قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 25 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-09-2022, 02:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون









الشِّعر: ثورة الكلمة، ولغة القافِية، التي لا تَفتأ تَصرخ ملء الشَّاعرية والشعرية، ترسم ملامحَ الوجود والموجود، وتترجِم الخيرَ والشرَّ في الإنسان، وتَكشف عن أعماقِ ذاتيَّةِ الشاعر الذي يخلق من أبجديَّة مشاعره وآلامه وآمالِه وطموحاته مادَّةً هلاميَّة يشكِّل منها صورًا تخييليَّة، يلونها بأساليبه البلاغية والمجازية؛ لتعبِّر عن آرائه وميولاته وأحلامِه، فتميط حجبَ التساؤلات عن الواقع والمواقع!

ولأنَّ بؤرة الإبداع الأدبي هي تَحقيق التأثير في المتلقِّي؛ كان لزامًا على المبدِع - سواء أكان شاعرًا أم كاتبًا - أن يجيدَ استعمال لغته الأدبيَّة، وأن تكون منه كفاءة الإرسال، وتكون من المتلقِّي كفاية التأويل؛ كي تَكون عمليَّة التواصل بينهما ناجحة.

وعليه؛ فالشِّعر رسالة، والقصيدة شيفرة يحاول القرَّاءُ تفكيكها والغوص إلى ما وراء الكلمات في أعماق ما بين السطور؛ محاوَلةً منهم لفهم مقاصد الشَّاعر.

والمتلقِّي القارئ لأبعاد النصِّ ورؤاه يَدخل في حوارٍ حجاجي معه؛ يَستنطق من خلاله المفردات، ويزيح ستائرَ الغموض والرمزيَّة عن المعاني؛ فيؤوِّل ما يمكن تَأويله في قراءة تحليليَّة ناقدة ممحصة.. وهذه القراءة ما هي إلَّا محاولة لسَبر أغوار هذه القصيدة الباذخة في مبانيها ومعانيها، ورساليَّتها ومقصديتها.. والقصيدة تعلِن عن نفسها، وتتحدَّث عن ذاتها!

عتبة سوح الذات الشاعرة:
العنوان - كما هو معروف - هو العتبة الأولى التي نَنطلق منها للولوج إلى النصِّ، وهو تَكثيفٌ لمعانيه، أو لنقُل: هو الجسر الذي يمرُّ عليه القارئ للوصول إلى دلالاته، وهو يشكِّل أول إشارة من المؤلِّف للمتلقي.

وهو كذلك "رسالة لغوية (...) تَجذب القارئَ إليها، وتغرِيه بقراءتها، وهو الظَّاهر الذي يدلُّ على باطِن النصِّ ومحتواه"[1]، و"قد أظهَر البحثُ السيميائي بشكلٍ من الأشكال، أهميَّة العنوان في دراسة النصِّ الأدبي؛ وذلك نظرًا للوظائف الأساسيَّة المرجعيَّة والإفهاميَّة والتناصيَّة التي تَربطه بالنصِّ وبالقارئ"[2]، ولاستنطاقه لا بد من فَتح نوافذ التأويلات على بِنيته اللَّفظيَّة والدلالية، وإن كان هو بنية سطحيَّة، فإنَّ القصيدة بِنية عمِيقة، وعليه؛ فإنَّ تفكيكه إلى وحدات دالَّة تُحيل بالتالي على مدلولات مزخرفة بألوان بلاغيَّة، تساهِم بدورها في رسم ملامح القصيدة، وفتح مغالِقها، وتوضيح مقاصدها.

وعنوان القصيدة التي بين أيدينا للأديب والناقد د. فريد أمعضشو، يتكوَّن من كلمتين: "نفثة مصدور"؛ نفثة + مصدور! الكلمات لا تتوقَّف عند حدود دلالاتها المعجميَّة، بل تتخطَّاها إلى توليد دلالاتٍ أخرى حسب السِّياق الذي وردَت فيه، فحَسب سياق القصيدة فإنَّ "نَفثة" هي غصص حرَّى، يَستعر بها جوف الشَّاعر، وهي أَلسِنة لهيب الغربة التي تتلاطَم بين ضلوعه؛ إنَّه معلول، والعلَّة أكبر من التحمُّل؛ ثمَّة بركان يَثور في الأعماق!

والنَّفث فعلٌ لا شعوري أحيانًا، وشعوريٌّ في أحايين أخرى، وتلك الغصص حممٌ تَطفو على سَطح الواقع المرير.. نَفثة تحرق ما مضى من الأيام، وما اخضرَّ من الحاضر، وتعيد الآتيةَ رمادًا قد ينبتُ فيه عشب الأمَل، أو لعلَّه يَنبت! والذَّات الشاعرة فارس يتوشَّح سيف الكلمة، يحاول أن يَنفخ في هذا الرَّماد ويعيده سيرتَه الأولى أغصانًا مخضرَّة!

وكما للقصيدة شعريَّتها، كذلك للعنوان شعريَّته، ثمَّة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان؛ فهي علاقة الجزء بالكلِّ، وعلاقة الباب بفناء الدَّار، إنه نصٌّ موازٍ لمتن القصيدة؛ حيث يشكِّل وحدةً متجانسةَ الدلالات مع وحدة النصِّ، وهو خطاب مستقلٌّ عن خطاب القصيدة، لكن مدار الدلالة وبؤرة المعنى واحد!

فنفثة مَصدور هنا توازي ما جاء في مَتن القصيدة من شَجنٍ وقلَق ولهيب يلفح ضلوعَ الشاعر، والقارئُ يحاول البحثَ عن المعاني المخبَّأة في ثنايا القوافي، وعبارة "المؤلِّفون يكوِّنون المعنى" تشي أنَّ ثمَّة معاني كثيرة تتعدَّد بتعدُّد القرَّاء، والمعنى ليس ثابتًا ولا نهائيًّا، المعنى سموات من المعاني، وما يفهم الآن قد يُفهم بصورة مختلفة مستقبلًا، وتتابُع الزَّمن يغيِّر المعنى ويجدِّده؛ فمثلًا ما يفهم من قصائد ابن الفارض الآن غير الذي فُهم من مئات السنين، وكذلك الأمر بالنِّسبة إلى الجاهلي؛ فقصائد الشعراء الصَّعاليك قد تَحمل دلالات متشعبة وعديدة، خصوصًا في خطابها الثوري المتمرد، وقد كانت لي وقفة مع شعر الصَّعاليك ومع قائدهم عروة بن الورد، الذي أطلقت عليه لقب "روبن هود العصر الجاهلي"، وليس هنا مقام الحديث عن ذلك، وعليه؛ فالنَّفثات في هذه القصيدة ستكون لها صور عدَّة، كل صورة وكل مشهد يَحكي عن جانب من جوانب نفثات ذلك المصدور همًّا وغمًّا؛ على أمَّة غرقَت في وَحل اللامبالاة، آذانها من طينٍ وعجين، هل من سامع للَهيب نفثات المصدور؟!

إنَّ المصدور يقول:
أنا في كياني غريب
غريب
غريب

استهلَّ الشاعر قصيدتَه بضمير المتكلم "أنا" ليحصر الحديثَ عن نفسه، أنا الغريب، أتحدَّث عن نفسي، عن كياني.. أنا من يَشعر بالغربة، ولا أحد سواي.. أنا هو المصدور، أنا القابِع في مأساة الغربة، أتحدَّث عن أنايَ!

البداية هي "أنا"؛ لتلفَّ هذه "الأنا" حبالَ الرؤية والرؤى حول أعناق الكلمات، لا لتشنق معانيها؛ بل لترفعها إلى علياء الرمزيَّة والرسائل المشفَّرة المسكوبة في دلالات عديدة تتعدَّد وتتشظَّى كما تتشظى تلك الذَّات.. الكلمات تفيض بأنين النَّفثات؛ حيث بدأ الشاعر قصيدتَه بجملةٍ اسمية "أنا في كياني غريب..."، ثمَّ جاءت بعدها جمَلٌ فعليَّة "تداهم.. فتمرع.. تشهر.. تنشر.. تغتال"؛ وكأنَّه يصرخ في وجه ذلك "الآخر" الذي داهَم سوحه: إنَّ ما أقوم به كلام حديث، وما تقوم به أنتَ أفعال، وتلك الأفعال كانت مكرًا، كانت سيطرة وانتزاعًا قسريًّا لما يملكه الغير، أنا في كينونتي وفي أعماقي أشعر بالغربة؛ غربة تتفتَّق عن غربة حتى كأنَّها ظلمات ثلاث، والشاعر هنا ردَّد كلمة "غريب" ثلاث مرات مع علامات تعجُّب الكينونة الإنسانيَّة، والكينونة الفكريَّة، والكينونة التاريخية، غربة عبر المكان والزَّمان.

والغربة ظاهرة بارِزة في الأدَب العربي، وكذا العالَمي، لا يَخلو أدبٌ ما من وجود هذه الظَّاهرة الإنسانيَّة التي عبَّر عنها الأدباءُ والشعراء والفنَّانون عبر العصور.. لكن غربة الشاعر في هذه القصيدة ليست غربة "الأنا" وحدها؛ بل غربة الذَّات الجماعية؛ وهذا ما يَجعل هذه الغربةَ غربة لا ككلِّ الغربات.

