فضل الرضا بالله تعالى - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-07-2022, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي فضل الرضا بالله تعالى

فضل الرضا بالله تعالى (1)
إبراهيم الدميجي

الحمد لله الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضلَّ بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن السعادة في الرضا به.

فقلتُ للفكر لَمَّا صار مضطربًا
وخانني الصَّبْرُ والتَّفْكِيرُ والجَلَدُ
دَعْهَا سماويةً تجري على قَدَرٍ
لا تعْتَرِضْها بأمرٍ منك تنفسِدُ
فحَفَّني بخفيِّ اللُّطْفِ خالِقُنا
نِعْمَ الوكيلُ ونِعْمَ العَوْنُ والمَدَدُ


عباد الرحمن، إن الرضا هو البحر الهائل الذي ينغمر فيه كل ألم، وتضمحلُّ فيه كل مشقة، وتذوب فيه كل كريهة؛ ذلك أن الرضا التام بالله تعالى يثمر سِرْبال الصبر وثلج اليقين وبرد الحمد، فمهما هبَّت على القلب رياح الألم وادلهمَّتْ على النفس كبار الخطوب، وتصاكَّتْ على الصدر ألوية الهموم والغموم، فإن الرضا بالله تعالى ربًّا مُدبِّرًا حافظًا ناصرًا رازقًا، والرضا به إلهًا معبودًا، يُصيِّر تلك الأمور الصاخبة المزعجة لأحوال أخرى طيبة ساكنة وادعة مريحة، ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].

فالراضي بربه يعلم علم يقين أنه بيد من هو أرحم به من والديه، ومن نفسه التي بين جنبيه، فحينها لا يأتيه شغل القلب وكدره وهمُّه وبلاؤه إلا حين يغفل الفؤاد لحظات عن هذه المعاني الهائلة الجميلة، فهو حال لطيف تستلذُّه نفوس العلماء بربهم وإن قلّ علمهم بأحكام شرعه ودلائله، ومعنًى جميلٌ تميل النفوس بأعماقها إليه، وتلقي القلوب بأزمَّتِها عليه، سلكنا الله جميعًا في سلك من رضي عنهم ورضوا عنه.

والرضا بالله تعالى سهلٌ يسيرٌ بحمد الله جلَّ وعزَّ، فهو يقينٌ وثباتٌ وسكينةٌ وطُمَأْنينةٌ، وقد يظُنُّ بعض العُبَّاد مشقَّته في ابتداء الأمر، فما هو إلا أن يسيروا في أفيائه قليلًا حتى تتكشَّف لهم سهولة الجادَّة وجمال الطريق، ثمَّ لا تلبث حقيقته الناصحة الرضيَّة السهلة أن تلوح في بصائرهم مشرقةً ناصعةً بيِّنةً، ولقد أحسن أيَّما إحسان من سمَّى الرضا: حسن الخُلُق مع الله.

إنَّ الرضا بالله تعالى يشدُّ ما وَهَى من أعمدة بنيان الإيمان، ويبني ما انهدَّ من جدران الثقة، ويحرس أرجاء بيضة اليقين، ويا رب هل إلا عليك المعوَّلُ.

فالقلب يبحر في بحر الرِّضا حاملًا معه علمَه التام ويقينه الراسخ بأن اختيار الله له خيرٌ له من اختياره لنفسه، وحينها يباشر الإيمان شَغاف قلبه ويملؤها سعادةً وسكينةً وطُمَأْنينةً وراحةً، مصداقًا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا))[1].

وتدبَّر كيف وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرِّضا لا بغيره؛ لأنه غاية وصول المؤمنين، فقال جل وعلا: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]، ومن أرضى الله أرضاه الله، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، وتدبَّرْ شرط الآية الكريمة إخلاص العمل لمرضاة الله لا غيره، فالعبد يبتغي وجه الله ورضوانه مُعْرِضًا عن كل ما يُشوِّش نيته ويُكدِّر إخلاصه، حريصًا كل الحرص على عبادة الرضا بالله تعالى ابتغاء رضوانه، قال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]، فمرضاة الله غاية السابقين، قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، قال التابعي الصالح أبو قلابة رحمه الله تعالى: "إذا أحدث الله لك علمًا، فأحدث لله عبادة، ولا يكن همُّك أن تُحدِّثَ به الناس"[2]، ونعمة العلم بالله تعالى والرضا به مُستحِقَّتانِ على العبد أعلى مراتب الشكر لربه تعالى.

ألا وإن الله تعالى قد امتنَّ علينا بأتمِّ نعمة وأعظم مِنَّة وأكبر كرامة؛ وهي الإسلام العظيم، قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، فيا لَسعادة وفوز وكرامة أهل الإسلام الذين اعتنقوا ورضوا ما رضيه ربُّهم لهم سُلَّمًا لمرضاته تبارك وتعالى!

عباد الرحمن، من تطلَّب مرضاة ربه فهو المهديُّ حقًّا والفائز صدقًا، قال الله تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].

وكيف لا يكون الرِّضْوان هو غاية الغايات ومنتهى المطالب بعد رؤية وجهه تبارك وتعالى في الجنة، فمن رضي الله عنه، فلا تسل عن سعادته وحبوره وسروره ونعيمه، فعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول لأهلِ الجنةِ: يا أهْلَ الجنةِ، فيقولون: لبَّيْكَ ربّنا وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يديكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضى يا ربَّنا وقد أعطيْتَنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خَلْقِكَ، فيقول: ألا أعطيكم أفْضَلَ من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفْضَلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضْواني فلا أسخَطُ عليكم بَعْدَهُ أبَدًا))[3]، قد ابيضَّت وجوههم لما رأوا محبوبهم، ونَضرت لمّا نَظَرت.

لا تَسأَلِ المَرءَ عَن خَلائِقِهِ
في وَجهِهِ شاهِدٌ عَنِ الخَبَرِ




ويا خيبة من لم يك عن ربه راضيًا ولا له مُرضيًا! فتعجّل الحطام الخسيس وباع الباقي النفيس: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62]، فأين تعزب عقولهم عن إدراك وتيقُّن واعتقاد أن الله تعالى هو الأحق أن يرضوه، ومرضاة رسوله تبع لمرضاته، قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا كان معنى فعل الاثنين واحدًا جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾، وقوله: ﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117][4]، وقال البغوي رحمه الله: "قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾ ولم يقل: (يرضوهما)؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله تعالى"[5]، وهذا من دقائق التوحيد؛ لأن مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لمرضاة الله تعالى استقلالًا، فمرضاة الله تعالى هي المقصودة، أما مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتبع لها، وهي مقصودة كذلك، فما لا يرضاه الرسول لا يكون مرضيًّا لله تعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يُكذّب، بل يُطاع ويُتْبَع، ولا يوصَلُ إلى مرضاة الله تعالى- بعد بعثته- إلا عن طريقه، فما جاء به فهو الهُدى الموصِّل إلى الرِّضْوان، وما لم يأتِ به فهو الضلال المبين والخسران المقيم، وتأمَّل قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ﴾ [آل عمران: 128]، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، والمقصود أن مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وشرع وعبادة لله تعالى ومطلوبة من كل مؤمن، وهي عينها مرضاة لله تعالى؛ لأنّ الله تعالى- وهو المقصود بالإرضاء- قد عصم رسوله أن يرضيه ما لا يرضي الله تعالى، فعاد الأمر كله إلى إرضاء الله تعالى، وكل مرضاة لرسوله صلى الله عليه وسلم فهي عائدة إلى مرضاة الله جل جلاله.

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واحمدوه واشكروه وارضوا به ربًّا وإلها ومدبِّرًا عليمًا حكيمًا بَرًّا رحيمًا.

عباد الله، الدين المرضيُّ أُسُّهُ ثابتٌ، وقواعدُه راسخةٌ، أما غيره من الأديان فسبيلُ الشِّقْوة والخسران، وطريق الضيعةِ والهوان، قال ربنا تعالى: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109]، وقال سبحانه: ﴿ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 162].

والصادق حقًّا هو من أسلم وجهه لله ابتغاء مرضاته وفضله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].

