الإمام الشافعي ناصر السنة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 183 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28422 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60027 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 812 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-09-2022, 09:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي الإمام الشافعي ناصر السنة

الإمام الشافعي ناصر السنة (1)
عبدالله ميزر الزوين


(ما أحد مس محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة)؛ الإمام أحمد بن حنبل.

من الصعب الحديث عن العظيم؛ لأنك إذا استوفيت جانبًا من حياته، فاتتك جوانب، والإمام الشافعي كان واحدًا من أولئك القلة الذين خلدت أسماؤهم على وجه الدهر بعلمهم واجتهادهم وتقواهم، فالشافعي وأمثاله أقمار ساطعة تنير الطريق للسالكين، لقد كان الشافعي منذ صغره حتى وفاته بحرًا للعلم وناصرًا للسنة، تلقى علم المكيين كسفيان بن عيينة، والمدنيين كالإمام مالك، والعراقيين كمحمد بن الحسن، ثم راح يميز بين صحيحها وضعيفها، ويؤصل الأصول، ويقعِّد القواعد، ولقد جعل الشافعي الحديث أساسًا لاجتهاده، ولم يهمل القياس الصحيح، ولذلك لما سئل الإمام أحمد عنه قال: (حديث صحيح ورأي صحيح)، وما أنا بصدد سرد حياة الشافعي سردًا تاريخيًّا، فقد ألَّف فيه كثيرون، ومنهم داود بن علي الظاهري وابن أبي حاتم، والحاكم النيسابوري والحافظ البيهقي، والنووي وابن حجر، وفي العصر الحديث محمد أبي زهرة وعبدالغني الدقر، وإنما أريد سرد سيرته سردًا سريعًا مستخلصًا منها الفوائد والعبر والنفائس والدرر.

نسبه: هو الإمام الحبر المجتهد أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي، والمطلب هو أخو هاشم جدُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نسب الشافعي أربعة أجداد في عداد الصحابة هم: عبد يزيد بن هاشم، وولده عبيد، وولد عبيد السائب، وولد السائب شافع، وانظر الإصابة لابن حجر (2-424)، وأما أمه فهي أزدية على الصحيح، وكانت من أذكى الخلق فطرةً، والشافعي من بني المطلب كما سلف، وبنو المطلب من آل البيت على الصحيح؛ لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)؛ رواه الشيخان، وكفى بهذا الحديث دليلًا على أن بني المطلب من آل البيت، فاجتمع للشافعي شرف النسب وشرف العمل.

ولادته: في آخر يوم من رجب سنة مائة وخمسين وُلِدَ الشافعي رحمه الله، وهي ذات السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة، واختلف المؤرخون في مكان ولادته على أربعة أقوال ذكرها ابن العماد في الشذرات، وأصحها أنه ولد في غزة وهي مدينة في فلسطين، وروي عنه بطريق صحيح أنه وُلد بعسقلان، ولا تنافي بينه وبين ما رجحناه، فإن عسقلان وغزة إقليم واحد كما أفاده الشيخ عبدالغني الدقر.

نشأته وطلبه للعلم: ولد الشافعي يتيمًا في غزة، ولَما أتَم السنتين عادت به أمُّه إلى مكة موطن آبائه، كما في الشذرات، وهكذا نشأ الشافعي في مكة نشأة اليتامى والفقراء، حتى ما كان يجد ثمن قرطاس يكتب عليه، ولكن عزيمته غلبت فقره ونبوغه قهر حاجته، فأراد التوجه إلى الكتاب (معلم يعلم القراءة والكتابة)، ولكن أمه لم يكن معها أجرة المعلم، فرضي المعلم من الشافعي أن يخلفه إذا قام، فيعلم الصبيان حتى يأتي كما في صفة الصفوة، وما كان المعلم ليرضى بهذا لولا نجابة عظيمة رآها من هذا الطفل، واستمر في الكتاب حتى حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين؛ كما في شذرات الذهب، وهذا لا شك نبوغ عظيم، وهذه القدوة الصالحة هي التي يجب أن نصرف وجوه الأطفال والشباب إليها طفل فقير يتيم يحفظ كتاب الله كاملًا، وهو ما يزال في السابعة!

وبعد حفظه للقرآن اتَّجه إلى المسجد الحرام يسمع علماءه بشغف شديد وذهن حاد، ولقد بدأ الطلب في ضيق من العيش، ولم يجد ثمن الورق لشدة فاقته، فكتب على العظام وأكتاف الجمال؛ كما روى ابن أبي حاتم ولقد ظل يسمع العلم ويدوِّنه، حتى حفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين؛ كما في توالي التأسيس، فأي ذكاء هذا؟ وأي همة هذه؟

طفل يتيم في العاشرة به من الفقر ما الله به عليم يحفَظ كتاب الله تعالى وكتاب "الموطأ"، وهو من أهم كتب الحديث، ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وهذه الهمة العالية يجب أن تكون لدى كل شاب مسلم، لا يمل من العلم ولا يكتفي بقليله، وهكذا يجب أن يكون لكل شاب مسلم هدف نبيل يسعى إليه، كما كان للشافعي هدف سعى إليه بهمة ونشاط، حتى بلغ هذه المرتبة وهو في العاشرة.

وفي هذه الفترة لازم الشافعي المحدث الشهير سفيان بن عيينة، وكتب حديثه كما لازم مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي وغيرهم، وفيها لازم هذيلًا، وهي قبيله عربية أعرقت في الشعر كما في "تاج العروس"، وكانت ديارهم حوالَي مكة؛ كما يقول ابن حزم في "الجمهرة": فتعلَّم عندهم العربية الفصيحة، وحافظ على سليقته وحماها من اللحن الذي كان منتشرًا في العصر العباسي، وحفِظ بحافظته المعتادة معظمَ شعر الهذليين وفهِمه، مما كان له أكبر الأثر على فصاحته وفهمه للشريعة، كما تجد ذلك في الرسالة واضحًا، وهنا درس جديد نتعلمه من الشافعي وحياته وهو أهمية الاعتناء باللغة العربية، وتعلُّم مباحثها المختلفة من فصاحة وبلاغة ونحو وصرف، وغير ذلك، فإن الشافعي ساعده علمه باللغة والشعر الفصيح على فهْم الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا، وهذا مطلوب كل مسلم.

عياله: تزوج الشافعي من حمدة بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه كما في الانتقاء لابن عبدالبر، وقدر عبدالغني الدقر تاريخ زواجه بعودته من عند مالك، وعلى هذا يكون عمره قرابة الثلاثين، وكان له ولدان وبنت وهم:
أبو عثمان محمد بن محمد سمع من أبيه ومن أحمد بن حنبل، ووَلِيَ قضاء الجزيرة وحلب ومات بعد سنة أربعين ومائتين، كما ذكر ياقوت الحموي في "معجم الأدباء".

وأما الولد الثاني فهو أبو الحسن محمد أيضًا، ولي قضاء قنسرين والعواصم كما في "الجمهرة"، ومات سنة إحدى وثلاثين ومائتين كما في "الطبقات الكبرى" للسبكي.

وله ابنة اسمها زينب أنجبت ولدًا إمامًا اسمه أحمد بن محمد بن عبدالله، وكان إمامًا مبرَّزًا كما يقول النووي.

