تفسير سورة مريم الآيات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190826 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92676 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56885 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26178 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 724 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 56 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-07-2022, 08:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة مريم الآيات

تفسير سورة مريم الآيات (1 – 9)
الشيخ طه محمد الساكت


﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 1 - 9].

المفردات:
﴿ نَادَى رَبَّهُ؛ أي: دعا ربَّه عز وجل.
﴿ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي؛ أي: ضعف عظمي، ورقَّ لكبر سِنِّي.
﴿ الْمَوَالِيَ: المولى: القريب من العصبية كالأخ والعم.
﴿ عَاقِرًا: عقيمًا لا تلِد.
﴿ وَلِيًّا: المراد: ابنًا من صلبي يلي الأمر من بعدي.
﴿ رَضِيًّا: مَرضيًّا عندك قولًا وفعلًا.
﴿ سَمِيًّا؛ أي: شريكًا له في اسمه، أو شبيهًا له.
﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ؛ أي: كيف يكون لي غلام؟! أو مِن أين؟!
﴿ عَاقِرًا؛ أي: عقيمًا لا تلد.
﴿ عِتِيًّا: العتي بكسر العين وبضمها: اليبس في المفاصل والعظام.

تمهيد:
هذه السورة التاسعة عشرة في ترتيب المصحف، وعددُ آياتها ثمانٍ وتسعون، وهي مكية، إلا آية السجدة رَقْم 58، وآية الورود على النار رَقْم 71.

ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب؛ كقصة ولادة سيدنا يحيى، وعيسى بن مريم عليهما السلام؛ ولذلك ذُكرت بعدها.

وقد حوَتْ طائفةً كريمةً من قصص الرسل، وأنباء الغيب، افتتحها الله تعالى بقصة زكريا عليه السلام؛ إذ دعا ربَّه أن يَهَبَ له وليًّا يَرِثُه في الدعوة إليه، والحفاظ على شريعته، فاستجاب له ربُّه وبشَّرَه بغلام سمَّاهُ يحيى، ولم يجعل له من قبل سميًّا، وآتاه الحكم صبيًّا.

ولما تعجَّب زكريا من خلق الولد من أمٍّ عاقر وأب بلغ من العمر عتيًّا أوحى إليه ربُّه أن هذا الخلْق عليَّ هيِّن ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا.

ثم ذكر تعالى قصة مريم عليها السلام، وهي أعجب من قصة زكريا!! وفيها أن جبريل عليه السلام تمثَّل لها بشرًا سويًّا، ففزعت، واستعاذت بالرحمن منه، فطمأنها بأنه رسول ربها ليهب لها غلامًا زكيًّا! فلما تعجَّبت من أن يكون غلامًا، ولم يمسسها بشر، ولم تك بغيًّا، ﴿ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا[مريم: 21].

وكذلك كان عيسى عليه السلام آيةً من آيات الله الكبرى في حمله وولادته؛فكان خلْق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، فلا إله غيره، ولا رب سواه.


وكذلك قوله في المهد: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾[مريم: 30]،وقوله تعالى:﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[مريم: 34، 35].

ثم ذكر تعالى قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو أباه إلى الصراط السوي، بأرَقِّ ما تكون الدعوة من الرفق والحنان، فيقول تعالى:﴿ يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[مريم: 43 - 45]، فيقابل أبوه هذا الرفق والحنان بأشق ما يكون من العنف والقسوة والجحود والعصيان، فيقول:﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا[مريم: 46]، وهنالك لم يجد إبراهيم عليه السلام بُدًّا من أن يعتزل أباه وقومه وما يعبدون من دون الله، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا[مريم: 49، 50].

ثم ذكر تعالى كَلِيمه موسى عليه السلام ومناجاته إياه في الطور وهِبةَ الله له أخاه هارون نبيًّا، ثم ذكر تعالى إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وأمْرِه أهلَه بالصلاة والزكاة ﴿ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم: 55].

ثم أثنى سبحانه على إدريس عليه السلام بأنه رفعه مكانًا عليًّا.

ثم أثنى سبحانه على المصطفين الأخيار من عباده، فقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58].

وذمَّ الذين خلفوا من بعدهم فلم يهتدوا بهديهم؛ بل أضاعوا الصلاة، واتَّبعوا الشهوات فسوف يلقون جزاءهم، ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا[مريم: 60].

ومما ذكره الله تعالى في هذة السورة الكريمة أنه يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين، وأن جميع الخلائق يَرِدُون جهنم ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 71، 72].

وبعد ذلك يستنكر سبحانه وتعالى أشد الاستنكار ما زعمه الزاعمون من اتخاذِه سبحانه ولدًا بقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[مريم: 88 - 93].

ثم وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيجعل بينهم محبَّةً وودًّا.

ثم يختم سبحانه السورة الكريمة ببيان الحكمة في تيسير القرآن بلسان خاتم النبيين صلوات الله عليهم، وبلسان قومه؛ بشارةً للمؤمنين، وإنذارًا للكافرين أهل الجدال والخصومة؛ إذ يقول: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97].

