|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (31) صـ422 إلى صـ 435 الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين : أحدهما : ما كان راجعا إلى خطاب التكليف ; إما مأمورا بتحصيلها كالطهارة للصلاة ، وأخذ الزينة لها ، وطهارة الثوب ، ـ وما أشبه ذلك ـ ، وإما منهيا عن تحصيلها كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول ، والجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع خشية الصدقة ، الذي هو شرط لنقصان الصدقة ، وما أشبه ذلك فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه ، فالأول مقصود الفعل ، والثاني مقصود الترك ، وكذلك الشرط المخير فيه ـ إن اتفق ـ فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف : إن شاء فعله فيحصل المشروط ، وإن شاء تركه فلا يحصل . والضرب الثاني : ما يرجع إلى خطاب الوضع ; كالحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، والحرز في القطع ، وما أشبه ذلك ; فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ، ولا في عدم تحصيله ، فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال : يجب على [ صاحبه ] إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه ، ولا مطلوب الترك أن يقال : [ ص: 422 ] يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة ، وكذلك الإحصان لا يقال : إنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى ، ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى . وأيضا ; فلو كان مطلوبا لم يكن من باب خطاب الوضع ، وقد فرضناه كذلك ; هذا خلف ، والحكم فيه ظاهر . فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه ، من حيث هو فعل داخل تحت قدرته ، فلا بد من النظر في ذلك ، وهي : المسألة السابعة فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا ، فإن كان ذلك فلا إشكال فيه ، وتنبني [ ص: 423 ] الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حضوره ، وترتفع عند فقده ، كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة أخرى أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان ، إلى ما أشبه ذلك . وإن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره ; فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل ، دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا . فمن الأحاديث في هذا الباب قوله : لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق [ ص: 424 ] بين مجتمع خشية الصدقة . [ ص: 425 ] وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله . وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن تسبق ، فليس بقمار ، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق ; فهو قمار . [ ص: 426 ] [ ص: 427 ] وقال في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط الحديث . ونهى [ عليه الصلاة والسلام ] عن بيع وشرط ، وعن بيع وسلف ، وعن شرطين في بيع ، وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها . [ ص: 428 ] ومنه حديث : من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه . وحديث : إن اليمين على نية المستحلف . وعليه جاءت الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي القرآن أيضا : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله الآية [ البقرة : 229 ] . وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] . وما جاء من الأحاديث . وقال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] . [ ص: 429 ] وما جاء من أحاديث لعن المحلل والمحلل له والتيس المستعار . وحديث التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة الدر . وسائر أحاديث النهي عن الغش . [ ص: 430 ] والخديعة . والخلابة . والنجش . وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها ، وتزوجها عبد الرحمن بن [ ص: 431 ] الزبير . والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا . [ ص: 432 ] وأيضا ; فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة ، عبثا لا حكمة له ، ولا منفعة به ، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح وأنها معتبرة في الأحكام . وأيضا ; فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد ، وحصل في الوجود ، صار مقتضيا شرعا لمسببه ، لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب ، فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا ، وقد تبين [ أن ] مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل . فإن قيل : المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط ، فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده ; كان كما لو لم يقصد ذلك ، ولا تأثير للقصد ، وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا ; كالحول في الزكاة ; فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض ، والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط لا عند فقدها ، فإذا لم ينتهض سببا ، كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى [ ص: 433 ] من معاني الانتفاع فلا تجب عليه الزكاة ; لأن السبب لم يقتض إيجابها لتوقفه على ذلك الشرط الذي ثبت اعتباره شرعا ، فمن حيث قيل فيه : إنه مخالف لقصد الشارع يقال : إنه موافق ، وهكذا سائر المسائل . فالجواب : إن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب ، وأما مع القصد إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع ، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها ; فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب ، بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين ; فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ، ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا ، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه ; كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك ، وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرطا يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول ، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج ، وكذلك قوله : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت [ ص: 434 ] له بسبب العقد ، وعن الإتيان بشرط الفرس المحللة [ للجعل ] بقصد أخذه ، لا بقصد المسابقة معه ، ومثله مسائل الشروط ; فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة ; فإن العقد على الكتابة اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه ، ومن ذلك الولاء ، فمن شرط أن الولاء له من البائعين ; فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه ، واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك ; فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه ، وإذا كان منهيا عنه [ ص: 435 ] كان مضادا لقصد الشارع فيكون باطلا .
