السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1078 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 844 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 828 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 909 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92746 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190975 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56909 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26181 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 726 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 72 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الأسرة المسلمة > ملتقى الأخت المسلمة

ملتقى الأخت المسلمة كل ما يختص بالاخت المسلمة من امور الحياة والدين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-07-2021, 04:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (1)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن بناء المجتمع المسلم لا يتم إلا ببناء الأسرة، والأصل في بناء الأسرة المسلمة الصالحة هما الزوجان، فهما اللبنتان اللتان تؤسس عليهما الأسر، وإن مما يحزن المسلم وخاصة في هذا الزمن ما يشاهد مِن تفكُّك في الأسر وهدم في كثير من البيوت، حتى أصبح ظاهرة كثرت لها الشكوى وعمت بها البلوى، ووجب على المصلحين معالجتها والتخفيف من مفاسدها، ولكن كيف ذلك؟



إننا نأمل أن نوفَّق في هذه الرسالة بالمساهمة في علاج هذه الظاهرة، وذلك ببيان مقاصد النكاح التي يجب على الزوجين فَهمها، وعلى الوالدين بل على المجتمع كله؛ فنقول وبالله نستعين:

مقاصد النكاح:

مقاصد النكاح التي يريدها غالب البشر ثلاثة، وهي: الذرية، والخدمة، والمتعة.



وقبل أن نبدأ في شرح هذه المقاصد نجيب على هذا السؤال الذي يورده البعض باختصار، يقول: إنكم تحثون على الزواج، وتذكرون له فضائل وثمرات طيبة، فلما تزوجنا وجدنا مشاق، وحقوق، وواجبات، ومسئوليات، تذوب فيها تلك المتع! ونقول: إن هذا سؤال وجيه، والجواب: أن هذا يرجع إلى اختلاف الهمم لدى الرجال والنساء، فكما يوجد التفاوت بين الرجال كذلك يوجد بين النساء، فمنهم من يرى سعادته في التخلي عن المسؤوليات وترك النهوض بالواجبات.



على حد قول الشاعر:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ♦♦♦ وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي



ومنهم من يرى السعادة في القيام بهذه الحقوق، وتحمل هذه المسؤوليات، والنهوض بتلك الأحمال، ويجد في ذلك سعادته ومتعته لعلو همته وسمو نفسه.



قال الشاعر:

لَوْلَا المَشَقَّةَُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ♦♦♦ الجُودُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ



وإلى بيان هذه المقاصد وفَّقنا الله وإياكم لفهمها والعمل بها.



المقصد الأول: الذرية:

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38]، روى أبو داود في سننه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ»[1].



فالذرية مطلب صحيح، وله منافع دنيوية وأُخروية؛ قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 29، 30]، وقال تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[2].



وهو المقصد مشترك بين الزوجين على حد سواء، ومنافعه عائدة للزوجين كليهما.



وعليه فيجب على الزوجين أن يعلما أن كل واحد منهما له فضل على الآخر في إيجاد الذرية، ولا يحل لأي واحد منهما أن يرى له فضلًا في ذلك ليس للآخر، وبفهم هذه الحقيقة يحصل التعاون بينهما لحمل هذه المسؤولية، ومن ثم يخف القيام بهذا الحمل الثقيل لتعاون الزوجين، وذلك بعكس ما لو تخلى أحدهما فإن الآخر سيقوم بحمله وحمل غيره، فيثقل عليه ذلك، وربما عجَز عنه، فيقع الضرر ويحدث الفساد الذي نشاهد آثاره تزداد يومًا بعد يوم، وهذه الحقيقة هي التي فهمتها الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لَما ظاهَر منها زوجُها، وجاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مِنْهُ أَوْلَادًا؛ إِنْ ضُمَمْتُهُم إِلَيَّ جَاعُوا، وِإِنْ ضَمَّهُم إِلَيْهِ ضَاعُوا...[3].



ففهمت رضي الله عنها أن تربية الأولاد والقيام عليهم لا يتم إلا بتعاون الزوجين، وأنها بدون ذلك - لفراق أو شقاق - يقع الضرر على الأولاد بالجوع والضياع، فإذا كان هذا في الزمن الأول الصالح، فكيف بنا اليوم؟! وقد أنزل الله تعالى في خولة وشكواها قرآنًا يُتلى، قال تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1].



المقصد الثاني: الخدمة:

من مقاصد الرجل بالنكاح أن يتزوج امرأة تخدمه - والكلام على الغالب والحالات الخاصة لها أحكامها - سواء داخل المنزل أو خارجه؛ مثل صنع الطعام، وترتيب المنزل، وغسل الثياب، والاحتطاب، وسقي الماء، والعناية بالبهائم، وغير ذلك مما يختلف فيه مجتمع عن آخر.



في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها - عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة لعائشة، فقال: «أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟»، قَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ[4] عَلَيْهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ[5] فَتَأْكُلُهُ[6].



وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: «فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ»، قَالَ: فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي[7].



وروى مسلم في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ، غَيْرَ فَرَسِهِ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرُِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ»، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: واللهِِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ، فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِي[8].



وفي صحيح البخاري من حديث علي رضي الله عنه: أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بسبي فأتته تسأله خادمًا فلم توافقه، فذكرت لعائشة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم، فقال: «عَلَى مَكَانِكُِمُا» حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ»[9].



فإن قيل: فما يقابل ذلك من الزوج، فالجواب: أن الزوج عليه النفقة فهو يكد ويكدح من أجل تحصيلها؛ قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[10].



وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِ نَا عَلَيْهِ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ..»؛ الحديث[11].



وروى البخاري ومسلم من حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «...ولَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بها وجْهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ بِهَا، حتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ»[12].



ويلحق بذلك توفير الأمن للزوجة بجميع أنواعه؛ الأمن المنزلي، الأمن المعيشي، الأمن النفسي وغير ذلك. فهي مسئوليته وحده لكونه رجلًا، فكل واحد منهما خادم للآخر، غير أن موقع الزوجة أعز وأشرف من موقع الزوج في كثير من الحالات، فإن الزوج قد يخدم من لا يحبه ولا يكرمه، بل يهينه ويذله بعكس المرأة، فعلى النساء أن يتفطن لذلك ويقدرنه قدره.



ومعرفة هذه الحقيقة والعمل بها عن قناعة ورضا تدفع كل واحد منهما أن يقوم بما يجب عليه دون تذمُّر أو شعور بالجَور أو الظلم، لعلم كل منهما أنه كما عليه واجب يلزمه القيام به، فإن الآخر كذلك عليه واجب مثل الذي عليه وإن اختلفت الأنواع. فما يجب على أحدهما هو حق للآخر، وبالتالي ينقطع الإدلال والتمنُّن الذي يكون سببًا لتشتُّت الأُسر وتفرُّقها، قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228].



المقصد الثالث: المتعة:

وهو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به، وأشدها ضررًا إذا أُهمل، وليس المقصود بالمتعة الفراش فقط، بل هو أعم من ذلك، إذ يشمل جميع مناحي الحياة، وهو مطلوب من الزوجين كليهما مع شيء من الاختلاف في بعض ما يجب على كل واحد منهما، حسب ما تقتضيه طبيعة كل واحد منهما.



إن الزوجين حين يعيشان كنفس واحدة يفرح أحدهما لفرح الآخر، ويحزن لحزنه، ويهتم لهمِّه، ويسعى كل واحد منهما لمتعة الآخر، حينها تُضمن لهما الحياة السعيدة الهانئة، ولكن ليُعلم أنه لا يستقيم لهما ذلك إلا بعقد العزم على الحفاظ على هذا الرباط الوثيق بينهما، حتى يلتقيا في جنات النعيم[13].



والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





[1] سنن أبي داود برقم (2050)، وقال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (2/386) برقم (1804): حسن صحيح.




[2] صحيح مسلم برقم (1631).




[3] هذه الرواية ذكرها البغوي في تفسيره الوسيط (8/47)، وأصل الحديث ثابت، أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها (40/228) برقم (24195)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.




[4] أي أعيبه، النهاية (3/ 347).




[5] الداجن: هي الشاة التي تألف ولا تخرج إلى المرعى، وقيل: هي كل ما يألف البيوت مطلقًا شاة أو طيرًا.





[6] صحيح البخاري برقم (4750)، وصحيح مسلم برقم (2770).




[7] برقم (1428).




[8] برقم (2182).




[9] برقم (3113).




[10] مسند الإمام أحمد (11/ 432) برقم (6495)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عبداللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.





[11] مسند الإمام أحمد (33/ 226) رقم (20022)، وقال محققوه: إسناده حسن، وسنن أبي داود برقم (2142).




[12] صحيح البخاري برقم (56)، وصحيح مسلم برقم (1628) واللفظ له.




[13] وفيما يأتي شيء من التفصيل لهذه الإجمال.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 14-12-2022 الساعة 06:58 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-07-2021, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لسعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (2)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن المقصد الثالث من مقاصد النكاح بمعناه الأعم هو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به وأشدها ضررًا إذا أُهمل.

ومن آثاره أنه يخدم المقاصد الأخرى إيجابًا وسلبًا، وهو مطلوب من الزوجين جميعًا، غير أن الزوجة به أولى وعليه أقدر، لما جبلها الله عليه من التراكيب الأنثوية الجذابة، والاشعارات الحلوة الجميلة.

بهذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»[1].

وسنُورد فيما يأتي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المشتملة على تطبيق هذا المقصد لتكون عونًا على فهمه.

وليعلم أننا في هذا الفصل لا نريد منه بيان الحقوق والواجبات، وإنما نريد إيضاح مجالات إمتاع كل من الزوجين للآخر، فيما يخص الأخلاق الجميلة والآداب الرفيعة، وأنه شامل لجميع مناحي الحياة، فمن الآيات والأحاديث المشتملة على ذلك:
1 – قول الله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]، من وسائل إسعاد كل واحد من الزوجين للآخر أن يكون لباسًا له يستره ويقيه، ويتجمل به، ويأتي مزيد تفصيل لذلك.

2 – قول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، فمن أعظم المتع التي يحصل عليها الزوج أن تكون زوجته بمثابة السكن الذي يأوي إليه، ويهنأ به، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.

3 – قول الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لَما سئل عن المرأة الصالحة قال: «التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»[2].

إن القلق والهم الذي يصيب الزوج بسبب الشكوك والوساوس حال غيابه عن زوجته وماله، تزول بالمرأة الصالحة العفيفة الشريفة، ويحل محلها الطمأنينة والراحة.

4 – قول الله تعالى حاكيًا عن نبي الله موسى وهو يخاطب أهله: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29].

من الأمور التي تظهر فيها مكانة الزوجة عند زوجها أن يجعلها تشاركه في بعض أموره العامة، فإنها بذلك تشعر بالتقدير والاحترام، وأنها ليست من سقط المتاع، فهذا موسى عليه السلام يقول لزوجته: سآتيكم منها بخبر، ولم يقل: هذه الأمور تخص الرجال لا شأن لها به، فلينتبه الأزواج إلى ذلك.

5 – من أعظم المتع التي تنالها الزوجة أن تجد من زوجها الشكر والثناء والاعتراف بالجميل لقاء ما تقوم به من تبعل وحسن معشر، وهؤلاء، ولذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهنَّ لما خيرن بين الدنيا والآخرة، فاخترن الله ورسوله، كانت مكافأتهنَّ ما أخبر به الله تعالى بقوله: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52].

6 – من أفضل وأحسن ما يهنأ به الزوج أن تكون زوجته غاضة لبصرها، فإنها إذا كانت كذلك، فهي لما سواه أحفظ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31]، فقد وصف الله نساء أهل الجنة، فقال: ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴾ [الرحمن: 56]، كذلك فإن الزوجة تجد السعادة والراحة حين ترى زوجها حافظًا لبصره؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، لعلمها أنه إذا حفظ بصره فإنه لما سواه أحفظ.

7 – من أعظم ما يتمتع به الزوجان أن يرى كل منهما في الآخر هذا الخلق الجميل الذي هو شعبة من الإيمان وهو خلق الحياء، فإن الحياء إذا وجد لا يرقى معه شيء من الأخلاق الذميمة والصفات السقيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»[3]، وفي التنزيل المبارك يقص علينا ربنا تعالى قصة البنتين الصالحتين، فقد ذكر أعظم ما تحليا به وهو الحياء الذي منعهما من مخالطة الرجال مع شدة الحاجة إلى سقي غنمهما؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24].


8 – إن مما يجمل المرأة ويرفع منزلتها في عيون الناس - ولاسيما الزوج - أن يكون الحياء حاكمًا على جميع تصرفاتها وحركاتها وسكناتها حتى في مشيها، وقد ذكر الله ذلك عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح على سبيل الثناء والمدح، فقال تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].

9 - من أعظم النعم على الرجل أن يرزُقه الله زوجة عاقلة حصيفة شديدة الملاحظة لما فيه الخير، عارفة بالفضائل ومحاسن الصفات؛ قال الله تعالى عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

10 - قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32].

من الأمور التي ترفع مكانة المرأة وتعلي منزلتها عند زوجها، بل عند الناس جميعًا - أن تكون تصرفاتها قاطعة لأطماع أصحاب الهوى والفجور، فإذا اضطرت إلى الكلام مع الرجال، كان كلامها غير رقيق ولا ليِّن، وأن تتجنب فيه الألفاظ والعبارات التي لا تنبغي إلا مع الأزواج ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32].

11 – إن إدخال السرور على النفوس مما يسعى إليه كل أحد وهو من نعيم أهل الجنة، ولذلك ينبغي للزوجين إدخال السرور على بعضهما، وهذه صفة المرأة الصالحة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»[4].

12 – روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنه: أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية، فقال لأصحابه: «تَقَدَّمُوا»، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ»، فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا رَهِقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِيكِ»[5].

13 – روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَشْرَبُ مِنَ الْإِنَاءِ، فَيَأْخَذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَنَا حَائِضٌ[6].

14 – روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي»[7].

15 – ضَرَبَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها أَرَوْعَ الْأَمْثَالِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَنُذَكِّرُ بَعْضَ مَوَاقِفِهَا وَمَوَاقِفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا يُحْتَذَى لِكُل زَوْجَيْنِ يُرِيدَانِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُمَا مَعَ بَعْضِهِمَا حَيَاةً سَعِيدَةً طِيبَةً.

روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وجاء في آخر الحديث: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍﭫ، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: «أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي»، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرًَا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاء اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ بْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ[8].

فوقوفها مع النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتها له وتبشيرها من أعظم مواقف امرأة مع زوجها، مع الإحاطة والعلم بأن هذا كله وقع قبل إسلامها، وقد كافأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار هذه المواقف النبيلة، فكان صلى الله عليه وسلم يردد: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ»[9]، و«إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»[10]، و«مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ»[11].

وكان صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها رضي الله عنها يذكر لها هذه الفضائل العظيمة حتى قالت عائشة رضي الله عنها: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة[12].

وقد نالت رضي الله عنها بحُسن عِشرتها ما لم ينله أحد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ[13].

والقصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب اختلاط الأصوات، والنصب: التعب، قال السهيلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب – يعني قصب اللؤلؤ – لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتعبه يومًا من الدهر، فلم تصخب عليه يومًا ولا آذته أبدًا[14].

هذه بعض مواقفها رضي الله عنها وأرضاها ختمنا بها هذه الكلمة والمسك خير ختام.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] صحيح مسلم برقم (1467).

[2] مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرةﮕ (12/ 383 – 384) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.

[3] صحيح مسلم برقم (37)، وأخرجه البخاري برقم (6117) بمعناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

[4] مسند الإمام أحمد (12/383 – 384) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.

[5] (40/145) برقم (24119)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[6] (41/427) برقم (24954)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[7] صحيح البخاري برقم (949)، وصحيح مسلم برقم (892) واللفظ له.

[8] صحيح البخاري برقم (3)، وصحيح مسلم برقم (160).

[9] صحيح البخاري برقم (3818)، وصحيح مسلم برقم (2434).

[10] صحيح مسلم برقم (2435) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[11] مسند الإمام أحمد (41/ 356) برقم (24864)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.

[12] صحيح البخاري برقم (3818) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[13] صحيح البخاري برقم (3820)، وصحيح مسلم برقم (2432).

[14] البداية والنهاية لابن كثير (4/ 317).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-12-2022, 05:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (3)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فاستكمالًا للحديث السابق.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» [هَذِهِ اللَّيْلَةَ - رَحِمَهُ اللهُ -]؟ فقال رجل من الأنصار: أنا [يَا رَسُولَ اللهِ!] فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم [لَا تَدَّخِرِيهِ شَيئًا]، فقالت [وَاللهِ] ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء [وَتَعَالَي فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ]، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ - أَوْ عَجِبَ - مِنْ فَعَالِكُمَا»، فأنزل الله: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9][1].

لقد عظَّم الإسلام مكانة المرأة وأشاد بمواقفها النبيلة، وأنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، فتبًّا ثم تبًّا لمن يسعون إلى إظهار الإسلام بغير ذلك، ولبيان وجه إيراد هذه القصة تأمل الفقرات التالية:
(أ) هذا الضيف ليس ضيفًا كغيره، بل ضيفًا مميزًا، فهو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ب) هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه أخذ معه هذا الضيف إلى بيته ليقوم بضيافته؛ لينال بذلك رضا الله تعالى، ورضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجاء أن تصيبه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليدخل السرور على نفسه، فإنه من قوم يحبون إكرام الضيف.

(ج) أخبر امرأته أن هذا الضيف ضيفٌ مميزٌ لتشاركه في الأجر والفضل والحمد[2].

(د) لم يجد الأنصاري رضي الله عنه في بيته من الطعام سوى ما يكفي لصبيته، وفي هذه الحالة البالغ فيها الحرج غايته وجد نفسه مضطرًّا إلى من يعينه ويقف معه لينال هذه الفضائل وقد وجده، فيا ترى من يكون؟

(هـ) إنها زوجته الصالحة الكريمة العاقلة الذكية الصابرة الوفية.

(و) لو قالت لزوجها: قد اجتمع عليك حقان: حق الضيف وحق الأهل، وعليك أن تقدم أولاهما وهو هنا حق الأهل، لضاق صدره، وعظم حرجه، ولكنها رضي الله عنها لم تقل ذلك، لكرم نفسها وطيب مَعشرها.

(ز) من كرم نفسها وحُسن عشرتها بيَّتت النية وعقدت العزم على أن تؤثر على نفسها، فتبيت خميصة البطن في سبيل أن ينال زوجها تلك الفضائل والشرف العظيم، ولتجمله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وضيفه، فهي لم تقل: ما عندي إلا ما يكفيني، بل تجاهلت نفسها وقالت: ما عندي إلا عشاء الصبية.

(ح) من ذكائها وخوفها ألا يكون تصرفها صحيحًا في تقديم حق الضيف على حق الصبية، قالت: ذلك لزوجها ليشتركا في القرار، ولتحمل معه نتائجه، وكان بإمكانها أن تتهرب وتقول لزوجها: هذا الموجود أطعمه من شئت وتخلي مسؤوليتها، ولكنها رضي الله عنها لم تفعل ذلك لكرم نفسها وحسن عشرتها، فأنعم بها وأكرم من قدوة صالحة.

(ط) من أعظم ما يواجه الشخص فقه الأولويات، وتقديم الواجبات والحقوق بعضها على بعض عند التزاحم، وفي هذه القصة مثال يحتذى، والموفق من وفقه الله، ومَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

(ي) في هذه القصة كانت الفكرة النظرية مشتركة بين الزوجين، إلا أن المنفذ لها والحامل لأعبائها ورافع رايتها هي الزوجة المباركة، فاستحقت بذلك تخليد ذكرها، وأن يعجب ربُّها من صنيعها.

(ك) لم يقتصرَا رضي الله عنهما في إكرام ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على تهيئة عشائه فقط، بل زادا على ذلك إدخال السرور عليه، وذلك في إظهار أنه لم يلحقهما مشقة في إكرامه، وأن ما قدماه له زائد عن حاجتهما، فأطفآ السراج وجعلا يوهمانه أنهما يأكلان.

هذا ما تيسَّر بيانه فيما يتعلق بموضوعنا، وفي القصة فوائد أخرى نذكر أظهرها على سبيل الاختصار:
في هذه القصة بيان مكانته صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، فإن هذين الصحابيين لما قاما بضيافة ضيفه صلى الله عليه وسلم، وأدَّيا عنه الحق الذي عليه، خلَّد الله ذكرهما الحسن في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فيا ترى كم تكون منزلة من قام بدعوته ونشر سنته وذبَّ عن دينه؟!

وفيها: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من ضيق العيش وقلة ذات اليد، اختيارًا منه لذلك، فإنه لو شاء لكان غير ذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم آثر الباقية على الفانية والأخرى على الأولى، وفضل أن يكون عبدًا رسولًا.

وفيها: فضل أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعظيم صبرهن واختيارهن الله ورسوله على الحياة الدنيا وزينتها.

وفيها: أن من الواجبات والفروض ما هو فرض كفاية، فإن حق هذا الضيف سقط عن النبي صلى الله عليه وسلم بقيام هذين الصحابيين به.

وفيها: أن سؤال الرجل أن يقوم أحد إخوانه المسلمين بحق وجب عليه لا يستطيعه، ليس من السؤال المذموم.

وفيها: أن إكرام الضيف لا يكون بإطعام الطعام فقط، بل يشمل أمورًا أخرى من الترحيب به ومؤانسته بالحديث، وغيرهما مما يختلف فيه الناس من مجتمع لآخر، قال الشاعر:
النَّارُ إِذَا شِبَّتْ فَنَصُّ الكَرَامَةِ
وَالنَّصُّ الآخَرُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُوتِ

وفيها: أنه ينبغي أن يظهر المضيف لضيفه ما يجعل الضيف يطمئن أنه لم يشق عليه وإن كان الأمر بعكس ذلك.

وفيها: أن الإيثار من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وهو مع الخصاصة أعظم وأجل.

وفيها: أن الشخص قد تسمو نفسه إلى اكتساب الفضائل، ولكنه قد يحتاج في بعضها إلى المعين، فإذا وجده فليستمسك به، ولا يفرِّط فيه، فإن وجوده عزيز.

وفيها: أن إظهار المرء أفعالًا تخالف الواقع لا يعد من الكذب المذموم إذا كان ذلك لمصلحة تقتضيه.

وفيها: فضل الصبر وعظيم جزائه، فصبرهم على الجوع مع قدرتهم على الشِّبع وصبرهم على الألم الذي يعتصر قلوبهم حين يرون صبيانهم يبيتون جياعًا، بل هم الذين ينومونهم، وصبر الزوجة على زوجها الذي جلب لها كل هذه التكاليف، وكل ذلك وهم لا يعلمون أن فعلهم هذا سيكون سببًا لتخليد ذكرهم في أحسن الكتب وعلى لسان خير الرسل، وما عند الله خير وأبقى.

وفيها: إثبات صفتين من صفات الله تعالى: التعجب والضحك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] مختصر صحيح البخاري للشيخ الألباني رحمه الله برقم (1614)، وأخرجه مسلم برقم 2054 بلفظ مختلف.

[2] الحمد: هو المدح والثناء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-12-2022, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لسعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (4)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فنستكمل حديثنا السابق.

من محاسن العشرة الزوجية أن يتبادل الزوجان الأحاديث المفيدة والقصص النافعة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنه قالت: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ[1].


وهذه أم المؤمنين عائشة ﭫ تقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرًا عجيبًا عن تقييم النساء لأزواجهن والرسول عليه الصلاة والسلام يستمع لها ويعقب على حديثها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا:
قَالَتِ الْأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ[2] عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ[3].


قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ[4]، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ[5]، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ[6].


قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ[7]، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ[8]، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ[9].


قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ[10]، لَا حَرَّ وَلَا قُرَّ[11]، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ.


قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ[12]، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ[13]، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ[14].


قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ[15]، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ[16]، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفّ[17]، وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ[18].


قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ[19]، أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ[20]، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ.


قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ[21]، وَالْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ[22].


قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ[23].


قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ[24]، وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ[25]، قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ[26]، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ[27].


قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ[28]، فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ[29] مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ[30]، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ[31]، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي[32]، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ[33]، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ[34]، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ[35]، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ[36]، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ[37]، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟[38]: عُكُومُهَا رَدَاحٌ[39]، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ[40].


ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؟[41]: مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ[42]، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ[43].


بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا[44]، وَمِلْءُ كِسَائِهَا[45]، وَغَيْظُ جَارَتِهَا[46].


جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ[47] أَبِي زَرْعٍ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا[48]، وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا[49]، وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا[50].


قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ[51] وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ[52]، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ[53]، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ[54]، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا[55]، رَكِبَ شَرِيًّا[56]، وَأَخَذَ خَطِّيًّا[57]، وَأَرَاحَ(*) عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا[58]، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا [59]، قَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ[60]، فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِي مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ.


قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ»[61]،[62]، قال ابن حجر رحمه الله: «وكأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطييبًا لها وطمأنينة لقلبها ودفعًا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك، وقد وقع الإفصاح بذلك، وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها»[63]، وفي رواية الطبراني أنه قال: «يَا عَائِشَةُ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ، إِلَّا أَنَّ أَبَا زَرْعٍ طَلَّقَ، وَأَنَا لَا أُطَلِّقُ»[64].


وفي رواية أخرى: فقلت: «يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ خَيْرٌ لِي مِنْ أَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ»[65].


مما يؤثر قولهم: وراء كل رجل عظيم امرأة، فهل هذا القول صحيح؟ وكيف يكون ذلك؟
الجواب: انظر إلى هذه القصة.


أعقل نساء العرب:
قال الحارث بن عوف يومًا لخارجة بن سنان المري: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ فقال له: نعم! قال: من ذاك؟ قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي، فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، ففعل، وركبا حتى أتيا أوس بن حارثة بن لام الطائي فوجداه في فناء منزله، فلما أن رأى الحارث بن عوف قال: مرحبًا بك يا حارث.


قال: وبك، قال: ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطبًا، قال: لست هناك. فانصرف ولم يكلمه ودخل أوس على امرأته مغضبًا، وكانت من عبس، فقالت: من رجل واقف عليك فلم يطل، ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف. قالت: فما بالك لم تستنزله؟ قال: إنه استحمق! قالت: وكيف؟ قال: أتاني خاطبًا ! قالت: أفتريد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم، قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك، قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا؟ قالت: تلحقه فترده. قال: كيف وقد فرط مني؟ قالت: قل له: لقيتني مغضبًا بأمر لم تقدم فيه قولًا، فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، عد ولك عندي كل ما أحببت، فإنه سيفعل.. فركب في إثرهما. قال خارجة بن سنان: فواللَّه إني لأسير مع الحارث إذ حانت مني التفاته فرأيت أوسًا، فأقبلت على الحارث – وما يكلمني غمًّا – فقلت له: أوس بن حارثة في إثرنا. قال: وما نصنع به؟ امض. فلما رآنا لا نقف عليه، صاح: حارث، أرْبع عليَّ ساعة، فكلمته بذلك الكلام، فرجع مسرورًا، ودخل أوس منزله، وقال لزوجته: ادعي لي فلانة – يقصد أكبر بناته -. فأتته. فقال: يا بنية، هذا الحارث ابن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني خاطبًا وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل؟ فإني امرأة في وجهي ردة – قبح - وفي خُلقي بعض الحدة – العيب - ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني. وقال مثل ذلك للوسطى فأجابت مثل الكبرى... فنادى الصغرى فعرض عليها الأمر، فقالت: أنت وذاك. فقال: قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه، فقالت - ولم يذكر لها مقالتيهما-: لكني واللَّه الجميلة وجهًا، الصناع يدًا، الرفيعة خلقًا، الحسيبة أبًا، فإن طلقني فلا أخلف اللَّه عليه بخير، فقال: بارك اللَّه عليك، ثم خرج إلى الحارث فقال: زوجتك يا حارث ابنتي بهيسة بنت أوس، قال: قبلت، فأمر أمها أن تهيئها، وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب لهما، ثم بعث بها إليه.. قال الراوي خارجة بن سنان: فلما أدخلت عليه بهيسة لبث هنيهة ثم خرج فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا واللَّه، قال خارجة بن سنان: كيف؟ قال: لما دخلت عليها قالت: مه، أعند أبي وإخوتي؟ هذا واللَّه ما لا يكون، فأمر بالرواحل وارتحلوا، ولما ساروا ما شاء اللَّه، قال الحارث لخارجة: تقدم، قال خارجة: فتقدمت، ثم عدل الحارث بزوجته عن الطريق، وما لبث أن لحق بي، فقلت: أفرغت؟ قال: لا واللَّه، قلت: ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة أو السبية الأخيذة، لا واللَّه! حتى تنحر الجزر وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل لمثلي، فقلت: واللَّه إني أرى همةً وعقلًا وأرجو أن تكون منجبة، وسكت الحارث، قال خارجة: فرحلنا حتى وصلنا ديارنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها، وسرعان ما خرج علي، فقلت: أفرغت؟ قال: لا، قلت: ولم؟ قال: دخلت عليها فقالت: والله لقد ذكر لي من الشرف ما لا أراه فيك؟ قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ للنساء، والعرب تقتل بعضها بعضًا! (المقصد: كانت الحرب في بدايتها بين عبس وذبيان)، قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى القوم فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فإنه لن يفوتك ما تريد، فقال الحارث: اخرج بنا يا خارجة، فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى، عن كل رجل دية، فحملنا ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، وانصرفنا بأجمل الذكر، فمدح زهير بن أبي سُلمى الحارث بالقصيدة المشهورة:
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ ♦♦♦ بِحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ[66]

روى القاضي المعافى بن زكريا بسنده إلى الشعبي قال: قال لي شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم، فإنهن النساء! قلت: وكيف ذاك؟ فقال: رجعت يومًا من جنازة متطهرًا فمررت بخباء، فإذا بعجوز معها جارية رؤود[67] فاستسقيت، فقالت: اللبن أعجب إليك أم الماء؟ فقلت: اللبن أعجب إلي، فقالت: يا بنية اسقيه لبنًا فإني أظنه غريبًا، فسقتني فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ فقالت: هذه زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم، ثم من بني حنظلة، ثم من بني طهية. قلت: أتزوجينيها؟ قالت: نعم إن كنت كفؤًا، فانصرفت إلى منزلي، فامتنعت من القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إلى إخواني الثقات مسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، فصليت العصر ثم رحت إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه فقلت: أنت أحق بمجلسك ونحن طالبو حاجة، فقال: مرحبًا بك يا أبا أمية ما حاجتك؟ فقلت: إني ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة، ولا تك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني، ثم انصرفت، فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت فقلت في نفسي: ماذا صنعت؟ فهممت أن أرسل إليها بطلاقها، ثم قلت: لا أجمع حمقتين ولكني أضمها إلي فإن رأيت ما أحب حمدت الله، وإن تكن الأخرى طلقتها، فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها، فلما أُهديت إلي وقام النساء عنها قلت: يا هذه إن من السنة إذا أُهديت امرأة لزوجها أن تصلي ركعتين خلفه ويسألا الله تعالى البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي، فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي فقالت: على رسلك، فقلت: إحداهن ورب الكعبة، فقالت: الحمد للَّه وصلى الله على سيدنا محمد وآله، أما بعد فإني امرأة غريبة، ولا والله ما ركبت مركبًا هو أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك فخبرني بما تحب أنت وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. قال: فقلت: الحمد للَّه وصلى الله على محمد وآله، أما بعد فقد قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم، وأنت إن شاء الله سيدة نسائهم أحبوا هذا أو كرهوه، قالت: فحدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ فقلت: إني رجل قاض فأكره أن يملوني وأكره أن ينقطعوا عني، قال: فأقمت معها سنة وأنا كل يوم أشد سرورًا مني باليوم الذي مضى، فرجعت يومًا من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهى في منزلي، فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنك هذه أمي، قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية، وكيف رأيت أهلك؟ فقلت: كل الخير، فقالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقًا منها في حالتين: إذا ولدت غلامًا، وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريبًا فالسوط، فقلت: أشهد أنها ابنتك قد كفتني الرياضة وأحسنت الأدب، فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصيني بهذه الوصية ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يومًا ولا ليلة إلا يومًا وكنت لها ظالمًا، وذلك أني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربًا وعجلت عن قتلها فكفأت عليها الإناء وقلت: يا زينب إياك والإناء، وخرجت إلى الصلاة، فعجلت إلى الإناء فحركته فضربتها العقرب. ولو رأيتني يا شعبي وأنا أمص أُصبعها وأقرأ عليها المعوذتين. وكان لي جار يقال له قيس بن جرير، لا يزال يضرب زوجته، فكنت عند ذلك أقول:
رَأَيْتُ رِجَالًا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ
فَشُلَّتْ يَمِينِي حِينَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا
وَزَيْنَبُ شَمْسٌ وَالنِّسَاءُ كَوَاكِبٌ
إِذَا طَلَعَتْ لَمْ تُبْقِ مِنْهُنَّ كَوْكَبَا


وأنا الذي أقول:
إِذَا زَيْنَبُ زَارَهَا أَهْلُهَا
حَشَدْتُ وَأَكْرَمْتُ زُوَّارَهَا

وَإِنْ هِيَ زَارَتْهُم زُرْتُهَا
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِي هَوَى دَارِهَا[68]




والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] صحيح البخاري برقم (1161)، وصحيح مسلم برقم (743) واللفظ له.

[2] أي كلحم الجمل في الرداءة لا كلحم الضأن، والمقصود منه المبالغة في قلة نفعه والرغبة عنه ونفاد الطبع منه.

[3] والمقصود منه المبالغة في تكبره وسوء خلقه، فلا يوصل إليه إلا بغاية المشقة، ولا ينفع زوجته في عشرة ولا غيرها مع كونه مكروهًا رديئًا، ومعنى لا ينتقل، أي لا ينقله الناس إلى بيوتهم ليأكلوه بعد مقاساة التعب ومشقة الوصول، بل يرغبون عنه لرداءته، وبالجملة فقد وصفته بالبخل والرداءة والكبر على أهله وسوء الخلق.

[4] أي: لا أظهره وأنثره.

[5] أي تخاف من ذكره أن يطلقها، قلت: بل الصواب أن الضمير فيه راجع إلى الخبر، والمعنى إن شرعت في الخبر أخاف أن أتركه لكثرته، تعليق الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.

[6] بضم الأول وفتح الثاني أي عيوبه كلها، ظاهرها وباطنها.
العجر: جمع عجرة وهي نفخة في عروق العنق، والبجر جمع بجرة: السرة، تريد: لا أخوض في ذكر خبره، فإني أخاف من ذكره الشقاق والفراق وضياع الأطفال والعيال.

[7] بفتح العين والشين والنون مفتوحة مشددة، وهو الطويل المستكره في طوله النحيف السيئ الخلق.

[8] أي إن أنطق بعيوبه تفصيلًا يطلقني لسوء خلقه، ولا أحب الطلاق لأولادي منه، أو لحاجتي إليه.

[9] أي وإن سكت عن عيوبه يصيرني معلقة، وهي المرأة التي لا هي مزوجة بزوج ينفع، ولا هي مطلقة تتوقع أن تتزوج.

[10] في كمال الاعتدال وعدم الأذى وسهولة أمره، وتهامة: مكة وما حولها.

[11] كناية عن عدم الأذى لكرم أخلاقه وثبوت جميع أنواع اللذة في عشرته.

[12] أي إن دخل عليها يثبت كوثوب الفهد لجماعها. فهد الرجل: كثر نومه كالفهد.

[13] وإن خرج من عندها أو خالط الناس فعل فعل الأسد.

[14] أي لا يسأل عما علم في بيته من مطعم ومشرب وغيرهما تكرمًا، فوصفته بأنه كريم الطبع حسن العشرة لين الجانب في بيته، قوي شجاع في أعدائه، لا يتفقد ما ذهب من ماله ومتاعه، ولا يسأل عنه لشرف نفسه وسخاء قلبه.

[15] أي أكثر الأكل، وخلط صنوف الطعام.

[16] أي شرب الشفافة وهي بقية الماء في قعره، أي لا يدع في الإناء شيئًا منه.

[17] أي إن اضطجع على جنبه التف في ثيابه وتغطى بلحاف منفردًا في ناحية وحده ولا يباشرها، فلا نفع فيه لزوجته.

[18] أي: ولا يدخل يده تحت ثيابها ليعلم بثها وحزنها، فلا شفقة عنده عليها.

[19] أي عاجز عن القيام بمصالحه من العي، وقيل هو العنين، غياياء أي ذو غي وهو الضلالة أو الخيبة، طباقاء أي أحمق، وقيل: هو الذي أطبقت عليه أموره، أو العاجز عن الجماع أو الكلام.

[20] أي: اجتمعت فيه كل عيوب الناس، (شجك...) أي: إما أن يشج رأس نسائه، أو يكسر عضوًا من أعضائهن أو يجمع لهن بين الأمرين.

[21] أي مس زوجي كمس الأرنب في اللين والنعومة.

[22] بفتح الزاي نوع من النبات طيب الرائحة، والمعنى أنها تصفه بحسن الخلق وكرم المعاشرة، ولين الجانب كلين مس الأرنب، وشبهت ريح بدنه أو ثوبه بريح الطيب، ويجوز أن يراد به طيب الثناء عليه وانتشاره بين الناس.

[23] العماد في الأصل عمدٌ تقوم عليها البيوت، كَنَتْ بذلك عن علو حسبه وشرف نسبه، والنجاد بكسر النون: حمائل السيف، كَنَتْ به عن طول القامة، إشارة إلى أنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته، والرماد كناية عن كثرة الجود المستلزم لكثرة الضيافة، المستلزمة لكثرة الرماد ودوام وقود ناره، والناد أصله النادي حذفت الياء للسجع، والنادي: الموضع الذي يجتمع فيه وجوه القوم للتشاور والتحدث، وهذا شأن الكرام يجعلون بيوتهم قريبًا من النادي تعرضًا لمن يضيفهم.

[24] أي اسمه مالك، خير من ذلك: أي خير مما سأقوله في حقه، ففيه إيماء إلى أنه فوق ما يوصف من الجود والسماحة.

[25] جمع مبرك، مكان بروك الإبل.

[26] أي إبله كثيرة إذا بركت، فإذا سرحت كانت قليلة لكثرة ما منها في مباركها للأضياف، أو يتركها بجانب البيت حتى إذا نزل به الضيفان كانت حاضرة.

[27] أي إذا سمعت الإبل صوت العود الذي يضرب أيقن أنهن منحورات للأضياف من كرمه وجوده.

[28] كنته بذلك لكثرة زرعه، ويحتمل أنها كنته بذلك تفاؤلًا بكثرة أولاده، ويكون الزرع بمعنى الولد.

[29] بِزِنَةِ أقام، من النوس وهو تحرك الشيء متدليًا.

[30] المراد أنه حرك أذنيها من أجل ما حلَّاهما به.

[31] جعلني سمينة.

[32] المعنى: فرحني ففرحت نفسي.

[33] بالتصغير للتقليل، أي أهل غنم قليلة، وبشق بالفتح والكسر ويحتمل أنه اسم موضع أو بمعنى المشقة، ومنه قوله:﴿ ﭙ ﭚ﴾ﭐ[من سورة النحل، آية: 7].
والمعنى: وجدني في أهل غنم قليلة، فهم في جهد وضيق وعيش.

[34] أي فحملني إلى أهل خيل ذات صهيل، وإبل ذات أطيط، والصهيل: صوت الخيل. والأطيط: صوت الإبل، وبقر تدوس الزرع في بيدره ليخرج الحب من السنبل. ومنق بضم الميم وفتح النون وتشديد القاف، وهو الذي ينقي الحب وينظفه من التبن وغيره بعد الدرس بغربال وغيره، فهم أصحاب زرع وأرباب حب نظيف. والمراد من ذلك كله: أنها كانت في أهل قلة ومشقة فنقلها إلى أهل ثروة وكثرة، لكونهم أصحاب خيل وإبل وغيرهما.

[35] أي فأتكلم عنده بأي كلام فلا ينسبني إلى القبح لكرامتي عليه، ولحسن كلامي لديه.

[36] أي: أنام فأدخل في الصبح فيرفق بي ولا يوقظني لخدمته ومهنته، لأني محبوبة إليه، ومكفية بالخدم التي تخدمه وتخدمني.

[37] أي فأروى وأدع الماء لكثرته عنده، مع قلته عند غيره. والمعنى: أنها لم تتألم منه، لا من جهة المرقد ولا من جهة المشرب.
قلت: وفي النهاية: «أرادت أنها تشرب حتى تروى وترفع رأسها. يقال: قَمَح البعير يقمح إذا رفع رأسه من الماء بعد الري، ويروى بالنون».

[38] أرادت أن تمدح أمَّ زوجها بعد مدح زوجها.

[39] أي: أعدالها وأوعية طعامها عظيمة ثقيلة كثيرة، العكوم جمع عكم وهو العدل إذا كان فيه متاع، والرداح: بفتح الراء: العظيمة الثقيلة الكثيرة.

[40] بفتح الفاء أي واسع، وسعة البيت دليل سعة الثروة.

[41] انتقلت إلى مدح ابن أبي زرع.

[42] أي مرقده كمسل: بفتح أوله وثانية بمعنى مسلول. شطبة: بفتح الشين وسكون الطاء وهي ما شطب أي شق من جريد النخل وهو السعف. والمعنى أن محل اضطجاعه وهو الجنب كشطبة مسلولة من الجريد في الدقة فهو خفيف اللحم دقيق الخصر كالشطبة المسلولة من قشرها.

[43] بضم التاء لأنه من الإشباع، والجَفْرة بفتح الجيم وسكون الفاء هي الأنثى من أولاد المعز، والمراد أنه ضاوي مهفهف قليل اللحم على نحو واحد على الدوام، وذلك شأن الكرام.

[44] أي: هي مطيعة لأبيها ولأمها غاية الإطاعة.

[45] أي مالئة لكسائها لضخامتها وسمنها، وهذا ممدوح في النساء.

[46] والمراد منها ضرتها، فتغيظ ضرتها، لغيرتها منها بسبب مزيد جمالها وحسنها.

[47] أي: خادمته.

[48] والمعنى لا تنشر كلامنا الذي نتكلم به فيما بيننا نشرًا، لديانتها.

[49] أي: لا تنقل طعامنا نقلاً لأمانتها وصيانتها، وتنقث بفتح التاء وضم القاف، والنون ساكنة. والمعنى: لا تنقل، والميرة: بكسر الميم: الطعام.

[50] أي لا تجعل بيتنا مملوءًا من القمامة والكناسة حتى يصير كأنه عش الطائر، بل تصلحه وتنظفه لشطارتها.

[51] خرج لسفر في يوم من الأيام.

[52] أي والحال أن الأوطاب جمع طب: أي أسقية اللبن، وتمخض بالبناء للمجهول أي تحرك لاستخراج الزبد من اللبن. والمراد أنه خرج في حال كثرة اللبن وذلك حال خروج العرب للتجارة.

[53] أي مثلهما في الوثوب واللعب وسرعة الحركة.

[54] أي: ذات ثديين صغيرين كالرمانتين، فيلعب ولداها بثدييها الشبيهين بالرمانتين.

[55] أي: من سراة الناس وأشرافهم.

[56] أي: فرسًا يتشرى في مشيه أي يلج فيه بلا فتور.

[57] وهو الرمح المنسوب إلى الخط، قرية بساحل بحر عمان تعمل فيها الرماح.
(*) قلت: الأصل راح، وهو خطأ مخالف لما في الصحيحين والنهاية.

[58] أي: جعلها داخلة علي في وقت الرواح وهو ما بعد الزوال، أو أدخلها علي في المراح، والنعم: الإبل والغنم والبقر، وثريا: من الثروة وهي كثيرة المال.

[59] أعطاها من كل بهيمة ذاهبة إلى بيته في وقت الرواح زوجين اثنين اثنين.

[60] أي: قال الزوج الذي تزوجها بعد أبي زرع: كلي ما تشائين وأعطي أقاربك.

[61] صحيح البخاري برقم (5189)، وصحيح مسلم برقم (2448) واللفظ له.

[62] الحديث بتمامه مع معاني الكلمات منقول من مختصر الشمائل المحمدية بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني۴، ص (134- 142).

[63] فتح الباري (9/ 275).

[64] معجم الطبراني الكبير (23/173) برقم (270)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح الجامع الصغير برقم (141).

[65] سنن النسائي الكبرى (9138).

[66] التذكرة الحمدونية (2/ 38).

[67] في مقتبل شبابها.

[68] تهذيب تاريخ ابن عساكر (6/315- 316).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-12-2022, 06:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي رد السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (5)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
ففي هذه الكلمة بيان بعض المعالم التي تُعين على فهْم مقاصد النكاح، وطرق تحقيقها؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 189]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].


فلنتأمل قوله تعالى: ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وقوله تعالى: ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، فما هذا السكن؟ وكيف يكون السكون؟ وما آثاره على حياة الزوجين؟ وما الواجب فعله؟


قال في القاموس: السكن كل ما يسكن إليه ويطمئن إليه من أهل وغيره[1].


في هاتين الآيتين الكريمتين خص الله تعالى الزوجة بذلك، فجعلها هي السكن لزوجها، والسكون هو الاطمئنان والراحة، وقد اشتملت هذه الكلمة العظيمة على معان واسعة تكاد تشمل جميع مناحي الحياة، فانظر إلى حال الناس الأسوياء عندما يكونون خارج مساكنهم، وما يلزمهم من التكلف في ضبط الكلام والملبس والحركة والسكون، ثم انظر إليهم عندما يعودون إلى مساكنهم كيف يزول عنهم ذلك التكلف في أكلهم وشربهم ونومهم، وغير ذلك بما يحصل لهم من الطمأنينة والانبساط، فكذلك الزوجة هي السكن لزوجها، وهي حين تكون كذلك، فإنما تعمل وفق حكمة الخالق تعالى وقد خلقها مهيَّأة لذلك، فلتحمد الله ولتكثر من شكره؛ قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187].


ففي قوله تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، معنى عظيم يجب على الزوجين أن يتفطَّنا له ويعملا بموجبه، وهو حق متبادل بينهما، وبيان ذلك أن اللباس له ثلاثة أغراض جليلة:
الأول: ستر ما يُستحيا من كشفه.
الثاني: الوقاية من الحر والبرد ونحوهما.
الثالث: التجمل.


قال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [سورة الأعراف، آية رقم: 26].


والرياش هو ما يتجمل به زائدًا عن ستر العورات والوقاية من الآفات.


فإذا فهمنا هذا فلنعلم أن كل واحد من الزوجين يحتاج من الآخر هذه الثلاثة، فأعظمها:
1 –الستر: فعلى الزوجين أن يستر كل واحد منهما الآخر ولا يظهر عنه ما يسوؤه إظهاره ولا يُفشي له سرًّا.


2 - أن يقيه بنفسه من الآفات التي تؤذيه كوقاية اللباس الحر والبرد.


3 - ثم ليترقى بعد ذلك إلى أن يكون كل واحد منهما للآخر كالرياش يتجمل به ويظهر محاسنه.


وقال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228].


ويندرج تحت هذه الجملة الكريمة معان عظيمة، وحكم جليلة، غير أن الانتفاع بها مبني على الإيمان بها والتسليم لها والفهم الصحيح لما دلت عليه، وإليك البيان:
1- يجب أن يُعلم أن خالق الخلق تعالى له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، ركب الرجال على خلقة تناسب ما كُلفوا به، وركب النساء على خلقة تناسب ما خلقن له، فمن اهتدى لما خُلق له وُفق في الدارين ونال السعادتين، ومن لم يهتدِ كان دليلًا على انتكاس فطرته ومن ثم فساد الفكر والعمل.


2 – بيَّن تعالى في آية أخرى ما أجمل في هذه الآية، فقال تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34].


في هذه الآية ذكر تعالى سبب جعل القوامة في الرجل، والقوامة هي الدرجة في الآية السابقة، وأن ذلك لأمرين:
أحدهما راجع إلى أصل الخلقة التي خلق الله عليها البشر، وفي التنزيل المبارك قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36]، ومن المقطوع به أن الرجل والمرأة لو كانا على خلقة واحدة وطبيعة واحدة، لما حصل التجانس بينهما، ولوقع التنافر بينهما، وشواهد ذلك ظاهرة فيمن انتكست فطرهم وفسدت تصوراتهم.


وثانيهما: الإنفاق، فالرجل أقدر على ذلك، ثم إنه لا يضيع شيء بسبب قيامه بتحصيل النفقة، أما المرأة فإنها لو ذهبت لتحصيل النفقة، فسيقع من إهمالها لوظيفتها التي هي شؤون البيت وتربية الأولاد والعناية بالزوج، ضررٌ عظيم وفساد كبير، فالرجل يقدر على أمور لا تقدر عليها المرأة، والمرأة تقدر على أمور لا يقدر عليها الرجل، وبقيام كل واحد منهما بما يجب عليه يحصل التكامل وتستقيم الحياة، اللَّهم إلا أن يُقال: تقوم المرأة بوظيفة الرجل ويقوم الرجل بوظيفة المرأة، أو يقوم أحدهما بكلتا الوظيفتين، وهذا مما يعلم كافة العقلاء فساده وعظيم ضرره.


3 - ينبغي أن يُعلم أن وظيفة المرأة - وهي القيام بشؤون البيت وتنشئة الأجيال والعناية بشؤون الزوج وتهيئة نفسها لما يحتاجه - وظيفة جليلة، لا تقل درجة عن وظيفة الرجل، بل قد تزيد عليها وتناسب خلقتها وفطرتها.


أما الرجل فلا يقدر عليها؛ لأنها لا تناسب خلقته التي خلقه الله عليها، وقد أحسن القائل:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها ♦♦♦ أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ


وقالوا: وراء كل رجل عظيم امرأة.


وعلى كل حال، فكلامنا مع من سلمت فطرهم وصحت تصوراتهم، أما الآخرون فلهم طرق أخرى للعلاج ليس هذا مكانه.


والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] 35 /199 تاج العروس من جواهر القاموس.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-12-2022, 06:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,605
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لسعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (6)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فركائز العشرة الزوجية؛ قال تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، ترتكز العشرة الزوجية على أمور ثلاثة وهي المودة، والرحمة، وإقامة حدود الله؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]، وقال تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، فإذا اجتمعت هذه الثلاث للزوجين فقد نالا سعادة الدنيا، ويُرجى لهما سعادة الآخرة.

وعقد الزوجية من أعظم العقود التي يُجب الوفاء بها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، وسماه الله ميثاقًا غليظًا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21].

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَقَّ مَا وَفَّيْتُمْ بِهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»[1].

وعقد الزواج في الإسلام عقد اختيار لا إجبار، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ»؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ»[2].

ولذلك سهل الله أمر الفراق بين الزوجين عند تعذر الحياة الزوجية، فإن قام بذلك الزوج وإلا حلَّ للمرأة أن تفتدي نفسها ولا جناح عليها في ذلك؛ قال تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، أو يحكم القاضي الشرعي بالتفريق بينهما، لكن يجب أن يعلم أن هذا العقد الغليظ لا يجوز حله إلا بانعدام هذه الأمور الثلاثة التي هي ركائز العشرة الزوجية، فإذا عدمت المودة بينهما، فإنه يبقى بينهما رابط الرحمة وإقامة حدود الله، فإن عدمت الرحمة أيضًا، فإنه يبقى بينهما رابط أن يطيع كل واحد منهما الله في الآخر، روي أن رجلًا قال في عهد عمر رضي الله عنه لامرأته: نشدتك بالله هل تحبيني؟ فقالت: أما إذ نشدتني بالله فلا، فخرج حتى أتى عمر، فأرسل إليها، فقال: أنت التي تقولين لزوجك: لا أحبك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين نشدني بالله، أفأكذب؟ قال: نعم فأكذبيه، ليس كل البيوت تُبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب[3].

ولعلهما حين يطيع كل واحد منهما الله في الآخر يؤلِّف الله بين قلبيهما وتعود المودة والرحمة، فإن من أحب الأعمال إلى الشيطان التفريق بين الزوجين لما ينتج عنه من مفاسد وأضرار، وأعداء الإسلام عندما يريدون إفساد بلد وهدم أمة، يزرعون فيه الأسباب التي ينتج عنها تفرق الأزواج، ومن ثم تشتُّت الأسر، وهدم البيوت؛ روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»، قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: «فَيَلْتَزِمُهُ»[4].

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا»[5]، فإذا عدمت هذه الركائز فإنه والحالة هذه لم يبق بينهما رابط يجمعهما وتعيَّن الفراق؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 130].

وإن مما يجب التنبه له أن كثيرًا من حالات الفراق تقع بناءً على تقييم أحد الزوجين للآخر تقييمًا جائرًا لا يلتزم فيه صاحبه العدل والإنصاف، ولذلك عندما تنقشع غمامة الهوى يندم حين لا ينفع الندم.

الميزان والعدل في تقييم الزوجة:
تقدم في مقاصد النكاح التعريف بالحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين، وأن استصحاب ذلك حين تقييم أحد الزوجين للآخر يجعل المرء عادلًا في حكمه منصفًا من نفسه، ونزيد هنا بيانًا بذكر بعض الأمور التي تجعل تقييم الرجل للزوجة عدلًا صوابًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»[6].

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ»[7].

من هذه الآيات والأحاديث وغيرها يتبيَّن أنه يجب العدل في تقييم الزوجة، وهذا معلوم لدى كل مسلم، ولكن الذي قد يخفى هو تطبيق ذلك، فإن الرجل إذا تزوج المرأة وهو يريد منها مقاصد النكاح السابق ذكرها جميعًا: الذرية، والخدمة، والمتعة، فإنه عند إرادة تقييمها يجب عليه النظر إلى هذه الثلاث مجتمعة لا إلى كل واحد على حدة، فإذا نظر إليها مجتمعة وكانت الزوجة تستحق الثلث 33 % على أقل تقدير لكل واحد منها، فإن مجموع ذلك ينتج عنه الدرجة الكاملة، بينما إذا نظر إلى كل واحد على حدة احتقر ذلك التقدير، وحكم عليها بالفشل قطعًا، وسبب ذلك النظر الخاطئ.

ولو استصحب ما دلت عليه الآيات والأحاديث السابقة، لم يقع في ذلك الخطأ، ويزيد ذلك إيضاحًا أن الرجل إذا لم يرد من المرأة سوى اثنين من ثلاثة مثلًا، فإن ثلث الدرجة لا تكفي في رفع مستوى الزوجة، كذلك إذا لم يرد منها إلا واحدًا من تلك المقاصد، وبذلك يتضح الفرق بين أن تقوم المرأة بهذه المقاصد الثلاثة، وبين أن يطلب منها القيام ببعضها فقط، ولذلك لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة اعتذرت بادي الأمر بأن لديها صبية، وقد أرادت بتقديم هذا العذر - والله أعلم - أنها ستنشغل بهم عن القيام بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملًا، وقد وقع ذلك فعلًا، فروى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: أرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور، فقال: «أمَّا ابْنَتُها فَنَدْعُو اللَّهَ أنْ يُغْنِيَها عَنْها، وأَدْعُو اللَّهَ أنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ»، ويشهد لذلك ما رواه[8]الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد عليها كان يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب، فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حييًّا كريمًا، يستحيي فيرجع، ففعل ذلك مرارًا، ففطن عمار بن ياسر لما تصنع، فأقبل ذات يوم وجاء عمار وكان أخاها لأمِّها، فدخل عليها فانتشطها من حجرها، وقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل، فجعل يقلب بصره في البيت ويقول: «أَيْنَ زُنَابُ؟ مَا فَعَلَتْ زُنَابُ؟»، قالت: جاء عمار فذهب بها، قال: فبنى بأهله، ثم قال: «إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، وَأُسَبِّعَ لِلنِّسَاءَ»[9].

وإن من رحمة الله وحكمته أن خفف على المرأة التكاليف الشرعية في العبادات، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ»[10].

وما ذلك إلا لتفريغها للقيام بهذه المقاصد الثلاثة على أكمل الوجوه، فإن المرأة إن فعلت ذلك ووجدت رجلًا يقدر ما تقوم به كان ذلك دافعًا له أن يقوم بما أوجب الله عليه، ليس تجاه أسرته فقط بل تجاه دينه ومجتمعه والناس جميعًا، ولذلك قالوا: وراء كل رجل عظيم امرأة.

تنبيه:
لو أن رجلًا يريد أن تكتمل له هذه المقاصد الثلاثة بأعلى درجاتها، فهل يحصل له ذلك، الجواب: نعم، وذلك أن الله تعالى وهو الحكيم في شرعه العليم بخلقه شرع للرجل التعدد؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].

فإن كان الرجل أهلًا لذلك فإنه سيكمل له من مجموعهن ما يريد.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] صحيح البخاري برقم (5151)، وصحيح مسلم برقم (1418).

[2] صحيح البخاري برقم (5136)، وصحيح مسلم برقم (1419).

[3] شرح السنة للبغوي (13/ 120).

[4] برقم (2812).

[5] قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (9/ 259) برقم (5357)، وقال محققوه: حديث صحيح.

[6] صحيح البخاري برقم (5186)، وصحيح مسلم برقم (1466).

[7] برقم 1467.

[8] برقم (918).

[9] مسند الإمام أحمد (44/ 268) برقم (26669).

[10] مسند الإمام أحمد (32/ 145) برقم (19403)، وقال محققوه: حديث جيد.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 171.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 167.14 كيلو بايت... تم توفير 4.21 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]