تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 30 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #291  
قديم 11-05-2022, 07:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (289)

سُورَةُ طه
صـ 110 إلى صـ 116





فقطع ركوب الجواد من قوله " لخيل كري كرة " وقطع " تبطن الكاعب " عن [ ص: 110 ] شرب " الزق الروي " مع التناسب في ذلك . وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها . كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .

الوسوسة ، والوسواس : الصوت الخفي . ويقال لهمس الصائد ، والكلاب ، وصوت الحلي : وسواس . والوسوس بكسر الواو الأولى مصدر ، وبفتحها الاسم ، وهو أيضا من أسماء الشيطان ، كما في قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] ، ويقال لحديث النفس : وسواس ووسوسة . ومن إطلاق الوسواس على صوت الحلي قول الأعشى :


تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل


ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة :


فبات يشئزه ثأد ويسهره تذؤب الريح والوسواس والهضب


وقول رؤبة :


وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق
في الزرب لو يمضع شربا ما بصق


وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] ، أي : كلمه كلاما خفيا فسمعه منه آدم وفهمه .

والدليل على أن الوسوسة المذكورة في هذه الآية الكريمة كلام من إبليس سمعه آدم وفهمه أنه فسر الوسوسة في هذه الآية بأنها قول ، وذلك في قوله فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، . فالقول المذكور هو الوسوسة المذكورة . وقد أوضح هذا في سورة " الأعراف " وبين أنه وسوس إلى حواء أيضا مع آدم ، وذلك في قوله : فوسوس لهما الشيطان إلى قوله وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، لأن تصريحه تعالى في آية " الأعراف " هذه بأن إبليس قاسمهما أي : حلف لهما على أنه ناصح لهما فيما ادعاه من الكذب دليل واضح على أن الوسوسة المذكورة كلام مسموع . واعلم أن في وسوسة الشيطان إلى آدم إشكالا [ ص: 111 ] معروفا ، وهو أن يقال : إبليس قد أخرج من الجنة صاغرا مذموما مدحورا ، فكيف أمكنه الرجوع إلى الجنة حتى وسوس لآدم ؟ ، والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية ، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة ، والملائكة الموكلون بها لا يشعرون بذلك . وكل ذلك من الإسرائيليات . والواقع أنه لا إشكال في ذلك ، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريبا من طرفها بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة ، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه ، لا لكرامة إبليس . فلا محال عقلا في شيء من ذلك . والقرآن قد جاء بأن إبليس كلم آدم ، وحلف له حتى غره وزوجه بذلك .

وقوله في هذه الآية الكريمة على شجرة الخلد أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود . لأن من أكل منها يكون في زعمه الكاذب خالدا لا يموت ، ولا يزول ، وكذلك يكون له في زعمه ملك لا يبلى أي : لا يفنى ، ولا ينقطع . وقد قدمنا أن قوله هنا وملك لا يبلى يدل لمعنى قراءة من قرأ إلا أن تكونا ملكين [ 7 \ 20 ] بكسر اللام . وقوله أو تكونا من الخالدين [ 7 \ 20 ] ، هو معنى قوله في " طه " : هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، .

والحاصل أن إبليس لعنه الله كان من جملة ما وسوس به إلى آدم وحواء : أنهما إن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها نالا الخلود ، والملك ، وصارا ملكين ، وحلف لهما أنه ناصح لهما في ذلك ، يريد لهما الخلود ، والبقاء ، والملك فدلاهما بغرور . وفي القصة : أن آدم لما سمعه يحلف بالله اعتقد من شدة تعظيمه لله أنه لا يمكن أن يحلف به أحد على الكذب ، فأنساه ذلك العهد بالنهي عن الشجرة .
تنبيه

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف عدى فعل الوسوسة في " طه " بإلى في قوله فوسوس إليه الشيطان مع أنه عداه في " الأعراف " باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة .

أحدها : أن حروف الجر يخلف بعضها بعضا . فاللام تأتي بمعنى إلى كعكس ذلك .

قال الجوهري في صحاحه : وقوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان يريد إليهما ، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل ا ه . وتبعه ابن منظور في اللسان . ومن الأجوبة عن ذلك : إرادة التضمين ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : [ ص: 112 ] فإن قلت كيف عدى " وسوس " تارة باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان وأخرى بإلى ؟ قلت : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ، ووعوعة الذئب ، ووقوقة الدجاجة ، في أنها حكايات للأصوات ، وحكمها حكم صوت وأجرس . ومنه وسوس المبرسم وهو موسوس بالكسر ، والفتح لحن . وأنشد ابن الأعرابي :


وسوس يدعو مخلصا رب الفلق . . . . . .


فإذا قلت : وسوس له . فمعناه لأجله . كقوله :


أجرس لها يا ابن أبي كباش فما لها الليلة من إنفاش
غير السرى وسائق نجاش


ومعنى فوسوس إليه أنهى إليه الوسوسة . كقوله : حدث إليه وأسر إليه ا ه منه . وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى الخلاف المشهور بين البصريين ، والكوفيين في تعاقب حروف الجر ، وإتيان بعضها مكان بعض هل هو بالنظر إلى التضمين ، أو لأن الحروف يأتي بعضها بمعنى بعض ؟ وسنذكر مثالا واحدا من ذلك يتضح به المقصود . فقوله تعالى مثلا : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا الآية [ 21 \ 77 ] على القول بالتضمين . فالحرف الذي هو " من " وارد في معناه لكن " نصر " هنا مضمنة معنى الإنجاء ، والتخليص ، أي : أنجيناه وخلصناه من الذين كذبوا بآياتنا . والإنجاء مثلا يتعدى بمن . وعلى القول الثاني فـ " نصر " وارد في معناه ، لكن " من " بمعنى على ، أي : نصرناه على القوم الذين كذبوا الآية ، وهكذا في كل ما يشاكله .

وقد قدمنا في سورة " الكهف " أن اختلاف العلماء في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها اختلاف لا طائل تحته ، لعدم الدليل على تعيينها ، وعدم الفائدة في معرفة عينها .

وبعضهم يقول : هي السنبلة . وبعضهم يقول : هي شجرة الكرم . وبعضهم يقول : هي شجرة التين ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى .

الفاء في قوله فأكلا تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله : فوسوس إليه الشيطان أي : فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة . وكذلك الفاء في قوله : فبدت لهما سوآتهما تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة [ ص: 113 ] المذكورة ، فكانت وسوسة الشيطان سببا للأكل من تلك الشجرة . وكان الأكل منها سببا لبدو سوءاتهما . وقد تقرر في الأصول في مسلك ( الإيماء ، والتنبيه ) : أن الفاء تدل على التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي : لعلة سهوه . سرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته . كما قدمناه مرارا . وكذلك قوله هنا : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها [ 20 \ 120 - 121 ] ، أي : بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتهما ، أي : بسبب ذلك الأكل ، ففي الآية ذكر السبب وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ، كقوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] ، فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما . وفي القراءة الأخرى " فأزالهما " وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه ، أي : من نعيم الجنة ، وقوله تعالى : يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة الآية [ 7 \ 27 ] وقوله : فدلاهما بغرور [ 7 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما [ 7 \ 22 ] ، وقوله فيها أيضا : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] .

وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما ، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة . فبدت سوءاتهما أي : عوراتهما . وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها ، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة ، كما قال هنا : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 20 \ 121 ] ، وقال في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 7 \ 27 ] ، .

وقوله وطفقا أي : شرعا . فهي من أفعال الشروع ، ولا يكون خبر أفعال الشروع إلا فعلا مضارعا غير مقترن بـ " أن " وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :


. . . . . وترك أن مع ذي الشروع وجبا كأنشأ السائق يحدو وطفق
وكذا جعلت وأخذت وعلق


[ ص: 114 ] فمعنى قوله وطفقا يخصفان أي : شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما . والعرب تقول : خصف النعل يخصفها : إذا خرزها : وخصف الورق على بدنه : إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة . وكثير من المفسرين يقولون : إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين . والله تعالى أعلم .

واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء ، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه ، فقالت جماعة من أهل العلم : كان عليهما لباس من جنس الظفر . فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى على رءوس الأصابع . وقال بعض أهل العلم : كان لباسهما نورا يستر الله به سوءاتهما . وقيل : لباس من ياقوت ، إلى غير ذلك من الأقوال . وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته ، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيرا من أمثلة ذلك في سورة " الكهف " . وغاية ما دل عليه القرآن : أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به . فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما . ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور ، أو لباس التقوى ، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه .

وأسند جل وعلا إبداء ما ووري عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله : ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [ 7 \ 20 ] ، كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] ، لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبا . وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصا بآدم دون حواء قوله : فوسوس إليه الشيطان مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معا كما أوضحناه .

والجواب ظاهر ، وهو أنه بين في " الأعراف " أنه وسوس لحواء أيضا مع آدم في القصة بعينها في قوله : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، فبينت آية " الأعراف " ما لم تبينه آية " طه " كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
مسألة

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : وجوب ستر العورة ، لأن قوله : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يدل على قبح انكشاف العورة ، وأنه ينبغي بذل [ ص: 115 ] الجهد في سترها . قال القرطبي في تفسيره في سورة " الأعراف " ما نصه : وفي الآية دليل على قبح كشف العورة ، وأن الله أوجب عليهما الستر ، ولذلك ابتدرا إلى سترها ، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة [ 7 \ 19 ] . وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي : أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستقر بذلك . لأنه سترة ظاهرة ، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة . والله أعلم . انتهى كلام القرطبي .

ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين . وقد دلت عليه نصوص من الكتاب ، والسنة ، كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] وكبعثه - صلى الله عليه وسلم - من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع : " ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان " . وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس . وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة " النور " .

فإن قيل : لم جمع السوءات في قوله سوآتهما مع أنهما سوأتان فقط ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان : القبل ، والدبر ، فهي أربع ، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر ، ودبره . وعلى هذا فلا إشكال في الجمع .

الوجه الثاني : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع ، والتثنية ، والإفراد ، وأفصحها الجمع ، فالإفراد ، فالتثنية على الأصح ، سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى . ومثال اللفظ : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما ، أو رأسيهما . ومثال المعنى : قطعت من الكبشين الرءوس ، أو الرأس ، أو الرأسين . فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد ، نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم .

ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، وقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، ومثال الإفراد قول الشاعر :


حمامة بطن الواديين ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها


ومثال التثنية قول الراجز :


ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين


[ ص: 116 ] والضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى ، فمن الأول قوله :


خليلي لا تهلك نفوسكما أسى فإن لهما فيما به دهيت أسى


ومن الثاني قوله :


قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر


الوجه الثالث : ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان . قال في مراقي السعود :


أقل معنى الجمع في المشتهر الاثنان في رأي الإمام الحميري


وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي : كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، كقولك : ما أخرجكما من بيوتكما ، وإذا أويتما إلى مضاجعكما ، وضرباه بأسيافهما ، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما ، ونحو ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #292  
قديم 11-05-2022, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (290)

سُورَةُ طه
صـ 117 إلى صـ 123


قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى .

المعصية خلاف الطاعة . فقوله وعصى آدم ربه فغوى أي : لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه من قربان تلك الشجرة .

وقوله : فغوى الغي : الضلال ، وهو الذهاب عن طريق الصواب . فمعنى الآية : لم يطع آدم ربه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة ، وهذا العصيان ، والغي بين الله جل وعلا في غير موضع من كتابه أن المراد به : أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته من الجنة رغدا حيث شاءا ، ونهاهما أن يقربا شجرة معينة من شجرها . فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ويحلف لهما بالله إنه لهما لناصح ، وإنهما إن أكلا منها نالا الخلود والملك الذي لا يبلى . فخدعهما بذلك كما نص الله على ذلك في قوله : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، فأكلا منها . وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خدعنا . وهو مروي عن عمر . وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود ، والترمذي ، والحاكم : " المؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم " . وأنشد لذلك نفطويه :


إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع


[ ص: 117 ] فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدرت منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له . وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : إنآدم من شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يحلف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بالله العهد بالنهي عن الشجرة . وقول بعض أهل العلم : إن معنى قوله فغوى أي : فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا .

قالوا : والغي . الفساد ، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي .

وكذلك قول من قال فغوى أي : بشم من كثرة الأكل . والبشم : التخمة ، فهو قول باطل . وقال فيه الزمخشري في الكشاف : وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي ، فنا وبقا ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث ، ا ه منه . وما أشار إليه الزمخشري من لغة طيئ معروف . فهم يقولون للجارية : جاراة ، وللناصية ناصاة ، ويقولون في بقي بقى كرمى . ومن هذه اللغة قول الشاعر :


لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا


وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور ، لأن العرب تقول : غوى الفصيل كرضي وكرمى : إذا بشم من اللبن .

وقوله تعالى في هذه الآية : وعصى آدم يدل على أن معنى " غوى " ضل عن طريق الصواب كما ذكرنا . وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر . وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف ، وسنذكر هنا طرفا من كلام أهل الأصول في ذلك . قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول :
مسألة

الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية . وخالف الروافض ، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر . ومعتمدهم التقبيح العقلي . والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام . لدلالة المعجزة على الصدق . وجوزه القاضي غلطا وقال : دلت على الصدق اعتقادا . وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر ، والصغائر الخسيسة . والأكثر على جواز غيرهما ا ه منه بلفظه .

وحاصل كلامه : عصمتهم من الكبائر ، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر .

[ ص: 118 ] وقال العلامة العلوي الشنقيطي في ( نشر البنود شرح مراقي السعود ) في الكلام على قوله :


والأنبياء عصموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكه بجائز بل ذاك للتشريع
أو نية الزلفى من الرفيع


ما نصه : فقد أجمع أهل الملل ، والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه . كدعوى الرسالة ، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق . وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوا أو نسيانا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ . فإن كان كفرا فقد أجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ، وإن كان غيره فالجمهور على عصمتهم من الكبائر عمدا . ومخالف الجمهور الحشوية .

واختلف أهل الحق : هل المانع لوقوع الكبائر منهم عمدا العقل أو السمع ؟ وأما المعتزلة فالعقل ، وإن كان سهوا فالمختار العصمة منها . وأما الصغائر عمدا أو سهوا فقد جوزها الجمهور عقلا . لكنها لا تقع منهم غير صغائر الخسة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمدا ، ولا سهوا انتهى منه .

وحاصل كلامه : عصمتهم من الكذب فيما يبلغونه عن الله ومن الكفر ، والكبائر وصغائر الخسة . وأن الجمهور على جواز وقوع الصغائر الأخرى منهم عقلا . غير أن ذلك لم يقع فعلا . وقال أبو حيان في البحر في سورة " البقرة " وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر . وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية . واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمدا ، ولا سهوا . ومن الناس من جوز ذلك سهوا . وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا . واختلفوا في السهو . وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد . وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمدا إلا في القول كالكذب . وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل . وقيل : يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو ، والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم . وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة .

واختلف في وقت العصمة . فقالت الرافضة : من وقت مولدهم . وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة . والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة لا الكبيرة ، ولا الصغيرة . لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة [ ص: 119 ] لعظيم شرفهم وذلك محال ، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك . ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلوا ضد ما أمروا به لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء . انتهى ما لخصناه من ( المنتخب ) ، والقول في الدلائل لهذه المذاهب . وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين . انتهى كلام أبي حيان .

وحاصل كلام الأصوليين في هذه المسألة : عصمتهم من الكفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير صغائر الخسة منهم . ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا ، وقالوا : إنما جاء في الكتاب والسنة من ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانا أو سهوا ، أو نحو ذلك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية ، ومناصبهم السامية . ولا يستوجب خطأ منهم ، ولا نقصا فيهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة ، والإخلاص ، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك . ومما يوضح هذا قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 121 ] ، . فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه ، واجتبائه أي : اصطفائه إياه ، وهدايته له ، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .

الاجتباء : الاصطفاء ، والاختيار . أي : ثم بعد ما صدر من آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يرضيه . ولم يبين هنا السبب لذلك ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تلقى من ربه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه ، وذلك في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، أي : بسبب تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء . وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة " الأعراف " في قوله تعالى : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، [ ص: 120 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
قوله تعالى : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو

.

الظاهر أن ألف الاثنين في قوله اهبطا راجعة إلى آدم وحواء المذكورين في قوله فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما [ 20 \ 121 ] ، خلافا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم ، وأمره إياهما بالهبوط من الجنة المذكور في آية " طه " هذه جاء مبينا في غير هذا الموضع . كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 2 \ 36 ] ، وقوله فيها أيضا : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] ، . وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جيء بصيغة الجمع في قوله اهبطوا [ 2 \ 36 ، 7 24 ] ، في " البقرة " و " الأعراف " وبصيغة التثنية في " طه " في قوله : اهبطا مع أنه أتبع صيغة التثنية في " طه " بصيغة الجمع في قوله فإما يأتينكم مني هدى وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك : أن التثنية باعتبار آدم وحواء فقط ، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما . خلافا لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس ، والجمع باعتبار ذريتهما معهما ، وخلافا لمن زعم أن الجمع في قوله : اهبطوا مراد به آدم وحواء وإبليس ، والحية . والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله فإما يأتينكم مني هدى لأنها غير مكلفة .

واعلم أن المفسرين يذكرون قصة الحية ، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله ، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة ، فوسوس لآدم وحواء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية . فأهبط هو إلى الأرض ولعنت هي وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمروا بقتلها . وبهذه المناسبة ذكر القرطبي في تفسيره في سورة " البقرة " جملا من أحكام قتل الحيات . فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها ، وأسودها وأبيضها ، ويرغب في ذلك . ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثا فيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها . فأمرهم أن يضرموا عليها [ ص: 121 ] نارا . وذكر عن علماء المالكية أنهم خصصوا بذلك النهي عن الإحراق بالنار ، وعن أن يعذب أحد بعذاب الله . ثم ذكر عن إبراهيم النخعي : أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور . ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار ، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا [ 77 ] ، فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية فقال " اقتلوها " ، فابتدرناها لنقتلها ، فسبقتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقاها الله شركم كما وقاكم شرها " فلم يضرم نارا ، ولا احتال في قتلها ، وأجاب هو عن ذلك ، بأنه يحتمل أنه لم يجد نارا في ذلك الوقت ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك ، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية . ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت ، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود : " اقتلوا الحيات كلهن ، فمن خاف ثأرهن فليس مني " ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام . لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام " ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا " . قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا . قاله ابن نافع ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . ثم قال : وهو الصحيح . لأن الله عز وجل قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية [ 46 \ 29 ] . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة " وسيأتي بكماله في سورة " الجن " إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

( ثم قال ) : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة : أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم . قال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما [ ص: 122 ] فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذ عليك سلاحك فإنني أخشى عليك قريظة " فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة . فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى . قال : فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا : فقال : " استغفروا لأخيكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان " . وفي طريق أخرى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم شيئا منهم فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم : اذهبوا فادفنوا صاحبكم " . ثم قال : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلما ، وأن الجن قتلته به قصاصا . لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ، ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ، ولا يرون أحدا :


قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين
فلم نخط فؤاده


وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :

" إن بالمدينة جنا قد أسلموا " ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ، ويتسلط به على قتل الكافر منهم . وروي من وجوه : أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جانا . فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما . فقالت : لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة . فتصدقت وأعتقت رقابا . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها هي التي تمشي ، ولا تلتوي . وعن علقمة نحوه . ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال : قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار : [ ص: 123 ] وإن ظهر في اليوم مرارا ، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليؤذنه ثلاثا " ، وقوله " حرجوا عليه ثلاثا " ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة أيام " وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ ، فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله ، واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ، ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه . ثم قال : وقد حكى ابن حبيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال : " أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ، ولا تظهرن علينا " انتهى كلام القرطبي ملخصا قريبا من لفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يقتل كالحيات التي توجد في الفيافي ، وأن حيات البيوت لا تقتل إلا بعد الإنذار . وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة ، وغيرها ، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام ، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين ، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي . وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار . لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ : فقال أبو لبابة : إنه قد نهي عنهن ( يريد عوامر البيوت ) وأمر بقتل الأبتر وذي الطفيتين . وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين ، فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر فاقتلوه " .

والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين ، وغيرهما .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #293  
قديم 31-05-2022, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (291)

سُورَةُ طه
صـ 124 إلى صـ 130







قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا هشام بن يوسف ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول : " اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين ، والأبتر . فإنهما يطمسان البصر ، ويستسقطان الحبل " قال عبد الله : فبينا أنا أطارد حية لأقتلها فناداني أبو لبابة : لا تقتلها . فقلت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل الحيات ؟ فقال : إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت ، وهي العوامر . وقال عبد الرزاق عن معمر : فرآني أبو لبابة أو زيد بن [ ص: 124 ] الخطاب ، وتابعه يونس ، وابن عيينة وإسحاق الكلبي ، والزبيدي ، وقال صالح ، وابن أبي حفصة ، وابن مجمع ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ا ه من صحيح البخاري رحمه الله تعالى . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : وحدثني عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سفيان بن أبي عيينة عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " اقتلوا الحيات وذا الطفيتين ، والأبتر ، فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر " قال : فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها . فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر ، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حية فقال : إنه قد نهى عن ذوات البيوت . ثم ذكره من طرق متعددة . وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت يعني إلا بعد الإنذار ثلاثا . وعن مالك : يقتل ما وجد منها بالمساجد . وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " وذا الطفيتين " هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء . وأصل الطفية خوصة المقل وهو شجر الدوم . وقيل : المقل ثمر شجر الدوم . وجمعها طفى بضم ففتح على القياس . والمراد بالطفيتين في الحديث : خطان أبيضان . وقيل : أسودان على ظهر الحية المذكورة ، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور . والأبتر : قصير الذنب من الحيات : وقال النضر بن شميل : هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب ، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها . وقال الداودي : هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا وقوله في هذا الحديث : " يستسقطان الحبل " معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالبا . وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما . والأظهر في معنى " يلتمسان البصر " أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر ، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه . والقول : بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع ، والنهش ضعيف . والعلم عند الله تعالى .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : " اقتلوا الحيات " يدل على وجوب قتلها . لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب .

والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب ، والاستحباب ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بعضكم لبعض عدو [ 20 \ 123 ] ، على ما ذكرنا أنه الأظهر . فالمعنى : أن بعض بني آدم عدو لبعضهم . كما قال تعالى : أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض [ 6 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى أن المراد [ ص: 125 ] بقوله اهبطا آدم وإبليس ، فالمعنى أن إبليس وذريته أعداء لآدم وذريته . كما قال تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو [ 18 \ 50 ] ، ونحوها من الآيات .

والظاهر أن ما ذكره القرطبي : من إحراق الحية بالنار لم يثبت ، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله ، فلا ينبغي أن تقتل بالنار ، والله أعلم .

فإن قيل : الحديث المذكور يدل على أن ذا الطفيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث ، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين " يقتضي أنهما واحد ؟ فالجواب : أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا . بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما ، ولكنها لا تنفي المغايرة ا ه . والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة : أن الأبتر وإن كان ذا طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى

.

الظاهر أن الخطاب لبني آدم . أي : فإن يأتكم مني هدى أي : رسول أرسله إليكم ، وكتاب يأتي به رسول ، فمن اتبع منكم هداي أي : من آمن برسلي وصدق بكتبي ، وامتثل ما أمرت به ، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي . فإنه لا يضل في الدنيا ، أي : لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه بالعروة الوثقى ، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملا بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله . وهذا المعنى المذكور هنا ذكر في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ الآية 38 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحدا منا إلا بعد الابتلاء ، والامتحان بالتكاليف من الأوامر ، والنواهي ، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به . كما تقدمت الإشارة إليه في سورة " البقرة " .
قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا

.

قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الآية [ 13 \ 57 ] الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة . فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك . واعلم [ ص: 126 ] أن الضنك في اللغة : الضيق . ومنه قول عنترة :


إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل


وقوله أيضا :


إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل


وأصل الضنك مصدر وصف به ، فيستوي فيه المذكر ، والمؤنث ، والمفرد ، والجمع . وبه تعلم أن معنى قوله معيشة ضنكا أي : عيشا ضيقا ، والعياذ بالله تعالى .

واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا . وقد قدمنا مرارا : أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة . ومن الأقوال في ذلك : أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم ، والقناعة ، والتوكل على الله ، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا هنيئا . ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] وقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى الآية [ 11 \ 3 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله .

وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة ، والمسكنة بسبب كفره ، كما قال تعالى : وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآيات [ 2 \ 61 ] . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله . وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصير واسعا رغدا لا ضنكا ، كقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] وقوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] وكقوله تعالى عن نوح : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى عن هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] [ ص: 127 ] وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه الآية [ 72 \ 16 - 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وعن الحسن أن المعيشة الضنك : هي طعام الضريع ، والزقوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله : ليس لهم طعام إلا من ضريع الآية [ 88 \ 6 ] وقوله : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية [ 44 \ 43 - 44 ] ونحو ذلك من الآيات . وعن عكرمة ، والضحاك ومالك بن دينار : المعيشة الضنك : الكسب الحرام ، والعمل السيئ . وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة : المعيشة الضنك : عذاب القبر وضغطته . وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ 14 \ 27 ] ، .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة : أن المعيشة الضنك في الآية : عذاب القبر . وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية . ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع ، والزقوم . فتكون معيشته ضنكا في الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ، والعياذ بالله تعالى .
قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى . قال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدي : أعمى أي : لا حجة له . وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح ، وعكرمة . وأن المراد بقوله أعمى أي : أعمى البصر لا يرى شيئا . والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [ 20 \ 125 ] ، فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين ، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله ، وقد زاد جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضا ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 128 ] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
تنبيه

في آية " طه " هذه وآية " الإسراء " المذكورتين إشكال معروف . وهو أن يقال : إنهما قد دلتا على أن الكافر يحشر يوم القيامة أعمى ، وزادت آية " الإسراء " أنه يحشر أبكم أصم أيضا ، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون . كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى ، والصمم ، والبكم حقيقته . ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ، ولا ينطقون بالحق ، ولا يسمعونه . وأخرج ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي ، وغيره . وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به . كما أوضحنا في غير هذا الموضع . ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه . ألا ترى أن الله يقول في المنافقين : صم بكم عمي الآية [ 2 \ 18 ] مع أنه يقول فيهم : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، ويقول فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . ويقول فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] ، وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء : فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم ، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب :


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


[ ص: 129 ] وقول الآخر :


أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :


قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه . وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه ، والرؤية التي لا فائدة فيها .

الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] وقع بهم ذلك العمى ، والصمم ، والبكم من شدة الكرب ، واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] ، وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة ، أعني قوله في " طه " : ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 125 ] ، وقوله فيها : لم حشرتني أعمى وقوله في " الإسراء : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] ، وأظهرها عندي الأول ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] من النسيان بمعنى الترك عمدا كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله : فنسي ولم نجد له عزما . [ 20 \ 115 ] .
قوله تعالى : وكذلك نجزي من أسرف .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور . وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي ، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار ، وذلك في قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، وبين في موضع آخر أن محل ذلك إذا لم ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه ، وذلك في قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إلى قوله : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب الآية [ 39 \ 52 - 54 ] .
قوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

[ ص: 130 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن عذاب الآخرة أشد وأبقى . أي : أشد ألما وأدوم من عذاب الدنيا ، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق [ 13 ] ، وقوله تعالى ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [ 41 \ 16 ] ، وقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [ 68 \ 33 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفلم يهد لهم . تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة " مريم " وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
قوله تعالى : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .

أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا - على عادتهم في التعنت - آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى ، وكناقة صالح ، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك في قوله : لولا يأتينا [ 20 \ 138 ] ، أي : هلا يأتينا محمد بآية : كناقة صالح ، وعصا موسى ، أي : نطلب ذلك منه بحض وحث . فأجابهم الله بقوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وهي هذا القرآن العظيم ؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز . وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى ؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى ، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها : كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ 5 \ 48 ] وقال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 ] وقال تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه - جل وعلا - في سورة " العنكبوت " في قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #294  
قديم 31-05-2022, 08:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (292)

سُورَةُ طه
صـ 131 إلى صـ 137





- 51 ] فقوله في " العنكبوت " : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] هو معنى قوله في " طه " : [ ص: 131 ] أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى كما أوضحنا . والعلم عند الله تعالى . ويزيد ذلك إيضاحا الحديث المتفق عليه : " ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا .
قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى .

قد قدمنا في سورة " النساء " أن آية " طه " هذه تشير إلى معناها آية " القصص " التي هي قوله تعالى : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] ، وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
قوله تعالى : قل كل متربص فتربصوا .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عنادا وتعنتا : كل منا ومنكم متربص ، أي : منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر ، كالموت ، والغلبة . وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمون كله خير ، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار . كقوله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون [ 9 \ 52 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء الآية [ 9 \ 98 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتربص : الانتظار .
قوله تعالى : فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار سيعلمون في ثاني حال من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى . أي : وفق لطريق الصواب ، والديمومة على ذلك . وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار . والمعنى : سيتضح لكم أنا مهتدون ، وأنا على صراط مستقيم ، وأنكم على ضلال وباطل . وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة ، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 132 ] وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع . كقوله : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 42 ] ، وقوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] وقوله : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات . والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح . والسوي : المستقيم ، وهو الذي لا اعوجاج فيه . ومنه قول جرير :

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم و " من " في قوله من أصحاب قال بعض العلماء : هي موصولة مفعول به لـ " تعلمون " . وقال بعضهم : هي استفهامية معلقة لفعل العلم ، كما قدمنا إيضاحه في " مريم " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 133 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النَّحْلِ " فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
قوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم ، قائلين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا بشر مثلهم ، فكيف يكون رسولا إليهم ؟ والنجوى : الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم أن بشرا مثلهم لا يمكن أن يكون رسولا ، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا من ذلك ، كقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله : أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 24 ] وقوله : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآية [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاح ذلك .

وقد رد الله عليهم هذه الدعوى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر ، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 21 \ 7 ] ، وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية الآية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام [ ص: 134 ] ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله هنا : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات . وجملة هل هذا إلا بشر مثلكم قيل : بدل من " النجوى " . أي : أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم . وصدر به الزمخشري ، وقيل : مفعول به للنجوى . لأنها بمعنى القول الخفي . أي : قالوا في خفية : هل هذا إلا بشر مثلكم . وقيل : معمول قول محذوف ، أي : قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم ، وهو أظهرها ؛ لاطراد حذف القول مع بقاء مقوله . وفي قوله : الذين ظلموا أوجه كثيرة من الإعراب معروفة ، وأظهرها عندي أنها بدل من الواو في قوله : وأسروا بدل بعض من كل ، وقد تقرر في الأصول : أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة ، كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، . فقوله من بدل من " الناس " : بدل بعض من كل ، وهي مخصصة لوجوب الحج بأنه لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا . كما قدمنا هذا في سورة " المائدة " .
قوله تعالى : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها ، التي هي هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون . يعنون بذلك تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لا يمكن أن نصدقك ونتبعك ، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر . وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - سحر ، كقوله عن بعضهم : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [ 51 \ 52 ] . وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم [ 21 \ 4 ] يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم ، المحيط علمه بكل شيء ، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم ، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام ، وسلامته من جميع العيوب ، والنقائص ، وأنه ليس بسحر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] وقوله تعالى : [ ص: 135 ] لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ 4 \ 166 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ هذا الحرف حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم قال ربي يعلم القول بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي ، وقرأه الباقون قل بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر .
قوله تعالى : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر .

الظاهر أن الإضراب في قوله هنا : بل قالوا أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] إلخ ، إضراب انتقالي لا إبطالي ، لأنهم قالوا ذلك كله ، وقال بعض العلماء :

كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول ، بل تارة يقولون هو ساحر ، وتارة شاعر ، وهكذا ؛ لأن المبطل لا يثبت على قول واحد . وقال بعض أهل العلم : كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفة ، كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة " الحجر " في الكلام على قوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين [ 15 \ 91 ] ، وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه ، كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 41 - 47 ] ، وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 ] ، وقوله في رد دعواهم أنه افتراه : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 37 - 38 ] وقوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 11 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله في رد دعواهم أنه كاهن أو مجنون : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ ص: 136 ] [ 34 \ 46 ] وقوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن .

وقوله أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] أي : أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها ، كما قال الشاعر :


أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم
وعن اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل .
قوله تعالى : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله ؛ نحو ناقة صالح ، وعصى موسى ، وريح سليمان ، وإحياء عيسى للأموات ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، ونحو ذلك . وإيضاح وجه التشبيه في قوله : كما أرسل الأولون هو أنه في معنى : كما أتى الأولون بالآيات ؛ لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات . فقولك أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة . وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا ، وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل ، كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة . كقوله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها الآية [ 17 \ 59 ] وكقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] . وأشار إلى ذلك هنا في قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون [ 21 \ 6 ] يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا لم يؤمنوا ، بل تمادوا فأهلكهم الله ، وأنتم أشد منهم عتوا وعنادا . فلو جاءكم ما اقترحتم ما آمنتم ، فهلكتم كما هلكوا . وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات ، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ ، وذلك في قوله : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن الآية [ 29

- 51 ] . وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في [ ص: 137 ] الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا إلى قوله : وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

بين - جل وعلا - في هذه الآيات أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم ، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة ، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم . وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه . والمراد به من آمن بهم من أممهم ، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل ، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين [ 12 \ 110 ] وقوله : فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام [ 14 \ 47 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 58 ] وقوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 66 ] وقوله : ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا [ 11 \ 94 ] إلى غير ذلك من الآيات . والظاهر أن " صدق " تتعدى بنفسها وبالحرف ، تقول : صدقته الوعد ، وصدقته في الوعد ، كقوله هنا : ثم صدقناهم الوعد [ 21 \ 9 ] وقوله : ولقد صدقكم الله وعده [ 3 \ 152 ] فقول الزمخشري : " صدقناهم الوعد كقوله : واختار موسى قومه سبعين رجلا " - لا حاجة إليه ، والله أعلم . والإسراف : مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر ، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #295  
قديم 31-05-2022, 08:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (293)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

صـ 138 إلى صـ 144



قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين .

" وكم " هنا للإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب ؛ لأنها مفعول " قصمنا " أي : قصمنا كثيرا من القرى التي كانت ظالمة ، وأنشأنا بعدها قوما آخرين . وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في مواضع كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وكم أهلكنا من [ ص: 138 ] القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها الآية [ 22 \ 45 ] وقوله : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم قصمنا أصل القصم : أفظع الكسر ؛ لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم - بالفاء - فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية . والمراد بالقصم في الآية : الإهلاك الشديد .
قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الحجر " فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وكذلك قوله : بل نقذف بالحق على الباطل الآية [ 21 \ 18 ] . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " بني إسرائيل " ، وكذلك الآيات التي بعد هذا ، قد قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله .

قوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار - لعنهم الله - قالوا عليه : إنه اتخذ ولدا . وقد بينا ذلك فيما مضى بيانا شافيا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وبين هنا بطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد - وهم في زعمهم الملائكة - بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو " بل " مبينا أنهم عباده المكرمون ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده . ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون ، لا يسبقون ربهم بالقول ، أي : لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له وهم بأمره يعملون . وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده ، أشار له في غير هذا الموضع ؛ كقوله في " البقرة " : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون [ 2 \ 116 ] وقوله في " النساء " : إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] أي : والمالك لكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد ؛ لأن الملك ينافي الولدية ، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إلا [ ص: 139 ] وهو ملك له - جل وعلا - .

وما ذكره في هذه الآية الكريمة من الثناء الحسن على ملائكته - عليهم صلوات الله وسلامه - بينه في غير هذا الموضع . كقوله تعالى . عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] وقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] وقوله تعالى : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

مسألة

أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن الأب إذا ملك ابنه عتق عليه بالملك . ووجه ذلك واضح ؛ لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله . فنفى الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه ، فدل ذلك على منافاة الملك للولدية ، وأنهما لا يصح اجتماعهما ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

الضمير في قوله : منهم عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله : بل عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] والمعنى أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه لكان مشركا ، وكان جزاؤه جهنم . ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع ، فقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك . وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره - جل وعلا - هنا في شأن الملائكة ذكره أيضا في شأن الرسل ، على الجميع صلوات الله وسلامه ، قال تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] ولما ذكر - جل وعلا - من ذكر من الأنبياء في سورة " الأنعام " في قوله : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] إلى آخر من ذكر منهم ، قال بعد ذلك : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .

[ ص: 140 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الآية [ 21 \ 29 ] دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكا مقربا ، أو نبيا مرسلا . ومما يوضح ذلك قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] وقوله تعالى مخاطبا لسيد الخلق - صلوات الله وسلامه عليه - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .
قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير " أولم ير " بواو بعد الهمزة ، وقرأه ابن كثير " ألم ير الذين كفروا " بدون واو ، وكذلك هو في مصحف مكة . والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عبده ، ولا يضر من عصاه ، ولا يقدر على شيء .

وقوله : كانتا التثنية باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ونوع الأرض ، كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] ونظيره قول عمر بن شيبة :


ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
والرتق مصدر رتقه رتقا : إذا سده . ومنه الرتقاء ، وهي التي انسد فرجها ، ولكن المصدر وصف به هنا ، ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين . والفتق : الفصل بين الشيئين المتصلين ، فهو ضد الرتق ، ومنه قول الشاعر :


يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتوق ونقض الأمور وإبرامها
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال ، بعضها في غاية السقوط ، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم :

[ ص: 141 ] الأول أن معنى كانتا رتقا أي : كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى .

القول الثاني : أن السماوات السبع كانت رتقا ، أي : متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها ، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض .

القول الثالث : أن معنى كانتا رتقا أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

القول الرابع : كانتا رتقا أي : في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ، ففتقهما الله بالنور . وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول والثاني .

الخامس : - وهو أبعدها لظهور سقوطه - أن الرتق يراد به العدم ، والفتق يراد به الإيجاد ، أي : كانتا عدما فأوجدناهما . وهذا القول كما ترى .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ، فاعلم أن القول الثالث منها - وهو كونهما كانتا رتقا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت شيئا ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات - قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى :

الأولى : أن قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن [ 21 ] يدل على أنهم رأوا ذلك ؛ لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها ، فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر وإنباته به أنواع النبات .

القرينة الثانية : أنه أتبع ذلك بقوله : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ 21 ] . والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ، أي : وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض - كل شيء حي .

القرينة الثالثة : أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ؛ كقوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع [ 86 \ 12 ] لأن المراد بالرجع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع انشقاق الأرض عن النبات ، وكقوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا الآية [ ص: 142 ] [ 80 \ 24 - 26 ] .

واختار هذا القول ابن جرير ، وابن عطية ، وغيرهما ؛ للقرائن التي ذكرنا . ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ، وعظم منته على خلقه ، وقدرته على البعث . والذين قالوا : إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ، ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض - قالوا في قوله : أولم ير أنها من " رأى " العلمية لا البصرية ، وقالوا : وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه . والعلم عند الله تعالى .

وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره : ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا .

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ؛ لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا .

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار . ا هـ منه .
قوله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

الظاهر أن " جعل " هنا بمعنى خلق ؛ لأنها متعدية لمفعول واحد . ويدل لذلك قوله تعالى في سورة " النور " : والله خلق كل دابة من ماء [ 24 \ 45 ] .

واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء . قال بعض العلماء : الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة ؛ لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ، وعلى هذا فهو من العام المخصوص .

وقال بعض العلماء : هو الماء المعروف ؛ لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء ، وإما غير مباشرة ؛ لأن النطف من الأغذية ، والأغذية كلها ناشئة عن الماء ، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ، وكذلك هو في اللحوم ، والألبان ، والأسمان ونحوها ؛ لأنه كله ناشئ بسبب الماء .

وقال بعض أهل العلم : معنى خلقه كل حيوان من ماء أنه كأنما خلقه من الماء [ ص: 143 ] لفرط احتياجه إليه ، وقلة صبره عنه ، كقوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] إلى غير ذلك من الأقوال . وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة " جعل " وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة " النحل " .

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لقائل أن يقول : كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان ؟ وقد قال : والجان خلقناه من قبل من نار السموم [ 15 \ 27 ] وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ، وقال تعالى في حق عيسى - عليه السلام - : وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني [ 5 \ 110 ] وقال في حق آدم : خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

والجواب : اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ؛ ليكون أقرب إلى المقصود . وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة ، والجن ، وآدم ، وقصة عيسى عليهم السلام ؛ لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك . ا هـ منه .

ثم قال الرازي أيضا : اختلف المفسرون ، فقال بعضهم : المراد من قوله : كل شيء حي الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات ، والشجر ؛ لأنه من الماء صار ناميا ، وصار فيه الرطوبة ، والخضرة ، والنور ، والثمر . وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ، كأنه تعالى قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر ، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا . حجة القول الأول : أن النبات لا يسمى حيا . قلنا : لا نسلم ، والدليل عليه قوله تعالى : كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] انتهى منه أيضا .
قوله تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أن الله - جل وعلا - جعل السماء سقفا ، أي : لأنها للأرض كالسقف للبيت .

الثانية : أنه جعل ذلك السقف محفوظا .

[ ص: 144 ] الثالثة : أن الكفار معرضون عما فيها - أي السماء - من الآيات ، لا يتعظون به ، ولا يتذكرون . وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع

أما كونه جعلها سقفا فقد ذكره في سورة " الطور " أنه مرفوع ، وذلك في قوله : والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع [ 52 - 5 ] .

وأما كون ذلك السقف محفوظا فقد بينه في مواضع من كتابه ، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] وقوله : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره [ 30 \ 25 ] وقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] وقوله : وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] وقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] على قول من قال : وما كنا عن الخلق غافلين . إذ لو كنا نغفل لسقطت عليهم السماء فأهلكتهم . وبين أنه محفوظ من التشقق والتفطر ، لا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح كسائر السقوف إذا طال زمنها ، كقوله تعالى : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] أي : ليس فيها من شقوق ، ولا صدوع ، وبين أن ذلك السقف المذكور محفوظ من كل شيطان رجيم ، كقوله : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] وقد بينا الآيات الدالة على حفظها من جميع الشياطين في سورة " الحجر " . وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] وقوله : وإن يروا آية يعرضوا الآية [ 54 \ 2 ] وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #296  
قديم 31-05-2022, 08:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (294)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 145 إلى صـ 151




قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت .

قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : هو شاعر يتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان ، فقال الله تعالى : قد مات [ ص: 145 ] الأنبياء من قبلك ، وتولى دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك .

وقال بعض أهل العلم : لما نعى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه قال : " فمن لأمتي " ؟ فنزلت وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] والأول أظهر ؛ لأن السورة مكية ، ومعنى الآية أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد أي : دوام البقاء في الدنيا ، بل كلهم يموت .

وقوله : أفإن مت فهم الخالدون استفهام إنكاري معناه النفي . والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك ، بل سيموتون ، ولذلك أتبعه بقوله : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] وما أشار إليه - جل وعلا - في هذه الآية من أنه - صلى الله عليه وسلم - سيموت ، وأنهم سيموتون ، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 \ 3 ] وكقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 52 \ 26 - 27 ] وقوله في سورة " آل عمران " : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] وقوله في سورة " العنكبوت " : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون [ 29 \ 56 - 57 ] وقوله تعالى في سورة " النساء " : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا في سورة " الكهف " استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام . وقال بعض أهل العلم في قوله : فهم الخالدون هو استفهام حذفت أداته . أي : أفهم الخالدون . وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع " أم " ، ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون " أم " ودون ذكر الجواب قول الكميت :


طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب . وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :


رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني : أهم هم على التحقيق . ومن أمثلته دون " أم " مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :


ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب


[ ص: 146 ] يعني : أتحبها على الصحيح . وهو مع " أم " كثير جدا ، وأنشد له سيبويه قول الأسود بن يعفر التميمي :


لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر


يعني : أشعيث بن سهم ، ومنه قول بن أبي ربيعة المخزومي :


بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان

فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني : أبسبع . وقول الأخطل :


كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني : أكذبتك عينك . كما نص سيبويه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا ، وإن خالف في ذلك الخليل قائلا : إن " كذبتك " صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف ، وإن " أم " بمعنى بل . ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى " الرجوع " . وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " وذكرنا أن قوله تعالى في آية " الأنبياء " هذه فهم الخالدون من أمثلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أفإن مت قرأه نافع وحفص ، عن عاصم وحمزة ، والكسائي " مت " بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، وقد أوضحنا في سورة " مريم " وجه كسر الميم . وقوله في هذه الآية الكريمة : أفإن مت فهم الخالدون يفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته ؛ لأنه هو ليس مخلدا بعده .

وروي عن الشافعي أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما :


تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ونظير هذا قول الآخر :

فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
قوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

[ ص: 147 ] المعنى : ونختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، ومما يجب فيه الشكر من النعم ، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر ، وقوله : فتنة مصدر مؤكد لـ ونبلوكم من غير لفظه .

وما ذكره - جل وعلا - من أنه يبتلي خلقه أي : يختبرهم بالشر والخير - قد بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [ 7 \ 168 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 42 - 45 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآيات الكريمة : ونبلوكم بالشر والخير يدل على أن " بلا يبلو " تستعمل في الاختبار بالنعم وبالمصائب والبلايا . وقال بعض العلماء : أكثر ما يستعمل في الشر " بلا يبلو " ، وفي الخير " أبلى يبلي " . وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى :


جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : ونبلوكم بالشر والخير قال : أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة ، والرخاء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، والحلال ، والحرام ، والطاعة ، والمعصية ، والهدى ، والضلال .
قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتخذونه إلا هزوا ، أي مستهزأ به مستخفا به . والهزؤ : السخرية ، فهو مصدر وصف به . ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم أي : يعيبها وينفي أنها تشفع لكم وتقربكم إلى الله زلفى ، [ ص: 148 ] ويقول : إنها لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من لم يعبدها ، وهم مع هذا كله كافرون بذكر الرحمن ، فالخطاب في قوله : وإذا رآك للنبي - صلى الله عليه وسلم - و " إن " في قوله : إن يتخذونك نافية . والاستفهام في قوله أهذا الذي يذكر آلهتكم قال فيه أبو حيان في البحر : إنه للإنكار والتعجيب . والذي يظهر لي أنهم يريدون بالاستفهام المذكور التحقير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تدل عليه قرينة قوله : إن يتخذونك إلا هزوا . وقد تقرر في فن المعاني أن من الأغراض التي تؤدى بالاستفهام التحقير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن جواب " إذا " هو القول المحذوف ، وتقديره : وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم . وقال : إن جملة إن يتخذونك إلا هزوا جملة معترضة بين إذا وجوابها . واختار أبو حيان في البحر أن جواب " إذا " هو جملة إن يتخذونك وقال : إن جواب إذا بجملة مصدرة بـ " إن " أو " ما " النافيتين لا يحتاج إلى الاقتران بالفاء . وقوله : يذكر آلهتكم أي : يعيبها . ومن إطلاق الذكر بمعنى العيب قوله تعالى : قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [ 21 \ 60 ] أي : يعيبهم ، وقول عنترة :


لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري ، قاله القرطبي .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : الذكر يكون بخير وبخلافه ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد ، كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإذا كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فذم ، ومنه قوله تعالى : سمعنا فتى يذكرهم [ 21 \ 60 ] وقوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] انتهى محل الغرض منه . والجملة في قوله : وهم بذكر الرحمن هم كافرون حالية . وقال بعض أهل العلم : معنى كفرهم بذكر الرحمن هو الموضح في قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا [ 25 \ 60 ] وقولهم : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب . وقد بين ابن جرير الطبري وغيره أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى . قال : وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء :


ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قطع الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوي :

[ ص: 149 ]
عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سخافة عقول الكفار ؛ لأنهم عاكفون على ذكر أصنام لا تنفع ولا تضر ، ويسوءهم أن تذكر بسوء ، أو يقال : إنها لا تشفع ، ولا تقرب إلى الله . وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به ، فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اتخذوه هزؤا ، فإنه محق وهم مبطلون . فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن هذا المعنى الذي دلت عليه جاء أيضا مبينا في سورة " الفرقان " في قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 41 - 42 ] فتحقيرهم - لعنهم الله - له - صلى الله عليه وسلم - المذكور في قوله في " الأنبياء " في قوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] هو المذكور في قوله في " الفرقان " : أهذا الذي بعث الله رسولا [ 25 \ 41 ] وذكره لآلهتهم بالسوء المذكور في " الأنبياء " في قوله : يذكر آلهتكم هو المذكور في " الفرقان " في قوله : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 20 \ 42 ] أي : لما يبين من معائبها ، وعدم فائدتها ، وعظم ضرر عبادتها .
قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من عجل فيه للعلماء قولان معروفان ، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما . أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته فهو قول من قال : العجل : الطين ، وهي لغة حميرية كما قال شاعرهم :


البيع في الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعجل
يعني : بين الماء والطين . وعلى هذا القول فمعنى الآية : خلق الإنسان من طين ، كقوله تعالى : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] وقوله : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] والقرينة المذكورة الدالة على أن المراد بالعجل في الآية ليس الطين قوله بعده : فلا تستعجلون وقوله : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ ص: 150 ] [ 21 \ 38 ] فهذا يدل على أن المراد بالعجل هو العجلة التي هي خلاف التأني ، والتثبت . والعرب تقول : خلق من كذا . يعنون بذلك المبالغة في الإنصاف . كقولهم : خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال . ومن هذا المعنى قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف [ 30 \ 54 ] على الأظهر . ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا [ 17 \ 11 ] أي : ومن عجلته دعاؤه على نفسه أو ولده بالشر . قال بعض العلماء : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار ، ويقولون : متى هذا الوعد . فنزل قوله : خلق الإنسان من عجل للزجر عن ذلك . كأنه يقول لهم : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا ، فإنكم مجبولون على ذلك ، وهو طبعكم وسجيتكم . ثم وعدهم بأنه سيريهم آياته ، ونهاهم أن يستعجلوا بقوله : سأريكم آياتي فلا تستعجلون [ 21 \ 37 ] كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] وقال بعض أهل العلم : المراد بالإنسان في قوله : خلق الإنسان من عجل آدم . وعن سعيد بن جبير ، والسدي : لما دخل الروح في عيني آدم نظر في ثمار الجنة ، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام ، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك قوله : خلق الإنسان من عجل . وعن مجاهد ، والكلبي ، وغيرهما : خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار ، فلما أحيا الله رأسه استعجل وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس .

والظاهر أن هذه الأقوال ونحوها من الإسرائيليات . وأظهر الأقوال أن معنى الآية أن جنس الإنسان من طبعه العجل وعدم التأني كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم ، واستعجلت ذلك فقال الله تعالى : خلق الإنسان من عجل لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر . ولهذا قال : سأريكم آياتي أي : نقمي وحكمي ، واقتداري على من عصاني فلا تستعجلون . انتهى منه .
قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون .

جواب " لو " في هذه الآية محذوف ، وقد قدمنا أدلة ذلك وشواهده من العربية [ ص: 151 ] في سورة " البقرة " ، وأشرنا إليه في سورة " إبراهيم " وسورة " يوسف " . ومعنى الآية الكريمة : لو يعلم الكفار الوقت الذي يسألون عنه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو وقت صعب شديد ، تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام . فلا يقدرون على منعها ودفعها عن أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ؛ لما كانوا بتلك الصفة من الكفر ، والاستهزاء ، والاستعجال ، ولكن جهلهم بذلك هو الذي هونه عليهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من المعاني جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى .

أما إحاطة النار بهم في ذلك اليوم فقد جاءت موضحة في آيات متعددة ، كقوله تعالى : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] وقوله تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش الآية [ 7 \ 41 ] وقوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون [ 39 \ 16 ] وقوله تعالى : سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار [ 14 \ 50 ] وقوله تعالى : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات . نرجو الله الكريم العظيم أن يعيذنا منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل ، إنه قريب مجيب . وما تضمنته من كونهم في ذلك اليوم ليس لهم ناصر ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم ، جاء مبينا في مواضع أخر . كقوله تعالى : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] وقوله تعالى : ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 25 - 26 ] والآيات في ذلك كثيرة .

وما أشارت إليه هذه الآية من أن الذي هون عليهم ذلك اليوم العظيم حتى استعجلوه واستهزءوا بمن يخوفهم منه إنما هو جهلهم به جاء مبينا أيضا في مواضع أخر . كقوله تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق [ 42 ] 18 ، وقوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو يعلم قال بعض أهل العلم : هو فعل متعد ، والظاهر أنها عرفانية ، فهي تتعدى إلى مفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


لعلم عرفان وظن تهمة تعدية لواحد ملتزمة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #297  
قديم 31-05-2022, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (295)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 152 إلى صـ 158





وعلى هذا فالمفعول هذا قوله : حين أي : لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم وما فيه من الفظائع لما استخفوا به واستعجلوه . وعلى هذا فالحين مفعول به لا مفعول فيه ؛ لأن العلم الذي هو بمعنى المعرفة واقع على نفس الحين المذكور . وقال بعض أهل العلم : فعل العلم في هذه الآية منزل منزلة اللازم ، فليس واقعا على مفعول . وعليه فالمعنى : لو كان لهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين . وعلى هذا فالآية كقوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] والمعنى : لا يستوي من عنده علم ومن لا علم عنده . وقد تقرر في فن المعاني أنه إذا كان الغرض إثبات الفعل لفاعله في الكلام المثبت ، أو نفيه عنه في الكلام المنفي مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه ، فإنه يجري مجرى اللازم ، كقوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] لأنه يراد منه أن من ثبتت له صفة العلم لا يستوي هو ومن انتفت عنه ، ولم يعتبر هنا وقوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم . وعلى هذا القول فقوله : حين لا يكفون منصوب بمضمر . أي : حين لا يكفون عن وجههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل . والأول هو الأظهر . واستظهر أبو حيان أن مفعول " يعلم " محذوف ، وأنه هو العامل في الظرف الذي هو " حين " ، والتقدير : لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي استعجلوه حين لا يكفون لما كفروا واستعجلوا واستهزءوا .

واعلم أنه لا إشكال في قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل مع قوله فلا تستعجلون فلا يقال : كيف يقول : إن الإنسان خلق من العجل وجبل عليه ، ثم ينهاه عما خلق منه وجبل عليه ؛ لأنه تكليف بمحال ! ؟ لأنا نقول : نعم هو جبل على العجل ، ولكن في استطاعته أن يلزم نفسه بالتأني . كما أنه جبل على حب الشهوات مع أنه في استطاعته أن يلزم نفسه بالكف عنها . كما قال تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى . [ 79 \ 40 - 41 ] .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن إخوانه من الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - استهزأ بهم الكفار ، كما استهزءوا به - صلى الله عليه وسلم - يعني : فاصبر كما صبروا ، ولك [ ص: 153 ] العاقبة الحميدة ، والنصر النهائي كما كان لهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحا في مواضع من كتاب الله . كقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك [ 11 \ 120 ] وقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير [ 35 \ 25 - 26 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور [ 35 \ 4 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فحاق بالذين سخروا منهم أي : أحاط بهم . ومادة حاق يائية العين ، بدليل قوله في المضارع : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة . فلا تقول : حاق به الخير بمعنى أحاط به . والأظهر في معنى الآية أن المراد : وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزئون به ، وعلى هذا اقتصر ابن كثير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : فحاق أي : أحاط ودار بالذين كفروا و سخروا منهم وهزئوا بهم ( ما كانوا به يستهزئون ) [ 21 \ 41 ] أي جزاء استهزائهم . والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى . والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف .
قوله تعالى : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم : من يكلؤكم أي : من هو الذي يحفظكم ويحرسكم بالليل في حال نومكم والنهار في حال تصرفكم في أموركم . والكلاءة بالكسر : الحفظ والحراسة . يقال : اذهب في كلاءة الله . أي : في حفظه ، واكتلأت منهم : احترست . ومنه قول ابن هرمة :


إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقول كعب بن زهير :


أنخت بعيري واكتلأت بعينه وآمرت نفسي أي أمري أفعل
[ ص: 154 ] و " من " في قوله من الرحمن فيها للعلماء وجهان معروفان : أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير : أن " من " هي التي بمعنى بدل . وعليه فقوله من الرحمن أي : بدل الرحمن ، يعني غيره . وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز :


جارية لم تلبس المرققا

ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق . وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي : بدلها . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا
يعني : أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل . والوجه الثاني : أن المعنى من يكلؤكم أي : يحفظكم من الرحمن أي : من عذابه وبأسه . وهذا هو الأظهر عندي . ونظيره من القرآن قوله تعالى : فمن ينصرني من الله إن عصيته [ 11 \ 63 ] أي : من ينصرني منه فيدفع عني عذابه . والاستفهام في قوله تعالى : من يكلؤكم قال أبو حيان في البحر : هو استفهام تقريع وتوبيخ ، وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير . فوجه كونه إنكاريا أن المعنى : لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله ألبتة إلا الله تعالى ، أي : فكيف تعبدون غيره . ووجه كونه تقريريا أنهم إذا قيل لهم : من يكلؤكم ؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله ؛ لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى ، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب ، ولا يدعون معه غيره ، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الإسراء " وغيرها . فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع ، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ، ولا يضر . وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد يمنع أحدا من عذاب الله ، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله ، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده - جاء مبينا في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] على أظهر التفسيرات ، وقوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] وقوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] وقوله تعالى : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح [ ص: 155 ] ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] وقوله تعالى : وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 33 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

قوله في هذه الآية الكريمة : أم هي المنقطعة ، وهي بمعنى بل والهمزة ، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار ، والمعنى : ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز حتى لا ينالهم عذابنا . ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها ، فكيف تنفع غيرها بقوله : لا يستطيعون نصر أنفسهم [ 21 \ 43 ] وقوله : من دوننا فيه وجهان : أحدهما أنه متعلق آلهة أي : ألهم آلهة من دوننا أي : سوانا تمنعهم مما نريد أن نفعله بهم من العذاب كلا ليس الأمر كذلك . الوجه الثاني : أنه متعلق بـ تمنعهم لقول العرب : منعت دونه ، أي : كففت أذاه . والأظهر عندي الأول ، ونحوه كثير في القرآن كقوله : ومن يقل منهم إني إله من دونه الآية [ 21 \ 29 ] وقوله : واتخذوا من دونه آلهة الآية [ 25 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها ، فكيف تنفع غيرها - جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون [ 7 \ 191 - 195 ] وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون [ 7 \ 197 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم الآية [ 35 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة الآية [ 46 \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع ألبتة .

[ ص: 156 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : ولا هم منا يصحبون أي : يجارون ، أي : ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا ؛ لأن الله يجير ولا يجار عليه كما صرح بذلك في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 88 ] في قوله : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 23 \ 88 ] والعرب تقول : أنا جار لك وصاحب من فلان ، أي : مجير لك منه . ومنه قول الشاعر :


ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منا والرماح دواني
يعني : ليجار ويغاث منا . وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : يصحبون يمنعون ، وقول بعضهم : ينصرون ، وقول بعضهم : ولا هم منا يصحبون أي : لا يصحبهم الله بخير ، ولا يجعل الرحمة صاحبا لهم . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر .

الظاهر أن الإضراب بل في هذه الآية الكريمة انتقالي ، والإشارة في قوله : هؤلاء راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن الآية ، وهم كفار قريش ، ومن اتخذ آلهة من دون الله .

والمعنى أنه متع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان ، واللجاج في الكفر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة ، وأن ذلك يزيدهم كفرا وضلالا - جاء موضحا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] وقوله تعالى : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ 25 \ 18 ] وقوله تعالى : بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 \ 29 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعمر يطلق على مدة العيش .
قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

[ ص: 157 ] في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء ، وبعضها تدل له قرينة قرآنية :

قال بعض العلماء : نقصها من أطرافها : موت العلماء ، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة ، وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى .

وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها .

وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس ، والثمرات ، إلى غير ذلك من الأقوال ، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية فهو أن معنى ننقصها من أطرافها أي : ننقص أرض الكفر ودار الحرب ، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها ، وردها دار إسلام . والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده : أفهم الغالبون [ 21 \ 44 ] والاستفهام لإنكار غلبتهم . وقيل : لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون ، فقوله : أفهم الغالبون دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار ، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور . ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله [ 13 \ 31 ] على قول من قال : إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - تفتح أطراف بلادهم ، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم . وممن يروى عنه هذا القول : ابن عباس ، وأبو سعيد ، وعكرمة ، ومجاهد ، وغيرهم . وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة " الرعد " أيضا في قوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب [ 13 \ 41 ] وقال ابن كثير في تفسير آية " الأنبياء " هذه : إن أحسن ما فسر به قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها هو قوله تعالى : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون [ 46 \ 27 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره ابن كثير صواب ، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه ، وعليه فالمعنى : أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله والكفر بما جئت به أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي : بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط ، وهم يمرون بديارهم . وكما [ ص: 158 ] أهلكنا قوم هود ، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق ، كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاءوا به . وهذا هو معنى قوله : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى [ 46 \ 27 ] كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم . وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده : أفهم الغالبون والمعنى أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء ، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم ، وأنتم لستم بأقوى منهم ، ولا أكثر أموالا ولا أولادا ، كما قال تعالى : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم الآية [ 44 \ 37 ] . وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] وقال تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وإنذار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدا في القرآن . وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير من تفسير آية " الأنبياء " هذه بآية " الأحقاف " المذكورة كما بينا .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : أي فائدة في قوله : نأتي الأرض ؟ قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين ، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها . ا هـ منه . والله - جل وعلا - أعلم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #298  
قديم 31-05-2022, 08:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (296)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 159 إلى صـ 165




قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف ، فلا يظلم الله أحدا شيئا ، وأن عمله من الخير والشر وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل ، فإن الله يأتي به ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء ، وكفى به - جل وعلا - حاسبا ؛ لإحاطة علمه بكل شيء .

وبين في غير هذا الموضع أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف ، ومنها ما يثقل ، وأن من خفت موازينه هلك ، ومن ثقلت موازينه نجا ، كقوله تعالى : والوزن يومئذ [ ص: 159 ] الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 7 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 23 \ 101 - 103 ] وقوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ 101 \ 6 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في " الأعراف " في قوله : والوزن يومئذ الحق [ 7 \ 8 ] لأن الحق عدل وقسط ، وما ذكره فيها من أنه لا تظلم نفس شيئا بينه في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كون العمل ، وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به - جل وعلا - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله عن لقمان مقررا له : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ 31 \ 16 ] وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ونضع الموازين جمع ميزان . وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص ؛ لقوله : فمن ثقلت موازينه [ 23 \ 102 ] وقوله : ومن خفت موازينه [ 23 ] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ، كما قال الشاعر :


ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
والقاعدة المقررة في الأصول : أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه . وقد قدمنا في آخر سورة " الكهف " [ ص: 160 ] كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية : القسط أي العدل ، وهو مصدر وصف به ، ولذا لزم إفراده ، كما قال في الخلاصة :


ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
كما قدمناه مرارا . ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء : إنه المبالغة . وبعضهم يقول : هو بنية المضاف المحذوف ، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل . وعلى الثاني فالمعنى : الموازين ذوات القسط .

واللام في قوله : ليوم القيامة فيها أوجه معروفة عند العلماء :

( منها ) : أنها للتوقيت ، أي الدلالة على الوقت ، كقول العرب : جئت لخمس ليال بقين من الشهر ، ومنه قول نابغة ذبيان :


توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ومنها : أنها لام " كي " ، أي : نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة ، أي : لحساب الناس فيه حسابا في غاية العدالة ، والإنصاف .

( ومنها ) : أنها بمعنى في ، أي : نضع الموازين القسط في يوم القيامة .

والكوفيون يقولون : إن اللام تأتي بمعنى في ، ويقولون : إن من ذلك قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ 21 \ 47 ] أي : في يوم القيامة ، وقوله تعالى : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] أي : في وقتها . ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من المتأخرين ، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي :


أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع
يعني مضوا في سبيلهم . وقول الآخر :


وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد
أي في وقت .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا تظلم نفس شيئا يجوز أن يكون شيئا هو المفعول الثاني لـ تظلم ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق . أي : شيئا من الظلم لا قليلا ، ولا كثيرا .

ومثقال الشيء : وزنه . والخردل : حب في غاية الصغر ، [ ص: 161 ] والدقة . وبعض أهل العلم يقول : هو زريعة الجرجير . وأنث الضمير في قوله بها هو راجع إلى المضاف الذي هو مثقال وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو حبة من خردل على حد قوله في الخلاصة :


وربما أكسب ثان أولا تأنيثا إن كان لحذف مؤهلا
ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته :


جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم
وقول الراجز :


طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي
وقول الأعشى :


وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم


وقول الآخر :


مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
فقد أنث في البيت الأول لفظة " كل " لإضافتها إلى " عين " . وأنث في البيت الثاني لفظة " طول " لإضافتها إلى " الليالي " وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى " القناة " وأنث في البيت الرابع " مر " لإضافته إلى " الرياح " . والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما ، كما قال في الخلاصة : .

. . . . . . . . . إن كان لحذف مؤهلا

وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا وإن كان مثقال حبة بنصب مثقال على أنه خبر كان أي : وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل .

وقرأ نافع وحده وإن كان مثقال بالرفع ، فاعل كان على أنها تامة . كقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة .
قوله تعالى : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم ذكر مبارك أي : كثير البركات والخيرات ؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة . ثم وبخ من ينكرونه منكرا عليهم بقوله : أفأنتم له منكرون . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن هذا [ ص: 162 ] القرآن مبارك بينه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى في " الأنعام " : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] وقوله فيها أيضا : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] وقوله تعالى في " ص " : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات ، فنرجو الله تعالى القريب المجيب أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك بتوفيق الله تعالى لنا لتدبر آياته ، والعمل بما فيها من الحلال والحرام ، والأوامر والنواهي ، والمكارم والآداب ، امتثالا واجتنابا ، إنه قريب مجيب .
قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل .

قد قدمنا ما يوضح هذه الآيات إلى آخر القصة من القرآن في سورة " مريم " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما أفحم قومه الكفرة بالبراهين والحجج القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، فقالوا : حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] أي : بقتلكم عدوها إبراهيم شر قتلة ، وهي الإحراق بالنار .

ولم يذكر هنا أنهم أرادوا قتله بغير التحريق ، ولكنه تعالى ذكر في سورة " العنكبوت " أنهم قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] وذلك في قوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] .

وقد جرت العادة بأن المبطل إذا أفحم بالدليل لجأ إلى ما عنده من القوة ليستعملها ضد الحق .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن كنتم فاعلين أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا ، فاختاروا له أفظع قتلة ، وهي الإحراق بالنار ، وإلا فقد فرطتم في نصرها .
قوله تعالى : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين .

في الكلام حذف دل المقام عليه ، وتقديره : قالوا حرقوه فرموه في النار ، فلما فعلوا [ ص: 163 ] ذلك قلنا يانار كوني بردا وسلاما وقد بين في " الصافات " أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنيانا ليلقوه فيه .

وفي القصة أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس ( يعنون الأكراد ) وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، قال تعالى : قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم [ 37 \ 97 ] والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها ، وكثرة حطبها شيئا عظيما هائلا . وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجردا ورموه إلى النار ، قال له جبريل : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، وأما الله فنعما ، قال : لم لا تسأله ؟ قال : علمه بحالي كاف عن سؤالي .

وما ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم يدل على أنه أنجاه من تلك النار ؛ لأن قوله تعالى : كوني بردا [ 21 ] يدل على سلامته من حرها ، وقوله : وسلاما يدل على سلامته من شر بردها الذي انقلبت الحرارة إليه ، وإنجاؤه إياه منها الذي دل عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحا به في " العنكبوت " في قوله تعالى : فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : ونجيناه ولوطا [ 21 \ 71 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [ 21 \ 70 ] يوضحه ما قبله . فالكيد الذي أرادوه به : إحراقه بالنار نصرا منهم لآلهتهم في زعمهم ، وجعله تعالى إياهم الأخسرين أي الذين هم أكثر خسرانا لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم .

وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا في سورة " الصافات " في قوله : فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين [ 37 \ 98 ] وكونهم الأسفلين واضح ؛ لعلوه عليهم وسلامته من شرهم . وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . وفي القصة أن الله سلط عليهم خلقا من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض . وفيها أيضا أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار ، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه . وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة " الأنعام " .

وعن أبي العالية : لو لم يقل الله : وسلاما لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل : على إبراهيم لكان بردها باقيا إلى الأبد . وعن علي ، وابن عباس - رضي الله [ ص: 164 ] عنهم - لو لم يقل : وسلاما لمات إبراهيم من بردها . وعن السدي : لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت . وعن كعب وقتادة : لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه . وعن المنهال بن عمرو : قال إبراهيم : ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار . وعن شعيب الحماني أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وعن ابن جريج : ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين . وعن الكلبي : بردت نيران الأرض جميعا ، فما أنضجت ذلك اليوم كراعا . وذكروا في القصة أن نمروذ أشرف على النار من الصرح ، فرأى إبراهيم جالسا على السرير يؤنسه ملك الظل ، فقال : نعم الرب ربك ، لأقربن له أربعة آلاف بقرة ، وكف عنه . وكل هذا من الإسرائيليات . والمفسرون يذكرون كثيرا منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء .

وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : " حسبي الله ونعم الوكيل " انتهى .
قوله تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .

الضمير في قوله : ونجيناه عائد إلى إبراهيم ، قال أبو حيان في البحر المحيط : وضمن قوله : ونجيناه معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض . ولذلك تعدى " نجيناه " بإلى . ويحتمل أن يكون " إلى " متعلقا بمحذوف ، أي : منتهيا إلى الأرض ، فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في ونجيناه على هذا . والأرض التي خرجا منها : هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي خرجا إليها هي أرض الشام . ا هـ منه . وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فرارا بدينهما .

وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله في " العنكبوت " : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي [ 29 \ 26 ] وقوله في " الصافات : " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] على أظهر القولين ؛ لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار . وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين : هذه [ ص: 165 ] الآية أصل في الهجرة والعزلة ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار قال : إني ذاهب إلى ربي أي : مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه سيهدين فيما نويت إلى الصواب . وما أشار إليه - جل وعلا - من أنه بارك للعالمين في الأرض المذكورة التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين [ 21 \ 71 ] بينه في غير الموضع . كقوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [ 21 \ 81 ] وقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [ 17 ] ومعنى كونه ( بارك فيها ) . هو ما جعل فيها من الخصب ، والأشجار ، والأنهار ، والثمار . كما قال تعالى : لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها .

وقال بعض أهل العلم : ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس . وجاء في ذلك حديث مرفوع ، والظاهر أنه لا يصح . وفي قوله تعالى : إلى الأرض التي باركنا فيها أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا .

وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامة دينه - واجب . وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #299  
قديم 31-05-2022, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (297)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 166 إلى صـ 172




قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وأنه جعل الجميع صالحين . وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] وقوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] وقد أشار تعالى في سورة " مريم " إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة ، وذلك في قوله : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [ 19 \ 49 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : نافلة قال فيه ابن كثير : قال عطاء ومجاهد : نافلة : عطية . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة : النافلة : ولد الولد ، يعني أن [ ص: 166 ] يعقوب ولد إسحاق .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، ومنه النوافل في العبادات ؛ لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض ، وولد الولد زيادة على الأصل الذي هو ولد الصلب ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :


فإن تك أنثى من معد كريمة علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
أي أعطيت الفضل عليها ، والزيادة في الكرامة علينا ، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا ، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين . وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهدا به لأن النافلة الغنيمة - غير صواب ، بل هو غلط . مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة ؛ لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النبي الكريم فأحلها له ولأمته . أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا ثمن .

وقوله : نافلة فيه وجهان من الإعراب ، فعلى قول من قال : النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من " وهبنا " أي : وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة . وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية . وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من " يعقوب " أي : وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق .
قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

الضمير في قوله : جعلناهم يشمل كل المذكورين إبراهيم ، ولوطا ، وإسحاق ، ويعقوب ، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط ، وهو الظاهر .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة ، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات . وقوله بأمرنا أي : بما أنزلنا عليهم من الوحي ، والأمر ، والنهي ، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم ، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد .

وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة " البقرة " أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها ، وضابط ذلك أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم كإسحاق ويعقوب ، فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى [ ص: 167 ] في قوله هنا : وجعلناهم أئمة [ 21 ] وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] فقوله : ومن ذريتي أي : واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير . فأجابه الله بقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي : لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة ، على الأصوب . ومفهوم قوله : الظالمين أن غيرهم يناله عهده بالإمامة كما صرح به هنا . وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في " الصافات " بقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأوحينا إليهم فعل الخيرات [ 21 ] أي : أن يفعلوا الطاعات ، ويأمروا الناس بفعلها . وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات ، فهو من عطف الخاص على العام . وقد قدمنا مرارا النكتة البلاغية المسوغة للإطناب في عطف الخاص على العام ، وعكسه في القرآن ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله : وكانوا لنا عابدين أي : مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص ، فهم يفعلون ما يأمرون الناس به ، ويجتنبون ما ينهونهم عنه كما قال نبي الله شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] .

وقوله : أئمة معلوم أنه جمع إمام ، والإمام : هو المقتدى به ، ويطلق في الخير كما هنا ، وفي الشر كما في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ 28 \ 41 ] وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع كما نبه عليه أبو حيان . والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإقام الصلاة لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة ؛ لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


. . . . . . . . . . وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال ، والتا الزم عوض
وحذفها بالنقل ربما عرض
وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله :


واستعذ استعاذة ثم أقم إقامة وغالبا ذا التا لزم
وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال : إن العين [ ص: 168 ] باقية وهي الألف الباقية ، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال .
قوله تعالى : ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

قوله : ولوطا [ 21 ] منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسره آتيناه كما قال في الخلاصة :

فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الحكم : النبوة . والعلم : المعرفة بأمر الدين ، وما يقع به الحكم بين الخصوم . وقيل : علما : فهما . وقال الزمخشري : حكما : حكمة ، وهو ما يجب فعله ، أو فصلا بين الخصوم ، وقيل : هو النبوة .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أصل الحكم في اللغة : المنع كما هو معروف . فمعنى الآيات أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل . والقرية التي كانت تعمل الخبائث هي سدوم وأعمالها ، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله :

منها : اللواط ، وأنهم هم أول من فعله من الناس ، كما قال تعالى : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين [ 7 \ 80 ] وقال : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم ، وقطعهم الطريق ، كما قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر الآية [ 29 \ 29 ] . ومن أعظم خبائثهم : تكذيب نبي الله لوط ، وتهديدهم له بالإخراج من الوطن كما قال تعالى عنهم : قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] وقال تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 ] والآيات بنحو ذلك كثيرة . والخبائث : جمع خبيثة ، وهي الفعلة السيئة ، كالكفر واللواط ، وما جرى مجرى ذلك .

[ ص: 169 ] وقوله : قوم سوء أي : أصحاب عمل سيئ ، ولهم عند الله جزاء يسوءهم ، وقوله : فاسقين أي : خارجين عن طاعة الله . وقوله : وأدخلناه يعني لوطا في رحمتنا شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم ، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة ، كما في الحديث الصحيح : " تحاجت النار والجنة " . الحديث . وفيه : " فقال للجنة : أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي " .
قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

قوله : ونوحا منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، أي : واذكر نوحا حين نادى من قبل ، أي : من قبل إبراهيم ومن ذكر معه . ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 - 77 ] وقد أوضح الله هذا النداء بقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ 54 \ 9 - 11 ] والمراد بالكرب العظيم في الآية : الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام ، كما قال تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال [ 11 \ 42 ] وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات . والكرب : هو أقصى الغم ، والأخذ بالنفس .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنجيناه وأهله يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين ، كما قال تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول [ 11 \ 40 ] ومن سبق عليه القول منهم : ابنه المذكور في قوله : وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] وامرأته المذكورة في قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله : ادخلا النار مع الداخلين . [ 66 \ 10 ] .
قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .

[ ص: 170 ] قوله تعالى : وداود [ 21 \ 78 ] منصوب بـ " اذكر " مقدرا . وقيل : معطوف قوله : ونوحا إذ نادى من قبل [ 21 ] أي : واذكر نوحا إذا نادى من قبل وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية

وقوله : إذ بدل من " داود وسليمان " بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة " مريم " وذكرنا بعض المناقشة فيه ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي ، إلا أن ما أوحي إلى سليمان كان ناسخا لما أوحي إلى داود .

وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته . كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله : ففهمناها سليمان [ 21 \ 79 ] وأثنى عليهما في قوله : وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 ] فدل قوله : إذ يحكمان على أنهما حكما فيها معا كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : ففهمناها سليمان فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى . فقوله : إذ يحكمان مع قوله : ففهمناها سليمان قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك .

والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى : ففهمناها يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع . لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا ؛ لأن قوله تعالى : ففهمناها أليق بالأول من الثاني كما ترى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى :

اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد ، وأن سليمان أصاب في اجتهاده - جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة . فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة ، وقد دلت القرينة القرآنية على [ ص: 171 ] وقوعه ، قال البخاري في صحيحه ( باب إذا ادعت المرأة ابنا ) حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك . فقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما . فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى . قال أبو هريرة : والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، وما كنا نقول إلا المدية " انتهى من صحيح البخاري . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثني شبابة ، حدثني ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما . فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا ، يرحمك الله " انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور ، وأن سليمان أصاب في ذلك ، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال . وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي ؛ لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين ؛ ليعرف أمه بالشفقة عليه ، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة فعرف الحق بذلك . وهذا شبيه جدا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه . ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان - عليه السلام - من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، وعن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة ، ملخصها أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها . فشهدوا عند داود - عليه السلام - أنها مكنت من نفسها كلبا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فسأل أولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود ، فعزله . واستدعى الآخر فسأله عن لونه ؟ فقال : أحمر . وقال [ ص: 172 ] الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليه السلام ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم . انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة . وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية ؛ لدلالة القرينة القرآنية عليه . وممن فسرها بذلك الحسن البصري كما ذكره البخاري وغيره عنه . قال البخاري رحمه الله في صحيحه ، باب متى يستوجب الرجل القضاء : وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ 2 \ 41 ] إلى أن قال - وقرأ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 - 79 ] فحمد سليمان ولم يلم داود . ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده . انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن الحسن يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا ، ويزيد هذا إيضاحا ما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " من الحديث المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة - رضي الله عنهما - إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر كما قدمنا إيضاحه .
المسألة الثانية :

اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #300  
قديم 31-05-2022, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (298)

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 173 إلى صـ 179




اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن كلها من طريق شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن ابن قدامة في ( روضة الناظر ) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معروفون بالثقة ، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق ، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) عن أبي بكر الخطيب بلفظ : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ . ا هـ منه . ولفظة " قيل " صيغة تمريض كما هو معروف ، وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه ، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال : وأخرجه أبو داود ، والترمذي من حديث شعبة به . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل . ثم قال ابن كثير : وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه ، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن ، عن معاذ به نحوه .

واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة ( 1351 ) فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا ؛ ففيها محمد بن سعد بن حسان ، والصواب محمد بن سعيد لا سعد . وفيها : عن عياذ بن بشر ، والصواب عن عبادة بن نسي .

وما ذكره ابن كثير من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم ، عن معاذ - لم أره في سنن ابن ماجه ، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور ، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد سجادة ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن سعيد بن حسان ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، حدثنا معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، قال : " لا تقضين ، ولا تفصلن إلا بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ا هـ منه . وما أدري أوهم الحافظ بن كثير فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى " تبينه " في الحديث أي : تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص ، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور ؟ وعلى كل حال [ ص: 174 ] فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم ، عن معاذ ، فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه . وقال أحمد بن صالح : وضع أربعة آلاف حديث . فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيها رأيه ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الطريقتين المذكورتين - علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه ، وأنه يقول : طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه ، والطريق الأخرى التي في المسند ، والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول ، والرواة فيها أيضا عن معاذ مجاهيل - فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند ، والسنن بإسناد جيد . وقلنا : لعله يرى أن الحارث المذكور ثقة ، وقد وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ، ولا متهم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين ، قال فيه : وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو ، عن أناس من أصحاب معاذ : أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؟ قال : أجتهد رأيي ، لا آلو . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " . فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ ، فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث له الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ، لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم ، والدين ، والفضل ، والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ، ولا كذاب ، ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ؟ وقال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به . قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل [ ص: 175 ] العلم قد نقلوه واحتجوا به . فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها . فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له . انتهى منه . وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا ، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى .
المسألة الثالثة :

اعلم أن الاجتهاد الذي دلت عليه نصوص الشرع أنواع متعددة :

( منها ) : الاجتهاد في تحقيق المناط ، وقد قدمنا كثيرا من أمثلته في " الإسراء " .

( ومنها ) : الاجتهاد في تنقيح المناط ، ومن أنواعه : السبر ، والتقسيم ، والإلحاق بنفي الفارق .

واعلم أن الاجتهاد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به قسمان :

الأول : الإلحاق بنفي الفارق ، وهو قسم من تنقيح المناط كما ذكرناه آنفا . ويسمى عند الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو بعينه مفهوم الموافقة ، ويسمى أيضا القياس الجلي .

والثاني من نوعي الإلحاق : هو القياس المعروف بهذا الاسم في اصطلاح أهل الأصول .

أما القسم الأول الذي هو الإلحاق بنفي الفارق فلا يحتاج فيه إلى وصف جامع بين الأصل والفرع وهو العلة . بل يقال فيه : لم يوجد بين هذا المنطوق به وهذا المسكوت عنه فرق فيه يؤثر في الحكم ألبتة ، فهو مثله في الحكم ، وأقسامه أربعة ، لأن المسكوت عنه إما أن يكون مساويا للمنطق به في الحكم ، أو أولى به منه ، وفي كل منهما إما أن يكون نفي الفارق بينهما مقطوعا به أو مظنونا . فالمجموع أربعة :

( الأول منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي [ ص: 176 ] الفارق ، كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] فالضرب المسكوت عنه أولى بالحكم الذي هو التحريم من التأفيف المنطوق به مع القطع بنفي الفارق ، وكقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] فشهادة أربعة عدول المسكوت عنها أولى بالحكم وهو القبول من المنطوق به ، وهو شهادة العدلين مع القطع بنفي الفارق .

( والثاني منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا ، بل مظنونا ظنا قويا مزاحما لليقين . ومثاله نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء . فالتضحية بالعمياء المسكوت عنها أولى بالحكم وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا بل مظنونا ظنا قويا ؛ لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتا وثمنا وقيمة ، وهذا هو الظاهر ، وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتا وقيمة . وهناك احتمال آخر : هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية بالعوراء أن العور مظنة الهزال ؛ لأن العوراء ناقصة البصر ، وناقصة البصر تكون ناقصة الرعي ؛ لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينا واحدة ، ونقص الرعي مظنة للهزال . وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء ؛ لأن العمياء يختار لها أحسن العلف ، فيكون ذلك مظنة لسمنها .

( والثالث منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق ؛ كقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية [ 4 \ 10 ] . فإحراق أموال اليتامى وإغراقها المسكوت عنه مساو للأكل المنطوق به في الحكم الذي هو التحريم ، والوعيد بعذاب النار مع القطع بنفي الفارق . ( والرابع منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا مزاحما لليقين ، ومثاله الحديث الصحيح " من أعتق شركا له في عبد . . " الحديث المتقدم في " الإسراء ، والكهف " ، فإن المسكوت عنه وهو عتق بعض الأمة مساو للمنطوق به وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث المتقدم مرارا . إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا ؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حكم من أحكام العتق . كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر ، مخصصا له بذلك الحكم دون الأنثى ؛ لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق [ ص: 177 ] الأنثى ، كالجهاد ، والإمامة ، والقضاء ، ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث . وقد أكثرنا من أمثلة هذا النوع الذي هو الإلحاق بنفي الفارق في سورة " بني إسرائيل " .

( وأما النوع الثاني من أنواع الإلحاق ) : فهو القياس المعروف في الأصول ، وهو المعروف بقياس التمثيل . وسنعرفه هنا لغة واصطلاحا ، ونذكر أقسامه ، وما ذكره بعض أهل العلم من أمثلته في القرآن :

اعلم أن القياس في اللغة : التقدير والتسوية . يقال : قاس الثوب بالذراع ، وقاس الجرح بالميل ( بالكسر ) وهو المرود ، إذا قدر عمقه به ؛ ولهذا سمي الميل مقياسا ، ومن هذا المعنى قول البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة :


إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت غثيثتها وازداد وهيا هزومها
فقوله : " قاسها " يعني قدر عمقها بالميل .

والآسي : الطبيب ، والنطاسي ( بكسر النون وفتحها ) : الماهر بالطب ، والغثيثة ( بثاءين مثلثتين ) : مدة الجرح وقيحه ، وما فيه من لحم ميت ، والوهي : التخرق والتشقق ، والهزوم : غمز الشيء باليد فيصير فيه حفرة كما يقع في الورم الشديد .

وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له . واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه حمل معلوم على معلوم ، أي : إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم . وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد . والتعريف الشامل للفاسد هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل ، فتقول : هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل ، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح ، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفا للقياس :


يحمل معلوم على ما قد علم للاستوا في علة الحكم وسم
وإن ترد شموله لما فسد فزد لدى الحامل والزيد أسد
ومعلوم أن أركان القياس المذكور أربعة : وهي الأصل المقيس عليه ، والفرع المقيس ، والعلة الجامعة بينهما ، وحكم الأصل المقيس عليه .

فلو قسنا النبيذ على الخمر ، فالأصل : الخمر ، والفرع : النبيذ ، والعلة : الإسكار ، [ ص: 178 ] وحكم الأصل الذي هو الخمر : التحريم . وشروط هذه الأركان الأربعة والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه ، فلا نطيل به الكلام هنا .

واعلم أن القياس المذكور ينقسم بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل إلى ثلاثة أقسام :

الأول : قياس العلة .

والثاني : قياس الدلالة .

والثالث : قياس الشبه .

أما قياس العلة فضابطه أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم ، فالجمع بين النبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار ، والقصد مطلق التمثيل ؛ لأنا قد قدمنا أن قياس النبيذ على الخمر لا يصح ؛ لوجود النص على أن كل مسكر خمر ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام " . والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل ، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ، ومطلق الاحتمال كما تقدم . وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلا عند من يقول بذلك ، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله :


وما بذات علة قد جمعا فيه فقيس علة قد سمعا
وأما قياس الدلالة فضابطه أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة ، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها . فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال : النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة ، وهي ملزوم للإسكار ، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار . ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال : القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد ، بجامع الإثم وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان . ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال : تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به ، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد ، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى ، والقتل منهم في الثانية . وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :


جامع ذي الدلالة الذي لزم فأثر فحكمها كما رسم
وقوله : " الذي لزم " بالبناء للفاعل يعني اللازم ، وتعبيره هنا باللازم تبعا لغيره غلط منه وممن تبعه هو ؛ لأن وجود اللازم لا يكون دليلا على وجود الملزوم بإطباق [ ص: 179 ] العقلاء ؛ لاحتمال كون اللازم أعم من الملزوم ، ووجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص كما هو معروف . ولذا أجمع النظار على أن استثناء عين التالي في الشرط المتصل لا ينتج عين المقدم ؛ لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، والصواب ما مثلنا به من الجمع بملزوم العلة ؛ لأن الملزوم هو الذي يقتضي وجوده وجود اللازم كما هو معروف ، فالشدة المطربة والإسكار متلازمان ، ودلالة الشدة المطربة على الإسكار إنما هي من حيث إنها ملزوم له لا لازم ، لما عرفت من أن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، واقتضاؤه له هنا إنما هو للملازمة بين الطرفين ؛ لأن كلا منهما لازم للآخر وملزوم له للملازمة بينهما من الطرفين .

وأما قياس الشبه فقد اختلفت فيه عبارات أهل الأصول ، فعرف بعضهم الشبه بأنه منزلة بين المناسب والطرد ، وعرفه بعضهم بأنه المناسب بالتبع بالذات . ومعنى هذا كمعنى تعريف من عرفه بأنه المستلزم للمناسب .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : عبارات أهل الأصول في الشبه الذي هو المسلك السادس من مسالك العلة عند المالكية والشافعية كلها تدور حول شيء واحد ، وهو أن الوصف الجامع في قياس الشبه يشبه المناسب من وجهه ، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى .

وقد قدمنا في سورة " مريم " أن المناسب هو الوصف الذي تتضمن إناطة الحكم به مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر ، والطردي هو ما ليس كذلك ، إما في جميع الأحكام وإما في بعضها ، ولا خلاف بين أهل الأصول في أن ما يسمى بغلبة الأشباه لا يخرج عن قياس الشبه ؛ لأن بعضهم يقول : إنه داخل فيه ، وهو الظاهر ، وبعضهم يقول : هو بعينه لا شيء آخر . وغلبة الأشياء هو إلحاق فرع متردد بين أصلين بأكثرهما شبها به ، كالعبد فإنه متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما ، فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال ، ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب ، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه . وأكثر أهل العلم يقولون : إن شبهه بالمال أكثر من شبهه بالحر ؛ لأنه يشبه المال في الحكم والصفة معا أكثر مما يشبه الحر فيهما .

فمن شبهه بالمال في الحكم : كونه يباع ويشترى ويورث ، ويوهب ويعار ، ويدفع في الصداق والخلع ، ويرهن ، إلى غير ذلك من التصرفات المالية .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 370.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 364.61 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]