من مظاهر"الإسلامية" في شعر د. محمد علي الرباوي من خلال قصيدته "أوراق مكية" - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4417 - عددالزوار : 853536 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3948 - عددالزوار : 388649 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 214074 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-04-2021, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي من مظاهر"الإسلامية" في شعر د. محمد علي الرباوي من خلال قصيدته "أوراق مكية"

من مظاهر"الإسلامية" في شعر د. محمد علي الرباوي من خلال قصيدته "أوراق مكية"


د. محمد ويلالي



قليلون هم الشُّعراء الذين جعلوا من شعرهم صَهْوةً لحمل المضامين الإنسانيَّة الكريمة، ودعَوا إلى رُكُوب الفضيلة، وامتشقوا أقلامهم لخدمة قضايا الأُمَّة، مُؤثرين ذلك على السباحة في عالم الذَّات، والانشغال بهموم الحال عن آفاق المآل.

نَجْأَرُ بهذا القول، في الوقت الذي ألفينا فيه انبهارَ بعضِ أدبائنا ونُقَّادنا - في العقود الأخيرة - بالوافد الغربي، وصارت المذاهب الأدبيَّة الأجنبية مُحْكِمَةً قبضتَها على عطائهم، وطرائق مُعالجتهم الأدبيَّة والنقديَّة، ووجدنا أنفسَنا أمام قَدْر غير يسير من الإنتاج الأدبي الحائدِ عن واقع أمَّتنا وهمومِها، وفي الوقت الذي ظهرت فيه بعضُ الصَّيحات المغالية في نَبْذ القِيَم الجميلة، ورفض ثوابت الأُمَّة الأصيلة، جاعلة كلَّ شيء متحولاً، قابلاً للأخذ والرَّدِّ، ومن ثَمَّ انْقَضَّتْ على موروث المسلمين، مُمعنة في تهميشه، ورَميه بكُلِّ نقيصة، وسمحت لنفسها أن تخترقَ المصون، وتعتسفَ المقدَّس.

إنَّ الأعمال الإنسانيَّة في جميع مَجالاتِها - ومنها الشعر - داخلة تحت مفهوم الإحسان الشرعي، الذي أُمرنا به في قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء))[1]، ولا معنى لتفلُّت الفَن بعامة، والشعر بخاصة من هذا العُمُوم، ولو كان هناك مخصِّص، لوجدنا له جذورًا في النُّصوص الشرعية الوفيرة التي تَحدَّثَت عن الشعر.

ولئن وجدنا أنفسنا اليوم أمام شاعر كبير، لسنا أوَّلَ من يَحتفي بشعره تقديرًا وتشجيعًا، ولن نكون الأخيرين، فإن د. محمد علي الرباوي ممن أحسُّوا مسؤوليَّة الكلمة، وناؤوا بثقلها، فحمَّلوها ثقافةَ الأُمَّة، وسَرْبَلُوها بلَبُوسِ هُمُومها، واشتملوها بدثار المعالجة الصَّميميَّة لأدوائها، معالجة يَختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي؛ ليجعلَ من نفسه جزءًا من واقع أُمَّته، يُهمُّه ما يهمُّها، ويُحزنه ما يُحزنها، ويسرُّه ما يسرها، وتلك - لَعَمْري - مسؤوليَّة المبدعين الرِّساليِّين، المُستثنَيْن في قوله - تعالى -: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227].

وقصيدة "أوراق" يُمكن تصنيفها ضِمْن ما يُصطلح عليه بـ"الشعر الديني"، وإن كنت أستحبُّ أن أُسَمِّيه بـ"الشعر الإسلامي"؛ لأسباب بسطتها في مكان آخر.

إنَّ مفهوم "الدين" الحقيقي الذي نقصده لا يتعارضُ بتاتًا مع الشعر، ولا يُجانفه؛ بل يحضنه، ويسير به في الاتِّجاه الصحيح، دون أنْ يلْتفَّ عليه، أو يَحدَّ من أشواقه وسَبَحاته؛ إذ ليس معنى "الدين" مقصورًا فقط على الشعائر التعبُّديَّة، بل له معانٍ مُتعددةٌ، تدُلُّ على أنه أوسع من ذلك، من هذه المعاني: ما يتديَّن به الرجل، والحال، والسلطان، والورع، والقهر، والمعصية، والطاعة، والعادة، والحساب، والملك، والحكم، والقضاء، والتدبير[2]؛ "فكلمة "الدين"، و"الدِّين الإسلامي"، تَختلف عمَّا رسخ في أذهان الناس، وعما تُوحيه الكلمة الأجنبية "RELIGIONوبعض الشعارات مثل: الدين لله، والوطن للجميع"[3].

وهذا العموم يجعل "الدينَ" أرحبَ مساحة، وأكثر شموليَّة؛ حتَّى يكون الشعر أحد أجزائه، فلا تعارضَ ولا تنافِيَ.

"فالرومانسية"[4] تخرج على الكنيسة؛ لتجعلَ لنفسها دينًا آخر، هو "الطبيعة"، و"الواقعية الاشتراكية"[5] ترفض العالَمَ الغَيْبِي، وتعتبر الدين الحقيقي دائرًا في فلك "المادة"، منطلقة من فلسفة ذَوَبان الفرد في الجماعة، و"الوجودية"[6] تفلَّتَتْ بدورها من كُلِّ قيد لتعبد الذات، وهكذا كل المذاهب الأخرى التي جاءت بعد "الوجوديَّة"، لم تكن بمنأى عن المعتقد.

ونحن إذا ما استقرأنا بعضَ أقوال كبار الفلاسفة والشُّعراء الغربيين، وجدناهم يؤمنون بأنَّ الفن لا يصدر إلاَّ عن عقيدة، وأن الدِّين والفن صِنْوانِ، لا تَجافِيَ بينهما ولا تعارض ولا تدابر، فجاءت شهاداتهم: يَحِقُّ للشعراء مثل الرباوي، وازويريق، والأمراني وغيرهم أنْ يفخروا بها، وإن كان في الآية المذكورة ما يُعَدُّ إطارًا للشعر المنشود.

من هنا يرى بعضُ الغربيين "أنَّ فكرة "العبثية"[7]، لا يُمكن الدِّفاع عنها، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بديانة تَجعل الحياة ذات نظام وهدف"[8]، فلا غرابة إذًا أن يقرِّر "أرنولد توينبي" "أنَّ أزمة الحضارة في الغرب هي الدِّين، وأن الحضارة الغربية المتدهورة لا يُمكن إنقاذُها إلاَّ بالدين"[9].

هكذا نلاحظ أن العلاقة بين الدين والفن علاقة صميميَّة وحميمية منذ فجر التاريخ، ولا يُمكن تعليل هذا الارتباط التاريخي، إلاَّ بكون "الدين فطرة نابعة من وجود البشر، ضاربة بجذورها في نفوسهم، هناك قُوَّة جاذبة، تشد المخلوق إلى الخالق، وتربطه ارتباطًا وثيقًا، لا فَكاك منه"[10].

وشاعرنا من الأسماء الأولى التي صُنِّفت - إلى جانب د. حسن الأمراني - ضمن شعراء الأدب الإسلامي، وإنْ حاول بعضُ النقاد - عبثًا - أن يزيح عنه هذا الانتماء، وقصيدة "أوراق مكية" - التي سنحاول ملامسة بعض جوانبها - تنطقُ بذلك، علمًا بأن الرجل عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالميَّة، وواحد من أسرة تحرير مجلة "المشكاة" المغربية، أول مجلة عربية تُعنَى بالأدب الإسلامي حسب علمي.

يقول الرباوي عن بداية تَحوُّله للأدب الإسلامي: "بدأتُ مع الأمراني أُفكِّر من جديد في الشعر العربي المعاصر، الذي كان يَملأ وقتئذٍ المنابر الأدبية، لاحظتُ أن أغلبَه لا يُعَبِّرُ عن حضارتنا، وأن روحه روح غربية، وبدا لي أنَّ أكثره لو تُرجم إلى إحدى اللُّغات العالميَّة، لكان بضاعةً رُدَّت إلى أهلها"[11]، ثُم قال متسائلاً: "فكيف لي أنْ أربط إنجازي الشعري بروح حضارتي؟ سؤالٌ بَدَأَ يُلِحُّ عَلَيَّ منذ 1975، كما كان سؤالاً ألَحَّ كذلك على الصديق حسن الأمراني، فبدأ الحديثُ عن الأدب الإسلامي"[12].

لقد أثَّرت المناهج الغربية في كثير من شعرائنا، فذابت خصوصيَّة الشعر العربي - فضلاً عن خصوصية الشعر المغربي - في زحمة المصطلحات الوافدة، والرُّمُوز الغابرة، والأساطير الغريبة، بما حملته الحداثة الجارفة من ثورة على الثَّوابت، وروغ على المقدس، وكان هذا الهاجس حاضرًا عند الرباوي، حين انعطف في لحظة من لحظات الإبداع إلى أصالة الأدب العربي، والمنهج الإسلامي في توجيه الفن وجهته السليمة، يقول الرباوي: "ولا يُمكن لإبداعنا أن يكونَ له دور حضاري إلاَّ إذا انطلق من خصوصيَّة حضارته العربية الإسلامية"[13] .

ويقول في حوار آخر بنبرة لا تخلو من الأسى على وضعية الشعر المعاصر: "الحداثة التي اكتسحت مجتمعنا جاءت لتدمِّرنا؛ مِمَّا مهَّد لقبول العولمة التي نراها على أبوابنا، وستأتي على ما أبقته الحداثة فينا، إننا سننهار انهيارًا قد لا نستطيع بعده القيام، إذا لم نحصن الذات من هذه الرِّيح العاتية التي تقلع اليابس والأخضر، هذا ما شعرنا به نحن شعراء المشكاة منذ السبعينيَّات، فدعونا - وما زلنا - إلى الأدب "الإسلامي"؛ لنتمكن من حفظ هُوِيَّتنا والسُّمو بها إلى أن يكون له وجود بناء في هذا المحيط المتلاطم الأمواج"[14]، ثُمَّ يقول: "لا تسألني ما الأدب الإسلامي؟ ما موقفه من الحداثة؟ وإنَّما أحيلك على إنجازاتنا الشعرية، فهي وحدها القادرة على الإجابة على مثل هذين السؤالين".

ولقد وقفت له على مقال بمجلة "المنعطف"[15]، بعنوان: "الأدب الإسلامي أدب غير ملتزم"، يناقش فيه خصوصية هذا الأدب، وضرورة تَميُّزه عن الآداب الأخرى؛ حفاظًا على استقلاليَّته، ومن ثَم عالميته، فيرفض مصطلح "الأدب الملتزم"، الذي شاع عند نُقَّاد "الأدب الإسلامي"؛ ليستعيض عنه بـ"الأدب المسؤول"، ثُمَّ يبني رفضه للمصطلح على ثلاثة مرتكزات:
1 - إن "المسؤولية" أوسع من "الالتزام".
2 - إن "الالتزام" مغرق في المضمون.
3 - إن مصطلح "الالتزام" استعارة من المذهب "الوجودي".

ونراه يصف الأدب المسؤول بأنه أدب "يدعو إلى مناصرة الضعيف، ويحبب الإيمان، ويدعو إلى صحة المعتقد، وينبه على الخطر، وينفر من الشر"[16].

ولئن اعترف شاعرنا بأنَّ هذا التعريف لا يخلو من اهتمام بالمضمون، إلاَّ أنه مضمون "مستمدٌّ من الشريعة الإسلامية، لا من الأهواء البشريَّة، يضاف إلى ذلك أن الأديب المسلم، يدرك أنه مُؤتمن ومسؤول، يعاقَب إذا نكث ما عاهد الله عليه"[17]، ولقد صدق:

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلاَّ سَيَفْنَى وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ


سينطلق الرباوي في صوغ عدد من قصائده من هذه الروح، التي تشبَّعت بنصوص القرآن الكريم وقصصه، وكان قد اكتشف بَحره الثَّر، وأصدافه الثَّمينة منذ سنوات، يقول: "في السنة نفسها - يقصد سنة 1971 - بدأت أقرأ السياب قراءة نقديَّة، فساءني أن تكون أغلبُ رموزه من التُّراث الإغريقي، فهداني ذلك إلى البحث عن الرُّموز البديلة في تراثنا الإسلامي، فاكتشفتُ أهميةَ القصص القرآني، وهنا بدأتُ أقتربُ من القرآن الكريم، وأخذتُ أُنْعِمُ النَّظر في شخصيَّات الأنبياء، فاتَّخذتُ أكثرها مادةً شعريةً في مجموعة من النُّصوص التي كنت أنشرها بمجلة الشهاب البيروتية، ولم أكن أعلم وقتئذ أنَّ قراءة القرآن، ستُجري نَهْرًا رقراقًا، سيروي في المرحلة الموالية ذاتي التائهةَ في صحراء ليس بِها زرع أو ضرع".[18]

من هذا المنطلق، انسابت قصيدة "أوراق مكيَّة"، بمقاطعها العشرين - كما انسابت بعدها قصيدة "الأسماء الحسنى" - مصوغاتٍ ذهبيةً، تُعجِب القراء والنُّقاد، بِنَفَسها الإسلامي الناضح، ولهجتها الحزينة التي تترجم عن نفثات مصدور، أثقلت الذنوبُ كاهلَه، وأقلقت الآلام مضجعَه، فلم يَجد إلا الجُؤارَ بدعاء العَفُوِّ الغَفَّار، الذي يقبل التَّوبة عن عباده، مُستعينًا في ذلك بأسلوب الدُّعاء، مستغلاًّ حاسة السَّمع والبصر، موظفًا لحضور القَلْب والنفس مَرْكزي الطهر عند الإنسان، إذا كنفهما النُّور، الذي مصدره الحقيقي من الرحمن المنعم، مستغلاًّ في تكثيف صورته أسلوب التَّناص مع حديث النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا, وفي سَمْعي نورًا, و في بَصَري نورًا, وَاجْعَلْ في نَفْسي نورًا,أَنْتَ النُّورُوَمِنْكَ النُّورُ,وَإِلَيْكَ النُّور)).

وما أجملَ أن يعبر الشعرُ عن الاهتزازاتِ النفسيَّة، والتحليقات الروحيَّة التي يحسُّها الحاج وقد اختاره مولاه لزيارة البقاع المقدسة! ولطالما انحبست الكلمات في حلوق الواصفين وهم يُحاولون نَقْل مشاعرهم تجاه الرِّحلة المباركة، أمَّا الرباوي فقد أسعفته الألفاظ لتُترجم عن بعض هذا الإحساس؛ حيثُ سينسب النِّعمة للمنعم الحقيقي، لما رشحه اتِّحادُ كُتَّاب المغرب لأداء هذه الفريضة على نفقة الدولة، وكان وقتَها قد خرج من حادثة سير قاتلة:

تَنْحَنِي لَكَ نَخْلَةُ هَذِي الْبَرَارِي
تَنْحَنِي أَنْتَ لِلرِّيحِ
يَرْتَطِمُ الْجَسَدُ الْهَشُّ بِالأَرْضِ
تَشْعُرُ أَنْتَ بِأَنَّ جَنَاحَيْكَ
شَدَّهُما وَتِدٌ
سَقَطَتْ كُلُّ أَسْبَابِهِ
فِي جَحِيمٍ مِنَ الدَّمِ
لَكِنَّ نَارًا بِصَدْرِكَ
أَجَّجَهَا مَنْ تُحِبُّ
قَدَ الْقَتْ بِطَائِرِكَ الْغَضِّ
هَذَا الْمَسَاءَ إِلَى رَابَغِ الْخَيْرِ
فَاخْلَعْ تُرابَكَ وامْضِ
حَبِيبُكَ يَدْعُوكَ
لَبَّيْكَ أَنْتَ حَبِيبِي
لَكَ الْحَمْدُ
إِذْ أَخَذَتْنِي يَداكَ إِلَيْكَ
فَلاَحَ لِعَيْنَيَّ بَيْتُكَ
حَيْثُ الْفَرَاشَاتُ
يَرْقُصْنَ حَوْلَ سَتَائِرِهِ الزَّاهِيَه
.

* * *

لَكَ الْحَمْدُ حِينَ سَقَطْتُ
لَكَ الْحَمْدُ حِينَ أَرَدْتَ
وَحِينَ أَمَرْتَ
فَقُمْتُ كَنَخْلَةِ هَذِي الْبَرَارِي
لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ حَبِيبِي



ومن الإحساس الجميل:
أن تصير النخلة رمزًا للشموخ والعِزَّة، يبتدئ بها المطلع وهي عزيزة: "تَنْحَنِي لَكَ نَخْلَةُ هَذِي الْبَرَارِي"، ويَختتم بها وهي عزيزة: "فَقُمْتُ كَنَخْلَةِ هَذِي الْبَراري"، وبينهما "يَرْتَطِمُ الْجَسَدُ الْهَشُّ بِالأَرْضِ"؛ انكسارًا بين يدي صاحب النعمة: "لَكَ الْحَمْدُ حِينَ سَقَطْتُ، لَكَ الْحَمْدُ حينَ أَرَدْتَ، وَحينَ أَمَرْتَ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْت حَبيبِي"، فإذا كان الأمر كذلك، فليس العبدُ يَملك من نفسه شيئًا، بل هو الاستسلام المطلق للمطلق:

لَكَ أَسْلَمْتُ...
عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ...
بِكَ آمَنْتُ
وَخَاصَمْتُ
وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ
وَحَاكَمْتُ



فلِمَ لا تكون إذًا لحظة انطراح بين يدي الله، وطلب مَغفرة سابق الذنوب وآخرها:

فَاغْفِرْ لِي مَا قدَّمْتُ
وَما أَخَّرْتُ
وَما أسْرَرْتُ
وَما أعْلنْتُ



بهذا الإحساس المرهف صارت مقاطع القصيدة كلها تمتح من التُّراث اللُّغوي الذي تشبَّع به الشاعر - كما أسلفنا - وكأنَّ الأحاديث النَّبوية امتزجت بذات الشاعر، فالحجر الأسود لدى الشاعر هو تطهير لحجر النَّفس الذي يكبحها عن العمل الصالح، ويثقلها إلى مهاوي الرَّدى:

يَا حَجَرًا يَسْكُنُنِي
يَا حَجَرًا عَنِّي أَبْعَدَنِي
عِفْتُكَ فَاخْرُجْ مِنْ بَدَنِي
أَنْتَ كَسَرْتَ زُجَاجِي
وَمَلَأْتَ فُؤَادِي
بِتُرابٍ غَطَّى بَصَرِي



ورميه للجمرات، حيث إحياء سنة سيدنا إبراهيم في رجم الشَّيطان، يُحيل إلى رجم غابة النَّفس، وما انطوت عليه من صفات الحقد والبغضاء والحسد:

