تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله - الصفحة 36 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836929 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379447 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191303 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2671 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 664 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 951 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1105 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 857 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #351  
قديم 07-08-2022, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (336)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية5 إلى الاية 19

وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير ، أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، وحتى قال أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة .

فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى .

فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة بن حفص ، وإلى الحارث بن عمر ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فجرى بينه وبينهم الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، واستشارهما فيه ، فقالا يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه ، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : لا بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! مالنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنت وذاك . فتناول سعد الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتابة ، ثم قال : ليجهدوا علينا . [ ص: 327 ]

فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، وعدوهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود ، أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو بني محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها .

ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود وقاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله ، قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال : أجل ، فقال له علي بن أبي طالب : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى البراز قال : ولم ياابن أخي ، فوالله ما أحب أن أقتلك ، قال علي : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتناولا وتجاولا فقتله علي ، فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة ، فقال : يا معشر العرب قتله أحسن من هذه ، فنزل إليه علي فقتله ، فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم جسده ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة لنا في جسده وثمنه ، فشأنكم به ، فخلى بينهم وبينه .

قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة ، قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربة وهو يقول :


لبث قليلا يدرك الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه : الحق يا بني فقد والله أجزت ، قالت عائشة فقلت لها : يا أم سعد والله لوددت أن [ ص: 328 ] درع سعد كانت أسبغ مما هي ، قالت : وخفت عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم ، وقطع منه الأكحل ، رماه خباب بن قيس بن العرقة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال : خذها وأنا ابن العرقة ، فقال سعد : عرق الله وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم أن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية .

وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع ، حصن حسان بن ثابت ، قالت : وكان حسان معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، فقطعت ما بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم ، إذ أتانا آت . قالت : فقلت : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى ، يطوف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانزل إليه فاقتله ، فقال : يغفر الله لك يابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ، ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب .

قالوا : أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم .

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم ، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم [ ص: 329 ] لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان ، أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة ، إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ، حتى تناجزوه . قالوا : لقد أشرت برأي ونصح .

ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر رأيت أن حقا علي أن أبلغكم نصحا لكم ، فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : أن قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأرسل إليهم : أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا .

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم ، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان مما صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه ، فقال بنو قريظة لهم : إن اليوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمن والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ، فأبوا عليهم ، وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم . [ ص: 330 ]

فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا .

روى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، وروى غيره عن إبراهيم التميمي ، عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه ، قال نعم ياابن أخي ، قال : كيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهد ، فقال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه ، وفعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : ياابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة ؟ فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم ، وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا حذيفة ، فلم يكن لي بد من القيام إليه حين دعاني ، فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى آتيه ، وإن جنبي ليضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ، ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ، ثم قال اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته فأخذت سهمي ، وشددت علي سلاحي ، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا لله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ، ولو رميته لأصبته ، فذكرت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي ، فرددت سهمي في كنانتي . فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، قام فقال : يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت ، فقال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن .

فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا منهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم .

قال : فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي ، فلما سلم أخبرته الخبر ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء . [ ص: 331 ] فأدناني النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، وأنامني عند رجليه ، وألقى علي طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال : قم يا نومان
.
( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ( 10 ) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ( 11 ) )

قوله - عز وجل - : ( إذ جاءوكم من فوقكم ) أي : من فوق الوادي من قبل المشرق ، وهم أسد ، وغطفان ، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ) ( ومن أسفل منكم ) يعني : من بطن الوادي ، من قبل المغرب ، وهم قريش وكنانة ، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق .

وكان الذي جر غزوة الخندق - فيما قيل - إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير من ديارهم .

( وإذ زاغت الأبصار ) مالت وشخصت من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها ( وبلغت القلوب الحناجر ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، والحنجرة : جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل ، عبر به عن شدة الخوف ، قال الفراء : معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره .

) ( وتظنون بالله الظنونا ) أي : اختلفت الظنون; فظن المنافقون استئصال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي عنهم ، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم .

قرأ أهل المدينة والشام وأبو بكر : " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بإثبات الألف وصلا ووقفا ، لأنها مثبتة في المصاحف ، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل ، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رءوس الآي . ( هنالك ابتلي ) أي : عند ذلك اختبر المؤمنون ، بالحصر والقتال ، ليتبين المخلص من المنافق ( وزلزلوا زلزالا شديدا ) حركوا حركة شديدة .
[ ص: 332 ] ) ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ( 12 ) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ( 13 ) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ( 14 ) )

( وإذ يقول المنافقون ) معتب بن قشير ، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه ( والذين في قلوبهم مرض ) شك وضعف اعتقاد : ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) وهو قول أهل النفاق : يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله ، هذا والله الغرور . ( وإذ قالت طائفة منهم ) أي : من المنافقين ، وهم أوس بن قيظي وأصحابه ) ( يا أهل يثرب ) يعني المدينة ، قال أبو عبيدة : " يثرب " : اسم أرض ، ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها .

وفي بعض الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسمى المدينة يثرب ، وقال : " هي طابة " ، كأنه كره هذه اللفظة .

( لا مقام لكم ) قرأ العامة بفتح الميم ، أي : لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وحفص : بضم الميم ، أي : لا إقامة لكم ) ( فارجعوا ) ; إلى منازلكم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : عن القتال إلى مساكنكم .

( ويستأذن فريق منهم النبي ) وهم بنو حارثة وبنو سلمة ( يقولون إن بيوتنا عورة ) أي : خالية ضائعة ، وهو مما يلي العدو نخشى عليها السراق . وقرأ أبو رجاء العطاردي " عورة " بكسر الواو ، أي : قصيرة الجدران يسهل دخول السراق عليها ، فكذبهم الله فقال : ( وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) أي : ما يريدون إلا الفرار . ( ولو دخلت عليهم ) أي : لو دخلت عليهم المدينة ، يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم ، وهم الأحزاب ) ( من أقطارها ) جوانبها ونواحيها جمع قطر ) ( ثم سئلوا الفتنة ) أي : الشرك . [ ص: 333 ] ) ( لآتوها ) لأعطوها ، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصورا ، أي : لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام ) ( وما تلبثوا بها ) أي : ما احتبسوا عن الفتنة ) ( إلا يسيرا ) ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به أنفسهم ، هذا قول أكثر المفسرين .

وقال الحسن والفراء : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا .
( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا ( 15 ) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا ( 16 ) )

( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ) أي : من قبل غزوة الخندق ( لا يولون الأدبار ) من عدوهم أي : لا ينهزمون ، قال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة ، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها .

وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ، فساق الله إليهم ذلك .

وقال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة ، وقالوا : أشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قالوا : قد فعلنا ذلك . فذلك عهدهم .

وهذا القول ليس بمرضي ، لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرا ، لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول ، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفروا ، فنقضوا العهد .

( وكان عهد الله مسئولا ) عنه . ) ( قل ) لهم ( لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ) الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل ( وإذا لا تمتعون إلا قليلا ) أي : لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل .
[ ص: 334 ] ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( 17 ) قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ( 18 ) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ( 19 ) )

( قل من ذا الذي يعصمكم من الله ) أي : يمنعكم من عذابه ( إن أراد بكم سوءا ) هزيمة ( أو أراد بكم رحمة ) نصرة ( ولا يجدون لهم من دون الله وليا ) أي : قريبا ينفعهم ) ( ولا نصيرا ) أي : ناصرا يمنعهم . ( قد يعلم الله المعوقين منكم ) أي : المثبطين للناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) أي : ارجعوا إلينا ، ودعوا محمدا ، فلا تشهدوا معه الحرب ، فإنا نخاف عليكم الهلاك .

قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين ، كانوا يثبطون أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويقولون لإخوانهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم ، أي : ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا الرجل فإنه هالك .

وقال مقاتل : نزلت في المنافقين ، وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين ، وقالوا : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه ، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا ، وإنا نشفق عليكم ، أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا ، فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه ، وقالوا : لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ؟ ما عنده خير ، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا ، انطلقوا بنا إلى إخواننا ، يعني اليهود ، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا .

قوله - عز وجل - : ( ولا يأتون البأس ) الحرب ) ( إلا قليلا ) رياء وسمعة من غير احتساب ، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا . ( أشحة عليكم ) بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة ، وقال قتادة : بخلاء عند الغنيمة ، وصفهم الله بالبخل والجبن ، فقال : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ) في الرءوس من الخوف والجبن ( كالذي يغشى عليه من الموت ) أي : كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، [ ص: 335 ] وذلك أن من قرب من الموت غشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره ، فلا يطرف ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم ) آذوكم ورموكم في حال الأمن ( بألسنة حداد ) ذربة ، جمع حديد . يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان : مسلق ومصلق وسلاق وصلاق . قال ابن عباس : سلقوكم أي : عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة . وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال ، فلستم أحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم ( أشحة على الخير ) أي : عند الغنيمة يشاحون المؤمنين ( أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ) قال مقاتل : أبطل الله جهادهم ( وكان ذلك على الله يسيرا )



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #352  
قديم 07-08-2022, 01:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

الحلقة (337)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية20 إلى الاية 37

( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا
( 20 ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ( 21 ) )

( يحسبون ) يعني هؤلاء المنافقين ) ( الأحزاب ) يعني : قريشا وغطفان واليهود ( لم يذهبوا ) لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا ( وإن يأت الأحزاب ) أي : يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب ( يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ) أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن ، يقال : بدا يبدو بداوة ، إذا خرج إلى البادية ( يسألون عن أنبائكم ) أخباركم وما آل إليه أمركم ، وقرأ يعقوب : " يساءلون " مشددة ممدودة ، أي : يتساءلون ) ( ولو كانوا ) يعني : هؤلاء المنافقين ( فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) تعذيرا ، أي : يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم ، فيقولون قد قاتلنا . قال الكلبي : إلا قليلا أي : رميا بالحجارة . وقال مقاتل : إلا رياء وسمعة من غير احتساب . قوله - عز وجل - : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) قرأ عاصم : " أسوة " حيث كان ، بضم الهمزة ، والباقون بكسرها ، وهم لغتان ، أي : قدوة صالحة ، وهي فعلة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء ، اسم وضع موضع المصدر ، أي : به اقتداء حسن إن تنصروا دين الله وتؤازروا [ ص: 336 ] الرسول ولا تتخلفوا عنه ، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه ، وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى ، فواساكم مع ذلك بنفسه ، فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته ( لمن كان يرجو الله ) بدل من قوله : " لكم " وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين ، يعني : أن الأسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن كان يرجو الله ، قال ابن عباس : يرجو ثواب الله . وقال مقاتل : يخشى الله ) ( واليوم الآخر ) أي : يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال ( وذكر الله كثيرا ) في جميع المواطن على السراء والضراء .
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ( 22 ) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ( 23 ) )

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا ) تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ) وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " إلى قوله : " ألا إن نصر الله قريب " ( البقرة - 214 ) ، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) أي : تصديقا لله وتسليما لأمر الله . قوله - عز وجل - : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) أي : قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ( فمنهم من قضى نحبه ) أي : فرغ من نذره ، ووفى بعهده ، فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب : النذر ، والنحب : الموت أيضا ، قالمقاتل : " قضى نحبه " ، يعني : أجله فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : " قضى نحبه " أي : بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب : نحب فلان في سيره يومه وليلته ، إذا مد فلم ينزل ( ومنهم من ينتظر ) الشهادة . [ ص: 337 ]

وقال محمد بن إسحاق : " فمنهم من قضى نحبه " من استشهد يوم بدر وأحد " ومنهم من ينتظر " يعني : من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين; إما الشهادة أو النصر ) ( وما بدلوا ) عهدهم ) ( تبديلا )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن سعيد الخزاعي ، أخبرنا عبد الأعلى ، عن حميد قال : سألت أنسا ح وحدثني عمرو بن زرارة ، أخبرنا زياد ، حدثني حميد الطويل ، عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) إلى آخر الآية .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن حماد ، أخبرنا معاوية ، عن الأعمش ، عن سفيان عن شقيق ، عن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد ، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة ، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه ، وإذا وضعناه على رجليه خرج رأسه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر ، قال : ومن أينعت له ثمرته فهو يهد بها " .

