غدًا القيامة ولا عُهدة على الراوي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836914 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379431 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191288 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2668 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 662 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 948 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1103 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 855 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-08-2022, 12:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي غدًا القيامة ولا عُهدة على الراوي

غدًا القيامة

ولا عُهدة على الراوي

(1)

أنا والبِساط والقرى المظلمة

محمد صادق عبدالعال
كانت هي المرة الأولى أو التَّعريجة الأولى التي يعرُج بي فيها بِساطي العزيز إلى الآفاق؛ إذ عثَرتُ عليه في جَعْبة خيالي الجامح الطامح الذي ما انفكَّ يُراودُني ليلَ نهارَ حتى نال مني منالَه ومبتغاه.

لا أُنكر أنني كنت أطمع وأتُوقُ بل أشتاق لبِساطٍ أكثرَ سعادة يُقلُّني لبلاد بعيدة، وديار لم ترَها عيني إلا عبر شاشات (التلفاز)، أو عبر الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، أو بأن ألوذ بمكتبتي المتواضعة فأطَّلع على صور ورسوم وأخبار عنها.

وددتُ لو أجوب ديارًا تخالفنا وقت الشروق وساعة الغروب، فأرى أُناسَها كيف يصبحون ويمسون، تمنَّيتُ كثيرًا؛ لكن للأسف اشترط عليَّ هذا البساطُ المصنوع على عيني والخارج من جعبة خيالي الجامح - أن تكون أول تعريجة لي به هي تلك الرحلة التي يبدو أنها الأقلُّ سعادة، وتفتقر لعنصري المتعة والاستجمام، فرضيتُ بما أَمَرَ، وصار الآمِر وصرتُ المؤتمِر، وقال لي:
"أعرف أنك كنت تتوقُ لرحلة ذات بهجة وروعة؛ لكنك - والله الذي لا إله غيره - ستقنعُ كثيرًا بتلك الرحلة، وستذكرها كلَّما عرَّجتُ بك ثانية وثالثة ورابعة...، فلا تبتئس".

حقيقة، خفَّف عني صديقي (بساط الريح) من كآبة الرحلة، فقبِلتُها على أي حال، وقلتُ لنفسي قانعًا: "فليحمدِ الراكب للحادي صنيعه".
بساط الريح: "بدايةً، ما اسمك؟"
الراوي: "محمد".
بساط الريح: "خيرُ الأسماء عليه الصلاة والسلام".
الراوي: "عليه الصلاة والسلام".

كنا نرتفع عن الأرض شيئًا فشيئًا حتى انتابني إحساسٌ غريب وأنا أعلو معه؛ فمع لهفتي للخروج من دائرة الواقع الذي أحياه وتلك البسيطةِ التي سئِمَتْ قدماي السيرَ فيها، وكم جافيتها كثيرًا بالمكوث داخل صومعتي بالدار؛ غير أني الآن أجدُني أَحِنُّ إليها وإلى المكوث فيها، فيا للعجب من أمري وأمر الناس؛ يتطلَّعون للبُعد عن الأوطان، يوم أن تُتاح لهم الفرص، ويصير الخروج منها مباحًا، يتوقون إليها ويبكون لفِراقها! جالت تلك الأفكار برأسي، فخفَّفت عني حِدَّةَ الارتفاع أو الإصابة بالدُّوار أو "فوبيا" الأماكن المرتفعة.

فلمَّا استويتُ على "بساط الريح"، وشرعتُ بكفِّي ألمِس النَّاطحاتِ وشواهق الأشجار والمباني العظيمة، قال لي بساط الريح:
"الآن أخبرك عن كُنْهِ الرحلة، شريطةَ ألَّا تنتظر مني جوابًا يُرضيك.
سترى الإجابة عينَ اليقين واضحةً ببصرٍ حديد".
فقلتُ له متعجبًا: "وإن أعياني السؤال، وحيرتني الإجابة؟".
فردد بساط الريح: "وإن أعياك السؤال وحيرتك الإجابة، أَلَك عقلٌ يعي؟".
فقلت: "الحمد لله".
قال: "وقلب يطمئن ويخاف؟".
قلتُ: "﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]".
قال بساط الريح: "فلا تسألني ما ليس لك به علم، اتفقنا؟".
محمد - مستسلمًا -: "اتفقنا"، ثم حلَّقنا على بركة الله.

ولمَّا كنَّا على مسافة من الأرض بعيدة تسنَّى لنا أن نرى الأرض وبيوتاتها وأنوارها كنقط مظلمة وأخرى مضيئة؛ فكنتُ أرى بُقعًا نصفُها مظلم، ونصفها مضيء، وأخريات دون ذلك بكثير، فقلت في نفسي: "التقنيات والكهرباء تتفاوت من بقعة لبقعة".

حتى أبصرت عجبًا عُجابًا؛ رأيت قرية بكاملها مظلمة إلا من نقطة مضيئة تأخذ في الخفوت مرة، والسطوع مرة، تُذكِّرني بشمس النهار الغاربة عندما يُداهِمُها ركبُ الغروب وإطباق الطَّفَل، فتتماثل مرة للسطوع، وتنهزم مرة للغروب، ثم سرعان ما تقع في الطَّفَل راحلةً لا تدري إن كانت ستعود أم يُقضى عليها ممن عنده مستقرها بألَّا تعود.

قلت للبساط: "أترى ما أرى يا عزيزي بساط الريح؟".
بساط الريح: "تقصِد تلك القرية التي خلَتْ من الأنوار إلا من خافت ضوء نحيل يتماثل مرة ثم ينزوي، يقوى ويضعُف؟".
محمد: "نعم، أقصد ذلك".
قال: "وهنا بيت القصيد".
ما أن سمعت منه تلك الكلمة حتى ظفِرتُ بفُسحة من أمل في السؤال، فقلت: "ما تعني ببيت القصيد؟".
بساط الريح - مذكِّرًا -: "أوَلم نتَّفق على ألَّا تسأل؛ فسوف يأتيك من الجواب ما يكفيك؟".
ثم عقَّب قائلًا: "ألم تتعلَّم من قصة نبي الله موسى عليه السلام وسيِّدِنا الخضِر؟".

قلت له: "بلى"، ولسان حالي الصامت يقول له:
"وهل أنت كالخضر في التقى والعلم، أو أنا كموسى الكليم عليه السلام في النبوة والرسالة؟!".
بساط الريح: "سنهبِط الآن على تلك الدار التي يخفِت نورها ويضيء".
فقلت له: "يا بساطي العزيز، الدار أم القرية كلها؟".

بساط الريح: "أسامحُك هذه المرة لكونك ما زلت جديدًا على التحليق معي؛ لكن رجاءً لا تسأل ثانية، وأقول لك مثلًا ربما تعيه أنت أكثرَ مني: لو قُتلت شياه الراعي، وبقيت شاةٌ تنازِع، فإلى من سيلتفتُ وينهض؟".

قلت: "للشاة التي ربما تعود لها الحياة".
فقال لي: "علمتَ، فاصْمُتْ".
عرَّج بساط الريح على الدار من أعلى، ثم سرعان ما انتهى بي عند زاوية في ركن البيت، فإذا بي أرى عجبًا.

احتضار!
رأيت شيخًا دَنِفًا أشرَفَ على الموت المحقَّق إشرافًا، وحوله من الأهلين قلةٌ بأيديهم المصاحف؛ لكنهم لا يقرؤون فيها أو ينظرون إليها، فتعجبت لهم؛ فمنهم من ينظر في ساعة المحمول، ومنهم من يتأفَّف، ومنهم من يجلس ثم يقِف قلِقًا.

خلَصتُ ناحية ذلك المُسجَّى الرابض على سرير المنايا المؤقت، ومما أتحفنا به بساط الريح من مِنحةٍ لتلك الرحلة أنه لا ينبغي لأحد أن يراني متى نزلتُ وأين ذهبتُ حتى لو دنوتُ من الحضور دنوَّ القاب للقوس أو أدنى، فسمِعته يقول: أبى العلم إلا أن تُطوى صحائفه ما دام الكرام أهلوه قد رحلوا.

أغمض عينيه وسلَّم ربَّه وديعتَه، وعرفت بعد ذلك من كلام الناس أنه يُكنى بـ"الأشرف" حين قالوا: (مات الأشرف، الأشرف قد مات، أعلم رجالات القرية وأحفظُهم لكتاب الله).

وهنا عثرتُ على أجوبة كثيرة لأسئلتي لبساط الريح العجيب، التي لم يحرْني إجابة لها عامدًا معلِّلًا ذلك بأن لي عقلًا يعي، وقلبًا يطمئن ويخاف.
دعوتُ الله بأن يطمئن قلبي دومًا بذكره، وأن يخشاه على الدوام.
كدتُ أدرك مغزى القرى المضيئة والأخرى المعتمة.

قلت لنفسي: "سوف أحدو بك أيها البساط حسب إرادتي لا حسبما تريد أنت"، ثم قلت له: "أريد أن أجوبَ القريةَ تلك يا عزيزي بساط الريح".
بساط الريح: "كما تشاء".

رأيت جِنازةَ ذلك الشيخ الأشرف الطَّيِّب أجلِّ رجالات تلك القرية وأعلمهم، وكنتُ على مقرُبةٍ من نعشه الساري بسرعة ملحوظة لا أدرى إن كان ذووه يريدون التشييعَ بسرعة ثم الالتفات لدنياهم، أم أن الملائكة تحمله عنهم؛ استبشارًا بمثوبة وحسن مآب؟

لم أظلمهم، وأيضًا لم أعطه حقًّا يقدِّسه؛ فالله تعالى يزكِّي من يشاء فهو سبحانه العالم بالسِّرِّ وأخفى. (فإن مما ضيَّع الناس في زماني وصولُهم بذويهم لمرحلة التقديس والتعظيم بغير حق).

لاحظتُ ما يؤكد لي الظَّنَّ الأول ولا أجزِم بنفي الظن الثاني، حيث كان المشيِّعون له قلةً، فيما يبدو أنهم الأهل وقلة من الأقربين، ومما آلمني وأوجعني حقًّا أني رأيتُ رجلًا ممن يشيعونه قد دلَفَ لمنعطفٍ حتى ابتعد عن الجِنازة، وتلاه في هذا الأمر كثرةٌ من القلة المشيعة لهذا الشيخ الجليل.
سُجِّيَ الشيخ الجليل بالتراب، ذرَفتْ عيني بالدمع، تذكَّرتُ الموت؛ فأنا ميت وغدًا أكون ميتًا.
(كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُه ♦♦♦ يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ)

وما أن وُري الترابَ حتى سمِعتُ أصواتًا مفزِعة، وقلت لنفسي: "ما تلك القرية؟ وما هذا الجحود؟!"، وتمنَّيتُ لو يُخبرني بساط الريح بالإجابة عن سؤالي هذا؛ لكني خشيت أن يُنهيَ الرحلة وما زالتْ في أوَّلِها.

في بيت الأبالسة!
ضحكات عالية صاخبة، وأصوات منفِّرة وأخرى ماجنة، وكلمات مغضبة لرب العالمين تتردد، هكذا سمعتْ أذناي وتأذَّت منها؛ فاستعذت بالله العظيم من الشيطان الرجيم مرات عديدة، التفت إليَّ بساط الريح، وقال لي: "استعذ بالله، فلدار الملعون نحن سائرون".

تعجبت مما قال، ولم أستطع منع نفسي أو كبحَ لساني عن السؤال:" إلى أين؟".
سَامحني تلك المرة - بصمتِه -نظرًا لهول الدار التي سنغشاها الآن.

كبير الأبالسة - وقد بدا مخيفًا يرفع شعره كالجدائل والقرون -:
"الليلة تحققت لكم أمنية عظيمة لطالما رجوتموها كثيرًا: ها قد مات عالمُها (الأشرف)، فسيحوا في الأرض، وأظهِروا إبداعاتكم وإغواءكم بني آدم، فشأن تلك البقعة من الأرض قد انتهى، فلتعمِدوا إلى غيرها".