ومن رضي الله عنه فلا عليه ما فاته من حطام الدنيا وما عليها من ظل زائل، واستمِعْ بقلبك لهذا النبأ العظيم من لدن العزيز العليم: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]، فليس وراء رضوان الله لأولي الألباب غاية!

فإن سألتَ: من هو المتَّبع رضوان الله؟ فهو المُقدِّم مرضاة ربه على رغائب ورهائب الخلق؛ نفسِه ومَن ومَا بعدها، ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 172- 174] فتلمّحْ وتَسمَّعْ وتبَصّرْ شأنهم عند ربهم، نسأل الله الكريم من واسع فضله وكريم نواله، قال الله تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 20- 22]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72]، فلا أكبرَ من رضوان الله تبارك وتعالى وتقدَّس.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم صلِّ على محمد.

[1] مسلم (34)، والترمذي (2623).

[2] فتح المغيث (3/ 294).

[3] البخاري 8/ 142 (6549)، ومسلم 8/ 144 (2829).

[4] زاد المسير (1/ 70).

[5] تفسير البغوي (1/ 89).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19-07-2022, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فضل الرضا بالله تعالى



فضل الرضا بالله تعالى (2)
إبراهيم الدميجي

الحمدُ للهِ وفَّقَ مَنْ شَاءَ لِمَكارِم الأخلاقِ، وهدَاهم لِما فيهِ فلاحُهم يَومَ التَّلاقِي، وأَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، المَلِكُ الخَلَّاق، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسولُهُ أَفضَلُ الْبَشَرِ على الإطلاقِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِه ومن تبعهم بإحسانٍ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن رضا الله تعالى غاية مطلوب المرسلين.

عباد الرحمن، قال الله سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]، ولعلّ وعسى من الله موجبتان تفيدان التحقيق بفضل الله تعالى.

والسكينة لمن رضي الله عنه فوزٌ مُعجَّلٌ، وغنيمةٌ باردةٌ وأُعْطيةٌ طيّبةٌ، قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18].

وذو الرأي الراجح، والحكمة الواسعة، والتدبير الحسن، والمتلمِّح للعاقبة؛ هو من بسط الدارين في عقله، وقارن بين الخزف الفاني الحُطام، والذهب الباقي مع الرِّضْوان، وقد رسم الله تعالى ذينك السبيلين أمامنا، وأمرنا بإطلاق عقولنا في تأملهما حالًا ومآلًا، فقال جل اسمه: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].

إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جمًّا
وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا





وأهل الولاء والبراء قد نصَّ ربهم تبارك وتعالى على رضوانه عنهم وإرضائه لهم، فلَنِعْم العقبى عقباهم، ولَنِعْمَ الدارُ دارُهم، ولَنِعْمَ الاختيارُ اختيارُهم، فقال سبحانه: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].

وأهل الرضا عيشتهم غدًا مرضية: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 19 - 21]؛ أي: مرضية[1]، ووجوه المؤمنين المرضيين يومئذٍ ناعمة: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ [الغاشية: 8 - 10]، ولما اطْمَأَنَّتْ نفوسُهم بالإيمان، ورضيت بالرحمن، أرضاها البر الرحيم الشكور المجيب: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].

لكَ الحَمْدُ والنَّعْماءُ والخيرُ كلُّه
لَكَ الحَمْدُ يا ربًّا عظيمًا نَوالُهُ





ومن أخلص الدين لله فقد أرضى الله، وهو موعود بإرضاء الله له في دار الرضوان المقيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 7، 8]، فهي ثواب رضوان الله عن وليِّه الصالح، فالجنة دار الرِّضْوان، وخازنها اسمه رضوان كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((أتاني جبريل في يده كالمرآة البيضاء، في وسطها كالنُّكْتةِ السَّوْداءِ، قلتُ يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة يعرضُه عليك ربُّك ليكون عيدًا لك ولأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدكَ، قلت يا جبريل: فما هذه النُّكْتة السَّوْداء؟ قال: هذه الساعةُ تقومُ يومَ الجُمعة، وهو سيِّد أيام الدنيا، ونحن ندعوه يومَ المزيدِ، قلتُ: يا جبريل، ولم تدعونه يوم المزيد؟ قال: لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى اتَّخَذ في الجنة وادِيًا أفْيَحَ من مِسْكٍ أبْيَضَ، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربُّنا تبارك وتعالى على كُرْسِيِّه إلى ذلك الوادي، وقد حُفَّ الكُرْسي بمنابر من ذهب مُكلَّلة بالجوهر، وقد حُفَّتْ تلك المنابرُ بكَراسِيّ من نور، ثم يؤذن لأهل الغرفات فيقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الركب، عليهم أسْوِرة الذهب والفضة وثياب الحرير حتى يتناهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنُّوا فيه جلوسًا، بَعَثَ اللهُ إليهم ريحًا يقال لها: المُثيرة، فثارت[2] ينابيع المسك الأبيض في وجُوهِهم وجباهِهم وثيابِهم، وهم يومئذٍ جُرْدٌ[3] مُكَحَّلُون[4]، أبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام يومَ خَلَقَهُ اللهُ عز وجل، فيُنادي ربُّ العزة رضوان- وهو خازن الجنة - فيقول: يا رضوان، ارفع الحُجُب بيني وبين عبادي، فإذا رفع الحُجُب بينه وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هبُّوا سجودًا، فيناديهم بصوته: ارفعوا رءوسكم، فإنما كانت العبادة لي في الدنيا وأنتم اليوم في دار الجزاء والخلود، سَلُوني ما شئتم، فأنا ربُّكم الذي صدقتُكم وعدي، وأتممْتُ عليكم نِعْمتي، فهذا محل كرامتي فسلوني ما شئتم! فيقولون: ربنا، وأيُّ خيرٍ لم تفعله بنا؟ ألستَ الذي أعَنْتَنا على سكرات الموت، وأنست بنا الوحشة في ظلمة القبر، وبعثتنا بعد البلاء بحسن وجمال، وأمَّنْت روعتنا عند النفخة في الصور؟ ألست أقلْتَ عثرتنا، وسترت علينا القبيح في أمورنا، وثبَّتَّ على جسر جهنم أقدامنا؟ ألست الذي أدنيتنا من جوارك، وأسمعتنا من لذاذة منطقك، وتجلَّيْت لنا بنورك، فأيُّ خيرٍ لم تفعله بنا؟ فيعود فيُناديهم بصوته، فيقول: أنا ربُّكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممْتُ عليكم نِعْمَتي، فهذا محلُّ كرامتي فسَلُوني، فيسألونه حتى تنتهي أنفسهم، ثم يسألونه حتى تنتهي مسألتهم، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يسألونه، ثم يقول: سلوني، فيقولون: رضينا ربنا، وسلَّمنا، فيزيدهم من مزيد فضله وكرامته، ومزيد زهرة الجنة ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطر على قلب بَشَر، فيكونون على ذلك مقدار منصرفهم، قال: كقدر الجمعة إلى الجمعة، ثم يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى، معهم الملائكة والنبيون، ثم يؤذن لأهل الغُرُفات فيعودون ويرجعون إلى غُرَفِهِم وهما: غُرْفَتان من زمرَّدتَينِ خضراوين، وليسوا إلى شيء أشوق منهم إلى يوم الجمعة لينظروا إلى ربهم وليزيدهم من فضله وكرامته))، قال أنس: فهذا الحديث سمِعْتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد[5].

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضْوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن رضا الله عز وجل هو أعلى مطلب للنبيِّين وأتباعهم، فهذا زكريا عليه السلام يدعو الله لولده قبل خلقه بأن يجعله راضيًا عنه: ﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 6]، وإسماعيل عليه السلام قد شرَّفه ربُّه برضوانه عنه، فقال سبحانه: ﴿ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 55]، وموسى عليه السلام يُسارِع لمرضاة ربه تبارك وتعالى قائلًا بكل إيمان وتقوى وشوق: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، فقد عجل ليُرضيَ ربه، وسليمان عليه السلام يلهج بدعاء الله تعالى بأن يوفِّقه للصالحات المقربة لمرضاته جل وعلا: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].