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر ، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أخبرنا محمد بن سليمان الجوهري [ ص: 338 ] بأنطاكية ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا الصلت بن دينار ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله قال : نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طلحة بن عبد الله فقال : " من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن أبي شيبة ، أخبرنا وكيع بن إسماعيل ، عن قيس قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .
( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ( 24 ) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ( 25 ) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ( 26 ) )

قوله - عز وجل - : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) أي جزاء صدقهم ، وصدقهم هو الوفاء بالعهد ( ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ) فيهديهم إلى الإيمان ( إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا ) من قريش وغطفان ) ( بغيظهم ) لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا ( لم ينالوا خيرا ) ظفرا ( وكفى الله المؤمنين القتال ) بالملائكة والريح ( وكان الله قويا عزيزا ) قويا في ملكه عزيزا في انتقامه . ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ) أي : عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة ( من صياصيهم ) حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما [ ص: 339 ] أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب فيها راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فقال : قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم .

وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مناديا فأذن : أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم ، وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم ، أظنك سمعت لي منهم أذى ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا .

فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ . قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا
.

ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال : هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال عليه السلام : ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم .

فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك [ ص: 340 ] ولا عنفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب .

وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده .

فلما أيقنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة . قالوا : أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازما ؟ قال ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم ، فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، قالوا : ماذا يفعل بنا إذا نزلنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك فقلت مما تضحك يا رسول [ ص: 341 ] الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة ، فقلت : إلا أبشره بذلك يا رسول الله ؟ فقال بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجا إلى الصبح أطلقه ، ثم قال : إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة ، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي فمر بحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : عمرو بن سعدى ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله ، فذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنه ، فقال : ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين ذهب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه تلك المقالة ، والله أعلم . فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج ، بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم ؟ " قالوا : بلى ، قال : فذاك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ، فلما حكمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي [ ص: 342 ] سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو معرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالا له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب : أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى حيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه .

وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة قالت : أنا والله قلت : ويلك مالك ؟ قالت : أقتل ، قلت : ولم ؟ قالت : حدث أحدثته ، قالت : فانطلق بها فضرب عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك ، وقد عرفت إنها تقتل . قال الواقدي : وكان اسم تلك المرأة شبابة ، امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد ، رمت عليه رحى فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد قال : وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس هنالك . [ ص: 343 ]

وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن ، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إن الكريم يجزي الكريم ، قال : ثم أتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو لك " فأتاه فقال له إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك ، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أهله وماله ؟ قال هم لك فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاني امرأتك وولدك فهم لك ، قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ماله يا رسول الله ؟ قال : هو لك ، قال : فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاني مالك فهو لك ، فقال : أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ، قال : قتل ، قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : ذهبوا وقتلوا ، قال : فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير ، فما أنا بصابر لله فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه ، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة ، قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا .

قالوا : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقع فيه السهمان ، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني [ ص: 344 ] في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك .

فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، قالت عائشة : فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى : " رحماء بينهم ( الفتح - 29 ) ، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا يحيى بن آدم ، أخبرنا إسرائيل ، سمعت أبا إسحاق يقول ، سمعت سليمان بن صرد يقول ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أجلى الله الأحزاب عنه : " الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده " فلا شيء بعده " .

قال الله تعالى في قصة بني قريظة : ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون ) وهم الرجال ، يقال : كانوا ستمائة ( وتأسرون فريقا ) وهم النساء والذراري ، يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : كانوا تسعمائة
[ ص: 345 ] ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا ( 27 ) يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ( 28 ) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ( 29 ) )

( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) ، بعد ، قال ابن زيد ومقاتل : يعني خيبر ، قال قتادة : كنا نحدث أنها مكة . وقال الحسن : فارس والروم . وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . ( وكان الله على كل شيء قديرا ) قوله - عز وجل - ( ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن ) متعة الطلاق ( وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه ، فقالوا : ما شأنه ؟




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #353  
قديم 07-08-2022, 01:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (338)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية20 إلى الاية 37

وكانوا يقولون : طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، فقال عمر لأعلمن لكم شأنه ، قال : فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، فنزلت هذه الآية : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ( النساء - 83 ) ، فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير ، وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : وهم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وغير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن [ ص: 346 ] فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرئي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعتها على ذلك .

قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : ( لا يحل لك النساء من بعد )

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا روح بن عبادة ، أخبرنا زكريا بن إسحاق ، أخبرنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد الناس جلوسا ببابه ولم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال : لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة ، فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : لا تسألي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ، ثم نزلت الآية : ( يا أيها النبي قل لأزواجك ) حتى بلغ : ( للمحسنات منكن أجرا عظيما ) قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله استشير أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا ، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال : " إن الشهر تسع وعشرون " [ ص: 347 ]

واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا ؟ فذهب الحسن ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : ( فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : " لا تعجلي حتى تستشيري أبويك " ، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور .

وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقا .

واختلف أهل العلم في حكم التخيير : فقال عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية .

وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث ، وهو قول الحسن وبه قال مالك .

وروي عن علي أيضا أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة .

وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص ، أخبرنا أبي ، أخبرنا الأعمش ، أخبرنا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئا .
( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ( 30 ) )

قوله - عز وجل - : ) ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة ) بمعصية ظاهرة ، قيل : هي كقوله - عز وجل - : " لئن أشركت ليحبطن عملك " ( الزمر - 65 ) لا أن منهن من أتت بفاحشة . وقال ابن عباس : المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق . ( يضاعف لها العذاب ضعفين ) قرأ ابن كثير وابن عامر : " نضعف " بالنون وكسر العين وتشديدها ، " العذاب " نصب ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح العين " العذاب " رفع ويشددها أبو جعفر وأهل البصرة ، وشدد أبو عمرو هذه وحدها لقوله : [ ص: 348 ] " ضعفين " ، وقرأ الآخرون : " يضاعف " بالألف وفتح العين ، " العذاب " رفع ، وهما لغتان مثل بعد وباعد ، قال أبو عمرو وأبو عبيدة : ضعفت الشيء إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) قال مقاتل : كان عذابها على الله هينا وتضعيف عقوبتهن على المعصية لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن; وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين .
( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما ( 31 ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ( 32 ) )

( ومن يقنت ) يطع ( منكن لله ورسوله ) قرأ يعقوب : " من تأت منكن ، وتقنت " بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء لأن " من " أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ( وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ) أي : مثلي أجر غيرها ، قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة .

وقرأ حمزة والكسائي : " يعمل ، يؤتها " بالياء فيهما نسقا على قوله : " ومن يأت ، ويقنت " وقرأ الآخرون بالتاء ( وأعتدنا لها رزقا كريما ) حسنا يعني الجنة . ) ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ) قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي ، ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : " لا نفرق بين أحد من رسله " ( البقرة - 285 ) ، وقال : " فما منكم من أحد عنه حاجزين " ( الحاقة - 47 ) .

( إن اتقيتن ) الله فأطعتنه ( فلا تخضعن بالقول ) لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ( فيطمع الذي في قلبه مرض ) أي : فجور وشهوة ، وقيل نفاق ، والمعنى : لا تقلن قولا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى الطمع فيكن .

والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع .

( وقلن قولا معروفا ) لوجه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع .

[ ص: 349 ] ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( 33 ) )

( وقرن في بيوتكن ) قرأ أهل المدينة وعاصم : " وقرن " بفتح القاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، فمن فتح القاف فمعناه ، اقررن أي : الزمن بيوتكن من قولهم : قررت بالمكان أقر قرارا ، يقال : قررت أقر وقررت أقر ، وهما لغتان ، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم : في ظللت ظلت ، قال الله تعالى : " فظلتم تفكهون " ( الواقعة - 65 ) ، " و ظلت عليه عاكفا " ( طه - 97 ) .

ومن كسر القاف فقد قيل : هو من قررت أقر ، معناه اقررن - بكسر الراء - فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا وقيل : - وهو الأصح - أنه أمر من الوقار ، كقولهم من الوعد : عدن ، ومن الوصل : صلن ، أي : كن أهل وقار وسكون ، من قولهم وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن .

( ولا تبرجن ) قال مجاهد وقتادة : التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح : هو التبختر . وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ( تبرج الجاهلية الأولى ) اختلفوا في الجاهلية الأولى .

قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقال أبو العالية : هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، كانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه .

وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمرود الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال .

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وأن إبليس أتى رجلا [ ص: 350 ] من أهل السهل وأجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك [ فتحولوا إليهم ] فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم ، فذلك قوله تعالى : " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " .

وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام .

وقيل : الجاهلية الأولى : ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى : قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان .

وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى ، كقوله تعالى : " وأنه أهلك عادا الأولى " ( النجم - 50 ) ، ولم يكن لها أخرى .

قوله - عز وجل - : ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) أراد بالرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، قاله مقاتل . وقال ابن عباس : يعني : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضى ، وقال قتادة : يعني : السوء . وقال مجاهد : الرجس الشك .

وأراد بأهل البيت : نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وتلا قوله : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله " ، وهو قول عكرمة ومقاتل .

وذهب أبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين .

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي ، أخبرنا أبو همام الوليد بن شجاع ، أخبرنا يحيى بن زكريا بن زائدة ، أخبرنا أبي عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة الحجبية ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسن فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " . [ ص: 351 ]

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي ، أخبرنا عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن مكرم ، أخبرنا عثمان بن عمر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أم سلمة قالت : في بيتي أنزلت : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) قالت : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فقال " هؤلاء أهل بيتي " ، قالت : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟ قال : " بلى إن شاء الله " .

قال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده ، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ( 34 ) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ( 35 ) )

قوله - عز وجل - : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله ) يعني : القرآن ) ( والحكمة ) قال قتادة : يعني السنة وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه . ( إن الله كان لطيفا خبيرا ) أي : لطيفا بأوليائه خبيرا بجميع خلقه . قوله - عز وجل - : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية . وذلك أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير ، فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل الله منا طاعة ، فأنزل الله هذه الآية .

قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونيسة بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ، نخشى أن لا يكون فيهن خير ؟ فنزلت هذه الآية . [ ص: 352 ]

وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قلن : لا . فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ، قال : ومم ذاك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله هذه الآية : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين ) المطيعين ( والقانتات والصادقين ) في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم ( والصادقات والصابرين ) على ما أمر الله به ( والصابرات والخاشعين ) المتواضعين ( والخاشعات ) وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ، ومن الخشوع أن لا يلتفت ( والمتصدقين ) مما رزقهم الله ( والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم ) عما لا يحل ( والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا .

وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد سبق المفردون " ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .

قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله - عز وجل - فهو داخل في قوله : " إن المسلمين والمسلمات " ، ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو داخل في قوله : " والمؤمنين والمؤمنات " ، ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة : فهو داخل في قوله : " والقانتين والقانتات ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : " والصادقين والصادقات " ، ومن صبر على الطاعة ، وعن المعصية ، وعلى الرزية : فهو داخل في قوله : " والصابرين والصابرات " ، ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله : " والخاشعين والخاشعات " ، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : " والمتصدقين والمتصدقات " ، ومن صام في كل شهر أيام البيض : الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، فهو داخل في قوله : " والصائمين والصائمات " ، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله : " والحافظين فروجهم والحافظات " ، ومن صلى [ ص: 353 ] الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " . ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )
( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ( 36 ) )

قوله - عز وجل - : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )

نزلت الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش وأمهما أمية بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه ، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت : أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي ، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة ، وكذلك كره أخوها ذلك ، فأنزل الله - عز وجل - : ( وما كان لمؤمن ) يعني : عبد الله بن جحش ( ولا مؤمنة ) يعني : أخته زينب ( إذا قضى الله ورسوله أمرا ) أي إذا أراد الله ورسوله أمرا وهو نكاح زينب لزيد ( أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) قرأ أهل الكوفة : " أن يكون " بالياء ، للحائل بين التأنيث والفعل ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث " الخيرة " من أمرهم ، والخيرة : الاختيار .

والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به . ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) أخطأ خطأ ظاهرا ، فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما ، وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أخوها ، فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا ، فدخل بها وساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخمارا ، ودرعا ، وإزارا وملحفة ، وخمسين مدا من طعام ، وثلاثين صاعا من تمر .
[ ص: 354 ] ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ( 37 ) )

قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ) الآية ، نزلت في زينب وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حينا ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زيدا ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت [ ص: 355 ] فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إني أريد أن أفارق صاحبتي " ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك زوجك " ، يعني : زينب بنت جحش ) ( واتق الله ) في أمرها ، ثم طلقها زيد فذلك قوله - عز وجل - :

( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ) بالإسلام ) ( وأنعمت عليه ) بالإعتاق ، وهو زيد بن حارثة ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) فيها ولا تفارقها ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها .

وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها .

( وتخشى الناس ) قال ابن عباس والحسن : تستحييهم .

وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها .

( والله أحق أن تخشاه ) قال عمر ، وابن مسعود ، وعائشة : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه الآية .

وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " .

وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ؟ قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : أمسك عليك زوجك واتق الله ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك ، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ [ ص: 356 ] وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : " زوجناكها " فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي ، وهذا قول حسن مرض ، وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع البشر .

وقوله : " أمسك عليك زوجك واتق الله " أمر بالمعروف ، وهو خشية لا إثم فيه .

وقوله تعالى : ( والله أحق أن تخشاه ) لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ، ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء .

قوله - عز وجل - : ( فلما قضى زيد منها وطرا ) أي : حاجة من نكاحها ( زوجناكها ) وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها .

قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات .

وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، أني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ، أخبرنا بهز ، أخبرنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد : " فاذكرها علي " ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك .

قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن . [ ص: 357 ]

قال : ولقد رأيتنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، [ فخرج الناس ] وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني .

قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سليمان بن حرب ، أخبرنا حماد عن ثابت ، عن أنس قال : ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #354  
قديم 07-08-2022, 01:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (339)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية38 إلى الاية51

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أخبرنا مروان الفزاري ، أخبرنا حميد عن أنس قال : أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزا ولحما .

قوله - عز وجل - : ( لكي لا يكون على المؤمنين حرج ) إثم ( في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) و " الأدعياء " : جمع الدعي ، وهو المتبنى ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني ، [ وإن كان قد دخل بها المتبنى ] بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب .

( وكان أمر الله مفعولا ) أي : كان قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ( 38 ) )

قوله - عز وجل - : ) ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ) أي : فيما أحل الله له ) ( سنة الله ) أي : كسنة الله نصب بنزع الخافض ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي : الزموا [ ص: 358 ] سنة الله ( في الذين خلوا من قبل ) أي : في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم .

قال الكلبي ، ومقاتل : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها فكذلك جمع بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين زينب .

وقيل : أشار بالسنة إلى النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام .

وقيل : إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليهما السلام .

( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) قضاء مقضيا كائنا ماضيا .
( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ( 39 ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ( 40 ) )

( الذين يبلغون رسالات الله ) [ يعني سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله ] ( ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل الله لهم وفرض عليهم ( وكفى بالله حسيبا ) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج زينب قال الناس : إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عز وجل - : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) يعني : زيد بن حارثة ، أي : ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها .

فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، وإبراهيم ، وكذلك : الحسن والحسين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن : إن ابني هذا سيد ؟ .

قيل : هؤلاء كانوا صغارا لم يكونوا رجالا .

والصحيح ما قلنا : إنه أراد أبا أحد من رجالكم .

( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) ختم الله به النبوة ، وقرأ عاصم : " خاتم " بفتح التاء على الاسم ، أي : آخرهم ، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل ، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم . [ ص: 359 ]

قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا يكون بعده نبيا .

وروي عن عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا ( وكان الله بكل شيء عليما )

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدثنا أبكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : كان أبو هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ، ختم بي البنيان وختم بي الرسل " .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، وغير واحد قالوا ، أخبرنا سفيان عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي " .
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( 41 ) )

قوله - عز وجل - : ) ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ) قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، أما الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهى إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به في [ ص: 360 ] كل الأحوال ، فقال : " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ( النساء - 103 ) . وقال : ( اذكروا الله ذكرا كثيرا ) أي : بالليل والنهار ، في البر والبحر وفي الصحة والسقم ، وفي السر والعلانية . وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا .
( وسبحوه بكرة وأصيلا ( 42 ) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ( 43 ) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ( 44 ) )

( وسبحوه ) أي : صلوا له ) ( بكرة ) يعني : صلاة الصبح ) ( وأصيلا ) يعني : صلاة العصر . وقال الكلبي : " وأصيلا " صلاة الظهر والعصر والعشاءين .

وقال مجاهد : يعني : قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فعبر بالتسبيح عن أخواته .

وقيل : المراد من قوله : " ذكرا كثيرا " هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث . ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ) فالصلاة من الله : الرحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار للمؤمنين .

قال السدي قالت بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا ؟ فكبر هذا الكلام على موسى ، فأوحى الله إليه : أن قل لهم : إني أصلي ، وإن صلاتي رحمتي ، وقد وسعت رحمتي كل شيء .

وقيل : الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده . وقيل : الثناء عليه .

قال أنس : لما نزلت : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) قال أبو بكر : ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه ، فأنزل الله هذه الآية .

قوله : ( ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) أي : من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان يعني : أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى النور ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ( تحيتهم ) أي : تحية المؤمنين ( يوم يلقونه ) أي : يرون الله ) ( سلام ) أي : يسلم الله عليهم ، ويسلمهم من جميع الآفات . [ ص: 361 ]

وروي عن البراء بن عازب قال : " تحيتهم يوم يلقونه " ، يعني : يلقون ملك الموت ، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه .

وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام .

وقيل : تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم ( وأعد لهم أجرا كريما ) يعني : الجنة .
( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 45 ) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( 46 ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ( 47 ) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 48 ) يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ( 49 ) )

قوله - عز وجل - : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) أي : شاهدا للرسل بالتبليغ ، ومبشرا لمن آمن بالجنة ، ونذيرا لمن كذب بآياتنا بالنار . ( وداعيا إلى الله ) إلى توحيده وطاعته ) ( بإذنه ) بأمره ( وسراجا منيرا ) سماه سراجا لأنه يهتدى به كالسراج يستضاء به في الظلمة . ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) ذكرنا تفسيره في أول السورة ( ودع أذاهم ) قال ابن عباس وقتادة : اصبر على أذاهم . وقال الزجاج : لا تجازهم عليه . وهذا منسوخ بآية القتال .

( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) حافظا . قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح ، حتى لو قال لامرأة أجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق ، وقال : كل امرأة أنكحها فهي طالق ، فنكح ، لا يقع الطلاق . وهو قول [ ص: 362 ] علي ، وابن عباس ، وجابر ، ومعاذ ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعروة ، وشريح وسعيد بن جبير ، والقاسم وطاوس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وسليمان بن يسار ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم رضي الله عنهم ، وبه قال الشافعي .

وروي عن ابن مسعود : أنه يقع الطلاق ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأصحاب الرأي .

وقال ربيعة ، ومالك ، والأوزاعي : إن عين امرأة يقع ، وإن عم فلا يقع .

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : كذبوا على ابن مسعود ، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن " ، ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد الديموري ، أخبرنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا أيوب بن سويد ، أخبرنا ابن أبي ذئب عن عطاء ، عن جابر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا طلاق قبل النكاح " .

قوله - عز وجل - : ( من قبل أن تمسوهن ) تجامعوهن ( فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) تحصونها بالأقراء والأشهر ( فمتعوهن ) أي : أعطوهن ما يستمتعن به . قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا فلها المتعة ، فإن كان قد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق ولا متعة لها .

وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : " فنصف ما فرضتم " ( البقرة - 237 ) .

وقيل : هذا أمر ندب ، فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر .

وذهب بعضهم إلى إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية .

( وسرحوهن سراحا جميلا ) خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار .
( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ( 50 ) )

قوله - عز وجل - : ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) أي : مهورهن ، [ ص: 363 ] ( وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم ( وبنات عمك وبنات عماتك ) يعني : نساء قريش ( وبنات خالك وبنات خالاتك ) يعني : نساء بني زهرة ( اللاتي هاجرن معك ) إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها .

وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل .

( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه .

واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟

فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : " وامرأة مؤمنة " ، وأول بعضهم الهجرة في قوله : " اللاتي هاجرن معك " على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في النكاح لقوله تعالى : ( خالصة لك من دون المؤمنين ) كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . [ ص: 364 ]

واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي .

وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة .

ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : " خالصة لك من دون المؤمنين " .

وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله - عز وجل - : ( إن أراد النبي أن يستنكحها ) وكان اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - في ترك المهر لا في لفظ النكاح .

واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ .

فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : " إن وهبت نفسها " على طريق الشرط والجزاء .

وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين .

وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث .

وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد .

وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم .

قوله - عز وجل - : ( قد علمنا ما فرضنا عليهم ) أي : أوجبنا على المؤمنين ( في أزواجهم ) من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ( وما ملكت أيمانهم ) أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ( لكيلا يكون عليك حرج ) وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . ( وكان الله غفورا رحيما )
( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ( 51 ) )

( ترجي ) أي : تؤخر ( من تشاء منهن وتؤوي ) أي : تضم ( إليك من تشاء )

اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن [ ص: 365 ] في القسم كانت واجبا عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن .

قال أبو رزين ، وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرا حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله - عز وجل - أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط .

واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهم عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحدا ، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعله الله له من ذلك - يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة .

وقيل : أخرج بعضهن .

روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمسا : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء .

وقال مجاهد : " ترجي من تشاء منهن " يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد .

وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء .

وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك .

وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 366 ]

وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن سلام ، أخبرنا ابن فضيل ، أخبرنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : ( ترجي من تشاء منهن ) قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .

قوله - عز وجل - : ( ومن ابتغيت ممن عزلت ) أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ( فلا جناح عليك ) لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلا له على سائر الرجال ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ) أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله - عز وجل - ( ويرضين بما آتيتهن ) أعطيتهن ) ( كلهن ) من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ( والله يعلم ما في قلوبكم ) من أمر النساء والميل إلى بعضهن ( وكان الله عليما حليما )
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #355  
قديم 07-08-2022, 01:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (340)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية52 إلى الاية58


( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا ( 52 ) )

قوله - عز وجل - : ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " لا تحل " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، " من بعد " : يعني من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن وحرم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، هذا قول ابن عباس وقتادة .

واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد ؟

قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء سواهن . [ ص: 367 ]

وقال أنس : مات على التحريم .

وقال عكرمة ، والضحاك : معنى الآية لا يحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك وهو قوله : " إنا أحللنا لك أزواجك " الآية ، ثم قال : " لا يحل لك النساء من بعد " ، إلا التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها .

وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان يحل له أن يتزوج ؟ قال : وما يمنعه من ذلك ؟ قيل : قوله - عز وجل - : " لا يحل لك النساء من بعد " ، قال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال : " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " ، ثم قال : " لا يحل لك النساء من بعد " .

قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية ، ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخالة إن شاء ثلاثمائة : وقال مجاهد : معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن ، يقول : ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى ، يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية ، إلا ما ملكت يمينك ، أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن .

وروي عن الضحاك : يعني ولا أن تبدل بهن ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حيالك أزواجا غيرهن بأن تطلقهن فتنكح غيرهن ، فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين ، وحرمهن على غيره حين اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه .

وقال ابن زيد في قوله : ) ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم ، يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك ، وأبادلك بامرأتي ، تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله : ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجك وتأخذ زوجته ، إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبدل بجاريتك ما شئت ، فأما الحرائر فلا .

وروي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن ، وعنده عائشة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا عيينة فأين الاستئذان " ؟ قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين ، فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد حرم ذلك " ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ فقال : " هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه " . [ ص: 368 ] قوله - عز وجل - : ( ولو أعجبك حسنهن ) يعني : ليس لك أن تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها .

قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخطبها فنهي عن ذلك .

( إلا ما ملكت يمينك ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ملك بعد هؤلاء مارية .

( وكان الله على كل شيء رقيبا ) حافظا .

وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء . روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " .

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا محمد بن محمد بن علي بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أخبرنا أبو بكر الجوربذي قال : أخبرنا أحمد بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية ، عن عاصم هو ابن سليمان ، عن بكر بن عبد الله ، عن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل نظرت إليها ؟ " قلت : لا قال : " فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا حامد بن محمد ، أخبرنا بشر بن موسى ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا " قال الحميدي : يعني الصغر .
[ ص: 369 ] ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ( 53 ) )

قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) الآية . قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أنس ابن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قال : وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش ، أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المكث ، فقام النبي لله فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشيت حتى جاء حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب .

وقال أبو عثمان - واسمه الجعد - عن أنس قال : فدخل يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة ، وهو يقول : ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) إلى قوله : ( والله لا يستحيي من الحق ) . [ ص: 370 ]

وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذى بهم فنزلت

( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) يقول : إلا أن تدعوا ) ( إلى طعام ) فيؤذن لكم فتأكلونه ( غير ناظرين إناه ) غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه ، يقال : أنى الحميم : إذا انتهى حره ، وإنى أن يفعل ذلك : إذا حان ، إنى بكسر الهمزة مقصورة ، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء ، وفيه لغتان إنى يأنى ، وآن يئين ، مثل : حان يحين .

( ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم ) أكلتم الطعام ) ( فانتشروا ) تفرقوا واخرجوا من منزله ( ولا مستأنسين لحديث ) ولا طالبين الأنس للحديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلا فنهوا عن ذلك .

( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) أي : لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء .

( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) أي : من وراء ستر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتقبة كانت أو غير منتقبة ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) من الريب .

وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة - حرصا على أن ينزل الحجاب - فأنزل الله تعالى آية الحجاب .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر : وافقني ربي في ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ [ ص: 371 ] فأنزل الله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، وقلت : يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني بعض ما آذى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه ، قال : فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة ، قلت : والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، قال : فخرجت فأنزل الله - عز وجل - : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " ( التحريم - 5 ) ، إلى آخر الآية .

قوله - عز وجل - : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) نزلت في رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لئن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشة .

قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله ، فأخبره الله - عز وجل - أن ذلك محرم وقال : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) أي : ذنبا عظيما .

وروى معمر عن الزهري ، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلا وولدت له ، وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس .
( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ( 54 ) )

) ( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : قال رجل من الصحابة : ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا ؟ فنزلت هذه الآية .

ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب ؟ فأنزل الله :
[ ص: 372 ] ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا ( 55 ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ( 56 ) )

) ( لا جناح عليهن في ءابائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ) أي : لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء ) ( ولا نسائهن ) قيل : أراد به النساء المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن ، وقيل : هو عام في المسلمات والكتابيات ، وإنما قال : " ولا نسائهن " ، لأنهن من أجناسهن ( ولا ما ملكت أيمانهن )

واختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرما لها أم لا ؟ .

فقال قوم يكون محرما لقوله - عز وجل - : " ولا ما ملكت أيمانهن .

وقال قوم : هو كالأجانب ، والمراد من الآية الإماء دون العبيد .

( واتقين الله ) أن يراكن غير هؤلاء ( إن الله كان على كل شيء ) من أعمال العباد ) ( شهيدا ) قوله - عز وجل - : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) قال ابن عباس : أراد إن الله يرحم النبي ، والملائكة يدعون له . وعن ابن عباس أيضا : " يصلون " يتبركون .

وقيل : الصلاة من الله : الرحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار .

( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه ) أي : ادعوا له بالرحمة ( وسلموا تسليما ) أي : حيوه بتحية الإسلام .

وقال أبو العالية : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة : الدعاء .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا أبو سلمة ، أخبرنا عبد الواحد بن زياد ، أخبرنا أبو فروة ، حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : بلى فاهدها لي ، فقال سألنا [ ص: 373 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا : يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت ؟ قال : " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليمان الزرقي أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .

أخبرنا أبو عمرو ومحمد بن عبد الرحمن النسوي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا العباس بن محمد الدوري ، أخبرنا خالد بن مخلد القطواني ، أخبرنا موسى بن يعقوب ، أخبرنا العباس بن كيسان ، أخبرني عبد الله بن شداد ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " .

أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله ابن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا " . [ ص: 374 ]

أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن سليمان مولى الحسن بن علي ، عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء ذات يوم والبشرى في وجهه ، فقال : " إنه جاءني جبريل فقال : إن ربك يقول أما يرضيك يا محمد أن لا يصل عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن عاصم هو ابن عبيد الله قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر " .

حدثنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني ، أخبرنا جناح بن يزيد المحاربي بالكوفة ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا ابن حازم ، أخبرنا عبد الله بن موسى وأبو نعيم ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام " .
[ ص: 375 ] ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ( 57 ) )

قوله - عز وجل - : ) ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون . فأما اليهود فقالوا : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وقالوا : إن الله فقير ، وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وأما المشركون فقالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه .

وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله سبحانه وتعالى : شتمني عبدي ، يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد .

وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " .

وقيل : معنى " يؤذون الله " يلحدون في أسمائه وصفاته .

وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن العلاء ، أخبرنا ابن فضيل ، عن عمارة ، عن أبي زرعة ، سمع أبا هريرة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة " .

وقال بعضهم : " يؤذون الله " أي : يؤذون أولياء الله ، كقوله تعالى : " واسئل القرية " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية .

وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وقال من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " . [ ص: 376 ]

ومعنى الأذى : هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه ، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم ، والله - عز وجل - منزه عن أن يلحقه أذى من أحد ، وإيذاء الرسول ، قال ابن عباس : هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته . وقيل : شاعر ، ساحر ، معلم ، مجنون .
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ( 58 ) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ( 59 ) )

( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ) من غير أن علموا ما أوجب أذاهم ، وقال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم ( فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا )

وقال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويشتمونه .

وقيل : نزلت في شأن عائشة .

وقال الضحاك ، والكلبي : نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدا ، يخرجن في درع وخمار ، الحرة والأمة ، فشكون ذلك إلى أزواجهن ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ) الآية . ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره : ( ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) جمع الجلباب ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار .

وقال ابن عباس وأبو عبيدة : أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر . [ ص: 377 ]

( ذلك أدنى أن يعرفن ) أنهن حرائر ( فلا يؤذين ) فلا يتعرض لهن ( وكان الله غفورا رحيما ) قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة ، وقال يالكاع أتتشبهين بالحرائر ، ألقي القناع .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #356  
قديم 22-08-2022, 12:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (341)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ

الاية59 إلى الاية/


( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ( 60 ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ( 61 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 62 ) يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( 63 ) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ( 64 ) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 65 ) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول ( 66 ) )

قوله - عز وجل - : ( لئن لم ينته المنافقون ) عن نفاقهم ( والذين في قلوبهم مرض ) فجور ، يعني الزناة ( والمرجفون في المدينة ) بالكذب ، وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا ، ويقولون : قد أتاكم العدو ونحوها .

وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار .

( لنغرينك بهم ) لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ( ثم لا يجاورونك فيها ) لا يساكنوك في المدينة ) ( إلا قليلا ) حتى يخرجوا منها ، وقيل : لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة . ) ( ملعونين ) مطرودين ، نصب على الحال ( أين ما ثقفوا ) وجدوا وأدركوا ( أخذوا وقتلوا تقتيلا ) أي : الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به . ( سنة الله ) أي : كسنة الله ( في الذين خلوا من قبل ) من المنافقين والذين فعلوا مثل فعل هؤلاء ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) قوله - عز وجل - : ( يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك ) أي : أي شيء يعلمك أمر الساعة ، ومتى يكون قيامها ؟ أي : أنت لا تعرفه ( لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار ) [ ص: 378 ] ظهرا لبطن حين يسحبون عليها ( يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول ) في الدنيا .
( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ( 67 ) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ( 68 ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ( 69 ) )

( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا ) قرأ ابن عامر ، ويعقوب : " ساداتنا " بكسر التاء والألف قبلها على جمع الجمع ، وقرأ الآخرون بفتح التاء بلا ألف قبلها ( وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب ) أي : ضعفي عذاب غيرهم ( والعنهم لعنا كبيرا ) قرأ عاصم : كبيرا بالباء . قال الكلبي : أي : عذابا كثيرا ، وقرأ الآخرون بالثاء لقوله تعالى : " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ( البقرة - 161 ) ، وهذا يشهد للكثرة ، أي : مرة بعد مرة . قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) فطهره الله مما قالوا : ( وكان عند الله وجيها ) كريما ذا جاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه ، إذا كان ذا جاه وقدر .

قال ابن عباس : كان حظيا عند الله لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه .

وقال الحسن : كان مستجاب الدعوة .

وقيل : كان محببا مقبولا .

واختلفوا فيما أوذي به موسى :

فأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا عوف ، عن الحسن ومحمد وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص أو أدرة وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، [ ص: 379 ] فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا " فذلك قوله - عز وجل - : " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .

وقال قوم : إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله ، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ، فبرأه الله مما قالوا .

وقال أبو العالية : هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملإ فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك ، وأهلك قارون .

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو الوليد ، أخبرنا شعبة ، عن الأعمش قال : سمعت أبا وائل قال : سمعت عبد الله قال : قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال : " يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر "
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ( 70 ) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ( 71 ) )

قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) قال ابن عباس : صوابا . وقال قتادة : عدلا . وقال الحسن : صدقا . وقيل : مستقيما . وقال عكرمة هو : قول لا إله إلا الله . ( يصلح لكم أعمالكم ) قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم . وقال مقاتل : يزك أعمالكم ( ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) أي : ظفر بالخير كله .
[ ص: 380 ] ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( 72 ) )

قوله - عز وجل - : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس .

وقال ابن مسعود : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع .

وقال مجاهد : الأمانة : الفرائض ، وقضاء الدين .

وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه

وقال زيد بن أسلم : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .

وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا ربنا ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا ، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله - عز وجل - مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسماوات والأرض : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ( فصلت - 11 ) ، وقال للحجارة : " وإن منها لما يهبط من خشية الله " ( البقرة - 74 ) ، وقال تعالى : " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " ( الحج - 18 ) الآية .

وقال بعض أهل العلم : ركب الله - عز وجل - فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن .

وقال بعضهم : المراد من العرض على السماوات والأرض هو العرض على أهل السماوات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة . [ ص: 381 ]

وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : " واسأل القرية " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية . والأول أصح وهو قول العلماء .

( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ( وحملها الإنسان ) يعني : آدم عليه السلام ، فقال الله لآدم : إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، اجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين غلقا فإذا غشيت فأغلق ، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك .

قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر

وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن يدعى ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقلن له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة . ( إنه كان ظلوما جهولا ) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة .

وقال الكلبي : ظلوما حين عصى ربه ، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل .

وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولان ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السماوات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السماوات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : ( فأبين أن يحملنها ) أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة . [ ص: 382 ]

قال الله تعالى : " وليحملن أثقالهم " ( العنكبوت - 13 ) ، إنه كان ظلوما جهولا . حكي عن الحسن على هذا التأويل : أنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا .
( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ( 73 ) )

قوله - عز وجل - : ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) قال : مقاتل : ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق ( ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة .

وقال ابن قتيبة : أي : عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي : يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات .
سُورَةُ سَبَأٍ

مَكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 ) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 ) )

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) مِلْكًا وَخَلْقًا ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ) كَمَا هُوَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، لِأَنَّ النِّعَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلَّهَا مِنْهُ .

وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَمْدُ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ " ( فَاطِرِ - 34 ) ، وَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ " ( الزَّمَرِ - 74 ) . ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ) أَيْ : يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) مِنَ النَّبَاتِ وَالْأَمْوَاتِ إِذَا حُشِرُوا ( وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ) مِنَ الْأَمْطَارِ ( وَمَا يَعْرُجُ ) يَصْعَدُ ) ( فِيهَا ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ ( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ )
[ ص: 386 ] ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( 3 ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم ( 4 ) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ( 5 ) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ( 6 ) )

( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ) قرأ أهل المدينة والشام : " عالم " بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب ، أي : وربي عالم الغيب ، وقرأ حمزة والكسائي : " علام " على وزن فعال ، وبجر الميم . ) ( لا يعزب ) لا يغيب ( عنه مثقال ذرة ) وزن ذرة ( في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ) أي : من الذرة ( ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك ) يعني : الذين آمنوا ( لهم مغفرة ورزق كريم ) حسن ، يعني : في الجنة . ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين ) يحسبون أنهم يفوتوننا ( أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب : " أليم " بالرفع هاهنا وفي الجاثية على نعت العذاب ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت الرجز ، وقال قتادة : الرجز سوء العذاب . ( ويرى الذين ) أي : ويرى الذين ( أوتوا العلم ) يعني : مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال قتادة : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ( الذي أنزل إليك من ربك ) يعني : القرآن ( هو الحق ) يعني : أنه من عند الله ) ( ويهدي ) يعني : القرآن ( إلى صراط العزيز الحميد ) وهو الإسلام .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #357  
قديم 22-08-2022, 12:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

الحلقة (342)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ

الاية59 إلى الاية/


[ ص: 387 ] وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ( 7 ) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ( 8 ) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ( 9 ) ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ( 10 )

( وقال الذين كفروا منكرين للبعث متعجبين منه : هل ندلكم على رجل ينبئكم يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - إذا مزقتم كل ممزق قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق وصرتم ترابا إنكم لفي خلق جديد يقول لكم : إنكم لفي خلق جديد . ( أفترى ) ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ولذلك نصبت ( على الله كذبا أم به جنة ) يقولون : أزعم كذبا أم به جنون ؟ .

قال الله تعالى ردا عليهم : ( بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) من الحق في الدنيا . ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها ، وأنا القادر عليهم ( إن نشأ نخسف بهم الأرض ) قرأ الكسائي : " نخسف بهم " بإدغام الفاء في الباء ( أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) قرأ حمزة والكسائي : " إن يشأ يخسف أو يسقط " ، بالياء فيهن لذكر الله من قبل ، وقرأ الآخرون بالنون فيهن ) ( إن في ذلك ) أي : فيما ترون من السماء والأرض ) ( لآية ) تدل على قدرتنا على البعث ( لكل عبد منيب ) تائب راجع إلى الله بقلبه . قوله - عز وجل - : ( ولقد آتينا داود منا فضلا ) يعني النبوة والكتاب ، وقيل : الملك . وقيل : جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ) ( يا جبال ) أي : وقلنا يا جبال ) ( أوبي ) أي : سبحي ) ( معه ) إذا سبح ، وقيل : هو تفعيل من الإياب وهو الرجوع ، أي : رجعي معه وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا كأنه قال أوبي النهار كله بالتسبيح معه . وقال وهب : نوحي معه . [ ص: 388 ]

) ( والطير ) عطف على موضع الجبال ، لأن كل منادى في موضع النصب . وقيل : معناه : وسخرنا وأمرنا الطير أن تسبح معه ، وقرأ يعقوب : " والطير " بالرفع ردا على الجبال ، أي : أوبي أنت والطير . وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك .

وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح .

وقيل : كان داود عليه السلام إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له . ( وألنا له الحديد ) حتى كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة .

وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار : أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدم إليه وسأله عن داود ويقول له : ما تقول في داود واليكم هذا أي رجل هو ؟ فيثنون عليه ، ويقولون خيرا ، فقيض الله له ملكا في صورة آدمي ، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه ، فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟ قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، قال فتنبه لذلك وسأل الله أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال ، فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله تعالى له الحديد وعلمه صنعة الدرع ، وإنه أول من اتخذها . ويقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم ، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين .

ويقال إنه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم ، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده " .
( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ( 11 ) )

( أن اعمل سابغات ) دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض ( وقدر في السرد ) والسرد نسج الدروع ، يقال لصانعه : السراد والزراد ، يقول : قدر المسامير في حلق الدرع [ ص: 389 ] أي : لا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا غلاظا فتكسر الحلق ، ويقال : " السرد " المسمار في الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق ، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة ( واعملوا صالحا ) يريد : داود وآله ( إني بما تعملون بصير )
( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ( 12 ) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ( 13 ) )

( ولسليمان الريح ) أي : وسخرنا لسليمان الريح ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : الريح بالرفع أي : له تسخير الريح ( غدوها شهر ورواحها شهر ) أي : سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ، وسير رواحها مسيرة شهر ، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين .

قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر ، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع . وقيل : إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند .

( وأسلنا له عين القطر ) أي : أذبنا له عين النحاس ، و " القطر " : النحاس .

قال أهل التفسير : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وكان بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان .

( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ) بأمر ربه ، قال ابن عباس : سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ( ومن يزغ ) أي : يعدل ) ( منهم ) من الجن ) ( عن أمرنا ) الذي أمرنا به من طاعة سليمان ( نذقه من عذاب السعير ) في الآخرة ، وقال بعضهم : في الدنيا وذلك أن الله - عز وجل - وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته . ( يعملون له ما يشاء من محاريب ) أي : مساجد ، والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل ، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن [ ص: 390 ] لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصها له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط ، وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها ، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله - عز وجل - ، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروز فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله - عز وجل - ، وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا .

وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة ، سأل حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون . قد أعطاه ذلك " . .

قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق ، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة [ عجيبة ] من الصخر . [ ص: 391 ]

قوله - عز وجل - : ) ( وتماثيل ) أي : كانوا يعملون له تماثيل ، أي : صورا من نحاس وصفر وشبة وزجاج ورخام . وقيل : كانوا يصورون السباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم ، كما أن عيسى كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا [ بإذن الله .

) ( وجفان ) أي : قصاع واحدتها جفنة ) ( كالجواب ) كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي : يجمع ، واحدتها جابية ، يقال : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ( وقدور راسيات ) ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا ينزلن ولا يعطلن ، وكان يصعد عليها بالسلالم ، وكانت باليمن .

( اعملوا آل داود شكرا ) أي : وقلنا اعملوا آل داود شكرا ، مجازه : اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه .

( وقليل من عبادي الشكور ) أي : العامل بطاعتي شكرا لنعمتي .

قيل : المراد من " آل داود " هو داود نفسه . وقيل : داود وسليمان وأهل بيته .

وقال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتا يقول : كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي .
( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ( 14 ) )

( فلما قضينا عليه الموت ) أي : على سليمان .

قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على [ ص: 392 ] وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتا فعلموا بموته .

قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ) وهي الأرضة ( تأكل منسأته ) يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : " منساته " بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره .

( فلما خر ) أي : سقط على الأرض ( تبينت الجن ) أي : علمت الجن وأيقنت ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل . وذكر الأزهري : أن معنى " تبينت الجن " ، أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك .

وقرأ يعقوب : " تبينت " بضم التاء وكسر الياء [ أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، " وتبين " لازم ومتعد .

وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
[ ص: 393 ] ) ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ( 15 ) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ( 16 ) )

قوله - عز وجل - : ( لقد كان لسبإ في مسكنهم ) روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك العطيفي ، قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلا أو امرأة أو أرضا ؟ قال : " كان رجلا من العرب وله عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، وأزد ، ومذحج ، وأنمار ، وحمير ، فقال رجل : وما أنمار ؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة : وأما الذين تشاءموا : فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان ، وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان " .

( في مسكنهم ) قرأ حمزة ، وحفص : " مسكنهم " بفتح الكاف ، على الواحد ، وقرأ الكسائي بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون : " مساكنهم " على الجمع ، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن ) ( آية ) دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسر الآية فقال : ) ( جنتان ) أي : هي جنتان بستانان ( عن يمين وشمال ) أي : عن يمين الوادي وشماله . وقيل : عن يمين من أتاهم وشماله ، وكان لهم واد قيل أحاطت الجنتان بذلك الوادي ) ( كلوا ) أي : وقيل لهم كلوا ( من رزق ربكم ) يعني : من ثمار الجنتين ، قال السدي ومقاتل : كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلىء مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئا بيدها ( واشكروا له ) أي : على ما رزقكم من النعمة ، والمعنى : اعملوا بطاعته ( بلدة طيبة ) أي : أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة ، قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء ، فذلك قوله تعالى : ( بلدة طيبة ) أي : طيبة الهواء ( ورب غفور ) قال مقاتل : وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب . ) ( فأعرضوا ) قال وهب : فأرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم ، وقالوا : ما نعرف لله - عز وجل - علينا نعمة فقولوا لربكم [ ص: 394 ] فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع ، فذلك قوله تعالى : ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ) و " العرم " : جمع عرمة ، وهي السكر الذي يحبس به الماء .

وقال ابن الأعرابي : " العرم " السيل الذي لا يطاق ، وقيل : كان ماء أحمر ، أرسله الله عليهم من حيث شاء ، وقيل : " العرم " : الوادي ، وأصله من العرامة ، وهي الشدة والقوة .

وقال ابن عباس ، ووهب ، وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس ، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم .

قال وهب : وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله - عز وجل - بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد ، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل ، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب ، يقولون : صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ ، أي : تفرقوا وتبددوا ، فذلك قوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم سيل العرم )

( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ) قرأ العامة بالتنوين ، وقرأ أهل البصرة : " أكل خمط " بالإضافة ، الأكل : الثمر ، والخمط : الأراك وثمره يقال له : البرير ، هذا قول أكثر المفسرين .

وقال المبرد والزجاج : كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط . [ ص: 395 ]

وقال ابن الأعرابي : الخمط : ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع ، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ، فمن جعل الخمط اسما للمأكول فالتنوين في " أكل " حسن ، ومن جعله أصلا وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة ، والتنوين سائغ ، تقول العرب : في بستان فلان أعناب كرم ، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه .

( وأثل وشيء من سدر قليل ) فالأثل هو الطرفاء ، وقيل : هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه ، والسدر شجر معروف ، وهو شجر النبق ينتفع بورقه لغسل الرأس ويغرس في البساتين ، ولم يكن هذا من ذلك ، بل كان سدرا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء .

قال قتادة : كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم .
( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ( 17 ) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ( 18 ) )

( ذلك جزيناهم بما كفروا ) أي : ذلك الذي فعلنا بهم جزيناهم بكفرهم ( وهل نجازي إلا الكفور ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب : " وهل نجازي " بالنون وكسر الزاي ، " الكفور " نصب لقوله : " ذلك جزيناهم " ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الزاي ، " الكفور " رفع ، أي : وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلا الكفور .

وقال مجاهد : يجازى أي : يعاقب . ويقال في العقوبة : يجازي ، وفي المثوبة يجزي .

قال مقاتل : هل يكافأ بعمله السيء إلا الكفور لله في نعمه .

قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى ، أي : يجزى للثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته . ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ) بالماء والشجر ، هي قرى الشام ( قرى ظاهرة ) متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها ، وكان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام .

وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام .

( وقدرنا فيها السير ) أي : قدرنا سيرهم بين هذه القرى ، وكان مسيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم ، [ فإذا ساروا نصف يوم ] وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار .

[ ص: 396 ] وقال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها ، وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار ، وكان ما بين اليمن والشام كذلك .

( سيروا فيها ) أي : وقلنا لهم سيروا فيها ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي : مكناهم من السير فكانوا يسيرون فيها ( ليالي وأياما ) أي : بالليالي والأيام في أي وقت شئتم ) ( آمنين ) لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا ، فبطروا وطغوا ولم يصيروا على العافية ، وقالوا : لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #358  
قديم 22-08-2022, 12:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (343)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ

الاية19 إلى الاية44


( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 19 ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ( 20 ) )

( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ، فعجل الله لهم الإجابة . وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة .

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بعد بالتشديد من التبعيد ، وقرأ الآخرون : باعد ، بالألف ، وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : " ربنا " برفع الباء ، " باعد " بفتح العين والدال على الخبر ، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا .

( وظلموا أنفسهم ) بالبطر والطغيان . ( فجعلناهم أحاديث ) عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ( ومزقناهم كل ممزق ) فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومر آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر ، وهو جد الأوس والخزرج .

( إن في ذلك لآيات ) لعبرا ودلالات ( لكل صبار ) عن معاصي الله ) ( شكور ) لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء . قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر . قوله - عز وجل - : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ) قرأ أهل الكوفة : " صدق " بالتشديد أي : ظن فيهم ظنا حيث قال : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ( ص 82 ) ، " ولا تجد أكثرهم شاكرين " ( الأعراف 17 ) [ ص: 397 ] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : صدق عليهم في ظنه بهم ، أي : على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله ( فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) قال السدي عن ابن عباس : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين ، وقد قال الله تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ( الحجر - 42 ) ، يعني : المؤمنين . وقيل : هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه .

قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله ، قال لأغوينهم ولأضلنهم ، لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم .

قال الحسن : إنه لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا .
( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ ( 21 ) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ( 22 ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ( 23 ) )

قال الله تعالى : ( وما كان له عليهم من سلطان ) أي : ما كان تسليطنا إياه عليهم ( إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ) أي : إلا لنعلم ، لنرى ونميز المؤمن من الكافر ، وأراد علم الوقوع والظهور ، وقد كان معلوما عنده بالغيب ( وربك على كل شيء حفيظ ) رقيب . ) ( قل ) يا محمد لكفار مكة ( ادعوا الذين زعمتم ) أنهم آلهة ) ( من دون الله ) وفي الآية حذف ، أي : ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل بكم في سني الجوع ، ثم وصفها فقال : ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) من خير وشر ونفع وضر ) ( وما لهم ) أي : للآلهة ) ( فيهما ) في السماوات والأرض ) ( من شرك ) شركة ) ( وما له ) أي : وما لله ) ( منهم من ظهير ) عون . ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) الله في الشفاعة ، قاله تكذيبا لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ، وقرأ أبو عمرو [ ص: 398 ] وحمزة والكسائي : ) ( أذن ) بضم الهمزة .

( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) قرأ ابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي : كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم ، فالتفريغ إزالة الفزع كالتمريض والتفريد .

واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة ، فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عز وجل - . وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم ( قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنبأني محمد بن الفضل بن محمد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أخبرنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، أخبرنا نعيم بن حماد ، أخبرنا أبو الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي زكريا ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال : رعدة شديدة خوفا من الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله " .

وقال بعضهم إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة .

قال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، خمسمائة وخمسين سنة ، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحيا ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة ، لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عند أهل السماوات من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال الحق ، يعني الوحي ، وهو العلي الكبير . [ ص: 399 ]

وقال جماعة : الموصوفون بذلك المشركون .

قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار .
( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 24 ) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( 25 ) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ( 26 ) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم ( 27 ) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 28 ) )

قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض ) فالرزق من السماوات : المطر ، ومن الأرض : النبات ) ( قل الله ) أي : إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم هو الله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج ، كما يقول القائل للآخر : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب .

والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه على الهدى ، ومن خالفه في ضلال ، فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب .

وقال بعضهم : " أو " بمعنى الواو ، والألف فيه صلة ، كأنه قال : وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، يعني : نحن على الهدى وأنتم في الضلال . ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ) يعني : يوم القيامة ( ثم يفتح ) يقضي ( بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ) أي : أعلموني الذين ألحقتموهم به ، أي : بالله ، شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون ) ( كلا ) لا يخلقون ولا يرزقون ( بل هو الله العزيز ) الغالب على أمره ) ( الحكيم ) في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه . قوله - عز وجل - : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) يعني : للناس عامة لأحمرهم وأسودهم ) ( بشيرا ونذيرا ) أي : مبشرا ومنذرا ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وروينا عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 400 ] قال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .

وقيل : كافة أي : كافا يكفهم عما هم عليه من الكفر ، والهاء للمبالغة .
( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 29 ) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ( 30 ) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ( 31 ) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ( 32 ) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( 33 ) )

( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) يعني القيامة . ( قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ) أي : لا تتقدمون عليه يعني يوم القيامة ، وقال الضحاك : يوم الموت لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص منه . ( وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) يعني : التوراة والإنجيل ) ( ولو ترى ) يا محمد ( إذ الظالمون موقوفون ) محبوسون ( عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ) يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال ( يقول الذين استضعفوا ) استحقروا وهم الأتباع ( للذين استكبروا ) وهم القادة والأشراف ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) أي : أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله . ( قال الذين استكبروا ) أجابهم المتبوعون في الكفر ( للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ) بترك الإيمان . ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ) أي : مكركم بنا في الليل [ ص: 401 ] والنهار ، والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام ؟ كما قال الشاعر :
ونمت وما ليل المطي بنائم


وقيل : مكر الليل والنهار هو طول السلامة وطول الأمل فيهما ، كقوله تعالى : " فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " ( الحديد - 16 ) .

( إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا ) أظهروا ) ( الندامة ) وقيل : أخفوا ، وهو من الأضداد ( لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) في النار الأتباع والمتبوعين جميعا . ( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) من الكفر والمعاصي في الدنيا .
( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ( 34 ) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( 35 ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 36 ) )

( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها ) رؤساؤها وأغنياؤها ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) ( وقالوا ) يعني : قال المترفون للفقراء الذين آمنوا : ( نحن أكثر أموالا وأولادا ) ولو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد ( وما نحن بمعذبين ) أي : إن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا . ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) يعني : أن الله يبسط الرزق ويقدر ابتلاء وامتحانا [ ص: 402 ] لا يدل البسط على رضا الله عنه ولا التضييق على سخطه ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أنها كذلك .
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ( 37 ) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ( 38 ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ( 39 ) )

( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) أي : قربى ، قال الأخفش : " قربى " اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا ( إلا من آمن ) يعني : لكن من آمن ( وعمل صالحا ) قال ابن عباس : يريد إيمانه وعمله يقربه مني ( فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ) أي : يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة قرأ يعقوب : " جزاء " منصوبا منونا " الضعف " رفع ، تقديره : فأولئك لهم الضعف جزاء ، وقرأ العامة بالإضافة ( وهم في الغرفات آمنون ) قرأ حمزة : " في الغرفة " على واحده ، وقرأ الآخرون بالجمع لقوله : " لنبوأنهم من الجنة غرفا " ( العنكبوت - 58 ) . ( والذين يسعون ) يعملون ) ( في آياتنا ) في إبطال حجتنا ) ( معاجزين ) معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا ( أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) أي : يعطي خلفه ، قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه .

وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو يخلفه على المنفق ، إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة .

( وهو خير الرازقين ) خير من يعطي ويرزق .

وروينا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى قال : أنفق أنفق عليك " . [ ص: 403 ]

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أبي ، عن سليمان هو ابن بلال ، عن معاوية بن أبي مزرد ، عن أبي الحباب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا ابن أبي أويس ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد ابن زنجويه ، أخبرنا أبو الربيع ، أخبرنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي ، أخبرنا محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل معروف صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة ، وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة " ، قلت : ما يعني وقى الرجل عرضه ؟ قال : " ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقى ، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا ما كان من نفقة في بنيان أو في معصية الله - عز وجل - " .

