، فليملل وليه بالعدل .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : " السفيه في هذا الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه " لما قد بينا قبل من أن معنى " السفه " في كلام العرب : الجهل . [ ص: 58 ]

وقد يدخل في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " كل جاهل بصواب ما يمل من خطئه من صغير وكبير ، وذكر وأنثى . غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم والنساء . لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " والصبي ومن يولى عليه لا يجوز مداينته ، وأن الله - عز وجل - قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله ،ففي فصله - جل ثناؤه - الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميز بين صفاتهم غير الصنفين الآخرين .

وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوة على الإملال ، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجز عن إملاله ، وإن كان شديدا رشيدا ، إما لعي لسانه أو خرس به وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله ، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه ، وإما لغيبته عن موضع الإملال ، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب .

فوضع الله جل وعز عنهم فرض إملال ذلك ، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها ، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي [ ص: 59 ] الحق بإملاله فقال : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " يعني : ولي الحق .

ولا وجه لقول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الصغير ، وأن " الضعيف " هو الكبير الأحمق ؛ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله : " أو لا يستطيع أن يمل هو " هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب . وإذا كان ذلك كذلك معناه ، لبطل معنى قوله : " فليملل وليه بالعدل " لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا ، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره . وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الأحمق .

ذكر من قال ذلك :

6351 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " يقول : ولي الحق .

6352 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " قال يقول : إن كان عجز عن ذلك أمل صاحب الدين بالعدل . [ ص: 60 ]

ذكر الرواية عمن قال : " عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق " وبقوله : " فليملل وليه بالعدل " ولي السفيه والضعيف .

6353 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو " قال : أمر ولي السفيه أو الضعيف أن يمل بالعدل .

6354 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما الضعيف فهو الأحمق .

6355 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : أما الضعيف فالأحمق .

6356 - حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه .

وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك .

وأما قوله : " فليملل وليه بالعدل " فإنه يعني : بالحق .
القول في تأويل قوله تعالى ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واستشهدوا على حقوقكم شاهدين .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #384  
قديم 30-01-2023, 11:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(370)
الحلقة (384)
صــ 61 إلى صــ 78




يقال : " فلان " شهيدي على هذا المال ، وشاهدي عليه " . [ ص: 61 ]

وأما قوله : " من رجالكم " فإنه يعني من أحراركم المسلمين دون عبيدكم ودون أحراركم الكفار ، كما : -

6357 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " قال : الأحرار .

6358 - حدثني يونس قال أخبرنا علي بن سعيد عن هشيم عن داود بن أبي هند عن مجاهد مثله .
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فإن لم يكونا رجلين فليكن رجل وامرأتان على الشهادة . ورفع " الرجل والمرأتان " بالرد على " الكون " . وإن شئت قلت : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك . وإن شئت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه . وإن قلت : فإن لم يكونا رجلين فهو رجل وامرأتان ، كان صوابا . كل ذلك جائز .

ولو كان " فرجلا وامرأتين " نصبا كان جائزا على تأويل " فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين " . [ ص: 62 ]

وقوله : " ممن ترضون من الشهداء " يعني : من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم ، كما : -

6359 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " يقول : في الدين " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " وذلك في الدين " ممن ترضون من الشهداء " يقول : عدول .

6360 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " أمر الله - عز وجل - أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " .
القول في تأويل قوله ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) بفتح " الألف " من " أن " ونصب " تضل " و " تذكر " بمعنى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير . لأن " التذكير " عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان " تضل " . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم . وقالوا : إنما نصبنا " تذكر " لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه [ ص: 63 ] مردودا عليه ، كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى " بمعنى إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل - أو : إذا سأل . فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة . ولكن قوله : " أن يسأل " لما تقدم اتصل بما قبله وهو قوله : " ليعجبني " ففتح " أن " ونصب بها ، ثم أتبع ذلك قوله : " يعطى " فنصبه بنصب قوله : " ليعجبني أن يسأل " نسقا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء .

وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين " الذال " من ( تذكر ) وتخفيف كافها . وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك .

وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما ، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها ، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور ، فكأن كل واحدة منهما - في قول متأولي ذلك بهذا المعنى - صيرت صاحبتها معها ذكرا . وذهب إلى قول العرب : " لقد أذكرت بفلان أمه " أي ولدته ذكرا " فهي تذكر به " " وهي امرأة مذكر " إذا كانت تلد الذكور من الأولاد . وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله . [ ص: 64 ]

6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " من الذكر بعد النسيان ، إنما هو من الذكر ، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر .

وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى " الذكر " بعد النسيان .

وقرأ ذلك آخرون : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) " بكسر " إن " من قوله : " إن تضل " ورفع " تذكر " وتشديده ، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها ذكرتها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك وانقطاع ذلك عما قبله . ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية .

وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه . وإنما نصب الأعمش " تضل " لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو " إن " . وتأويل الكلام على [ ص: 65 ] قراءته " إن تضلل " فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى حركها إلى أخف الحركات ، ورفع " تذكر " بالفاء ؛ لأنه جواب الجزاء .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح " أن " من قوله : " أن تضل إحداهما " وبتشديد الكاف من قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " . ونصب الراء منه بمعنى : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجل وامرأتان ، كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى .

وأما نصب " فتذكر " فبالعطف على " تضل " وفتحت " أن " بحلولها محل " كي " وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده ، اكتفاء بفتحها أعني بفتح " أن " من " كي " ونسق الثاني - أعني : " فتذكر " - على " تضل " ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر ، قد دل عليه وأدى عن معناه وعمله - أي عن " كي " .

وإنما اخترنا ذلك في القراءة ، لإجماع الحجة من قدماء القرأة والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم . ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها . وأما اختيارنا " فتذكر " بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى ، وتعريفها بأنها [ نسيت ] ذلك ، لتذكر . فالتشديد به أولى من التخفيف . [ ص: 66 ]

وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويل خطأ لا معنى له ، لوجوه شتى :

أحدها : أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل .

والثاني : أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها ، إنما هو ذهابها عنها ونسيانها إياها ، كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه فعدل عن الحق . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة ، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها ، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ وللضالة منهما في شهادتها حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها شحذتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، كما يقال للشيء القوي في عمله : " ذكر " وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : " سيف ذكر " و " رجل ذكر " يراد به : ماض في عمله ، قوي البطش ، صحيح العزم .

فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ، [ ص: 67 ] إلا أنه إذا تئول ذلك كذلك ، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه ، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها . ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : " فتذكر " . ولا نعلم أحدا تأول ذلك كذلك ، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى . فالصواب في قراءته - إذ كان الأمر عاما على ما وصفنا - ما اخترنا .

ذكر من تأول قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " نحو تأويلنا الذي قلنا فيه :

6362 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم ، وأدرك لأموالكم . ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا ، وإن كان فاجرا فبالحري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا .

6363 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .

6364 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 68 ] عن السدي : " أن تضل إحداهما " يقول : تنسى إحداهما الشهادة ، فتذكرها الأخرى .

6365 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " أن تضل إحداهما " يقول : إن تنس إحداهما تذكرها الأخرى .

6366 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " قال : كلاهما لغة ، وهما سواء ، ونحن نقرأ : " فتذكر " .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية .

فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا ، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق .

ذكر من قال ذلك :

6367 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم ، فيدعوهم إلى الشهادة ، فلا يتبعه أحد منهم . قال : وكان قتادة يتأول هذه الآية : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ليشهدوا لرجل على رجل .

6368 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : كان الرجل يطوف في القوم [ ص: 69 ] الكثير يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله - عز وجل - : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .

6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة .

وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره . فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير ، إن شاء أجاب ، وإن شاء لم يجب .

ذكر من قال ذلك :

6370 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان عن جابر عن الشعبي قال : " لا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - قال : إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد .

وقال آخرون : معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه ، والقيام بما عنده من الشهادة - من الإجابة .

ذكر من قال ذلك :

6371 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا أبو عامر عن الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : قال الحسن : الإقامة والشهادة .

6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر [ ص: 70 ] في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : كان الحسن يقول : جمعت أمرين : لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة .

6373 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يعني : من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحل له أن يأبى إذا ما دعي .

6374 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن يونس عن الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : لإقامتها ، ولا يبدأ بها إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها .

ذكر من قال ذلك :

6375 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا شهد .

6376 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك .

6377 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يقول : إذا كانوا قد أشهدوا .

6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانت عندك شهادة فدعيت .

6379 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ليث عن [ ص: 71 ] مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانت شهادة فأقمها ، فإذا دعيت لتشهد فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب .

6380 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح عن عمران بن حدير قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت .

6381 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن جابر عن عامر قال : الشاهد بالخيار ما لم يشهد .

6382 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم عن يونس عن عكرمة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " . قال : لإقامة الشهادة .

6383 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن أبي عامر عن عطاء قال : في إقامة الشهادة .

6384 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو عامر المزني قال سمعت عطاء يقول : ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .

6385 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو حرة ، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال : أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها . قال : فلا تجب إن شئت .

6386 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم عن مغيرة قال : سألت إبراهيم [ ص: 72 ] قلت : أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئت .

6387 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا أبو عامر عن عطاء قال : للإقامة .

6388 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانوا قد شهدوا .

6389 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال أخبرنا ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : هو الذي عنده الشهادة .

6390 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا .

6391 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : هم الذين قد شهدوا . قال : ولا يضر إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء . قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء ! قال : كذلك يجب على الكاتب أن يكتب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء ، الشهداء كثير .

6392 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها .

6393 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : [ ص: 73 ] " ولا يأب الشهداء " قال : كان الحسن يتأولها : إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها .

6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كتب الرجل شهادته أو أشهد لرجل فشهد ، والكاتب الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مقطع الحق ، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه .

وقال آخرون : هو أمر من الله - عز وجل - الرجل والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء ، لا لإقامة الشهادة ، ولكنه أمر ندب لا فرض .