الشافعي والرحلة: كانت الرحلة عند علماء الإسلام مفتاحًا للتبحر في العلوم والوصول إلى الحق، وكانوا يسيرون المسافات الشاسعة طلبًا للحديث والعلم، وما يبلون بالصحاري الواسعات، بل ربما كانوا يسيرون الليالي طلبًا لحديث واحد، حتى إن جابرًا رضي الله عنه قطع مسيرة شهر طلبًا لحديث واحد، وهكذا رحل كبار العلماء في كل عصر إلى بلاد كثيرة ناهلين من مَعين العلم، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام الكبير البخاري، ولقد رحل الشافعي في حياته خمس رحلات إلى المدينة واليمن والعراق مرتين، ومصر وفيها توفي.

وفي مقال قادم إن شاء الله نكمل ما تبقى من حياة الشافعي، ونسرد رحلاته الخمسة مع وفاته مستخلصين منها الدروسَ والعبر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


المصادر والمراجع:
1- توالي التأسيس.
2- طبقات السبكي.
3- معجم الأدباء.
4- الشافعي فقيه السنة الأكبر للدقر.
5- الشافعي آراؤه وفقهه محمد أبي زهرة.
6- الانتقاء ابن عبدالبر.
7- صفة الصفوة لابن الجوزي.
8- حلية الأولياء لأبي نعيم.
9- صحيح البخاري.
10- صحيح مسلم.
11- شذرات الذهب لابن العماد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-09-2022, 09:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإمام الشافعي ناصر السنة

الإمام الشافعي ناصر السنة (2)
عبدالله ميزر الزوين


رحلته إلى المدينة: قال عبدالغني الدقر في كتابه (الشافعي) ص67: (التهم الشافعي معظم ما في مكة من علم فأخذ عن الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وروى عن سفيان بن عيينة علم الحجا) الى آخر كلامه.

إذًا لقد نال الشافعي علم مكة وعليه أن يرحل إلى المدينة موئل الفضلاء ومنزل العلماء، والمدينة أجل بلد حافظ على الطابع الإسلامي، ولم تصدر منه بدعة قط؛ يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها مَن هو مُضمر لذلك، فكان عندهم مهانًا مذمومًا).

رحل الشافعي إلى المدينة لأخذ العلم على الإمام مالك بن أنس وعمره ثلاث عشرة سنة على الراجح، وكان مع الشافعي كتاب من والي مكة إلى والي المدينة، ثم إلى مالك يوصي بالشافعي، وكان مالك مهيبًا يهابه الأمراء، فلما رأى والي المدينة الكتاب قال: (إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيًا راجلًا، أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف ببابه).

ولَما قرأ مالك الكتاب غضب وقال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالرسائل، فكلَّمه الشافعي كلامًا حسنًا، وكان لمالك فراسة، فقال للشافعي: (يا محمد، اتَّق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن)، ثم وافق مالك وقرأ الشافعي الموطأ على مالك في أيام يسيرة، وأعجب مالك بقراءته وإعرابه، وبَقِيَ الشافعي في المدينة حتى توفِّي مالك سنة 179 للهجرة، وهذا يعني أنه بقي ستة عشر عامًا عند مالك، وجمع ما عنده من حديث وفقه واجتهاد، بل جمع كل ما في المدينة من علم؛ يقول مصعب الزبيري عن الشافعي: (فما ترك عند مالك بن أنس من العلم إلا الأقل، ولا عند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمَعه)، وهذا القول ورد في معجم الأدباء لياقوت الحموي.

وعندما نقرأ هذه الرحلة لا نكتفي بالسرد التاريخي، بل لا بد من التدبر والتمعن، وحينها نستفيد أشياء عظيمة؛ منها: مكانة علماء المدينة، وأن العلم لا يأتي إلا بالجهد والمثابرة والتعب، ومنها عدم التعصب للمذاهب الفقهية؛ لأن الشافعي كان يستطيع أن يكتفي بكونه فقيهًا مكيَّ المذهب، ولكنه تعِب واجتهد، وبقِي ستة عشر عامًا في المدينة يتعلم ويصابر ليصل إلى الحق؛ لأن الحق والصواب واحد لا يتعدد، كما نص على ذلك الأئمة رحمهم الله.

رحلته إلى اليمن: عاد الشافعي من المدينة سنة 179 للهجرة، والظاهر أنه بقي فترة في مكة، ثم قدم حماد البربري والي اليمن إلى مكة، فكلمه بعض القرشيين في أن يصطحب الشافعي معه إلى اليمن، لعله يجد له عملًا، ويظهر من مجموع الروايات أن الذي كلم الوالي هو مصعب الزبيري، وبالفعل اصطحب الوالي الشافعي إلى اليمن، وعمل في البداية عملًا صغيرًا، فأُعجب الناس بإتقانه وحمدوه وشُهِر بينهم، حتى وصل الثناء عليه إلى مكة، وهكذا يجب أن يكون التقي المستقيم لا يستهين بمصالح الناس مهما كانت صغيرة، بل يقوم بعمله على أكمل وجه وأحسن أداء، وبعد هذا الإتقان زاد له الوالي فولاه نجران كما في توالي التأسيس، وهنا وقع أول اختبار لتقوى الشافعي، فقد كان في نجران قوم من أهل الظلم والتعدي على حقوق الناس، فأرادوا أن يصانعوه كما صانَعوا من قبله، فرفض ورد جميع المظالم إلى أهلها، فبدأ القوم في التآمر مع الوالي حماد البربري، وكان ظالِمًا على الشافعي حتى دبَّروا له مكيدة كادت تودي به لولا حفظُ الله، وأرسل الوالي إلى الرشيد يتهم الشافعي بمحاولة الخروج على الرشيد مع تسعة من العلوية (أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وهنا درس جديد نتعلمه من حياة الشافعي، وهو أن المسلم يجب ألا يخاف في الله لومة لائم، ويجب أن يقيم العدل والقسط، رضِي مَن رضي، وسخِط مَن سخط كما فعل الشافعي، فهو حكم بالتقوى والعدل بلا خوف من أحد؛ لأنه يعلم أن من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس.

مِحنته:
حُمل الشافعي سنة 184 للهجرة إلى بغداد مكبلًا بالحديد بتهمة الخروج على الرشيد - وقل من ينجو إذا اتهم بهذه التهمة - ولَما وصل لزم باب الخليفة - يعني بقي ببغداد رهن الطلب - ولكنه ما رضي بالانتظار فقط، بل راح يتزود من العلم ويطلع على علم أهل الرأي، وفي هذه الفترة العصيبة لزم محمد بن الحسن - إمام أهل الرأي كما نعته الخطيب البغدادي - وكتب كتبه، فأي روح هذه! وأي صبر هذا! رجل متهم بتُهمة مصيرها القتل، ومع ذلك انصرف يتزود من العلوم وهو واثق من أن الله لن يضيِّعه.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم ♦♦♦ إن التشبه بالكرام صلاح
وبفضل صدقه وعلمه، فرَّج الله عنه محنته، روى أبو نعيم أن الشافعي تناظر مع محمد بن الحسن في بحث اليمين والشاهد ومباحث كثيرة، فعلت حجة الشافعي ومدح أهل المدينة بأسلوب جميل، وكان الرشيد قد عيَّن رجلًا يكتب ألفاظ الشافعي؛ ليرى مدى علمه، فأعجب الرشيد بعلمه وقال: (ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلم من محمد بن الحسن).

ورضِي عنه وأمَر له بخمسمائة دينار، وزاد له هرثمة بن أعين - أحد القادة الشجعان - خمسمائة أخرة، فصارت ألفًا، وهكذا نجا الشافعي من هذه المحنة التي كادت تودي بحياته، وهنا نتعلم درسًا جديدًا هو فضل العلم، وكيف أن علم الشافعي أنجاه من هذه المحنة التي قلَّ مَن ينجو منها، وكفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح إذا نُسب إليه؛ كما قال الشافعي؛ (انظر مقدمة الديوان المجموع للشافعي).

وبقي الشافعي في العراق بعد نجاته يتزود من العلم مدة طويلة، قدَّرها عبدالغني الدقر بخمس سنوات، جمع خلالها علم العراق وقفل عائدًا إلى مكة ينشُر ما في جَعبته من علم الحرمين والعراق واليمن، وراح ينظر فيها ليستخلص منها الحق والصواب، وهنا اتَّجه إلى الاجتهاد المطلق مقارنًا بين علم الأمصار، مختارًا أقواه حجةً، وأقربه إلى الكتاب والسنة بعقل فذٍّ وتعصُّب للحق وحده، لا للمذاهب والآراء.

عودته إلى مكة:
عاد الشافعي إلى مكة سنة 189 للهجرة إلى مكة جامعًا علم الأولين والآخرين من الفقهاء والمحدثين، وراح يؤصل الأصول ويقعِّد القواعد، ويتجه إلى الاجتهاد المطلق كما سلف، واتخذ حلقة في المسجد الحرام ينشر فيه فيها علمه واجتهاده، فجلس إليه كثيرٌ من ذوي المكانة الرفيعة يستمعون منه ويصغون إليه، ويأتيهم بجديد من علم الأصول والكليات، حتى شهِدوا له بالتفوق العلمي والعقلي، ومن هؤلاء إمام السنة أحمد بن حنبل الذي كان يترك مجالس الرواية، ويأتي إلى العالم الجديد الشافعي يسمع منه أصولًا وقواعدَ تدل على سَعة علم وعميق فَهمٍ، جاء في صفة الصفوة عن إسحاق بن راهويه قال: (كنت مع أحمد بمكة فقال لي: تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي)، بل حتى أعداء السنة شهدوا للشافعي بالتفوق والعقل، ومنهم الجهمي القدري بشر المريسي الذي قال عن الشافعي فيما رواه معجم الأدباء: (معه نصف عقل أهل الدنيا)، وهكذا ذاع صيت الشافعي وحلقته، وما يثار فيها من مباحث جديدة وعلوم مفيدة، حتى وصل إلى العراق، فكلف الحافظ الكبير عبدالرحمن بن مهدي من الشافعي الشاب أن يؤلِّف له كتابًا فيه معاني القرآن وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، فألف الشافعي الرسالة كما في معجم الأدباء.

فانظر إلى هذه المكانة العلمية التي وصل إليها الشافعي وهو شاب، وكيف وضع الرسالة أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، وكيف استنبط هذه الأصول العظيمة وهو شاب، وبطلب من أحد أكابر الحفاظ، وشباب اليوم تجده في الأربعين وما يزال يندمج مع أفلام الكرتون؟

تأليفه للرسالة: تقدم أن عبدالرحمن بن مهدي طلب من الشافعي كتابًا في الأصول، فألف له الشافعي كتاب الرسالة، ورد في الانتقاء عن علي بن المديني أنه قال: (قلت للشافعي أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابك، فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك)، قال فأجابه الشافعي وكتب كتاب الرسالة وهو لم يسمِّه بهذا الاسم، وإنما سُمِّي كذلك؛ لأنه أرسلها إلى ابن مهدي ونقلها الحارث بن سريج، فسُمي النقال والرسالة، وبلا شك هو أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، فالشافعي هو أول من أنشأ علم الأصول ودوَّنه بوصفه علمًا مستقلًّا، ولقد أجمع العلماء والفقهاء -كما يقول الدقر - على أن الشافعي أول من أنشأ علم الأصول.

يقول الزركشي في البحر المحيط: (الشافعي أول مَن صنَّف في أصول الفقه، صنَّف فيه كتاب الرسالة وكتاب أحكام القرآن) إلى آخر كلامه.

ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان: (الشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه).

ويقول الإسنوي: (الشافعي أول من صنف في أصول الفقه بإجماع، وأول من قرر ناسخ الحديث من منسوخه).

وجاء في معجم الأدباء عن الإمام أحمد أنه قال: (ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي).

ويقول ابن عثيمين في الأصول من علم الأصول: (أول مَن جمعه كفنٍّ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله، ثم تابعه العلماء في ذلك).

فأنت ترى بإجماع أن الشافعي أول من وضع علم أصول الفقه، وألَّف فيه كتابه العظيم الرسالة الذي ما زال الناس ينتفعون به في كل عصر ومصر، والرسالة أُلِّفت مرتين، الأولى في مكة وهي العراقية أو القديمة، والثانية في مصر وهي المصرية أو الجديدة، وهي المطبوعة والموجودة اليوم، وأما القديمة ففُقدت منذ زمن كما يقول الدقر، وتجد منها نصوصًا في كتب ابن القيم وابن الصلاح وغيرهما.

فانظر رحمك الله كيف استنبط الشافعي هذا العلم العظيم الذي هو حاكم كل فن وهو شاب، وكيف ألَّف الرسالة وهو في سن مبكرة، واجعلوا يا شباب الأمة الشافعي وأمثاله قدوة لكم في العلم والعمل، وابتعدوا عن اللغو والباطل وعن كل ما لا يفيد، واهتموا رحمكم الله بمعالي الأمور واتركوا سفسافها.

رحلته الثانية إلى العراق:
رحل الشافعي مختارًا إلى بغداد سنة 195 للهجرة، والغالب كما يقول الدقر أن سبب الرحلة سبب علمي، فالشافعي يعرف بغداد وما فيها من علم، ويعرف المناظرات الدائمة ببن أهل الحديث وأهل الرأي، وقد أتى هذه المرة؛ ليعلن اجتهاده والطريق ممهدة له من جهة المحدثين، فقد جاء ينصر السنة ويدعم أهلها، ونزل حين أتى بغداد على أبي حسان الزيادي، وقيل: على الزعفراني كما في توالي التأسيس، ثم توجه الشافعي إلى الجامع الغربي، وفيه تعقد مجالس العلم، وراح يعرض أصوله وقواعده وموارد فقهه، فجلس إليه العلماء والمتعلمون بعضهم ممتحنًا لعلمه وبعضهم ساخرًا من المتفقه الجديد على حد زعمه، ورجع كثيرٌ من الناس عن مذاهبهم، وأذعنوا لقول الشافعي المؤيد بقوة الدليل وحسن البيان، ومن هؤلاء أبو ثور الذي قال: (كنت أنا وإسحاق بن راهويه وجماعة من العراقيين - ما تركتنا بدعتنا حتى جالسنا الشافعي)، وهذا القول رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، واستمر الشافعي يبهر الناس كلَّ يوم بجديد من فَهْم الكتاب والسنة، حتى أقر العلماء بفضله، وظهر أمره بين الناس، وانفكت أكثر حلقات المخالفين كما يقول إبراهيم الحربي، ولا ريب أن أكثر الناس استفادة منه في هذه الرحلة هم أهل الحديث، فقد ترك فيهم أثرًا عظيمًا جعلهم يثنون عليه بمختلف العبارات ولقبوه ناصر الحديث؛ كما في شذرات الذهب، فهم رأوا في الشافعي رجلًا واسع الفهم لكتاب الله، عميق الفهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذها من كبار المحدثين كالإمام مالك، والأهم أنه مهما يؤصل من أصل، أو يفرع من فرع يطرحه كله عندما تثبت السنة بخلافه، ولقد أثنى عليه أهل الحديث بكلمات كثيرة؛ منها ما قاله إمام السنة أحمد بن حنبل: (لولا الشافعي ما عرَفنا فقه الحديث)، وقال أحمد: (كان الفقه قفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي)، وقال الحسن الزعفراني: (كان أصحاب الحديث رقودًا، فأيقظهم الشافعي فتيقظوا).

وبالجملة فقد أقبل المحدثون والفقهاء المنصفون على الشافعي إقبالًا منقطع النظير وأحبوه حبًّا، لم ينل بعضه عالم كما يقول الدقر، وعكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم؛ كما يقول النووي في التهذيب.

وألَّف في هذه الفترة كتاب الحجة وهو كما في كشف الظنون: (مجلد ضخم ألفه بالعراق، وإذا أطلق القديم في مذهبه يراد به هذا التصنيف)، وهكذا بقي عامين في العراق ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله المخالف والموافق، ثم قفل عائدًا إلى مكة سنة 197 للهجرة، ولزم حلقته في المسجد الحرام يبث علمه وينشر أصوله، ومن هذه الرحلة نتعلم فوائد عديدة؛ منها: أهمية التمحيص في المسائل والأدلة حتى الوصول إلى الحق الموافق للسنة، فالشافعي ما ارتفع قدره إلا باتباعه للسنة وطرحه ما خالفها، ومنها الإقرار بالفضل لصاحبه، فأنت ترى كيف أقر أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد بفضل الشافعي عليهم، وفتحه لهم الأقفال، وبالفعل كانت هذه الرحلة أنفع رحلة وأجداها على الشافعي وعلى الناس؛ كما قال الشيخ عبدالغني الدقر.

رحلته إلى مصر:
عاد الشافعي إلى مكة وبقِي فيها فترة تجاوز السنة تخلَّلتها رحلة قصيرة إلى العراق دامت أشهرًا؛ كما في توالي التأسيس، وليس فيها جديد على الساحة العلمية، وفي عام 199 للهجرة رحل الشافعي إلى مصر بعد دعوة وجَّهها له العباس بن عبدالله بن العباس والي مصر؛ كما في معجم الأدباء، ونزل أولًا على أخواله الأزد، ثم على الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم الذي بلغ الغاية في إكرامه، وظل الإمام عنده حتى توفي، وفي هذه الرحلة أعاد النظر في كتبه، فجدد تأليف الرسالة، وألَّف كتاب الأم بدل الحجة، وإذا قيل: القديم في المذهب الشافعي، فإنما يراد به الحجة، وإذا قيل: الجديد، فالمقصود الأم، والمذهب الجديد المجموع في كتاب الأم، هو المعتمد عند السادة الشافعية، إلا في بضع عشرة مسألة اعتمدوا فيها القديم، وألَّف في مصر كتبًا لم يُسبق إليها كما يقول النووي؛ منها: كتاب الجزية وقتال أهل البغي وغيرها، ولم يبدل في مصر جميع أقواله، وإنما بدَّل بعضها ولا ضير عليه في ذلك، فالعالم المجتهد يدور مع الدليل حيث دار، والأئمة الثلاثة أحمد ومالك وأبو حنيفة كثيرًا ما بدلوا آراءهم عندما ثبت لهم سنة بخلافها.

ولقد كانت حلقته في مصر من العجائب في تنوُّع علومها، فقد كان يجلس في الحلقة بعد صلاة الفجر، فيختلف إليه التلاميذ من كل صنفٍ، يتقدمهم أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس جاء أهل الحديث، فإذا ارتفعت جاء أهل المذاكرة، وانظر فإذا ارتفع الضحى جاء أهل العربية والشعر، ثم ينصرف الشافعي؛ كما جاء في معجم الأدباء نقلًا عن الربيع المرادي.

ولقد ظل الشافعي ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله العلماء، وأخذوا عنه علمه، وأثنوْا عليه بما هو أهله؛ يقول الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم: (ما رأيت مثل الشافعي، وما رأيت رجلًا أحسن استنباطًا منه).

ويقول النووي في التهذيب عن رحلته هذه: (وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من سائر النواحي والأقطار للتفقه عليه، وساد أهل مصر وغيرهم).

ولقد ترك الشافعي في مصر تلاميذَ كُثرًا نشروا علمه ومذهبه؛ منهم الربيع راوية كتبه والمزني والبويطي، وفي مرض موته استخلف على حلقته يوسف بن يحيى البويطي معلمًا وناشرًا للمذهب، وقال كما في طبقات السبكي: (ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف - هو البويطي - وليس أحد من أصحابي أعلم منه).

ولقد كان البويطي إمامًا جليلًا توفِّي في محنة خلق القرآن سنة 231 للهجرة كما في طبقات السبكي، وفي هذه الرحلة رابط الشافعي في ثغر الإسنكدرية، فقد كان يصلي الصلوات الخمس، ثم يخرج إلى المحرس، فيستقبل البحر بوجهه وهو جالس يقرأ القرآن؛ كما في توالي التأسيس، ومن هذه الرحلة نتعلم أشياءَ كثيرة؛ منها:
أن التقي لا يرى حرجًا في تبديل بعض أقواله إذا خالفت الأدلة؛ كما فعل الشافعي حين أعاد النظر في كتبه، ومنها أن العلم لا يُمكن أن ينفك عن العمل، فالشافعي لم يكتف بإملاء الوعظ على الناس فقظ، بل خرج بنفسه ورابَط في الثغر، بالرغم من أوجاعه، ولقد أحسن القائل:
وعالم بعلمه لم يَعمَلنْ ♦♦♦ معذَّبٌ مِن قبلُ عبَّاد الوَثَنْ

مرضه ووفاته:
ظهرت علة البواسير في الشافعي خلال فترة إقامته في مصر، والباسور ورم في باطن المقعدة؛ كما في فتح الباري، وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف، وكان لا يبرح الطست تحته من شدة النزيف، ورد في التهذيب عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال: (ما رأيت أحدًا لَقِيَ مِن السقم ما لقي الشافعي)، ومن العجائب أن الشافعي كان يعاني من هذه البواسير بهذه الشدة، ومع ذلك ترك كل هذه الحصيلة العلمية في مصر وترك من اجتهاده ما ملأ عشرات المجلدات، مع عدم انقطاعه عن الدروس والأبحاث، أفليس في هذه القدوة العظيمة ما يبهر الألباب ويدهش العقول؟!

وفي عام 204 للهجرة ألح على الشافعي المرض، واشتد عليه النزيفُ ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل، وفي حال احتضاره، دخل عليه تلميذه المزني، فقال له: كيف أصبحت؟

قال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلًا وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله جل ذكره واردًا، ثم أنشد:
ولَما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّمَا
تعاظَمَني ذنبي فلما قرَنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظمَا

وفي توالي التأسيس قال الشافعي لحرملة وهو يحتضر: (اذهب إلى إدريس العابد، فقل له: يدعو الله عز وجل لي).

وبعد صلاة العشاء في آخر يوم من رجب سنة 204 للهجرة توفِّي الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن أربعة وخمسين سنة بالتمام والكمال، وحُمل يوم الجمعة على الأعناق من الفسطاط حتى مقبرة بني زهرة؛ حيث دفن هناك كما في تاج العروس، وقبره هناك مشهور معروف، وبجانبه قبر عبدالله بن عبدالحكم الفقيه المالكي؛ كما في معجم الأدباء، ولقد حزن الناس حزنًا شديدًا على وفاته، وخيَّمت الكآبة على وجوه العلماء وطلبة العلم، ورثاه الكثير بروائع الأبيات؛ منها ما ورد في تاج العروس عن أحد الشعراء قال:
أكرِم به رجلًا ما مثله رجل
مشارك لرسول الله في نسبه
أضحى بمصر دفينًا في مُقَطَّمها
نعم المقطم والمدفون في تربه

وبذلك طُويت صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، وغاب قمر من الأقمار الساطعة، فرحم الله الشافعي، ورضي عنه، وجزاه كل الخير على ما قدَّمه للإسلام والمسلمين.

وفي مقال قادم إن شاء الله، نتحدث عن حياة الشافعي العلمية وفقهه واجتهاده وعقيدته، وغير ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


المصادر والمراجع:
الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، عبدالغني الدقر.
الشافعي آراؤه وفقهه، محمد أبي زهرة.
آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم.
توالي التأسيس، الحافظ ابن حجر.
طبقات الشافعية الكبرى، التاج السبكي.
معجم الأدباء، ياقوت الحموي.
حلية الأولياء، أبي نعيم الأصفهاني.
الانتقاء، ابن عبدالبر.
صفة الصفوة، ابن الجوزي.
وفيات الأعيان، ابن خلكان.
المجموع، شرح المهذب النووي.
تهذيب الأسماء واللغات، النووي.
تاج العروس، الزبيدي.
مجموع الفتاوى، شيخ الاسلام ابن تيمية.
كشف الظنون، حاجي خليفة.
الأصول من علم الأصول، محمد بن صالح العثيمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22-09-2022, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإمام الشافعي ناصر السنة

الإمام الشافعي ناصر السنة (3)

عبدالله ميزر الزوين
تحدثنا في مقالين سابقين عن حياة الشافعي منذ ولادته حتى وفاته رحمه الله، وفي هذا المقال سنتحدث عن حياته العلميَّة من فقهٍ وعلم واجتهاد وعقيدة وغير ذلك، ولا بد من ذكر شيء عن العصر الذي عاش فيه الشافعيُّ من الناحية السياسية والدينية؛ لأنه بلا ريب أسهم في تكوين شخصية الشافعي العلمية.

عصره: عاش الشافعي في العصر العباسي الأول، أو ما يسمى العصر الذهبي للدولة العباسية، وهو من أنضر عصور الإسلام ثقافة وعلمًا؛ فقد ظهرت فيه قوة الخليفة العباسي، وبسط نفوذه على أرجاء الدولة الواسعة، واستتبَّ الأمن فلم تحدث فيه كثيرٌ من النزاعات الداخلية سوى ما كان في موقعة فخ سنة 169 للهجرة وفتنة الأمين والمأمون، وبصورة عامة أسهمت قوة الخلافة واستقرار الأمن في جعل هذا العصر من أفضل العصور ثقافة وعلمًا وحضارة.

وكان للفقهاء والعلماء مكانتهم عند الخلفاء وعند الناس، سوى ما حدث في محنة خلق القرآن، التي حدثت بعد وفاة الشافعي بأربع عشرة سنة، هذا من الناحية السياسية.

أما من الناحية الدينية، فالكثرة من المسلمين كانت على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان جمهور الفقهاء يلتزمون إما مدرسة الرأي كالإمام أبي حنيفة، أو مدرسة الحديث كالإمام أحمد، ونستطيع أن نقول بأن الشافعي أتى بمدرسة جديدة توسَّطت بين أهل الحديث وأهل الرأي، وهي إلى أهل الحديث أقرب، يقول القاضي عياض في ترتيب المدارك عن الشافعي: (علم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع للأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلا بعد الأصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولًا).

وكان هناك فِرَقٌ مبتدعة كالمعتزلة والشيعة والخوارج، ولم يكن لها كبير تأثير طيلة حياة الشافعي، فلا حاجة للكلام عنها.

علم الشافعي: كان الشافعي شغوفًا بالعلم، مقبلًا بوجوده كلِّه على العلم والعمل به، ونال من العلم مالم ينله إلا النزر اليسير من الناس، ولقد طلب العلم على يد علماء كبار كالإمام مالك وسفيان بن عيينة كما مر في المقالين السابقين، والشافعي متنوع العلوم، فهو بحر في الشريعة، حجة في اللغة، ناهيك عن أنه واضع علم أصول الفقه، وسنتحدث عن علومه بشيء من التفصيل؛ لعله يقتدي به المقتدون، ويهتدي به المهتدون.

القرآن وعلومه: لا شك أن حفظ كتاب الله وفهمه ومعرفة علومه هو الركن الأول في فهم الشريعة، ولا شك أن فهم كتاب الله يحتاج إلى علمٍ بلغة العرب وأساليبها وبلاغتها، والشافعي حفظ القرآن مبكرًا في السابعة، وذهب إلى هُذيل أفصح العرب فتعلم عندهم العربية الفصيحة، وهو في الأصل قرشي والقرآن نزل بلغة قريش، فجاءت رحلته إلى هذيل مع قرشيته الأصلية نورًا على نور، فهذا الحفظ للقرآن وهذه الملَكة في العربية جعلت الشافعيَّ من أكابر الذين فهموا كتاب الله، ومنحته مكانة عظيمة في تفسير القرآن والاستنباط منه، جاء في توالي التأسيس عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال: (كان الشافعي إذا ذكر التفسير كأنه شَهِد التنزيل)، وقال إسحاق بن راهويه: (أعلَمَني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه -يعني الشافعي- كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن).

وأما التفسير بالمأثور فكان الإمام الشافعي يعتمد الرواية الثابتة الموثوقة فقط، وكان يعتمد رواية الإمام مجاهد تلميذ حبر الأمَّة عبدالله بن العباس رضي الله عنهما؛ لأن مجاهدًا من أوثق المفسرين على الإطلاق.

وأما قراءته، فقد كانت على قراءة ابن كثير، أخذها عن شيخه المكي إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين بسنده المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العزة جل في علاه.

الحديث وعلومه: سلف أن الشافعيَّ حفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، وأخذ الحديث عن محدِّث مكة الأكبر سفيان بن عيينة وغيره، ولقد كان حفظه للحديث لا يباريه فيه إلا أهل الصناعة فيه، فقد كان يحفظ عددًا كبيرًا جدًّا من الأحاديث، حتى إن الإمام ابن خزيمة سئل: هل يُعرَف للنبي صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة لم يودعها الشافعُّي كتبه؟ قال: (لا)، وهذا ورد في تهذيب الأسماء واللغات.

وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل عن الشافعي: (كان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان يكفيه قليلُ الطلب في الحديث).

فأنت ترى أن كبار الأئمة المحدِّثين شهدوا للشافعي بكثرة حفظه للحديث، فهو كان يمتلك ثروة ضخمة من الأحاديث ساعدته على الاستنباط، وجعلها أساسًا لاجتهاده، ولكنه مع ذلك كان يحرص على صحة الحديث، فقد وجَّه همَّتَه وحافظته إلى الأحاديث الصحيحة، وكان شديد الحرص على صحة الحديث، يقول النووي في التهذيب: (ومن ذلك -يعني من فضائل الشافعي- تمسُّكُه بالأحاديث الصحيحة، وإعراضه عن الأخبار الواهية والضعيفة، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف كاعتنائه ولا قريبًا منه، فرضي الله عنه، وهذا واضح جلي في كتبه، وإن كان أكثر أصحابنا لم يسلكوا طريقته في هذا).

هذا عن روايته للسُّنة، أما درايته وفهمه لها، فهو في ذلك منقطع النظير، فقد بلغ الغاية في فهم السنة وشرحها ومعرفة غريب الحديث، وكان شيخ شيوخ مكة سفيان بن عيينة إذا حدَّث بحديث يسأل الشافعيَّ عن فقهه، فينشرح صدر سفيان لإجابة تلميذه البار، ومن أراد الاطلاع على شيء من هذه البراعة في فهم الحديث، فليراجع الرسالة وتوالي التأسيس وغيرهما.

ومما يخفى على كثير أن الشافعيَّ وضع أساسات كثيرة في علم مصطلح الحديث اعتمدها العلماء من بعده، بل يرى عبدالغني الدقر أن الشافعي هو واضع علم مصطلح الحديث كما أنه واضع علم الأصول، والمسلَّم به أن الشافعي وضع في هذا الفن مصطلحاتٍ كثيرة لم يُسبق إليها، منها ما رواه ابن أبي حاتم عن الشافعي قال: (إذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو سنة)، وقال الشافعي: (ليس الشاذ من الحديث أن يرويَ الثقةُ حديثًا لم يروه غيرُه، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثًا فيشذ عنهم واحدٌ فيخالفهم)، وله غير ذلك من الأقوال التي اعتُمدت في هذا العلم العظيم.

عدالة الشافعي: من فضول الكلام أن يتحدث أحدٌ عن عدالة الشافعي أو أحدٍ من الأئمة الأربعة، ولكن الجرح والتعديل ركن من أركان العلم به عُرف الصحيح من الضعيف، والثابت من الموضوع، ولقد فتَّش علماء الحديث جزاهم الله خيرًا عن كل راوٍ أو عالم وأوغلوا في ذلك؛ حتى لا يدخل في السنة النبوية ما ليس منها، وأقوالُ العلماء في تعديل الشافعي كثيرة تدلُّ على مكانة هذا الإمام الرفيعة، يقول ابن خلكان في وفَيَات الأعيان: (اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته، وزهده وورعه، ونزاهة عرضه وعفة نفسه، وحسن سيرته وعلوِّ قدره وسخائه).

ويقول الإمام أبو داود صاحب السنن: (ما أعلم للشافعيِّ حديثًا خطأ) كما في شذرات الذهب.

اتباع الشافعي للسنة: جعل الشافعيُّ اتباع السنة منهجًا لحياته، فهو مهما يؤصل من أصل أو يفرع من فرع يطرحه كلَّه عندما تثبت السنة الصحيحة بخلافه، فإذا جاء الحديث الصحيح الذي لا ناسخ له، فهو الشرع لا شرع سواه، فليس لأحد أن يسمع السنة الثابتة ويُعرِض عن العمل بها، ورد في توالي التأسيس عن الشافعي قال: (إذا وجدتم سنة صحيحة فاتَّبِعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد)، وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط).

ويقول فيما رواه ابن أبي حاتم: (كلُّ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني)، وقد شهد له بنصرة السنة واتباعها كبار الأئمة والعلماء، ورد في توالي التأسيس عن الإمام أحمد قال: (ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أَتْبع للسُّنة من الشافعي)، وفي الطبقات قال عبدالرحمن بن مهدي: (مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد وتظهر البدع).

عقيدته: كان الشافعي من أجلِّ من دافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة بما أوتيه من علم غزير، وحجة بيِّنة، وكان رحمه الله شأنه شأن علماء السلف يؤمن بما ورد في الكتاب والسنة من العقيدة بعيدًا عن التعطيل أو التشبيه أو التأويل، سواء في الأسماء والصفات أو بقية مناحي العقيدة، وكان يحرص على سلامة عقيدته، وهذه سنة السلف جميعًا، وكان رحمه الله كالأئمة كلهم يبغض علم الكلام وينفر من أهله، يقول الشافعي كما في الشذرات: (ما شيء أبغض إليَّ من الكلام وأهله)، وقال الشافعي: (ما تردى أحد بالكلام فأفلح)، وقال كما في مفتاح السعادة: (لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لَفَرُّوا منه فرارهم من الأسد).

وكان الشافعي كسائر أهل السنة يعتقد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة كثيرة متظاهرة على ذلك، ذكر بعضها الإمام البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، قال الشافعي كما في الانتقاء: (الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب)، وقال الشافعي: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).

فهذا مثال يبيِّن لك حسن عقيدة الإمام الشافعي وصحتها، ومن أراد الاستزادة فليراجع الطبقات والانتقاء والتهذيب وغيرها، ولقد بيَّن حسنَ عقيدته وصحتها أقوالُه وكتبه وأفعاله العظيمة، وشهد له بذلك كبار أهل العلم، قال داود بن علي الظاهري: (ومنها -يعني من فضائل الشافعي- صحة الدين وسلامة المعتقد من الأهواء والبدع).

الفقه وأصوله: الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، كما في الورقات، والإمام الشافعي هو إمام مذهب من المذاهب الأربعة كما هو معلوم، ولقد كان تأثير الشافعي في الفقه الإسلامي تأثيرًا عظيمًا، فالرجل جاء في عصر جمهور الفقهاء ملتزمون إما بمدرسة الحديث أو مدرسة الرأي، وأخذ الشافعي علم هؤلاء وهؤلاء ثم وازن بينهما، فخرج على الناس بمدرسة جديدة جمعت خيرَ ما في الطريقتين وتوسطت بينهما، وهي إلى أهل الحديث أقرب، فهو علم الناس أن صحيح الرأي فرع للأصل، وأنه لا فرع إلا بعد الأصل، والأصول الكبرى التي قام عليها مذهب الشافعي أربعة، هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والقياس، ولم يحتج الشافعي بالحديث المرسل إلا مراسيل التابعي الجليل سعيد بن المسيب؛ لأنه عدل ولا يروي إلا عن عدل.

على عكس الإمامين مالك وأبي حنيفة اللذين احتجا بالحديث المرسل وأوجبا العمل به، وأما الإمام أحمد فقد احتج بالمرسل إذا لم يكن في الباب شيء، وقدَّمه على القياس.

فالأصول الأربعة السالفة الذكر هي الأصول الكبرى للمذهب الشافعي، وبيان خصائص المذهب يحتاج إلى بحث مستقل، فلعله يتيسر لنا ذلك في غير هذه المناسبة.

وأما أصول الفقه، فقد تقدم في المقالة السابقة أن الشافعي هو من أنشأ علم الأصول، وأن كتابه الرسالة هو أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، فالشافعي له قصب السبق في هذا العلم العظيم، ولا داعي لإعادة الكلام هنا.

الشافعي واللغة: لو لم يكن الشافعي إمامًا مجتهدًا لكان من أعظم أدباء العربية وكتابها، فالشافعي قرشيٌّ، وحسْبُه ذلك ليكون صحيح اللغة فصيحها، ورحل صغيرًا إلى هذيل أفصح العرب -كما يقول الدقر- فتعلم فصاحتها، وتلقن بلاغتها، كل ذلك جعل فاه عندما يتكلم كأنه ينظم درًّا إلى در، قال يونس بن عبدالأعلى -كما في معجم الأدباء-: (كان الشافعي إذا أخذ في العربية قلتَ: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه قلت: هو بهذا أعلم)، بل لقد وصل إلى مرحلة جعلت كلامه في اللغة حجة عند علماء الشريعة واللغة، يقول الإمام أحمد: (كلام الشافعي في اللغة حجة)، ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام: (كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة)، وزاره مرةً علامة مصر عبدالملك بن هشام فقال: (ما ظننت أن الله خلَقَ مثل الشافعي)، ثم اتخذ قوله حجة في اللغة، وكذلك اتخذ إمام اللغة الأزهري قول الشافعي في اللغة حجة؛ لأنه فصيح اللسان كما قال الأزهري.

وأما النحو فما درسه الشافعي على أحد، ولكن ملكته وفصاحته العربية جعلته أستاذًا في النحو، فما سمعت منه لحنة قط كما قال الزعفراني، ولا سمعت منه كلمة غيرها أحسن منها كما قال ابن هشام، ولقد اعتبر كبار النحاة كلام الشافعي في النحو حجة، قال المازني -وهو في النحو من هو-: (الشافعي حجة عندنا في النحو)، بل لقد كان يحتج بالشافعي في اللغة والنحو كما يحتج بالبطن من العرب كما في الطبقات.

الشافعي والشعر: كان حظ الشافعي من الشعر كثيرًا؛ فقد كان يحفظ لمئات الشعراء، ناهيك عن حفظه لأشعار هذيل كلها، كما في معجم الأدباء، والشافعي لم يكن يحفظ الشعر فقط بل كان يحفظه ويفهمه ويشرحه ويستشهد به، ورد في التهذيب عن الشافعي قال: (أروي لثلاثمائة شاعر مجنون)، وهذا يدلك على غزارة المادة الشعرية التي كان يحفظها الشافعي، ولأجل هذا الحفظ والفهم قصده كبار علماء العربية لقراءة الشعر وتصحيحه عليه، ومنهم الأصمعي راوية العرب الذي قرأ شعر هذيل وصححه على الشافعي، كما في معجم الأدباء وتوالي التأسيس، هذا عن حفظه للشعر، أما شعره فقد كان الشافعي ينظم الشعر أحيانًا وترك شعرًا جيدًا ارتفع عن شعر الفقهاء، يقول القفطي في كتابه المحمدون: (وكان له شعر أجل من شعر الفقهاء)، ولم يؤثر عن الشافعي قصائدُ طوال، ولكنه كان ينظم الأبيات التي قد تصل أحيانًا إلى العشرة، ولقد قال المبرد يمدح شعر الشافعي: (رحم الله الشافعي؛ فإنه كان من آدب الناس، وأشعر الناس، وأعلمهم بالقرآن).

ولقد ذكرت الكتب التي ترجمت للشافعي كمعجم الأدباء وطبقات الشافعية شعرًا كثيرًا له، منها قوله يحن إلى أرض مولده غزة:
وإني لمشتاقٌ إلى أرضِ غزةٍ
وإن خانني بعد التفرُّقِ كِتماني
سقى اللهُ أرضًا لو ظفرتُ بتُرْبِها
كحلتُ به من شدة الشوقِ أجفاني

مؤلفات الشافعي: ما عُرف لإمام قبل الشافعي من التصانيف ما عُرف للشافعي عددًا ونوعًا، والشافعي أكثر الأئمة الأربعة تصنيفًا، وقد صنف الشافعي 134 كتابًا، ومعظمها اشتمل عليها كتاب الأم المشهور، وإليك أسماء بعض كتبه نقلًا عن معجم الأدباء:
كتاب الطهارة وكتاب صلاة الاستسقاء وكتاب المناسك الكبير وكتاب الزكاة الكبير وكتاب الصيام الكبير وكتاب الرسالة وكتاب أحكام القرآن وكتاب اختلاف الحديث وكتاب جماع العلم وكتاب العدة وكتاب أدب القاضي وكتاب الجزية وكتاب قتال أهل البغي وكتاب الساحر والساحرة وكتاب فضائل قريش والأنصار وكتاب الجهاد، إضافة إلى كتاب الحجة وكتاب السنن والمبسوط، وهذه الكتب من رواية الربيع بن سليمان المرادي، باستثناء الحجة والسنن والمبسوط، وأول كتاب ألفه الشافعي هو كتاب الرسالة، ألفه في مكة، ثم كتاب الحجة في العراق، وباقي كتبه كلها ألفها في مصر على ما به من العلة الشديدة، ولكن عزيمته غلبت مرضه، ولقد اعتنى العلماء بمؤلفاته عناية كبيرة تدل عل مكانة هذا الإمام الرفيعة، يقول الإمام أحمد: (لم أنظر في كتب أحد ممن وضع كتب الفقه غير الشافعي).

وقال قتيبة بن سعيد: (لو وصلتني كتب الشافعي لكتبتها، ما رأت عيني أكيس منها).

ومن أراد معرفة كتب الشافعي كاملة فليراجع معجم الأدباء لياقوت الحموي.

شيوخ الشافعي: سلف القول أن الشافعي تلقى علم المكيِّين والمدنيِّين والعراقيِّين وعلم اليمن في رحلته إليها، ولقد تلقى الشافعي رحمه الله العلم عن مشايخ كثر من مكة والمدينة والعراق واليمن وغيرها، وبلغ عدد شيوخه ثمانين شيخًا، أجلُّهم الإمام مالك والإمامان سفيان بن عيينة ومحمد بن الحسن الشيباني، ومعظم شيوخه ثقات، وهاك أسماء بعض شيوخه كما وردت في توالي التأسيس:
إبراهيم بن سعد الزهري وأسامة بن زيد بن أسلم وإسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين والحارث البصري وحماد بن أسامة والإمام عبدالله بن المبارك والفضيل بن عياض وعبدالعزيز الدراوردي ومروان بن معاوية الفزاري ومسلم بن خالد الزنجي وغيرهم كثير، وإليك تعريفًا باثنين منهم ليكون كالدلالة على الباقي:
الإمام مالك: هو الإمام الكبير مالك بن أنس الأصبحي أبو عبدالله، من أئمة الإسلام الأجلاء وأحد الأئمة الأربعة، كان مهيبًا عظيمًا صلبًا في دينه، له كتاب الموطأ المشهور توفي في المدينة سنة 179 للهجرة رحمه الله تعالى.

سفيان بن عيينة: هو الإمام الجليل والمحدث الكبير سفيان بن عيينة الهلالي، ولد بالكوفة وسكن مكة، فكان كبير علمائها، كان حافظًا واسع العلم، توفي في مكة سنة 198 للهجرة رحمه الله.

تلاميذ الشافعي: لم يُعرف لإمام قبل الشافعي من التلاميذ ما عُرف للشافعي نوعًا وعددًا، يقول داود الظاهري كما في توالي التأسيس: (ومنها-يعني من فضائل الشافعي-ما اتفق له من الأصحاب؛ مثل أبي عبدالله أحمد في علمه وزهده وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي والحميدي...)، إلى أن قال: (ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء ما اتفق له من ذلك)، ولقد بلغ عدد تلاميذ الشافعي وأصحابه 164 تلميذًا، منهم من عرف بالتبعية له في مذهبه كالمزني، ومنهم من أخذ عنه واستفاد منه كثيرًا من دون تبعية له في المذهب ومنهم الإمام أحمد، وإليك أسماء بعضهم كما وردت في توالي التأسيس:
الإمام أحمد بن حنبل وأحمد بن الحجاج المروزي وأبو ثور إبراهيم بن خالد والحسن الزعفراني والربيع المرادي ويوسف بن يحيى البويطي وإسماعيل بن يحيى المزني والحسين بن علي الكرابيسي ومحمد بن عبدالحكم وعبدالله بن الزبير الحميدي والأصمعي وعبدالملك بن هشام صاحب السيرة وسليمان بن داود الهاشمي العباسي وقحزم الأسواني، وهو آخر أصحابه وفاة، ويونس بن عبدالأعلى وحرملة بن يحيى، وغيرهم كثير، وهاك ترجمة لبعض تلاميذه ممن أثر فيهم الإمام الشافعي:
أحمد بن حنبل: هو الإمام الجليل العظيم إمام السنة وإمام الدنيا أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي أبو عبدالله، أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب وإليه ينتسب السادة الحنابلة، كان إمامًا جليلًا عظيمًا ثبَت وحيدًا في محنة خلق القرآن، فثبَّت الله به السنة وأهلها، كان يحفظ معظم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومسنده المشهور أحد أهم كتب الحديث، توفي في بغداد سنة 241 للهجرة رحمه الله ورضي عنه.