قوله : " قلت ما يعني " يقول عبد الحميد لمحمد بن المنكدر .

قال مجاهد : إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ، ولا يتأول هذه الآية : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن الرزق مقسوم لعل رزقه قليل ، وهو ينفق نفقة الموسع عليه . ومعنى الآية : وما كان من إخلاف فهو منه .

[ ص: 404 ] ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( 40 ) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ( 41 ) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( 42 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ( 43 ) وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ( 44 ) )

قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم ) قرأ يعقوب وحفص : " يحشرهم " ، وقرأ الآخرون بالنون ) ( جميعا ) يعني : هؤلاء الكفار ( ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) في الدنيا ، قال قتادة : هذا استفهام تقرير ، كقوله تعالى لعيسى : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ( مريم - 116 ) ، فتتبرأ منهم الملائكة . ( قالوا سبحانك ) تنزيها لك ( أنت ولينا من دونهم ) أي : نحن نتولاك ولا نتولاهم ( بل كانوا يعبدون الجن ) يعني : الشياطين ، فإن قيل لهم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله : ( يعبدون الجن ) قيل : أراد الشياطين ، زينوا لهم عبادة الملائكة ، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة ، فقوله ) ( يعبدون ) أي : يطيعون الجن ( أكثرهم بهم مؤمنون ) يعني : مصدقون للشياطين . ثم يقول الله : ( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ) بالشفاعة ) ( ولا ضرا ) بالعذاب ، يريد أنهم عاجزون ، لا نفع عندهم ولا ضر ( ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا ) يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى ) يعنون القرآن ( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ) أي : بين . ( وما آتيناهم ) يعني : هؤلاء المشركين ( من كتب يدرسونها ) يقرؤونها ( وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ) أي : لم يأت العرب قبلك نبي ولا نزل عليهم كتاب .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #359  
قديم 22-08-2022, 12:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (344)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ

الاية45 إلى الاية/

[ ص: 405 ] ( وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ( 45 ) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( 46 ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ( 47 ) قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ( 48 ) )

( وكذب الذين من قبلهم ) من الأمم رسلنا ، وهم : عاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط وغيرهم ( وما بلغوا ) يعني : هؤلاء المشركين ) ( معشار ) أي : عشر ) ( ما آتيناهم ) أي : أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر ( فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ) أي : إنكاري وتغييري عليهم ، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية . ( قل إنما أعظكم بواحدة ) آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : ( أن تقوموا لله ) لأجل الله ) ( مثنى ) أي : اثنين اثنين ) ( وفرادى ) أي : واحدا واحدا ) ( ثم تتفكروا ) جميعا أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ( ما بصاحبكم من جنة ) جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ( النساء - 127 ) . ) ( إن هو ) ما هو ( إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : " ثم تتفكروا " أي : في خلق السماوات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : " ما بصاحبكم من جنة " . ( قل ما سألتكم من أجر ) على تبليغ الرسالة ) ( من أجر ) جعل ) ( فهو لكم ) يقول : قل لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني ، ومعنى قوله : " فهو لكم " أي : لم أسألكم شيئا كقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء ) ( إن أجري ) ما ثوابي ( إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق ) والقذف الرمي بالسهم والحصى ، والكلام ، ومعناه : يأتي بالحق وبالوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى الأنبياء ( علام الغيوب ) رفع بخبر إن ، أي : وهو علام الغيوب .
[ ص: 406 ] ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ( 49 ) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ( 50 ) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ( 51 ) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ( 52 ) )

( قل جاء الحق ) يعني : القرآن والإسلام ( وما يبدئ الباطل وما يعيد ) أي : ذهب الباطل وزهق فلم يبق منه بقية يبدئ شيئا أو يعيد ، كما قال تعالى : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه " ( الأنبياء - 48 ) ، وقال قتادة : " الباطل " هو إبليس ، وهو قول مقاتل والكلبي ، وقيل : " الباطل " : الأصنام . ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ) وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له : إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ) أي : إثم ضلالتي على نفسي ( وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ) من القرآن والحكمة ( إنه سميع قريب ولو ترى إذ فزعوا ) قال قتادة عند البعث حين يخرجون من قبورهم ) ( فلا فوت ) أي : فلا يفوتونني كما قال : " ولات حين مناص " ( ص - 3 ) ، وقيل : إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة ( وأخذوا من مكان قريب ) قال الكلبي من تحت أقدامهم ، وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها ، وحيثما كانوا فهم من الله قريب ، لا يفوتونه . وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا . وقال الضحاك : يوم بدر . وقال ابن أبزى : خسفوا بالبيداء ، وفي الآية حذف تقديره : ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمرا تعتبر به . ( وقالوا آمنا به ) حين عاينوا العذاب ، قيل : عند اليأس . وقيل : عند البعث . ) ( وأنى ) من أين ( لهم التناوش ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : التناوش بالمد والهمزة ، وقرأ الآخرون بواو صافية من غير مد ولا همز ، ومعناه التناول ، أي : كيف لهم تناول ما بعد عنهم ، وهو الإيمان والتوبة ، وقد كان قريبا في الدنيا فضيعوه ، ومن همز قيل : معناه هذا أيضا . [ ص: 407 ]

وقيل التناوش بالهمزة من النبش وهو حركة في إبطاء ، يقال : جاء نبشا أي : مبطئا متأخرا ، والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه ، وعن ابن عباس قال : يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا .

( من مكان بعيد ) أي : من الآخرة إلى الدنيا .
( وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ( 53 ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ( 54 ) )

( وقد كفروا به من قبل ) أي : بالقرآن ، وقيل : بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة ( ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ) قال مجاهد : يرمون محمدا بالظن لا باليقين ، وهو قولهم ساحر وشاعر وكاهن ، ومعنى الغيب : هو الظن لأنه غاب علمه عنهم ، والمكان البعيد : بعدهم عن علم ما يقولون ، والمعنى يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون . وقال قتادة : يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار . ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) ، أي : الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا . وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها ( كما فعل بأشياعهم ) ، أي : بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار ) ( من قبل ) ، أي : لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت اليأس ( إنهم كانوا في شك ) ، من البعث ونزول العذاب بهم ) ( مريب ) ، موقع لهم الريبة والتهمة .
سُورَةُ فَاطِرٍ

مَكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) )

) ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) خَالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ ( جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) ذَوِي أَجْنِحَةٍ ( مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : بَعْضُهُمْ لَهُ جَنَاحَانِ ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَجْنِحَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ ، وَيَزِيدُ فِيهَا مَا يَشَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ )

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " ( النَّجْمِ - 18 ) ، قَالَ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ .

وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ : " يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ " قَالَ : حُسْنُ الصَّوْتِ .

وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ : هُوَ الْمَلَاحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ . وَقِيلَ : هُوَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ .

( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
[ ص: 412 ] ) ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ( 2 ) يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ( 3 ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور ( 4 ) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ( 5 ) )

( ما يفتح الله للناس من رحمة ) قيل : من مطر ورزق ( فلا ممسك لها ) لا يستطيع أحد على حبسها ( وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز ) فيما أمسك ) ( الحكيم ) فيما أرسل .

أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا عبيد الله بن أسباط ، أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن وراد ، عن المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله ) قرأ حمزة والكسائي " غير " بجر الراء ، وقرأ الآخرون برفعها على معنى هل خالق غير الله ، لأن " من " زيادة ، وهذا استفهام على طريق التقرير كأنه قال : لا خالق غير الله ( يرزقكم من السماء والأرض ) أي : من السماء المطر ومن الأرض النبات ( لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ( وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق ) يعني وعد يوم القيامة ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) وهو الشيطان .
[ ص: 413 ] ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ( 6 ) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ( 7 ) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون ( 8 ) )

) ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) أي : عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه ( إنما يدعو حزبه ) أي : أشياعه وأولياءه ( ليكونوا من أصحاب السعير ) أي : ليكونوا في السعير ، ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال : ( الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ) قوله تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله ) قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة .

وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والبدع .

وقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ، فأما أهل الكبائر فليسوا منهم ، لأنهم لا يستحلون الكبائر .

( أفمن زين ) شبه وموه عليه وحسن ( له سوء عمله ) أي : قبيح عمله ( فرآه حسنا ) زين له الشيطان ذلك بالوسواس .

وفي الآية حذف مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطل حقا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا ؟ ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )

وقيل : جوابه تحت قوله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) فيكون معناه : أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة ، أي : تتحسر عليه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .

وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر ، ومعنى الآية : لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا . [ ص: 414 ]

وقرأ أبو جعفر : " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء " نفسك " نصب ( إن الله عليم بما يصنعون )
( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ( 9 ) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ( 10 ) )

) ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) من القبور . قوله - عز وجل - : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) قال الفراء : معنى الآية من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا .

وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة ، أي : فليطلب العزة من عند الله بطاعته ، كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفلان ، أي : فليطلبه من عنده ، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا به التعزيز كما قال الله : " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا " ( مريم - 81 ) ، وقال : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " ( النساء - 139 ) .

) ( إليه ) أي : إلى الله ( يصعد الكلم الطيب ) وهو قوله لا إله إلا الله ، وقيل : هو قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا الحجاج بن نصر ، أخبرنا المسعودي عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله - عز وجل - : ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وتبارك الله ، إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى [ ص: 415 ] يحيي بها وجه رب العالمين ، ومصداقه من كتاب الله - عز وجل - قوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ذكره ابن مسعود .

وقيل : " الكلم الطيب " : ذكر الله . وعن قتادة : " إليه يصعد الكلم الطيب " أي : يقبل الله الكلم الطيب .

قوله - عز وجل - : ( والعمل الصالح يرفعه ) أي : يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ، فالهاء في قوله يرفعه راجعة إلى الكلم الطيب ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وأكثر المفسرين .

وقال الحسن وقتادة : الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ، ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وجاء في الحديث : " لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية " .

وقال قوم : الهاء في قوله " يرفعه " راجعة إلى العمل الصالح أي : الكلم الطيب يرفع العمل الصالح ، فلا يقبل عمل إلا أن يكون صادرا عن التوحيد ، وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل .

وقيل : الرفع من صفة الله - عز وجل - معناه : العمل الصالح يرفعه الله - عز وجل - .

وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص ، يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال ، دليله قوله - عز وجل - : " فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " ( الكهف - 110 ) ، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء ( والذين يمكرون السيئات ) قال الكلبي : أي : الذين يعملون السيئات . وقال مقاتل : يعني الشرك . وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة ، كما قال الله تعالى : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ( الأنفال - 30 ) . [ ص: 416 ]

وقال مجاهد : وشهر بن حوشب : هم أصحاب الرياء .

( لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ) يبطل ويهلك في الآخرة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #360  
قديم 22-08-2022, 12:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


الحلقة (345)
الجزء السادس
- تفسير البغوى

سُورَةُ فَاطِرٍ
مَكِّيَّةٌ

الاية11 إلى الاية37

( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ( 11 ) وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 12 ) )

قوله - عز وجل - : ( والله خلقكم من تراب ) أي : آدم ( ثم من نطفة ) يعني : نسله ( ثم جعلكم أزواجا ) ذكرانا وإناثا ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ) لا يطول عمره ( ولا ينقص من عمره ) يعني : من عمر آخر ، كما يقال لفلان عندي درهم ونصفه أي : نصف درهم آخر ( إلا في كتاب ) وقيل : قوله : " ولا ينقص من عمره " منصرف إلى الأول ، قال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حين ينقطع عمره .

وقال كعب الأحبار حين حضر عمر رضي الله عنه الوفاة : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر ، فقيل له إن الله - عز وجل - يقول : " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ( الأعراف - 34 ) فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص ، وقرأ هذه الآية ( إن ذلك على الله يسير ) أي : كتابة الآجال والأعمال على الله هين . قوله - عز وجل - : ( وما يستوي البحران ) يعني : العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال : ( هذا عذب فرات ) طيب ( سائغ شرابه ) أي : جائز في الحلق هنيء ( وهذا ملح أجاج ) شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المر . ( ومن كل تأكلون لحما طريا ) يعني : الحيتان من العذب والمالح جميعا ( وتستخرجون حلية ) أي : من المالح دون العذب ) ( تلبسونها ) يعني اللؤلؤ . وقيل : نسب اللؤلؤ [ ص: 417 ] إليهما ، لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك ( وترى الفلك فيه مواخر ) جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ( لتبتغوا من فضله ) بالتجارة ( ولعلكم تشكرون ) الله على نعمه .
( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ( 13 ) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ( 14 ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( 15 ) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( 16 ) وما ذلك على الله بعزيز ( 17 ) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ( 18 ) )

( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ) يعني : الأصنام ( ما يملكون من قطمير ) وهو لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة . ( إن تدعوهم ) يعني : إن تدعو الأصنام ( لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) ما أجابوكم ( ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها ، يقولون : ما كنتم إيانا تعبدون . ( ولا ينبئك مثل خبير ) يعني : نفسه أي : لا ينبئك أحد مثلي خبير عالم بالأشياء . ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ) إلى فضل الله ، والفقير : المحتاج ( والله هو الغني الحميد ) الغني عن خلقه المحمود في إحسانه إليهم . ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) شديد . ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة ) أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ( إلى حملها ) أي : إلى حمل ما عليه من الذنوب ( لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له؛ ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي . فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . [ ص: 418 ]

( إنما تنذر الذين يخشون ) يخافون ( ربهم بالغيب ) ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ( وأقاموا الصلاة ومن تزكى ) صلح وعمل خيرا ( فإنما يتزكى لنفسه ) لها ثوابه ( وإلى الله المصير )
( وما يستوي الأعمى والبصير ( 19 ) ولا الظلمات ولا النور ( 20 ) ولا الظل ولا الحرور ( 21 ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ( 22 ) إن أنت إلا نذير ( 23 ) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ( 25 ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ( 26 ) )

( وما يستوي الأعمى والبصير ) يعني : الجاهل والعالم . وقيل : الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى ، أي : المؤمن والمشرك . ( ولا الظلمات ولا النور ) يعني : الكفر والإيمان . ( ولا الظل ولا الحرور ) يعني : الجنة والنار ، قال ابن عباس : " الحرور " : الريح الحارة بالليل ، و " السموم " بالنهار . وقيل : " الحرور " يكون بالنهار مع الشمس . ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) يعني : المؤمنين والكفار . وقيل : العلماء والجهال .

( إن الله يسمع من يشاء ) حتى يتعظ ويجيب ( وما أنت بمسمع من في القبور ) يعني : الكفار ، شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا . ( إن أنت إلا نذير ) ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار . ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة ) ما من أمة فيما مضى ) ( إلا خلا ) سلف ( فيها نذير ) نبي منذر . ( وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ) الواضح كرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد . ( ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير )
[ ص: 419 ] ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ( 27 ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ( 28 ) )

( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد ) طرق وخطط ، واحدتها جدة ، مثل : مدة ومدد ( بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) يعني : سود غرابيب على التقديم والتأخير ، يقال : أسود غربيب ، أي : شديد السواد تشبيها بلون الغراب ، أي : طرائق سود . ( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ) ذكر الكناية لأجل " من " وقيل : رد الكناية إلى ما في الإضمار ، مجازه : ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه ) ( كذلك ) يعني كما اختلف ألوان الثمار والجبال ، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) قال ابن عباس : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص ، أخبرنا الأعمش ، أخبرنا مسلم ، عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها : صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله ثم قال : " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " .

وقال مسروق : كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال الشعبي : إنما العالم من خشي الله - عز وجل - . [ ص: 420 ]

( إن الله عزيز غفور ) أي : عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده .
( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ( 29 ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ( 30 ) والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ( 31 ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ( 32 ) )

قوله تعالى : ( إن الذين يتلون كتاب الله ) يعني : قرأوا القرآن ( وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ) لن تفسد ولن تهلك ، والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب .

قال الفراء : قوله : " يرجون " جواب لقوله : " إن الذين يتلون كتاب الله " . ( ليوفيهم أجورهم ) جزاء أعمالهم بالثواب ( ويزيدهم من فضله ) قال ابن عباس : يعني سوى الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن ( إنه غفور شكور ) قال ابن عباس : يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم . ( والذي أوحينا إليك من الكتاب ) يعني : القرآن ( هو الحق مصدقا لما بين يديه ) من الكتب ( إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب ) يعني : الكتاب الذي أنزلناه إليك الذي ذكر في الآية الأولى ، وهو القرآن ، جعلناه ينتهي إلى ( الذين اصطفينا من عبادنا )

ويجوز أن يكون " ثم " بمعنى الواو ، أي : وأورثنا ، كقوله : " ثم كان من الذين آمنوا " ( البلد - 17 ) ، أي : وكان من الذين آمنوا ، ومعنى " أورثنا " أعطينا ، لأن الميراث عطاء ، قاله مجاهد .

وقيل : " أورثنا " أي : أخرنا ، ومنه الميراث لأنه أخر عن الميت ، ومعناه : أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه ، وأهلناكم له .

( الذين اصطفينا من عبادنا ) قال ابن عباس : يريد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قسمهم ورتبهم فقال : [ ص: 421 ]

( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) روي عن أسامة بن زيد في قوله - عز وجل - : " فمنهم ظالم لنفسه " الآية ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كلهم من هذه الأمة " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين القاضي ، أخبرنا بكر بن محمد المروزي ، أخبرنا أبو قلابة ، حدثنا عمرو بن الحصين ، عن الفضل بن عميرة ، عن ميمون الكردي ، عن أبي عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) الآية ، فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " ، قال أبو قلابة فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه .

واختلف المفسرون في معنى الظالم والمقتصد والسابق .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي ، وآنس وحشتي ، وسق إلي جليسا صالحا ، فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " فقال : " أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ، ثم يدخل الجنة " ، ثم قرأ هذه الآية : " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " . [ ص: 422 ]

وقال عقبة بن صهبان سألت عائشة عن قول الله - عز وجل - : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) الآية ، فقالت : يا بني كلهم في الجنة ، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم ، فجعلت نفسها معنا .

وقال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه وهم أصحاب المشئمة ، ومنهم مقتصد وهم أصحاب الميمنة ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله هم السابقون المقربون من الناس كلهم .

وعن ابن عباس قال : السابق : المؤمن المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال : " جنات عدن يدخلونها " .

وقال بعضهم : يذكر ذلك عن الحسن ، قال : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته على حسناته .

وقيل : الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه ، والمقتصد الذي يستوي ظاهره وباطنه ، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره .

وقيل : الظالم من وحد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله ، والمقتصد من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه ، والسابق من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص له عمله .

وقيل : الظالم التالي للقرآن ، والمقتصد القارئ له العالم به ، والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه .

وقيل : الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر ، والسابق الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة .

وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل .

قال جعفر الصادق : بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره ، وكلهم في الجنة . [ ص: 423 ]

وقال أبو بكر الوراق : رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ، لأن أحوال العبد ثلاثة : معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة ، فإذا عصى دخل في حيز الظالمين ، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين ، وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين .

وقال بعضهم : المراد بالظالم الكافر ذكره الكلبي .

وقيل : المراد منه المنافق ، فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : " جنات عدن يدخلونها " . وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو المشهور أن المراد من جميعهم المؤمنون ، وعليه عامة أهل العلم .

قوله : ( ومنهم سابق بالخيرات ) أي : سابق إلى الجنة ، أو إلى رحمة الله بالخيرات ، أي : بالأعمال الصالحات ) ( بإذن الله ) أي : أمر الله وإرادته ( ذلك هو الفضل الكبير ) يعني : إيراثهم الكتاب .
( جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ( 33 ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( 34 ) )

ثم أخبر بثوابهم فقال : ( جنات عدن يدخلونها ) يعني : الأصناف الثلاثة ، قرأ أبو عمرو " يدخلونها " بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) ( وقالوا ) أي : ويقولون إذا دخلوا الجنة : ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) والحزن والحزن واحد كالبخل والبخل . قال ابن عباس : أي حزن النار . وقال قتادة : حزن الموت . وقال مقاتل : حزنوا لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم . وقال عكرمة : حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات . وقال القاسم : حزن زوال النعم وتقليب القلب ، وخوف العاقبة ، وقيل : حزن أهوال يوم القيامة . وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير : هم الخبز في الدنيا . وقيل : هم المعيشة . وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمعاد .

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الضحاك الخطيب ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الترابي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال [ ص: 424 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " .

قوله تعالى : ( إن ربنا لغفور شكور )
( الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ( 35 ) والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ( 36 ) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ( 37 ) )

( الذي أحلنا ) أنزلنا ( دار المقامة ) أي : الإقامة ( من فضله لا يمسنا فيها نصب ) أي : لا يصيبنا فيها عناء ومشقة ( ولا يمسنا فيها لغوب ) إعياء من التعب . قوله تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ) أي : لا يهلكون فيستريحوا كقوله - عز وجل - : " فوكزه موسى فقضى عليه " ( الشعراء - 15 ) ، أي : قتله . وقيل : لا يقضى عليهم الموت فيموتوا ، كقوله : " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) ، أي : ليقض علينا الموت فنستريح ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) من عذاب النار ( كذلك نجزي كل كفور ) كافر ، قرأ أبو عمرو : " يجزى " بالياء وضمها وفتح الزاي ، " كل " رفع على غير تسمية الفاعل ، وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الزاي ، " كل " نصب . ( وهم يصطرخون ) يستغيثون ويصيحون ) ( فيها ) وهو : يفتعلون ، من الصراخ ، وهو الصياح ، يقولون : ( ربنا أخرجنا ) منها من النار ( نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) في الدنيا من الشرك والسيئات ، فيقول الله لهم توبيخا : [ ص: 425 ] ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) قيل : هو البلوغ . وقال عطاء وقتادة والكلبي : ثمان عشرة سنة . وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة ، يروي ذلك عن علي ، وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهاويه ، حدثنا الحسن بن عرفة ، أخبرنا المحاربي عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك " .

( وجاءكم النذير ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، هذا قول أكثر المفسرين . وقيل : القرآن . وقال عكرمة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع : هو الشيب . معناه أو لم نعمركم حتى شبتم . ويقال : الشيب نذير الموت . وفي الأثر : ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت .

( فذوقوا فما للظالمين من نصير )
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 418.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 412.25 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]