صدمة هزَّت الشاعرَ لِما يراه من ظلمٍ وهوان.. انعدام الثِّقة في الواقع المعيش، إنَّه يعاني من التِّيه والغربة في خندق القلق.. ها هو يوجِّه الخطابَ إلى ذلك القائد الذي أتى بفرسانه:
تُـداهِم فُرْسانُ جُـودِكَ سُـوحِي
فتَمْرَعْ.. وتُزْهِرْ.. وتَأمُلْ
وتَــوًّا!
تُشَهِّرُ عَضْبَكْ
وتنشُر مَحْلَكْ
وتَغْتال آمال





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28-09-2022, 02:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون



مداهمة: تداهم فرسانُ الجود سُوحَ الشاعر فجأة، وتنزل في خصبٍ تمرع حتى الثمالة؛ فيتلألأ نَجمها ويسطع، وتجد كلَّ ما تأمل، وترجو المزيد.. وضمير "جودكَ" تقديره أنت، يعود على قائد الفرسان، وكلُّ فارس من هؤلاء الفرسان يمثل ميدانًا منفصلًا ومتصلًا في آنٍ بالجود المقنع.. ميادين مختلفة؛ ثقافيًّا، اقتصاديًّا، سياسيًّا، واجتماعيًّا وصحيًّا، وكأن الشاعر يخاطِب هنا "الأممَ المتحدة" أو يخاطب الويلات المتحدة! حين تنزل بقضِّها وقضيضها رافعة راية الإنسانيَّة المرفرفة في سماء الاستلاب لكلِّ شيء دون وجه حق، ومصطلح "الفرسان" ذو حمولة دلاليَّة عميقة مرتبطة بالشهامة والشجاعة، ونشرٍ للعدل وإحقاق للحق.. ترى هل ما فعله الفرسان المداهمون يمتُّ بصلة لهذه الصفات؟!





لم يحدِّد الشاعر اسمَ قائد الفرسان؛ لأنَّ "كَ" رمز لكلِّ مداهم، لكلِّ من يأتي لابسًا قناعَ الجود، ويُخفي وراء ظهر كرمِه خَنجرَ الغدر، يزرعه في قلب الدار!



ولأنَّ أصحاب الجود المقنَّع يوجدون في كلِّ زمانٍ ومكان عبر التاريخ، وآثارهم باقية ما زالت تَصرخ ملءَ الوجع والدَّمار الذي خلَّفوه وراءهم؛ لم يحدِّد الشاعر الضميرَ الحقيقي لـ "كَ".. والشخصيات المتعددة التي استدعاها الشاعِر دلالة على أن "كَ" كان في عصر الجاهليَّة؛ حين ذكر حاتم الطائي، و"كَ" كان في صدر الإسلام حين استدعى شخصيَّة الحسن رضي الله عنه، و"كَ" كان في عهد صلاح الدين، و"ك" كان في عصر يوسي مراكش وأيضًا في عصر شوقي.. وكذلك "ك" موجود في عصر العولمة، ما زال يعلِّمنا أن "الأنا" أسطورة من أساطير الماضي، والعَنقاء مجرَّد رماد.. والرماد يملأ عيون "الذات"!



قلب الدار وأطلال الهوية!

السوح: ساحة الدار، صحن الدَّار، رمز من رموز البيوت العربيَّة القديمة، هي ليست مكانًا هندسيًّا فقط، بل هي أيضًا طوبوغرافية روحيَّة وفكرية، يتجلَّى فيها ركح الذَّاكرة، وفضاء رحب مليء بالدِّفء والمسامرة، واللعب الطفولي، ونبض الهويَّة والوطن.. وإن كانت المقدمة الطلَليَّة عنوانَ الحبيبة، فالساحة عند الشاعر هنا هي عنوان ذاكِرة الانتماء الحضاري، وأطلال الهوية المفقودة.. والساحة تلعب دورًا فعَّالًا في إظهار حقيقة الفرسان؛ إنَّها مَسرح الأحداث الذي تتجلَّى فيه الملامح الحقيقيَّة لأولئك المداهمين، وهي بؤرة دلاليَّة، ومركز الصراع الخفي وراء الجود المقنَّع... سطوٌ على كيان الشاعر، واستنزافٌ لثرواته وخيراته، واحتقار لِماضيه، واستهتار بمعتقداته ورموزه!



وتوًّا!

في ذات اللَّحظة التي يَنزل فيها الفرسان ساحةَ الدَّار لقلب الدار، بعد أن تمرَّغوا في النِّعم، تشهر كلُّ فرقة من الفيلق سيفَها القاطع، وتَنشر حولها سوادًا شديدًا.. ثمَّ تغتال كلَّ الآمال؛ مشهدٌ تراجيدي، مَذبحة غطَّت دماؤها أرضَ السُّوح، بعد أن نزلَت فرسانه - الآخر؛ الذي يوجِّه إليه الشاعر خطابَه - المقنَّعة تحت قناع الجود والكرَم والمساعدة، ها هي في لَحظة تَنقلب إلى حقيقتها وتذر قناعَ الجود جانبًا، فتقطع كلَّ اخضِرار، وتُعيد المكان سوادًا، بل شديد السواد لا يرى فيه الإنسان موضعَ قدمه، وتغتال كلَّ الآمال التي كانت مأمولة فيها.. أولئك الفرسان الذين أتوا حاملين لواءَ (الكرم، السلام، الديموقراطية، الحوار بين الثقافات) ذابَت ألوان شعاراتهم من حرارة الجشع؛ إنَّه الافتقار إلى القِيَم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة؛ ها هم يَنشرون الفتنةَ كقطع اللَّيل المظلِم، بعدما كانت ساحة الدَّار لهم مرتعًا خصبًا.



وهنا نجد الشاعر استطاع بحنكةٍ رائعة استعمالَ كلمة "الفرسان" وتوظيفها في حواره مع "الآخر" كعلامة سيميائية تدينه وتحطُّ من قَدْره، وتظهر التناقضَ الحاصل ما بين: "تُداهم / تَغتال / تشهر عضبك / تنشر محلك"، وما بين كلمة "جودك"، إن "الآخر" يجيد التَّمثيل لابسًا قناعَ الجود.. أتَت كتيبة فرسان الآخر، ووجدَت كرمًا مضاعفًا "تمرع / تزهر / تأمل" لكن سرعان ما كشفَت عن حقيقتها؛ فالفرسان مصطلح يَختزل آفاقًا دلالية تهطل عزمًا وقوة، وعدلًا وشهامةً، وشجاعة ونبلًا.. لكن فرسان "الآخر" لا يمتُّون للفروسيَّة بصِلة، هم قَطيع من المفترسين؛ قَتلوا ونهبوا، بل اغتالوا.. اغتالوا كلَّ الآمال التي كانت مَنقوشة على باب المستقبل، وبما أنَّ الذَّات الشاعرة عربيَّة أصيلة تذوقَت المعنى الحقيقي للفروسيَّة، ظنَّت أنَّ كلَّ راكب على جواد الجود كريمٌ نبيل فارس يَحترم منظومة الفروسيَّة.. لكن، هيهات! لقد كانت المداهمة مخبأة في جوف حصان طروادة.



وبعد أحداث المداهمة، يطلق الشاعرُ أناه:

أطَـلِّقُ هذي الأنا طلَـقاتٍ ثـَــلاثًا

أَمُــورُ..

أَفُــورُ..

أَثــورُ..

"الغضب الساطع آتٍ"!



حركة وانفِعال واضطراب يصل حدَّ الثورة! حين رأى الشاعِر مظاهرَ الدَّمار والاغتيال؛ حرَّر أناه من قَيد الخوفِ وأطلق سراحها طلقات ثلاثًا.. فكما أنَّها كانت في غربة ثلاثيَّة الأبعاد، أطلِّقها بعدد تلكم الغربات - قد كرَّر الشاعر كلمة غريب ثلاث مرات - حيث لا للاستسلام لأوجاع الغربة، ولا بدَّ من التحرُّر من قيد الخوف، ويجب أن يَنتفض من أجل حماية السوح، فتتحرك "الأنا" وتضطرب غضبًا؛ فتمور وتفور وتثور!



حركة الأفعال المضارعة تتنامى وتمتدُّ، ويتسارع إيقاعها على نَغمات ما يموج ويهيج في أعماق الشَّاعر من مشاعر الغضَب، إنَّها أفعال مليئة بديمومة الحركة، إنَّها حركة الغليان المتكرِّر والمستمر.. ومد الصوت - الحرف - بحركة الصائت "الواو"؛ وهي حركة طويلة يَزداد معها إيقاعُ الغضب والثورة تسارعًا؛ "إذ تطويل الحركات أداة من الأدوات المتوافرة بين يدَي المتكلِّم للتعبير عن أغراض شتَّى، ونقل حالته النفسيَّة وانفعالاته الداخليَّة والخارجيَّة، وتضمين العبارات دلالات متعددة"[3].