ومن أراد معرفة كل تلاميذ الشافعي فليراجع توالي التأسيس وكتاب الشافعي لعبدالغني الدقر.

ثناء العلماء على الشافعي: لقد أثنى العلماء والفقهاء والمحدثون على الشافعي بمختلف العبارات وكثير الكلمات، وأقروا بفضله عليهم بمختصر الثناءات ومطولها، قال الإمام أحمد: (ما تكلم في العلم أقل خطأ ولا أشد أخذًا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الشافعي)، وقد مضى في المقالتين السابقتين وهذه المقالة كلمات مختلفة للإمام أحمد في الثناء على الشافعي.

وقال إسحاق بن راهويه: (الشافعي إمام العلماء)، وقال الحميدي: (سيد علماء زمانه الشافعي)، وقال عبدالرحمن بن مهدي عن الشافعي: (ما ظننت أن الله خلَقَ مثل هذا الرجل)، وقال أبو زرعة: (ما أعلم أحدًا أعظم منَّةً على الإسلام من الشافعي)، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي)، وقال هارون بن سعيد الأيلي: (ما رأيت مثل الشافعي)، وقال هلال بن العلاء: (أصحاب الحديث عيال على الشافعي، فتح لهم الأقفال)، وقال داود بن علي الظاهري: (كان الشافعي رضي الله عنه سراجًا لحملة الآثار ونقلة الأخبار، ومن تعلق بشيء من بيانه صار محجاجًا)، وغير ذلك الكثير من أقوالهم، وكلها تدل على عظمة الإمام الشافعي ورفعته.

ثناء الشافعي على علماء: كان الشافعي يقر بالفضل لأصحابه من العلماء والفقهاء فيثني عليهم، ولا يعرف الفضلَ لأهل الفضل إلا ذووه، وما عظم الشافعي أحدًا قدر تعظيمه للإمامين مالك وأحمد وسفيان بن عيينة، وكان الشافعي يطلق كلمات الثناء على من يستحقها من شيوخه وأصحابه ومن تقدم عصره، يقول الشافعي عن الإمام أحمد بن حنبل: (خرجت من العراق وما خلفت بالعراق أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد).

وقال الشافعي عن مالك: (إذا ذُكر العلماء فمالكٌ النجم)، وقال الشافعي: (جعلت مالكًا حجة فيما بيني وبين الله)، وقال الشافعي عن سفيان بن عيينة: (ما رأيت أحدًا من الناس فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أحدًا أحسن لتفسير الحديث منه)، وقال الشافعي عن مسلم الزنجي أول شيخ له في الفقه: (كان مسلم بن خالد الزنجي فقيه زمانه)، ويقول الشافعي عن الإمام أبي حنيفة: (من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة)، وقال الشافعي عن محمد بن الحسن الشيباني: (ما رأيت أحدًا سئل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن)، وقال الشافعي عن الشعبي: (الشعبي في كثرة الرواية مثل عروة بن الزبير)، وقال الشافعي عن الأصمعي: (ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي)، وله غير ذلك من الثناءات على علماء عصره ومن تقدمه من أهل الفضل تجدها في كتب من ترجم له وفي كتب الطبقات.

حِكَمُ الشافعي وأدعيته: الشافعي رجل غزير العلم كبير العقل خبير بالناس وأصنافهم والحياة وألوانها، ومِن مثل هذه الصفات تتفجر الحكمة، والحكمة تحتاج إلى العلم والتجربة والشافعي أخذ منهما بحظ وافر، وقد أُثِر عن الشافعي حِكَمٌ كثيرة لو جُمعت لكان منها جزء كبير كما يقول الإمام ابن حجر، وإليك بعضًا من حكمه لتطلع على جمال الألفاظ وروعة المعاني، قال الشافعي: (من تعلم القرآن جل في عيون الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هِيبَ، ومن تعلم العربية رقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم الفقه نبل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمُه، وملاك ذلك كلِّه التقوى).

وقال: (رتبة العلماء التقوى، وحليتهم حسن الخلق، وجمالهم كرم النفس)، وقال الشافعي: (أشد الأعمال ثلاثة: الجود في قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف).

وقال: (لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربع: الديانة والأمانة والصيانة والرزانة).

وقال: (لا خير في صحبة من تحتاج إلى مداراته)، وقال: (اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل).

وقال الشافعي: (صحبة من لا يخاف العارَ عارٌ يوم القيامة)، وقال لابنه أبي عثمان يعظه: (يا بني، والله لو علمت أن الماء البارد يثلم من مروءتي شيئًا ما شربت الماء إلا حارًّا)، وقال الشافعي: (وددت أن الناس تعلَّموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ)، وهذه الكلمة العظيمة تدل على عظيم إخلاصه وعميق ورعه، فالرجل لا يريد ثناء ولا شهرة، إنما همه رضا الله عز وجل.

ولقد كان للشافعي بعض الأدعية التي اشتهرت عنه شأنه شأن المؤمن الموقن الذي يعلم أن له ربًّا لن يضيعه، ومما اشتهر من أدعيته قوله كما في وفَيَات الأعيان: (اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير)، ودعا مرة لميت فقال: (اللهم بغِناك عنه وفقرِه إليك اغفر له)، وله غير ذلك من الأدعية تجدها في كتب من ترجم له، وكلها تدل على عظيم إيمانه ودوام التجائه إلى الله عند كل مناسبة.

وبهذا ينتهي ما أردناه من عرض حياة الإمام الشافعي، ثم بيان جوانب من علمه في هذه السلسلة من المقالات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين، وأصحابه الميامين أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

المصادر والمراجع:
الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، لعبدالغني الدقر.
الشافعي آراؤه وفقهه، لمحمد أبو زهرة.
توالي التأسيس، للحافظ ابن حجر.
معجم البلدان، لياقوت الحموي.
صفة الصفوة، لابن الجوزي.
الانتقاء، لابن عبدالبر.
وفيات الأعيان، ابن خلكان.
تهذيب الأسماء واللغات، للنووي.
طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي.
آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم.
الوافي بالوفيات، الصفدي.
شذرات الذهب، لابن العماد.
ترتيب المدارك، القاضي عياض.
متن الورقات، الجويني.
الفقه المنهجي على المذهب الشافعي، لمجموعة من العلماء.
المحمدون من الشعراء، القفطي.
معجم الأدباء، لياقوت الحموي.
نزهة الألباء، ابن الأنباري.
الجواهر المضية في طبقات الحنفية، عبدالقادر القرشي.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 106.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 103.48 كيلو بايت... تم توفير 2.85 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]