وأخيرًا يضرب المثل بأمثالهم الذين أهلكهم الله في القرون الماضية، فلم يُبْقِ منهم أحدًا، فيقول- وقوله الحق وله الملك-: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا[مريم: 98].

التفسير:
﴿ كهيعص [مريم: 1]:
افتتح الله تبارك وتعالى تسعًا وعشرين سورةً بأسماء بعض الحروف الهجائية، وسورة مريم واحدة منها، وقد قال كثيرٌ من المفسرين: إن معاني هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وهو أعلم بمراده منها، وقال بعضهم: هي أسماء للسور التي افتُتِحَتْ بها، وقال آخرون: بل هي رمز إلى التحدي بالإشارة إلى أن القرآن مكوَّنٌ من جنس ما يَنْظِم العرب منه كلامهم، فإذا عجزوا جميعًا عن الإتيان بسورة من مثله- وهم أئمة الفصاحة والبلاغة- وجَبَ التسليمُ بأنه من عند الله عز وجل، وبأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بسورةٍ منه.

﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: 2]:
أي: هذا الذي نقُصُّه عليك أيها الرسول هو ذِكْر رحمة ربك لعبده ورسوله زكريا، وهذا إجمال يأتي تفصيله قريبًا، وزكريا عليه السلام نبيٌّ ورسولٌ من أنبياء بني إسرائيل، من ولد سليمان بن داود عليهما السلام.

روى الحافظ ابن كثير وغيره أنه كان نجَّارًا، يأكل من عمل يده في النجارة.

ويُلاحظ أن هذه السورة الكريمة كثُر فيها ذكر (الرحمة والرحمن)؛ لما تجلى الله فيها من رحمة الله على عباده، وهم في أشد الحاجة إليها.


﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3]:
مرتبط بقوله سبحانه:﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا؛ أي: إن رحمة ربك أحاطت بعبده زكريا حين دعا ربَّه نداءً مستورًا عن الناس، لم يسمعه أحد منهم؛ وإنما أخفى دعاءه عليه السلام، وأسَرَّ به وهو يتضرع إلى ربِّه؛ لأن الإسرار بالدعاء أدَلُّ على الإخلاص، وأبْعَدُ عن الرياء، وأقرَبُ إلى الخلاص من لائمة الناس على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة، قال ابن كثير عن بعض السلف: قام من الليل، وقد نام أصحابُه، فجعل يهتف بربِّه يقول خِفية: يارب يارب يارب، فقال الله له: لبيك لبيك لبيك.

﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4]:
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ؛ هذا تفصيل وتفسير لكيفية ندائه ربَّه عليه السلام؛ أي: إني ضعف عظمي ورقَّ لكبر سِنِّي؛ والمراد: ضعفت وخارت قواي؛ وإنما أسند الضعف إلى العظم عماد البدن، ودعائم الجسد، فإذا أصابها الضعف والرخاوة، تداعى ما وراءها، وتساقطت قوَّتُه.

﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا؛ أي: فشا الشيب، وتغلغل في رأسي، وسرى فيه كما تسري النار في الحطب.

﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا؛أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل؛ بل كلما دعوتك استجبت لي.

توسل عليه السلام في استجابة دعائه بما سلف من الاستجابة له عند كل دعوة دعاها، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة به من كبر سِنِّه، وضعف قوته، فإنه تعالى بعد ما عَوَّد عبده الإجابةَ دهرًا طويلًا، لا يكاد يخيبه أبدًا، ولا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه، ويذكر المفسرون هنا ما يُروى أن حاتمًا الطائي أتاه سائل فسأله، وقال: أنا الذي أحسنتَ إليه وقت كذا، فقال: مرحبًا بمن توسَّل بنا إلينا، وقضى حاجته، وأين كرم الكرماء أجمعين من إكرام ربِّ السموات وربِّ الأرض، وربِّ العرش العظيم؟!

﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: 5]:
هذا عطف على قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي،مندرج فيما يستدعي رحمة ربه، واستجابة دعائه؛ أي: وإني خشيت أقاربي الذين لو تولوا الأمر من بعد موتي، لأساءوا إلى الناس، ولم يقوموا مقامي في الدعوة إليك، والحفاظ على شريعتك؛ لأنهم كانوا من شِرار بني إسرائيل، وكانت امرأتي عاقرًا لا تلد من شبابها إلى شَيبها، وهذا ما يريده أقاربه تلهفًا على خلافته، وإن لم يحسنوها.

قدم عليه السلام في ندائه ربَّه، وضراعته إليه، ضعفَ قوته، وكبر سِنِّه وشيخوخته، وخوفه من مواليه مع عُقْم امرأته، قدَّم هذا بين يدي سؤاله ربَّه هبةً طيبةً من ذريته[1]، وذلك قوله: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا؛ أي: أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة ابنًا من صلبي يلي الأمر من بعدي يقوم مقامي، ويُحسن خلافتي؛ وإني وإن كنت متقدمًا في السن وامرأتي عاقرًا، فأنت قادر على تحقيق مطلبي، وإن لم تتوافر الأسباب العادية؛ فإنك إن أردت قلت للشيء: كن فيكون.

ثم وصف عليه السلام وليَّه الذي استوهبه من ربَّه فقال:
﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6]:
﴿ يَرِثُنِي؛ أي: يكون وارثًا لي في العلم والنبوة، ليسوس بني إسرائيل بمقتضى الشريعة والعدل، فقد تعدَّى حدود الله كثير منهم، وطغوا وبغوا وضلوا عن سواء السبيل، وقوله: ﴿ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَتوكيد لهذا الميراث النبوي، فإن زكريا من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه، وكانت النبوة في بيت يعقوب وآله- وآل الرجل هم خاصته الذين يؤول[2] إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين– فمُراد زكريا عليه السلام بهذا التوكيد أن يكون ابنه نبيًّا كما كان آباؤه أنبياء.

ولم يرد عليه السلام وراثته في المال؛ لأن الأنبياء لم يورثوا غير العلم والنبوة، على أن زكريا عليه السلام- كما قدمنا عن الحافظ بن كثير- كان نجَّارًا يأكل من كسب يده، والأنبياء أزهد الناس في الدنيا؛ ولهذا لم يورثوا مالًا، قال الحافظ بن كثير: وقد ثبَت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ))، وفي رواية عن الترمذي بإسنادٍ صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ معشرَ الأنبياءِ لا نورَثُ، ما ترَكناهُ فهو صدقةٌ))[3]، وعلى هذا فتَعيَّن حمل قوله: ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَعلى ميراث النبوة؛ انتهى ما قاله ابن كثير ملخصًا.

﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا؛ أي: واجعله يا رب مَرضيًّا عندك وعند خلقك، تُحبُّه وتُحبِّبه إلى خلقك في دينه وخلقه.

﴿ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا[مريم: 7]:
﴿ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىهنا كلام مطوي يشير إليه السياق، على عادة القرآن الكريم.

والمعنى: استجاب الله تعالى دعاء عبده زكريا، وقال له على لسان الملائكة:﴿ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىكما قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى[آل عمران: 39].

وقوله تعالى: ﴿ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا؛ أي: لم نجعل له شريكًا في الاسم، فلم يُسمَّ أحدٌ قبله بـ (يحيى)، وفي هذا مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام.

وعن مجاهد أن ﴿ سَمِيًّا ﴾؛ معناه: شبيهًا، أخذه من قوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم: 65]؛ أي: شبيهًا لله تعالى؛ أي: لم نجعل له عليه السلام شبيهًا؛ حيث إنه لم يَعصِ الله تعالى، ولم يهمَّ بمعصية، فقد أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن أحَدٍ مِن ولَدِ آدَمَ إلَّا وقَدْ أخْطَأ أوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ إلَّا يَحْيى بْنَ زَكَرِيَّا لَمْ يَهُمَّ بِخَطِيئَةٍ ولَمْ يَعْمَلْها))، قال الألوسي: والأخبار في ذلك متضافرة، ويُؤيد ذلك قوله تعالى في شأنه: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ[آل عمران: 39].

﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8]:
أي: قال زكريا عليه السلام: يا رب، كيف يكون لي غلام، وكانت امرأتي- ولا تزال- عاقرًا، لا تحمل ولا تلد، وقد بلغتُ سِنَّ اليأس من الولد؟! وهذا تعجُّب بحسب العادة لا استبعاد منه لقدرة الله تعالى- وحاشاه- فقد رُوي عن ابن عباس أنَّ سِنَّهُ كانت آنذاك مائةً وعشرين سنة، وكانت سِنُّ امرأته ثمانيًا وتسعين، ولا يُولد لمثلهما عادة؛ ولكن لله تعالى وحده خرق العادة، وما المعجزات التي أيَّدَ الله بها رُسُلَه إلا خرق لها.


﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 9]:
﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ؛ أي: قال الله تعالى- على لسان الملك- مجيبًا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما بُشرت به، وإيجاد الولد منك ومن زوجك هذه لا من غيرها سهل يسير عليَّ، ثم ذكر له ما هو أعجب منه فقال: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؛ أي: خلقتك- من العدم - في ضمن خلق آدم من قبل خلق يحيى، ولم تكن أنت شيئًا موجودًا، أو شيئًا مذكورًا، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾[الإنسان: 1].

[1] اقتباس من قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ[آل عمران: 38].

[2] آلَ إلي يئُول: آل إليه الأمر: رجع أو انتهى إليه، آلت إليه السلطة/ الترِكة.

[3] في مشكاة المصابيح في أحاديث هجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم, متفق عليه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.21 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]