"أَمور، أَفور، أَثور"؛ مشاعر الغضب والاضطراب والانفِعال النَّفسي؛ النار تتَّقد وتَستعر في جوف الشاعِر، وحرف الراء فيه من النَّار والرمضاء ما يفي بالغرض ليصوِّر حالته بعدما رأى اغتيال الآمال، وذبح الاخضِرار من طرف الفرسان المداهمين.. والدفقات الموسيقيَّة تتوافق مع حالته النفسيَّة، فقد استعمل الأصوات المجهورة والمهموسة المفخَّمة والمرقَّقة؛ "حيث يسهم الجَهر والهَمس في تَشكيل المعنى، وتوضيحه، كما أنَّه يتوافق مع الحالات الشعوريَّة والنفسيَّة، ومع الموقف الحياتي الذي يَبغي الشاعر التعبيرَ عنه"[4]، وحرف الراء المجهور المكرر فيه كثيرٌ من الحركة، يلائم مشاعرَه الغاضبة والثائرة.. إيقاع متواتر ومتوتِّر، وحركة سريعة، سرعتها من قبس شعر الملك الضِّلِّيل حين قال:

مكرٍّ مفرٍّ مُقبلٍّ مدبر معًا ♦♦♦ كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ



النسيج الموسيقي هنا ليس اعتباطيًّا، بل هو فعلٌ قَصدي، إنَّه حِيكَ بحِرفيَّة متقنة، يصور لنا الشاعِرُ من خلاله حالتَه ومعاناته، يَنقل أحداثَ أعماقه بكاميرا الكلمات إلى سطح الواقع؛ لتكون صورة مجسدة، عنوانها: "الغضب الساطع آتٍ".. والسياق الشعوري السريع، وكثافة الشحنات العاطفية، والتوتُّر الدرامي: يصعِّد من إيقاع القصيدة.



لكن فجأة يَخبو الثوران؛ فبعد الحركة الإيقاعيَّة التصاعديَّة، ها هي الآن تنازليَّة، يعود الإيقاع إلى الهدوء؛ ممَّا يؤثِّر في نفسيَّة الشاعر والمتلقي معًا، فينقلنا من مسرح السوح والثوران إلى السماء الفسيحة؛ يرسم من سحبها لوحةً شعريَّة تهمي إبداعًا وروعة.. فيقول:

ولكنَّ جَوْهــرَها الفذ

يَبْـزُغ لي نَــوْرَسًا يَسـْتوي كـسَبيكةِ كُـــرْسُفْ

أفِــيقُ

فأطْــرَحُ زِيًّا قَــشِيبًا

أنَقِّر عنْ حاتِـــمٍ

عن صَلاحٍ

وعن أحْمَدٍ في المَــنافي!

نورس يبحث عن موانئ التاريخ!



حمم بركان تَستعر في جوف الشاعِر، غضب عارِم يَكتسح كلَّ شيء؛ لا بدَّ من الوقوف في وجه أولئك المداهمين.. لكن، بدأ الهدوء يَسري في أورِدَة ذلك الغضب؛ الجوهر الحقيقي والمتفرد لـ "الأنا" يبزغ نورسًا.. نورسًا ناصع الأصالة، وكلمة "يبزغ" استعارة رائعة، تُحيلُنا إلى بزوغ الشمس.. تبزغ أصالة وتفرد هذه "الأنا" كنورس في استوائه كما سبيكة كرفس، صورة شعريَّة ذات مَرامٍ وغايات دلاليَّة، تكشف لنا مدى تفنُّن الشاعر وذكائه الشِّعري في إتقان رصِّ الكلمات ونَظْمها في قالب بلاغي جد رائع؛ ليَرتسم المشهد أمام المتلقي حيًّا وحقيقيًّا مرصَّعًا بالروعة والدهشة؛ ليقنعه أنَّ التراجع عن الثورة لم يَكن جبنًا ولا تقاعسًا، بل هو سموُّ النفس ورقيُّها.. إنَّه إيثار السَّلْم وتجنب الصِّدام، فالقدرة على التصدِّي والتحدِّي وإن كانت ضرورة لحِفظ ماء الوجه والكرامة، فإنَّ السلم أولى، الشاعر لم يَشأ أن تَكون لغة السَّيف هي الأداة التواصليَّة والحواريَّة بينه وبين "الآخر"، إنَّ سلاحه هو الكلمة الحواريَّة، متخذًا من منهاجه الديني نبراسًا يرشده إلى ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34]؛ دَفع الإساءة بالحِلم واللِّين، دفع الظَّلام بالنور، نور يُضيء سماء الأنا وما حولها.. أصالتها تُحلِّق في سماء الرقيِّ والسموِّ الروحي، نقيَّة وناصعة البياض كالقطن، نور سُكب في قالب النَّقاء.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28-09-2022, 02:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون



وهذه الصورة الشعريَّة تجسِّد لنا المشهدَ حتى لنكاد نراه بأمِّ أعيننا، نورس يطير فيبزغ على هيئة سَبيكة القطن، نقَلَ الشاعر المشهدَ من خيال الشِّعر إلى واقع محسوس، وكما يقول الجاحظ: "إنَّما الشِّعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير"[5]، إنَّها بلاغة راقِية، جامعة مدهِشة، إنَّه تآلف المتنافرات.. و"للشِّعر أسلوب خاصٌّ في صياغة الأفكار والمعاني؛ هو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال، واستمالَة المتلقِّي إلى موقف من المواقف (...)، [وفي] الصياغة يقوم على جانب كبير من جوانبه على تَقديم المعنى بطريقة حسيَّة؛ أي: إنَّ التصوير يترادف مع ما نسمِّيه بالتجسيم؛ [وهذا يجعل الشِّعر] قرينًا للرسم ومشابهًا له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقِّي"[6].



وهذا ليس مغامرة باللُّغة لتصور صورًا تتمرَّد على المألوف، بل هو انزياح إبداعيٌّ يصبُّ اللُّغةَ في قوالب المعنى؛ لتشكِّل صورًا شعريَّة ترسم المعاني والدلالات بألوان الرؤى التي يريد الشاعِر أن يوصلَها للمتلقِّي في أبهى حلَّة وأروع تَصوير.. وبهذا نَجد الشاعِر قد نفخ الحياةَ في لغته وجمَع بين الصوت والدلالة والسياق بكيمياء التخييل والفِكر والمشاعر؛ فخلق لنا لوحات شعريَّة نفثها نفثة تلوَ النَّفثة حتى ليَكاد القارئ يَلمس حرارة وحرقة هذه النَّفثات.. لقد جسَّد جماليَّة الصورة الشعريَّة في أبهى صوَرِها، ورمزيَّة النورس هنا رمزية جدُّ موغلة في سماء الطُّهر؛ فهو أَطهر الطيور؛ لا يَنقل العدوى، ولا يؤذي أحدًا، يعشق البحر، حتى إنَّه إذا ذُكر البحر ذُكرَت النوارس، طائر مسالِم، مهاجِر ما بين موانئ الغربة.. لقد بزغَت أصالة "الأنا" المسالمة، العاشِقة للسلم والسلام، تحلِّق في سموات الانعِتاق والنَّقاء والانطلاق بلا قيود مثل النوارس، وهذه الصورة الجماليَّة التي رسمها الشاعر تؤثث عالمه الشِّعري الباذخ، وتؤثِّر في المتلقِّي؛ فالصورة الشعرية من أهمِّ ركائز منظومة الشِّعر قديمًا وحديثًا، وهي تَكشف للمتلقي عن مدى رقيِّ الذوق الشعري عند الشاعر؛ حين يروم التعبيرَ عن خلجات نفسه ومشاعره ورؤاه، وهي كذلك "الوسيلة الفنيَّة الوحيدة التي تتجسَّد بها أفكار الفنان وعواطفه"[7].

ثمَّ تُتابِع النفثاتُ رحلتَها.. وبعد أن تستفيق "الأنا" وتطرح زِيَّها القشيب، تفكِّر في الأمر.. لا بدَّ من البحث عن المساعدَة، فهي تريد السلم لا الاستسلام؛ فينقر ذلك النورس أو تلك "الأنا" عن حاتم وصلاح وشوقي.. إنَّ الشاعر يرسِل القوافي عبرَ الزَّمن؛ ليبني قنطرةً تواصليَّة ما بينه وبين الشخصيَّات التراثيَّة؛ هناك هناك المبتغى، هناك النَّجدة، هناك القوة والنصرة.. القوافي تصدح: "وامعتصماه!"؛ لِيَأتي فرسان يكونون صرحًا منيعًا ودرعًا في وجه كتيبة "الفرسان" المقنَّعة، التي ظاهرها الجود وباطِنُها من قِبَله العذاب والتَّقتيل، والتدمير والاغتيال، تستدعي "الأنا" فرسانَها من كلِّ الحقب التاريخيَّة، وتسافر عبر الزمن لتجمع "فرسان النصر"، إنَّه الحنين إلى زمن القوة والعزَّة.

أحِـنُّ إلى البَـدْر وَسْــطَ الدُّجَـى
إلى ظِــلِّ دَوْحٍ
إلى خُبْز كِسْــرى
إلى جَلَسات الحَسَنْ
وابْنِ رُشْــدٍ
ويُوسِي مُرَاكُـــش

الحنين إلى البدر! الحنين إلى النور والقِيَم الإنسانيَّة المفقودة:
الشاعر أو الأنا المغتربة تَشعر بالحنين إلى البدر! البدر لطالَما تغنَّى به الشعراء وكان مركزَ التشبيه عندهم، البدر الخلُّ الوفيُّ لكلِّ مهموم ومشتاق، وسراج ينير دروبَ المتاهات النفسيَّة والفكرية.. في شرفاته تَرتاح الأنفس وتستجمُّ من حَرِّ ما تجد في دنياها.. الحنين إلى البدر حين يتوسَّط الدجى، يكون الأمل المرتجى.

إنَّ الشاعر يحنُّ إلى البدر لَحظة توسُّطه لحلكة ظلمة اللَّيل، البدر وهو في تمام اكتماله، البدر بكلِّ دلالاته: النور والأنس، والحقُّ والضياء، البدر الذي يَقف في قلب الليل؛ فيُعيد السماءَ مزهوَّة بنوره، والأرض مفروشة بترانيم ضيائه، يزيل وحشةَ الطُّرق، يزيل نورُه وضياؤه ظلمةَ الظلم واللصوصيَّة وحلكةً بسطها المداهمون على أرض السوح.. حاضرٌ بَئيس تعيشه "الأنا" المغتربة التي تحنُّ إلى ظلِّ دوح، إلى ظلال شجَرة الكينونة التاريخيَّة، إنَّها تتوق إلى عظَمَة العروق المتجذرة في أعماق العروبة الأصيلَة، ظلال تحميها من حرِّ ما تجد من ظلمٍ وهوان.. وما زال الحنين يَجرفها.. إنَّ الأنا الشاعرة تحنُّ إلى "الخبز"؛ إلى خبز كسرى.

العدالة "طرف الخبز"!
لطالما رُفع رغيف الخبز للمطالَبة بالعدالة وحقِّ العيش بكرامة، إنَّه أيقونة سيميائية لها دلالاتها المجتمعيَّة والاجتماعيَّة والسياسية أيضًا.. الخبز "تيمة" حاضرة في شتَّى الآداب، سواء منها العالمية أو العربيَّة، وهو يمثِّل بؤرةَ الأدب الاجتماعي كما يمثِّل "الحبُّ" بؤرة الأدب الرومانسي.. إنَّه شِعار الحياة؛ بل هو إكسير الحياة، ودوس الخبز بالقدم يعدُّ كفرانًا للنِّعمة، وفي موروثنا الشَّعبي نقوم بتقبيل الخبز إذا وجدناه ملقًى على الأرض ثمَّ نضعه في مكانٍ بعيدًا عن المارَّة، ورغم أنَّ البعض لا يُجيز تقبيله، لكن هناك مَن فعل - منهم الحنفيَّة والشافعية - إن كان التقبيل بنيَّة الاحترام.. إذًا، احترام "الخبز" واجبٌ؛ لأنَّه احترام للنِّعمة، ومن النِّعمة الحنين إلى "خبز كسرى"؛ نعمة المشاعِر أن تحنَّ إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الشاعر حين قال: "أحن إلى خبز كسرى" هو معنًى ظاهر لمعنًى باطن، هو حَنين إلى العدل العُمَرِي، الحنين إلى تَوزيع الثروات بعدلٍ وبصورة لا تَترك المجتمعات تَظهر فيها الطبقيَّة الفاحشة، ما بين غنى فاحش وفقر مدقع؛ "خبز كسرى" هي الغنائم التي غَنِمها المسلمون في معركة القادسيَّة حين دخلوا إيوان كسرى واستولوا على ما فيه من كنوز.. وحسب سياق القصيدة أيضًا فالشاعر يحنُّ إلى تلك الانتصارات المتوالِية؛ انتصارات على دولة الفُرس، أعظم الإمبراطوريات، التي كانت تتقاسم الزَّعامة الدولية مع الروم آنذاك.. إنَّه الحنين إلى زمن العزَّة والقوَّة العسكرية التي كان يهابها الجميع!

ويفيض الحنين! تحنان إلى جلسات الحسن رضي الله عنه سِبط الرَّسول صلى الله عليه وسلم، سيِّدِ شباب أهل الجنَّة، الحليم الذي تخلَّى عن الحُكْم لمعاويةَ من أجل حَقنِ الدِّماء.. الشَّاعر ظامئ إلى "جلسات الحسَن" كي يَرتوي؛ فيخف الوجعُ وتَهدأ نيران النَّفثات، إنَّه في حاجة إلى كتيبة النَّصر التي تتكون من: حاتم الطائي، صلاح الدين الأيوبي، أحمد شوقي، الحسَن رضي الله عنه، ابن رشد، يوسي مراكش.. الشاعر يَستنطق الزمانَ والمكان، ويَستدعي شخصيات تاريخيَّة؛ ليتحدَّى بها الواقعَ المرير الذي يَعيشه؛ ولتكون دِرعه الذي يَحمي ويقي بها مداهمةَ المداهمين لسوحه.. إنَّه يَستحضر التاريخَ، وهذا الاستحضار ليس استحضارًا اعتباطيًّا للدوالِّ من أجل الزَّخرفة الشعريَّة، أو لمجرد حَشو القصيدة بأسماء تراثيَّة، بل هو استنطاق للمدلولات التي تَحمل المعاني والدلالات التي تمثِّلها كلُّ شخصيَّة، إنَّه اختيار متميز؛ حيث أبدع الشاعِر في توظيفها توظيفًا يخدم فكرةَ القصيدة والرسائل المراد إيصالها للمتلقِّي؛ أليس أولئك الفرسان قد داهموا سوحَه، وامتصُّوا خيراته، ثمَّ "توًّا" عَربدوا وفتكوا واغتالوا كلَّ شيء!

إذًا، هو يَحتاج إلى كلِّ صفة وإلى ما تمثِّله كل شخصيَّة، إنَّها تشكِّل حزمةً من المعاني والدلالات التي يَحتاجها؛ ليقابل قطيع "الفرسان" بفرسان أَقوى منهم يمثِّلون الفروسيَّة الحقيقيةَ، يتجسَّد الشاعر بطلًا يصبُّ نفسَه في قالب فرسانه الأبطال.. واستدعاء هذه الشخصيَّات التراثيَّة لتوظيفها في بِنية القصيدة له حمولة فكريَّة ووجدانيَّة وتاريخيَّة؛ وذلك للتأثير في المتلقي، فالتراث حيٌّ ودائم الحضور في ذِهنه، وهذه الأعلام لها هالَة من القداسة والاحترام في وجدانه؛ لِما تمثِّله من القِيَم، إنَّها رموز ساعدَت في تشكيل الصورة الشعريَّة التي أراد الشاعر رسمَها عن المأساة التي تَعيشها تلك "الأنا"؛ بل عن المآسي التي تَعيشها أمَّتُه؛ من خيبة الأمل، والهزائم النفسية قبل هزائم الواقع المريرَة على جميع الأصعدة.. إنَّه في حاجة ماسَّة إلى هؤلاء الفرسان الذين يجسِّدون حقيقةَ الفروسيَّة؛ وهنا تَظهر المرجعيَّة الدينيَّة والثقافية للشاعر، في خطابه الشعري هذا "نفثة مصدور" يُحيل هذا الخِطاب إلى هويَّته وكأنَّ تلك "الأنا" تصرخ ملءَ الفخر والاعتزاز، والشعور بالخيبة وبالضَّعف في آنٍ، وتقول: أنا تاريخِي كلُّه بطولات في جميع الأصعدة، والضَّعف ليس في قاموس تاريخ هُويتي.

إنَّ الشاعر حين استدعى حاتمًا الطائي يعطي لقائد المداهمين درسًا في معنى الكرَم، إنَّه الرمز الحقيقي للجود، لقد ذبَحَ فرسَه ليكرم رسولَ قيصر، وحين استحضر صلاح الدين الأيوبي محرِّر القدس يبرز معنى الفروسيَّة الحقَّة والزعامة العسكريَّة المتفردة، فرغم أنَّه كان في حرب مع جيش أوروبا، لكنَّ فروسيَّته الحقيقيَّة جعلَته يرسل طبيبَه ليعالج قائدَ الحملة الصليبيَّة ملك إنجلترا "ريتشارد قلب الأسد"، وحين نادى أخوَّة الشعر متمثلًا في أحمد شوقي، نادى تلكم "الغربة" التي عانى منها كلاهما، الغُربة التي جعلَت أميرَ الشعراء يتفنَّن في "الأندلسيات" ويبثُّ فيها معاناته ويصوِّر فيها آلامَ غربَته في مَنفاه، ولمَّا أراد استدعاءَ باقي فرسان النَّصر مرَّ على ذكرى كسرى؛ كسرى الملك الذي هُزِم على يد العدل العُمَرِي؛ فأصبحَت كنوزه خبزًا للجميع.. ولمَّا اشتدَّ به الحنين إلى الروح الدينيَّة وشرف الأصل، توجَّه قاصدًا جلسات الحسَن؛ يَنهل من مَعين حِلمه وشجاعتِه، وإنكار الذَّات في سبيل المصلحة العامَّة، حتى إنَّه حين كان يحتضر لم يشَأ أن يَبوح باسم من وَضع له السمَّ في طعامه، لم يَشأ أن يكشف قاتلَه؛ خشية وقوع الفتنة والاقتتال.. مراعاة لمصلحة الناس وحقنًا للدِّماء، هذا ما احتاج إليه الشاعر.. تلك "الأنا" التي وجدَت سوحها خرابًا بعد عمار، لم يكن صَمتها جبنًا ولا خوفًا من قوة المداهِمين، بل كان حِلمًا وعدم تسرُّع.. الحسَن رمزٌ للتضحية بالذَّات من أجل المصلحة العامَّة.

بعد ذلك انتقل الشاعِر إلى الأندلس، إلى فَيلسوف قرطبة وقاضيها أبي الوليد؛ "لم يَنشأ في الأندلس مثلُه كمالًا وعلمًا وفضلًا"[8]، ذلك الفقيه الفيلسوف الذي كان القنطرة الحقيقيَّة بين الفلسفة الأرسطية وبين الفِكر العرَبي والغربي، لقد كانت كُتبه تدرَّس في جامعات أوروبا في العصور الوسطى، وقد استحضرَه الشاعِر؛ لما يمثِّله من رمزيَّةٍ فكريَّة وعلميَّة كانت ولا تزال محطَّ اهتمام السَّاحة الفكريَّة على مرِّ العصور.. والفلسفة تَعني الحكمة، وحِكمة الشاعر إرثُ أجداده؛ سبيلُهم في التعاطي مع الأمور العظام، والمواقف الطارئة.. التعامُل بعقلانيَّة مع كلِّ المستجدَّات، وفسح المجال للحوار وتقبُّل الرَّأي الآخر.. فالشاعر لم يَختر شخصيَّةَ ابن رشد اعتباطًا، فإلى جانب ما ذكر نجد أنَّ "ابن رشد يضع نفسَه فعلًا في مرتبة المجتهِد في النظريَّات والفقهيات (...)، فلم يَكن فيلسوف قرطبة يدَّعي امتلاكَ الحقيقة"[9]، وهكذا تلك "الأنا" الشاعِرة، لا تدَّعي أنَّها مركز الحقيقة، بل لها استعداد لتقبُّل الآخر وفِكره مهما كان؛ لأنَّ هذا دَيدن حضارتها الدينيَّة والفكريَّة والعلميَّة.. ونجد أنَّ الشاعر رتَّب الشخصيَّات تريبًا حسب الأزمنة التي عاشَت فيها، فكما فعل في المقطع الثَّاني من القصيدة - حيث بدأ بحاتم ثمَّ صلاح الدين الأيوبي فأحمد شوقي - ها هو في المقطع الثالث يَفتح بابَ الإمبراطوريَّة الفارسية ويَستدعي كسرى، ثمَّ يترجَّل ويربط خيلَ الشَّوق إلى عمود جلسات الحسَن رضي الله عنه، ثمَّ يعرِّج على قلعة "كالاهورا" يَحتمي بها إلى حين قدوم ابن رُشد من الشارع المقابل، وبعدها ينادي على يوسي مراكش وجبالُ الأطلَس تردِّد الصدى.. وما أعظم مراكش الحمراء!



يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28-09-2022, 02:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون


المغرب الأقصى - أو كما كان يُطلق عليه قديمًا مراكش - وصَلَ إليه الشاعِر قادمًا من قرطبة ليضيف فارسًا مغربيًّا إلى كتيبة النَّصر التي يَجمعها، إنَّه يوسي مراكش، عالِم بزغ في ربوع المَغرب إبَّان القرن الثاني عشر الهجري، شاعِر وفقيه صاحب "المحاضرات في الأدب واللغة"، شخصيَّة تعتبر بصمة عصر بأسره.. "قال عنه الشيخ أبو سالم العياشي:



مَن فاته الحسَن البصري يَصحبه = فليصحبِ الحسَنَ اليوسيَّ يكفيه"[10]، أصدَر الفرنسي جاك بيرك سنة 1958 كتابًا حوله سمَّاه "الحسن اليوسي - مشكلات الثقافة المغربية في القرن السابع عشر".. كانت في هذه الفترة - أي: القرن السابع عشر الميلادي - أوروبا في طور الحَبو نحو مائدة العِلم والمعرفة، في حين كانت الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة أكلَت وشبعَت وبسطت موائد كثيرة علمية ومعرفية لمن يريد الاستفادة والاستزادَة.. ما يميِّز يوسي مراكش - إضافة إلى علوِّ كعبه في التأليف العلمي - انضمامُه إلى الصوفيَّة.. هنا نَقف وقفةَ تأمُّل في الشخصيَّات التي أَوردها الشاعِر؛ بداية بحاتم الطائي إلى يوسي مراكش، لقد جمعَ باقةً علميَّة ومعرفيَّة من مختلف العصور وشكَّلها لتأتلفَ رغم أنَّها تَختلف في توجُّهاتها وجذورها.. جمعَت الأنا الشاعِرة فرسانَها من كلِّ فجٍّ عميق؛ لتحج إلى النَّصر تحت رايةٍ واحدة مزركَشَة بألوان جذور مختلفة؛ منها العربي، والكردي، والأمازيغي، كلٌّ منها يمثِّل قيمةً من القِيَم التي يَحتاجها الشاعِر؛ ليَستجمع شتات العزيمة ويَقف ندًّا لندٍّ أمام "الآخر" الذي جلَب فرسانه إلى سوحه فأعادها خرابًا بعد إعمار.



والشاعِر في نفثاته هذه أَطلق جيشَ المباني، تاركًا وراءه غبارَ المعاني، التي لا تَنقشع إلَّا حين نَسوقها على نسق السِّياق التاريخي لأمَّةٍ تَفتقد إلى الشعور بكينونتها، وتتغافَل عن استشعار شموخ ماضيها، مع أنَّها في حاجة إلى الإقبال على تَحريك عجلَة التفكير؛ للتدبُّر والتعلُّم من عثرات زمنٍ اختلفَت فيه القلوب والرُّؤى؛ فأصبحَت أُكْلةً يتقاسمها كلُّ مَن هبَّ ودبَّ، جاعلًا القصعةَ مَنجمًا للنهب والسَّلب!



واستحضار التراث أغنى القصيدةَ، وهذه فنيَّة جدُّ مؤثِّرة، ساهمَت في إيصال الرسائل والمقاصد للمتلقِّي.. وقد بنى الشاعرُ جسرًا تواصليًّا ما بين الماضي - التراث - وما بين الحاضر؛ لاستشراف المستقبَل.. وإن دلَّ هذا على شيءٍ، فإنما يدلُّ على مدى الأثر والتأثير للتراث على وجدان الشاعِر؛ فقد ترك هذا التراث العظيم بَصمتَه في شِعره.. وإنَّ فنية استحضاره خدمَت دلالات ومقاصِد القصيدة بشكلٍ متميز.. والتراث يَختزل إمكانات الإبداع والنُّهوض في حياة الأمَم، وهو الجسر التواصلي بين الأجيال، ولا يمكن لأيِّ أمَّةٍ أن تَنهض دون أن تستمدَّ القوةَ من جذورها، وتَنهل من موروثها.



ونجد "الأنا" الشاعِرة مرتبطة بالزَّمن إلى أبعد حدٍّ، نرى ذلك جليًّا في توظيف مختلف الحِقَب التاريخيَّة التي مرَّت بها أمَّة الشاعر:

حاتم الطائي = الجود؛ العصر الجاهلي.

صلاح الدين = الجهاد والانتصار واسترداد القدس؛ عصر المماليك.

أحمد شوقي = أخوة الشعر؛ العصر الحديث.

كسرى = الغنائم والانتصار والعزَّة؛ زمن الفتوحات الإسلامية.

الحسن رضي الله عنه = الروح الدينية وتفضيل المصلحة العامَّة؛ صدر الإسلام.

ابن رشد = الجمع بين الفقه والفلسفة - الحكمة - الانفتاح الفكري؛ الأندلس.

يوسي مراكش = العلم والتصوف؛ القرون الوسطى.

زمن الشاعر = فقر وجهل، وبؤسٌ وهوان، وانتكاسات وهزائم!



بدأ بالعصر الجاهليِّ وصولًا إلى القرن السَّابع عشر الميلادي، تاريخٌ طويل من الشُّموخ والعطاء، والعزَّة والإباء والكرامة! والشاعِر لم يوظِّف هذه الرموز التاريخيَّة من أجل تأريخ المواقف، بل وظَّفها ليعيد الحياةَ إلى زمانه؛ من أجل العِبرَة والاهتداء.. يحيك بخيوط ذاكرتِه التراثيَّة الماضي بالحاضر من أجلِ أن يَنسج المستقبَل، والرؤية والرؤى عند الشاعِر تتخطَّى المكان والزَّمان، وهذه الشخصيَّات مناسِبة للسِّياق الداخلي لهذه القصيدة.

تُـعَذبُـــني الـذاتُ

تَسْــتعْذِبُ العَلْــقمَ الــمُرَّ

تَصْـــفِدُ خَطْـــوي

الصِّراع بين الأنا والذات!



المشاهد الجماليَّة في القصيدة تتوالى، ها هو الشاعِر يصوِّر لنا مشهدًا آخر من الصِّدام والصراع الذي يتكرَّر الآن مع "الذَّات"، بعدما كان صراعه الأول مع قائد الفرسان المداهمين لسوحه، "الذات" هي الأخرى سبَب معاناته؛ إنَّها تَقف في وجه رَغبته وعزمه للتصدِّي والدِّفاع عن قلب داره.. إنَّها تعذِّبه و"تَستعذب العلقمَ المرَّ"، لم يَكتفِ الشاعر بكلمة عَلقم - وهو الحنظل الشَّديد المرارة بطبيعته - بل أضاف كلمة "المر"؛ إليه ليزيد من جرعات مرارته؛ إنَّه يَستنكر ويتعجَّب، جاعلًا المتلقِّيَ يَستغرب أكثر.. كيف لهذه الذَّات أن تَستعذب كلَّ هذه المرارة؟! كيف لها أن تتحمَّل كلَّ هذا الهوان؟! إنَّها تعذِّب الشاعِر بتصرُّفها هذا، وبموقفها هذا، حيال الحالة التي يعانيان منها، وهي مُداهمة واغتيال أولئك الفرسان لآمالهما وكينونتهما، إنها تصفد خطوات الشاعر! من هذه "الذَّات"؟! هل هي ذاته، أو لِنَقُل: صوت عَقل الشاعر، أم هي ذات أخرى، أم هي ذوات متعددة؟!



إنَّها هذا وذاك؛ يمكن أن تفسَّر "الذات" على أنَّها صوت عقلِ الشاعِر، مقابل صوت عواطفه الجيَّاشة والثائرة.. صوتُ العقل الذي يرى أنْ لا فائدة من مواجهة أولئك الفرسان؛ فلا قِبَل له بهم؛ فهم أشد مكرًا وأكثر قوَّة منه، وهذه الذَّات أرادَت أن تجنِّبه تَبِعات محاولة الثَّورة والتصدِّي للمداهمين؛ فلا نَتيجة تُرجى ما دامت الذَّات الجماعيَّة قد استسلمَت للأمر الواقِع، وثملَت بكؤوس الانشغال بنفسِها.. ويمكن كذلك أن تفسَّر على أنَّها الذَّات الجماعيَّة، يعود الضمير على "هم" الجماعة المحيطة بالشاعِر، أو "نحن" أمَّة الشاعر!



إنَّ هذه "الذَّات" تتفرَّج دون حراك، غير مبالِية بما يَحدث، بل إنَّها تقيِّد خطواته وتصفدها، لا تترك له مجالًا للفِعل، ولا تَسمح له أن يكمل مسيرةَ رفضه أفعالًا بعدما كانت كلامًا.. إنَّ الشاعر يتأرجَح بين الإقدام والإحجام، والذَّات هي العَقَبة الكؤود في الوصول إلى ما تريده الأنا الشاعِرة، هل يُطيع الذَّات التي تصفد خطوه أم يَكسر القيدَ ويخطو إلى ما يريد.. إلى مقاومة هؤلاء المداهمين القَتَلَة والمغيرين الذين يريدون اقتلاعَه من جذوره، وجَعْل ساحاتِه وواحاته صحراء جدباء، وروحه مقفرة من كلِّ المعاني الإنسانيَّة والكينونة الذاتيَّة.. مجرد تمثال؛ يَرى ويَسمع، لكن لا يتكلَّم ولا يستطيع فعل شيء.



لكنَّ الشاعر لا يَستطيع أن يصمتَ حيال ما يراه من ظلمٍ وخنوع، إنَّه يحاول البحث عن الحلِّ للأزمة، عن نورٍ ينير الظُّلْمةَ، وفرَجٍ يزيح ستائرَ الكربة، عن سلَّم القِيَم يَصعد عليه للوصول إلى العزَّة الضَّائعة، والكينونة المفقودة.. الشاعِر يَبكي الهزيمة الذاتية لأمَّته قَبل هزيمته أمام المداهمين، والموقف المجتمعي هو الآخر يقيِّد رغبتَه، وموقف الأمة يقيِّد عزيمتَه؛ أمَّة لا تَعرف معنى التلاحم والتعاوُن من أجل النُّهوض من جديد.. هذه الأمَّة التي استولَت على خبز كسرى - الغنائم - وكان خبزه للناس جميعًا، لا يجد الآن أفرادُها خبزًا يسدُّ رمقهم.. أمَّة بنَتْ صرحَ حضارتها العلميَّة والمعرفيَّة، وكان يَخشاها القاصي والدَّاني، الآن تَقبع في قاع الذلِّ والهوان والاستسلام للأمر الواقع.. وحال الأمَّة هي الإشكاليَّة المطروحة في القصيدة، فهل يستطيع الكلام - الشِّعر - المساهمة في تحريك عجلَة الإصلاح، ومحاولة النُّهوض وإعادة التَّفكير في واقع الهزيمة الحضاريَّة، والعودة إلى الجذور التي تغذِّي الهويَّة وبناء الذات بناءً محكمًا ومتراصًّا؟!



لكن الشاعر يشعر أنه يُجَعجِع فقط.

أجَـعْـجِـعْ

ولا أطْــ...!

أنا في كِياني غَريـــبٌ!

غريــبٌ!

غَريــب



ها هو الشَّاعر قال وشعر أنَّه أكثر من المقول، لكن دون جدوى؛ النَّفثات ما زالَت تَستعر في جوفه ولا شيء تغيَّر مما يحيط به، آلام الأمَّة ما زالَت هي هي، الذَّات اتخذَت موقفَ الحياد والاستسلام للأمر الواقع، وما من متنفَّس إلَّا الجَعْجَعة.. وقد استعارَ الشاعر لمقام المقال مثالًا دارجًا تردِّده الألسنة، وهذا إيجاز في قمَّة الرَّوعة، وفنية بلاغية جد متميزة، أغنَت الشاعِر عن قول مقولٍ تكثر فيه الأصوات، واكتفى بالصَّمت؛ ليتحدَّث الصمتُ بكثير ممَّا لا تَستطيع تلك الحروف المحذوفة قوله، والحذف مساحات من الجمال الأدبي يغري بتعدُّد التأويلات، وهذه الفنية تَكثر في الشِّعر الحديث.. "أُجَعْجِع ولا أطـ..." العبارة جاءت مبتورة الأصوات - الحروف - انقطع خيط فونيمات اللَّفظ، لكن رغم تَقطيع أوصال السَّبك، وقطع خَيط الحبك، لم تَنقطع الدلالات، إنَّها واضحة وجليَّة؛ فالبُعد الاجتماعي والتراكم الدلالي للعبارة عبر الزمن جعلَ المتلقِّيَ يدرِك معناها، ويستوعب دلالتها؛ مثلًا لو كَتَب كاتبٌ ما: "اختلط الحابل..." سيدرِك المتلقِّي أنَّ الكلمة المحذوفة هي "بالنَّابل"؛ لأنَّه مثَل سائر، وقد جاءت العبارة في سياق أدَّت فيه وظيفتها الدلاليَّة بامتياز.. إنَّ كلَّ ما قاله ما هو إلَّا كلام، مجرَّد كلام بلا فائدة ولا نتيجة.. جَعجعة بلا طحين!



لقد أصبحَت الأنا الشاعرة مجهَدَة، فلا جهد لمزيد من الحديث؛ لا أحد تحرَّك ولا فردًا نطَق.. إنَّها تَعتبر الإفصاح عن العبارة أمرًا مفروغًا منه، وهذه فنيَّة تضفي على المشهد مزيدًا من التيه، ومزيدًا من التفرقة، ومزيدًا من الغربة والضَّياع.. ولهذه الجعجعة دلالات أخرى، نجد شكسبير يطلُّ من بين ثنايا التناص.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28-09-2022, 02:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون




شكسبير و"الأنا" بين الحقيقة والسراب!

مسرحية "جعجعة بلا طحن"، أو حسب الترجمات الأخرى "ضجَّة فارغة": مسرحية كوميدية، كتَبَها شكسبير، ليس المقام هنا مقام الحديث عن مُحتوى المسرحية، بل سأتناول رمزيَّةً تخدم العلاقة بين "جعجعة" الشاعر و"جعجعة" شكسبير.. كلاهما المضحِك المبكي، "وشرُّ البليَّة ما يُضحِك"؛ تناقض في المعطيات والنَّتائج، وتناقض ما بين الظَّاهر والباطن، والتناقضات تزداد، ويزيح الزمن بعضًا من ستائرها لتظهر الحقيقة، لكنَّها أحيانًا تصير سرابًا.. الشاعر يَبسط زرابي الشِّعر ما بين الأزمنة؛ ويَستدعي شاعرًا من أمَّة أخرى، أمة من الأمم التي تَقود العالم.. ومن بين مجالات القيادة الأدبُ والشِّعر والثقافة، لكن يا ترى، هل هذه الشخصيَّة - شكسبير - حقًّا شاعرٌ وكاتب؟ أم أنَّه انتحل شخصيَّة الشِّعر والكِتابة؟!

أليس شكسبير تُثار حوله الشكوك بأنَّه ليس هو مَن كتَب تلك الروائع التي اشتهر بها، وأنه شبه أمِّي، وأنَّ هذا الاسم "شكسبير" ما هو إلَّا اسم مستعار وقناع، كان وراءه شخص آخر يكتب تلك الأشعار والمسرحيَّات؟! وكأنَّ الشاعر في قصيدته هذه "نفثة مصدور" في حواره مع "الآخر" يعطي له درسًا في الصِّدق، ويبرهِن على أنَّ أقنعته تعدَّدَت حتى تمدَّدَت، وأفعاله ما هي إلَّا سراب وجعجعة بلا طحين، زيف للحقائق، وما أكثر الحقائق التي زيَّفها إعلامه.. إنَّ ميدان الثقافة والأدب والشِّعر خاصَّة ميدانٌ تتبَلور فيه معطيات شتى تكوِّن ركائز بناء الفِكر الثَّقافي للأمم.. وأمَّة الشاعِر ديوانها الشِّعر، والشعر لسانها في محافل المواقف التي تَستوجب الحديث بلغة الحجاج والقوافي.. و"خير صناعات العرب أبيات يقدِّمها الرجلُ بين يدي حاجته"[11].

والقافية في مقام الغربة هذا تحاوِل إرسالَ رسائل ليس للمتلقِّي فقط؛ بل كذلك لذاك "الآخر" الذي يداهِم ويَغتال ضاربًا عرض الحائط كل القوانين الدولية؛ مما يَجعل الأنا الشاعرة تَحتمي بجدار الشِّعر، تنفث نفثاتها التي لا حيلةَ لها ولا قوة، سوى مسافات الغربة الشاسعة التي يَتيه فيها الشاعِر؛ فتتسارع دفقاته الشعوريَّة وتَنتظم لتشكِّل أوتارًا لقيثارة الإيقاع؛ فيعزف عليها ويترنَّم بسمفونيَّة المعاناة والاغتراب، وشجنُ الغربة يصَّاعد مع كلِّ نَفَس يتنفَّسه.. إنَّه يعاني من الاغتراب الفِكري والوجداني؛ بسببِ واقع متدهوِر سياسيًّا واقتصاديًّا، واجتماعيًّا وثقافيًّا وفكريًّا.. والشاعر يتأثَّر بمحيطه، ولرهافة حسِّ الشعراء فإنَّ المعاناة تزداد؛ لأنَّ "الشاعر يَشعر بما لا يشعر به غيره"[12].

إنَّ الشاعر يحاوِل إعادةَ تشكيل "الأنا" الغارِقة في متاهة الغُربة، وأسلوبه في رؤيته لِما حوله ليس أسلوب العاجِز، لكنَّه أسلوب المغلوب على أمره، الذي يَسعى إلى استنهاض الهِمَم.. وهذه النَّفثات رافِضة للسكون والاستِكانة، وأصواتها - حروفها - تشي بذلك وتحيلُ عليه؛ فحرَكة إيقاع الفونيمات التي تَصرخ ملءَ مقاطعها صرخات مدوية، تضع أصابعَ النَّبر على مواطن العِلَل، وتشير ببنان التنغيم إلى أهمِّ القضايا الإنسانيَّة: العدل، والحريَّة، واحترام كيان الآخر بكلِّ مقوماته الدينية والفكرية والتاريخية.

وتوظيف المورفيم الصِّفري - السكون - زاد من حدَّة التأوُّهات والنفثات، وطبقة صوت الأنين طاغية في القصيدة.. يتمازَج الإيقاع النَّفسي والإيقاع الدَّاخلي للقصيدة؛ حتى لنكاد نَسمع أزيزَ النَّفثات، وحالة من التوتُّر غير متناهية في ذروة الانفعال والاتصال والانفِصال؛ عن الزَّمن، عن الواقع، وعن الذات، تَجعل الشاعر يعيش عيشة الغرباء نفسيًّا ومكانيًّا؛ لأنَّ المسلمين يَفتقدون عزَّتَهم التي طمسَت بوحل الهوان والتمزُّق.. وحين يرى أمَّتَه قابعةً في هذا الهوان، تَزداد خيبة الأمل عنده اتِّساعًا، وتستعر الغصص الحرَّى التي يتجرَّعها، وينمو لهيب النَّفثات في صدره؛ فلا يَجد حيلةً إلَّا أن يكون الشِّعر واحةً يَرتاح في ظلالها يخفِّف عنه مصيبتَه، ويرسل عبرَه رسائل تنبيه للمتلقِّي: أنْ كفَانا من الانكسارات والانتكاسات، كفانا من محاولة مَسخ هويَّتنا، وتشويه ثَقافتنا الدينيَّة والفِكرية وتراثنا المعرفي... فحضارتنا هذي هي، بهذه الأعلام التاريخيَّة بُنيَت؛ فكانت عزَّة وسلامًا وأمنًا وأمانًا للإنسانيَّة جمعاء.. وهذه القوافي تنادي إلى عدم التقوقع في صدفة "الذات" وبعدي الطوفان، الشاعِر يحاول نزعَ رداء النرجسية عن جسد الأمَّة ليُلبسها لبوسَ التلاحم والتعاون، ويَدعو إلى التواصل لمواصلة الطَّريق في أمان وإيمان، وأن الاختلاف في الفِكر لا يعدُّ جريمةً ولا إثمًا، ولا مدعاة للنزاعات والصراعات، وليس ذلك مؤشِّر جهلٍ ولا ضعف، يَستدعي المداهمة واغتيال الآمال؛ بل ذلك أَدعى إلى مدِّ الجسور وقَبول الآخر كما هو دون وصاية حديديَّة.

ونجد مفردة "غريب" تتكرَّر ثلاث مرَّات في أول القصيدة، ثمَّ جاءت كذلك في آخر مقطع منها.. واللَّفظ المكرَّر ليس زائدًا ولا حشوًا ولا إطنابًا في القول، بل له دورٌ فعَّال في هندسة النصِّ؛ وهو "إلحاح على جهة هامَّة في العبارة يُعنى بها الشَّاعِر أكثر من عنايته بسواها"[13]، وأسلوب التكرار جزء مهمٌّ من اللُّغة الشعريَّة، ونلاحظ أنَّ الشاعر استخدمه لإحداث هزَّة انفعاليَّة لدى المتلقِّي والتأثير فيه، وقد استعمل لغةً مشحونةً بالموسيقا ذات الإيقاع السَّريع؛ ليسبغ على غربته نوعًا من الثورة والرَّفض لِما يَجري في عقر داره.. "والتكرار له دلالات فنيَّة ونفسيَّة، يدلُّ على الاهتمام بموضوعٍ ما يشغل البال (...)، ويَستحوذ هذا الاهتمام على حواسِّ الإنسان وملَكاته"[14]، وهو يخلق إيقاعًا ويًّا، وتناغمًا موسيقيًّا، وتوافقًا صوتيًّا يزيد من قوة المعنى، يساهِم في تَرسيخه في ذهن القارئ؛ ليَستقطِب وعيه وشعوره.

الآخر: المركزيَّة الغربية التي ترى في الغير "الأنا" هامشًا لا بدَّ أن يدور في فلَكها ولا يحيد عنه، اتَّسع بفِعلها هذا الخرق فاستحالَ الرقع؛ لأنَّ "الحوار بين الحضارات يفترض أن يكون كل طرف مقتنعًا بأنَّ ثمَّة شيئًا يمكن أن يتعلَّمه من الطرف الآخر"[15].

وممَّا يلاحظ أيضًا في القصيدة أنَّ الشاعِر هشم أفق الانتظار، وجعل المتلقِّيَ يعود إلى نقطة الانطلاق؛ وهي فقدان الكينونة والتقوقع في الغربة.. حلقات وسلسلة من المعاناة كما سوار حديدي يحيط بمِعصَمِ القرار؛ لا لتتابع الخطوات.

وممَّا يزيد من كثافة وثقل الغربة التي تُعاني منها الأنا الشاعِرة - أنَّ ثمَّة تضمينًا في القصيدة، وهو ركن بلاغي زاخِر بالمعاني والدلالات، وهذا المصطلَح ورَدَ عند الرماني والزمخشري خاصَّة، و"تضمين الكلام هو حصول معنًى فيه"، أو كما يسمَّى في المنظومة النقديَّة الغربيَّة "التناص"؛ أول من استعمل هذا المصطلح جوليا كريستيفا، وحسب ما تُعرِّفه فهو: "ذلك التقاطع داخل التعبير مأخوذ من نصوصٍ أخرى"[16].

وكان يسمى الحواريَّة قبل ذلك، حسب ما أشار إلى ذلك حميد الحميداني في كتابه "التناص وإنتاجيَّة المعنى، علامات في النقد الأدبي".. والتناص هنا يروم تَعميق المقام الشِّعري؛ حيث إنَّ الشاعِر أراد تعميق دلالات "الغربة" في مشاعر المتلقِّي بعدما تعمَّقَت في أحاسيسه وأعماقه، ويحضر في هذا المقام حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((فطُوبى للغُرباء))، توجيهٌ إلى الصبر؛ لأنَّ الغربة ليسَت نِقمة ولا مِحنة؛ بل هي مِنحة ربَّانية، حين يكون الإنسان غريبًا، فغربته تعني تميُّزه، وتعني أنَّه لم تَذُب مبادئه في وَحْل الواقع المرير الذي حولَه، تعني أنَّه حاول الفعل، ومحاولته وإن فشِلَت لكنَّها محاولة صِدق وصادق صدوق مع نفسه.. فهو لم يَجِد مَن يعينه؛ لا الذَّات الفرديَّة، ولا الذات الجماعية؛ ((لأنَّكم تجدون على الخير معوانًا ولا يجدون))[17].

وإذا كان الخِطاب - الكلام - المسموع يمثِّل مساحةً زمانيَّة، فإنَّ الخطاب المكتوب يمثِّل مساحة مكانيَّة، وأديم الورق نص ورِسالة يَنضاف إلى نصِّ الكلمات المكتوبة.. حين يَتنقَّل القارئ ببصره على مساحة القصيدة يَجد أنَّها مقسمة إلى أربعة مقاطع، وقد فصَل الشاعِر بينها بنجمات ثلاث، فمعمار القصيدة يعدُّ أيقونة سيميائية، وموسيقا الشَّكل البصري يتلاحَم مع الإيقاع والصورة الشعريَّة؛ ليرسم لنا مقصديَّة القصيدة، والتعبير عن القصد يعدُّ ركيزة الخطاب، وهذا نخاع الفاعليَّة الشعريَّة الرائعة.

وشكل القصيدة عبارة عن دَرج يؤدِّي إلى سبيلين لا ثالث لهما؛ إمَّا الصعود إلى القمَّة، أو النزول إلى الهاوية، وهذا شكل القصيدة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ!
ـــــــــ!
ـــــــــ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــ..!
ــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــ
♦ ♦ ♦
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــ..
ــــــ..
ـــــــ..
ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــ
ـــــــــــــ
ــــــــــــــ
ــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ!
♦ ♦ ♦
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
♦ ♦ ♦
ــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ
ـــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ!
ــــــــــــ!
ــــــــــــ!


وهذا التَّخطيط هو تَخطيط نَبض الكلمات الذي تتباين منعرجاته وتقطعاته، كما تتقطَّع أنفاس الأنا الشاعِرة؛ صعودًا لمحاولة النهوض من جديد، ونزولًا بسبب ثقل الأصفاد المحيطَة بخطوات قراره؛ منعًا لمحاولات ثَورته على ما يراه من اغتيالِ الآمال، وكذلك تَقطيع الزَّمن بسيوف المداهمين؛ كي لا يتَّصل فيَنتصر! وهذا المعمار للقصيدة له دلالات ورمزيَّة جد موغلة في ثنايا الزَّمان والمكان الذي يَعيشه الشاعِر؛ فالصورة أصبحَت لغة وأيقونة تواصليَّة، سواء على الساحة السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الأدبية أو الاقتصادية، وما شكلُ القصيدة إلَّا فرعٌ من فروع بلاغة الصورة.. ولأنَّ صوت القوافي بُحَّ من كثرة النِّداء للنهوض استعان الشاعِر بصوت معمار القصيدة؛ علَّ السَّمع والبصر يَفتح أبواب البصيرة، إلى جانب هذا جاءت عبارة "ولا أطــ...!" مضغوطة الخط، والكلمات المضغوطة بخطٍّ بارِز عادة ما تكون مدار المعنى؛ تَستوقف القارئ وتنبِّه وتشير إلى أهميَّة المَقصَد، فهي علامة سيميائية تساهِم في إيصال فِكرة ورسالة الشَّاعِر المزمع إيصالُها للمتلقي، وكذلك الفراغات بين الكلمات هي أيضًا لغة، والصَّمت لغة والكفاءة التداوليَّة تحيل على المرسل - الشاعر - يدرك أنَّ المرسل إليه - القارئ - قد فهم القصد من "أجعجع ولا أطـ..."، إنَّها تعابير اصطلاحيَّة يفهم قصدها المتداول بين الناس، "وقد اعتبر الدَّارسون الصمتَ شكلًا تواصليًّا إلى جانب الصوت [والكتابة كذلك] نظرًا لما يَحمله من دلالات معيَّنة، ويمكن أن يكون تعبيرًا عن الغضب..."[18].

شجرة البيت العربي!
لقد أنهى الشاعِر القصيدةَ بنفس السَّطر الشعري الذي بدَأ به، وعليه؛ فإنَّ النهاية = البداية، فلا نَتيجة رغم كلِّ ما قيل، ورغم النَّفثات التي تصاعدَت غضبًا واستنكارًا وشجبًا، ودعوة للنهوض، ومحاولة رفع قامَة الكرامة أمام المداهمين، لا فائدة! القصيدة غربة من أَلِفها إلى يائها.

والقصيدة رغم انقسامها إلى أربعة مقاطع، إلَّا أنها جسَد واحد متلاحِم الفكرة، ومَسبوك المعنى، ومَحبوك الدلالة؛ أولها متَّصل بثانيها، وثالثها مرتبط برابعها؛ كلُّ جزء مرتبط بالآخر وغير تامٍّ بذاته، وكأنَّ الشاعر يريد القولَ بأنَّ قصيدته هذه ما هي إلَّا جسد الأمَّة من شَرقِها إلى غربها، ومن شَمالها إلى جنوبها، جسَد واحد يَشعر بالغربة.. وإن أرادت الأمَّة الارتقاءَ إلى معارج الاحتواء والتمكين والتمكُّن من القبض على المستقبل، والعثور على الكينونة الضَّائعة في متاهات الزمان والمكان - ما عليها إلَّا الصعود والتحليق كما النَّوارس، وبعزيمة الفرسان حتى بلوغ مكان ولادة الفجر!

البداية!
القراءة السطحيَّة للنصِّ تَغتال الدرَر المخبَّأة في أَعماقه، وما من نصٍّ يؤوَّل تأويلًا أحادي الجانب إلَّا سُجِن في بوتقة المعنى، ومهمَّة المتلقِّي هي قراءة معنى المعنى.. ومعنى المعنى: هو الصَّنعة الشعريَّة الإبداعيَّة، والتأويلات المتعددة بمثابة ألوان الطَّيف تمتزج لتشكِّل لوحة نقديَّة فسيفسائية؛ تَجعل القصيدةَ حمَّالة أوجه.. وقد حاولتُ الغوصَ فيها من زاوية.. ثمَّة زوايا أخرى يُمكن من خلالها استنطاق هذه القصيدة الرائعة.


[1] "قراءات في الشعر الحديث"؛ بشرى البستاني، دار الكتاب العربي، ط 1، 2002، ص 32.

[2] "السيميوطيقا والعنونة"؛ جميل حمداوي، مقال من الشابكة.

[3] "أثر الصوائت في الدلالة اللغوية"؛ د. محمد إسماعيل / صفوت سلوم، مجلة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، "سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية"؛ بحث على الشابكة.

[4] "من الصوت إلى النص؛ نحو نسق منهجي لدراسة النص الشعري"؛ مبروك عبدالرحمن، ص 48.

[5] "الحيوان"؛ الجاحظ، ج 3، ص (131، 132).

[6] "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب"؛ جابر عصفور، ط 3، 1992، ص 257.

[7] "النقد الأدبي الحديث"؛ محمد غنيمي هلال، ص 443.

[8] ينظر: "ابن رشد - سيرة وفكر"؛ محمد الجابري، ص 16.

[9] المرجع نفسه، ص 19.

[10] "مقال على الشابكة"؛ مجلة دعوة الحق، العدد 176.

[11] "البيان والتبين"؛ الجاحظ، ص 372.

[12] "العمدة"؛ ابن رشيق، ص 116.

[13] "قضايا الشعر المعاصر"؛ نازك الملائكة، مطبعة دار التضامن، ط 2 1965، ص 242.

[14] "الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر"؛ عبدالحميد جيدة، ط 1 1980، ص 67.

[15] عبارة للمفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي.

[16] "إنتاج معرفة بالنص"، ص 102، ينظر: مقالة على الشابكة: "ماهية التناص - قراءة في إشكالياته النقدية"؛ عبدالستار جبر الأسدي.


[17] "حديث شريف"؛ رواه الترمذي عن أنس بن مالك.

[18] "التداوليات وتقنيات التواصل"؛ د. يوسف تغزاوي، ط 1، 2012، ص 85.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 129.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 125.31 كيلو بايت... تم توفير 3.73 كيلو بايت...بمعدل (2.89%)]