وَأَنَا بِمِنًى
أرْجُمُ بَعْضَ زَوَايَا غَاَبةِ نَفْسِي



وهكذا كُلَّما استحضر مشهدًا من مشاهد الحج، ربطه بهبوط الذات، وجعله سبيلاً لتسامي هذه الذات، بالأوبة إلى خالق الذات، تأمَّل في هذه الصورة المحزنة، حين قصد الشاعر الحجَّ، ولَمَّا تندملْ جراحه من حادثة قاتلة أصابته، وهو يعرج على عكازته، يرزح في ذنوبه، يَفِرُّ إليه سبحانه، لا ليتباهى بأنَّه حج، ولكن ليحط أوزار النفس:

جِئْتُ إِلَيْكَ عَلِيلاً
لا تَحْمِلُنِي قَدَمَايَ
جِئْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْبَلَدِ الأَقْصَى
يَسْنُدُنِي عُكَّازَايَ
جِئْتُ إِلَيْكَ
وَخَلْفِي تَمْشِي الأَشْجَارُ
وَتَمْشي الأَحْجَارُ
حَبِيبِي
أَنَا حِينَ أَفِرُّ إِلَيْكْ
فَلِأَنِّي أَخْشَى غَابَةَ نَفْسِي



ويحاول الرباوي أن يستغل مؤهلاته الفنية في تصوير المشاهد المادية، وإحالتها إلى إشراقات روحية تسمو به إلى عالم ملكوتي شفاف، فالإحرام كفن، وحامله حي ميت، وسواد الكعبة صار نورًا:

هَا أَنَذَا[19] يَا مَوْلاَيَ أَمَامَكَ مَيْتًا...
حَيًّا...
أَلْقَيْتُ عَلَى جَسَدِي كَفَنًا
وَبَدَأْتُ أَدُورُ
حَوَالَيْ هَذَا النُّور



ولم يكن منظر الكعبة الذي يهزُّ القلوب ليمرَّ دون استشعار رمزيَّته الإيمانية، ولحظات تاريخه الفياضة بالأشواق إلى الجنة؛ لتكونَ هذه الكلمة ختام هذه المقاطع:

هَا أَنَذَا أَبْكِي
لَمْ أَبْكِ لِأَنِّي
فِي اللَّيْلِ سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْحُصَرِيَّ
بِوَرْشٍ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْبَقَرَهْ
لَمْ أَبْكِ لأَنِّي
فِي اللَّيْلِ سَمِعْتُ الْحَسَنَ البَصْرِيَّ
يُحَدِّثُ فِي الْمَسْجِدِ
عَنْ ظُلُمَاتِ الْقَبْرِ
عَنْ سَكَراتِ الْمَوْتِ
بِصَوْتٍ يَقْطُرُ حُزْنًا وَحَرَارَهْ
لَكِنَّ الْقَلْبَ بَكَى
الْقَلْبُ بَكَى حِينَ رَآكِ
وَأَنْتِ تَشُدِّينَ إِلَيْكِ
قُلُوبَ العُشَّاقِ الْبَرَرَهْ
أَنَا جِئْتُكِ أَشْعَثَ
مِنْ كُلِّ فِجَاجِ حَيَاتِي
أَرْجُو تَقْبِيلَ مُحَيَّاكِ الفَاتِنِ
إِذْ يَقْطُرُ مِسْكًا
لَمَسَتْهُ رَيَاحِينُ الْجَنَّهْ



بل إن كلمة الجنة ستكون أيضًا آخر كلمة في القصيدة، في وصف آخر منسك يستدعي التحلُّل من الإحرام؛ لكنه تحلل من وطأة الأرجاس، ورَزْء الأدناس، وتحلل للحاق بقافلة الشهداء، كأنَّ الرباوي يجعل مغامرته هذه برمتها رحلة من دار الأوزار وثقل الطين، إلى دار الطهر والسُّمو:

أَتَحَلَّلُ عَلِّي أَلْحَقُ قَبْلَ الْفَجْرِ
بِقَافِلَةِ العُشَّاقِ الشُّهَدَاءِ
فَيَنْعَمَ قَلْبِي بِرَيَاحِينِ الْجَنَّهْ.



ــــــــــــــــــ

[1] "صحيح مسلم"، كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، الحديث رقم: 1955.
[2] ينظر: "اللسان"، مادة: دين، و"المعجم الوسيط"، مادة: دين.
[3] "الحداثة في منظور إيماني"، د. عدنان رضا النَّحوي، (ص: 20-21).
[4] "الرومانسية"Romanticisme مذهب أدبي نشأ في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وهي ثورةٌ على المبادئ والنَّواميس الجماليَّة الموروثة من أرسطو، مع تغليب الجانب الوجداني والإحساس بالحزن والقلق، والسباحة في عالم الأحلام، وتضخيم "الأنا"، ومن ثَمَّ كانت الرومانسيَّة تُمثل ردَّ فعل تجاه تقعيدات الكلاسيكية؛ "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة"، د. سعيد علوش، (ص: 62).
[5] جاء في "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"، لمجدي وهبة وكامل المهندس، (ص: 429): "ورد تعريف هذه النظريَّة رسميًّا في إحدى مواد دستور اتِّحاد كُتَّاب السوفيت، الذي وضعه أوَّلُ مؤتمر عام لهذا الاتِّحاد سنة 1934، ونصُّ المادة هو: "إنَّ الواقعية الاشتراكيَّة هي المنهج الأساسي للأدب والنَّقد الأدبي السوفيتيَّنِ، وهي تتطلب من الفنان أو الأديب تمثيله الواقعَ في حالة نموه الثوري تمثيلاً صادقًا، وعلى هذا، فإنَّ صدق التمثيل الفني للواقع يَجب أنْ يرتبط بنوعيَّة العُمَّال، ويدعم إيمانهم بروح الاشتراكية".
[6] "أطلق هذا المصطلح في العقد الخامس من القرن العشرين، على النظريَّة الفلسفيَّة التي نادى بها "جون بول سارتر" في كتابه: "الوجود والعدم"، (1943)، وأساسها: أنَّ الوجودَ المطلق أو حالة الفراغ - كما يسميها "سارتر" - يسبق الجوهر أو الماهية أو الوجود الفعلي، والوجود الفعلي في نظره عبارةٌ عن خروج الفرد من حالة الخمول البدائي بوساطة الثَّورة النَّفسية الناتجة عن القلق واليأس، إلى جوٍّ من الحرية المطلقة، يستطيع فيه أنْ يُشكِّل حياته بمحض إرادته، متحملاً المسؤوليَّة الكاملة عن جميع تصرُّفاته، وأن يُضفيَ عليها العالم الذي يعيشُ فيه معنى ومنطقًا"؛ "معجم المصطلحات العربيَّة في اللغة والأدب"؛ (ص: 430).
[7] العبثيَّة أو اللامعقول: تيار أدبي نشأ في أوروبا، يدعو إلى وجوب غياب الإله؛ لكي يوجد اللامعقول، المرادف للتَّافه والمضطرب، والعبث: هو الموقف أو الأمر الذي يتنافى مع المعقول، وإدراكه قد يُثير الضحك؛ "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، د. نجيب الكيلاني، (ص: 65-68)، و"معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"، (ص: 340).
[8] "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، د.نجيب الكيلاني، (ص: 68).
[9] "صفحات مضيئة من تراث الإسلام"، أنور الجندي، (ص: 41).
[10] "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، د. نجيب الكيلاني، (ص: 7-18).
[11] من مقدمة ديوان "رياحين الألم".
[12] نفسه.
[13] من حوار أجراه معه إدريس الكنبوري، ينظر: موقع الإسلام اليوم.
[14] من حوار أجراه معه عبدالقهار الحجاري، منشور بجريدة "الحياة المغربية"، عدد: 88، (غشت)، (شتنبر) 2001.
[15] العدد الثاني، 1992، (ص: 75).
[16] نفسه، (ص: 85).
[17] نفسه.
[18] من مقدمة ديوان "رياحين الألم".
[19] هكذا في الأصل؛ مراعاة للوزن.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 69.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.01 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.71%)]