ذكر من قال ذلك :

6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال : حدثنا أبو قتيبة عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد .

6396 - حدثني أبو العالية قال : حدثنا أبو قتيبة عن محمد بن ثابت العصري عن عطاء ، بمثله .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : " [ معنى ] [ ص: 74 ] ذلك : ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له " .

وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله - عز وجل - قال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم " الشهداء " . وغير جائز أن يلزمهم اسم " الشهداء " إلا وقد استشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم " الشهداء " . فأما قبل أن يستشهدوا على شيء ، فغير جائز أن يقال لهم " شهداء " . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم ، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له " شاهد " بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد . وإذ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، أو من قد أقام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلوما أن المعني بقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " من وصفنا صفته ممن قد استرعي شهادة ، أو شهد فدعي إلى القيام بها ؛ لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستحق اسم " شهيد " ولا " شاهد " لما قد وصفنا قبل .

مع أن في دخول " الألف واللام " في " الشهداء " دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة ، أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة ، [ ص: 75 ] وأنهم الذين أمر الله - عز وجل - أهل الحقوق باستشهادهم بقوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " . وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعدما استشهدوا فشهدوا . ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل : ولا يأب شاهد إذا ما دعي .

غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة ، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها ، كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرض عليه أن يكتب كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام ، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله فسأله تعليمه وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له . ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا . وإن فرضا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حق أخيه المسلم .

" والشهداء " جمع " شهيد " .
[ ص: 76 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولا تسأموا ، أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحق ، يعني قليله أو كبيره يعني أو كثيره إلى أجله إلى أجل الحق ، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال .

6397 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن شريك عن ليث عن مجاهد : " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " قال : هو الدين .

ومعنى قوله : " ولا تسأموا " : لا تملوا . يقال منه : " سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمة " ومنه قول لبيد :


ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس : كيف لبيد ؟


ومنه قول زهير :


سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاما لا أبالك يسأم


يعني مللت .

وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : " إلى أجله " إلى أجل الشاهد . ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه . وقد بينا القول فيه .
[ ص: 77 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ذلكم أقسط عند الله )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " ذلكم " اكتتاب كتاب الدين إلى أجله .

ويعني بقوله : " أقسط " أعدل عند الله .

يقال منه : " أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا ، وهو مقسط " إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه . فإذا جار قيل : " قسط فهو يقسط قسوطا " . ومنه قول الله - عز وجل - : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ سورة الجن : 15 ] ، يعني الجائرون .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6398 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ذلكم أقسط عند الله " يقول : أعدل عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى ( وأقوم للشهادة )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأصوب للشهادة .

وأصله من قول القائل : " أقمت من عوجه " إذا سويته فاستوى .

وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ، [ ص: 78 ] لأنه يحوي الألفاظ التي أقر بها البائع والمشتري ورب الدين والمستدين على نفسه ، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب . وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به . واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وأدنى ألا ترتابوا )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " وأدنى " وأقرب من " الدنو " وهو القرب .

ويعني بقوله : " أن لا ترتابوا " أن لا تشكوا في الشهادة ، كما : -

6399 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي " ذلك أدنى أن لا ترتابوا " يقول : أن لا تشكوا في الشهادة .

وهو " تفتعل " من " الريبة " .

ومعنى الكلام : ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحق الذي لكم قبل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرا ، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه ، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #385  
قديم 30-01-2023, 11:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(371)
الحلقة (385)
صــ 79 إلى صــ 97



[ ص: 79 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها )

قال أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قبلهم من حق عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك ؛ لأن كل واحد منهم - أعني من الباعة والمشترين - يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم . فلذلك قال - تعالى ذكره - : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6400 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " يقول : معكم بالبلد ترونها ، فتأخذ وتعطي ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها . [ ص: 80 ]

6401 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك . " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " إلى قوله : " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه ، صغيرا كان أو كبيرا ، ورخص لهم أن لا يكتبوه .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة ) بالرفع .

وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع " كان " وتضمر معها في " كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعاما طيبا فأتنا به " وترفعها فتقول : " إن كان طعام طيب فأتنا به " فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ثم لا أستجيز القراءة بغيره الرفع في " التجارة الحاضرة " ؛ لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :


أعيني هلا تبكيان عفاقا إذا كان طعنا بينهم وعناقا
[ ص: 81 ]

وقول الآخر :


ولله قومي أي قوم لحرة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
! !

وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها . و " كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ، تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة " كان " لمنصوب ومرفوع . ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في " كان " مجهولا لاحتمالها الضمير .

وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا : " إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها " تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت - أحيانا ، وتؤنث أحيانا . [ ص: 82 ]

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " مرفوعة فيه " التجارة الحاضرة " لأن " تكون " بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث . فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذ لم يكن يجدك ل " كان " منصوبا ، ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : " تديرونها بينكم " أن يكون خبرا ل " كان " فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم .

والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه وفي المعنى أصح : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان " و " التجارة الحاضرة " اسمها . والآخر : أنه في موضع رفع على إتباع " التجارة الحاضرة " لأن خبر النكرة يتبعها . فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وأشهدوا إذا تبايعتم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونسائه ، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيد ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه . لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرة على كل من الفريقين . أما على المشتري فأن يجحد البائع [ ص: 83 ] البيع ، وله بينة على ملكه ما قد باع ، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه ، فيكون القول حينئذ قول البائع مع يمينه ويقضى له به ، فيذهب مال المشتري باطلا وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء ، وقد زال ملك البائع عما باع ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلف على ذلك ، فيبطل حق البائع قبل المشتري من ثمن ما باعه . فأمر الله - عز وجل - الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر .

ثم اختلفوا في معنى قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟

فقال بعضهم : " هو ندب ، إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد " .

ذكر من قال ذلك :

6402 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن الربيع عن الحسن وشقيق عن رجل عن الشعبي في قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟

6403 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا الربيع بن صبيح قال : قلت للحسن : أرأيت قول الله - عز وجل - : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد عليه فلا بأس .

6404 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن الربيع بن صبيح قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله - عز وجل - : " وأشهدوا إذا تبايعتم " أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة ، أترى [ ص: 84 ] بأسا أن لا أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس .

6405 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا يزيد بن زريع عن داود عن الشعبي : " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال : إن شاءوا أشهدوا ، وإن شاءوا لم يشهدوا .

وقال آخرون : " الإشهاد على ذلك واجب " .

ذكر من قال ذلك :

6406 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم . أمر الله ما كان يدا بيد أن يشهدوا عليه ، صغيرا كان أو كبيرا .

6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . وما كان من بيع إلى أجل فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه . وذلك في المقام .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن الإشهاد على كل مبيع ومشتر حق واجب وفرض لازم ، لما قد بينا : من أن كل أمر لله ففرض [ ص: 85 ] إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد .

وقد دللنا على وهي قول من قال : ذلك منسوخ بقوله : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " فيما مضى فأغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى ( و لا يضار كاتب ولا شهيد )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : ذلك نهي من الله الكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله ، فيكتب هذا ما لم يملله المملي ، ويشهد هذا بما لم يستشهده المستشهد .

ذكر من قال ذلك :

6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله : " " ولا يضار كاتب ولا شهيد " " ولا يضار كاتب " فيكتب ما لم يمل عليه " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن يونس قال : كان الحسن يقول : " لا يضار كاتب " فيزيد شيئا أو يحرف " ولا شهيد " قال : لا يكتم الشهادة ، ولا يشهد إلا بحق . [ ص: 86 ]

6410 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : اتقى الله شاهد في شهادته ، لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلا . اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ولا يزيدن فيه باطلا .

6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6412 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن قتادة نحوه .

6413 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب غير الذي أملي عليه . قال : والكتاب يومئذ قليل ، ولا يدرون أي شيء يكتب ، فيضار فيكتب غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم . قال : والشهيد يضار فيحول شهادته ، فيبطل حقهم .

قال أبو جعفر : فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارر كاتب ولا شهيد ، ثم أدغمت " الراء " في " الراء " لأنهما من جنس ، وحركت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأن الفتح أخف الحركات .

وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة . [ ص: 87 ]

ذكر من قال ذلك :

6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج عن عطاء في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : أن يؤديا ما قبلهما .

6415 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء . " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ؟ قال : " لا يضار " أن يؤديا ما عندهما من العلم .

6416 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال أخبرنا ابن المبارك عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال : " لا يضار " كاتب ولا شهيد " قال : أن يدعوهما ، فيقولان : إن لنا حاجة .

6417 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ومجاهد : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قالا واجب على الكاتب أن يكتب " ولا شهيد " قالا إذا كان قد شهد اقبله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يضار المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد " . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضارر ، على وجه ما لم يسم فاعله .

ذكر من قال ذلك :

6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال كان عمر يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " . [ ص: 88 ]

6419 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( ولا يضارر ) .

6420 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد : لا يقم عن شغله وحاجته ، فيجد في نفسه أو يحرج .

6421 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني : إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ! فيضاره بذلك ، وهو مكتف بغيره . فنهاه الله - عز وجل - عن ذلك وقال : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .

6422 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد; فيقول : خلوا سبيله .

6423 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن يونس عن عكرمة في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول : فلا يضاره .

6424 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي ، واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ! فيقول : اتق الله ، فإنك قد أمرت أن تكتب لي ! فهذه المضارة ، ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة . [ ص: 89 ]

6425 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد ، فيقول الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما : إن الله - عز وجل - أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله - عز وجل - لا يضارهما .

6426 - حدثت عن الحسن قال سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا ! فيقول : والله لقد أمركما أن تجيبا ! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما ، يعني : لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما .

6427 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له : اكتب لي ! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي ! تحبسه عن حاجته ، وأنت تجد غيره .

6428 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : لما نزلت هذه الآية : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ! فيقول : إني مشغول أو : لي حاجة ، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول : إنك [ ص: 90 ] قد أمرت أن تكتب لي ! فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره . ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي فاشهد لي ! فيقول : انطلق إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة ! فيلزمه ويقول : قد أمرت أن تتبعني . فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله - عز وجل - : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " .

6429 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إن لي حاجة فدعني ! فيقول : اكتب لي " ولا شهيد " كذلك .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بمعنى : ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا ، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل .

وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله - عز وجل - في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه : " افعلوا أو : لا تفعلوا " إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون . فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب ، كقوله : " وليكتب بينكم كاتب " وكقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " وما أشبه ذلك . فالوجه إذ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " [ بأن يكون [ ص: 91 ] الأمر مردودا على المستكتب والمستشهد ] ، أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد . ومع ذلك فإن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل : وإن يفعلا فإنه فسوق بهما ، لأنهما اثنان ، وأنهما غير مخاطبين بقوله : " ولا يضار " بل النهي بقوله : " ولا يضار " نهي للغائب غير المخاطب . فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وإن تضاروا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك " فإنه فسوق بكم " يعني : إثم بكم ومعصية .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا .

ذكر من قال ذلك :

6430 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " يقول : إن تفعلوا غير الذي آمركم به فإنه فسوق بكم . [ ص: 92 ]

6431 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " والفسوق المعصية .

6432 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " الفسوق العصيان .

وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي ، ويضار شهيد فيحول شهادته ويغيرها " فإنه فسوق بكم " يعني : فإنه كذب .

ذكر من قال ذلك :

6433 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " الفسوق الكذب . قال : هذا فسوق ، لأنه كذب الكاتب فحول كتابه فكذب ، وكذب الشاهد فحول شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذب .

قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى على أن المعني بقوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " إنما معناه : لا يضارهما المستكتب والمستشهد بما فيه الكفاية .

فقوله : " وإن تفعلوا " إنما هو إخبار من يضارهما بحكمه فيهما ، وأن من يضارهما فقد عصى ربه وأثم به ، وركب ما لا يحل له ، وخرج عن طاعة ربه في ذلك .
[ ص: 93 ] القول في تأويل قوله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ( 282 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " واتقوا الله " وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه . ويعني بقوله : " ويعلمكم الله ، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم ، فاعملوا به " والله بكل شيء عليم " يعني : [ بكل شيء ] من أعمالكم وغيرها ، يحصيها عليكم ، ليجازيكم بها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6434 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله : " ويعلمكم الله " قال : هذا تعليم علمكموه فخذوا به .
[ ص: 94 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته القرأة في الأمصار جميعا ( كاتبا ) ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى " فرهان مقبوضة " .

وقرأ جماعة من المتقدمين : ( ولم تجدوا كاتبا ) ، بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل ، إما بتعذر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة .

والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : " ولم تجدوا كاتبا " بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين .

[ قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - ] : وإن كنتم ، أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ، ليكون ثقة لكم بأموالكم .

ذكر من قال ما قلنا في ذلك :

6435 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا ، فرخص له [ ص: 95 ] في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن .

6436 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا " يقول : كاتبا يكتب لكم " فرهان مقبوضة " .

6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله - عز وجل - أن يكتب ويشهد عليه ، وذلك في المقام . فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [ كاتبا ] ، فرهان مقبوضة .

ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها :

6438 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس : " فإن لم تجدوا كتابا " يعني بالكتاب الكاتب والصحيفة والدواة والقلم .

6439 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبي ، عن ابن عباس أنه قرأ : " فإن لم تجدوا كتابا " قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا .

6440 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد ، كان يقرؤها : " فإن لم تجدوا كتابا " ويقول : ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول .

6441 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا " يقول : مدادا ، - يقرؤها كذلك - يقول : فإن لم تجدوا مدادا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة " فرهن مقبوضة " قال : لا يكون الرهن إلا في السفر . [ ص: 96 ]

6442 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب قال : إن أبا العالية كان يقرؤها " فإن لم تجدوا كتابا " قال أبو العالية : توجد الدواة ولا توجد الصحيفة .

قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " فرهان مقبوضة " .

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : ( فرهان مقبوضة ) ، بمعنى جماع " رهن " كما " الكباش " جماع " كبش " و " البغال " جماع " بغل " و " النعال " جماع " نعل " .

وقرأ ذلك جماعة آخرون : ( فرهن مقبوضة ) على معنى جمع " رهان " " ورهن " جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع " رهن " : ، مثل " سقف وسقف " .

وقرأه آخرون : ( فرهن ) مخففة الهاء على معنى جماع " رهن " كما تجمع " السقف سقفا " . قالوا : ولا نعلم اسما على " فعل " يجمع على " فعل وفعل " إلا " الرهن والرهن " . و " السقف والسقف " .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : " فرهان مقبوضة " . لأن ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على " فعل " كما يقال : " حبل وحبال " و " كعب وكعاب " ونحو ذلك من الأسماء . فأما جمع " الفعل " على " الفعل أو الفعل " فشاذ قليل ، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل : " سقف وسقف وسقف " " وقلب وقلب وقلب " من : " قلب النخل " . " وجد وجد " للجد الذي هو بمعنى الحظ . وأما ما جاء من جمع " فعل " على " فعل " [ ص: 97 ] ف " ثط ، وثط " و " ورد وورد " و " خود وخود " .

وإنما دعا الذي قرأ ذلك : " فرهن مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك ، مع شذوذه في جمع " فعل " أنه وجد " الرهان " مستعملة في رهان الخيل ، فأحب صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل ، الذي هو بغير معنى " الرهان " الذي هو جمع " رهن " ووجد " الرهن " مقولا في جمع " رهن " كما قال قعنب :

بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قلبك الرهن
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فإن كان المدين أمينا عند رب المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته " فليتق الله " المدين " ربه " يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده ، أو يلط دونه ، أو يحاول الذهاب به ، فيتعرض من عقوبة الله لما لا قبل له ، به وليؤد دينه الذي ائتمنه عليه إليه .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #386  
قديم 31-01-2023, 12:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(372)
الحلقة (386)
صــ 98 إلى صــ 115



وقد ذكرنا قول من قال : " هذا الحكم من الله - عز وجل - ناسخ الأحكام التي [ ص: 98 ] في الآية قبلها : من أمر الله - عز وجل - بالشهود والكتاب " . وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وقد : -

6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " إنما يعني بذلك : في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا ، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا .

قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله الضحاك من أنه ليس لرب الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر ، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل .

وأما ما قاله من أن الأمر في الرهن أيضا كذلك ، مثل الائتمان : في أنه ليس لرب الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر فإنه قول لا معنى له ، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : -

6444 - أنه اشترى طعاما نساء ، ورهن به درعا له .

فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بماله من حق في السفر والحضر - لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن معلوما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن - حين رهن من ذكرنا - غير واجد كاتبا ولا شهيدا ، لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد ، غير أنهما إذا تبايعا برهن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد ، أو كان البيع [ ص: 99 ] أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن . وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك ، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ( 283 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خطاب من الله - عز وجل - للشهود الذين أمر المستدين ورب المال بإشهادهم ، فقال لهم : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - ولا تكتموا أيها الشهود بعدما شهدتم شهادتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه ، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه .

ثم أخبر الشاهد - جل ثناؤه - ما عليه في كتمان شهادته ، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان ، فقال : " ومن يكتمها " . يعني : ومن يكتم شهادته " فإنه آثم قلبه " يقول : فاجر قلبه ، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله ، كما : -

6445 - حدثني المثنى قال أخبرنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما .

6446 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي [ ص: 100 ] قوله : " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " يقول : فاجر قلبه .

6447 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ سورة المائدة : 72 ] ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله - عز وجل - يقول : " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : " على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر بها حيث استخبر " .

6448 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن محمد بن مسلم قال أخبرنا عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها ، ولا تقل : " أخبر بها عند الأمير " أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي .

وأما قوله : " والله بما تعملون عليم " فإنه يعني : " بما تعملون " في شهادتكم من إقامتها والقيام بها ، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها " عليم " يحصيه عليكم ، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرا وإما شرا على قدر استحقاقكم .
[ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " لله ما في السماوات وما في الأرض " لله ملك كل ما في السماوات وما في الأرض من صغير وكبير ، وإليه تدبير جميعه ، وبيده صرفه وتقليبه ، لا يخفى عليه منه شيء ، لأنه مدبره ومالكه ومصرفه .

وإنما عنى بذلك - جل ثناؤه - كتمان الشهود الشهادة ، يقول : لا تكتموا الشهادة أيها الشهود ، ومن يكتمها يفجر قلبه ، ولن يخفى علي كتمانه ذلك ، لأني بكل شيء عليم ، وبيدي صرف كل شيء في السماوات والأرض وملكه ، أعلم خفي ذلك وجليه ، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة وعيدا من الله بذلك من كتمها ، وتخويفا منه له به . ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرائهم ممن انطوى كشحا على معصية فأضمرها ، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " يقول : وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حق رب المال الجحود والإنكار ، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم ، وغير ذلك من سيئ أعمالكم " يحاسبكم به الله " يعني [ ص: 102 ] بذلك : يحتسب به عليكم من أعمالكم ، فمجاز من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله ، وغافر لمن شاء منكم من المسيئين .

ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .

فقال بعضهم بما قلنا : من أنه عنى به الشهود في كتمانهم الشهادة ، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها .

ذكر من قال ذلك :

6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال : حدثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يقول : يعني في الشهادة .

6450 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : سئل داود عن قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فحدثنا عن [ ص: 103 ] عكرمة قال : هي الشهادة إذا كتمتها .

6452 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن عمرو وأبي سعيد : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

6453 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن السدي عن الشعبي في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

6454 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .

6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن عكرمة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يعني كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها .

وقال آخرون : " بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبارك وتعالى عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " .

ثم اختلف متأولو ذلك كذلك .

فقال بعضهم : " ثم نسخ الله ذلك بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ سورة البقرة : 286 ] "

ذكر من قال ذلك :

6456 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إسحاق بن سليمان عن مصعب بن [ ص: 104 ] ثابت عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت : " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " اشتد ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ! هلكنا ! فأنزل الله - عز وجل - : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية إلى قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ، قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله : نعم ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) إلى آخر الآية قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله - عز وجل - : نعم .

6457 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع [ ص: 105 ] قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سمعنا وأطعنا وسلمنا . قال : فألقى الله - عز وجل - الإيمان في قلوبهم ، قال : فأنزل الله - عز وجل - : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ) قال أبو كريب : فقرأ : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال فقال : قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال : قد فعلت ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : قال : قد فعلت ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال : قد فعلت . [ ص: 106 ]

6458 - حدثني أبو الرداد المصري عبد الله بن عبد السلام قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد عن حيوة بن شريح قال سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول : قال ابن شهاب حدثني سعيد ابن مرجانة قال : جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " . ثم قال ابن عمر : لئن آخذنا بهذه الآية ، لنهلكن ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دموعه . قال ثم جئت عبد الله بن العباس فقلت : يا أبا عباس ، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، ثم قال : لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكن ! ثم بكى حتى سالت دموعه ! فقال ابن عباس : يغفر الله لعبد الله بن عمر ! لقد فرق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها كما فرق ابن عمر منها ، فأنزل الله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، فنسخ الله الوسوسة ، وأثبت القول والفعل .

6459 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة يحدث : أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ! ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه ، فقال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس [ ص: 107 ] فذكرت له ما تلا ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ! لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) إلى آخر السورة . قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله - عز وجل - أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .

6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال سمعت الزهري يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : قرأها ابن عمر فبكى وقال : إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ! فبكى حتى سمع نشيجه ، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له ، فقال : رحم الله ابن عمر ! لقد وجد المسلمون نحوا مما وجد ، حتى نزلت : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

6461 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال : كنت عند ابن عمر فقال : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فبكى . فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك ، فضحك ابن عباس فقال : يرحم الله ابن عمر ! [ ص: 108 ] أوما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غما شديدا وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا ! فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولوا : " سمعنا وأطعنا " فنسختها : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) إلى قوله : ( وعليها ما اكتسبت ) فتجوز لهم من حديث النفس ، وأخذوا بالأعمال .

6462 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم : أن أباه قرأ : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فدمعت عينه ، فبلغ صنيعه ابن عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . [ ص: 109 ]

6463 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : نسخت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " - ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

6464 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قالوا : أنؤاخذ بما حدثنا به أنفسنا ، ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال : فنزلت هذه الآية : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ، قال : ويقول : قد فعلت . قال : فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " لم تعطها الأمم قبلها . [ ص: 110 ]

6465 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : حدثنا إسماعيل عن عامر : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " قال : فنسختها الآية بعدها ، قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

6466 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسختها الآية التي بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقوله : " وإن تبدوا " قال : يحاسب بما أبدى من سر أو أخفى من سر ، فنسختها التي بعدها .

6467 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا سيار عن الشعبي قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " قال : فكان فيها شدة ، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فنسخت ما كان قبلها .

6468 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن ابن عون قال : ذكروا عند الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " حتى بلغ ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فقال الشعبي : إلى هذا صار ، رجعت إلى آخر الآية .

6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : قال ابن مسعود : كانت المحاسبة قبل أن تنزل : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها .

6470 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد [ ص: 111 ] قال سمعت الضحاك يذكر ، عن ابن مسعود نحوه .

6471 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن بيان ، عن الشعبي قال : نسخت " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

6472 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وسفيان عن جابر عن مجاهد وعن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قالوا : نسخت هذه الآية ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية .

6473 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة وعامر بمثله .

6474 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد عن حميد عن الحسن في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " إلى آخر الآية ، قال : محتها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

6475 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : أنه قال : نسخت هذه الآية يعني قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية التي كانت قبلها : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .

6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسختها قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

6477 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال حدثني ابن زيد قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " إلى آخر [ ص: 112 ] الآية ، اشتدت على المسلمين ، وشقت مشقة شديدة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو وقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وأخذنا الله به ؟ قال : " فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : " سمعنا وعصينا " ! قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله ! قال : فنزل القرآن يفرجها عنهم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلى قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فصيره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب .

6478 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا هشيم عن سيار عن أبي الحكم عن الشعبي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسخت هذه الآية التي بعدها : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

6479 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وسوست به أنفسهم وما عملوا ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن عمل أحدنا وإن لم يعمل أخذنا به ؟ والله ما نملك الوسوسة ! ! فنسخها الله بهذه الآية التي بعد بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية ، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا .

6480 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : نسختها قوله : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) . [ ص: 113 ]

وقال آخرون ممن قال معنى ذلك : " الإعلام من الله - عز وجل - عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم ، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " " هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله - عز وجل - محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أسروه في أنفسهم ونووه وأرادوه ، فيغفره للمؤمنين ، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفاق " .

ذكر من قال ذلك :

6481 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فإنها لم تنسخ ، ولكن الله - عز وجل - إذا جمع الخلائق يوم القيامة ، يقول الله - عز وجل - : " إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي " فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله : " يحاسبكم به الله " يقول : يخبركم . وأما أهل الشك والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) [ سورة البقرة : 225 ] ، من الشك والنفاق .

6482 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فذلك سر عملكم وعلانيته ، يحاسبكم به الله ، فليس من عبد [ ص: 114 ] مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به ، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات ، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن ، والله يرضى سر المؤمنين وعلانيتهم . وإن كان سوءا حدث به نفسه ، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تبلى السرائر ، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه ، كما قال : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ) [ سورة الأحقاف : 16 ] .

6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ، الآية ، قال : قال ابن عباس : إن الله يقول يوم القيامة : " إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت " .

6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا علي بن عاصم قال أخبرنا بيان عن بشر عن قيس بن أبي حازم قال : إذا كان يوم القيامة قال الله - عز وجل - يسمع الخلائق : " إنما كان كتابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم ، فأما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه ، أنا الله أعلم بذلك كله منكم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت " .

6485 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " كان ابن عباس يقول : إذا دعي الناس للحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول : " إنه كان لا يعزب عني شيء ، وإني مخبركم بما كنتم تسرون من السوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطلعين عليه " . فهذه المحاسبة . [ ص: 115 ]

6486 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس نحوه .

6487 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : هي محكمة ، لم ينسخها شيء يقول : " يحاسبكم به الله " يقول : يعرفه الله يوم القيامة : " إنك أخفيت في صدرك كذا وكذا " ! لا يؤاخذه .

6488 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : هي محكمة لم تنسخ .

6489 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : من الشك واليقين .

6490 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يقول : في الشك واليقين .

6491 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #387  
قديم 31-01-2023, 12:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(373)
الحلقة (387)
صــ 116 إلى صــ 132





قال أبو جعفر : فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة : وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان ، وأعذب أهل الشرك والنفاق في ديني . [ ص: 116 ]

وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، وعلى ما قاله الربيع بن أنس ، فإن تأويلها : إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه ، يعلمكم به الله يوم القيامة ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

وأما قول مجاهد ، فشبيه معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة .

وقال آخرون ممن قال : " هذه الآية محكمة ، وهي غير منسوخة " ووافقوا الذين قالوا : " معنى ذلك : أن الله - عز وجل - أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم " معناها : إن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيئ أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، ومعاقبهم عليه . غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون منها .

ذكر من قال ذلك :

6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " الآية ، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من هم بسيئة فلم يعملها ، أرسل الله عليه من الهم والحزن مثل الذي هم به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفارته .

6493 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال [ ص: 117 ] سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهم بمعصية ، أو يحدث بها نفسه ، حاسبه الله بها في الدنيا ، يخاف ويحزن ويهتم .

6494 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني أبو تميلة عن عبيد عن الضحاك قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد هم بسوء ومعصية ، وحدث نفسه به ، حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ويشتد همه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا .

6495 - حدثنا الربيع قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " و ( من يعمل سوءا يجز به ) [ سورة النساء : 123 ] فقالت : ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عائشة ، هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير . [ ص: 118 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : " إنها محكمة ، وليست بمنسوخة " . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر ، هو له ناف من كل وجوهه . وليس في قوله جل وعز : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة ، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه .

وقد أخبر الله - عز وجل - عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون : ( يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ ص: 119 ] [ سورة الكهف : 49 ] . فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها ، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها - بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين ؛ لأن الله - عز وجل - وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) [ سورة النساء : 31 ] . فذلك محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم ، غير موجب لهم منه عقوبة ، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها ، ليعرفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها ، كما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الذي : -

6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبي ، عن قتادة عن صفوان بن محرز عن ابن عمر عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يدني الله عبده المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بسيئاته يقول : هل تعرف ؟ فيقول : نعم ! فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم ! ثم يظهر له حسناته فيقول : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) [ سورة الحاقة : 19 ] أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رءوس الأشهاد .

6497 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد ، وهشام وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن [ ص: 120 ] قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : " هل تعرف كذا " ؟ فيقول : " رب اغفر " - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : " فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : فيعطى صحيفة حسناته - أو : كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رءوس الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) . [ سورة هود : 18 ] . [ ص: 121 ]

أن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله ، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها . فكذلك فعله - تعالى ذكره - في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه ، فيستره عليه . وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال : " فيغفر لمن يشاء " .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير ؟

قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو ترك ما أمر بفعله .

فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله - عز وجل - إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله : " ويعذب من يشاء " إن كان لها ما كسبت وعليها [ ص: 122 ] ما اكتسبت ، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب ، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا ؟

قيل له : إن الله - جل ثناؤه - قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله - عز وجل - بقوله : " ويعذب من يشاء " على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله ، والمرية في وحدانيته ، أو في نبوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من عند الله ، أو في المعاد والبعث - من المنافقين ، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال بمثل قولهما إن تأويل قوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " على الشك واليقين .

غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : " ويعذب من يشاء " هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله ، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا والموعود الغفران بقوله : " فيغفر لمن يشاء " هو الذي إخفاء ما يخفيه الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته ، فحرمه على خلقه - جل ثناؤه - أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله ، مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه . فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به ، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك [ ص: 123 ] بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به ، كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

6498 - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه " .

فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ، ثم لا يعاقبهم عليه . فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده - جل ثناؤه - العذاب الأليم بقوله : " ويعذب من يشاء " .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : " وإن تبدوا ما في أنفسكم " أيها الناس ، فتظهروه " أو تخفوه " فتنطوي عليه نفوسكم " يحاسبكم به الله " فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له ، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه .
القول في تأويل قوله تعالى ( والله على كل شيء قدير ( 284 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : والله - عز وجل - على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله - عز وجل - ونبوة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ، وعلى غير ذلك من الأمور قادر .
[ ص: 124 ] القول في تأويل قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : صدق الرسول يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقر " بما أنزل إليه " يعني : بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد وعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها .

وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية عليه قال : يحق له .

6499 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال : ويحق له أن يؤمن .

وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعلكم تقولون : " سمعنا وعصينا " كما قالت بنو إسرائيل ! فقالوا : [ ص: 125 ] بل نقول : " سمعنا وأطعنا " ! فأنزل الله لذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " يقول : وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله ، الآيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .

قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكتبه " .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق ( وكتبه ) على وجه جمع " الكتاب " على معنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وكتابه ) ، بمعنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " وكتابه " ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 - 2 ] ، بمعنى جنس " الناس " وجنس " الكتاب " كما يقال : " ما أكثر درهم فلان وديناره " ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ؛ لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك - أعني بذلك : " وملائكته وكتبه ورسله " - فإلحاق " الكتب " في الجمع لفظا به ، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
[ ص: 126 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لا نفرق بين أحد من رسله )

قال أبو جعفر : وأما قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " فإنه أخبر - جل ثناؤه - بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : " لا نفرق بين أحد من رسله " بالنون ، متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه . وذلك المتروك هو " يقولون " . وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله . وترك ذكر " يقولون " لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) [ سورة الرعد : 23 - 24 ] ، بمعنى : يقولون : سلام .

وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) ب " الياء " بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى ، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا نبوته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله ، وأقروا ببعضه ، كما : -

6500 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " لا نفرق بين أحد من رسله " كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا : فلان نبي ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : [ ص: 127 ] " لا نفرق بين أحد من رسله " لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط بمعنى ما وصفنا من : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله ولا يعترض بشاذ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة .
القول في تأويل قوله تعالى ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 285 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وقال الكل من المؤمنين : " سمعنا " قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه " وأطعنا " يعني : أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له وقوله : " غفرانك ربنا " يعني : وقالوا : " غفرانك ربنا " بمعنى : اغفر لنا ربنا غفرانك ، كما يقال : " سبحانك " بمعنى : نسبحك سبحانك .

وقد بينا فيما مضى أن " الغفران " و " المغفرة " الستر من الله على ذنوب من [ ص: 128 ] غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة ، وعفوه عن العقوبة - عليه .

وأما قوله : " وإليك " المصير " فإنه يعني - جل ثناؤه - أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا ، فاغفر لنا ذنوبنا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : " غفرانك " ؟

قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر . وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : " شكرا لله يا فلان " و " حمدا له " بمعنى : اشكر الله واحمده . " والصلاة ، الصلاة " بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : " الله الله يا قوم " ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :


إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح لجديرون بالوفاء إذا قا
ل أخو النجدة : السلاح السلاح ! !


ولو كان قوله : " غفرانك ربنا " جاء رفعا في القراءة ، لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .

وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء من [ ص: 129 ] الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسل ربك .

6501 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن بيان ، عن حكيم بن جابر قال : لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " قال جبريل : إن الله - عز وجل - قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر السورة .
القول في تأويل قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها . [ ص: 130 ]

وقد بينا فيما مضى قبل أن " الوسع " اسم من قول القائل : " وسعني هذا الأمر " مثل " الجهد " و " الوجد " من : " جهدني هذا الأمر " و " وجدت منه " كما : -

6502 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله - جل ثناؤه - : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ سورة الحج : 78 ] ، وقال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] ، وقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .

6503 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت ، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله ، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان ! كيف نتوب من الوسوسة ؟ كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة .

6504 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وسعها طاقتها . وكان حديث النفس مما لم يطيقوا .
[ ص: 131 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " لها " للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها . يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير " وعليها " يعني : وعلى كل نفس " ما اكتسبت " ما عملت من شر ، كما : -

6505 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت " أي : من خير " وعليها ما اكتسبت " أي : من شر - أو قال : من سوء .

6506 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط . عن السدي . " لها ما كسبت " يقول : ما عملت من خير " وعليها ما اكتسبت " يقول : وعليها ما عملت من شر .

6507 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة مثله .

6508 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري عن عبد الله بن عباس : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " عمل اليد والرجل واللسان .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها .
[ ص: 132 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )

قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله - عز وجل - عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولونه في دعائهم إياه . ومعناه : قولوا : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا " شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله " أو أخطأنا " في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ ، كما : -

6509 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " إن نسينا شيئا مما افترضته علينا أو أخطأنا ، [ فأصبنا ] شيئا مما حرمته علينا .

6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #388  
قديم 31-01-2023, 12:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(374)
الحلقة (388)
صــ 133 إلى صــ 146



6511 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط قال زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم - : فقل ذلك يا محمد . [ ص: 133 ]

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله - عز وجل - عباده بما نسوا أو أخطئوا ، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟

قيل : إن " النسيان " على وجهين : أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط ، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به ، وضعف عقله عن احتماله .

فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منه لما أمر بفعله . فذلك الذي يرغب العبد إلى الله - عز وجل - في تركه مؤاخذته به ، وهو " النسيان " الذي عاقب الله - عز وجل - به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) [ سورة طه : 115 ] ، وهو " النسيان " الذي قال - جل ثناؤه - : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) [ سورة الأعراف : 51 ] . فرغبة العبد إلى الله - عز وجل - بقوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا كفرا بالله - عز وجل - . فإن ذلك إذا كان كفرا بالله ، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة ، لأن الله - عز وجل - قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ . وإنما تكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما .

وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل [ ص: 134 ] يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان ، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه .

وكذلك " الخطأ " وجهان :

أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به مأخوذ . يقال منه : " خطئ فلان وأخطأ " فيما أتى من الفعل ، و " أثم " إذا أتى ما يأثم فيه وركبه ، ومنه قول الشاعر :


الناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

يعني : أخطئوا الصواب ، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه ، إلا ما كان من ذلك كفرا .

والآخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به ، والظن منه بأن له فعله كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر [ ص: 135 ] صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها ، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل ، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله - عز وجل - عن عباده الإثم فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به .

وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ، فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم

وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا )

قال أبو جعفر : ويعني بذلك - جل ثناؤه - : قولوا : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا " يعني ب " الإصر " العهد ، كما قال - جل ثناؤه - : ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) [ سورة آل عمران : 81 ] . وإنما عنى بقوله : " ولا تحمل علينا إصرا ) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه " كما حملته على الذين من قبلنا " يعني : على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها ، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة . فعلم الله - عز وجل - أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها [ ص: 136 ] أو أخطئوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحل بمن قبلهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " لا تحمل علينا إصرا " قال : لا تحمل علينا عهدا وميثاقا كما حملته على الذين من قبلنا . يقول : كما غلظ على من قبلنا .

6513 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي عن مجاهد في قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : عهدا

6514 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " إصرا " قال : عهدا .

6515 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله : " إصرا " يقول : عهدا .

6516 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " والإصر : العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود .

6517 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : عهدا لا نطيقه ولا نستطيع [ ص: 137 ] القيام به " كما حملته على الذين من قبلنا " اليهود والنصارى فلم يقوموا به فأهلكتهم .

6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك : " إصرا " قال : المواثيق .

6519 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " الإصر " العهد . ( وأخذتم على ذلكم إصري ) [ سورة آل عمران 81 ] ، قال : عهدي .

6520 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وأخذتم على ذلكم إصري ) ، قال : عهدي .

وقال آخرون : " معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم " .

ذكر من قال ذلك :

6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد عن علي بن هارون عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال : لا تمسخنا قردة وخنازير .

6522 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة .

وقال آخرون : " معنى " الإصر " بكسر الألف : الثقل " . [ ص: 138 ]

ذكر من قال ذلك :

6523 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " يقول : التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب .

6524 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال سألته - يعني مالكا - عن قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : الإصر ، الأمر الغليظ .

قال أبو جعفر : فأما " الأصر " بفتح الألف : فهو ما عطف الرجل على غيره من رحم أو قرابة ، يقال : " أصرتني رحم بيني وبين فلان عليه " بمعنى : عطفتني عليه . " وما يأصرني عليه " أي : ما يعطفني عليه . " وبيني وبينه آصرة رحم تأصرني عليه أصرا " يعني به : عاطفة رحم تعطفني عليه .
القول في تأويل قوله ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وقولوا أيضا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، لثقل حمله علينا .

وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه .

ذكر من قال ذلك :

6525 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " تشديد يشدد به ، كما شدد على من كان قبلكم . [ ص: 139 ]

6526 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق .

6527 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه .

6528 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " مسخ القردة والخنازير .

6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال : حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال : حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سالم بن شابور في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : الغلمة .

6530 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم .

قال أبو جعفر : وإنما قلنا إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ، [ ص: 140 ] فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسير في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى .
القول في تأويل قوله ( واعف عنا واغفر لنا )

قال أبو جعفر : وفي هذا أيضا من قول الله - عز وجل - خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : " واعف عنا " مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه . وإن خف ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6531 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " واعف عنا " قال : اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به .

وكذلك قوله : " واغفر لنا " يعني : واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها .

وقد دللنا على معنى " المغفرة " فيما مضى قبل . [ ص: 141 ]

6532 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " واغفر لنا " إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه .
القول في تأويل قوله ( وارحمنا )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا ، كما : -

6533 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد قوله : " وارحمنا " قال يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا ترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك . قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك .
القول في تأويل قوله ( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ( 286 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " أنت مولانا " أنت ولينا بنصرك ، دون من عاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ، فأنت ولي من أطاعك ، وعدو من كفر بك فعصاك " فانصرنا " لأنا حزبك [ ص: 142 ] " على القوم الكافرين " الذين جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الآلهة والأنداد دونك ، وأطاعوا في معصيتك الشيطان .

و " المولى " في هذا الموضع " المفعل " من : " ولي فلان أمر فلان ، فهو يليه ولاية ، وهو وليه ومولاه " . وإنما صارت " الياء " من " ولى " " ألفا " لانفتاح " اللام " قبلها ، التي هي عين الاسم .

وقد ذكروا أن الله - عز وجل - لما أنزل هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استجاب الله له في ذلك كله .

ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :

6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال : حدثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " قال : قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انتهى إلى قوله : " غفرانك ربنا " قال الله - عز وجل - : " قد غفرت لكم . فلما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال الله - عز وجل - : لا أحملكم . فلما قرأ : " واغفر لنا " قال الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم . فلما قرأ : " وارحمنا " قال الله - عز وجل - : " قد رحمتكم " فلما قرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين " قال الله - عز وجل - : قد نصرتكم عليهم . [ ص: 143 ]

6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد ، قل : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . وقال له جبريل : قل : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . فقال : قل " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " فقالها ، فقال جبريل - صلى الله عليه وسلم - : قد فعل . فقال : قل : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . [ ص: 144 ]

6536 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقال له جبريل : فعل ذلك يا محمد " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " فقال له جبريل في كل ذلك : فعل ذلك يا محمد .

6537 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال : حدثنا أبي عن سفيان عن آدم بن سليمان ، مولى خالد قال سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أنزل الله - عز وجل - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : قد فعلت " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال : قد فعلت .

6538 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إسحاق بن سليمان عن مصعب بن ثابت عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : أنزل الله - عز وجل - : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال : أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله - عز وجل - : نعم .

6539 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد عن سفيان عن آدم بن [ ص: 145 ] سليمان عن سعيد بن جبير : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال ويقول : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال ويقول : قد فعلت . فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " ولم تعطها الأمم قبلها .

6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله - عز وجل - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى قوله : " غفرانك ربنا " قال : قد غفرت لكم " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى قوله : " لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال : لا أؤاخذكم " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال : لا أحمل عليكم إلى قوله : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا " إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرتكم على القوم الكافرين . [ ص: 146 ] وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة :

6541 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " : كان جبريل عليه السلام يقول له : سلها ! فسألها نبي الله ربه جل ثناءه ، فأعطاه إياها ، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .

6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق : أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة : " وانصرنا على القوم الكافرين " قال : آمين . آخر تفسير سورة البقرة






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #389  
قديم 31-01-2023, 12:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
الحلقة (389)
صــ 150 إلى صــ 165



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ

أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ : الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ( 1 ) )

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : " الم " فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ الْبَيَانُ عَنْ قَوْلِهِ : " اللَّهُ " .

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ : " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ خَاصَّةٌ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ وَلَا تَجُوزُ إِلَّا لَهُ لِانْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَتَوَحُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ فَمِلْكُهُ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَخَلْقُهُ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ احْتِجَاجًا مِنْهُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - عَلَيْهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ لَهُمْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ ، وَلَا إِشْرَاكُ أَحَدٍ مَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ ، إِذْ كَانَ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ فَمِلْكُهُ ، وَكُلُّ مُعَظَّمٍ غَيْرُهُ فَخَلْقُهُ ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ إِفْرَادُ الطَّاعَةِ لِمَالِكِهِ ، وَصَرْفُ خِدْمَتِهِ إِلَى مَوْلَاهُ وَرَازِقِهِ [ ص: 150 ] وَمُعَرِّفًا مَنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ - يَوْمَ أَنْزَلَ ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْزِيلِهِ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَإِرْسَالِهِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - مُقِيمًا عَلَى عِبَادَةِ وَثَنٍ أَوْ صَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ إِنْسِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو آدَمَ مُقِيمَةً عَلَى عِبَادَتِهِ وَإِلَاهَتِهِ ، وَمُتَّخِذَهُ دُونَ مَالِكِهِ وَخَالِقِهِ إِلَهًا وَرَبًّا أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَمُنْعَدِلٌ عَنِ الْمَحَجَّةِ ، وَرَاكِبٌ غَيْرَ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمَةِ ، بِصَرْفِهِ الْعِبَادَةَ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا أَحَدَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةُ غَيْرُهُ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ ابْتَدَأَ اللَّهُ بِتَنْزِيلِهِ فَاتِحَتَهَا بِالَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ : مِنْ نَفْيِ " الْأُلُوهِيَّةِ " أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ ، وَوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالَّذِي وَصَفَهَا بِهِ فِي ابْتِدَائِهَا ؛ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَجْرَانَ فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَأَلْحَدُوا فِي اللَّهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ عِيسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا ، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ كَانَ عَلَى مَثَلِ مَقَالَتِهِمْ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى [ ص: 151 ] ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ ، فَأَبَوْا ذَلِكَ ، وَسَأَلُوا قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، فَقَبِلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ ، وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ .

غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ قَصَدَ بِالْحِجَاجِ - فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَعَنَاهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ ، وَاتِّخَاذِ مَا سِوَى اللَّهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَعْبُودًا مَعْمُومُونَ بِالْحُجَّةِ الَّتِي حَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا مَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهِ ، وَمَحْجُوجُونَ فِي الْفُرْقَانِ الَّذِي فَرَقَ بِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ .

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي نُزُولِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ مِنَ النَّصَارَى : -

6543 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ نَجْرَانَ : سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ ، فِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِمْ يَئُولُ أَمْرُهُمْ : " الْعَاقِبُ " أَمِيرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ ، وَالَّذِي لَا يُصْدِرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ ، وَاسْمُهُ " عَبْدُ الْمَسِيحِ " وَ " السَّيِّدُ " ثِمَالُهُمْ وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ ، وَاسْمُهُ " الْأَيْهَمُ " وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَسْقُفُّهُمْ وَحَبْرُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ . وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِلْمُهُ فِي دِينِهِمْ ، فَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ ، وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ ؛ لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ . [ ص: 152 ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ : قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ ، فِي [ جِمَالِ رِجَالِ ] بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمئِذٍ : مَا رَأَيْنَا بِعَدَهُمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ ! وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعُوهُمْ ، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ .

قَالَ : وَكَانَتْ تَسْمِيَةُ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَئُولُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ : " الْعَاقِبُ " وَهُوَ " عَبْدُ الْمَسِيحِ " وَالسَّيِّدُ ، وَهُوَ " الْأَيْهَمُ " " وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ " أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، وَأَوْسٌ ، وَالْحَارِثُ ، وَزَيْدٌ ، وَقَيْسٌ ، وَيَزِيدُ ، وَنُبَيْهٌ ، وَخُوَيْلِدٌ ، وَعَمْرٌو ، وَخَالِدٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ . وَيُحَنَّسُ : فِي سِتِّينَ رَاكِبًا . فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ : " أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ " ، وَ " الْعَاقِبُ " عَبْدُ الْمَسِيحِ ، وَ " الْأَيْهَمُ " السَّيِّدُ ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافٍ مِنْ أَمْرِهِمْ . يَقُولُونَ : " هُوَ اللَّهُ " وَيَقُولُونَ : " هُوَ وَلَدُ اللَّهِ " وَيَقُولُونَ : " هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ .

فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " هُوَ اللَّهُ " بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ ؛ لِيَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ . [ ص: 153 ]

وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ " أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : " لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعَلِّمُ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ ، شَيْءٌ لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُ " .

وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " بِقَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَعَلْنَا ، وَأَمَرْنَا ، وَخَلَقْنَا ، وَقَضَيْنَا " . فَيَقُولُونَ : " لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ : إِلَّا " فَعَلْتُ ، وَأَمَرْتُ وَقَضَيْتُ ، وَخَلَقْتُ " وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ " .

فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ قَوْلَهُمْ .

فَلَّمَا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَسْلِمَا . قَالَا : قَدْ أَسْلَمْنَا . قَالَ : إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا ، فَأَسْلِمَا . قَالَا : بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ . قَالَ : كَذَبْتُمَا ، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَدًا ، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ . قَالَا : فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ كُلِّهُ صَدْرَ " سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ " إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا . فَقَالَ : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "
، فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِتَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّا قَالُوا ، وَتَوْحِيدِهِ إِيَّاهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوا مِنَ الْكُفْرِ ، وَجَعَلُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَاحْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ فِي صَاحِبِهِمْ ؛ لِيُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ ضَلَالَتَهُمْ ، فَقَالَ : " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أَيْ : لَيْسَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي أَمْرِهِ . [ ص: 154 ]

6544 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " قَالَ : إِنَّ النَّصَارَى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَالُوا لَهُ : مَنْ أَبُوهُ ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا - فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : أَفَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا ، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ قَالُوا بَلَى . قَالَ : فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ ؟ قَالَ : فَعَرَفُوا ، ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "
[ ص: 155 ] القول في تأويل قوله ( الحي القيوم ( 2 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في ذلك .

فقرأته قرأة الأمصار ( الحي القيوم ) .

وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما : الحي القيام .

وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : الحي القيم .

6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال : حدثنا عثام بن علي قال : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال سمعت علقمة يقرأ : " الحي القيم " .

قلت : أنت سمعته ؟ قال : لا أدري .

6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن علقمة مثله .

وقد روي عن علقمة خلاف ذلك ، وهو ما : -

6547 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا شيبان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن علقمة أنه قرأ : " الحي القيام " .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ، ما جاءت به قرأة المسلمين نقلا مستفيضا - عن غير تشاعر ولا تواطؤ - وراثة ، وما كان مثبتا في مصاحفهم ، وذلك قراءة من قرأ " الحي القيوم " .
[ ص: 156 ] القول في تأويل قوله ( الحي ) "

اختلف أهل التأويل في معنى قوله : " الحي " .

فقال بعضهم : معنى ذلك من الله - تعالى ذكره - : أنه وصف نفسه بالبقاء ، ونفى الموت - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها .

ذكر من قال ذلك :

6548 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحي " الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصلب في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى أهل نجران .

6549 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " قال : يقول : حي لا يموت .

وقال آخرون : معنى " الحي " الذي عناه الله - عز وجل - في هذه الآية ، ووصف به نفسه : أنه المتيسر له تدبير كل ما أراد وشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد .

وقال آخرون : معنى ذلك أن له الحياة الدائمة التي لم تزل له صفة ، ولا تزال كذلك . وقالوا : إنما وصف نفسه بالحياة ؛ لأن له حياة كما وصفها [ ص: 157 ] بالعلم ؛ لأن لها علما ، وبالقدرة ؛ لأن لها قدرة .

قال أبو جعفر : ومعنى ذلك عندي : أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع ، ونفى عنها ما هو حال بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله . فأخبر عباده أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة ، والحي الذي لا يموت ولا يبيد ، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربا ، ويبيد كل من ادعى من دونه إلها . واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى ، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت ، وأن الإله هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى ، وذلك الله الذي لا إله إلا هو .
القول في تأويل قوله ( القيوم )

قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك ، والذي نختار منه ، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك .

فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أن القرأة قرأت بها فمتقارب . ومعنى ذلك كله : القيم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص كما : -

6550 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - جل ثناؤه - : " الحي القيوم " قال : القائم على كل شيء . [ ص: 158 ]

6551 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

6552 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه .

وقال آخرون : " معنى ذلك : القيام على مكانه " . ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال ، وأن الله - عز وجل - إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان ، وحدوث التبدل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم .

ذكر من قال ذلك :

6553 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " القيوم " القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأن ذلك وصف من الله - تعالى ذكره - نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : " فلان قائم بأمر هذه البلدة " يعني بذلك : المتولي تدبير أمرها . [ ص: 159 ]

ف " القيوم " إذ كان ذلك معناه " الفيعول " من قول القائل : " الله يقوم بأمر خلقه " . وأصله " القيووم " غير أن " الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة وهي متحركة قلبت " ياء " فجعلت هي و " الياء " التي قبلها " ياء " مشددة ؛ لأن العرب كذلك تفعل ب " الواو " المتحركة إذا تقدمتها " ياء " ساكنة .

وأما " القيام " فإن أصله " القيوام " وهو " الفيعال " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة من " قيوام " " ياء " ساكنة ، فجعلتا جميعا " ياء " مشددة .

ولو أن " القيوم " " فعول " كان " القووم " ولكنه " الفيعول " . وكذلك " القيام " لو كان " الفعال " لكان " القوام " كما قيل : " الصوام والقوام " وكما قال - جل ثناؤه - : ( كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) [ سورة المائدة : 8 ] ، ولكنه " الفيعال " فقيل : " القيام " .

وأما " القيم " فهو " الفيعل " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة فجعلتا " ياء " مشددة ، كما قيل : " فلان سيد قومه " من " ساد يسود " و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود " وما أشبه ذلك .

وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ؛ لأنه قصد به قصد المبالغة في المدح ، فكان " القيوم " و " القيام " و " القيم " أبلغ في المدح من " القائم " وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته - إن شاء الله - " القيام " ؛ لأن ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من " الياء " " الواو " فيقولون للرجل الصواغ : [ ص: 160 ] " الصياغ " ويقولون للرجل الكثير الدوران : " الديار " . وقد قيل إن قول الله - جل ثناؤه - : ( لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] إنما هو " دوار " " فعالا " من " دار يدور " ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقرت كذلك في المصحف .
القول في تأويل قوله ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه )

قال أبو جعفر : يقول - جل ثناؤه - : يا محمد إن ربك ورب عيسى ورب كل شيء هو الرب الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن " بالحق " يعني : بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل ، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم " مصدقا لما بين يديه " يعني - بذلك القرآن - أنه مصدق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله ، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده ؛ لأن منزل جميع ذلك واحد ، فلا يكون فيه اختلاف ، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6554 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، [ ص: 161 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " مصدقا لما بين يديه " . قال : لما قبله من كتاب أو رسول .

6555 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " مصدقا لما بين يديه " لما قبله من كتاب أو رسول .

6556 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " نزل عليك الكتاب بالحق " أي بالصدق فيما اختلفوا فيه .

6557 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " يقول : القرآن " مصدقا لما بين يديه " من الكتب التي قد خلت قبله .

6558 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال حدثني ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " يقول : مصدقا لما قبله من كتاب ورسول .
القول في تأويل قوله - جل ثناؤه - ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ( 3 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " وأنزل التوراة " على موسى " والإنجيل " على عيسى " من قبل " يقول : من قبل الكتاب الذي نزله عليك ويعني بقوله : " هدى للناس " بيانا للناس من الله فيما اختلفوا فيه [ ص: 162 ] من توحيد الله وتصديق رسله ، ونعتيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي ، وفي غير ذلك من شرائع دين الله ، كما : -

6559 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله ، وعصمة لمن أخذ به وصدق به ، وعمل بما فيه .

6560 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل التوراة والإنجيل " التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبله .
القول في تأويل قوله ( وأنزل الفرقان )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : وأنزل الفصل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره .

وقد بينا فيما مضى أن " الفرقان " إنما هو " الفعلان " من قولهم : " فرق الله [ ص: 163 ] بين الحق والباطل " فصل بينهما بنصره الحق على الباطل ، إما بالحجة البالغة ، وإما بالقهر والغلبة بالأيد والقوة .

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع .

ذكر من قال : معناه : " الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب " :

6561 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل الفرقان " أي الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره .

ذكر من قال : معنى ذلك : " الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام " :

6562 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وأنزل الفرقان " هو القرآن ، أنزله على محمد ، وفرق به بين الحق والباطل ، فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحد فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته .

6563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " وأنزل الفرقان " قال : الفرقان ، القرآن ، فرق بين الحق والباطل . [ ص: 164 ]

قال أبو جعفر : والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى " الفرقان " في هذا الموضع فصل الله بين نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين حاجوه في أمر عيسى ، وفي غير ذلك من أموره ، بالحجة البالغة القاطعة عذرهم وعذر نظرائهم من أهل الكفر بالله .

وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " . ولا شك أن ذلك " الكتاب " هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء .
القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ( 4 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهيته ، وأن عيسى عبد له ، واتخذوا المسيح إلها وربا أو ادعوه لله ولدا لهم عذاب من الله شديد يوم القيامة .

و " الذين كفروا " هم الذين جحدوا آيات الله و " آيات الله " أعلام الله وأدلته وحججه .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #390  
قديم 31-01-2023, 12:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
الحلقة (390)
صــ 165 إلى صــ 182




[ ص: 165 ]

وهذا القول من الله - عز وجل - ينبئ عن معنى قوله : " وأنزل الفرقان " أنه معني به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل ؛ لأنه عقب ذلك بقوله : " إن الذين كفروا بآيات الله " يعني : إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحق والمبطل " لهم عذاب شديد " وعيد من الله لمن عاند الحق بعد وضوحه له ، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه ثم أخبرهم أنه " عزيز " في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد وأنه " ذو انتقام " ممن جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه ، وبعد وضوحها له ومعرفته بها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6564 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام " أي إن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاء منه فيها .

6565 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع ، " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام "
[ ص: 166 ] القول في تأويل قوله ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( 5 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء . يقول : فكيف يخفى علي يا محمد - وأنا علام جميع الأشياء - ما يضاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم ، في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ ! كما : -

6566 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " أي : قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه ربا وإلها ، وعندهم من علمه غير ذلك ، غرة بالله وكفرا به .
القول في تأويل قوله ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الله الذي يصوركم فيجعلكم صورا أشباحا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب ، فيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر . يعرف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليه أرحام النساء ممن صوره وخلقه كيف شاء وأن عيسى ابن مريم ممن صوره في [ ص: 167 ] رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحب ، وأنه لو كان إلها لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين ، كما : -

6567 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " أي : قد كان عيسى ممن صور في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صور غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟

6568 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " أي : أنه صور عيسى في الرحم كيف شاء .

قال آخرون في ذلك ما : -

6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق ، بعث الله ملكا يصورها . فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصورها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ؟ أشقي أو سعيد ، وما رزقه ؟ وما عمره ؟ وما أثره ؟ [ ص: 168 ] وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك . فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث أخذ ذلك التراب .

6570 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " قادر والله ربنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تام خلقه وغير تام .
القول في تأويل قوله ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 6 ) )

قال أبو جعفر : وهذا القول تنزيه من الله - تعالى ذكره - نفسه أن يكون له في ربوبيته ند أو مثل ، أو أن تجوز الألوهة لغيره وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادعى مع الله معبودا ، أو أقر بربوبية غيره . ثم أخبر - جل ثناؤه - خلقه بصفته ، وعيدا منه لمن عبد غيره أو أشرك في عبادته أحدا سواه ، فقال : " هو العزيز " الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد ، ولا ينجيه منه وأل ولا لجأ ، وذلك لعزته التي يذل لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود . ثم أعلمهم أنه " الحكيم " [ ص: 169 ] في تدبيره وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، كما : -

6571 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : ثم قال - يعني الرب - عز وجل - - إنزاها لنفسه وتوحيدا لها مما جعلوا معه : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " قال : العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء ، والحكيم في عذره وحجته إلى عباده .

6572 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .
القول في تأويل قوله ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن . [ ص: 170 ]

وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن " كتابا " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات . يعني ب " الآيات " آيات القرآن .

وأما " المحكمات " فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعبر ، وما أشبه ذلك .

ثم وصف - جل ثناؤه - : هؤلاء " الآيات المحكمات " بأنهن " هن أم الكتاب " . يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم .

وإنما سماهن " أم الكتاب " لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامع معظم الشيء " أما " له . فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر : " أمهم " والمدبر معظم أمر القرية والبلدة " أمها " .

وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

ووحد " أم الكتاب " ولم يجمع فيقول : هن أمهات الكتاب ، وقد قال : " هن " لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب " لا أن كل آية منهن " أم الكتاب " . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن " أم الكتاب " [ ص: 171 ] لكان لا شك قد قيل : " هن أمهات الكتاب " . ونظير قول الله - عز وجل - : " هن أم الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر ل " هن " قوله - تعالى ذكره - : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) [ سورة المؤمنون : 50 ] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية . إذ كان المعنى واحدا فيما جعلا فيه للخلق عبرة . ولو كان مرادا الخبر عن كل واحد منهما على انفراده ، بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة . وذلك أن مريم ولدت من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا ، فكان في كل واحد منهما للناس آية .

وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : " هن أم الكتاب " ولم يقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : " ما لي أنصار " فتقول : " أنا أنصارك " أو : " ما لي نظير " فتقول : " نحن نظيرك " . قال : وهو شبيه : " دعني من تمرتان " وأنشد لرجل منفقعس :


تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول

تعرضا لم تأل عن قتلا لي
[ ص: 172 ]

" حل " أي : يحل به . على الحكاية ، لأنه كان منصوبا قبل ذلك ، كما يقول : " نودي : الصلاة الصلاة " يحكي قول القائل : " الصلاة الصلاة " .

وقال : قال بعضهم : إنما هي : " أن قتلا لي " ولكنه جعله " عينا " لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن " والنصب على الأمر ، كأنك قلت : " ضربا لزيد " .

قال أبو جعفر : وهذا قول لا معنى له . لأن كل هذه الشواهد التي استشهدها ، لا شك أنهن حكايات حاكيهن ، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلوما أن الله - جل ثناؤه - لم يحك عن أحد قوله : " أم الكتاب " فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك .

وأما قوله : " وأخر " فإنها جمع " أخرى " . [ ص: 173 ]

ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخر " .

فقال بعضهم : لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعت ، واحدتها " أخرى " كما لم تصرف " جمع " و " كتع " لأنهن نعوت .

وقال آخرون : إنما لم تصرف " الأخر " لزيادة الياء التي في واحدتها ، وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف . قالوا : وإنما ترك صرف " أخرى " كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء " في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو . ثم افترق جمع " حمراء " و " أخرى " فبني جمع " أخرى " على واحدته فقيل : " فعل " و " أخر " فترك صرفها كما ترك صرف " أخرى " وبني جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته فصرف ، فقيل : " حمر " و " بيض " فلاختلاف حالتهما في الجمع ، اختلف إعرابهما عندهم في الصرف . ولاتفاق حالتيهما في الواحدة ، اتفقت حالتاهما فيها .

وأما قوله : " متشابهات " فإن معناه : متشابهات في التلاوة ، مختلفات في المعنى ، كما قال - جل ثناؤه - : ( وأتوا به متشابها ) [ سورة البقرة : 25 ] ، يعني في المنظر ، مختلفا في المطعم وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : ( إن البقر تشابه علينا ) [ سورة البقرة : 70 ] ، يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه . [ ص: 174 ]

فتأويل الكلام إذا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات بالبيان ، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين ، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟

فقال بعضهم : " المحكمات " من آي القرآن ، المعمول بهن ، وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام " والمتشابهات " من آيه المتروك العمل بهن المنسوخات .

ذكر من قال ذلك :

6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا العوام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " منه آيات محكمات " قال : هي الثلاث الآيات من هاهنا : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) [ سورة الأنعام : 151 ، 152 ] ، إلى ثلاث آيات ، والتي في " بني إسرائيل " : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 - 39 ] ، إلى آخر الآيات . [ ص: 175 ]

6574 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " المحكمات : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمن به ويعمل به قال : " وأخر متشابهات " والمتشابهات : منسوخه ، ومقدمه ومؤخره ، وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به .

6575 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وأخر متشابهات " فالمحكمات التي هي أم الكتاب : الناسخ الذي يدان به ويعمل به . والمتشابهات ، هن المنسوخات التي لا يدان بهن .

6576 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله : " كل من عند ربنا " أما " الآيات المحكمات " : فهن الناسخات التي يعمل بهن وأما " المتشابهات " فهن المنسوخات .

6577 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " و " المحكمات " : الناسخ الذي يعمل به ، ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه وأما " المتشابهات " : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .

6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " آيات محكمات " قال : المحكم ما يعمل به .

6579 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن [ ص: 176 ] أبيه ، عن الربيع : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " قال : " المحكمات " الناسخ الذي يعمل به و " المتشابهات " : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .

6580 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخات " وأخر متشابهات " قال : ما نسخ وترك يتلى .

6581 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قال : المحكم ، ما لم ينسخ وما تشابه منه ما نسخ .

6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخ " وأخر متشابهات " قال : المنسوخ .

6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ يحدث قال أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " منه آيات محكمات " يعني الناسخ الذي يعمل به " وأخر متشابهات " يعني المنسوخ ، يؤمن به ولا يعمل به .

6584 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سلمة عن الضحاك : " منه آيات محكمات " قال : ما لم ينسخ " وأخر متشابهات " قال : ما قد نسخ .

وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه " والمتشابه " منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني ، وإن اختلفت ألفاظه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 177 ]

6585 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " منه آيات محكمات " ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو " متشابه " يصدق بعضه بعضا وهو مثل قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ سورة البقرة : 26 ] ، ومثل قوله : ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) [ سورة الأنعام : 125 ] ، ومثل قوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ سورة محمد : 17 ] .

6586 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد " والمتشابه " منها : ما احتمل من التأويل أوجها .

ذكر من قال ذلك :

6587 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه " وأخر متشابهات " في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . [ ص: 178 ]

وقال آخرون : معنى " المحكم " : ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته " والمتشابه " هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني .

ذكر من قال ذلك :

6588 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد وقرأ : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ سورة هود : 1 ] ، قال : وذكر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين آية منها : وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها . ثم قال : ( تلك من أنباء الغيب ) [ سورة هود : 49 ] ، ثم ذكر ( وإلى عاد ) ، فقرأ حتى بلغ ( واستغفروا ربكم ) ثم مضى . ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا وفرغ من ذلك . وهذا تبيين ذلك ، تبيين " أحكمت آياته ثم فصلت " قال : والمتشابه ذكر موسى في أمكنة [ ص: 179 ] كثيرة ، وهو متشابه ، وهو كله معنى واحد . ومتشابه : ( فاسلك فيها ) ( احمل فيها ) ، ( اسلك يدك ) ( أدخل يدك ) ، ( حية تسعى ) ( ثعبان مبين ) قال : ثم ذكر هودا في عشر آيات منها ، وصالحا في ثماني آيات منها ، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى ، ولوطا في ثماني آيات منها ، وشعيبا في ثلاث عشرة آية ، وموسى في أربع آيات ، كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة ، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود ، ثم قال : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) [ سورة هود : 100 ] . وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟

وقال آخرون : بل " المحكم " من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه وتفسيره و " المتشابه " : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو " الم " و " المص " و " المر " و " الر " وما أشبه ذلك ، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمل . وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله ، ويعلموا نهاية أكل [ ص: 180 ] محمد وأمته ، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك ، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها ، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله .

قال أبو جعفر : وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب : أن هذه الآية نزلت فيه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته ، في تأويل ذلك في تفسير قوله : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ سورة البقرة : 2 ]

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية . وذلك أن جميع ما أنزل الله - عز وجل - من آي القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين ، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل . فإذ كان ذلك كذلك ، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة ، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [ وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة ] وذلك [ ص: 181 ] كقول الله - عز وجل - : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) [ سورة الأنعام : 158 ] ، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تلك الآية التي أخبر الله - جل ثناؤه - عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك ، هي طلوع الشمس من مغربها . فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته ، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام . فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب ، وأوضحه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفسرا . والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه ، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية ، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا . وذلك هو العلم الذي استأثر الله - جل ثناؤه - به دون خلقه ، فحجبه عنهم . وذلك وما أشبهه ، هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته من قبل قوله : " الم " و " المص " و " الر " و " المر " ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله - جل ثناؤه - أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله .

فإذ كان المتشابه هو ما وصفنا ، فكل ما عداه فمحكم ؛ لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد ، وقد استغنى بسماعه عن بيان يبينه أو يكون محكما ، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في [ ص: 182 ] معان كثيرة . فالدلالة على المعنى المراد منه ، إما من بيان الله - تعالى ذكره - عنه ، أو بيان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا .
القول في تأويل قوله ( هن أم الكتاب )

قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه . ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه ، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : معنى قوله : " هن أم الكتاب " هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام ، نحو قولنا الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

6589 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا إسحاق بن سويد عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : " محكمات هن أم الكتاب " . قال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين وضرب لذلك مثلا فقال : " أم القرى " مكة ، " وأم خراسان " مرو ، " وأم المسافرين " الذي يجعلون إليه أمرهم ، ويعنى بهم في سفرهم ، قال : فذاك أمهم .

6590 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " هن أم الكتاب " قال : هن جماع الكتاب .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 462.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 456.39 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]