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (32) صـ436 إلى صـ 444 فصل هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا ؟ الجواب : إن في ذلك تفصيلا ، وهو أن نقول : لا يخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع أو المرفوع في حكم الحاصل معنى أو لا . فإن كان كذلك ; فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل ، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له ، مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها ، وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ، ثم ترد إلى التفرقة أو المفرق بين المجتمع كذلك ; ، ثم يردها إلى ما كانت عليه ، وكالناكح لتظهر صورة الشرط ، ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا ، وأشباه ذلك ; لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ، ولا فائدة فيه تقصد شرعا . وإن لم يكن كذلك ; فالمسألة محتملة ، والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه : أحدها أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب كاف ; فإنه هو الباعث على [ ص: 436 ] الحكم ، وإنما الشرط أمر خارجي مكمل ، وإلا لزم أن يكون الشرط جزء العلة والفرض بخلافه ، وأيضا فإن القصد فيه قد صار غير شرعي ، فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع ، فهو في حكم ما لم يعمل فيه ، واتحد مع القسم الأول في الحكم ، فلا يترتب على هذا العمل حكم ، ومثال ذلك : إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بتلة لم يرجع فيها أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع ، ـ وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة ـ ، لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول ، وما أشبه ذلك ; فقد علمنا ـ حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم ـ ; أنه قاصد لثبوت الحكم به ، فإذا أخذ هذا برفع حكم السبب مع انتهاضه سببا ; كان مناقضا لقصد الشارع ، وهذا باطل ، وكون الشرط ـ حين رفع أو وضع ـ على وجه يعتبره الشارع على الجملة قد أثر فيه القصد الفاسد ; فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا ، فكان كالمعدوم بإطلاق ، والتحق بالقسم الأول . والثاني أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب غير كاف ; فإنه وإن كان باعثا ; قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط ، فإذا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده ، وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه فإذا كان كذلك ; فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط لم يناقض قصده قصد الشارع من كل وجه ، وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه ، وهو الشرط أو عدمه ، لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة [ ص: 437 ] قصد الشارع على الجملة ، لا عينا ; لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها . وأيضا ; فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا ، لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا ، كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه ، وفي تملك الغاصب له ، ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم . وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر في رمضان قصدا للإفطار أو أخر صلاة حضر عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها ، قال : فجميع ذلك مكروه ، ولا يجب على هذا في السفر صيام ، ولا أن يصلي أربعا ، ولا على الحائض قضاؤها ، وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف ليقضين فلانا حقه إلى شهر ، وحلف بالطلاق الثلاث ، فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث ، فلما انقضى الأجل راجعها فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث ، وليست بزوجة لأن الخلع ماض شرعا ، وإن قصد به قصد الممنوع . والثالث : أن يفرق بين حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله ، وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي ; كمسألة الجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع ، ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول ; لأن الزكاة من حقوق الله ، وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله ، لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين ، وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين ; كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك . [ ص: 438 ] هذا كله ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك ; فإنه إن دل دليل خاص على خلافه صير إليه ، ولا يكون نقضا على الأصل المذكور ; لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله أو إلى حق الآدميين ، ويبقى بعد ما إذ اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد ; فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد ، والله أعلم . الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون مكملا لحكمة المشروط ، وعاضدا لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال ; كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه ، واشتراط الكفء ، والإمساك بالمعروف ، والتسريح بإحسان في النكاح ، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع ، واشتراط العهدة في الرقيق ، واشتراط مال العبد ، وثمرة الشجر ، وما أشبه ذلك ، وكذا اشتراط الحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، وعدم الطول في نكاح الإماء ، والحرز في القطع ; فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا ; لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكما ; فإن الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على [ ص: 439 ] وجه لائق بلزوم المسجد ، كان للصيام فيه أثر ظاهر ، ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما ، وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجين والعصبة ، وأولى بمحاسن العادات ; كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح ، وهكذا الإمساك بمعروف ، وسائر تلك الشروط المذكورة تجري على هذا الوجه ; فثبوتها شرعا واضح . والثاني : أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته ، بل هو على الضد من الأول ; كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأي مالك أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع أو إن انتفع فعلى بعض الوجوه دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف ، وأن يصدقه في دعوى التلف ، وما أشبه ذلك ; فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله ; لأنه مناف لحكمة السبب ، فلا يصح أن يجتمع معه ; فإن الكلام في الصلاة مناف لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له ، وكذلك المشترط في الاعتكاف الخروج مشترط ما ينافي حقيقة الاعتكاف من لزوم المسجد ، واشتراط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه ، وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل ، وأضر بالزوجة فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤالفة ، وهكذا سائر الشروط المذكورة ; إلا أنها إذا كانت باطلة فهل تؤثر في المشروطات أم لا ؟ هذا محل نظر يستمد من المسألة التي قبل هذه . [ ص: 440 ] والثالث : أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة ، وهو محل نظر ، هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا ؟ ، والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات ، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة ; لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن ; إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات ، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط ، وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة ; لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد ، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه ، والله أعلم . النوع الثالث في الموانع وفيه مسائل المسألة الأولى الموانع ضربان : أحدهما : ما لا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب . والثاني : ما يمكن فيه ذلك ، وهو نوعان : أحدهما : يرفع أصل الطلب . والثاني : لا يرفعه ، ولكن يرفع انحتامه . وهذا قسمان : أحدهما : أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه . والآخر : أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب . [ ص: 442 ] فهذه أربعة أقسام . فأما الأول ; فنحو زوال العقل بنوم أو جنون أو غيرهما ، وهو مانع من أصل الطلب جملة ; لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه ; لأنه إلزام يقتضي التزاما ، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه ، كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات ; فإن تعلق طلب يقتضي استجلاب مصلحة أو درء مفسدة ، فذلك راجع إلى الغير كرياضة البهائم وتأديبها ، والكلام في هذا مبين في الأصول . وأما الثاني ; فكالحيض والنفاس ، وهو رافع لأصل الطلب ، وإن أمكن حصوله معه ، لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به ألبتة ; كالصلاة ودخول المسجد ومس المصحف وما أشبه ذلك ، وأما ما يطلب به بعد رفع المانع ، فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور لا حاجة لنا إلى ذكره هنا ، والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان كذلك ; [ ص: 443 ] لاجتمع الضدان ; لأن الحائض ممنوعة من الصلاة ، والنفساء كذلك ; فلو كانت مأمورة بها أيضا لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شيء واحد ، وهو محال ، وأيضا ;إذا كانت مأمورة أن تفعل ، وقد نهيت أن تفعل ، لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا ، وهو محال ، وأيضا فلا فائدة في الأمر بشيء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ، ولا بعد ارتفاعه لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق . وأما الثالث : فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد ; فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات الجارية في الدين مجرى التحسين والتزيين ; لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا [ ص: 444 ] بحكم التبع ، فإن تمكنوا منها جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها ، وهم الأحرار الذكور ، وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها ، وأما مع عدم القدرة عليها فالحكم مثل الذي قبل هذا . وأما الرابع ; فكأسباب الرخص ، هي موانع من الانحتام ، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة ، كقصر المسافر ، وفطره ، وتركه للجمعة ، وما أشبه ذلك .
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (33) صـ445 إلى صـ 458 الموانع ليست بمقصودة للشارع ، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها ، وذلك أنها على ضربين : ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف ـ مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه ـ ، وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة ; كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجوب إخراج الزكاة ، وإن وجد النصاب فهو متوقف على فقد المانع ، وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما ، ومن الاعتداد بما طلق في حال كفره ، إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر ، وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا [ ص: 445 ] بحقها ; فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة . والضرب الثاني : هو المقصود ، وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك ; فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع ، ولا في عدم تحصيله ; فإن المديان ليس بمخاطب برفع الدين إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة ، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه ، لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف ، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب . والدليل على ذلك : أن وضع السبب مكمل الشروط ، يقتضي قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه ، وإلا فلو لم يكن كذلك ; لم يكن موضوعا على أنه سبب ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف ، وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب ; ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب ، وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب ، هذا خلف ; فإن القصدين متضادان ، ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه ; لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك لم يثبت في الشرع مانعا . وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع ; لم يثبت حصوله معتبرا شرعا ، وإذا لم يعتبر ; لم يكن مانعا من جريان حكم السبب ، وقد فرض كذلك ، وهو عين التناقض . فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه ففي ذلك تفصيل ، وهي : [ ص: 446 ] فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف ; مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه ، أو لا . فإن كان الأول فظاهر ; كالرجل يكون بيده له نصاب ، لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك ، وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع . وإن كان الثاني ، وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا ، قصدا لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه ، فهو عمل غير صحيح . والدليل على ذلك من النقل أمور ، من ذلك قوله جل وعلا : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا الآية [ القلم : 17 ] ; فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين ، بتحريهم المانع من إتيانهم ، وهو وقت الصبح الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة ، والعقاب إنما يكون لفعل محرم . وقوله تعالى : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] ، نزلت بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا ، [ ص: 447 ] وأن لا تنقضي عدتها إلا بعد طول ; فكان الارتجاع بذلك القصد ; إذ هو مانع من حلها للأزواج . وفي الحديث : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وفي بعض الروايات وأكلوا أثمانها . وقال عليه الصلاة والسلام : ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها . [ ص: 448 ] وفي رواية : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير ، والخمر والمعازف الحديث . وفي بعض الحديث : يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع . فكأن المستحل هنا رأى أن المانع [ ص: 449 ] هو الاسم ; فنقل المحرم إلى اسم آخر ، حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له . وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ; فاستثنى الإضرار ، فإذا أقر في مرضه بدين لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه ; كان مضارا ، والإضرار ممنوع باتفاق . وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية [ النحل : 91 ] . قال أحمد بن حنبل : عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان ، يبطلون الأيمان بالحيل ، [ وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [ النحل : 91 ] . وفي الحديث : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ . وفيه : إذا سمعتم به ـ يعني الوباء ـ بأرض ; فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ; فلا تخرجوا فرارا منه . [ ص: 450 ] والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ـ رضى الله تعالى عنهم ـ . وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جار معناه في الموانع ، ومن هنالك يفهم حكمها ، وهل يكون العمل باطلا أم لا ; فينقسم إلى الضربين ; فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع أو لا ; فإن كان كذلك ; فالحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة ، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به ، وإن لم يكن كذلك ; ، بل كان المانع واقعا شرعا ; كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه ; فهو محل نظر ـ على وزان ما تقدم في الشروط ـ ، ولا فائدة في التكرار . [ ص: 451 ] النوع الرابع في الصحة والبطلان وفيه مسائل : المسألة الأولى في معنى الصحة ، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين : أحدهما : أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة ومبرئة للذمة ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء ، وما أشبه ذلك من العبادات المنبئة عن هذه المعاني ، وكما نقول في العادات إنها صحيحة بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك ، واستباحة الأبضاع ، وجواز الانتفاع ، وما يرجع إلى ذلك . والثاني : أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة ، كترتب الثواب ، فيقال : هذا عمل صحيح ، بمعنى أنه يرجى به الثواب في الآخرة ; ففي [ ص: 452 ] العبادات ظاهر ، وفي العادات يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع ، وقصد به مقتضى الأمر والنهي ، وكذلك في المخير ، إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع غافلا عن أصل التشريع ، فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى ، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه ; فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره ، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون ، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك . في معنى البطلان ، وهو ما يقابل معنى الصحة ; فله معنيان : أحدهما : أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها غير مجزئة ولا مبرئة للذمة ولا مسقطة للقضاء ، فكذلك نقول : إنها باطلة بذلك المعنى ، غير أن هنا نظرا ; فإن كون العبادة باطلة ; إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها حسبما هو مبين في موضعه ، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا ; كالصلاة من غير نية أو ناقصة ركعة أو سجدة أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل ، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت [ ص: 453 ] متصفة به ; كالصلاة في الدار المغصوبة مثلا ; فيقع الاجتهاد : في اعتبار الانفكاك ; فتصح الصلاة لأنها واقعة على الموافقة للشارع ، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف . أو في اعتبار الاتصاف ، فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف ، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك ; ، وهكذا سائر ما كان في معناها . ونقول أيضا في العادات : إنها باطلة ، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا ; من حصول أملاك واستباحة فروج ، وانتفاع بالمطلوب ، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا ; كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين : أحدهما : من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا . والثاني : من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد . فأما الأول ; فاعتبره قوم بإطلاق ، وأهملوا النظر في جهة المصالح ، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق ; كالعبادات المحضة سواء ، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد ـ وسيأتي في كتاب " المقاصد " بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا ـ ، وإذا كان كذلك ; فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه ، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة ، وغير المشروع باطل ، فهذا كذلك ; كما لم تصح [ ص: 454 ] العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع . وأما الثاني : فاعتبره قوم أيضا لا مع إهمال الأول ، بل جعلوا الأمر منزلا على اعتبار المصلحة ، بمعنى أن المعنى الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه ; فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل ، بحيث لا يمكن التلافي فيه ; بطل العمل من أصله ، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه ; لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه ، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي ، فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام ، وإن ظنها العامل ، وإن لم يحصل ولا كان في حكم الحاصل ، لكن أمكن تلافيه ، لم يحكم بإبطال ذلك العمل ; كما يقول مالك [ ص: 455 ] في بيع المدبر : إنه يرد إلا أن يعتقه المسترق فلا يرد ; فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير ; فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد ، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق ; فلم يرد لذلك ، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب ، وكذلك بيع الغاصب للمغصوب موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده لأن المنع إنما كان لحقه ، فإذا أجازه جاز ، ومثله البيع والسلف منهي عنه ، فإذا أسقط مشترط السلف شرطه جاز ما عقداه ، ومضى على بعض الأقوال ، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا ، كما في حديث بريرة ، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة كنكاح الشغار ، والدرهم بالدرهمين ، ونحوهما إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه ; فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة ، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر ، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي ، فصار العقد موافقا لقصد الشارع ; إما على حكم الانعطاف إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول أو غير حكم الانعطاف إن قلنا : إن تصحيحه وقع الآن لا قبل ، وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد . والثاني من الإطلاقين : أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في [ ص: 456 ] الآخرة ، وهو الثواب ، ويتصور ذلك في العبادات والعادات . فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول ; فلا يترتب عليها جزاء ; لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها ، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ، ولا يترتب عليها ثواب أيضا . فالأول : كالمتعبد رئاء الناس ; فإن تلك العبادة غير مجزئة ، ولا يترتب عليها ثواب . والثاني : كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى ، وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس الآية [ البقرة : 264 ] . وقال : لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] . وفي الحديث : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ إن لم يتب . [ ص: 457 ] على تأويل من جعل الإبطال حقيقة . [ ص: 458 ] وتكون أعمال العادات باطلة أيضا ; بمعنى عدم ترتب الثواب عليها ، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا ; فالأول كالعقود المفسوخة شرعا ، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها ، والعقود المنعقدة بالهوى ، ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق لا بالقصد إلى ذلك ; فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن ; لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا ، فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه ، وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة ; فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا ; لأن الأعمال بالنيات . والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد ، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل ; فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ النحل : 96 ] . من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ الشورى : 20 ] . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [ الأحقاف : 20 ] . وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر أو فيه إشارة إلى هذا المعنى ; فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة . وانظر في الإحياء وغيره .