ونوَّه سبحانه بشأن كل مؤمن صالح يدعو ربَّه بعد إبلاغه أربعين ربيعًا أن يُلهِمَه العمل الذي يرضاه سبحانه وأن يُعِينَه عليه: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].

وصحابة محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم جلّلهم ربُّهم تبارك وتعالى مديحته العظيمة بوصفهم بالعمل الصالح ابتغاء الرضوان، فجمعوا النية الصالحة والعمل القويم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].

ورضا الله تعالى عن المشفوع له أحد شرطي قبول الشفاعة فيه، قال سبحانه وبحمده: ﴿ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴾ [طه: 109].

هذا وإن آخر أهل الجنة دخولًا ينتظره نعيم هائل وسرور مقيم، فيرضيه الله تعالى حتى يرى أنه أنعم الناس طُرًّا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخِرُ مَنْ يدخُلُ الجنةَ رجلٌ فهو يمشي مرّة ويكبو[6] مرة، وتَسْفَعُه[7] النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجّاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين! فتُرفع له شجرة، فيقول: أي ربي، أدْنِني من هذه الشجرة، فلأستظِلّ بظِلِّها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا بن آدم، لعلِّي إن أعطيتُكَها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربُّه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه[8]، فيُدْنيه منها، فيستظِلّ بظِلِّها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدْنِني من هذه لأشرب من مائها وأستظِلَّ بظِلِّها لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ فيقول[9]: لعلي إن أدْنَيْتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربُّه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدْنيه منها فيستظِلّ بظِلِّها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب، أدْنِني من هذه لأستظِلَّ بظِلِّها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها، وربُّه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدْنيه منها، فإذا أدناه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب، أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم، ما يَصْرِيني منك؟[10] أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين))، فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني ممَّ أضحك؟ فقالوا: مِمَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مِمَّ تضحك يا رسول الله؟ قال: ((من ضحكِ ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر))[11].

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يرفعه، قال: سأل موسى ربه: ((ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدْخِل أهلُ الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادْخُل الجنة، فيقول: أي رب، كيف؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟[12] فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهتْ نفسُك ولذَّتْ عينُكَ، فيقول: رضيت رب، قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ[13] غَرَسْتُ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ، ولم تسمع أُذُنٌ، ولم يخطر على قلب بَشَر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17] الآية))[14]؛ أي: لم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم، فهو نعيم جديد تمامًا، وليس من جنس نعيم الدنيا المُذكِّر بنعيم الآخرة حتى لو من جهة اسمه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا تَرْضَونَ أن تكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنَّةِ؟))، قال: فكبَّرنا، ثم قال: ((أمَا تَرْضَونَ أن تكونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجنةِ؟))، قال: فكبَّرْنا، ثم قال: ((إني لأرجو أن تكونوا شَطْرَ أهْلِ الجنةِ، وسأُخْبِرُكم عن ذلك، ما المسلمون في الكُفَّار إلا كشَعْرةِ بيضاء في ثَوْرِ أسْود، أو كشَعْرةِ سَوْداء في ثَوْرٍ أبْيَضَ))[15].
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، إله الحق آمين.

اللهم صلِّ على محمد.

[1] تفسير ابن كثير (8 / 214).

[2] ثار: هاج وظهر، أو انتشر، وثارت الريح: إذا هبَّتْ.

[3] الأجرد: الذي لا شعر على جسده.

[4] الكَحَل: سَواد في أجفان العَيْن خِلْقة.

[5] ابن أبي شيبة (5560)، والحارث في المسند (196)، وأبو يعلى (4228)، قال ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم (1 / 261): "قال البزار: لا نعلم أحدًا رواه عن أنس عن عثمان بن عمير - أبي اليقظان - وعثمان بن صالح، هكذا قال. وقد رويناه: من طريق زياد بن خيثمة، عن عثمان بن سلم، عن أنس: فذكر الحديث بطوله مثل هذا السياق أو نحوه، وتقدم في رواية الشافعي عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عنه فقد اختلف الرواة فيه، وكان بعضهم يُدلِّسه؛ لئلا يعلم أمره، وذلك لما يتوهم من ضعفه، والله أعلم، وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: عن شيبان بن فروخ، عن الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم البناني، عن أنس، وذكر الحديث وهذه طرق جيدة عن أنس، شاهدة لرواية عثمان بن عمير، وقد اعتنى بهذا الحديث الحافظ أبو حسن، والدارقطني فأورداه من طرق، قال الحافظ الضياء: وقد روي من طريق جيد؛ عن أنس بن مالك، ورواه الطبراني، عن أحمد بن زهير، عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد القطواني، عن عبدالسلام بن حفص، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، فذكره، وقد رواه غير أنس من الصحابة".
وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج العواصم من القواصم: "روي بإسناد ضعيف، وروي من طريق آخر فيه محمد بن خالد بن خلي، صدوق، ومن فوقه من رجال الصحيح"؛ ا هـ.
وقد أخرجه الطبراني في الأوسط (٤٨٧٩)، ٨/ ١٥٤، (٩٤٤) مختصرًا، (٢/ ١٩٧) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (١/ ٤٣٥): "حسن صحيح"، وقال في موضع آخر في صحيح الترغيب والترهيب (٣/ ٥٢٥): "حسن لغيره".

[6] يكبو؛ أي: يسقط على وجهه.

[7] تسفعه: تضرب وجهه وتسوِّده، وتؤثر فيه أثرًا، وفي التنزيل: ﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴾ [العلق: 15].

[8] أي: لا صبر له على ترك تناولها لضعفه البشريّ.

[9] القائل هنا هو المولى عز وجل، وفي الكلام إيجاز بحذف قول ابن آدم: «بلى: يا رب»؛ عن نضرة النعيم (6 / 2115).

[10] أي ما الذي يرضيك ويقطع مسألتك؟ وأصل التصرية: القطع والجمع، ومنه: الشاة المصرَّاة، وهي التي جُمع لبنُها في ضرعها بسبب تأخُّر حلبها عن المعتاد.

[11] مسلم (187).

[12] وأخذوا أخذاتهم: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم.

[13] أردت: اخترت واصطفيت.

[14] مسلم (189).

[15] مسلم (221).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-07-2022, 07:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فضل الرضا بالله تعالى

فضل الرضا بالله تعالى (3)
إبراهيم الدميجي


الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ، حي لا يموت، قيُّوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحليم العظيم الملك العلَّام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن السعيد حقًّا هو من رضي الله عنه: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119]، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].

عباد الرحمن، لقد أرضى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عشرًا على من صلى عليه واحدة من أمته المحظوظة باتِّباعه، والسلام كذلك، فعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبُشْرى في وجهه فقلنا: إنا لنرى البُشْرى في وجهك، فقال: ((إنَّه أتاني الملكُ فقال: يا محمد، إنَّ ربَّك يقول: أما يُرْضِيكَ أنه لا يُصلِّي عليك أحَدٌ إلا صلَّيْتُ عليه عشرًا، ولا يُسلِّم عليكَ أحَدٌ إلَّا سَلَّمْتُ عليه عشرًا))[1].
اللهم صَلِّ وسَلِّم وبارك عليه وآله.

عباد الله، إن المؤمن يتقلَّبُ في نعيم الرِّضا مهما تقلبت أحواله، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَجِبْتُ من قضاءِ اللهِ عز وجل للمؤمنِ، إنْ أصابَه خيرٌ حمد ربَّه وشَكَر، وإن أصابَتْهُ مُصيبةٌ حمدَ ربَّه وصبر، المؤمنُ يُؤجَرُ في كُلِّ شيءٍ حتَّى في اللُّقْمةِ يرفعُها إلى فيِّ امْرأتِه))[2].

وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لأمْرِ المؤمِنِ إنَّ أمْرَه كُلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له))[3]، وتأمَّل خصوصية المؤمن بذلك، وكل هذا من بركات الرِّضا بالله تعالى.

والمقدور يكتنفه أمران: التوكُّل قبله، والرِّضا بعده، فمن توكَّل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: ((اللهُمَّ إني أستخيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بقُدْرتِكَ، وأسألُكَ من فَضْلِكَ العظيمِ)). فهذا توكُّل وتفويض، ثم قال: ((فإنَّكَ تعلَمُ ولا أعْلَمُ، وتَقْدِرُ ولا أقْدِرُ، وأنت علَّامُ الغُيُوب))، فهذا تبرُّؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسُّل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحَبُّ ما تَوَسَّل إليه بها المتوسِّلون، ثم سأل ربَّه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلًا أو آجلًا، وأن يصرِفَه عنه إن كان فيه مضرَّته عاجلًا أو آجلًا، فهذه هي حاجته التي سألها، فلم يبق عليه إلا الرِّضَا بما يقضيه له فقال: ((واقدُرْ لي الخَيْرَ حيثُ كان، ثم رَضِّنِي به))[4].

فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها التوكُّل والتفويض قبل وقوع المقدور، والرضا بعده، وهو ثمرة التوكُّل والتفويض وعلامة صحته، فإن لم يرض بما قضى له، فتفويضه معلول فاسد!

وهذا معنى قول بشر الحافي: "يقول أحدهم: توكَّلتُ على الله، يكذب على الله، لو توكَّل على الله لرضي بما يفعله الله به"، وقول يحيى بن معاذ وقد سُئِل: متى يكون الرجل متوكلًا؟ فقال: "إذا رضي بالله وكيلًا"[5].

وقد اشتمل دعاءُ الاستخارة هذا على خزائن رضًا عميمٍ، وتأمل كيف أبدل الله حال الناس بالإسلام خيرًا، فخيرٌ لهم لو أسلموا دينهم كلَّه لله رب العالمين، "فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه بهذا الدعاء عمّا كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قُسم لهم في الغيب؛ ولهذا سُمِّي ذلك استقسامًا، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوَّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكُّل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحدٌ حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحدٌ إرسالها إليه من التطيُّر والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو السبب الميمون السعيد، أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحُسْنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فسوف يعلمون.

فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكُّل عليه، والخروج من عهدة نفسه والتبرِّي من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كُلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحق"[6]، "وقال الله تعالى: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: "إذا توفي العبد المؤمن، أرسل الله إليه مَلَكَيْنِ، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخْرُجي أيتها النفس المطمئنة، اخْرُجي إلى رَوح وريحان، ورب عنك راضٍ"، وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف:

أحدها: أنه عند الموت، وهو الأشهر، قال الحسن: "إذا أراد قبضها اطمأنَّتْ إلى ربها، ورضيت عن الله فيرضى الله عنها"، وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث؛ هذا قول عكرمة وعطاء والضحَّاك وجماعة، وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي: ﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ تُقال لها عند الموت، والكلمة الثانية وهي: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ تُقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة[7].

عباد الرحمن، إنَّ بلوغ مقام الرِّضا لا يكون بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، وليس بالادِّعاء والكبرياء، كما في قصة قارون لمّا وعظه قومُه بشأن ماله، فقال لهم: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، فليس المال وكثرته هو الذي يبلغ به العبد درجة الرِّضا، فكم ملك قارون؟ وما أغنى عنه شيئًا، وما رضي عن الله، ولا بقضائه، لقد تمنَّى من تمنَّى ممن رأى قارون في زينته، وماله، وجبروته، أن يحصلوا على ما حصل عليه، فقالوا: ﴿ يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79]، وظنُّوا أنَّه بلغ مقام الرضا، ولكن الله أخبر أن المال ليس بدليل على رضا الله عن صاحبه، فإنَّ الله يُعطي ويمنع، ويُضيِّق ويُوسِّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة سبحانه، والحجة البالغة؛ ولهذا لما أدرك المتمنُّون ما حصل لقارون، وأنه بعيد كُلَّ البُعْد عن رضا الله أولًا، والرضا بما أعطاه قالوا: ﴿ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82]، فلولا لطفُ الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به!

وقد روى أحمد في مسنده[8] عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ قَسَمَ بينكم أخلاقَكم كما قسَم بينكم أرزاقَكم، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُعطي الدنيا من يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ، ولا يُعْطي الدِّينَ إلَّا مَنْ أحَبَّ، فمَنْ أعطاه الدين فقد أحبَّه، والذي نفسي بيده لا يُسلِم عبدٌ حتى يَسْلَمَ قلبُه ولسانُه، ولا يؤمن حتى يأمَنَ جارُه بوائقَه))، قالوا: وما بوائقُه يا نبي الله؟ قال: ((غَشْمُه وظُلْمُه، ولا يكسِب عبدٌ مالًا من حرام فينفق منه فيبارَك له فيه، ولا يتصدَّق به فيُقبَل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إنَّ الله عز وجل لا يمحو السيِّئ بالسيِّئ، ولكن يمحُو السيِّئ بالحَسَن، إن الخَبِيثَ لا يمحو الخبيثَ)).
بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الرِّضا حال من أحوال أهل الجَنَّة، لا يفارق صاحبه المتحلِّي به في الدنيا ما دام مع أمر الله، راضيًا بقضائه في الدنيا وفي الآخرة، فالرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقدر.

والرضا غايةٌ يسعى لها المؤمن الصادق، والرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات، ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين، كما في حديث جبريل عليه السلام المشهور[9].

ثُمَّ إنَّ الرِّضا من المقامات التي تُوصِّل للطُّمَأْنينة، وكم يتمنَّى العبد الحصول على الطُّمَأْنينة! فالرِّضا من الأمور التي تتسبَّب في وصول العبد إليها، فهو باب الله الأعظم.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولذلك كان الرضا بابَ الله الأعظم، وجنَّة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبِّين، ونعيم العابدين، وقرّة عيون المشتاقين"[10].

هذا، وإنَّ مرتبة الرضا فوق الصبر ودون الشكر- كما مر- علمًا بأن كل مرتبة لا تقوم إلا على ما قبلها، فلا رضا بدون صبر، ولا شكر بدون رضا، قال العثيمين رحمه الله تعالى وقد سُئِل: عمَّن يتسخَّط إذا نزلت به مصيبة؟ فأجاب: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخُّط وهو على أنواع:
النوع الأول: أن يكون بالقلب كأن يتسخَّط على ربِّه؛ يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ﴾ [الحج: 11].

النوع الثاني: أن يكون التسخُّط باللسان؛ كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.

النوع الثالث: أن يكون التسخُّط بالجوارح؛ كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام منافٍ للصبر الواجب.

المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
والصَّبْرُ مثل اسْمِه مُرٌّ مَذاقتُه
لكنْ عواقبُه أحْلَى من العَسَلِ




فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].

المرتبة الثالثة: الرِّضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملًا ثقيلًا، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.

المرتبة الرابعة: الشكر: وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سببٌ لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِنْ مُصِيبةٍ تُصيبُ المسلمَ إلَّا كفَّر اللهُ بها حتَّى الشوكة يشاكها))[11].

اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى بلا حسابٍ ولا عذابٍ ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، إله الحق آمين.

اللهم صَلِّ على محمد.

[1] النسائي (3/ 44)، والحاكم في المستدرك (2/ 420) وصححه ووافقه الذهبي، وقال محقق جامع الأصول (4/ 405): وللحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن أو الصحيح.

[2] أحمد (1 173، 177، 178) وشرح السنة (1540) وقال مخرجه: إسناده حسن، والبيهقي في السنن (3/ 375، 376)، والهيثمي في المجمع (7/ 209) وقال: رواه أحمد بأسانيد ورجالها كلها رجال الصحيح.

[3] مسلم (2999).

[4] البخاري 2/ 70 (1162).

[5] مدارج السالكين (2/ 124) باختصار.

[6] زاد المعاد (2/ 404).

[7] مدارج السالكين (2 / 179).

[8] أحمد في مسنده (3672)، والحاكم في المستدرك (2/ 447)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وضعَّفه محققو المسند والألباني، ورجَّح الدارقُطْني في العلل (5/ 271) وقفه.

[9] عدة الصابرين (1 / 124).

[10] مدارج السالكين (2 / 174).

[11] مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/109)، والحديث رواه أحمد (3085)، وأصله في الصحيحين كما عند البخاري 7/148 ( 5641 ) ومسلم 8/16 (2573).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 104.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 101.84 كيلو بايت... تم توفير 2.82 كيلو بايت...بمعدل (2.69%)]