علت ضحكاتهم المقزِّزة الصاخبة ثانيةً، ووددت لو لم أسمعْها وكذلك بساط الريح كان يهتز وينفِر منها.
غُيِّبت أفكاري التي كانت تجول برأسي، ثم ابتغيت الإنصات لِما يُحاك للقرية، فكانوا ثلاثة أو أربعة من الجن ومردة الشياطين، فعمد كبيرهم إلى أحدهم، وقال له: "قل لي ما في أمِّ رأسك".

الجني الأول: "وصية أبينا إبليس منذ الوهلة الأولى هي قبلتُنا وضالَّتنا سيدي".
كبير الأبالسة: "وما الجديد لديكم؟ فلكل عصر زخارفُه ومباهجه التي تنفذُون من خلالها نفاذًا غير ملحوظ؛ لكنه يعود عليهم بالنتائج المفيدة لنا".
يصمُتون قليلًا، وأنا أتوجَّس منهم شرًّا، وترتعد فرائصي؛ فيهتز البساط بي.

ثم يعمد كبير الأبالسة لأصغرهم وأقبحهم شكلًا وسمْتًا وهيئة، ويقول:
"يا أصغر إخوانك، ألا تُظهِر لنا ممَّا علِمت شيئًا نذكره لك، ونعلم أن قد نضِجت نضوجًا، أَلَا تتوقُ للأوسمة والنياشين الإبليسية؟".
أصغرهم: "لديَّ فكرة لو سَرَتْ بينهم وصدَّقوها؛ فُتِنَ بها الأحمر والأسود معًا، فنكون قد أنجزنا إنجازًا عظيمًا".
حقيقة، ارتعدت فرائصي أكثر، وتمنيت لو يخلص بي بساطي ونفرُّ من المكان فِرارًا؛ لكن لاحظتُ بساط الريح ثبت واستكان، فخشيتُ أن يكون قد سُلِب خواصَّه في التحليق بوجودنا بتلك البقعة القذرة.

طردتُ تلك الهلاوس والأفكار من رأسي، وعدتُ لسماع الحوار والاطلاع على إبداعات هذا الجني الجديد في الغواية والضلال.

فكرَّر كبير الأبالسة:
"أَبِنْ لنا أفكارَك، فلو كانت جيدة على مستوى الإغواء القاتل؛ نصَّبتُك مساعدي الأول"، ثم نظر كبير الأبالسة إلى رفاقه ناصحًا: "فلتعاوِنوا أخاكم".
رددوا في صوت واحد: "سمعًا وطاعة كبيرَنا".

يلتفت كبير الأبالسة للصغير محفِّزًا: "هيَّا، فلتنفُثْ في النار، وتخرج الأفكار لتلك الديار، هيا، هيا".
ينقبض فؤادي؛ فأنا أدري خوارق أفعالهم، وأنا الآن بصعيد تلك القرية المدبَّر لها أمرٌ.

قال الجني الصغير: "نعلم جميعًا أنه بموت ذلك الأشرف الجليل أصبحت تلك القرية على أرض من الجهل الكبير خصبة، ولعلكم تعرفون مقصدي".
قالوا: "بالتأكيد".

استطرد: "لكن ما يُدرينا أنها خلتْ ممن يحمل في صدره مثقالَ ذرة من علم، فينثُره في تلك الأرض المُجدِبة الآهلة بجهَّال الناس الخالدين للدنيا خلودًا أنساهم القيامةَ وعلاماتِها الكبيرة والصغيرة؟".
كبير الأبالسة يُبدي إعجابًا بهذا اليافع الجديد:" ما برأسك يا أصغر إخوانك؟".

الجني الصغير - وهو يُخرج زفيره الناري -:
"نُطلِق صرخة مدوِّية في تلك القرية من الليلة وفي تلك العَتَمة أن (غدًا القيامة)، فإن صدقوها، تحققت الأماني، وإن كذبوا بها، فلنعلمْ أنه لا زال بها من نخشاه".

استبانت سبيل المجرمين وعرفت حينها أجوبة لأسئلة كثيرة مما أبى البساط أن يخبرني بها، ربما لم يعلم لها جوابًا أو لكونِه مَطِيَّةً ليس أكثر.

انطلق بساط الريح بي وقد أذهلتنا الحيلة الماكرة من الفئة الكافرة، فقد بَدَتْ لنا ساطعة سطوع الشمس في كَبِد السماء.
قلت في نفسي: "الشمس؟"، فصِحتُ: "يا بساط الريح، الشمس الشمس".

بساط الريح: "ما أمرها؟!".
قلت: "ألا تدري؟ علامة كبرى، فمردودٌ كيدُهم الضعيف عليهم".
بساط الريح: "قل: يا رب سلِّمْ".
فقلت: "يا رب سلِّمْ سلِّمْ".
وإلى لقاء مع تكملة لتعريجة الراوي وبساط الريح.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-08-2022 الساعة 04:27 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-08-2022, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصرخة الكاذبة والهيعة

الصرخة الكاذبة والهيعة
محمد صادق عبدالعال




غدًا القيامة


ولا عهدة على الراوي


(2)








ساورني الشَّكُّ مُساوَرةً بشأن تلك القرية؛ إذ لم أجدْ عزمًا للبِساط في قَبول حُجَّتي لها بشأن الشمس كعلامة كبرى.

تكهَّنتُ: (إنه لا يخرج عن كونِه جمادًا؛ فلا عقلَ ولا حَدْس له؛ لذا أنا أوعى منه فَهمًا، وأوسعُ إدراكًا، وسوف ينتبهُ الناسُ لتلك الخديعة الكبرى).

وبينما أنا على تلك الحال وبساطي العزيز صامت لا يدري ما يجول بصدري حِيالَه، ولا حيال القرية وأهليها المَغشيِّ عليهم من الهَلَكةِ - إذا بصيحةٍ عالية صاخبة تُدوِّي دوِيًّا كأنها بأرضٍ جُرُز؛ فلا زرعَ يمتصُّ الصَّوتَ، ولا شجرَ يتلقَّاه، ولا ديارَ تحتويه فتخفِّفَ من حِدَّتِه وفَزْعَتِه، ارتعدت فرائصي، وزُلزلت قدماي، واهتزَّ بي بساط الريح هزًّا عنيفًا كدتُ أُطرحُ من فوقه طرحًا فنهوي معًا، فاحتميتُ بقوله تعالى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، واستمرَّت الصَّيحة تُدوِّي في الناس دويًّا فيتردد صداها:

غدًا القيامة!

غدًا القيامة!

القيامةُ غدًا، فُزِّعَ الناس، وهاجت الأرض وماجت، وضجَّت بأخلاطهم، وتشابكت الكلمات، وأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون:

"القيامة؟!

أحقًّا هي القيامة؟!

بغتة هكذا؟!

هل بموت (الأشرف) تقوم القيامة؟!".



وقد أصابني الذُّهولُ ممَّا أسمع وأرى:

(ألهذا الحدِّ حَدَا بالناس الجهلُ، فصُدِّقت تلك الفتنة؟!).

تمنَّيتُ لو نعود أدراجَنا أنا والبساط، فقلتُ له:

"ألا ينبغي أن تُنهيَ الرحلة؟"

قال متعجِّبًا ساخرًا: "أتخشى القيامة؟"

غضِبتُ: "الحمد لله على نعمة العلم والعقل".

بساط الريح: "إذًا، فلا ضيرَ من أن تَطَّلعَ وترى، وما الحياة إلا مواقف، مَن لم يواجه البوائقَ، جاز أن يقعَ فيها، فمتى تكتسب الخبرات؟".

كانت كلمات البساط لاذعةً قاسية تُنبئُ بجديد لم أعهَدْه، أو شديدٍ لم أتوقَّعْه، وربما يكون قد حَلَّق بآخرين غيري؛ لذا فلن أتكهَّنَ ولن أنصرف، وسوف أواجه وأُثابر.

علِم عنِّي البساط عزمي على استكمال المسيرة بعدما وَثَبْتُ وثبةً عليه فحرَّكْتُه، فانطلق هو الآخر، ولسان حاله يقول لي: (أصبتَ موضعًا من حكمة)، ثم قال لي: "دعنا نرى المشاهدَ والصور، وكن خيرَ شاهدٍ لمشهود".

قلت: "بإذن الله".



مشهد أول

وكانت الصورةُ الأولى، ولم تكنْ متوقَّعةً أصلًا، ولا أقول بأنها خطرت لي؛ إذ يراها الناس هيِّنةً وسهلةَ الانقضاء وهي عند الله عظيمة، ولها كتاب موقوت.

رجال يصرخون ويُهروِلون، فيتساقطُ منهم الكثيرُ من هول الصَّرخة والهَيعَة؛ فكانوا يتركون المحالَّ والمصانع، والمقاهيَ والبيوت، ويُهرعون إلى المساجد، عمدوا إلى المصاحف التي كانت بالمسجد - وقد ران عليها التُّرابُ وغمرها - فتنازعوا عليها نِزاعًا كأنهم يتنازعون على حُطام الدنيا من قبل؛ كانوا يفِرُّون من صفحة لصفحة ومن سورة لأخرى، لا يجدون ما يقرؤون؛ بكيتُ وقلتُ للبساط:

"وددتُ لو أسألك هذه المرة فتجيبني"، فما رقَّ لي بساط الريح، ولا تراجع عن قراره.

جال برأسي حينها أنهم ومَن على شاكلتهم أشبهُ ما يكونون بالطَّالبِ الفاشل الذي أُقحم بالاختبار، ولم يكن قد حفِظ من قبل.

وبينما هم على تلك الحالة، اقترب نداءُ الفجر، فراحوا يصطرخون وترتعد منهم الفرائص، ويقولون: (يا ويلنا، فجرُ القيامة قد أوشك على البُزُوغ)، فرأيتُهم يتدافعون أيُّهم يؤمُّهم للصلاة، وكلما زُجَّ بواحد منهم، تراجع وتلاه مدفوع آخر!

ولمَّا رأى بساط الريح مني تأثُّرًا وبكاءً، انتفض وعرَّج بي بعيدًا؛ فقلت: (علَّه أشفقَ عليَّ، وسيُنهي تلك الرحلةَ العجيبة المؤثِّرة المُفجِعة)؛ لكن خاب ظنِّي، ووجدتُني في موقع آخرَ على مقترف كبيرة ألبسها الناس خِلْعةً حديثة، فكنتُ أُتمتِمُ: "يا ربِّ سَلِّمْ، يا رب سلِّم".



مشهد ثانٍ

رأيتُ طائفة أخرى تهرول وتُهرع لطرق متعددة؛ ومنهم العامدُ لدار رعاية المسنِّين، فغاب عن مخيلتي لِما هم ذاهبون في تلك الساعات الرهيبة العصيبة التي تتطلَّب سجودًا وركوعًا ليقبِضوا على طاعة!

تمنَّيتُ لو أسأل البساط؛ لكنه لم يُبدِ لي من أمرها ما قد علِم، وقلت:

(ألم يخبرْني بساط الريح أن الإجابة تلي الموقف الحاصل؟ فلِمَ المذلَّة لمثل هذا البساط، وإني على فَهمها لمَكينٌ أمين؟!)



انتبهتُ أنظر، فرأيتُ رجلًا يطرُق بشدة بابًا لدار رعاية المسنين، يستنجد:

(أمِّي أمي، أنقذيني، رجاءً لا تتركيني)، وآخر يقول: (أبي، عُدْ لدارِك، أبي، سأكون من الخاسرين إن لم ترضَ عني وتسامحْني، لأكونن من الهالكين).

ورأيتُ آخرين ينتظرون من يأتيهم من ذويهم الذين تركوهم بغير حقٍّ، واثَّاقلَ عليهم رعايتُهم.

قلت في نفسي: (ربما كانت لهم ظروفٌ تستدعي ذلك؛ لكن لا، ليسوا سواءً؛ منهم الجاحدُ، ومنهم المُقصِّر، وإن لم يكونوا كذلك، لَما فزِعوا ولما جاؤوا).

إن الأمهات في الديار كما الدُّرر، فمن تخلَّى، فليحذرِ الخطر؛ وها هو الخطر مُحدِق بهم، فيا رب سلِّم سلم.

ثم تحدث المفاجأة؛ تهبِط أمٌّ درجات السُّلَّم، ويتمنى ولدُها لو يمتلك أنيابًا فولاذية يُقطِّع بها حديدَ تلك البوابة ليرتميَ في أحضان أمِّه خشيةَ أن يلقى الله وهو لها عاقٌّ، فعجيبٌ أمر الخلق؛ ما يُشترى في الدنيا بهيِّنٍ، لا تُغني عنه في الأخرى الجبالُ!



ويقول الولد لأمِّه:

(أسألكِ الصَّفح عني؛ كانت الظُّروف أقسى مني وأعتى، فتعالَي معي تجمعُنا الدار ونلقى الله معًا، ونستعدُّ لقيامة قائمة، ونرتجي جنَّةً عالية، قطوفُها دانية).



الأمُّ - بعين عَبرى وقلبٍ مكلوم -:

(آلآن ولدي؟! سامحتُك، ما كان لفؤاد الأم أن يقسوَ حتى ولو أظهر الوجهُ غيرَ ذلك، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن فِراقك أحرُّ على كَبِدي من حُرْقة كبدك على ولدك؛ لكني لن آتيَ معك؛ فعسى القيامةُ أن تقومَ وأنا على تلك الحالة، فيغفر لي ربي بها زلَّةً طالما نسيتُها ولم ينسَها هو).

رجع الولد من عند أمه باكيًا آسِفًا، ثمَّ وقع الفتى مغشيًّا عليه، فحسِبنا أنه قد مات.

وهذا آخَرُ يرجو أباه، نزل إليه أصحابُ الدار يخبرونه: (إن أباك قد مات منذ شهر، ودُفن بمقابر الصدقة).

فبكى وعلا بكاؤه وقال: (هلكتُ بأبي!).

ثم توجَّه إليهم معاتبًا ومعنِّفًا لمن حوله: (لِمَ لَمْ تخبروني خبرَ موته؟ قبَّحكم الله)، فقالوا: (عجبًا لك! أوَلمْ تنْهَنا عن أن نخبرَك بشيء عنه، حتى عن موته؟!).

مَشاهدُ بَشعِةٌ؛ عاقٌّ لأمٍّ وعاق لوالدٍ: أين كنتم من ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ ﴾ [العنكبوت: 8] التي في القرآن؟ أين كنتم؟

رفعتُ أكُفَّ الضَّراعة لله مبتهِلًا: "اللهم ارحم أمِّي رحمةً واسعةً، واشملْها بعفوك في عبادك الذين قلتَ فيهم: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] ودعوتُ لأبي بطول العمر والبركة، وألَّا يقبضنا إلا على خير؛ فلربما كان برُّه وتقواه منجاةً لي مما عَثَرت به قدمي وزلَّت، فردد بساط الريح معي: "آمين آمين".

قال البساط بعدما أمَّن معي: "يكفيك هذا، أم ترى وتستبصر؟".

وقعت في حيرة؛ لكن روح المغامرة وتمنِّي الزَّوال لتلك المؤامرة التي حيكت للقرية حفَّزتني، وأصبح الأمر تحدِّيًا لتلك الفتنة الإبليسية القذرة، فقلت:

"استمرَّ، هيا أيها البساط".

فقال: "يا رب سلم"، فقلت مثلما قال.



مشهد ثالث

قارون العصر

مثلُه مثلُ الكثيرِ ممن ألهاه الشغلُ وانشغل حتى نسي وغفل؛ فصدَّق لتوِّه الهَيعَةَ بقيام القيامة، فتحسَّر على ما جمع، لم يجدْ مفرًّا مما اكتنز، وكم سمِع الوعظ وما اتعظ! فراح ينادي على الخدم والسَّدَنَةِ ممن كان يمُنُّ عليهم بالفُتاتِ؛ لكي يحملوا عنه الصَّدقات والزكوات التي أرجأها سنين عددًا، ولم يجد أحدًا بقصره، فيُدوِّي صوته في القصر دويًّا، لا يرى أحدًا ليستنصرهم فلم ينصروه، ويستصرخهم فلم يُنقِذوه؛ لقد فزِعوا مما فزع منه غيرُهم، وتركوه بين أمواله التي هي كحبَّات قلبه ممتلكة السُّوَيداء منه والشَّغاف، ولو تراه وهو يجول في القصر حيرانَ فَزِعًا كالذي يُغشى عليه من النار، فطرأت له فكرةُ خروجه هو بالمال ليتصدَّقَ به؛ لكنه لا يستطيع؛ فعُودُه قد انحنى من جمْعِه، فأنَّى له اليوم أن يحملَه جملةً واحدة؟!



يصعد حجرةَ مكتبه، يتوجه إلى الخزانة الرقمية الخاصة به، ضاعت من أمِّ رأسه الأرقامُ التي كان يحفَظُها عن ظهر قلب، فيعمِد لكسرها فيلقى نَصَبًا ورَهَقًا، ويلعن الساعةَ التي جعلته يجلبُها من خارج البلاد لتكون أكثر أمانًا، وإنها اليوم أعتى عليه من جيوب الفقراء ومن جِعاب البائسين، الذين تمنَّوا لو يُغدِق عليهم قليلًا يكفيهم!



تذكَّر حقيبةَ الجواهر والنَّفائس إذ يسهُل فتحُها، فأمكن منها، ثم علتْ همَّتُه فشجَّ رأس الخزانة الثانية، فسقطت منها الجواهرُ والعملات على اختلاف بلدانها، بكى من كثرتها؛ أنى له أن يحملها على ثِقَلِها ووزنها؟!

كنت في شديد الانتباه إليه وهو يتحسر، وكلام الله يتردَّد على مسامعي بشأن أمثاله الذين يكنزون ويكتنزون.

عاد يهبط درجات السُّلَّم، يئِنُّ من ثقل حِمْلِه ومن كاهله المُتعَب، سألتُ نفسي: "أوَلم تكنْ تُحِسُّ ذاك الثقل والعنت في جمعها وحصرها وحبسها؟".



سمعني البساط فقال لي:

"اسم هذا الرجل هارون، ويُكنِّيه الناس في تلك القرية الكبيرة بـ(قارون العصر)".

لم أُعقِّبْ؛ فقد كانت لهفتي على رؤية هذا الرجل وما يصدر عنه أدعى للانتباه، وكذلك الناس كيف سيتلقَّون عطاءه السَّخيَّ؛ فالوقت ضيق للغاية؛ فقد انتصف الليل وانشطر، وكاد الفجر يبزُغُ بُزُوغًا ويشُقُّ كبد السماء، ومما هَالَه وراعه وأوقع اليأس في قلبه، أنه أبصر بالطرقات أموالًا على اختلاف عملاتها وبلدانها، وحُلِيًّا من شتى الأصناف، فلم يندهش قدر ما ابتئس، وما علم أن العملة الآن قد اختلفت.



طرق أبوابًا كثيرة فلم ينتبهْ إليه أحد، وعمد لدُورٍ عديدة فلم يلقَ ترحيبًا ولا احتفالًا، ولم يجد مَن يقبل عطاياه.

فتلك دار لفقير طرق بابَها، وألحَّ في الطَّرْق حتى خرج له صاحب الدار:

(عُدْ لربِّك فصلِّ، ولن أقول لك: انحر؛ لأنك ما كنت لتذبحَ لله يومًا دجاجةً إلا بثمنها).



قارون العصر - متودِّدًا إليه ودافعًا إليه الأموال والحُلي المُذهَّبة جُزافًا -:

(خذها؛ فلن تضيرك قدر ما تخفف عني).

الفقير - متعجبًا -: (آلآن خرجتْ هيِّنةً مِطواعة سهلة سلسة؟ آلآن وقد منعت قبلُ؟ أتذْكُرُ ضيقَ ذاتِ اليد والعَوَز والحاجة؟ أتذكر اليوم البئيس وشَظَفَ العيش والحُرْقة على أكباد جائعة؟

والآن ترجو نوال الأجر؟ وممن؟ من الفقير الذي كان أكرهُ ما عندك إبصارَ وجهه القَمِيء ومُحيَّاه العابس، حتى الذين كانوا لا يسألون الناس إلحافًا من التَّعفُّف عرفتهم اليوم بسيماهم، وأنكرتَ الحاجة والعوز لهم وأظهرتَ البشاشة، وتمنَّيتَ أن يصير الكل على تلك الشاكلة، أنت مَن تمرُّ على الأرملة مرورَ الهارب خشية أن تُسأل الإطعام، و على المحتاج خشية الإكرام:

إذا ملكت يداه الفلسَ أمسى ♦♦♦ رقيقًا ليس يطمع في العتاقِ [مقتبس]



فارجِعْ بأكياسك ومُدَّخراتك؛ فما أنا بالأبلهِ الذي يقبل اليوم أوزارَ غيره، كفاني أوزاري).

قارون العصر - مبتئسًا -: (وما أفعل بها؟).

الفقير: (ألقِها كمن ألقى).

فقلت للبساط: "لقد تلقَّى هذا المُكنَّى من قِبل الناس بقارون العصر درسًا، لعله يعتبر فيما بعد".

بساط الريح: "قل: يا رب سلِّمْ".

فأقول: "يا رب سلم سلم".



مشهد رابع

وآخر على نفس الشَّاكلة وإن اختلفت المسألة:

يمتلك جنتين ذواتي أُكُلٍ كثيرٍ يجمع خيرَ الفصول الأربعة، ويوانع الصيف، وبوادر الربيع، كان يُضرب بهما المثلُ، جعل لهما مانعًا وسورًا من الحجر عاليًا لا تطُولُه يدُ البشر ولا المارة، ثمَّ أسلاكًا شائكة تصرِف أنظارَ مَن تُسوِّل له نفسُه أن يفكر بارتقاءِ السور الشاهق لنوال ثمرة - أراه الآن وقد فتح بوابةَ حائطِه على مصراعيها، وتمنى لو ينتشر الناس بها انتشارَ الجراد بأرض مثمرة؛ فيكون له بكل تمرة وثمرة أجرٌ.

فأقول للبساط: "عَرِّج عَرِّج يا بساط الريح".





مشهد خامس

فنرى آخر يطرق بابًا لأبناء أخيه ويستمر في الطرق، خرج له ولد لم يتجاوز عمره عشرة أعوام، وقال له الغلام: (من أنت؟)

فقال: (أنا جَدُّك وعمُّ أبيك).

الغلام: (إن جدي قد مات وتلاه أبي، وما بالدار غير جدتي وأمي وأخي).

قال الرجل: (اذهب، فابعث لي أخًا يكبُرك).

الغلام: (لا وقت لدينا، نحن نقرأ القرآن، ألا تدري أن غدًا القيامة؟).

يلحُّ مُكررًا طلبه: (يا غلام، اذهب وأرسل لي أمَّك أو أخًا يكبرك).

يدلِف الغلام ويغيب فترة، كانت أقسى على الواقف بالباب من أي شيء قد مضى، ويرجع الغلام ويقول: (إن جدتي تقول لك: اذهب فلتأتِ بصكٍّ مصكوك، من جدي الذي هو أخوك، أنه قد سامحك جراء سنواتِ البؤس التي عاصرها بيتُنا).

الرجل بتعجب: (من علمك هذا الكلام؟!).

لم يردَّ، وانطلق إلى أمه تتلو عليهم القرآن.

ألقى الرجل الأموال في صحن الدار، ثم انطلق يفِرُّ منها فِرارًا.

ضحِكتُ وضحك البساط، فاهتز بي، فقال: "ما يُضحكك؟"، قلت: "ما أضحكك".



صورة أخيرة

ثم دارٌ للقضاء والفصل بين العباد بابُها اليوم مُوصد؛ لكنَّ الواقفين بأعتابها ينتظرون، أو قُل: إنهم جاؤوا؛ لتقوم القيامة عليهم وهم قائمون، لم أشأ أن أسأل البساط؛ ولكنه وعدني أنها الصورة الأخيرة أو المشهد الأخير، وكان فيه ما فيه:

واحد جاء يُقِرُّ بأنه شهِد زورًا ليُجامل، وآخرُ ليحابيَ، وآخر مُرابٍ، وكثير وكثير وما في التعليل التماسٌ لعذر؛ أولم يكفِهم: ((وكان مُتَّكِئًا فجلس))؟

اعتدلتُ على بساط الريح، وقلت له: "آن الأوان لتفيَ بوعدك، وتُنهيَ الرحلة الغريبة الكئيبة؛ فإني قد كُفيتُ"، وقد خارت قواي، وما عادت لتحملني على الثبات قدماي، حتى - وأنا في وضع القُرفُصاء - غلبني النوم، وصرعني سلطانُه صرعةَ الجائع له، ثم استيقظت على قول البساط لي: "عشرة كاملة لصور ومشاهد"، صرختُ - نافيًا -:

"لم أرَ كل تلك الصور، أين كنت أنا منها؟".

فقال: "غلبك النومُ فما أردتُ أن أُزعجك يا صاحب التعريجة".

قلتُ - منزعجًا -: "وخطبة الجمعة؟".

قال: "سنكون عليها من الشاهدين بإذن الله"، ثم أراد البساط تهدئتي وكسبَ رضاي فقال: "كنت أسمعك مع كل مشهد نمرُّ به تتلو آيةً، وتذكر حديثًا للنبي الأكرم، ومأثورًا مما تحفظ، ما أروعك!".

ابتسمتُ وأعجبني الإطراء، فقلت: "هيا، انطلق إلى أرض الجمعة الأخيرة".

عاج بي بساط الريح ناحية تلك الأرض الجامعةِ الشاهدةِ لصلاة الجمعة الأخيرة كما يظنها أصحاب القرية، رأيت سوادًا عظيمًا حتى كدتُ أُفتن به فُتُونًا، وأصدِّق أنها القيامة بحقٍّ، وجدتُني أنهض من فوق بساط الريح ومن جُثُوِّي؛ فلقد تعِب ظهري كثيرًا من الانحناءة تلك في كل موقف ومشهد مروع مرَّ بنا، فاتخذت وضع القرفصاء على بساط الريح، وقلت له بحزم وعزم: "يا بساط الريح، أتعرف من أنا؟".

البساط: "محمد".

قلت: "أنا سيِّدُ الرَّكب، وأنت الحادي".

قال: "ومن قال غير ذلك؟".


قلت: "ومن تراه بخطبة الجمعة قدير ومكين وعليهم أمين؟".

اهتز بساط الريح، ثم قال: "ما أروعك وما أبلغك يا فتيق اللسان، يا صاحب البيان!".

قال الراوي: "إذًا فأنزلني منزلي، ولا تمنعْني فرصتي؛ فما سمِعتَ مني إلا غيضةً من فيضِ علمٍ، وقطرةً من بحر فَهم أنعم الله عليَّ به، وما تجد فيهم من هو أوعى مني، وأكثر سمعًا وفهمًا".

قال بساط الريح: "لك ذلك، فاستعدَّ أيها الخطيب الألمعيُّ البليغ".


ثارت ثائرةُ البساط حتى ألقاني إليهم أهوي كمن خرَّ من السماء فتخطَّفتْني أيديهم يدفعون بي للإمامة دفعًا، وأنا أتراجع وأراوغ، غاب من رأسي كلُّ الذكر والحكمة وكل نصٍّ صريح، ارتميت وسط هذا السَّواد العظيم، انكببتُ على نفسي أبكي مما اعتراني، وقارنتُ حالي وأنا مُحلِّق بالبساط، وحالي الآن وأنا بين هذا السَّواد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-08-2022, 04:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصرخة الكاذبة والهيعة

غدا القيامة ولا عهدة على الراوي (3) الخطيب
محمد صادق عبدالعال








كأن الأرضَ قد أنبتته الآن رجلًا غريبًا، له سَمْتُ العلماء، وفي مُحيَّاه نور، لم يكن يلبَس ثيابَ مَن يرتقي المنابر؛ لكنه يثابر، ويشقُّ الصفوف المهترئة، فيفسح له الناس كأنهم كانوا على موعد به.



فيتخذ موضعي الذي راهنتُ عليه، وكأن عينيه مُصوَّبتان عليَّ وحدي؛ برغم انتباه الكل له، فيحمد ويسبح ويستفتح، فحامت برأسي الأفكارُ، وامتزجت حلاوةُ القصِّ بانتباهة المستمع، وقلت:

لعله سوف يزدري حالَ الناس لقناعتِهم بأنها القيامة، وسوف يشرَع في ذِكرِ علامات الساعة الصغرى والكبرى وأبرزها: الشمس، التي هي الكاشفة لهم الآن عن غيابهم المَهينِ عن الأصول والثوابت، أو إنه سوف يقرَعهم بعدم خروج (الدابة) التي تُكلِّم الناسَ؛ لكونها إحدى الكُبر، أو إنه سوف يتكلم عن هلاك الوعول؛ أي: كبار العلماء كهذا الأشرف، الذي قضى نحبَه ليلةَ أمس، أو إنه سوف يتحدث عن إسنادِ الأمر لغير أهله، أو يتكلَّم في غَيضِ الكرام غيضًا وفيض اللئام فيضًا، أو عن عاقبةِ مآلِ المال إلى يد البخلاء كهذا القارون الذي رأيتُه آنفًا، أو الاستخفاف بالقتل أو كثرة الشرطة، أو عدم تقسيم الميراث بالسَّويَّة كحال مَن رأيتُه في أثناء الرحلة، أو قطيعةِ الأرحام كالذين أودعوا آباءَهم وأمهاتِهم ديارَ المُسنِّين؛ ليرفعوا عن كواهلهم عَنَتَ ومشقة بِرِّهم!



وتأهَّبتُ حينما أتى عند (بر الوالدين)، سوف أنتبه له إن كان سيذكر قصةَ "أويس بن عامر" البارِّ بأمِّه، الذي أوصى رسولُ الله به حين قال: ((يأتي عليكم أويس بن عامر، من مُراد ثم من قَرَن، كان به بَرَصٌ إلا موضعَ درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفرَ لك فافعل))؛ رواه مسلم.



تشابهتْ وتشابكت واختلطت العلاماتُ الكبرى بالصغرى عندي، حتى صَفَعتُ وجهي بكفي مُوبِّخًا:

"ألا تتعلَّم مرة حُسنَ الإنصات لمَن يعلوك علمًا، أو مَن سبقك بفَهمه وحَدْسه؟"، استجبتُ للنصيحة وألمِ الصَّفْعة، وانتبهتُ فإذا بالخطيب يقول:

"أقم الصلاة"، وددت لو أسألُ الناس عما كان يتحدث:

فأشار إلي واحد منهم: "هلا انتبهتَ فكنت ستعلم؟"

اتجهتُ إلى آخرَ أسأله، فأشار إلي أن إذا أُقيمت الصلاةُ فلا كلام.



وقفتُ أُحِسُّ صَغَارًا لولا أن المهابة بين يدي ربي جعلتني أستقيم، عادت رأسي تجوب البقاعَ والأماكن، فأتذكر ما سيحدث لمَن نثر أموالَه في الطرقات، ومن جعل سور حائطه وبستانه المُكتظِّ بالثمرات مباحًا متاحًا للخلق، والذين هم الآن قيامٌ في الطرقات عند المحاكم ودور القضاء ورعاية المسنين - ما عساهم يفعلون إذا ما بُهتوا بأنها ليست القيامة وأن موعدَهم لم يأتِ بعد؟! تكهَّنتُ أنهم سوف يتوبون، وجَزِعتُ من أنهم إذا أُرجئوا، لجُّوا في الإعراض.

قيل: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله؛ ختامًا للصلاة.



ولما ذهب عن المصلِّين الرَّوعُ والفزع، واستكانت الفرائصُ، وهدأت القلوب التي في الصدور، ورأيتُ كلَّ واحد منهم وقد انفضَّ وانصرف، منهم مَن صلى السُّنَّة البَعدية، ومنهم من لم يؤدِّها، وعادت المصاحف أدراجَها - انفضوا من حولي وكأن الأرضَ قد اقتلعت سوادَهم الذي نبت على غير موعد، وما وجدتُ غيري بالبُقعةِ التي أجدبت منهم، فناديتُ بعالي الصوت:

"يا بساط الريح، يا بساط الريح".



فكرر الصدى ندائي، فأسمعه، فجاءني على عَجَلٍ فقلت:

"انبسط لأرتقيَ"، فاستجاب فارتقيتُ، فقال لي: "افسح لأخيك"، فقلت: "من؟"،

فقال: "افسح لأخيك"، فقلت: "من؟"

فكررها ثالثة، قلت له: "حَسبُك".



كدتُ أهوي، فكان الخطيبُ الذي خطب الجمعة بتلك القرية بجواري على البساط، حينها أدركتُ أمورًا ما كنتُ أعلمها، لعل البساط كان يدريها أو إنه عَرَّج بغيري إليها من قبل، لم أُكلِّف رأسي مشقَّةَ جِدالِه، سلَّمتُ عليه، فكانت يمينُه رقيقةً كالحرير والدِّيباج، فابتسم وربَّت على كتفي، وقال بتواضع عالٍ:

"ما قولُك في الدرس اليوم؟"

ابتسمتُ ولم أجدْ ما أجادله به؛ إذ لم أكن مع المستمعين منتبهًا له، فقلت - مجاملة -: "رائع"، ثم ناشدتُه: "معلِّمي"، قال: "معلمنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ولولا فتحُ الله ما تعلمنا".



قلت: "الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، هل يشين العلمُ صاحبَه متى صرَّح به؟"، فتعجب:

"مَن قال ذلك أو أفتى به؟! إن العلمَ سموٌّ وتسَامٍ وسلطان على القلوب والأفئدة، لا تفرِضه السيوفُ ولا السِّياط، ولو جاء بَغيًا فحسبك عاقبةُ أمرِه.

قلت: "والقرى؟"

قال: "﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]".



قلت: "والأبالسة؟ والمؤامرة؟ والتدبير مساءً، فعلل قائلًا:

"وكما أن للإسلام أركانًا خمسة هي عِمادُه، فالأبالسةُ الطَّواغيت رؤوسٌ خمس: أعلاهم وأحقرُهم إبليسُ عليه لعائن الله، ومَن عُبد وهو راضٍ بعبادة الناس له، ومَن دعا لعبادته، ومن ادَّعى شيئًا من علم الغيب ومن هنا استهوتكم الشياطينُ، وخامسهم مَن حكم بغير ما أنزل الله والله أعلى وأعلم"[1]

قلت له: "زدني"

قال: "تكفيك المشاهدُ والشواهد، أمَّا أنا فسوف أذهب لأستزيدَ، وربما أعود ثانيةً إليك، فانظر الآن حولك"، فنظرتُ فإذا هي ريحٌ عاصفٌ وسماء قادمة تَزِفُّ عارضًا كعوارضِ مَن أهلكتهم الدُّهور.




انطلق العالِم يُحلِّق بأجنحة من نورٍ، تشقُّ سوادَ السحاب، ووجدتُني وحدي بين طِيَّات الكتاب؛ كفأتُ في التوِّ دفتيه، وضممتُ مصراعيه، فأحكمتُ الغلْقَ، وتنفستُ الصُّعَداء وقلت: "الحمد لله إذ لا عُهدة عليَّ".

وإلى لقاء في تعريجة أخرى مع البساط.

[1] مستخرجه من الدرر السنية في الأجوبة النجدية الأصول الثلاثة، شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب (مختصر).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 98.98 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 96.14 كيلو بايت... تم توفير 2.84 كيلو بايت...بمعدل (2.87%)]