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (34) صـ459 إلى صـ 469 ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما ، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي ; إذ لا يخلو الفعل العادي ـ إذا خلا عن قصد التعبد ـ أن يفعل بقصد أو بغير قصد ، والمفعول بقصد ; إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل أو في المخالفة فيترك ; إما اختيارا وإما اضطرارا ; فهذه أربعة أقسام : أحدها : أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم ، فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير ، فليس فيه ثواب ولا عقاب ; لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف ، فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته . والثاني : أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا ، فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك كالأول ، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الودائع والأمانات ، والإنفاق على الأولاد ، وأشباه ذلك ، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع ; لأن الأعمال بالنيات ، وقد قال في الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومعنى الحديث [ ص: 460 ] متفق عليه ، ومقطوع به في الشريعة . فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني . والثالث : أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا ، كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها ، عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد ، فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني ; لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع ، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ، ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها ; فإنها صحيحة على الإطلاق الأول ; إذ كانت مسقطة للقضاء أو مبرئة للذمة ، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني ، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط ، فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا [ ص: 461 ] على حال ، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات . والرابع : أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا ; كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح ، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله ; فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح ، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا ; فهو من الصحيح بالاعتبارين ، كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة ، فهو من الباطل بالاعتبارين ; فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني ، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم . والثاني : أن يكون صحيحا بالاعتبارين ، معا بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه دون ما لم يؤذن له فيه ، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة ، وقولهم : أيقضي شهوته ، ثم يؤجر فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، وهذا مبسوط في كتاب " المقاصد " من هذا الكتاب . [ ص: 462 ] والثالث : أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل ، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل ، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام ، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح ، والأول بالنظر إليه في نفسه . فصل وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني ، فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة ; فإن كان عبادة فلا تقسيم فيه على الجملة ، وإن كان عادة ; فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ أو لا ، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا ; فهذه ثلاثة أقسام : أحدها : ما لا يصحبه حظ ; فلا إشكال في صحته . والثاني : كذلك ; لأن الغالب هو الذي له الحكم ، وما سواه في حكم [ ص: 463 ] المطرح . والثالث : محتمل لأمرين : أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا ; إعمالا للجانب المغلوب ، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات ، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني ; إعمالا لحكم الغلبة ، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله . [ ص: 464 ] النوع الخامس في العزائم والرخص . والنظر فيه في مسائل : المسألة الأولى العزيمة : ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء . ومعنى كونها " كلية " أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ; كالصلاة مثلا ; فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال ، وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائر الإسلام الكلية ، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل ; كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع ، والإجارة ، وسائر عقود المعاوضات ، وكذلك أحكام الجنايات ، والقصاص ، والضمان ، وبالجملة جميع كليات الشريعة . ومعنى " شرعيتها ابتداء " أن يكون قصد الشارع بها إنشاء [ ص: 465 ] الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر ، فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك ، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير ، كان هذا الأخير كالحكم الابتدائي تمهيدا للمصالح الكلية العامة . ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب ; فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك ، فإذا وجدت اقتضت أحكاما ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] . وقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله [ الأنعام : 108 ] . وقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . وقوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية [ البقرة : 187 ] . وقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه [ البقرة : 203 ] . وما كان مثل ذلك ; فإنه تمهيد لأحكام وردت [ شيئا ] بعد شيء بحسب [ ص: 466 ] الحاجة إلى ذلك ; فكل هذا يشمله اسم العزيمة ; فإنه شرع ابتدائي حكما ، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا ; كقوله [ تعالى ] : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ البقرة : 229 ] . وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ النساء : 19 ] . وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] . ونهى - صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل النساء والصبيان ، هذا وما أشبهه من العزائم ; لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية . وأما الرخصة ; فما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه . فكونه " مشروعا لعذر " هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول . [ ص: 467 ] وكونه شاقا ; فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة ، فلا يسمى ذلك رخصة ; كشرعية القراض مثلا ; فإنه لعذر في الأصل ، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز ، وكذلك المساقاة والقرض والسلم ، فلا يسمى هذا كله رخصة ، وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع ، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات ، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة ، وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يسمى رخصة أيضا ، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة ، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة ، لكن بسبب المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام ; فهذا رخصة محققة ; فإن كان هذا المترخص إماما ; فقد جاء في الحديث : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، ثم قال : وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون فصلاتهم جلوسا وقع لعذر ; إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة ، بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه ، فلا يسمى مثل هذا رخصة ، وإن كان مستثنى لعذر . [ ص: 468 ] وكون هذا المشروع لعذر " مستثنى من أصل كلي " يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء ; فلذلك لم تكن كليات في الحكم ، وإن عرض لها ذلك ; فبالعرض ، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر والفطر ; فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم ، هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة ; فإن الاستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة ، وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى : فمن اضطر الآية [ البقرة : 173 ] . وكونه " مقتصرا به على موضع الحاجة " خاصة من خواص الرخص أيضا لا بد منه ، وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية ، وما شرع من الرخص ; فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة ; فإن المصلي إذا انقطع سفره ، وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم ، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا ، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم ، وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة ; فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح لأنه مشروع أيضا ، وإن زال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض ، وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض ، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه ، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار ، وكذلك ما أشبهه . فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي ، والرخصة راجعة [ ص: 469 ] إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي .
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (35) صـ470 إلى صـ 484 فصل وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا ، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة ، وبيع العرية بخرصها تمرا ، وضرب الدية على العاقلة ، وما أشبه ذلك ، وعليه يدل قوله : نهى عن بيع ما ليس عندك ، [ ص: 470 ] وأرخص في السلم ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات ; فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل ، فيجري عليها حكمها في التسمية ، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع ، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور ، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا ، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا [ ص: 471 ] من أصل الحاجيات ; فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد ، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات ، كالمصلي لا يقدر على القيام ; فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية ، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه ، وهذا كله ظاهر . فصل وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة ، والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] . وقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] . فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث : أنه عليه الصلاة والسلام صنع شيئا ترخص فيه ، [ ص: 472 ] ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله ; فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة ، بالنسبة إلى ما حملته الأمم السالفة من العزائم الشاقة . فصل وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا ، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم ، وقضاء أوطارهم ; فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] . وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية [ طه : 132 ] . وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل ; فحق عليهم التوجه إليه ، وبذل المجهود في عبادته ; لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه ، فإذا وهب لهم حظا ينالونه ، فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود ، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية . فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم ، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا ، والنواهي كراهة أو تحريما ، وترك كل [ ص: 473 ] ما يشغل عن ذلك من المباحات ، فضلا عن غيرها ; لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة ، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة ، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف ، فالعزائم حق الله على العباد ، والرخص حظ العباد من لطف الله ، فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه ، وإثباتا لحظه ، وتصير المباحات ـ عند هذا النظر ـ تتعارض مع المندوبات على الأوقات ، فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه ; فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه ، فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله ، وحق الله هو المقدم والمقصود ; فإن [ على ] العبد بذل المجهود ، والرب يحكم ما يريد . وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال ، وعليه يربون التلاميذ ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم ، واجتناب الرخص جملة ، حتى آل الحال بهم أن عدوا [ ص: 474 ] أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص ، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير ، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى . فصل ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ، ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس ، وما هو عام للناس كلهم ; فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول ، وعليه يقع التفريع في هذا النوع ، وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا ; إذ لا تفريع يترتب عليه ، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي ، وكذلك الثالث ; وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص ، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه ; فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى . المسألة الثانية حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : موارد النصوص عليها كقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] . وقوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] . وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ ص: 475 ] [ النساء : 101 ] . وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية إلى آخرها . وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله : فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة ، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة ، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل ، كقوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة : 236 ] . ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] . إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح ، وبجواز الإقدام خاصة . [ ص: 476 ] وقال تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 185 ] . وفي الحديث : كنا نسافر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنا المقصر ومنا المتم ، ولا يعيب بعضنا على بعض . والشواهد على ذلك كثيرة . [ ص: 477 ] والثاني : أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ; حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة ، وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] . قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] . متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 33 ] . بعد تقرير نعم كثيرة . وأصل الرخصة السهولة ، ومادة [ رخ ص ] للسهولة واللين كقولهم : شيء رخص : بين الرخوصة ، ومنه الرخص ضد الغلاء ، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه ، فمال هو إلى ذلك ، وهكذا سائر استعمال المادة . والثالث : إنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا ، والحال بضد ذلك ; فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه ، [ ص: 478 ] والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ، ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات : إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها ، فإذا كان كذلك ; ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين ، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة . فإن قيل : هذا معترض من وجهين : أحدهما : إن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة ; إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا ; فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا ، أما أولا ; فقد قال تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، وهما مما يجب الطواف بينهما ، وقال تعالى : ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى [ البقرة : 203 ] ، والتأخر مطلوب طلب الندب ، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل ، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى . ولا يقال : إن هذه المواضع نزلت على أسباب ، حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة ; لأنا نقول : مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب ، [ ص: 479 ] وهي توهم الجناح كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . وقوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم [ النور : 61 ] إلى آخرها . وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور : 61 ] . [ استدراك : 4 ] . ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] . جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج ، وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص ، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي . [ ص: 480 ] والثاني : أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها ، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، وأنه سنة ، وقيل في قصر المسافر : إنه فرض أو سنة أو مستحب ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، وقال ربنا تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] إلى كثير من ذلك ; فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل . فالجواب عن الأول : إنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة ; فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب ; فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب ، وفي بعض المأكولات حتى نزل : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] ، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء [ ص: 481 ] والأمهات ، وسائر من ذكر في الآية ، وفي التعريض بالنكاح في العدة ، وغير ذلك ، فكذلك قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] يعطي معنى الإذن ; وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] أو من دليل آخر ; فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه . ولنا أن نحمله على خصوص السبب ، ويكون مثل قوله في الآية من شعائر [ الحج : 36 ] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع ; أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه ، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى ، وسائر ما جاء في هذا المعنى . والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين [ ص: 482 ] متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية ، لا إلى الرخص بعينها ، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه ، أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه وردا لنفسه من ألم الجوع ; فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه ، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه ، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب ، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ، ومثل هذا لا يسمى رخصة ; لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي ، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه ، فلا يسمى رخصة من هذا الوجه ، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه . فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة ، وهذا فرد من أفراده ، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج ، وهذا فرد من أفرادها ; فلم تتحد الجهتان ، وإذا تعددت الجهات زال التدافع ، وذهب التنافي ، [ ص: 483 ] وأمكن الجمع . وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه ، فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة ، بل هو عزيمة متعبد بها عنده ، ويدل عليه حديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ في القصر : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث ، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة ; إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام ، وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة ; لأنها شرعت في السماء خمسين ، ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة ، وذلك لا يكون كما تقدم ، فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة . وأما قوله : إن الله يحب أن تؤتى رخصه فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . [ ص: 484 ] وأيضا ; فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافي . وأما قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وما كان نحوه ; فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج ، وبالله التوفيق .
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (36) صـ485 إلى صـ 496 المسألة الثالثة أن الرخصة إضافية لا أصلية ، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن سبب الرخصة المشقة ، والمشاق تختلف بالقوة والضعف ، وبحسب الأحوال ، وبحسب قوة العزائم وضعفها ، وبحسب الأزمان ، وبحسب الأعمال ، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة ، وأرض مأمونة ، وعلى بطء وفي زمن الشتاء ، وقصر الأيام ; كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر ، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشقاته يختلف ; فرب [ ص: 485 ] رجل جلد ضري على قطع المهامه ، حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ، ولا يتألم بسببها ، يقوى على عباداته ، وعلى أدائها على كمالها ، وفي أوقاتها ، ورب رجل بخلاف ذلك ، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش ، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة ، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها ، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها ، وإذا كان كذلك ; فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس ، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة ; فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة ، وترك كل مكلف على ما يجد ، أي : إن كان قصر أو فطر ففي السفر ، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض ، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر ، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر ، وهذا لا مرية فيه ; فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ، ولا ضابط مأخوذ باليد ، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه ; فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ، ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب ، وكما ذكر عن الأولياء ; فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك ، هذا وجه . والثاني : إنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس ، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا [ ص: 486 ] الشدائد ، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم ، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك ، وطالت عليهم الآماد ، وهم على أول أعمالهم حرصا عليها ، واغتناما لها ; طمعا في رضى المحبوبين ، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم ، بل لذة لهم ونعيم ، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد ، وألم أليم ، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات ، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات . والثالث : ما يدل على هذا من الشرع ; كالذي جاء في وصال الصيام ، وقطع الأزمان في العبادات ; فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ، ثم فعله من بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم ، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ، ويقطعهم عن سلوك طريقهم ; فلا حرج في حقهم ، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته ، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك ; ، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها ، وهو غير منتهض إلا أن يجعل [ ص: 487 ] منضما إلى ما قبله ، فالاستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة . فإن قيل : الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة ; إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر ، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه ، فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة ، إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه ، وإذا كانت مأمورا بها ; فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة ، وإن كان الثاني فلا حرج في العمل ولا مشقة ، إلا [ ما ] في الأعمال المعتادة ، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة ، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما ; ارتفعت الرخصة من أصلها ، والاتفاق على وجودها معلوم ، هذا خلف ; [ ص: 488 ] فما انبنى عليه مثله . فالجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر ; لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا ; إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها ، فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ، ولم يعتبر في الإلزامات . والثاني : إنه إن سلم ; فلا يلزم السؤال لأمرين : أحدهما : إن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه ; لإمكان قسم ثالث بينهما ، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل ، ولا يكون المكلف رخي البال عنده ، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم ، مع أنه لا يقطعه عن سفره ، ولا يخل به في مرضه ، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل ، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص ، جار فيه هذا التقسيم ، والثالث : هو محل الإباحة ; إذ لا جاذب [ له ] يجذبه لأحد الطرفين . والآخر : أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من جهة كونه [ ص: 489 ] رخصة ، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا ، فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ، ومع مدافعة الأخبثين ، ونحو ذلك ; فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هي [ ص: 490 ] رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق ، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة ، والله أعلم . المسألة الرابعة الإباحة المنسوبة إلى الرخصة ; هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج ، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك ؟ فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر ، وذلك ظاهر في قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله في الآية الأخرى : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ; فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك ، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم . وكذلك قوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] ، ولم يقل : فله الفطر ، ولا فليفطر ، ولا يجوز له ، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر ; فعدة من أيام أخر . وكذلك قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ، ولم يقل : فلكم أن [ ص: 491 ] تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا . وقال [ تعالى ] في المكره : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله [ النحل : 106 ] ; فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولم يقل : فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق . وفي الحديث : أكذب امرأتي ؟ قال له : لا خير في الكذب . قال له : أفأعدها وأقول لها ؟ قال : لا جناح عليك ، ولم يقل له نعم ، ولا افعل إن [ ص: 492 ] شئت . والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور ، أن الجمهور أو الجميع يقولون : من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور ، وفي أعلى الدرجات ، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر ; فكذلك غيره من المواضع [ ص: 493 ] المذكورة وسواها . وأما الإباحة التي بمعنى التخيير ففي قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] ، يريد : كيف شئتم : مقبلة ومدبرة وعلى جنب ; فهذا تخيير واضح ، وكذلك قوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين . فإن قيل : ما الذي ينبني على الفرق بينهما ؟ قيل : ينبني عليه فوائد كثيرة ، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا : الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير ، وليس كذلك إذا قلنا : إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها ; إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أنه موجود مع الواجب ؟ ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا ، فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق ، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال ، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى . المسألة الخامسة الترخص المشروع ضربان : أحدهما : أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا ; كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا أو عن الصوم لفوت [ ص: 494 ] النفس . أو شرعا كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها ، وما أشبه ذلك . والثاني : أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها ، وأمثلته ظاهرة . فأما الأول ; فهو راجع إلى حق الله ; فالترخص فيه مطلوب ، ومن هنا جاء : ليس من البر الصيام في السفر ، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان ، و إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء إلى ما كان نحو ذلك ; فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل ، ولا كلام أن الرخصة هاهنا جارية مجرى العزائم ، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف ، وأن من لم يفعل ذلك فمات دخل النار . وأما الثاني : فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ ; إلا أنه على ضربين : [ ص: 495 ] أحدهما : أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها ; كالجمع بعرفة والمزدلفة ; فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم ، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم حتى عده الناس سنة لا مباحا ، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة ; إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة ; كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر ; فإذا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة ، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم . والثاني : أن لا يختص بالطلب ، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج ، فهو على أصل الإباحة ، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة ، وإن تحمل في ذلك مشقة ، وله الأخذ بالرخصة . والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة ، فلا حاجة إلى إيرادها ، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فنقول : أما الأول ; فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي ; لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة ; إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها ، فالإتيان بما قدر عليها منها ـ وهو مقتضى الرخصة ـ هو المطلوب ، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب . [ ص: 496 ] وأما الثاني ; فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب [ العمل بها على الخصوص ، خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها ، كما ثبت عند مالك ] [ الدليل على ] طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة ، ولا كلام فيه . وأما الثالث ; فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن في الرخصة أو في رفع الإثم عن فاعلها .
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
__________________
|
#39
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
__________________
|
#40
|
||||
|
||||
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |