|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 493الى صــ 506 (31) وَأَيْضًا: مَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةٌ، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ؟ قَالَ: بَلْ لَنَا خَاصَّةٌ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟» " وَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا: فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُتْعَةُ الْفَسْخِ خَاصَّةً بِهِمْ، بَلْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا: لَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَغَضِبَ إِذْ لَمْ يُطِيعُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْفَسْخُ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ. وَأَيْضًا: فَمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ سَلِيمِ بْنِ الْأَسْوَدِ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا بِعُمْرَةٍ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ: " حَدَّثَنِي الْمُرَقَّعُ الْأَسَدِيُّ - وَكَانَ رَجُلًا مَرْضِيًّا - أَنَّ أَبَا ذَرٍّ صَاحِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا، قَالَ يَحْيَى: وَحَقَّقَ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ لَمْ يَنْقُضُوا حَجًّا لِعُمْرَةٍ، وَلَمْ يُرَخِّصُوا لِأَحَدٍ، وَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا فَعَلَ فِي حَجِّهِ ذَلِكَ مِمَّنْ سَهُلَ نَقْضُهُ " رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: الْمُرَقَّعُ شَاعِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمْ يَلْقَ أَبَا ذَرٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ» " وَقَوْلُ عُثْمَانَ لَعَلِيٍّ - لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الْمُتْعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كُنَّا خَائِفِينَ ". وَعَنْ عُثْمَانَ - أَيْضًا - أَنْ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: " كَانَتْ لَنَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَهْيُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ - النَّهْيُ عَنِ الْمُتْعَةِ وَكَرَاهَتُهُمْ لَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ ". وَعَنْ أَبِي قُلَابَةَ قَالَ: " قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُهُمْ عَلَى مُتْعَةِ الْفَسْخِ، وَالرُّخْصَةُ عَلَى الْمُتْعَةِ الْمُبْتَدَأَةِ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ، وَلَوْلَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يُطَاوِعْهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ نَهَوْا عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُتْعَةِ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، أَوْ نَهْيَ اخْتِيَارٍ لِلْأُولَى. فَيُعْلَمُ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ وَلِهَذَا إِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ لَا فِي فَضْلِهِ، وَيَجْعَلُونَهَا رُخْصَةً لِلْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ؛ لِيُبَيِّنَ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ حَصَلَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَعُلِمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ عَقْدٍ لَازِمٍ، أَوْ أَنَّهُ إِذْنٌ لَهُمْ فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَوَّلًا جَوَازَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ. وَالَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ مُتْعَتَيِ الْقِرَانِ وَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى. . . الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَنَّ نَاسًا أَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَنَاسًا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» ". وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ مُفْرَدًا» "، وَفِي لَفْظٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا» " رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: " «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَفْرَدَ الْحَجَّ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْلَمْتُكَ عَامَ أَوَّلَ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ؟ قَالَ: أَتَانَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَتَوَلَّجُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُنْكَشِفَاتٌ لَا يَسْتَتِرْنَ؛ لِصِغَرِهِ، وَكُنْتُ أَنَا تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيلُ عَلَيَّ لُعَابُهَا» " رَوَاهُ. . . وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. . .، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَقَدِمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَصَلَّى الصُّبْحَ، وَقَالَ لَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي حَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " «أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ» ". وَجَابِرٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيَاقًا لِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: " لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ ". وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ: عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ وَهُوَ لَمْ يَفْسَخْ، وَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا فَعَلَهُ غَيْرُهُ، لَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنْهُ؛ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُؤْثِرَ نَبِيَّهُ إِلَّا بِأَفْضَلِ السُّبُلِ وَالشَّرَائِعِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا مُتْعَةً» " إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ: لَمَّا رَآهُمْ قَدْ كَرِهُوا الْمُتْعَةَ، فَأُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ أَفْضَلُ، وَقَدْ يُؤْثِرُ الْمَفْضُولَ إِذَا كَانَ فِيهِ اتِّفَاقُ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ: " «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ. . .» ". الْحَدِيثَ. فَتَرَكَ مَا كَانَ يُحِبُّهُ تَسْكِينًا لِلْقُلُوبِ، وَقَدْ كَانَ يَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ، فَعُلِمَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَى. . . وَيُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ أَفْرَدُوا الْحَجَّ. وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرْنَا إِلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ؛ فَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: «قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، [ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً] ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدُمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مَنِ الْبَيْتَ يَطُوفَانِ بِهِ، ثُمَّ لَا يَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا، وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُتْعَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى دَمٍ، فَإِنْ كَانَ دَمُ جُبْرَانٍ فَالنُّسُكُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى جَبْرٍ أَفْضَلُ مِمَّا يُجْبَرُ بِدَلِيلِ: حَجَّتَيْنِ، أَوْ عُمْرَتَيْنِ، قَدْ جَبَرَ إِحْدَاهُمَا بِدَمٍ، وَتَمَّ الْآخَرُ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ دَمُ نُسُكٍ: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لَمَّا سَقَطَ عَنِ الْمُتَمَتِّعِ مِنْ أَحَدِ السِّفْرَيْنِ وَهُوَ نُسُكٌ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ نُسُكِ الْفِعْلِ وَنُسُكِ الذَّبْحِ، كَانَ نُسُكُ الْفِعْلِ أَفْضَلَ، فَإِنَّ فِيهِ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً وَمَالِيَّةً؛ وَلِهَذَا عَامَّةُ الدِّمَاءِ لَا تُشْرَعُ إِلَّا عِنْدَ عَوَزِ الْأَعْمَالِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُفْرِدَ يَأْتِي بِالْإِحْرَامِ تَامًّا كَامِلًا مِنْ حِينِ يُهِلُّ مِنَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ كَامِلَةً، فَيَفْعَلُ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَتِّعُ وَزِيَادَةً، وَيَسْتَوْعِبُ الزَّمَانَ بِالْإِحْرَامِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُتْعَةَ فِي الْأَصْلِ رُخْصَةٌ، وَالْعَزَائِمَ أَفْضَلُ مِنَ الرُّخَصِ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُهُمْ: فَسْخُ الْحَجِّ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَالتَّمَتُّعُ إِنَّمَا كَانَ بِالْفَسْخِ، فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: - أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَسْخَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَمُتْعَتُهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، وَأَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا، أَوْ أَحْرَمَ بِمِثْلِ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ: أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَيَتَمَتَّعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَاعَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يُجِيزُهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ كَلَامٌ، وَلَا يُشْرَعُ الِاحْتِرَازُ مِنَ اخْتِلَافٍ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ مَا نُدِبَتْ إِلَيْهِ السُّنَّةُ؛ كَمَا اسْتَحْبَبْنَا التَّطَيُّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَفِي جَوَازِهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا قَدْ عُلِمَ، وَكَمَا اسْتَحْبَبْنَا التَّلْبِيَةَ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَفِي كَرَاهَتِهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا قَدْ عُلِمَ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْمُتْعَةِ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الْفَسْخِ. وَالثَّانِي: اسْتِحْبَابُ التَّمَتُّعِ وَاخْتِيَارُهُ، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْطُلِ الْآخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُتْعَةُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اخْتَارَ لِأَصْحَابِهِ مَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحَضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْتَزَمَ لِأَجْلِهِ فَسْخَ الْحَجِّ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مَعَهُمْ سَوْقُ هَدْيِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَارُ لَهُمْ مَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ» ". وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِهْلَالَ بِالْعُمْرَةِ لِغَيْرِ الْمَهْدِي أَفْضَلُ، وَقَالَ أَيْضًا. . . الرَّابِعُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» " وَفِي لَفْظٍ: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» ". فَبَيَّنَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مُسْتَقْبِلًا لِلْإِحْرَامِ الَّذِي اسْتَدْبَرَهُ: لَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَهُوَ لَا يَتَأَسَّفُ إِلَّا عَلَى فَوَاتِ الْأَفْضَلِ. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ الْعُمْرَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا تَأَسَّفَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ: قُلْنَا: فِي الْحَدِيثِ مَا يَرُدُّ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: " فَرَأَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي الْإِحْلَالِ ". هَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ ذَلِكَ فِي سَوْقِ الْهَدْيِ، أَيْ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مُوَافَقَةً لَكُمْ، وَإِنْ كَانَ سَوْقُ الْهَدْيِ أَفْضَلَ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً، مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا مَفْضُولًا مَعَ تَرْكِ سَوْقِ الْهَدْيِ، لَكَانَ قَدِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ مَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنَ الْمَقَامِ عَلَى الْحَجِّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الصِّرَاحُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي - رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَخْتَارُ الْمُتْعَةَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخَذَ أَنَّهُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] " وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَأَى أَنَّ الشَّعَائِرَ: اسْمٌ يَجْمَعُ مَوَاضِعَ النُّسُكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] "، وَقَالَ: " {الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] "، وَيَعُمُّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسِكُ، وَيَعُمُّ الْهَدَايَا الَّتِي تُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ. وَبَيَّنَ أَنَّ مَحِلَّ. . . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْفَسْخَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِذَلِكَ الْوَفْدِ خَاصَّةً، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَحَيْثُ مَا خُصَّ الْوَاحِدُ بِحُكْمٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ اخْتُصَّ بِهَا، لَوْ وُجِدَتْ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى التَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ فِي الْأُضْحِيَةِ: " «تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» "؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُسَنَّ وَقْتُ الْأُضْحِيَةِ، وَكَمَا خَصَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بِأَنْ يَرْضَعَ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُبُنِّيَ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّمَ سُبْحَانَهُ - أَنْ يُدْعَى الرَّجُلُ لِغَيْرِ أَبِيهِ. ثُمَّ إِنَّ التَّخْصِيصَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ، وَهُنَا أَمَرَ جَمِيعَ مَنْ حَجَّ مَعَهُ بِالتَّحَلُّلِ، وَقَدْ أَمَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ لَوَجَبَ بَيَانُهُ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ وَإِشَاعَتُهُ، وَإِلَّا فَلَوْ سَاغَ دَعْوَى مِثْلِ هَذَا؛ لَسَاغَ أَنْ يُدَّعَى اخْتِصَاصُهُمْ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِمْ لَهُ وَإِلْحَاقُهُمْ بِهِ، وَفِي هَذَا تَعْطِيلٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مُسْتَنَدِ التَّخْصِيصِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ بَيَانًا شَافِيًا أَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ - الْمُتَمَتِّعَ بِهَا الَّتِي فَسَخَ الْحَجَّ إِلَيْهَا - حُكْمٌ مُؤَبَّدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِمْ.
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 507الى صــ 520 (32) فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: " «حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً. فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا، فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ لِلْأَبَدِ» ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَأَمَرَهُمْ فَجَعَلُوهَا عُمْرَةً، ثُمَّ قَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلُوا، لَكِنْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَنْشَبَتْ أَصَابِعُهُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ» ". فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلُوهُ لَيْسَ لَهُمْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْأَبَدِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، وَهُوَ التَّمَتُّعُ فَبَيَّنَ أَنَّ التَّمَتُّعَ جَائِزٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْفَسْخَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي مَسْأَلَةٍ أَفْرَدَهَا فِي الْفَسْخِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ " «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا أَمَرْتَنَا بِهِ مِنَ الْمُتْعَةِ وَإِحْلَالِنَا، لَنَا خَاصَّةً أَوْ هُوَ شَيْءٌ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ لِلْأَبَدِ» "، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ» ". وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ، وَأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ بَاقٍ إِلَى الْأَبَدِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: " «عَلِيٌّ هُوَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَفْسَخُ لِمُدَّتِنَا هَذِهِ، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: لِلْأَبَدِ» ". وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: " «مِنْ سَنَتِنَا هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ لِلْأَبَدِ» "؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إِلَى الَّذِي فَعَلُوهُ، وَالَّذِي فَعَلُوهُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا يَنْوُونَ الْحَجَّ لَا يَعْرِفُونَ الْعُمْرَةَ، [فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا طُفْتُمْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَاجْعَلُوهَا عُمْرَةً] إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ ". وَسِيَاقُ حَدِيثِ جَابِرٍ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَالتَّمَتُّعُ الْمَحْضُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا فَعَلَهُ عَامَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: " «أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: لِلْأَبَدِ» ". وَقَوْلُهُ: عُمْرَتَنَا هَذِهِ صَرِيحٌ فِي الْعُمْرَةِ الَّتِي تَحَلَّلُوا بِهَا مِنْ حَجِّهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ وَلَمْ يُطْلِقِ الْجَوَابَ إِطْلَاقًا، بَلْ قَالَ: أَمَّا الْمُتْعَةُ فَجَائِزَةٌ، وَأَمَّا الْفَسْخُ فَخَاصٌّ لَنَا؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا فَعَلُوهُ، فَلَوْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا هُوَ لِذَلِكَ الْعَامِ وَلِلْأَبَدِ، لَوَجَبَ تَفْصِيلُ الْجَوَابِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ " نَصٌّ فِي أَنَّ الْحَجَّ تَدْخُلُ فِيهِ الْعُمْرَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَعُمُّ الِاعْتِمَارَ قَبْلَ الْحَجِّ، سَوَاءٌ كَانَ نَوَى الْعُمْرَةَ أَوَّلًا، أَوْ نَوَى الْحَجَّ، أَمْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ حَجٍّ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عُمْرَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا ابْتِدَاءً، أَوْ حَلَّ مِنَ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ جَوَازَ فِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ حَجَّ أَوْ لَمْ يَحُجَّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَجِّ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ شَبَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَالْيَدَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأُخْرَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ مِنْ جِنْسِ الْمَدْخُولِ فِيهِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ هَذَا وَهُوَ بِعُسْفَانَ: " «اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجِّكُمْ عُمْرَةً، فَإِذَا قَدِمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ حَلَّ، إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ» " فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الَّذِي حَجُّوهُ قَدْ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ عُمْرَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِأَنْ يَحِلُّوا مِنَ الْحَجِّ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَهَذَا نَصٌّ قَاطِعٌ لَا خَفَاءَ بِهِ: أَنَّ كُلَّ حَاجٍّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ فِي حَجِّهِ عُمْرَةً، سَوَاءٌ كَانَ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَمَّ هَذَا الْبَيْتَ يُرِيدُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَهُوَ حَاجٌّ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَإِنْ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ، فَإِذَا اعْتَمَرَ فِي هَذَا الْحَجِّ فَقَدْ أَدْخَلَ فِي حَجَّتِهِ عُمْرَةً، فَلَا مَعْدِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ، فَقَدْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ فَلَمْ يَدْخُلْهَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكَانَ هَذَا قَدْ عَلِمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، حَيْثُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثَلَاثَ عُمُرَاتٍ، وَأَيْضًا. . . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْقِيَاسِ، وَتَغَيَّظَ عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَقَدِ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا يَعْتَرِضُ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ زَمَانِنَا، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ نَفْثَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. قَالَ جَابِرٌ: فَقَالَ لَهُمْ: " «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَفَعَلُوا» " وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " فَقُلْنَا «: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ أُمِرْنَا أَنْ نُفْضِيَ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِيَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ» " قَالَ جَابِرٌ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا فَقَالَ: " «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيٌ لَأَحْلَلْتُ كَمَا تُحِلُّونَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، فَحِلُّوا. فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ". وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حَسَنٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ تَوَقُّفَ مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ وَلِذَلِكَ تَغَيَّظَ عَلَيْهِ كَمَا تَغَيَّظَ عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْإِحْلَالِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَمَا تَغَيَّظَ عَلَى مَنْ تَحَرَّجَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ: " «يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ» " وَكَمَا تَغَيَّظَ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا وَهُوَ جُنُبٌ، وَكَمَا يُرَخِّصُ فِي أَشْيَاءَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا تَحَرَّجُوا مِنْ ذَلِكَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ: " «إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي» " فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُتَّقَى وَيُجْتَنَبُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ لِخُصُوصٍ فِيَّ. فَلَوْ كَانَ الْبَقَاءُ عَلَى الْإِحْرَامِ هُوَ الْوَاجِبَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الرُّخْصَةُ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ - لَمْ يَتَغَيَّظْ مِثْلَ هَذَا التَّغَيُّظِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي هَذِهِ الْحَجَّةِ: " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهَا لِيَقْتَدُوا بِهِ فِيهَا، وَيَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ، وَيَسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَجَّةُ خَارِجَةً عَنِ الْقِيَاسِ، وَمُخْتَصَّةً بِأُولَئِكَ الرَّكْبِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " [بَلْ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ] إِلَّا فِي التَّحَلُّلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَوْا بِالْفَسْخِ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ الرَّكْبِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِاعْتِمَارِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، فَهُوَ لَمْ يَعْتَمِرْ قَطُّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ فَهَذَا حَصَلَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَبِفِعْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمُ الَّذِينَ أَحْرَمُوا مِنَ الْمِيقَاتِ بِعُمْرَةٍ مِثْلُ عَائِشَةَ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ لَهُمْ عِنْدَ الْمِيقَاتِ: " «مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ» ". فَأَيُّ بَيَانٍ لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَحْرَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ بِإِذْنِهِ؟ وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، أَوْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَلِأَيِّ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا كُلُّهُمْ بِالْعُمْرَةِ، وَيَتْرُكَ هُوَ سَوْقَ الْهَدْيِ كَمَا قَدْ أَسِفَ عَلَيْهِ، وَيُرِيحَهُمْ مِنْ مُؤْنَةِ الْفَسْخِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى زَعْمِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الطُّرُقِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَدَا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ لَمْ يَبْدُ لَهُ بَيَانُ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي بَدَا لَهُ: جَوَازُ الْإِحْلَالِ مِنْ هَذَا الْإِحْرَامِ بِعُمْرَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَمَتِّعِينَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ فِي ذَلِكَ. قَالَ طَاوُسٌ: " «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فِي حَجَّتِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحِلَّ، قَالَ: فَدَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» " وَفِي لَفْظٍ: " «أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّهِ، فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ أُمِرَ بِالْأَمْرِ» " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ هَلْ يُتِمُّونَ مَا أَحْرَمُوا بِهِ أَوْ يُغَيِّرُونَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ بِالرِّوَايَاتِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا إِمَّا بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِحَجٍّ، أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَوْ كَانَ الْفَسْخُ خَارِجًا عَنْ مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَالُ بَيْنَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَمَنْ لَمْ يَسُقْهُ، حَتَّى يَنْشَأَ مِنْ ذَلِكَ تَرَدُّدُهُمْ وَتَأَسُّفُهُ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ، وَمُوَافَقَتُهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ سَائِقَ الْهَدْيِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفَسْخُ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ: " {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] " فَهَلَّا أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالْإِتْمَامِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ: " {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] " أَيْضًا، أَوْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الرَّكْبِ مِنْ حُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لِقَصْدِ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَلَمَّا أَمَرَ بِالْفَسْخِ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ، وَبَيَّنَ أَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُ الْفَسْخَ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْفَسْخَ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ جَائِزٌ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنْ لَا مَانِعَ مِنْهُ غَيْرُ سَوْقِ الْهَدْيِ. وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ أَنْصَفَ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ تَرْكًا لِإِتْمَامِ الْحَجِّ لِلَّهِ، فَلَا يَكُونُ أُولَئِكَ الصَّحَابَةُ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا دَاخِلِينَ فِي حُكْمِهَا، وَهُمُ الْمُوَاجَهُونَ بِالْخِطَابِ، الْمَقْصُودُونَ بِهِ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ كَيْفَ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُمْ لَمْ يُتِمُّوا الْحَجَّ لِلَّهِ؟! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفَاسِخُ تَارِكًا لِإِتْمَامِ الْحَجِّ لِلَّهِ، بَلْ هُوَ مُتِمٌّ لَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، فَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ نَاسٍ، وَنَاسٍ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ بِقَوْلِهِ: " {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] " وَقَدْ نَزَلَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَقَدْ أَحْرَمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ بِالْعُمْرَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ، فَكَيْفَ يُقَالُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟! نَعَمْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ جَوَازَ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ حَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، أَوْ لَمْ يَحُجَّ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ تَوَقُّفَهُمْ وَتَرَدُّدَهُمْ إِنَّمَا كَانَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَالْإِحْلَالِ مِنَ الْإِحْرَامِ لِفَضْلِ التَّمَتُّعِ لَا لِبَيَانِ جَوَازِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ. . . وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] " فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ مُتِمٌّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَهَلَّ أَوَّلًا بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوَّلًا، فَإِنَّمَا يَفْسَخُهُ إِلَى عُمْرَةٍ مُتَمَتِّعٍ بِهَا إِلَى الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُهُ إِذَا قَصَدَ التَّمَتُّعَ، فَيَكُونُ قَدْ قَصَدَ الْحَجَّ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ مُدْخِلًا لِلْعُمْرَةِ فِي حَجِّهِ، وَفَاعِلًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ دَخَلَ فِيهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ غَيْرِ مُتَمَتِّعٍ بِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قِيلَ لِأَبِي: حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ بِهِ وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ بِلَالٍ عِنْدِي لَيْسَ يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «اجْعَلُوا حَجَّكُمْ عُمْرَةً، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ» " فَحَلَّ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ - أَيْضًا -: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَنَا خَاصَّةً - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ. وَقَالَ - أَيْضًا - فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ وَابْنِ هَانِئٍ: مَنِ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ وَمَنْ رَوَى عَنْهُ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فَلَا. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ -: أَرَأَيْتَ لَوْ عَرَفَ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ إِلَّا أَنَّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ يَقَعُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْهُمْ؟! وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: لَيْسَ يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ لَهُمْ خَاصَّةً، وَهَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يُفْتِي بِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِجَهْلِ الرَّاوِي، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحَارِثَ بْنَ بِلَالٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ مِثْلُ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ. وَتَخْصِيصُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَهُوَ مِثْلُ النَّسْخِ لَهَا. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَحْمَدُ: أَنَّهُ يُخَالِفُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَيُعَارِضُهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ شَاذٌّ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الشَّاذَّ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خِلَافَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ. فَلَوْ كَانَ رَاوِيهِ مَعْرُوفًا لَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اجْعَلُوا حَجَّكُمْ عُمْرَةً، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ» " فَعَمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِمْ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِهِمْ لَوَجَبَ بَيَانُهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْ ذَلِكَ حَتَّى سَأَلَهُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُمْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ لِلنَّاسِ عَامَّةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَدَلَالَةُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ الْفَسْخِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ رَاوِيهِ مَعْرُوفًا بِالْعَدْلِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِمَضْبُوطٍ وَلَا مَحْفُوظٍ. وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ لَهُ مِنَ الظُّهُورِ وَالشِّيَاعِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا عَامًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " فَلَوْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، كَمَا بَيَّنَ حُكْمَ الْأُضْحِيَةِ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ عَنِ الْأُضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ، فَقَالَ: " «يُجْزِئُ عَنْكَ وَلَا يُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» " فَلَوْ كَانَ الْفَسْخُ خَاصًّا لَهُمْ لَقَالَ: " «إِذَا طُفْتُمْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَحِلُّوا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِكُمْ» " وَلَمْ يُؤَخِّرْ بَيَانَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ؛ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ بِلَالٌ كَانَ التَّلْبِيسُ وَاقِعًا. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِسُرَاقَةَ لَمَّا سَأَلَهُ: " «أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ» ". فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مَعْلُومًا بِنَفْسِ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ السَّائِلَ تَوْكِيدًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُقْتَضِيَةً لِعُمُومِ الْحُكْمِ وَثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ عَارَضَ أَحْمَدُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَكَمَ بِشُذُوذِهِ لَمَّا انْفَرَدَ بِمَا يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَشَاهِيرَ، وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَدَّثُوا بِتِلْكَ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِتَعْلِيمِ السُّنَّةِ، وَبَيَانِهَا، وَاتِّبَاعِهَا، وَالْأَخْذِ بِهَا، لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مُجَرَّدَ الْقِصَصِ. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْوُوهَا رِوَايَةً مُرْسَلَةً حَتَّى يُبَيِّنُوا اخْتِصَاصَهُمْ بِهَا، فَكَيْفَ إِذَا ذَكَرُوهَا لِتَعْلِيمِ السُّنَّةِ؟! وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ مَاضِيَةٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا يُرَدُّ هَذَا بِحَدِيثِ مَنْ لَمْ يُخْبِرْ قُوَّةَ ضَبْطِهِ وَتَيَقُّظِهِ،وَيَدْفَعْ هَذِهِ السُّنَنَ الْمَشْهُورَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ بِرَاوِيَةٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ لَنَا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُ الْفَسْخُ، إِلَّا لِنَفَرٍ مَخْصُوصٍ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ سَائِقَ الْهَدْيِ لَمْ يَحِلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُشْبِهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنْ كَانَ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ وَهُوَ مَحْفُوظٌ وَلَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى رِوَايَةِ النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَاصَّةً، وَهُوَ يَقُولُ: " لَنَا خَاصَّةً " فَإِنْ كَانَ قَدْ حَفِظَ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مُتَحَتِّمًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ بِهِ، وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَفْعَلُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ سَبَبُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: " «مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ جَعَلَهَا عُمْرَةً» " وَنَدَبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَرَأَى أُنَاسًا قَدْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَاسْتَهْجَنُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْهَدُونَ الْحِلَّ قَبْلَ عَرَفَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَعَزَمَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ حَسْمًا لِمَادَّةِ الشَّيْطَانِ، وَإِزَالَةً لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ أَمْرَ رُخْصَةٍ،ثُمَّ لَمَّا دَنَوْا مِنَ الْعَدُوِّ أَمَرَهُمْ بِهِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ، وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ لَمَّا رَآهُمْ قَدْ كَرِهُوا الصُّلْحَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَالِحْهُمْ، وَمَضَى فِي عُمْرَتِهِ لَكَانَ جَائِزًا. عَلَى أَنَّ بِلَالًا لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَنَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى ذَلِكَ الْوَفْدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِلَالٌ مِمَّنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَقَالَ: هُوَ لَنَا: مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ: بَلْ لَنَا خَاصَّةً.
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 521الى صــ 534 (33) وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَهَلَّا وَجَبَ الْفَسْخُ عَلَى كُلِّ حَاجٍّ، وَصَارَ كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ حَلَالًا، سَوَاءٌ قَصَدَ التَّحَلُّلَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، كَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَامْتَنَعَ الْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ لِكَوْنِهِمَا مَفْسُوخَيْنِ. قُلْنَا: لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِهِ حَجُّوا مُفْرِدِينَ، [وَقَارِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ] وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ. فَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا وُجُوبَ التَّمَتُّعِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِالْمُتْعَةِ - فَقَدْ عَارَضَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ، وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّتِهِ، وَقَوْلُ الْمَكِّيِّينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُمْ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَانُوا - بِالْمَنَاسِكِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: " قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُتَمَتِّعِينَ قَالَ: وَقَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَوْ خَرَجْتَ مِنْ بَلَدِكَ الَّذِي تَحُجُّ مِنْهُ أَرْبَعِينَ عَامًا مَا قَدِمْتَ إِلَّا مُتَمَتِّعًا، هُوَ أَحْدَثُ عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي فَارَقَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْغَبَ عَنْ مَا ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لِاتِّبَاعِ بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: قَوِيَتْ قُلُوبُ الرَّوَافِضِ حِينَ أَفْتَيْتَ أَهْلَ خُرَسَانَ بِمُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ كُنْتَ تُوصَفُ بِالْحُمْقِ، فَكُنْتُ أَدْفَعُ عَنْكَ، وَأَرَاكَ كَمَا قَالُوا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَيُّوبَ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ يَقُولُ: - وَسُئِلَ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ فَقَالَ -: " قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْكَ حَسَنٌ غَيْرَ خَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقُولُ بِفَسْخِ الْحَجِّ، قَالَ أَحْمَدُ: كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا، عِنْدِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا صِحَاحًا أَتْرُكُهَا لِقَوْلِكَ؟! وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّبَّانِيُّ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ، وَذُكِرَ لَهُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَنَا أَحَدًا أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ، وَالْآثَارِ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ يَزَالُهُ عَقْلٌ. ثُمَّ قَالَ: جَاءَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ إِلَى أَحْمَدَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تُفْتِي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَحْمَقُ إِلَى الْيَوْمِ، ثَمَانِيَةُ عَشَرَ حَدِيثًا أَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أُفْتِي بِهِ، فَلِمَ كَتَبْتُ الْحَدِيثَ؟! قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَطُّ إِلَّا وَهُوَ يُفْتِي بِهِ. وَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا عَنِ الْمُتْعَةِ، وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْفَسْخِ أَوْ عَلَى كَوْنِهَا مَرْجُوحَةً: فَاعْلَمْ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمَا نَهَوْا عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ مُطْلَقًا، وَأَنَّ نَهْيَهُمْ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْأَحَادِيثِ، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حَصِينٍ: " «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَا، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي لَفْظٍ: " «تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَحِمَ اللَّهُ عَمْرًا، إِنَّمَا ذَاكَ رَأْيٌ» "، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، سَوَاءٌ جَمَعَ بَيْنَهَا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَفَرَغَ مِنْهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ " لَمَّا نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ فَأَهَلَّ عَلِيٌّ بِهِمَا، فَقَالَ: تَسْمَعُنِي أَنْهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا؟ فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ أَحَدٍ ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ، أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُهِلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمَّا بَلَغَهُ نَهْيُ عُثْمَانَ. وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ: - " اسْتَأْذَنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي الْعُمْرَةِ فِي شَوَّالٍ، فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ [نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ: " أَنَّ عُثْمَانَ سَمِعَ رَجُلًا يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُهِلِّ، فَضَرَبَهُ، وَحَلَقَهُ، قَالَ] نُبَيْهٌ: فَمَا نَبَتَ فِي رَأْسِهِ شَعْرَةٌ، وَقَالَ نُبَيْهٌ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَتَمَتَّعُونَ بِالْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ، ثُمَّ أَمَرَ نَوْفًا فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ. فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَقَدْ مَلِلْتُمُ الْحَجَّ دَفَرَهُ؟ أَقَدْ مَلِلْتُمْ شَعَثَهُ؟ أَقَدْ مَلِلْتُمْ وَسخَهُ؟! وَاللَّهِ لَئِنْ مَلِلْتُمْ لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْمٍ لَا يَمَلُّونَهُ وَلَا يَسْتَعْجِلُونَهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَذِنَّا لَكُمْ فِي هَذَا لَأَخَذْتُمْ بِخَلَاخِيلِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ - يُرِيدُ أَرَاكَ عَرَفَةَ - ثُمَّ رَجَعْتُمْ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا الْمُتْعَةُ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ فَهَذَا عُمَرُ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ فَعَلَ الْمُتْعَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَيَقُولُ لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ - لَمَّا أَهَلَّ جَمِيعًا -: هُدِيتَ سُنَّةَ نَبِيِّكَ. وَيَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: " «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: قُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» ". وَعَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " هَذَا الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ - يَعْنِي عُمَرَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَوِ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ حَجَجْتُ لَتَمَتَّعْتُ "، وَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: " أَلَا تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَمْرَ مُتْعَتِهِمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَا يَعْلَمُهَا؟! ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " وَمَا تَمَّتْ حَجَّةُ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا بِمُتْعَةٍ، إِلَّا رَجُلٌ اعْتَمَرَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: " لَوْ حَجَجْتُ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ حَجَجْتُ، لَمْ أَحُجَّ إِلَّا بِمُتْعَةٍ ". رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي عَبِيدٍ: " لَوِ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ حَجَجْتُ لَتَمَتَّعْتُ ". وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " لَوِ اعْتَمَرْتُ وَسَطَ السَّنَةِ لَتَمَتَّعْتُ، وَلَوْ حَجَجْتُ خَمْسِينَ حَجَّةً لَتَمَتَّعْتُ "، وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ عُمَرُ: " وَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا عَلِمَهَا؟ أَمَّا أَنَا فَأَفْعَلُهَا ". وَعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " مَا حَجَّ عُمَرُ قَطُّ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ إِلَّا تَمَتَّعَ فِيهَا ". وَإِنَّمَا وَجْهُ مَا فَعَلُوهُ أَنَّ عُمَرَ رَأَى النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا بِالْمُتْعَةِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَ الْكَعْبَةَ إِلَّا مَرَّةً فِي السَّنَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ السَّفْرَةِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَبْقَى الْبَيْتُ مَهْجُورًا عَامَّةَ السَّنَةِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ لِيَبْقَى الْبَيْتُ مَعْمُورًا مَزُورًا كُلَّ وَقْتٍ بِعُمْرَةٍ يَنْشَأُ لَهَا سَفَرٌ مُفْرَدٌ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ، حَيْثُ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجَّةِ ثَلَاثَ عُمَرٍ مُفْرَدَاتٍ. وَعَلِمَ أَنَّ أَتَمَّ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يَنْشَأَ لَهُمَا سَفَرٌ مِنَ الْوَطَنِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرَ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِرَغْبَتِهِ طَرِيقًا إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ الِاعْتِمَارِ مَعَ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَقَدْ يَنْهَى السُّلْطَانُ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمُسْتَحَبَّاتِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ حَرَامًا. قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ: " إِنَّمَا نَهَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ مِنْ أَجْلِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِيَكُونَ مَوْسِمَيْنِ فِي عَامٍ، فَيُصِيبُ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا ". وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: " إِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ إِرَادَةَ أَلَّا يُعَطَّلَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ". رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَأَيْضًا: فَخَافَ إِذَا تَمَتَّعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أَنْ يَبْقُوا حَلَالًا حَتَّى يَقِفُوا بِعَرَفَةَ مُحِلِّينَ، ثُمَّ يَرْجِعُوا مُحْرِمِينَ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ: " كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ - يَعْنِي أَرَاكَ عَرَفَةَ - ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ ". وَنَحْنُ نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَنْشَأَ لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا مِنْ مَصْرِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ. فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " افْصِلُوا بَيْنَ حَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ " رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: " سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُخَالِفُ أَبَاكَ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَقُلِ الَّذِي تَقُولُونَ: إِنَّمَا قَالَ: أَفْرِدُوا الْعُمْرَةَ مِنَ الْحَجِّ. أَيْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي شُهُورِ الْحَجِّ إِلَّا بِهَدْيٍ، وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ، فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا، وَعَاقَبْتُمُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَوَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَبَّعُوا أَمْ عُمَرَ؟! ". وَعَنْ أَبِي يَعْفُورَ قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَالَ: " هِيَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَبُّ إِلَيَّ ". وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: " مَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَشُكُّ أَنَّ عُمْرَةً فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ". وَأَمَّا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، إِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ سَفْرَةٍ أُخْرَى؛ أَوْ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْ سَفْرَةٍ أُخْرَى بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ الْحَجِّ مِنْ جِهَادٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَصْدُ مَكَّةَ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ لِعَدَمِ الْقَوَافِلِ، أَوْ خَوْفِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّ اعْتِمَارَهُ قَبْلَ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيمِ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّهُمْ فَعَلُوا كَذَلِكَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ الْحَجَّةِ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ إِلَّا عَائِشَةُ خَاصَّةً، وَلَمْ يُقِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ لَيْلَةِ الْحَصْبَةِ وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا، بَلْ قَضَى حَجَّهُ وَرَجَعَ قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ كَانَ. . . وَكَانُوا يَنْهَوْنَ عَنِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ كَمَا يَنْهَوْنَ عَنْهَا قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: " حَجَجْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الصَّدَرِ، قَالَ صَاحِبِي: إِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْمَكَانِ كُلَّمَا أَرَدْتُ، أَفَأَعْتَمِرُ؟ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ لَهُ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَسَأَلْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ هَابَنَا، ثُمَّ إِنَّهُ اطْمَأَنَّ بَعْدُ فَقَالَ: أَمَّا أُمَرَاؤُكُمَا فَيَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ أَعْمَرَ عَائِشَةَ - رَحِمَهَا اللَّهُ - لَيْلَةَ الصَّدَرِ مِنَ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ مِنْ سَنَنِ وَجْهِهِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ يُحْرِمُ ". وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَهُ رُخْصَةً بَعْدَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَوِ اعْتَمَرُوا قَبْلَ الْحَجِّ كَانَ أَفْضَلَ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا عَفَا الْوَبَرُ، وَبَرَأَ الدَّبَرُ، وَدَخَلَ صَفَرُ، فَقَدْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: " عُمْرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عُمْرَةٍ فِي الْعِشْرِينَ الْأَوَاخِرِ، قَالَ صَدَقَةُ: فَحَدَّثْتُ نَافِعًا، فَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: لَأَنْ أَعْتَمِرَ عُمْرَةً يَكُونُ عَلَيَّ فِيهَا هَدْيٌ، أَوْ صِيَامٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ عُمْرَةً لَيْسَ عَلَيَّ فِيهَا هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ، قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَنْ أَعْتَمِرَ قَبْلَ الْحَجِّ وَأَهْدِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ ". وَرَوَى أَبُو عَبِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لَأَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ، أَوْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فِي شَهْرٍ يَجِبُ عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ [أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَهْرٍ لَا يَجِبُ عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ] ". عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ الَّذِي قَدْ رَآهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمَنْ بَعْدَهُمَا قَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ؛ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا خَافُوا مِنَ النَّهْيِ؛ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ، أَوْ رَأَوْا أَنَّ تَرْكَ النَّاسِ آخِذِينَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَعِمْرَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: " أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَضْرَبَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ ". وَعَنْ عَمْرٍو قَالَ: " سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَنَا قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الْمُتْعَةِ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ يَنْهَى عَنْهَا، فَقَالَ: انْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا فِيهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَقَدْ صَدَقَ ". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُعَرِّضُ بِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: " إِنَّ هَاهُنَا قَوْمًا أَعْمَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، يُفْتُونَ فِي الْمُتْعَةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا لِي فَلْيَسْأَلْ أُمَّهُ، فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَ نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ وُلِدُوا مِنْهَا لَفَعَلْتُ " رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَاهُمْ سَيَهْلَكُونَ، أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ". رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ.
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 535الى صــ 548 (34) وَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي أَشْهُرِهِ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ يَرْوُونَ التَّمَتُّعَ، إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَلَمَّا قَضَاهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا. فَإِنَّ رِوَايَةَ مَنْ قَرَنَ لَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ، سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ جَمَعَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَهْرِ الْحَجِّ، وَهَذَا لَا يُشَكُّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ. فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَأَقَرَّتْهُ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اعْتَمَرْتُ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَذْهَبُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَذْهَبُ أَنَا بِحَجَّةٍ» ". وَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ حَجِّهِ، وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ قَدِ اعْتَمَرُوا مَعَ حَجِّهِمْ قَبْلَ لَيْلَةِ الْحَصْبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ أَوْ قَارِنِينِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ. وَعَنْ جَابِرٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ، حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَمِرْ عَقِيبَ الْحَجَّةِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سِوَى عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لَيْلَةَ الصَّدَرِ. وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِمَّا قَبْلَ الْحَجِّ أَوْ مَعَهُ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى قَارِنًا وَمُتَمَتِّعًا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَلْفَاظٌ صَرِيحَةٌ مِنْ قَوْلِهِ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ: " «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» "، وَقَوْلِهِ: " إِنِّي قَرَنْتُ "، وَقَوْلِهِ: " قُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ "، وَمِثْلُ مَا رَوَتْ حَفْصَةُ قَالَتْ: " «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكِ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ اعْتِقَادِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ رُوَاةَ التَّمَتُّعَ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَجَلُّ قَدْرًا، وَرِوَايَتُهُمْ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَشْهَرُ نَقْلًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ تَمَتَّعَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، بَلْ طُرُقُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ بِأَنَّهُ تَمَتَّعَ أَصَحُّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ عَامَّةَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْإِفْرَادُ إِنَّمَا ذَكَرُوهُ مَعَ أَصْحَابِهِ، مِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ. . . وَأَيْضًا فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَفْرَدَ الْحَجَّ؛ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ طَوَافًا يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْمُفْرِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكَلَامِهِمْ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِوُقُوعِ الْخَطَأِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ مُثْبِتٌ لِزِيَادَةٍ نَفَاهَا غَيْرُهُ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي. وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَيُسَمَّى مُفْرِدًا لِذَلِكَ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَكَوْنِهِ لَمْ يَفْسَخِ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ مِمَّنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا. وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَحَلَّلْ فِي حَجَّتِهِ، وَهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَحِلَّ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ، وَلَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَفْسَخْ، كَأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا تَمَتَّعَ وَلَمْ يُفْرِدْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَفْرَدَ فَهُوَ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجَّتِهِ مِنَ التَّنْعِيمِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرُ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدِ اعْتَمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْإِفْرَادُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَمِنِ الْقِرَانِ عِنْدَنَا، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَتِهِ تِلْكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَرْجِعُونَ، وَيَعْتَمِرُونَ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَوْ لَا يَعْتَمِرُونَ، وَإِفْرَادُ الْحَجِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتْعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ كَانَ التَّأَسُّفَ عَلَى الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى الْإِحْلَالَ أَفْضَلَ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى يَعْتَقِدَ مَا اعْتَقَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ مِنْ أَنَّهُمْ فَسَخُوا؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يُجَوِّزُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُتْعَةِ تَفْتَقِرُ إِلَى دَمٍ، فَذَلِكَ الدَّمُ دَمُ نُسُكٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَتُّعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَدِمَاءُ الْجُبْرَانِ لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْهُ، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ نَقُولُ: وَإِنْ كَانَ دَمُ جُبْرَانٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ بِلَا جُبْرَانٍ، وَبَيْنَ الْإِحْلَالِ وَالْجُبْرَانِ. وَهَذَا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ بِطَايِلٍ. فَالْإِحْلَالُ وَالدَّمُ وَالْعُمْرَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْهَا. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْمُفْرِدُ يَأْتِي بِنُسُكَيْنِ تَامَّيْنِ، فَإِنَّهُ مَتَى أَتَمَّ الْعُمْرَةَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ مِنْ. . . فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ. وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَيْسَتْ بِتِلْكَ التَّامَّةِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُتْعَةِ رُخْصَةً: فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ رُخْصَةٌ، ثُمَّ الرُّخَصُ فِي الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الشَّدَائِدِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجَّةِ: لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ سُنَّةٌ عَظِيمَةٌ: فَعُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ يَأْتِي فِيهَا بِالْحَلْقِ: أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ تَخْلُوَ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ النُّسُكِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا تُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ عُمْرَةُ الْقَارِنِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْهَا بِالطَّوَافِ أَفْضَلُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَى إِجْزَائِهِ، وَيَتَّسِعُ الْوَقْتُ بَعْدَهُ لِلطَّوَافِ أَفْضَلَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ أَحْوَطَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخَّرَهَا، فَإِنَّهُ تَغْرِيرٌ بِهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ وَتَأْخِيرِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: هُوَ آخِرُ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَجْمَعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ جَمِيعًا، وَيَعْمَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيُحِلُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا إِذَا قَضَى حَجَّهُ، وَلَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى الْقَارِنِ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مُخَالَفَةٌ لِهَدْيِ الْمُشْرِكِينَ وَدَلِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنَ الْمَنَاسِكِ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِهَدْيِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، مِثْلُ الْخُرُوجِ إِلَى عَرَفَةَ، وَتَرْكِ الْوُقُوفَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالطَّوَافِ بِالثِّيَابِ، وَدُخُولِ الْبَيْتِ مِنَ الْبَابِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَالطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَأَيْضًا: فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ عُمْرَةً وَحَجَّةً وَدَمًا؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ عَلَى حِدَةٍ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَهَا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِإِحْلَالَيْنِ، وَإِحْرَامَيْنِ، وَتَلْبِيَتَيْنِ، وَطَوَافَيْنِ، وَسَعْيَيْنِ، فَهُوَ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْقَارِنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعُمْرَتُهُ تُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ عُمْرَةِ الْقَارِنِ فَإِنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا، وَلَيْسَ الْقَارِنُ بِأَعْجَلَ مِنَ الْمُتَمَتِّعِ؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا يَفْرُغُ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، وَيَزِيدُ الْمُتَمَتِّعُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَفْرُغُ مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ أَسْبَقَ مِنْهُ إِلَى أَدَاءِ النُّسُكِ. وَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُفْرِدِ: بِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَنُسُكَانِ أَفْضَلُ مِنْ نُسُكٍ، وَأَنَّهُ يَأْتِي مَعَ ذَلِكَ بِدَمِ الْمُتَمَتِّعِ، وَهُوَ دَمُ نُسُكٍ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَيَكُونُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى زِيَادَةٍ أَفْضَلَ كَمَا فُضِّلَ الْمُفْرِدُ عَلَى الْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ يَطُوفُ وَيَسْعَى مَرَّتَيْنِ. وَعُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ وَهَدْيٌ أَفْضَلُ مِنْ حَجَّةٍ لَا عُمْرَةَ فِيهَا وَلَا هَدْيَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: " لَأَنْ أَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأُهْدِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الْحَجِّ وَلَا أُهْدِيَ ". وَيَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِلْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الصَّدَرِ مِنْ مِنًى إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً، لَا سِيَّمَا إِنْ خِيفَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ لِخَوْفٍ، أَوْ غَلَاءٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَتَحْصِيلُ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ أَوْثَقُ. وَإِنْ كَانَ الْحَاجُّ امْرَأَةً خِيفَ عَلَيْهَا أَنْ تَحِيضَ بَعْدَ الصَّدَرِ، وَيَسْتَمِرُّ بِهَا الْحَيْضُ حَتَّى لَا تَتَمَكَّنَ مِنْ الِاعْتِمَارِ، فَإِذَا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً وَحَاضَتْ صَنَعَتْ كَمَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. فَأَمَّا إِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْإِفْرَادِ بِلَا تَرَدُّدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَكَّ أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ، وَكَانَ قَارِنًا، أَوْ مُتَمَتِّعًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِهِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا كَوْنُ الْإِفْرَادِ أَفْضَلَ مِنَ الْقِرَانِ، فَهَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا بِذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّ فِي عَمَلِ الْمُفْرِدِ زِيَارَةً عَلَى الْقَارِنِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْتِي بِإِحْرَامَيْنِ، وَإِحْلَالَيْنِ، وَتَلْبِيَتَيْنِ، وَطَوَافَيْنِ، وَسَعْيَيْنِ، وَيَتَوَجَّهُ. . . وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُتْعَةَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، أَوْ بِالْحَجِّ، أَوْ بِهِمَا، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى وُجُوبَهَا؛ فَعَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ ". وَعَنْ أَبِي هِشَامٍ " أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ حَاجًّا، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً، ثُمَّ لَقِيتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: اثْبُتْ عَلَى إِحْرَامِكَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّ طَوَافَكَ بِالْبَيْتِ يَنْقُضُ حُرْمَكَ، كُلَّمَا طُفْتَ فَجَدِّدْ إِهْلَالًا "، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَنَا أَطُوفُ وَأُلَبِّي، فَقَالَ: أَبِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ؟ قُلْتُ: حَجَّةٍ، قَالَ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً، قُلْتُ: كَيْفَ أَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَهَذَا أَوَّلُ مَا حَجَجْتُ؟ قَالَ: فَأَكْثِرْ مِنَ التَّلْبِيَةِ فَإِنَّ التَّلْبِيَةَ تَشُدُّ الْإِحْرَامَ، وَإِنَّ الْبَيْتَ يُنْقَضُ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ تُنْقَضُ ". وَعَنْ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ قَالَ: " سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يَحِلُّ الْحَجُّ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي قَدِمْتُ حَاجًّا وَلَمْ أَذْكُرْ عُمْرَةً، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَمَرْتَ. فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: إِنَّكَ لَمْ تَفْهَمْهُ، فَعَادَ فَقَالَ: إِنِّي قَدِمْتُ حَاجًّا، قَالَ: فَصَنَعْتَ مَاذَا؟ قَالَ: طُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ: اعْتَمَرْتَ. فَقَالُوا لَهُ: عُدْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ: إِنِّي قَدِمْتُ حَاجًّا وَلَمْ أَذْكُرْ عُمْرَةً، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ؟ هِيَ ثَلَاثًا فَإِنْ أَنْتَ فَأَرْبَعٌ، وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّكَ قَصَرْتَ " وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " وَاللَّهِ مَا تَمَّتْ حَجَّةُ رَجُلٍ إِلَّا بِمُتْعَةٍ، إِلَّا رَجُلٌ اعْتَمَرَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ "، وَقَدْ تَأَوَّلَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: " قُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْخُذُ أَنَّهُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يُسْتَحَبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ الْفَسْخِ، فَأَمَّا مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بِنِيَّةِ الْمُضِيِّ فِيهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ رَغْبَةً فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ - فِي قَلْبِهِ - جَازَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَرَاهَةِ الْمُتْعَةِ كَمَا حَكَيْتُمْ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: " أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ: يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ ". وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ - مِمَّنْ قَرَأَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ -: " «أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَرُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَقَالُوا: أَمَّا هَذَا فَلَا، قَالَ: أَمَا إِنَّهَا مَعَهَا وَلَكِنْ نَسِيتُمْ» " رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ. وَهَذَا النَّهْيُ إِمَّا أَنْ يُفِيدَ الْكَرَاهَةَ، أَوْ يَكُونَ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. قُلْنَا: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُكْرَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُ أُمَرَاءِ بَنِي مَرْوَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، وَيُعَاقِبُ عَلَى الْمُتْعَةِ. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ رَأَى ذَلِكَ لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا.
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 577الى صــ 590 (37) «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَتْ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ». وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " «كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، ذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ. .» مِثْلَهُ سَوَاءً ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: " أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي كَذَلِكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. «وَعَنْ جَابِرٍ فِي ذِكْرِ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ. وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَلَفْظُهُمَا: " وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ " ذَا الْمَعَارِجِ " وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا ". وَعَنِ الضَّاحِكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ " رَوَاهُ سَعِيدٌ وَدَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو. وَسَبَبُ التَّلْبِيَةِ وَمَعْنَاهَا: عَلَى مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمُ اتَّخَذَ بَيْتًا وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَحُجُّوهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ أَكَمَةٍ، أَوْ تُرَابٍ، أَوْ شَيْءٍ، فَقَالُوا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " رَوَاهُ آدَمُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] قَالَ: نَادَى إِبْرَاهِيمُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْحَجِّ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، قَالُوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، فَمَنْ حَجَّ الْيَوْمَ فَقَدْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ. رَوَاهُمَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْهُ - أَيْضًا - قَالَ: " أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَامَ عَلَى الْمَقَامِ، فَتَطَاوَلَ حَتَّى صَارَ كَطُولِ الْجَبَلِ، فَنَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ مَرَّتَيْنِ، فَأَجَابُوهُ مِنْ تَحْتِ التُّخُومِ السَّبْعِ: لَبَّيْكَ أَجَبْنَا، لَبَّيْكَ أَطَعْنَا، فَمَنْ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ، فَوَقَرَتْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْهُ. وَعَنْهُ - أَيْضًا - قَالَ: " لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَامَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَمَّا أَذَّنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْحَجِّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، قَالَ: فَلَبَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ ". وَقِيلَ لِعَطَاءٍ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] إِبْرَاهِيمُ أَوْ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤْذِّنَ فِي النَّاسِ عَلَى الْمَقَامِ، فَنَادَى بِصَوْتٍ أَسْمَعَ مَنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، قَالَ: فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِنَّمَا يَحُجُّ الْيَوْمَ مَنْ أَجَابَ يَوْمَئِذٍ " رَوَاهُنَّ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ. وَأَمَّا اشْتِقَاقُهَا: فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ، وَلَبَّ - أَيْضًا - لُغَةٌ فِيهِ حَكَاهَا الْخَلِيلُ، وَالْمَعْنَى: وَأَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ وَلَازِمُهَا، لَا أَبْرَحُ عَنْهَا وَلَا أُفَارِقُهَا، أَوْ أَنَا لَازِمٌ لَكَ، وَمُتَعَلِّقٌ بِكَ لُزُومَ الْمُلِبِّ بِالْمَكَانِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِالْفِعْلِ اللَّازِمِ إِضْمَارُهُ، كَمَا قَالُوا: حَنَانَيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَدَوَالَيْكَ، وَالْيَاءُ فِيهِ لِلتَّثْنِيَةِ. وَأَصْلُ الْمَعْنَى: لَبَّيْتُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَبًّا بَعْدَ لَبٍّ، ثُمَّ صِيغَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّكْرَارُ وَالْمُدَاوَمَةُ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَكَقَوْلِ حُذَيْفَةَ: وَجَعَلَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ -: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي " وَيَقُولُ فِي الِاعْتِدَالِ: " لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لِرَبِّيَ الْحَمْدُ " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُكَرِّرُ هَذَا اللَّفْظَ. هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَتْ مُثَنَّاةً، وَأَنَّ الْيَاءَ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لَبَّى يُلَبِّي. وَالْأَجْوَدُ فِي اشْتِقَاقِهَا: أَنَّ جِمَاعَ هَذِهِ الْمَادَّةِ: هُوَ الْعَطْفُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِقْبَالُ إِلَيْهِ وَالتَّوَجُّهُ نَحْوَهُ، وَمِنْهُ اللَّبْلَابُ، وَهُوَ نَبْتٌ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، وَاللَّبْلَبَةُ: الرِّقَّةُ عَلَى الْوَلَدِ، وَلَبْلَبَتِ الشَّاةُ عَلَى وَلَدِهَا: إِذَا لَحِسَتْهُ وَأَسْلَبَتْ عَلَيْهِ حِينَ تَضَعُهُ، وَمِنْهُ لَبَّ بِالْمَكَانِ، وَأَلَبَّ بِهِ إِذَا لَزِمَهُ لِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ لَبٌّ وَلَبِيبٌ أَيْ لَازِمٌ لِلْأَمْرِ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ لَبٌّ طَبٌّ. قَالَ: لُبَابًا بِأَعْجَازِ الْمَطِيِّ لَاحِقًا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا فَيْئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي ... حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ وَامْرَأَةٌ لَبَّةٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّاسِ لَطِيفَةٌ، وَمِنْهُ اللَّبَّةُ وَهِيَ الْمَنْحَرُ، وَاللَّبَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ - أَيْضًا - عَلَى صَدْرِ النَّاقَةِ أَوِ الدَّابَّةِ يَمْنَعُ الرَّحْلَ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ. سُمِّي مُقَدَّمُ الْحَيَوَانِ لَبَبًا وَلَبَّةً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُقْبِلُ بِهِ وَيَتَوَجَّهُ. ثُمَّ قِيلَ: لَبَّبْتُ الرَّجُلَ تَلْبِيبًا إِذَا جَمَعْتَ ثِيَابَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ وَنَحْرِهِ فِي الْخُصُومَةِ ثُمَّ جَرَرْتَهُ؛ لِأَنَّ انْقِيَادَهُ وَاسْتِجَابَتَهُ تَكُونُ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَقَدْ تَلَبَّبَ إِذَا انْقَادَ. وَسُمِّيَ الْعَقْلُ لُبًّا: لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ فَيَتْبَعُهُ، فَلَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ لُبٌّ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لِلْحَقِّ وَيَتَّبِعَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ عَرَفَهُ وَعَصَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَا لُبٍّ، وَصَاحِبُهُ لَبِيبٌ. وَيُقَالُ: بَنَاتُ أَلْبُبٍ: عُرُوقٌ فِي الْقَلْبِ تَكُونُ مِنْهَا الرِّقَّةُ. وَقِيلَ لِأَعْرَابِيَّةٍ تُعَاقِبُ ابْنًا لَهَا: مَا لَكِ لَا تَدْعِينَ عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: تَأْبَى لَهُ ذَلِكَ بَنَاتُ أَلْبُبِي. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ: إِلَيْكُمْ ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ ... نَوَازِعُ مِنْ قَلْبٍ ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ إِنَّهُ مِنْ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعُ لُبٍّ، وَإِنَّمَا فُكَّ الْإِدْغَامُ لِلضَّرُورَةِ، فَالدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ يَطْلُبُ اسْتِجَابَةَ الْمَدْعُوِّ وَانْقِيَادَهُ، وَإِقْبَالَهُ إِلَيْهِ، وَتَوَجُّهَهُ نَحْوَهُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ: أَيْ قَدْ أَقْبَلْتُ إِلَيْكَ وَتَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ، وَانْقَدْتُ لَكَ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِقَامَةِ فَلَيْسَتْ مَلْحُوظَةً. وَالْمُسْتَحَبُّ فِي تَقْطِيعِهَا. . . . فَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا ثَلَاثًا، يَقُولُ فِي الثَّانِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، ثُمَّ يَبْتَدِي: لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ؛ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي ثَلَاثًا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ذَكَرَ أَنَّهُنَّ أَرْبَعٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُلَبِّي بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ [لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ]» " رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو. وَعَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْهُ. . . . وَالْمُسْتَحَبُّ كَسْرٌ إِنْ نُصَّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، فَإِذَا فُتِحَ كَانَ الْمَعْنَى: لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، أَوْ: بِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُوصَلَ أَنَّ بِالتَّلْبِيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ بِفَاعِلِهِ، وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ فِيهَا خُصُوصًا أَيْ لَبَّيْنَاكَ بِالْحَمْدِ لَكَ، أَوْ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَمْدَ لَكَ أَوْ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ. وَأَمَّا الْحَمْدُ فَلَا خُصُوصَ فِيهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا إِذَا كُسِرَ فَإِنَّهَا تَكُونُ جُمْلَةً مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، فَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ مُطْلَقَةً عَامَّةً، وَالْحَمْدُ مُطْلَقٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1]. (فَصْلٌ) وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ; لِأَنَّ أَصْحَابَهُ رَوَوْهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَبَيَّنُوا أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهَا. وَإِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهَا شَيْئًا فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ; لِأَنَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ الْأَفْضَلُ. فَإِنْ زَادَ شَيْئًا مِثْلَ قَوْلِهِ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ، أَوْ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَلَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، فَذَكَرَهَا، فَقِيلَ لَهُ: يُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: وَمَا بَأْسُ أَنْ يَزِيدَ؟ وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لَهُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَزِيدُهَا النَّاسُ فِي التَّلْبِيَةِ؟ فَقَالَ شَيْئًا مَعْنَاهُ الرُّخْصَةُ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ - فِي الرَّجُلِ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ كَلَامًا أَوْ دُعَاءً، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: كَانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ " فَتَرَكَهُ لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ. . . . وَعَنْ لَيْثٍ «عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " زَادَ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ الْمَرُّوذِيِّ فَيَنْظُرُ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ كَمَا ذَكَرَهُ جَابِرٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ. فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ أَحْيَانًا عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ زَادَ ابْنُ عُمَرَ الزِّيَادَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهُوَ مِنْ أَتْبَعِ النَّاسِ لِلسُّنَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ زَادَ: " لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ " رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ: " لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ ". وَعَنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ لَبَّيْكَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَأَمَّا مَا «رَوَى سَعْدٌ " أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَقُولُ ذَلِكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ: فَقَدْ حَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى ظَاهِرِهِ فِي أَنَّهُ أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ مِنْ حَالِ الْمُلَبِّي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ التَّلْبِيَةُ الْمَشْرُوعَةُ. وَقَدْ قِيلَ: لَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَرَكَ تَمَامَ التَّلْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ. وَلَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّلْبِيَةِ، سَوَاءٌ جَعَلَ الزِّيَادَةَ مُتَّصِلَةً بِالتَّلْبِيَةِ مِنْهَا أَمْ لَا، بَلْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ التَّلْبِيَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ -: لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَوْرَدَهَا عَلَى وَجْهِ الذِّكْرِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، لَا عَلَى أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى التَّشَهُّدِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ. لِأَنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّرْعِ مَنْصُوصًا مُؤَقَّتًا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ. فَأَمَّا إِنْ نَقَّصَ مِنَ التَّلْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ. . . وَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَةٍ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَلِأَنَّ الْمُلَبِّيَ قَدْ أَجَابَ اللَّهَ فِي دُعَائِهِ إِلَى حَجِّ بَيْتِهِ فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ جَزَاءً لَهُ.
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 591الى صــ 604 (38) وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ كُلِّ دُعَاءٍ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: إِنَّ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشْرَعُ عِنْدَ الْأَفْعَالِ، كَالذَّبْحِ وَالْعُطَاسِ وَالْإِحْرَامِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ أَنَّ زِيَادَةَ الدُّعَاءِ مِنْ جِنْسِ زِيَادَةِ الْكَلَامِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ استحباب الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها لغير النساء] مَسْأَلَةٌ: (وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِغَيْرِ النِّسَاءِ). وَذَلِكَ لِمَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ خَلَّادٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «كُنْ عَجَّاجًا ثَجَّاجًا» " وَالْعَجُّ التَّلْبِيَةُ، وَالثَّجُّ نَحْرُ الْبُدْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ " قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: " أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ " وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَالْعَجُّ: رَفْعُ الصَّوْتِ. يُقَالُ: قَدْ عَجَّ يَعِجُّ عَجِيجًا، وَلَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا تَابَعَ التَّصْوِيتَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ عَجَّاجًا، وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ يُكْثِرُ الْعَجِيجَ. وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي - وَفِي لَفْظٍ: وَمَنْ مَعِيَ - أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ - وَفِي لَفْظٍ -: بِالْإِهْلَالِ أَوِ التَّلْبِيَةِ، يُرِيدُ أَحَدَهُمَا». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: " «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي جِبْرِيلُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْإِهْلَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَبْلُغُوا الرَّوْحَاءَ حَتَّى تَبُحَّ أَصْوَاتُهُمْ ". وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ مِنَ الْجِبَالِ ". وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: " رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فِي الْمَسْجِدِ يُوقِظُ الْحَاجَّ وَيَقُولُ: قُومُوا فَلَبُّوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هِيَ زِينَةُ الْحَجِّ ". وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ: " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَكْثِرُوا مِنَ التَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْحَجِّ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ. . . . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، وَلَا يَتَحَامَلُ فِي ذَلِكَ بِأَشَدِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ كَالْأَذَانِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ: فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُسْمِعَ رَفِيقَتَهَا. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ -: تَجْهَرُ الْمَرْأَةُ بِالتَّلْبِيَةِ مَا تَسْمَعُ زَمِيلَتَهَا ; لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: " أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْفَعُ الصَّوْتَ بِالْإِهْلَالِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " يَرْفَعُ الرِّجَالُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُسْمِعُ نَفْسَهَا وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهَا: مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُحْرِمٍ يُضَحِّي لِلَّهِ يَوْمَهُ يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، إِلَّا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا وَسَائِرًا وَنَازِلًا وَطَاهِرًا وَجُنُبًا وَحَائِضًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ. [مَسْأَلَةٌ مواطن استحباب التلبية] مَسْأَلَةٌ: (وَهِيَ آكَدُ فِيمَا إِذَا عَلَا نَشْزًا، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا، أَوِ الْتَقَتِ الرِّفَاقُ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ). وَذَلِكَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ: قَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يُلَبُّونَ إِذَا هَبَطُوا وَادِيًا، أَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَكَمَةٍ، أَوْ لَقُوا رُكْبَانًا، وَبِالْأَسْحَارِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِي لَفْظٍ: " كُنْتُ أَحُجُّ مَعَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُلَبُّوا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَحِينَ يَلْقَى الرَّكْبَ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِذَا أَشْرَفُوا عَلَى أَكَمَةٍ، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، أَوِ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ " رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً، ثُمَّ أَهَّلَ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي فِي حَجَّتِهِ إِذَا لَقِيَ رَاكِبًا أَوْ عَلَا أَكَمَةً، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» ". وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا عَلَا عَلَى شَرَفٍ أَنْ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا أَنْ يُسَبِّحَهُ - فَالتَّلْبِيَةُ لِلْمُحْرِمِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الذِّكْرِ. وَلِأَنَّ الْبِقَاعَ إِذَا اخْتَلَفَتْ. . . . . وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِشْرَافِ: إِذَا عَلَا عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ السَّلَفِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَهَا بِذِكْرِ الرُّكُوبِ، سُئِلَ عَطَاءٌ: أَيَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ؟ قَالَ: يَبْدَأُ بِسُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مُخْتَصٌّ بِالرُّكُوبِ، فَيَفُوتُ بِفَوَاتِ سَبَبِهِ، بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا كَانَ يَشْتَغِلُ بِإِجَابَتِهِ عَنِ التَّلْبِيَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَوْكَدُ مِنَ التَّلْبِيَةِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]. وَأَمَّا إِذَا سَمِعَ مُلَبِّيًا. . . . وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا ; مِثْلَ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ، أَوْ يَلْبَسَ قَمِيصًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ ذَلِكَ سَيِّئَةٌ تُنْقِصُ الْإِحْرَامَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْبِعَهَا بِحَسَنَةٍ تَجْبُرُ الْإِحْرَامَ، وَلَا أَحْسَنَ فِيهِ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْإِحْرَامِ وَيَتَذَكَّرُهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ طَافَ فِي إِحْرَامِهِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَحِلُّ: أَكْثِرْ مِنَ التَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّ التَّلْبِيَةَ تَشُدُّ الْإِحْرَامَ. وَأَمَّا إِذَا الْتَقَتِ الرِّفَاقُ. . . . . فَأَمَّا الْقَافِلَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ إِلَى عِنْدِ بَعْضٍ. . . .، وَهَلْ يَبْدَأُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ. . . . . وَأَمَّا أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ، فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ. وَأَمَّا السَّحَرُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ، وَلِأَنَّهَا سَاعَةٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: فَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَمَعْنَى إِقْبَالِ النَّهَارِ. . . . وَلَمْ يَذْكُرِ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ أَبِي مُوسَى السَّحَرَ وَطَرَفَيِ النَّهَارِ. (فَصْلٌ) وَيَكْفِيهِ أَنْ يُلَبِّيَ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً ; بِحَيْثُ يَكُونُ دُعَاؤُهُ عَقِيبَ تِلْكَ الْمَرَّةِ. قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ بِهِ الْعَامَّةُ؛ يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: مَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ، قُلْتُ: أَلَيْسَ تُجْزِئُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: بَلَى. وَكَذَلِكَ - أَيْضًا - إِذَا لَبَّى لِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَحْصُلُ بِهَا سُنَّةُ التَّلْبِيَةِ ; بِحَيْثُ يَدْعُو بَعْدَهَا إِنْ أَحَبَّ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ لَمَّا عَلَا الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِهِنَّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ كَرَّرَهُنَّ فِي حَالَتِهِ تِلْكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَبَيَّنُوهُ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا لِيُغْفِلُوهُ وَيُهْمِلُوهُ، بَلْ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ قَالَ: " «أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ» " وَقَوْلُهُ: " «فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا مَا يَزِيدُ: كَالنَّصِّ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا لَبَّى بِهَذَا وَاحِدَةً. وَقَدْ قَالَ: " «أَرْبَعًا تَلَقَّنْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -.
__________________
|
#39
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 605الى صــ 619 (39) أَفَتَرَاهُ يَعُدُّ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ، وَلَا يَعُدُّ مَرَّاتِهَا؟ وَذِكْرُ عَدَدِهَا أَهَمُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ [إِلَّا بِذِكْرِهِ بِخِلَافِ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ] فَإِنَّ ذِكْرَهَا يُغْنِي عَنْ عَدِّهَا، وَكَذَلِكَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَكْرِيرٍ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ عَنِ السَّلَفِ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَكْرَارِهَا، فَإِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ. فَإِنْ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا ثَلَاثًا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ، بَلْ يَأْتِي بِهَا عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً عَنِ الصَّلَاةِ. وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ اسْتِدَامَتُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَرَّةٍ، وَتَكْرَارُهُ ثَلَاثًا حَسَنٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ: يُسَنُّ تَكْرَارُهَا بَعْدَ تَمَامِهَا ; لِأَجْلِ تَلَبُّسِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تُسْتَحَبَّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَفَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرَارِ: بِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ شِعَارُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، كَالْأَذَانِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ تُسْتَحَبَّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِثْلَهُمَا بِخِلَافِ التَّكْرَارِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ تَلَبُّسِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مَا لَمْ يَحِلَّ، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ تَكْرَارِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتُلِفَ فِي اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ - وَهُوَ عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ سَوَاءٌ. وَحَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ اسْتِدَامَتَهَا، وَتَكْرَارَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، كَمَا فِي التَّكْبِيرِ فِي الْعَشْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِهِ وَإِلْزَامُ الْمَأْمُورِينَ. (فَصْلٌ) قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا غَيْرُهَا مِنَ الْكَلَامِ لِيَأْتِيَ بِهَا نَسَقًا، فَإِنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ التَّلْبِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّمُهَا وَإِنْ لَمْ يَفْقَهْهَا. قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: وَالْأَعْجَمِيُّ وَالْأَعْجَمِيَّةُ إِذَا لَمْ يَفْقَهَا يُعَلَّمَانِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا وَبَرَّرَ لماى الْمَنَاسِكِ، وَيَشْهَدَانِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالنِّيَّةِ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ ذَلِكَ عَنْهُمَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّيَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى التَّلْبِيَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَعَلُّمِهَا ; لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، لَا سِيَّمَا وَالتَّلْبِيَةُ ذِكْرٌ مُؤَقَّتٌ، فَهِيَ بِالْأَذَانِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْخُطْبَةِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ الْخُطْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَالتَّلْبِيَةُ أَوْلَى. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ: فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّيَ بِلِسَانِهِ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مُنِعَ عَنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِأَنْ لَا يُحْسِنَهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَكُونَ أَخْرَسَ، أَوْ مَرِيضًا لَا يُطِيقُ الْكَلَامَ، أَوْ صَغِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: الْأَخْرَسُ وَالْمَرِيضُ وَالصَّبِيُّ: يُلَبِّي عَنْهُمْ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْجَهْرِ يُلَبَّى عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَابِرًا ذَكَرَ أَنَّهُمْ: كَانُوا يُلَبُّونَ عَنِ الصِّبْيَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّلْبِيَةِ. فَفِي مَعْنَى الصِّبْيَانِ كُلٌّ عَاجِزٌ؛ وَلِأَنَّ أُمُورَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ إِذَا عَجَزَ عَنْهَا، كَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِنَفْسِهِ لَبَّى عَنْهُ غَيْرُهُ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ لَبَّى عَنْ مَيِّتٍ أَوْ مَعْضُوبٍ إِنْ ذَكَرَهُ فِي التَّلْبِيَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ جَازَ. قَالَ أَصْحَابُنَا، الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ: وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهَا ; لِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ سُنَّةً كَسَائِرِ أَذْكَارِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَتُشْرَعُ التَّلْبِيَةُ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إِلَى الشُّرُوعِ فِي الْإِحْلَالِ، فَفِي الْحَجِّ يُلَبِّي إِلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِي الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْحَاجُّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُقْطَعُ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمُعْتَمِرِ -: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِرُؤْيَةِ الْبَيْتِ قَبْلَ الطَّوَافِ فَجَعَلَ هَذَا خِلَافًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ بِاسْتِلَامِهِ الْحِجْرِ، وَهَذَا أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوُصُولِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ إِذَا لَمَسَهُ لَا إِذَا رَآهُ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» " وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ» ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " أَفَضْتُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَفَضْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْهُ يُرْفَعُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُمْسِكُ عَنِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَفِي حَالِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. وَيُكْرَهُ إِظْهَارُ التَّلْبِيَةِ [فِي الْأَمْصَارِ وَالْحَلَلِ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: التَّلْبِيَةُ] إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ حَتَّى يَبْرُزَ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ -: إِذَا أَحْرَمَ فِي مِصْرِهِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ. وَفِي لَفْظٍ: يُلَبِّي الرَّجُلُ إِذَا وَارَى الْجُدْرَانُ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا يُعْجِبُنِي مِنَ الْمِصْرِ. وَحَمَلَ أَصْحَابُنَا قَوْلَهُ: عَلَى إِظْهَارِ التَّلْبِيَةِ وَإِعْلَانِهَا. وَعِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَا يُشْرَعُ ذَلِكَ، كَمَا قَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ; إِمَّا فِي الْكَرَاهَةِ، أَوْ فِي أَنَّ الْأَوْلَى تَرَكُهُ، وَذَلِكَ لِمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمَجْنُونٌ، لَيْسَتِ التَّلْبِيَةُ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا التَّلْبِيَةُ إِذَا بَرَزْتَ ". وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي: بِأَنَّ التَّلْبِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَإِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهِ لِمَنْ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ وَفِي أَمْصَارِ الْحَرَمِ؛ لِوُجُودِ الشُّرَكَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقِيمَ فِي مِصْرٍ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ وَلَا مُتَوَجِّهٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّلْبِيَةُ إِجَابَةُ الدَّاعِي، وَإِنَّمَا يُجِيبُهُ إِذَا شَرَعَ فِي السَّفَرِ. فَإِذَا فَارَقَ الْبُيُوتَ شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَيُجِيبُهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ يَحْتَمِلُ هَذَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَرَّ بِمِصْرٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ، لَبَّى مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهَا وَلَا إِظْهَارُهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا الْمَسَاجِدُ: فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ، وَمَسَاجِدُ الْأَمْصَارِ: هِيَ الْمَبْنِيَّةُ فِي الْمِصْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَهَا كَحُكْمِ الْمِصْرِ، وَأَوْلَى مِنْ حَيْثُ كُرِهَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهَا، لَا مِنْ إِظْهَارِهَا فِي مَسَاجِدِ الْحِلِّ وَأَمْصَارِهِ. فَعَلَى هَذَا: لِلْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مِثْلَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَنَحْوِهِ لَا يُظْهَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ. وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ خَاصَّةً وَالْمَأْمُومُ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَبْلِيغِ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ. فَيَبْقَى رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى. . . . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِهْلَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ بِذَلِكَ يُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ ; مِثْلَ مَسْجِدِ مِنًى، وَفِي مَسْجِدِ عَرَفَاتٍ، وَإِظْهَارُهَا فِي مَكَّةَ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الْمَنَاسِكِ. (فَصْلٌ) وَلَا بَأْسَ بِتَلْبِيَةِ الْحَلَالِ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: قَدْ يُلَبِّي الرَّجُلُ وَلَا يُحْرِمُ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: " أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ضَيْعَتِهِ الَّتِي دُونَ الْقَادِسِيَّةِ، فَلَقِيَ قَوْمًا يُلَبُّونَ عِنْدَ النَّجَفِ فَكَأَنَّهُمْ هَيَّجُوا أَشْوَاقَهُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ: " أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا لِلْحَلَالِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالتَّلْبِيَةِ يَعْلَمُهَا الرَّجُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ - فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ -: " «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا تَسْمِيَةُ مَا أَحْرَمُ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: " لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْطِقَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي تَلْبِيَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: " لَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ لَا يُسَمِّيَ بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ، يَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ نِيَّتُهُ إِنْ نَوَى حَجًّا فَهُوَ حَجٌّ، وَإِنْ نَوَى عُمْرَةً فَهُوَ عُمْرَةٌ ". وَعَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِهِ يُسَمِّي بِحَجٍّ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ " صَكَّ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَتُعْلِمُ اللَّهَ بِمَا فِي نَفْسِكَ ". وَعَنْهُ: " أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُتَكَلَّمُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالَ: أَتُنَبُّونَ اللَّهَ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ وَصَفُوا تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ مِثْلَ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، ذَكَرُوا أَنَّهُ لَبَّى، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي تَلْبِيَتِهِ ذِكْرَ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الْمُتْعَةَ فَقُلْ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي، وَأَعِنِّي عَلَيْهَا " تُسِرُّ ذَلِكَ فِي نَفْسِكَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَتَشْتَرِطُ عِنْدَ إِحْرَامِكَ، فَتَقُولُ: إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وَإِنْ شِئْتَ أَهْلَلْتَ عَلَى رَاحِلَتِكَ، وَذَكَرَ فِي الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً وَحَجًّا، فَقُلْ كَذَلِكَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُتْعَةِ وَالْإِفْرَادِ لَفْظَهُ فِي التَّلْبِيَةِ. فَقَدِ اسْتَحَبَّ أَنْ يُسَمِّيَ فِي تَلْبِيَتِهِ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ ; لِمَا رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ. فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعَوَّدْنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: " «قُلْ: عُمْرَةً وَحَجَّةً» "، وَفِي لَفْظٍ: " «عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» ". وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ النُّطْقَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ، وَبَعْدُ، وَفِيهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ: " «أَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ أَحَدٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثِ الصُّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ، وَسَمِعَهُ سَلْمَانُ وَزَيْدٌ وَهُوَ يُلَبِّي بِهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ: " هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إِنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَأَتْمِمْهُ، وَيُلَبِّي فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ تَمَامُهَا عَلَيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ إِلَى آخِرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الِاشْتِرَاطُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ - بَعْدَ التَّلْبِيَةِ -: إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. وَقَالَ - فِي الْقَارِنِ -: هُوَ كَالْمُفْرِدِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ - فِي تَلْبِيَتِهِ -: " لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ تَمَامُهَا عَلَيْكَ " بَعْدَ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ» ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ» ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ» " إِلَّا أَنَّ هَذَا يُقَالُ لِمَنْ نَوَى ذَلِكَ وَلِمَنْ يَعْلَمُ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ كَمَا يُقَالُ. . . .، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْوِي ذَلِكَ، وَكَانَ يُنْكِرُ اللَّفْظَ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ.
__________________
|
#40
|
||||
|
||||
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد
شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2) تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من صــ 5الى صــ 18 (40) [بَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ] [مَسْأَلَةٌ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ] [مَسْأَلَةٌ حَلْقُ الشَّعْرِ وَقَلْمُ الظُّفْرِ] مَسْأَلَةٌ: (وَهِيَ تِسْعٌ: حَلْقُ الشَّعْرِ، وَقَلْمُ الظُّفْرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَشْيَاءُ: فَمِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ: أَنْ يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ بِحَلْقٍ، أَوْ نَتْفٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ تَنُّورٍ، أَوْ إِحْرَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَالْبَدَنِ وَالْفَخْذِ الَّذِي يُسَنُّ إِزَالَتُهُ لِغَيْرِ الْحَرَامِ، كَشَعْرِ الْعَانَةِ وَالْإِبِطِ. وَالَّذِي لَا يُسَنُّ؛ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبِ وَالصَّدْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ ظُفْرِهِ. . .؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] فَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " التَّفَثُ: الدِّمَاءُ، وَالذَّبْحُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ وَالْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ، وَالْأَظْفَارِ، وَاللِّحْيَةِ ". وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الْحَلْقُ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ ". وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "الشَّعْرُ وَالْأَظْفَارُ " رَوَاهُنَّ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَعْنِي بِالتَّفَثِ: وَضْعَ إِحْرَامِهِمْ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "التَّفَثُ حَلْقُ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ " وَفِي رِوَايَةٍ: "حَلْقُ الرَّأْسِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَقَصُّ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ، وَالْأَظْفَارِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ ". فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ سَابِقٌ. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حُبَيْشِ بْنِ سِنْدِيٍّ - شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْإِبِطِ سَوَاءٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ إِزَالَةَ ذَلِكَ تَرَفُّهٌ وَتَنَعُّمٌ. [مَسْأَلَةٌ مقدار الفدية في الحلق أو التقليم] مَسْأَلَةٌ: (فَفِي ثَلَاثٍ مِنْهَا دَمٌ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا دُونَهَا مُدُّ طَعَامٍ، وَهُوَ رُبُعُ الصَّاعِ). وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَتَى أَزَالَ شَعْرَهُ أَوْ ظُفْرَهُ: فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا الْفِدْيَةُ: فَتَجِبُ فِيهِمَا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَجُوِّزَ لِمَنْ مَرِضَ فَاحْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الشَّعْرِ، أَوْ آذَاهُ قَمْلٌ بِرَأْسِهِ: أَنْ يَحْلِقَ وَيَفْتَدِي بِصِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ فَلِأَنْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْلَى. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: " «جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي خَاصَّةٍ وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةٌ حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أَرَى الْجُهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى! تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: " «أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: أَيُوذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكَ نَسِيكَةً لَا أَدْرِي بِأَيِّ ذَلِكَ بَدَأَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ قَمْلُهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَيُوذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يَهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ". وَلِمُسْلِمٍ: " «أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: كَأَنَّ هَوَامَّ رَأْسِكَ تُؤْذِيكَ؟ فَقُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: فَاحْلِقْهُ وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ - وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً» " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «احْلِقْ ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعِ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: " «فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: "احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوِ انْسُكْ شَاةً. فَحَلَقْتُ رَأْسِي ثُمَّ نَسَكْتُ» ". ثُمَّ الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ الدَّمَ وَمَا دُونَهُ: - أَمَّا مَا يُوجِبُ الدَّمَ: فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، إِحْدَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا فِي خَمْسِ شَعَرَاتٍ، وَخَمْسَةِ أَظْفَارٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَظْفَارَ الْخَمْسَةَ أَظْفَارُ يَدٍ كَامِلَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا كَمَالُ الْجَزَاءِ كَمَا يَتَعَلَّقُ كَمَالُ الْيَدِ بِخَمْسَةِ أَصَابِعَ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ نَاقِصٌ عَنِ الْكَمَالِ. وَإِذَا لَمْ تَجِبْ كَمَالُ الْفِدْيَةِ إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَصَابِعَ فَأَنْ لَا تَجِبَ إِلَّا فِي خَمْسِ شَعَرَاتٍ أَوْلَى. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا فِي أَرْبَعَةٍ فَصَاعِدًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ فَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ - قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: إِذَا نَتَفَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَسْتَكْثِرُ الدَّمَ فِي ثَلَاثٍ وَلَسْتُ أُوأَقِّتُ فَإِذَا نَتَفَ مُتَعَمِّدًا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَالنَّاسِي وَالْمُتَعَمِّدُ سَوَاءٌ. وَالثَّالِثَةُ: يَجِبُ فِي ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: إِذَا نَتَفَ الْمُحْرِمُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَهْرَاقَ لَهُنَّ دَمًا، فَإِذَا كَانَتْ شَعْرَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ كَانَ فِيهِمَا قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَالْأَظْفَارُ كَالشَّعْرِ فِي ذَلِكَ - وَأَوْلَى - فِيهَا الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ. قَالَ: فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي مُحْرِمٍ قَصَّ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ مِنْ يَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ عَطَاءٌ: فِي شَعْرَةٍ مُدٌّ، وَفِي شَعْرَتَانِ مُدَّانِ، وَفِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا دَمٌ، وَالْأَظْفَارُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ. وَلَوْ قَطَعَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَكَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَوَجَبَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِيهَا لَوْ قَطَعَهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ الدَّمُ فِي الثَّلَاثِ، أَوِ الْأَرْبَعِ، أَوِ الْخَمْسِ وَأَمَّا مَا لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَرِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ. إِحْدَاهُنَّ: فِي كُلِّ شَعْرَةٍ وَظُفْرٍ مُدٌّ، قَالَ: فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ إِذَا نَتَفَ شَعْرَةً أَطْعَمَ مُدًّا، وَهَذَا اخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا؛ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ؛ قَالَ: فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: إِذَا كَانَتْ شَعْرَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ: كَانَ فِيهِمَا قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ؛ ثُمَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: فِي كُلِّ شَعْرَةٍ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ: أَنَّ فِي الشَّعْرَتَيْنِ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ. وَالثَّالِثَةُ خَرَّجَهَا الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيمَنْ تَرَكَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ. وَكَذَلِكَ خَرَّجُوا فِي تَرْكِ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي مِنًى وَحَصَاةٍ مِنْ حَصَى الْجِمَارِ مَا فِي حَلْقِ شَعْرَةٍ وَظُفْرٍ، فَجَعَلُوا الْجَمِيعَ بَابًا وَاحِدًا، قَالُوا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الدَّمِ بِجَمِيعِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهِ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ. وُوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَتَقَدَّرُ بِالشَّرْعِ مِنَ الصَّدَقَاتِ: طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَطَعَامُ الْمِسْكِينِ مُدٌّ، فَعَلَى هَذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ مُدِّ بُرٍّ أَوْ نِصْفِ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هُنَا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنَ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا مُدٌّ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، أَوْ يُخْرِجَ ثُلُثَ شَاةٍ. وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ شَعْرَةٍ أَوْ ظُفْرٍ: فَفِيهِ مَا فِي جَمِيعِهَا فِي الْمَشْهُورِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجِبُ بِالْحِسَابِ. [مَسْأَلَةٌ ما آذى المحرم من الشعر في غير محله] مَسْأَلَةٌ: (وَإِنْ خَرَجَ فِي عَيْنِهِ شَعْرٌ فَقَلَعَهُ، أَوْ نَزَلَ شَعْرُهُ فَغَطَّى عَيْنَيْهِ، أَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَقَصَّهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ). وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْزِعَ ضِرْسَهُ إِذَا اشْتَكَى، وَلَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَقْطَعَ الْمُحْرِمُ ظُفْرَهُ إِذَا انْكَسَرَ " وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ، إِذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ يُقَلِّمُهُ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ الظُّفْرَ إِذَا انْكَسَرَ. . . . فَعَلَى هَذَا قَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ: يَقُصُّ مِنْهُ مَا انْكَسَرَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إِنِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَقَصَّهُ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الِانْكِسَارُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ. وَأَمَّا الشَّعْرُ إِذَا خَرَجَ فِي عَيْنِهِ وَآلَمَهُ: فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَدَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا نَزَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ شَعْرٌ خَاصَّةً رَأْسَهُ. . . فَإِنَّهُ يَقُصُّ مِنْهُ مَا نَزَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ. (فَصْلٌ) وَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْلِقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ الْحَلَالِ، وَيُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ لِحَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ، أَوْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَذِنَ الْمَحْلُوقُ: فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِقِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْحَلَالُ بِالْمُحْرِمِ - وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ - فَقَرَارُ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَالِقِ. وَهَلْ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُمَا. [مَسْأَلَةٌ لبس المخيط] مَسْأَلَةٌ: (الثَّالِثُ: لَبِسَ الْمَخِيطَ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ إِزَارًا فَيَلْبَسَ سَرَاوِيلَ، أَوْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَيَلْبَسَ خُفَّيْنِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. فِي هَذَا الْكَلَامِ فَصْلَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْبَسَ عَلَى بَدَنِهِ الْمَخِيطَ الْمَصْنُوعَ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ؛ مِثْلَ الْقَمِيصِ وَالْفَرُّوجِ وَالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْخُفِّ وَالْبُرْنُسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ عَلَى مِقْدَارِ الْعُضْوِ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مِثْلُ أَنْ يَنْسِجَ نَسْجًا، أَوْ يَلْصِقَ بِلُصُوقٍ، أَوْ يَرْبِطَ بِخُيُوطٍ، أَوْ يُخَلِّلَ بِخِلَالٍ أَوْ يَزِرَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُوَصَلُ بِهِ الثَّوْبُ الْمُقَطَّعُ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَخِيطِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَخِيطِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْمَخِيطُ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ. فَأَمَّا إِنْ خُيِّطَ، أَوْ وُصِلَ لَا لِيُحِيطَ بِالْعُضْوِ وَيَكُونُ عَلَى قَدْرِهِ مِثْلَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ الْمُوَصَّلِ وَالْمُرَقَّعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ هُوَ اللِّبَاسُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَدْرِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ اللِّبَاسُ الْمَخِيطُ بِالْأَعْضَاءِ وَاللِّبَاسُ الْمُعَادُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: "لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «رَجُلًا نَادَى يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: "لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَلَا الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَيَجْعَلْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ». وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ - عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ إِذَا أَحْرَمُوا عَمَّا يُكْرَهُ لَهُمْ -: "لَا تَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ وَلَا الْقُمُصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّ مُضْطَرٌّ فَيَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَلَا الزَّعْفَرَانُ " قَالَ: "وَسَمِعْتُهُ يَنْهَى النِّسَاءَ عَنِ الْقُفَّازِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ» " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ - أَيْضًا - بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَنْهَى النِّسَاءَ فِي الْإِحْرَامِ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مُعَصْفَرًا، أَوْ خَزًّا أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَرَاوِيلًا، أَوْ قَمِيصًا» ". قَالَ: أَبُو دَاوُدَ - وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ -: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَبْدَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: " «وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ» " لَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |