تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 57 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في الثلاثين من جمادى الأولى سلطنة مالقة الإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 6 )           »          أبوعثمان الحيري النيسابوري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أدب اللذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          المرض العضال (الغيبة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          إشاعة الثقافة القرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الغفلة المحمودة والغفلة المذمومة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          محبة لقاء الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الوقفُ على القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الدين والشباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #561  
قديم 17-02-2025, 09:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (561)
صــ 436 إلى صــ 450









كما قال الشاعر :

[ ص: 436 ]
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري


وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12220 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " ، يقول : ثوابا عند الله .

12221 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " قال : "المثوبة " ، الثواب ، "مثوبة الخير " ، و"مثوبة الشر " ، وقرأ : ( خير ثوابا ) [ سورة الكهف : 44 ] . [ ص: 437 ]

وأما "من " في قوله : " من لعنه الله " ، فإنه في موضع خفض ، ردا على قوله : "بشر من ذلك" . فكأن تأويل الكلام ، إذ كان ذلك كذلك : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، بمن لعنه الله .

ولو قيل : هو في موضع رفع ، لكان صوابا ، على الاستئناف ، بمعنى : ذلك من لعنه الله أو : وهو من لعنه الله .

ولو قيل : هو في موضع نصب ، لم يكن فاسدا ، بمعنى : قل هل أنبئكم من لعنه الله فيجعل " أنبئكم " عاملا في"من " ، واقعا عليه .

وأما معنى قوله : " من لعنه الله " ، فإنه يعني : من أبعده الله وأسحقه من رحمته " وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " ، يقول : وغضب عليه ، وجعل منهم المسوخ القردة والخنازير ، غضبا منه عليهم وسخطا ، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا .

[ ص: 438 ] وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم قردة ، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا ، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا .

وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم خنازير ، فإنه كان فيما : -

12223 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن عمر بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، قال : حدثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير ، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل ، وكان فيها ملك بني إسرائيل ، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة ، إلا أن تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به ، فجعلت تدعو إلى الله ، حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم : إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله ، وأن تنادوا قومكم بذلك ، فاخرجوا فإني خارجة . فخرجت ، وخرج إليها ذلك الملك في الناس ، فقتل أصحابها جميعا ، وانفلتت من بينهم . قال : ودعت إلى الله حتى تجمع الناس إليها ، حتى إذا رضيت منهم ، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت معهم ، وأصيبوا جميعا وانفلتت من بينهم . ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها ، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت ، فأصيبوا جميعا ، وانفلتت من بينهم ، فرجعت وقد أيست ، وهي تقول : سبحان الله ، لو كان لهذا الدين ولي وناصر ، لقد أظهره بعد! قال : فباتت محزونة ، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازير ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك ، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت : اليوم أعلم أن الله قد أعز دينه وأمر دينه! قال : فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة .

[ ص: 439 ] 12224 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وجعل منهم القردة والخنازير " ، قال : مسخت من يهود .

12225 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه ، سنذكره في موضعه إن شاء الله .

القول في تأويل قوله ( وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : "عابد " ، فجعل"عبد " ، فعلا ماضيا من صلة المضمر ، ونصب"الطاغوت " ، بوقوع"عبد " عليه .

وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) بفتح"العين " من"عبد " وضم بائها ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه . وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت .

12226 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثني حمزة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ : ( وعبد الطاغوت ) يقول : خدم ، قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرؤها .

[ ص: 440 ] 12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش : أنه كان يقرؤها كذلك .

وكان الفراء يقول : إن تكن فيه لغة مثل "حذر " و"حذر " ، و"عجل " ، و"عجل " ، فهو وجه ، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر :


أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم عبد


فإن هذا من ضرورة الشعر ، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا .

وقرأ ذلك آخرون : ( وعبد الطاغوت ) ذكر ذلك عن الأعمش .

وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من "العبد " ، كأنه جمع "العبد " "عبيدا " ، ثم جمع "العبيد " "عبدا " ، مثل : "ثمار وثمر" .

وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) .

12228 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : كان أبو جعفر النحوي يقرؤها : ( وعبد الطاغوت ) ، كما يقول : "ضرب عبد الله" .

[ ص: 441 ] قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا معنى لها ، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد ، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه في الصحة .

وذكر أن بريدة الأسلمي كان يقرؤه : ( وعابد الطاغوت ) .

12229 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شيخ بصري : أن بريدة كان يقرؤه كذلك .

ولو قرئ ذلك : ( وعبد الطاغوت ) ، بالكسر ، كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها . ووجه جوازها في العربية ، أن يكون مرادا بها "وعبدة الطاغوت " ، ثم حذفت " الهاء " للإضافة ، كما قال الراجز :


قام ولاها فسقوه صرخدا


يريد : قام ولاتها ، فحذف"التاء " من"ولاتها " للإضافة .

قال أبو جعفر : وأما قراءة القرأة ، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ، [ ص: 442 ] وهو : ( وعبد الطاغوت ) ، بنصب"الطاغوت " وإعمال "عبد " فيه ، وتوجيه"عبد " إلى أنه فعل ماض من"العبادة" .

والآخر : ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال"فعل " ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه .

فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة ، قراءة من قرأ ذلك ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : ( وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب ب"الطاغوت " أولى ، على ما وصفت في القراءة ، لإعمال "عبد " فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها .

على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"من " و"الذي " المضمرين مع"من " و"في " إذا كفت"من " أو"في " منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز .

وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح . فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة . وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال و"جعل " في"من " ، وهي محذوفة مع"من" .

ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا فيهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره . فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين [ ص: 443 ] اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما .

وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الآية : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت .

وقد بينا معنى"الطاغوت " فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .

وأما قوله : " أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل " ، فإنه يعني بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم فقال : " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل .

يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم " شر مكانا " ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله ، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب ، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء " وأضل عن سواء السبيل " ، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها اليهود ، أشد أخذا على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم .

قال أبو جعفر : وهذا من لحن الكلام . وذلك أن الله تعالى ذكره إنما [ ص: 444 ] قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم ، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابا منه لهم بذلك ، تعريضا بالجميل من الخطاب ، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن ، وعلم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له : قل لهم ، يا محمد ، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم شر ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقول ذلك لهم .

القول في تأويل قوله ( وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ( 61 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا جاءكم ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم : "آمنا" : أي صدقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه ، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم ، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه في صدورهم ، وهم يبدون كذبا التصديق لكم بألسنتهم"وقد خرجوا به " ، يقول : وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم ، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم ، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله ، جهلا منهم بالله"والله أعلم بما كانوا يكتمون " ، يقول : والله أعلم بما كانوا - عند قولهم لكم بألسنتهم : "آمنا بالله وبمحمد وصدقنا بما جاء [ ص: 445 ] به" - يكتمون منهم ، بما يضمرونه من الكفر ، بأنفسهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12230 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا " الآية ، أناس من اليهود ، كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به ، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر . وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم .

12231 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ، قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود . يقول : دخلوا كفارا ، وخرجوا كفارا .

12232 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق ، وتسر قلوبهم الكفر ، فقال : " دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " .

12233 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا ) [ ص: 446 ] ، [ سورة آل عمران : 72 ] . فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم ، رجعوا بكفرهم . وهؤلاء أهل الكتاب من يهود .

12234 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ، أي : إنه من عندهم .

القول في تأويل قوله ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( 62 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " وترى " يا محمد "كثيرا " ، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل" يسارعون في الإثم والعدوان " ، يقول : يعجلون بمواقعة الإثم .

وقيل : إن "الإثم " في هذا الموضع ، معني به الكفر .

12235 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان " ، قال : "الإثم " ، الكفر .

12236 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان " ، وكان هذا في حكام اليهود بين أيديكم

. [ ص: 447 ] 12237 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يسارعون في الإثم والعدوان " ، قال : هؤلاء اليهود " لبئس ما كانوا يعملون " ( لولا ينهاهم الربانيون ) ، إلى قوله : ( لبئس ما كانوا يصنعون ) ، قال : "يصنعون " و"يعملون " واحد . قال : لهؤلاء حين لم ينهوا ، كما قال لهؤلاء حين عملوا .

قال : وذلك الإدهان .

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي ، وإن كان قولا غير مدفوع جواز صحته ، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام : أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله ، لا يتحاشون من شيء منها ، لا من كفر ولا من غيره . لأن الله تعالى ذكره عم في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان ، من غير أن يخص بذلك إثما دون إثم .

وأما " العدوان " ، فإنه مجاوزة الحد الذي حده الله لهم في كل ما حده لهم .

وتأويل ذلك : أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره ، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره ، ويتعدون حدوده التي حد لهم فيما أحل لهم وحرم عليهم ، في أكلهم " السحت " وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم .

يقول الله تعالى ذكره : " لبئس ما كانوا يعملون " ، يقول : أقسم لبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون ، في مسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم السحت .

[ ص: 448 ]

القول في تأويل قوله ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ( 63 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم ، من اليهود من بني إسرائيل ، ربانيوهم وهم أئمتهم المؤمنون ، وساستهم العلماء بسياستهم ، وأحبارهم وهم علماؤهم وقوادهم "عن قولهم الإثم " يعني : عن قول الكذب والزور ، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله ، ويكتبون كتبا بأيديهم ثم يقولون : "هذا من حكم الله ، وهذا من كتبه" . يقول الله : ( فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) [ سورة البقرة : 79 ] .

وأما قوله : " وأكلهم السحت " ، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به .

وقد بينا معنى"الربانيين " و"الأحبار " ومعنى"السحت " ، بشواهد ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

" لبئس ما كانوا يصنعون " ، وهذا قسم من الله أقسم به ، يقول تعالى ذكره : أقسم : لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار ، في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ، عما كانوا يفعلون من ذلك .

[ ص: 449 ] وكان العلماء يقولون : ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ، ولا أخوف عليهم منها .

12238 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال ، حدثنا سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم " قال : ما في القرآن آية أخوف عندي منها : أنا لا ننهى .

12239 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا قيس ، عن العلاء بن المسيب ، عن خالد بن دينار ، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ) قال : كذا قرأ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12240 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت " [ قال : "الربانيون والأحبار " ، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم . قال : ثم يقول الضحاك : وما أخوفني من هذه الآية! ] .

[ ص: 450 ] 12241 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " ، يعني : الربانيين ، أنهم : لبئس ما كانوا يصنعون .
القول في تأويل قوله ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم ، ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، توبيخا لهم بذلك ، وتعريفا منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم واغترارهم به ، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم ، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبي مبعوث ورسول مرسل : أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفي علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود ، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابا ، ووعوا من علوم أهل الكتاب علما ، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ليقرر عندهم صدقه ، ويقطع بذلك حجتهم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #562  
قديم 17-02-2025, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (562)
صــ 451 إلى صــ 465







يقول تعالى ذكره : "وقالت اليهود " ، من بني إسرائيل"يد الله مغلولة " ، يعنون : أن خير الله ممسك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما قال تعالى [ ص: 451 ] ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ سورة الإسراء : 29 ] .

وإنما وصف تعالى ذكره"اليد " بذلك ، والمعنى العطاء ، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم . فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا ، إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :


يداك يدا مجد ، فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق


فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد" . ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى . فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، يعني بذلك : أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ، ويمنعنا فضله فلا يفضل كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف ، تعالى الله عما قالوا ، أعداء الله!

[ ص: 452 ] فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم : "غلت أيديهم " ، يقول : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، وقبضت عن الانبساط بالعطيات" ولعنوا بما قالوا " ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر ، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك

"بل يداه مبسوطتان " ، يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين "ينفق كيف يشاء " ، يقول : يعطي هذا ، ويمنع هذا فيقتر عليه .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " ، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .

12243 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ، حتى [ ص: 453 ] جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا !

12244 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يد الله مغلولة " ، قال : اليهود تقوله : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب ، حتى إن يده إلى نحره " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .

12245 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " إلى " والله لا يحب المفسدين " ، أما قوله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : الله بخيل غير جواد! قال الله : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .

12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، قالوا : إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا .

وأما قوله : " ينفق كيف يشاء " ، يقول : يرزق كيف يشاء .

12247 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " الآية ، نزلت في فنحاص اليهودي .

12248 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " يد الله مغلولة " ، يقولون : إنه [ ص: 454 ] بخيل ليس بجواد ! قال الله : " غلت أيديهم " ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير . ثم قال يعني نفسه : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " . وقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ سورة الإسراء : 29 ] ، يقول : لا تمسك يدك عن النفقة .

قال أبو جعفر : واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : " بل يداه مبسوطتان " . فقال بعضهم : عنى بذلك : نعمتاه . وقال : ذلك بمعنى : " يد الله على خلقه " ، وذلك نعمه عليهم . وقال : إن العرب تقول : " لك عندي يد " ، يعنون بذلك : نعمة .

وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوة . وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي ) [ سورة ص : 45 ] .

وقال آخرون منهم : بل"يده " ، ملكه . وقال : معنى قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، ملكه وخزائنه .

قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : "هو ملك يمينه " ، و"فلان بيده عقدة نكاح فلانة " ، أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : ( فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) ، [ سورة المجادلة : 12 ] .

وقال آخرون منهم : بل"يد الله " صفة من صفاته ، هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم .

قالوا : وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده .

[ ص: 455 ] قالوا : ولو كان [ معنى"اليد " ، النعمة ، أو القوة ، أو الملك ، ما كان لخصوصه ] آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ، ومشيئته في خلقه نعمة ، وهو لجميعهم مالك .

قالوا : وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوما أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق .

قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى"اليد " من الله ، القوة والنعمة أو الملك ، في هذا الموضع .

قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن : "يد الله " في قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، هي نعمته ، لقيل : "بل يده مبسوطة " ، ولم يقل : "بل يداه " ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة . وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ سورة إبراهيم : 34\ وسورة النحل : 18 ]

قالوا : ولو كانت نعمتين ، كانتا محصاتين .

قالوا : فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ ، وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله تعالى ذكره : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 ، 2 ] وكقوله ( لقد خلقنا الإنسان ) ، [ سورة الحجر : 26 ] وقوله : ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) [ سورة الفرقان : 55 ] ، قال : فلم يرد ب"الإنسان " و"الكافر " في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر ، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدى عن جنسه ، كما تقول العرب : [ ص: 456 ] "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، وكذلك قوله : ( وكان الكافر ) معناه : وكان الذين كفروا .

قالوا : فأما إذا ثني الاسم ، فلا يؤدي عن الجنس ، ولا يؤدي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما .

قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : "ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس " ، بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم .

قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما .

قالوا : وغير محال : "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم " ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع .

قالوا : ففي قول الله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " ، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى ، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال : معنى"اليد " ، في هذا الموضع ، النعمة ، وصحة قول من قال : إن"يد الله " ، هي له صفة .

قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء وأهل التأويل .

القول في تأويل قوله ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفي أمور هؤلاء اليهود ، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ، [ ص: 457 ] احتجاجا عليهم لصحة نبوتك ، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول : " ما جاءنا من بشير ولا نذير " : " ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " . يعني ب"الطغيان" : الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك " وكفرا " ، يقول : ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك ، جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته ، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا : "يد الله مغلولة" . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتو وتمرد على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحق وإن علموا صحته ، ولكنهم يعاندونه ، يسلي بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الموجدة بهم في ذهابهم عن الله ، وتكذيبهم إياه .

وقد بينت معنى"الطغيان " فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12249 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " ، حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم .

[ ص: 458 ]

القول في تأويل قوله ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، بين اليهود والنصارى ، كما : -

12250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، اليهود والنصارى .

فإن قال قائل : وكيف قيل : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، جعلت "الهاء والميم " في قوله : "بينهم " ، كناية عن اليهود والنصارى ، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟

قيل : قد جرى لهم ذكر ، وذلك قوله : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) ، [ سورة المائدة : 51 ] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين ، وفي بعض عن أحدهما ، إلى أن انتهى إلى قوله : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، ثم قصد بقوله : "ألقينا بينهم " ، الخبر عن الفريقين .

القول في تأويل قوله ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى ، فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده لسوء فعالهم وخبث نياتهم ، كالذي : -

[ ص: 459 ] 12251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) [ سورة الإسراء : 4 - 6 ] ، قال : كان الفساد الأول ، فبعث الله عليهم عدوا فاستباحوا الديار ، واستنكحوا النساء ، واستعبدوا الولدان ، وخربوا المسجد . فغبروا زمانا ، ثم بعث الله فيهم نبيا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان . ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء ، حتى قتلوا يحيى بن زكريا ، فبعث الله عليهم بختنصر ، فقتل من قتل منهم ، وسبى من سبى ، وخرب المسجد . فكان بختنصر الفساد الثاني قال : و"الفساد " ، المعصية ثم قال ، ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) إلى قوله : ( وإن عدتم عدنا ) [ سورة الإسراء : 7 ، 8 ] فبعث الله لهم عزيرا ، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم . فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا فنسوا . ومات عزير ، وكانت أحداث ، ونسوا العهد وبخلوا ربهم ، وقالوا : " يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، وقالوا في عزير : "إن الله اتخذه ولدا " ، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نهوا عنه ، وعملوا بما كانوا يكفرون عليه ، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدو آخر الدهر ، فقال : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " ، فبعث الله عليهم المجوس الثالثة أربابا ، فلم يزالوا كذلك والمجوس [ ص: 460 ] على رقابهم ، وهم يقولون : "يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا ، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون"! فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم واسمه " محمد " ، واسمه في الإنجيل " أحمد " فلما جاءهم وعرفوا ، كفروا به ، قال : ( فلعنة الله على الكافرين ) [ سورة البقرة : 89 ] ، وقال : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، [ سورة البقرة : 90 ] .

12252 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، هم اليهود .

12253 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا " ، أولئك أعداء الله اليهود ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله . لقد جاء الإسلام حين جاء ، وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه .

12254 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، قال : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله ، وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب .

[ ص: 461 ] وقال مجاهد بما : -

12255 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، قال : حرب محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ( 64 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله ، ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيهم فيها بالفساد

" والله لا يحب المفسدين " ، يقول : والله لا يحب من كان عاملا بمعاصيه في أرضه .
القول في تأويل قوله ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 65 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "ولو أن أهل الكتاب " ، وهم اليهود والنصارى "آمنوا " بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فصدقوه واتبعوه وما أنزل عليه"واتقوا " ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه"لكفرنا عنهم سيئاتهم " ، يقول : محونا عنهم ذنوبهم فغطينا عليها ، ولم نفضحهم بها

"ولأدخلناهم [ ص: 462 ] جنات النعيم " ، يقول : ولأدخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12256 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا " ، يقول : آمنوا بما أنزل الله ، واتقوا ما حرم الله ، "لكفرنا عنهم سيئاتهم" .

القول في تأويل قوله ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " ، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل "وما أنزل إليهم من ربهم " ، يقول : وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .

فإن قال قائل : وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، مع اختلاف هذه الكتب ، ونسخ بعضها بعضا؟

قيل : إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها ، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله ، والتصديق بما جاءت به من عند الله . فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم : تصديقهم بما فيها ، والعمل [ ص: 463 ] بما هي متفقة فيه ، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به .

وأما معنى قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني : لأنزل الله عليهم من السماء قطرها ، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها ، فأخرج ثمارها .

وأما قوله : " ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني تعالى ذكره : لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض ، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها ، وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم " ، يعني : لأرسل السماء عليهم مدرارا"ومن تحت أرجلهم " ، تخرج الأرض بركتها .

12258 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : إذا لأعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها .

12259 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لو عملوا بما أنزل إليهم [ ص: 464 ] مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنزلنا عليهم المطر ، فلأنبت الثمر .

12260 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم " ، أما"إقامتهم التوراة " ، فالعمل بها وأما"ما أنزل إليهم من ربهم " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه . يقول : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، أما"من فوقهم " ، فأرسلت عليهم مطرا ، وأما"من تحت أرجلهم " ، يقول : لأنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم .

12261 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، قال : بركات السماء والأرض قال ابن جريج : "لأكلوا من فوقهم " ، المطر "ومن تحت أرجلهم " ، من نبات الأرض .

12262 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء"ومن تحت أرجلهم " ، يقول : من الأرض .

وكان بعضهم يقول إنما أريد بقوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، التوسعة ، كما يقول القائل : "هو في خير من قرنه إلى قدمه" .

وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول ، وكفى بذلك شهيدا على فساده .

[ ص: 465 ]

القول في تأويل قوله ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "منهم أمة " ، منهم جماعة "مقتصدة " ، يقول : مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم ، قائلة فيه الحق أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، لا غالية قائلة : إنه ابن الله ، تعالى الله عما قالوا من ذلك ، ولا مقصرة قائلة : هو لغير رشدة"وكثير منهم " ، يعني : من بني إسرائيل من أهل الكتاب اليهود والنصارى "ساء ما يعملون " ، يقول : كثير منهم سيئ عملهم ، وذلك أنهم يكفرون بالله ، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتزعم أن المسيح ابن الله وتكذب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما . فقال الله تعالى فيهم ذاما لهم : "ساء ما يعملون " ، في ذلك من فعلهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12264 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "منهم أمة مقتصدة " ، وهم مسلمة أهل الكتاب"وكثير منهم ساء ما يعملون" .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #563  
قديم 17-02-2025, 09:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (563)
صــ 466 إلى صــ 480









12265 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال ، حدثنا عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : تفرقت بنو إسرائيل فرقا ، فقالت [ ص: 466 ] فرقة : " عيسى هو ابن الله " ، وقالت فرقة : " هو الله " ، وقالت فرقة : "هو عبد الله وروحه " ، وهي المقتصدة ، وهي مسلمة أهل الكتاب .

12266 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : " منهم أمة مقتصدة " ، يقول : على كتابه وأمره . ثم ذم أكثر القوم فقال : "وكثير منهم ساء ما يعملون " .

12267 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "منهم أمة مقتصدة " ، يقول : مؤمنة .

12268 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " قال : المقتصدة ، أهل طاعة الله . قال : وهؤلاء أهل الكتاب .

12269 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " ، قال : فهذه الأمة المقتصدة ، الذين لا هم جفوا في الدين ولا هم غلوا . قال : و"الغلو " ، الرغبة [ عنه ] ، و"الفسق " ، التقصير عنه .

[ ص: 467 ] القول في تأويل قوله ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 67 ) )

قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم ، واجتراءهم على ربهم ، وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين غيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم ، والتهجين لهم ، وما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لا يتقي أحدا في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغي مكروهه . وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم ، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا .

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

[ ص: 468 ] 12270 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، يعني : إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك ، لم تبلغ رسالاتي .

12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ، ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت! فقال : والله لأبدين عقبي للناس ما صاحبتهم .

12272 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : " بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، قال : إنما أنا واحد ، كيف أصنع؟ تجمع علي الناس! فنزلت : " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، الآية .

12273 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن ثعلبة ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني .

[ ص: 469 ] 12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : " والله يعصمك من الناس " ، خرج فقال : يا أيها الناس ، الحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .

12275 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن عاصم بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه ، فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، إلى آخرها .

12276 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال ، حدثنا سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، حتى نزلت هذه الآية : "والله يعصمك من الناس " ، قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال : "أيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني الله

. [ ص: 470 ] 12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن القرظي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس ، حتى أنزل الله : " والله يعصمك من الناس " .

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت بسبب أعرابي كان هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله إياه .

ذكر من قال ذلك :

12278 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني؟ قال : الله! فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله : " والله يعصمك من الناس " .

[ ص: 471 ] وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا ، فأومن من ذلك .

ذكر من قال ذلك :

12279 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا ، فلما نزلت : " والله يعصمك من الناس " ، استلقى ثم قال : "من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثا .

12280 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق قال ، قالت عائشة : من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " ، الآية .

12281 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال ، قالت عائشة : من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم ، فقد كذب وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية .

12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال ، قالت عائشة : من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية .

12283 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن الجهم ، [ ص: 472 ] عن مسروق بن الأجدع قال : دخلت على عائشة يوما فسمعتها تقول : لقد أعظم الفرية من قال إن محمدا كتم شيئا من الوحي! والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " .

ويعني بقوله : " والله يعصمك من الناس " ، يمنعك من أن ينالوك بسوء . وأصله من "عصام القربة " ، وهو ما توكى به من سير وخيط ،

ومنه قول الشاعر :


وقلت : عليكم مالكا ، إن مالكا سيعصمكم ، إن كان في الناس عاصم


يعني : يمنعكم .

وأما قوله : " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " ، فإنه يعني : إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق ، وجار عن قصد السبيل ، وجحد ما جئته به من عند الله ، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .

[ ص: 473 ] القول في تأويل قوله ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )

قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهراني مهاجره . يقول تعالى ذكره له : "قل " ، يا محمد ، لهؤلاء اليهود والنصارى "يا أهل الكتاب " ، التوراة والإنجيل "لستم على شيء " ، مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم ، معشر اليهود ، ولا مما جاءكم به عيسى ، معشر النصارى "حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " ، مما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان ، فتعملوا بذلك كله ، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، وتقروا بأن كل ذلك من عند الله ، فلا تكذبوا بشيء منه ، ولا تفرقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض ، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا ، فمن كذب ببعضها فقد كذب بجميعها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر .

12284 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حريملة ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، [ ص: 474 ] وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق ، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس ، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا ، فإنا على الحق والهدى ، ولا نؤمن بك ، ولا نتبعك ! فأنزل الله تعالى ذكره : " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " إلى : "فلا تأس على القوم الكافرين" .

12285 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " ، قال : فقد صرنا من أهل الكتاب"التوراة " ، لليهود ، و"الإنجيل " ، للنصارى ، "وما أنزل إليكم من ربكم " ، وما أنزل إلينا من ربنا أي : "لستم على شيء حتى تقيموا " ، حتى تعملوا بما فيه .

القول في تأويل قوله ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ( 68 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " ، وأقسم : ليزيدن كثيرا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات ، الكتاب الذي أنزلته إليك ، يا محمد "طغيانا " ، يقول : تجاوزا وغلوا في التكذيب لك ، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول [ ص: 475 ] الفرقان " وكفرا " يقول : وجحودا لنبوتك .

وقد آتينا على البيان عن معنى"الطغيان " ، فيما مضى قبل .

وأما قوله : "فلا تأس على القوم الكافرين " ، يعني بقوله : "فلا تأس " ، فلا تحزن .

يقال : " آسى فلان على كذا " ، إذا حزن"يأسى أسى " ، ، ومنه قول الراجز :


وانحلبت عيناه من فرط الأسى


يقول تعالى ذكره لنبيه : لا تحزن ، يا محمد ، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك ، فإن مثل ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم ، فكيف فيك؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

[ ص: 476 ] ذكر من قال ذلك :

12286 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " ، قال : الفرقان ، يقول : فلا تحزن .

12287 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " فلا تأس على القوم الكافرين " ، قال : لا تحزن .
القول في تأويل قوله ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 69 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وهم أهل الإسلام"والذين هادوا " ، وهم اليهود والصابئون " ، وقد بينا أمرهم " والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر " ، فصدق بالبعث بعد الممات " وعمل " ، من العمل"صالحا " لمعاده"فلا خوف عليهم " ، فيما قدموا عليه من أهوال القيامة"ولا هم يحزنون " ، على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها ، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه .

[ ص: 477 ] وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته .

القول في تأويل قوله ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( 70 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أقسم : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا ، والعمل بما أمرناهم به ، والانتهاء عما نهيناهم عنه وأرسلنا إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيل من الثواب ، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديد من العقاب كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبتهم ، كذبوا منهم فريقا ، ويقتلون منهم فريقا ، نقضا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم ، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا .

[ ص: 478 ] القول في تأويل قوله ( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ( 71 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى : وظن هؤلاء الإسرائيليون الذين وصف تعالى ذكره صفتهم : أنه أخذ ميثاقهم : وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون

" فعموا وصموا " ، يقول : فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم ، من إخلاص عبادتي ، والانتهاء إلى أمري ونهيي ، والعمل بطاعتي ، بحسبانهم ذلك وظنهم "وصموا " عنه ثم تبت عليهم . يقول : ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصي وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم ، إلى العمل بما أحبه ، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي " ثم عموا وصموا كثير منهم " ، يقول : ثم عموا أيضا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم : من العمل بطاعتي ، والانتهاء [ ص: 479 ] إلى أمري ، واجتناب معاصي "وصموا كثير منهم " ، يقول : عمي كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل ، باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي عن الحق وصموا ، بعد توبتي عليهم ، واستنقاذي إياهم من الهلكة "والله بصير بما يعملون " ، يقول"بصير " ، فيرى أعمالهم خيرها وشرها ، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12288 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وحسبوا ألا تكون فتنة " ، الآية ، يقول : حسب القوم أن لا يكون بلاء "فعموا وصموا " ، كلما عرض بلاء ابتلوا به ، هلكوا فيه .

12289 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " ، يقول : حسبوا أن لا يبتلوا ، فعموا عن الحق وصموا .

12290 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مبارك ، عن الحسن : " وحسبوا أن لا تكون فتنة " ، قال : بلاء .

12291 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وحسبوا أن لا تكون فتنة " ، قال : الشرك .

12292 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " ، قال : اليهود .

[ ص: 480 ] 12293 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فعموا وصموا " ، قال : يهود قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : هذه الآية لبني إسرائيل . قال : و"الفتنة " ، البلاء والتمحيص .

القول في تأويل قوله ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( 72 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فتن به الإسرائيليين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة . يقول تعالى ذكره : فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به ، فنقضوا فيه ميثاقي ، وغيروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي ، ولا يتخذوا ربا غيري ، وأن يوحدوني ، وينتهوا إلى طاعتي ، عبدي عيسى ابن مريم ، فإني خلقته ، وأجريت على يده نحو الذي أجريت على يد كثير من رسلي ، فقالوا كفرا منهم : "هو الله" .

وهذا قول اليعقوبية من النصارى عليهم غضب الله .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #564  
قديم 17-02-2025, 09:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (564)
صــ 481 إلى صــ 495







يقول الله تعالى ذكره : فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به ، أشركوا بي ، وقالوا لخلق من خلقي ، وعبد مثلهم من عبيدي ، وبشر نحوهم معروف نسبه وأصله ، مولود من البشر ، يدعوهم إلى توحيدي ، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي ، [ ص: 481 ] ويقر لهم بأني ربه وربهم ، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئا : "هو إلههم " ، جهلا منهم بالله وكفرا به ، ولا ينبغي لله أن يكون والدا ولا مولودا .

ويعني بقوله : " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم " ، يقول : اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يذل كل شيء ، وله يخضع كل موجود "ربي وربكم " ، يقول : مالكي ومالككم ، وسيدي وسيدكم ، الذي خلقني وإياكم "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " ، أن يسكنها في الآخرة"ومأواه النار " ، يقول : ومرجعه ومكانه - الذي يأوي إليه ويصير في معاده ، من جعل لله شريكا في عبادته - نار جهنم "وما للظالمين " ، يقول : وليس لمن فعل غير ما أباح الله له ، وعبد غير الذي له عبادة الخلق "من أنصار " ، ينصرونه يوم القيامة من الله ، فينقذونه منه إذا أورده جهنم .

القول في تأويل قوله ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 73 ) )

قال أبو جعفر : وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل : أنه لما ابتلاهم بعد حسبانهم أنهم لا يبتلون ولا يفتنون ، قالوا كفرا بربهم وشركا : "الله ثالث ثلاثة" .

[ ص: 482 ] وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنسطورية . كانوا فيما بلغنا يقولون : "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم : أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجا متتبعة بينهما" .

يقول الله تعالى ذكره ، مكذبا لهم فيما قالوا من ذلك : "وما من إله إلا إله واحد " ، يقول : ما لكم معبود ، أيها الناس ، إلا معبود واحد ، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود ، بل هو خالق كل والد ومولود"وإن لم ينتهوا عما يقولون " ، يقول : إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم : "الله ثالث ثلاثة " "ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ، يقول : ليمسن الذين يقولون هذه المقالة ، والذين يقولون المقالة الأخرى : "هو المسيح ابن مريم " ، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون ، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم ، ولم يقل : "ليمسنهم عذاب أليم " ، لأن ذلك لو قيل كذلك ، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصا لقائل القول الثاني ، وهم القائلون : "الله ثالث ثلاثة " ، ولم يدخل فيهم القائلون : "المسيح هو الله" . فعم بالوعيد تعالى ذكره كل كافر ، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أن وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل ، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه .

فإن قال قائل : وإن كان الأمر على ما وصفت ، فعلى من عادت"الهاء والميم " اللتان في قوله : "منهم"؟

قيل : على بني إسرائيل .

[ ص: 483 ] فتأويل الكلام ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول ، ليمسن الذين يقولون منهم : "إن المسيح هو الله " ، والذين يقولون : "إن الله ثالث ثلاثة " ، وكل كافر سلك سبيلهم عذاب أليم ، بكفرهم بالله .

وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا ، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى .

ذكر من قال ذلك :

12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ، قال : قالت النصارى : "هو والمسيح وأمه " ، فذلك قول الله تعالى : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) [ سورة المائدة : 116 ] .

12295 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ، نحوه .

القول في تأويل قوله ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( 74 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران القائل أحدهما : "إن الله هو المسيح ابن مريم " ، والآخر القائل : "إن الله ثالث ثلاثة " عما قالا من ذلك ، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما ، ويسألان [ ص: 484 ] ربهما المغفرة مما قالا "والله غفور " ، لذنوب التائبين من خلقه ، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم"رحيم " بهم ، في قبوله توبتهم ومراجعتهم إلى ما يحب مما يكره ، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلف من إجرامهم قبل ذلك .

القول في تأويل قوله ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام )

قال أبو جعفر : وهذا [ خبر ] من الله تعالى ذكره ، احتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على فرق النصارى في قولهم في المسيح .

يقول مكذبا لليعقوبية في قيلهم : "هو الله " والآخرين في قيلهم : "هو ابن الله " : ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح ، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهن ، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر ، وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا ، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعبر ، حجة له على صدقه ، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه ، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعبر ، حجة لهم على حقيقة صدقهم في أنهم لله رسل "وأمه صديقة " ، يقول تعالى ذكره وأم المسيح صديقة .

[ ص: 485 ] و"الصديقة" " الفعيلة " ، من "الصدق " ، وكذلك قولهم : "فلان صديق " ، "فعيل " من"الصدق " ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( والصديقين والشهداء ) . [ سورة النساء : 70 ] .

وقد قيل إن " أبا بكر الصديق " رضي الله عنه إنما قيل له : "الصديق " لصدقه .

وقد قيل : إنما سمي"صديقا " ، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة ، وعوده إليها .

وقوله : "كانا يأكلان الطعام " ، خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه : أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم ، فإن من كان كذلك ، فغير كائن إلها ، لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره . وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه ، دليل واضح على عجزه . والعاجز لا يكون إلا مربوبا لا ربا .
القول في تأويل قوله ( انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( 75 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد ، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى "الآيات " ، وهي الأدلة ، والأعلام والحجج على بطول ما يقولون في أنبياء الله ، وفي فريتهم على الله ، وادعائهم له ولدا ، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم رب وإله ، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قيلهم ، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربهم وعظيم جهلهم ، مع ورود الحجج القاطعة عذرهم عليهم . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه [ ص: 486 ] وسلم : "ثم انظر " ، يا محمد "أنى يؤفكون " ، يقول : ثم انظر ، مع تبييننا لهم آياتنا على بطول قولهم ، أي وجه يصرفون عن بياننا الذي نبينه لهم؟ وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلون؟

والعرب تقول لكل مصروف عن شيء : "هو مأفوك عنه" . يقال : "قد أفكت فلانا عن كذا " ، أي : صرفته عنه ، "فأنا آفكه أفكا ، وهو مأفوك" . و"قد أفكت الأرض " ، إذا صرف عنها المطر .

القول في تأويل قوله ( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ( 76 ) )

قال أبو جعفر : وهذا أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قيلهم فيه قبل .

يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : "قل " ، يا محمد ، لهؤلاء الكفرة من النصارى ، الزاعمين أن المسيح ربهم ، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة : أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم ، وهو الذي خلقكم ورزقكم ، وهو يحييكم ويميتكم شيئا لا يملك لكم ضرا ولا نفعا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله ، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابن ، لا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم إن أحله الله بهم ، ولا نفعا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم . يقول تعالى ذكره : فكيف يكون ربا وإلها من كانت هذه صفته؟ بل الرب [ ص: 487 ] المعبود : الذي بيده كل شيء ، والقادر على كل شيء . فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة ، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون .

وأما قوله : "والله هو السميع العليم " فإنه يعني تعالى ذكره بذلك : " والله هو السميع " ، لاستغفارهم لو استغفروه من قيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح ، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه " العليم " ، بتوبتهم لو تابوا منه ، وبغير ذلك من أمورهم .

القول في تأويل قوله ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ( 77 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . يقول تعالى ذكره : "قل " ، يا محمد ، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح "يا أهل الكتاب " ، يعني ب"الكتاب " ، الإنجيل "لا تغلوا في دينكم " ، يقول : لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل ، فتقولوا فيه : "هو الله " ، أو : "هو ابنه " ، ولكن قولوا : "هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا " ، يقول : ولا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه ، فتقولون فيه كما قالوا : "هو لغير رشدة " ، وتبهتوا أمه كما بهتوها [ ص: 488 ] بالفرية وهي صديقة "وأضلوا كثيرا " ، يقول تعالى ذكره : وأضل هؤلاء اليهود كثيرا من الناس ، فحادوا بهم عن طريق الحق ، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح

"وضلوا عن سواء السبيل " ، يقول : وضل هؤلاء اليهود عن قصد الطريق ، وركبوا غير محجة الحق .

وإنما يعني تعالى ذكره بذلك ، كفرهم بالله ، وتكذيبهم رسله : عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، وذهابهم عن الإيمان وبعدهم منه . وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12296 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وضلوا عن سواء السبيل " ، قال : يهود .

12297 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا " ، فهم أولئك الذين ضلوا وأضلوا أتباعهم"وضلوا عن سواء السبيل " ، عن عدل السبيل .

[ ص: 489 ] القول في تأويل قوله ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل لهؤلاء النصارى الذين وصف تعالى ذكره صفتهم : لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق ، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله ، داود وعيسى ابن مريم .

وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم ، كالذي : -

12298 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " قال : لعنوا بكل لسان : لعنوا على عهد موسى في التوراة ، ولعنوا على عهد داود في الزبور ، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن .

12299 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، يقول : لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم ، ولعنوا في الزبور على لسان داود .

12300 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، قال : خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم ، [ ص: 490 ] فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم .

12301 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن حصين ، عن مجاهد : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، قال : لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، ولعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازير .

12302 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس ، قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " ، بكل لسان لعنوا : على عهد موسى في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور ، وعلى عهد عيسى في الإنجيل ، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال ابن جريج : وقال آخرون : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " ، على عهده ، فلعنوا بدعوته . قال : مر داود على نفر منهم وهم في بيت فقال : من في البيت؟ قالوا : خنازير . قال : "اللهم اجعلهم خنازير! " فكانوا خنازير . قال : ثم أصابتهم لعنته ، ودعا عليهم عيسى فقال : "اللهم العن من افترى علي وعلى أمي ، واجعلهم قردة خاسئين"!

12303 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " الآية ، لعنهم الله على لسان داود في زمانه ، فجعلهم قردة خاسئين وفي الإنجيل على لسان عيسى ، فجعلهم خنازير .

12304 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير ، عن حصين يعني : ابن عبد الرحمن ، عن أبي مالك قال : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " ، قال : مسخوا على لسان داود قردة ، وعلى لسان عيسى خنازير .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #565  
قديم 17-02-2025, 09:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (565)
صــ 496 إلى صــ 510







[ ص: 491 ] 12305 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، مثله .

12306 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه . فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، قال : والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي المسيء ، ولتؤطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ، وليلعننكم كما لعنهم .

[ ص: 492 ] 12307 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما فشا المنكر في بني إسرائيل ، جعل الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا ، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه . فلما رأى الله ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ثم أنزل فيهم كتابا : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا ، فجلس وقال : كلا والذى نفسي بيده ، حتى تأطروا الظالم على الحق أطرا" .

[ ص: 493 ] 12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، أظنه عن مسروق ، عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر ، جعل الرجل يرى أخاه وجاره وصاحبه على المنكر ، فينهاه ، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه ونديمه ، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض ، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، إلى"فاسقون " ، قال عبد الله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا ، فاستوى جالسا ، فغضب وقال : لا والله ، حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا .

12309 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص ، كان الرجل يرى أخاه على الريب فينهاه عنه ، فإذا كان الغد ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ونزل فيهم القرآن فقال : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " حتى بلغ"ولكن كثيرا منهم فاسقون " ، [ ص: 494 ] قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس ، وقال : لا حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا .

12310 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال : أملاه علي قال ، حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .

12311 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة قال : سمعت أبا عبيدة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه غير أنهما قالا في حديثهما : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا" .

[ ص: 495 ] 12312 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، قال فقال : لعنوا في الإنجيل وفي الزبور وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رحى الإيمان قد دارت ، فدوروا مع القرآن حيث دار [ فإنه . . . قد فرغ الله مما افترض فيه ] . [ وإن ابن مرح ] كان أمة من بني إسرائيل ، كانوا أهل عدل ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير ، وصلبوهم على الخشب ، وبقيت منهم بقية ، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم ، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم ، فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة . فذلك قول الله تعالى : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " إلى : "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، ماذا كانت معصيتهم؟ قال : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " .

فتأويل الكلام إذا : لعن الله الذين كفروا من اليهود بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ولعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، بما عصوا الله فخالفوا أمره " وكانوا يعتدون " ، يقول : وكانوا يتجاوزون حدوده .

[ ص: 496 ] القول في تأويل قوله ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله " لا يتناهون " ، يقول : لا ينتهون عن منكر فعلوه ، ولا ينهى بعضهم بعضا . ويعني ب"المنكر " ، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها .

فتأويل الكلام : كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه " لبئس ما كانوا يفعلون" . وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول : أقسم : لبئس الفعل كانوا يفعلون ، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره ، وركوب محارمه ، وقتل أنبياء الله ورسله ، كما : -

12313 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر 103 .

القول في تأويل قوله ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( 80 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ترى " ، يا محمد ، كثيرا من بني إسرائيل " يتولون الذين كفروا " ، يقول : يتولون المشركين من عبدة الأوثان ، [ ص: 497 ] ويعادون أولياء الله ورسله "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " ، يقول تعالى ذكره : أقسم : لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة "أن سخط الله عليهم " ، يقول : قدمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا .

و"أن " في قوله : "أن سخط الله عليهم " ، في موضع رفع ، ترجمة عن "ما " ، الذي في قوله : "لبئس ما" .

"وفي العذاب هم خالدون " ، يقول : وفي عذاب الله يوم القيامة"هم خالدون " ، دائم مقامهم ومكثهم فيه .

القول في تأويل قوله ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ( 81 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل"يؤمنون بالله والنبي " ، يقول : يصدقون الله ويقرون به ويوحدونه ، ويصدقون نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث ، ورسول مرسل"وما أنزل إليه " ، يقول : ويقرون بما أنزل إلىمحمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان

"ما اتخذوهم أولياء " ، يقول : ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين "ولكن كثيرا منهم فاسقون " ، يقول : ولكن كثيرا منهم أهل خروج [ ص: 498 ] عن طاعة الله إلى معصيته ، وأهل استحلال لما حرم الله عليهم من القول والفعل .

وكان مجاهد يقول في ذلك بما : -

12314 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " ، قال : المنافقون .

القول في تأويل قوله ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لتجدن ، يا محمد ، أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام " اليهود والذين أشركوا " ، يعني : عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، يقول : ولتجدن أقرب الناس مودة ومحبة .

و"المودة " "المفعلة " ، من قول الرجل : "وددت كذا أوده ودا ، وودا ، وودا ومودة " ، إذا أحببته .

"للذين آمنوا " ، يقول : للذين صدقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، [ ص: 499 ] عن قبول الحق واتباعه والإذعان به .

وقيل : إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .

ذكر من قال ذلك :

12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشي ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات ، فصلوا عليه! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والنجاشي ثم .

12316 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .

12317 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب ، وابن [ ص: 500 ] مسعود وعثمان بن مظعون ، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة . فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فقالوا ، إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي! وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأموا باب النجاشي ، فقالوا : استأذن لأولياء الله! فقال ، ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول : " هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه " ، ويقول في مريم : "إنها العذراء البتول" . قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم! قال : اقرءوا ! فقرءوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى ، فعرفت كل ما قرءوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . قال الله تعالى ذكره : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية .

12318 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، الآية . قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى [ ص: 501 ] عشر رجلا من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : " وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .

12319 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء في قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " الآية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .

وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان ، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به .

ذكر من قال ذلك :

12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، فقرأ حتى بلغ : "فاكتبنا مع الشاهدين " أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، يؤمنون به وينتهون إليه . فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، صدقوا به وآمنوا به ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق ، فأثنى عليهم ما تسمعون .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : "إنا نصارى " ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة [ ص: 502 ] عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .

وأما قوله تعالى : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، فإنه يقول : قربت مودة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين ، من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا .

و"القسيسون " جمع "قسيس" . وقد يجمع "القسيس " ، "قسوسا " ، لأن "القس " و"القسيس " ، بمعنى واحد .

وكان ابن زيد يقول في"القسيس " بما : -

12321 - حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : "القسيس " ، عبادهم .

وأما الرهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا . فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون"راهبا " ، ويكون"الراهب " ، حينئذ "فاعلا " من قول القائل : "رهب الله فلان " ، بمعنى خافه ، "يرهبه رهبا ورهبا " ، ثم يجمع"الراهب " ، "رهبان " مثل"راكب " و"ركبان " ، و"فارس " و"فرسان" . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :


رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر


[ ص: 503 ] وقد يكون"الرهبان " واحدا . وإذا كان واحدا كان جمعه"رهابين " مثل "قربان " و"قرابين " ، و"جردان" . و"جرادين" . ويجوز جمعه أيضا"رهابنة " إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :


لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل


[ ص: 504 ] واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا" .

فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته .

ذكر من قال ذلك :

12321 م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : كانوا نواتي في البحر يعني : ملاحين قال : فمر بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه : قال : فذلك قوله : " قسيسين ورهبانا " .

وقال آخرون : بل عني بذلك ، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

12322 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عمن حدثه ، عن أبي صالح في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو ثمان وستون من الحبشة ، كلهم [ ص: 505 ] صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .

12323 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء !

12324 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخير فالخير ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : ( يس والقرآن الحكيم ) [ سورة يس : 1 ، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق ، فأنزل الله فيهم : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، وأنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) [ سورة القصص : 53 ، 54 ] .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة ، وترهب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم [ ص: 506 ] أهل دين واجتهاد فيه ، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل ، ومعاندة الله في أمره ونهيه ، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #566  
قديم 17-02-2025, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (566)
صــ 511 إلى صــ 525







القول في تأويل قوله ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا : "إنا نصارى " الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"ترى أعينهم تفيض من الدمع" .

[ ص: 507 ] و"فيض العين من الدمع " ، امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها ، كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه ، ومنه قول الأعشى :


ففاضت دموعي ، فظل الشئون : إما وكيفا ، وإما انحدارا


وقوله : "مما عرفوا من الحق " ، يقول : فيض دموعهم ، لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حق ، كما : -

12325 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فبكوا . وكان منهم سبعة رهبان وخمسة [ ص: 508 ] قسيسين أو : خمسة رهبان ، وسبعة قسيسين فأنزل الله فيهم : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " ، إلى آخر الآية .

12326 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عمر بن علي بن مقدم قال ، سمعت هشام بن عروة يحدث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت في النجاشي وأصحابه : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12327 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، قال : ذلك في النجاشي .

12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كانوا يرون أن هذه الآية أنزلت في النجاشي : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12329 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، قال ابن إسحاق : سألت الزهري عن الآيات : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " الآية ، وقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ سورة الفرقان : 63 ] . قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه . [ ص: 509 ]

وأما قوله : "يقولون " ، فإنه لو كان بلفظ اسم ، كان نصبا على الحال ، لأن معنى الكلام : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، قائلين : "ربنا آمنا" .

ويعني بقوله تعالى ذكره : "يقولون ربنا آمنا " ، أنهم يقولون : يا ربنا ، صدقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ، وأقررنا به أنه من عندك ، وأنه الحق لا شك فيه .

وأما قوله : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله ، ما : -

12330 - حدثنا به هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وابن نمير جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " اكتبنا مع

الشاهدين " ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، يعنون ب"الشاهدين " ، محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته .

12333 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، إنهم شهدوا أنه قد بلغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت .

[ ص: 510 ] 12334 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا يحيى بن زكريا قال ، حدثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا .

قال أبو جعفر : فكأن متأول هذا التأويل ، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ سورة البقرة : 143 ] . فذهب ابن عباس إلى أن "الشاهدين " ، هم"الشهداء " في قوله : " لتكونوا شهداء على الناس " ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : " يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة ، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك .

ولو قال قائل : معنى ذلك : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابا . لأن ذلك خاتمة قوله : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده [ ص: 511 ] شهادتهم بذلك ، ويلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم .

ومعنى"الكتاب ، " في هذا الموضع : الجعل .

يقول : فاجعلنا مع الشاهدين ، وأثبتنا معهم في عدادهم .

القول في تأويل قوله ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( 84 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه ، آمنوا به وصدقوا كتاب الله ، وقالوا : "ما لنا لا نؤمن بالله " ، يقول : لا نقر بوحدانية الله"وما جاءنا من الحق " ، يقول : وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله ، ونحن نطمع بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين .

يعني ب"القوم الصالحين " ، المؤمنين بالله ، المطيعين له ، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه .

وإنما معنى ذلك : ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة ، ويلحق منازلنا بمنازلهم ، ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12335 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال [ ص: 512 ] ابن زيد في قوله : " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " ، قال : "القوم الصالحون " ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

القول في تأويل قوله ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( 85 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فجزاهم الله بقولهم : " ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "

"جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يعني : بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار"خالدين فيها " ، يقول : دائما فيها مكثهم ، لا يخرجون منها ولا يحولون عنها

" وذلك جزاء المحسنين " ، يقول : وهذا الذي جزيت هؤلاء القائلين بما وصفت عنهم من قيلهم على ما قالوا ، من الجنات التي هم فيها خالدون ، جزاء كل محسن في قيله وفعله .

و"إحسان المحسن " في ذلك ، أن يوحد الله توحيدا خالصا محضا لا شرك فيه ، ويقر بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب ، ويؤدي فرائضه ، ويجتنب معاصيه . فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره : "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" .

[ ص: 513 ] القول في تأويل قوله ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 86 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأما الذين جحدوا توحيد الله ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا بآيات كتابه ، فإن أولئك " أصحاب الجحيم" . يقول : هم سكانها واللابثون فيها .

و"الجحيم" : ما اشتد حره من النار ، وهو"الجاحم""والجحيم" .

القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 87 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، يعني ب"الطيبات " ، اللذيذات التي تشتهيها النفوس ، وتميل إليها القلوب ،

فتمنعوها إياها ، كالذي فعله القسيسون والرهبان ، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة ، والمشارب اللذيذة ، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم ، وساح في الأرض بعضهم . يقول تعالى ذكره : فلا تفعلوا أيها المؤمنون ، كما فعل أولئك ، ولا تعتدوا حد الله الذي حد لكم فيما أحل لكم وفيما حرم عليكم ، [ ص: 514 ] فتجاوزوا حده الذي حده ، فتخالفوا بذلك طاعته ، فإن الله لا يحب من اعتدى حده الذي حده لخلقه ، فيما أحل لهم وحرم عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12336 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال ، حدثنا عبثر أبو زبيد قال ، حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية ، قال : عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين ، حرموا عليهم النساء ، وامتنعوا من الطعام الطيب ، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره ، فنزلت هذه الآية .

12337 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني خالد الحذاء ، عن عكرمة قال : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12338 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة : أن رجالا أرادوا كذا وكذا ، وأرادوا كذا وكذا ، وأن يختصوا ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " إلى قوله"الذي أنتم به مؤمنون " .

12339 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : كانوا حرموا [ ص: 515 ] الطيب واللحم ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم .

12340 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا خالد ، عن عكرمة : أن أناسا قالوا : "لا نتزوج ، ولا نأكل ، ولا نفعل كذا وكذا"! فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ، ويترهبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ، ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا ، واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم . قال : ونزلت فيهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية .

12342 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ، ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .

12343 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد الرحمن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا " .

[ ص: 516 ] 12344 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية ، ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم ، وأرادوا أن يتخذوا الصوامع . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس في ديني ترك النساء واللحم ، ولا اتخاذ الصوامع ، وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا ، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر : أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا؟ قالوا : بلى! يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير! قال : لكني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني وكان في بعض القراءة : ( من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل ) . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناس من أصحابه : إن من قبلكم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فهؤلاء إخوانهم في الدور والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وحجوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم .

[ ص: 517 ] 12345 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما خفنا إن لم نحدث عملا! فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم ، فنحن نحرم! فحرم بعضهم أكل اللحم والودك ، وأن يأكل بالنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء . فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه . فأتت امرأته عائشة ، وكان يقال لها : "الحولاء " ، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالك ، يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تطيبين؟ فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط ، وما وقع علي زوجي ، ولا رفع عني ثوبا ، منذ كذا وكذا! فجعلن يضحكن من كلامها . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : ما يضحككن؟ قالت : يا رسول الله ، الحولاء ، سألتها عن أمرها فقالت : "ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا"! فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان ؟ قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة! وقص عليه أمره . وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك ! فقال : يا رسول الله إني صائم ! قال : أفطر! فأفطر ، وأتى أهله . فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت . فضحكت عائشة ، فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 518 ] ما بال أقوام حرموا النساء ، والطعام ، والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني! فنزلت : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " ، يقوللعثمان : لا تجب نفسك . فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا أيمانهم ، فقال : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " .

12346 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : هم رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل ، إليهم ، فذكر ذلك لهم فقالوا : نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني .

12347 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، وذلك أن رجالا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، منهم عثمان بن مظعون ، حرموا النساء واللحم على أنفسهم ، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم ، لكي تنقطع الشهوة ويتفرغوا لعبادة ربهم . فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما أردتم ؟ فقالوا : أردنا أن تنقطع الشهوة عنا ، ونتفرغ لعبادة ربنا ، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أومر بذلك ، ولكني أمرت في ديني أن أتزوج النساء! فقالوا ، نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، إلى قوله : "الذي أنتم به مؤمنون" .

[ ص: 519 ] 12348 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجالا ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو ، أن يتبتلوا ، ويخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب ، تبتلوا فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما أكل ولبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالإخصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد : ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيام الليل ، وما هموا به من الإخصاء . فلما نزلت فيهم ، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا! صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا ! فقالوا : اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت!

12349 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال ، قال أبي : ضاف عبد الله بن رواحة ضيفا ، فانقلب ابن رواحة ولم يتعش ، فقال [ ص: 520 ] لأهله : ما عشيته ؟ فقالت : كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي ! قال : فحبست ضيفي من أجلي ! فطعامك علي حرام إن ذقته ! فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف : هو علي حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة : قربي طعامك ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أحسنت ! فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، وقرأ حتى بلغ : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، إذا قلت : "والله لا أذوقه " ، فذلك العقد .

12350 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عثمان بن سعد قال ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أصبت من اللحم انتشرت ، وأخذتني شهوتي ، فحرمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12351 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة قال : هم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 521 ] بترك النساء والخصاء ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية .

واختلفوا في معنى"الاعتداء " الذي قال تعالى ذكره : " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

فقال بعضهم : "الاعتداء " الذي نهى الله عنه في هذا الموضع : هو ما كان عثمان بن مظعون هم به من جب نفسه ، فنهي عن ذلك ، وقيل له : "هذا هو الاعتداء" .

وممن قال ذلك السدي .

12352 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عنه .

وقال آخرون : بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم ، فنهوا أن يفعلوا ذلك ، وأن يستنوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . وممن قال ذلك عكرمة .

12353 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عنه .

وقال بعضهم : بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام .

ذكر من قال ذلك :

12354 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن عاصم ، عن الحسن : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " ، قال : لا تعتدوا إلى ما حرم عليكم .

[ ص: 522 ] وقد بينا أن معنى"الاعتداء " ، تجاوز المرء ما له إلى ما ليس له في كل شيء ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .

قال أبو جعفر : وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عم بقوله : "لا تعتدوا " ، النهي عن العدوان كله كان الواجب أن يكون محكوما لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له . وليس لأحد أن يتعدى حد الله تعالى في شي من الأشياء مما أحل أو حرم ، فمن تعداه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره : "إن الله لا يحب المعتدين" .

وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين هموا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هموا به من تحريم بعض ما أحل الله لهم على أنفسهم ، ويكون مرادا بحكمها كل من كان في مثل معناهم ممن حرم على نفسه ما أحل الله له ، أو أحل ما حرم الله عليه ، أو تجاوز حدا حده الله له . وذلك أن الذين هموا بما هموا به من تحريم بعض ما أحل لهم على أنفسهم ، إنما عوتبوا على ما هموا به من تجاوزهم ما سن لهم وحد ، إلى غيره .

القول في تأويل قوله ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 88 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، لهؤلاء المؤمنين الذين نهاهم أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم : كلوا ، أيها المؤمنون ، من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم ، حلالا طيبا ، كما : -

[ ص: 523 ] 12355 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " يعني : ما أحل الله لهم من الطعام .

وأما قوله : " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " ، فإنه يقول : وخافوا ، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا في حدوده ، فتحلوا ما حرم عليكم ، وتحرموا ما أحل لكم ، واحذروه في ذلك أن تخالفوه ، فينزل بكم سخطه ، أو تستوجبوا به عقوبته "الذي أنتم به مؤمنون " ، يقول : الذي أنتم بوحدانيته مقرون ، وبربوبيته مصدقون .

القول في تأويل قوله ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، للذين كانوا حرموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا حرموا ذلك بأيمان حلفوا بها ، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم : لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم ، كما : -

12356 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، الآية .

[ ص: 524 ] فهذا يدل على ما قلنا ، من أن القوم كانوا حرموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها ، فنزلت هذه الآية بسببهم .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) بتشديد"القاف " ، بمعنى : وكدتم الأيمان ورددتموها .

وقرأه قرأة الكوفيين : ( بما عقدتم الأيمان )

بتخفيف"القاف " ، بمعنى : أوجبتموها على أنفسكم ، وعزمت عليها قلوبكم .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأ بتخفيف"القاف" . وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل"فعلت " في الكلام ، إلا فيما يكون فيه تردد مرة بعد مرة ، مثل قولهم : "شددت على فلان في كذا " ، إذا كرر عليه الشدة مرة بعد أخرى . فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرة واحدة قيل : "شددت عليه " ، بالتخفيف .

وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم : أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة ، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة ، وإن لم يكررها الحالف مرات . وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه ، وإن لم يكرره ولم يردده .

وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن لتشديد"القاف " من"عقدتم " ، وجه مفهوم .

[ ص: 525 ] فتأويل الكلام إذا : لا يؤاخذكم الله ، أيها المؤمنون ، من أيمانكم بما لغوتم فيه ، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها ، وعقدت عليه قلوبكم

وقد بينا اليمين التي هي "لغو " والتي الله مؤاخذ العبد بها ، والتي فيها الحنث ، والتي لا حنث فيها فيما مضى من كتابنا هذا ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .

وأما قوله : "بما عقدتم الأيمان " ، فإن هنادا :

12357 - حدثنا قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، قال : بما تعمدتم .

12358 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

12359 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، يقول : ما تعمدت فيه المأثم ، فعليك فيه الكفارة .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #567  
قديم 17-02-2025, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (567)
صــ 526 إلى صــ 545









القول في تأويل قوله ( فكفارته إطعام عشرة مساكين )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في"الهاء " التي في قوله : "فكفارته " ، على ما هي عائدة ، ومن ذكر ما ؟

فقال بعضهم : هي عائدة على"ما " التي في قوله : "بما عقدتم الأيمان" .

ذكر من قال ذلك :

12360 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، [ ص: 526 ] عن الحسن في هذه الآية " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك ، فلا يؤاخذكم الله ، فلا كفارة . ولكن المؤاخذة والكفارة ، فيما حلفت عليه على علم .

12361 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : اللغو ليس فيه كفارة " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، قال : ما عقدت فيه يمينه ، فعليه الكفارة .

12362 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قال : الأيمان ثلاث : يمين تكفر ، ويمين لا تكفر ، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها . فأما اليمين التي تكفر ، فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ، ثم يفعله ، فعليه الكفارة . وأما اليمين التي لا تكفر : فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب ، فليس فيه كفارة . وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها ، فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه ، فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة . وهو"اللغو" .

12363 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء قال : قالت عائشة : لغو اليمين ، ما لم يعقد عليه الحالف قلبه .

12364 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا حماد ، عن إبراهيم قال : ليس في لغو اليمين كفارة .

12365 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب : أن عروة حدثه : أن عائشة قالت : أيمان [ ص: 527 ] الكفارة ، كل يمين حلف فيها الرجل على جد من الأمور في غضب أو غيره : "ليفعلن ، ليتركن " ، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة ، وقال تعالى ذكره : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " .

12366 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن يحيى بن سعيد ، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة .

12367 - حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، يقول : ما تعمدت فيه المأثم ، فعليك فيه الكفارة . قال ، وقال قتادة : أما اللغو ، فلا كفارة فيه .

12368 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال : لا كفارة في لغو اليمين .

12369 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي : ليس في لغو اليمين كفارة .

قال أبو جعفر : فمعنى الكلام على هذا التأويل : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين . [ ص: 528 ]

وقال آخرون : "الهاء " في قوله : "فكفارته " ، عائدة على"اللغو " ، وهي كناية عنه . قالوا : وإنما معنى الكلام : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفرتموه ، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضي عليه بترك الحنث ، والكفارة فيه . والإقامة على المضي عليه ، غير جائزة لكم . فكفارة اللغو منها إذا حنثتم فيه ، إطعام عشرة مساكين .

ذكر من قال ذلك :

12370 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، فهو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله ، فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير وقال مرة أخرى : قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " إلى قوله : "بما عقدتم الأيمان " ، قال : واللغو من الأيمان ، هي التي تكفر ، لا يؤاخذ الله بها . ولكن من أقام على تحريم ما أحل الله له ، ولم يتحول عنه ، ولم يكفر عن يمينه ، فتلك التي يؤخذ بها .

12371 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي ، فيكفر .

12372 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو [ ص: 529 ] الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره ، يكفر عن يمينه ، ويأتي الذي هو خير " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين .

12373 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير ، قال في لغو اليمين : هي اليمين في المعصية ، فقال : أولا تقرأ فتفهم ؟ قال : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " . قال : فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها ، قال وقال : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) [ سورة البقرة : 224 ] .

12374 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على المعصية ، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها . قلت : وكيف يصنع؟ قال : يكفر يمينه ويترك المعصية .

12375 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : "اللغو " ، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها ، وفيها كفارة .

12376 - حدثني يحيى بن جعفر قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اليمين المكفرة .

[ ص: 530 ] قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك ، أن تكون"الهاء " في قوله : "فكفارته " عائدة على"ما " التي في قوله : "بما عقدتم الأيمان " ، لما قدمنا فيما مضى قبل أن من لزمته في يمينه كفارة وأوخذ بها ، غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ : "لا يؤاخذه الله باللغو" . وفي قوله تعالى : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذا بوجه من الوجوه ، من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذه .

فإن ظن ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثتم وكفرتم إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه ، على الظاهر العام عندنا بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع ، فأغنى عن إعادته دون الباطن العام الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر . ولا دلالة من عقل ولا خبر أنه عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، بعض معاني المؤاخذة دون جميعها .

وإذ كان ذلك كذلك ، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذا بها بعقوبة في ماله عاجلة ، كان معلوما أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها .

وإذ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا ، فمعنى الكلام إذا : لا يؤاخذكم الله أيها الناس ، بلغو من القول والأيمان ، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلاف أمره ، ولم تقصدوا بها إثما ، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الإثم ، وأوجبتموه على أنفسكم ، وعزمت عليه قلوبكم ، ويكفر ذلك [ ص: 531 ] عنكم ، فيغطي على سيئ ما كان منكم من كذب وزور قول ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " .

القول في تأويل قوله ( من أوسط ما تطعمون أهليكم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، من أعدله ، كما : -

12377 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية : " من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم " ، قال عطاء : "أوسطه " ، أعدله .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " .

فقال بعضهم : معناه : من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر ، أهاليهم .

ذكر من قال ذلك :

12378 - حدثنا هناد قال ، أخبرنا شريك ، عن عبد الله بن حنش ، عن الأسود قال : سألته عن : " أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز ، والتمر ، والزيت ، والسمن ، وأفضله اللحم .

[ ص: 532 ] 12379 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الله بن حنش قال : سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال : الخبز والتمر زاد هناد في حديثه ، والزيت . قال : وأحسبه ، الخل .

12380 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من أوسط ما يطعم أهله : الخبز والتمر ، والخبز والسمن ، والخبز والزيت . ومن أفضل ما تطعمهم : الخبز واللحم .

12381 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز والجبن ، والخبز والخل .

12382 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن حنش ، قال : سألت الأسود بن يزيد عن " أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز والتمر .

12383 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبد الله بن حنش قال : سألت الأسود بن يزيد ، فذكر مثله .

12384 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز والسمن .

12385 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فذكر مثله .

[ ص: 533 ] 12386 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أزهر قال ، أخبرنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، الخبز والسمن .

12387 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين قال : كانوا يقولون : أفضله الخبز واللحم ، وأوسطه الخبز والسمن ، وأخسه الخبز والتمر .

12388 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن الربيع ، عن الحسن قال : خبز ولحم ، أو خبز وسمن ، أو خبز ولبن .

12389 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون ، عن أبي مصلح ، عن الضحاك في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز واللحم والمرقة .

12390 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة ، عن يحيى بن حيان الطائي قال : كنت عند شريح ، فأتاه رجل فقال : إني حلفت على يمين فأثمت؟ قال شريح : ما حملك على ذلك؟ قال : قدر علي ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح : الخبز والزيت ، والخل طيب . قال : فأعاد عليه ، فقال له شريح ذلك ثلاث مرار ، لا يزيده شريح على ذلك . فقال له : أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال : ذاك أرفع طعام أهلك وطعام الناس .

[ ص: 534 ] 12391 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا ، أو خبزا وسمنا . أو خلا وزيتا .

12392 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة ، عن زبرقان ، عن أبي رزين : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، خبز وزيت وخل .

12393 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام بن محمد قال : أكلة واحدة ، خبز ولحم . قال : وهو " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، وإنكم لتأكلون الخبيص والفاكهة .

12394 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن الحسن قال في كفارة اليمين : يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكلة واحدة ، خبزا ولحما . فإن لم تجد ، فخبزا وسمنا ولبنا . فإن لم تجد ، فخبزا وخلا وزيتا حتى يشبعوا .

12395 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن زبرقان قال : سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال : خبزا وخلا وزيتا : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، وذلك قدر قوتهم يوما واحدا .

ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه .

فقال بعضهم : مبلغ ذلك ، نصف صاع من حنطة ، أو صاع من سائر الحبوب غيرها .

ذكر من قال ذلك :

12396 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : إني [ ص: 535 ] أحلف على اليمين ، ثم يبدو لي ، فإذا رأيتني قد فعلت ذلك ، فأطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مدين من حنطة .

12397 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ويعلى ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن يسار بن نمير قال قال عمر : إني أحلف أن لا أعطي أقواما ، ثم يبدو لي أن أعطيهم . فإذا رأيتني فعلت ذلك ، فأطعم عني عشرة مساكين ، بين كل مسكينين صاعا من بر ، أو صاعا من تمر .

12398 - حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي قال : كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من حنطة .

12399 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، نصف صاع بر كل مسكين .

[ ص: 536 ] 12400 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص ، عن عبد الكريم الجزري قال : قلت لسعيد بن جبير : أجمعهم ؟ قال : لا ، أعطهم مدين مدين من حنطة ، مدا لطعامه ، ومدا لإدامه .

12401 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : قلت لسعيد ، فذكر نحوه .

12402 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو زبيد ، عن حصين قال : سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال : مكوكين ، مكوكا لطعامه ، ومكوكا لإدامه .

12403 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا هشام ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : لكل مسكين مدين .

12404 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لكل مسكين مدين من بر في كفارة اليمين .

12405 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : مدان من طعام لكل مسكين .

12406 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال : سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين ، فقال : أكلة . قلت : فإن الحسن يقول : مكوك بر ومكوك تمر ، فما ترى في مكوك بر؟ فقال : إن مكوك بر!! قال يعقوب قال ، ابن علية : وقال أبو مسلمة [ ص: 537 ] بيده ، كأنه يراه حسنا ، وقلب أبو بشر يده .

12407 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن : أنه كان يقول في كفارة اليمين : فيما وجب فيه الطعام ، مكوك تمر ومكوك بر لكل مسكين .

12408 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن قال ، قال : إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة . وإن أعطاهم ، أعطاهم مكوكا مكوكا .

12409 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس قال : كان الحسن يقول : وحسبه ، فإن أعطاهم في أيديهم ، فمكوك بر ومكوك تمر .

[ ص: 538 ] 12410 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك في كفارة اليمين : نصف صاع لكل مسكين .

12411 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبيه ، عن الحكم ، في قوله : " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : طعام نصف صاع لكل مسكين .

12412 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : " أوسط ما تطعمون أهليكم " ، نصف صاع .

12413 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " فكفارته إطعام عشرة مساكين " ، قال : الطعام ، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو بر .

وقال آخرون : بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب ، مد واحد .

ذكر من قال ذلك :

12414 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين : مد من حنطة لكل مسكين .

12415 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين : مد من حنطة لكل مسكين ، ربعه إدامه .

12416 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن [ ص: 539 ] داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه .

12417 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : "إطعام عشرة مساكين " ، لكل مسكين مد .

12418 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال ، حدثنا العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : مد من حنطة لكل مسكين .

12419 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يكفر اليمين بعشرة أمداد ، بالمد الأصغر .

12420 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن عبيد الله ، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين ، ما يطعم؟ قالا : مد لكل مسكين .

12421 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار قال : كان الناس إذا كفر أحدهم ، كفر بعشرة أمداد بالمد الأصغر .

12422 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : "إطعام عشرة مساكين " ، قال : عشرة أمداد لعشرة مساكين .

12423 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : كان يقال : البر والتمر ، لكل مسكين مد من تمر ، ومد من بر .

[ ص: 540 ] 12424 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء ، قال : مد لكل مسكين .

12425 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من أوسط ما تعولونهم . قال : وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك : مدا بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة . قال ابن زيد : هو الوسط مما يقوت به أهله ، ليس بأدناه ولا بأرفعه .

12426 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : مد .

وقال آخرون : بل ذلك غداء وعشاء .

ذكر من قال ذلك :

12427 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين : يغديهم ويعشيهم .

12428 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال : غداء وعشاء .

12429 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن قال : يغديهم ويعشيهم .

وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، من أوسط ما يطعم المكفر أهله . قال : إن كان ممن يشبع أهله ، أشبع المساكين [ ص: 541 ] العشرة . وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك ، أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره .

ذكر من قال ذلك :

12430 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين ، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقدره .

12431 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلك من الشبع ، أو نصف صاع من بر .

12432 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : من عسرهم ويسرهم .

12433 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : من عسرهم ويسرهم .

12434 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : قوتهم .

12435 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سليمان العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : قوتهم .

12436 - حدثنا أبو حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عن سليمان بن عبيد العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : "من أوسط [ ص: 542 ] ما تطعمون أهليكم " ، قال : كانوا يفضلون الحر على العبد ، والكبير على الصغير ، فنزلت : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " .

12439 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال ، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير ، ويطعمون الحر ما لا يطعمون العبد ، فقال ، " من أوسط ما تطعمون أهليكم " .

12438 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم . وإن كنت لا تشبعهم ، فعلى قدر ذلك .

12439 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شيبان النحوي ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من عسرهم ويسرهم .

12440 - حدثنا يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن سعيد بن [ ص: 543 ] جبير قال ، قال ابن عباس : كان الرجل يقوت بعض أهله قوتا دونا وبعضهم قوتا فيه سعة ، فقال الله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، الخبز والزيت .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " عندنا ، قول من قال : "من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة" . وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلها بذلك وردت . وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفرق من طعام بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا ، لكل مسكين ربع صاع . ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات ، أمر بإطعام خبز وإدام ، ولا بغداء وعشاء .

فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته ، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم : من أن الواجب على مكفرها من الطعام ، مقدرا للمساكين العشرة محدودا بكيل ، [ ص: 544 ] دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوزا مأدوما ، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك .

فإذ كان صحيحا ما قلنا بما به استشهدنا ، فبين أن تأويل الكلام : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم وأن "ما " التي في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، بمعنى المصدر ، لا بمعنى الأسماء .

وإذا كان ذلك كذلك ، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدان ، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه ، وذلك أعلى ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين . وأعدل أقوات المقتر على أهله مد ، وذلك ربع صاع ، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين .

وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين ، الخبز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل ، والذين رأوا أن يغدوا أو يعشوا ، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا ، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم ، فجعلوا"ما " التي في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، اسما لا مصدرا ، فأوجبوا على المكفر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الأغذية . وذلك مذهب لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها ، التي يجب إلحاق أشكالها بها ، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #568  
قديم 17-02-2025, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (568)
صــ 546 إلى صــ 560







[ ص: 545 ] القول في تأويل قوله ( أو كسوتهم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فكفارة ما عقدتم من الأيمان : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم . يقول : إما أن تطعموهم أو تكسوهم . والخيار في ذلك إلى المكفر .

واختلف أهل التأويل في "الكسوة " التي عنى الله تعالى ذكره بقوله : "أو كسوتهم " .

فقال بعضهم : عنى بذلك : كسوة ثوب واحد .

ذكر من قال ذلك :

12441 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين : أدناه ثوب .

12442 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .

12443 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله : "أو كسوتهم " ، ثوب لكل مسكين .

12444 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب .

12445 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن حميد وابن وكيع [ ص: 546 ] قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب .

12446 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب قال منصور : القميص ، أو الرداء ، أو الإزار .

12447 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : كسوة الشتاء والصيف ، ثوب ثوب .

12448 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب لكل مسكين .

12449 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : إذا كساهم ثوبا ثوبا أجزأ عنه .

12450 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن حماد قال : ثوب أو ثوبان ، وثوب لا بد منه .

12451 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : ثوب ثوب لكل إنسان . وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة .

[ ص: 547 ] 12452 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "أو كسوتهم " ، قال : "الكسوة " ، عباءة لكل مسكين ، أو شملة .

12453 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : ثوب ، أو قميص ، أو رداء ، أو إزار .

12454 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن اختار صاحب اليمين الكسوة ، كسا عشرة أناسي ، كل إنسان عباءة .

12455 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، سمعت عطاء يقول في قوله : "أو كسوتهم " ، الكسوة : ثوب ثوب .

وقال بعضهم : عنى بذلك : الكسوة ثوبين ثوبين .

ذكر من قال ذلك :

12456 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : عباءة وعمامة .

12457 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .

12458 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين .

[ ص: 548 ] 12459 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن قال : ثوبين .

12460 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله .

12461 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : ثوبان ثوبان لكل مسكين .

12462 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبى موسى : أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من معقدة البحرين .

12463 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين : أن أبا موسى كسا ثوبين من معقدة البحرين .

12464 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن محمد بن عبد الأعلى : أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين ، فرأى أن يكفر ففعل ، وكسا عشرة ثوبين ثوبين .

12465 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن محمد : أن أبا موسى حلف على يمين فكفر ، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين .

12466 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : عباءة وعمامة لكل مسكين .

12467 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .

[ ص: 549 ] 12468 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب : ( أو كأسوتهم ) ، فقال سعيد : لا إنما هي : "أو كسوتهم " ، قال قلت : يا أبا محمد ، ما كسوتهم؟ قال : لكل مسكين عباءة وعمامة : عباءة يلتحف بها ، وعمامة يشد بها رأسه .

12469 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : الكسوة ، لكل مسكين رداء وإزار ، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة .

وقال آخرون : بل عنى بذلك " كسوتهم " "ثوب جامع " ، كالملحفة والكساء ، والشيء الذي يصلح للبس والنوم .

ذكر من قال ذلك :

12470 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : الكسوة ثوب جامع .

12471 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع . قال وقال مغيرة : و"الثوب الجامع" : الملحفة أو الكساء أو نحوه ، ولا نرى الدرع والقميص والخمار ونحوه "جامعا" .

12472 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ثوب جامع .

[ ص: 550 ] 12473 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ثوب جامع .

12474 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع لكل مسكين .

12475 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وشعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع .

12476 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن المغيرة ، مثله .

وقال آخرون : عنى بذلك : كسوة إزار ورداء وقميص .

ذكر من قال ذلك :

12477 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن بردة ، عن رافع ، عن ابن عمر قال في الكسوة : في الكفارة إزار ورداء وقميص .

وقال آخرون : كل ما كسا فيجزئ ، والآية على عمومها .

ذكر من قال ذلك :

12478 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان .

12479 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع [ ص: 551 ] قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الحسن قال : يجزئ عمامة في كفارة اليمين .

12480 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أويس الصيرفي ، عن أبي الهيثم ، قال قال سلمان : نعم الثوب التبان .

12481 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن الحكم قال : عمامة يلف بها رأسه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن ، قول من قال : عنى بقوله : "أو كسوتهم " ، ما وقع عليه اسم كسوة ، مما يكون ثوبا فصاعدا لأن ما دون الثوب ، لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية ، فكان ما دون قدر ذلك ، خارجا من أن يكون الله تعالى عناه ، بالنقل المستفيض . والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية ، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها . وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية ، إلا بحجة يجب التسليم لها . ولا حجة بذلك .

[ ص: 552 ] القول في تأويل قوله ( أو تحرير رقبة )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أو فك عبد من أسر العبودة وذلها .

وأصل "التحرير " ، الفك من الأسر ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :


أبني غدانة ، إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال


يعني بقوله : "حررتكم " ، فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار .

وقيل : "تحرير رقبة " ، والمحرر ذو الرقبة ، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام [ ص: 553 ] عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فك يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : "قبض فلان يده عن فلان " ، إذا أمسك يده عن نواله "وبسط فيه لسانه " ، إذا قال فيه سوءا فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك . فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : "أو تحرير رقبة " ، أضيف "التحرير " إلى "الرقبة " ، وإن لم يكن هناك غل في رقبته ولا شد يد إليها ، وكان المراد بالتحرير نفس العبد ، بما وصفنا ، من جراء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه .

فإن قال قائل : أفكل الرقاب معني بذلك أو بعضه؟

قيل : بل معني بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد ، والعمى والخرس ، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك . فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين . فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية . فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به .

[ ص: 554 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم .

ذكر من قال ذلك :

12482 - حدثنا هناد . . . قال ، حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة فاشترى نسمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل . فأما الذي يعمل ، كالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ ، الأعمى والمقعد .

12483 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق المخبل في شيء من الكفارات .

12484 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات .

وقال بعضهم : لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها .

ذكر من قال ذلك :

12485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح .

12486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة .

12487 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى . وما كان ليس بمؤمنة ، فالصبي يجزئ .

[ ص: 555 ] وقال بعضهم : لا يقال للمولود"رقبة " ، إلا بعد مدة تأتي عليه .

ذكر من قال ذلك :

12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، عن النعمان بن المنذر ، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي فهو نسمة ، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلى فهو مؤمنة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى عم بذكر "الرقبة " كل رقبة ، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته ، فقد أدى ما كلف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الآية ، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفارة بظاهر التنزيل .

والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك . فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا ، لما : -

12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، حدثنا أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليت من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) [ سورة المائدة : 87 ] . قال فقال معقل : إنما سألتك أن أتيت [ ص: 556 ] على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله : ائت النساء ونم ، وأعتق رقبة ، فإنك موسر .

12490 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن سليمان الأعمش حدثه ، عن إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحارث : أن نعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، كفر عن يمينك ، ونم على فراشك ! قال : بم أكفر عن يميني؟ قال : أعتق رقبة ، فإنك موسر .

ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما ، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من [ ص: 557 ] الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ الموسر التكفير إلا بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار ، قديمهم وحديثهم ، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر . ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .

القول في تأويل قوله ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "فمن لم يجد " ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "فصيام ثلاثة أيام " ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام .

ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : "فمن لم يجد " ، ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة ، اسم "غير واجد " ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك .

فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفر بالصيام . فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ، ولم يجزه الصيام حينئذ .

وممن قال ذلك الشافعي :

12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع .

وهذا القول قصد إن شاء الله من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، [ ص: 558 ] من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم . وبنحو ذلك : -

12492 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال : يعني في الكفارة .

12493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .

12494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال ، إذا كان عنده درهمان .

12495 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد الكريم أبي أمية ، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام أن يصوم ، إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة .

[ ص: 559 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة ، فلا يجزيه حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوب الدين . وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لابد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته . فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله .

واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين . فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرقها .

ذكر من قال ذلك :

12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر .

12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان أبي بن كعب يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن [ ص: 560 ] موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة ، عن سويد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12500 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12501 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله .

12502 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12505 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، [ ص: 561 ] عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرؤن : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12506 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، سمعت سفيان ، يقول : إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه . قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر ، قال ، يستقبل الصوم .

12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "فصيام ثلاثة أيام " ، قال : إذا لم يجد طعاما ، وكان في بعض القراءة : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة .

12508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة ، الأول فالأول ، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات .

وقال آخرون : جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء ، مجتمعات ومفترقات .

ذكر من قال ذلك :

12509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك : كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام ، فأن يصام تباعا أعجب . فإن فرقها رجوت أن تجزئ عنه .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى [ ص: 562 ] ذكره أوجب على من لزمته كفارة يمين ، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة . فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة أجزأه . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فكيفما أتى بصومهن أجزأ .

فأما ما روى عن أبي وابن مسعود من قراءتهما : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا . وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله . غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ، ولا يفرق . لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته ، وهم في غير ذلك مختلفون . ففعل ما لا يختلف في جوازه أحب إلي ، وإن كان الآخر جائزا .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #569  
قديم 17-02-2025, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (569)
صــ 561 إلى صــ 580







القول في تأويل قوله ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ( 89 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "ذلك " ، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم ، من إطعام العشرة المساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير الرقبة ، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم ، واحفظوا أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها ، ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم "كذلك يبين الله لكم آياته " ، كما بين لكم كفارة أيمانكم ، [ ص: 563 ] كذلك يبين الله لكم جميع آياته يعني أعلام دينه فيوضحها لكم لئلا يقول المضيع المفرط فيما ألزمه الله : "لم أعلم حكم الله في ذلك! " "لعلكم تشكرون " ، يقول : لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم .

القول في تأويل قوله ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( 90 ) )

قال أبو جعفر : وهذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، تشبها منهم بالقسيسين والرهبان ، فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابه ينهاهم عن ذلك فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ، [ سورة المائدة : 87 ] . [ ص: 564 ]

فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات . ثم قال : ولا تعتدوا أيضا في حدودي ، فتحلوا ما حرمت عليكم ، فإن ذلك لكم غير جائز ، كما غير جائز لكم تحريم ما حللت ، وإني لا أحب المعتدين . ثم أخبرهم عن الذي حرم عليهم مما إذا استحلوه وتقدموا عليه ، كانوا من المعتدين في حدوده فقال لهم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، إن الخمر التي تشربونها ، والميسر الذي تتياسرونه ، والأنصاب التي تذبحون عندها ، والأزلام التي تستقسمون بها "رجس " ، يقول : إثم ونتن سخطه الله وكرهه لكم "من عمل الشيطان " ، يقول : شربكم الخمر ، وقماركم على الجزر ، وذبحكم للأنصاب ، واستقسامكم بالأزلام ، من تزيين الشيطان لكم ، ودعائه إياكم إليه ، وتحسينه لكم ، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم ، ولا مما يرضاه لكم ، بل هو مما يسخطه لكم "فاجتنبوه " ، يقول : فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه "لعلكم تفلحون " ، يقول : لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم بترككم ذلك .

وقد بينا معنى"الخمر " ، و"الميسر " ، و"الأزلام " فيما مضى ، فكرهنا إعادته .

وأما " الأنصاب " ، فإنها جمع " نصب " ، وقد بينا معنى " النصب " بشواهده فيما مضى .

[ ص: 565 ] وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس " في هذا الموضع ، ما : -

12510 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "رجس من عمل الشيطان " ، يقول : سخط .

وقال ابن زيد في ذلك ، ما : -

12511 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "رجس من عمل الشيطان " ، قال : "الرجس " ، الشر .

القول في تأويل قوله ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ( 91 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ، ويحسن ذلك لكم ، إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح ، ليعادي بعضكم بعضا ، ويبغض بعضكم إلى بعض ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان ، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام "ويصدكم عن ذكر الله " ، يقول : ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم ، وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم "وعن الصلاة " ، التي فرضها عليكم ربكم "فهل أنتم منتهون " ، [ ص: 566 ] يقول : فهل أنتم منتهون عن شرب هذه ، والمياسرة بهذا ، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لأوقاتها ، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟ .

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب ، وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله تحريمها .

ذكر من قال ذلك :

12512 - حدثنا هناد بن السري ، قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"البقرة" : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) ، [ سورة البقرة : 219 ] . قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت الآية التي في"النساء" : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] . قال : وكان منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربن الصلاة السكران! قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"المائدة" : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون" . فلما انتهى إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " قال عمر : انتهينا انتهينا !!

[ ص: 567 ] 12513 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب بالعقل والمال! ثم ذكر نحو حديث وكيع .

[ ص: 568 ] 12514 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر بن الخطاب : اللهم بين لنا ، فذكر نحوه .

12515 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

12516 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير ، قال ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

12517 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ سورة البقرة : 219 ] ، فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ، ونستغفر من ذلك! . حتى أتى رجل صلاة المغرب ، فجعل يقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ سورة الكافرون ] . فجعل لا يجوز ذلك ،

ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ سورة النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون الخمر ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون . فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره : "إنما [ ص: 569 ] الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " ، فقالوا : انتهينا يا رب !

وقال آخرون : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص . وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلحيى جمل ، ففزر أنفه ، فنزلت فيهما .

ذكر الرواية بذلك :

12518 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه سعد أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعانا . قال : فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم! قال : فأخذ رجل من الأنصار لحيى جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف . قال : فنزلت هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " إلى آخر الآية .

[ ص: 570 ] 12519 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، قال حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد قال ، قال سعد : شربت مع قوم من الأنصار ، فضربت رجلا منهم أظن بفك جمل فكسرته ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " ، إلى آخر الآية .

12520 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : شربت الخمر مع قوم من الأنصار ، فذكر نحوه .

12521 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن ابن شهاب أخبره ، أن سالم بن عبد الله حدثه : أن أول ما حرمت الخمر ، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابا له شربوا فاقتتلوا ، فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " ، الآية .

[ ص: 571 ] وقال آخرون : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار .

ذكر من قال ذلك :

12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا . حتى إذا ثملوا ، عبث بعضهم على بعض . فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل بي هذا أخي فلان ! وكانوا إخوة ، ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا ! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلفين : رجس في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ! فأنزل الله : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) [ سورة المائدة : 93 ] ، . الآية . [ ص: 572 ]

12523 - حدثنا محمد بن خلف قال ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، عن أبي تميلة ، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ، [ ونحن على رملة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ] ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " ، إلى آخر الآيتين ، "فهل أنتم منتهون " ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"؟ قال : وبعض القوم شربته في يده ، قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام . ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا! انتهينا ربنا ! [ ص: 573 ]

وقال آخرون : إنما كانت العداوة والبغضاء ، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر ، لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر . فلذلك نهاهم الله عن الميسر .

ذكر من قال ذلك :

12524 - حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال بشر : وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيقعد حريبا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره ، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء ، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه . والله أعلم بالذي يصلح خلقه .

[ ص: 574 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى قد سمى هذه الأشياء التي سماها في هذه الآية " رجسا " ، وأمر باجتنابها .

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية ، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر ، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاري عند انتشائهما من الشراب ، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يسره وبغضه ، وليس عندنا بأي ذلك كان خبر قاطع للعذر . غير أنه أي ذلك كان فقد لزم حكم الآية جميع أهل التكليف ، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية . فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فرض على جميع من بلغته الآية من التكليف اجتناب جميع ذلك ، كما قال تعالى : " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " .

القول في تأويل قوله ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( 92 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، في اجتنابكم [ ص: 575 ] ذلك ، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجركم عنه من هذه المعاني التي بينها لكم في هذه الآية وغيرها ، وخالفوا الشيطان في أمره إياكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره ، فإنه إنما يبغي لكم العداوة والبغضاء بينكم بالخمر والميسر

"واحذروا " ، يقول : واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرمها عليكم في هذه الآية وغيرها ، أو يفقدكم عند ما أمركم به ، فتوبقوا أنفسكم وتهلكوها " فإن توليتم " ، يقول : فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به ، وتنتهوا عما نهيناكم عنه ، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله ، واتباع ما جاءكم به نبيكم " فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " ، يقول : فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنذارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم ، مبينة لكم بيانا يوضح لكم سبيل الحق ، والطريق الذي أمرتم أن تسلكوه . وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية ، فعلى المرسل إليه دون الرسل .

وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولى عن أمره ونهيه . يقول لهم تعالى ذكره : فإن توليتم عن أمري ونهيي ، فتوقعوا عقابي ، واحذروا سخطي .

[ ص: 576 ] القول في تأويل قوله ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( 93 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " : كيف بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنا نشربها؟ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك ، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرمه عليهم " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، يقول : إذا ما اتقى الله الأحياء منهم فخافوه ، وراقبوه في اجتنابهم ما حرم عليهم منه ، وصدقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم ، فأطاعوهما في ذلك كله " وعملوا الصالحات ، يقول : واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم " ثم اتقوا وآمنوا " ، يقول : ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا ، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به ، ولم يغيروا ولم يبدلوا"ثم اتقوا وأحسنوا " ، يقول : ثم خافوا الله ، فدعاهم خوفهم الله إلى الإحسان ، وذلك "الإحسان " ، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال ، ولكنه نوافل تقربوا بها إلى ربهم طلب رضاه ، وهربا من عقابه "والله يحب المحسنين " ، يقول : والله يحب المتقربين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها .

[ ص: 577 ] فالاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق ، والدينونة به والعمل ، والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق ، وترك التبديل والتغيير ، والاتقاء الثالث : هو الاتقاء بالإحسان ، والتقرب بنوافل الأعمال .

فإن قال قائل : ما الدليل على أن "الاتقاء " الثالث ، هو الاتقاء بالنوافل ، دون أن يكون ذلك بالفرائض؟

قيل : إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها ، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها ، وصدقوا الله ورسوله في تحريمها ، وعملوا الصالحات من الفرائض . ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكره في آية واحدة .

وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه ، جاءت الأخبار عن الصحابة والتابعين .

ذكر من قال ذلك :

12525 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : يا رسول الله ، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " ، الآية .

[ ص: 578 ] 12526 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل بإسناده ، نحوه .

12527 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال ، أخبرنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينا أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دجانة ، حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر . فسمعنا مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، فأصبنا من طيب أم سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " ، إلى قوله : " فهل أنتم منتهون " . فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية ، فقال رجل لقتادة : سمعته من أنس بن مالك ؟ قال : نعم ! قال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : نعم ! وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب !

[ ص: 579 ] 12528 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما حرمت الخمر قالوا : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، الآية .

12529 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، قال البراء : مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريمها ، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، الآية .

12530 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : نزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما ، فيمن قتل ببدر وأحد مع محمد صلى الله عليه وسلم .

12531 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لي : أنت منهم .

12532 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، إلى قوله : " والله يحب المحسنين لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة " ، بعد "سورة الأحزاب " ، قال في ذلك [ ص: 581 ] رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصيب فلان يوم بدر ، وفلان يوم أحد ، وهم يشربونها ! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة ! فأنزل الله تعالى ذكره : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين " ، يقول : شربها القوم على تقوى من الله وإحسان ، وهي لهم يومئذ حلال ، ثم حرمت بعدهم ، فلا جناح عليهم في ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #570  
قديم 17-02-2025, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (570)
صــ 1 إلى صــ 15






12533 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، قالوا : يا رسول الله ، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ! فأنزل الله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، يعني قبل التحريم ، إذا كانوا محسنين متقين ، وقال مرة أخرى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " من الحرام قبل أن يحرم عليهم ، إذا ما اتقوا وأحسنوا ، بعد ما حرم ، وهو قوله : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) ، [ سورة البقرة : 275 ] .

12534 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم الخمر ، فلم يكن عليهم فيها جناح قبل أن تحرم . فلما حرمت قالوا : كيف تكون علينا حراما ، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا [ ص: 582 ] " ، يقول : ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرمها ، إذا كانوا محسنين متقين " والله يحب المحسنين" .

12535 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، لمن كان يشرب الخمر ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدر وأحد .

12536 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " ، الآية ، هذا في شأن الخمر حين حرمت ، سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية .

القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله "ليبلونكم الله بشيء من الصيد " ، يقول : ليختبرنكم الله "بشيء من الصيد " ، يعني : ببعض الصيد .

وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء ، لأنه لم يبلهم بصيد البحر ، وإنما ابتلاهم بصيد البر ، فالابتلاء ببعض لا بجميع .

[ ص: 583 ] وقوله : "تناله أيديكم " ، فإنه يعني : إما باليد ، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح ، وذلك كالحمر والبقر والظباء ، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم .

وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12537 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " ، قال : "أيديكم " ، صغار الصيد ، أخذ الفراخ والبيض ، و"الرماح " قال : كبار الصيد .

12538 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

12539 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " تناله أيديكم ورماحكم " ، قال : النبل"رماحكم " ، تنال كبير الصيد ، "وأيديكم " ، تنال صغير الصيد ، أخذ الفرخ والبيض .

12540 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد في قوله : " ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " ، قال : ما لا يستطيع أن يفر من الصيد .

[ ص: 584 ] 12541 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد . وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .

12542 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أيديكم ورماحكم ، قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم ، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم . فنهاهم الله أن يقربوه .

12543 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن حميد الأعرج ، وليث ، عن مجاهد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ، قال : الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفر .

القول في تأويل قوله ( ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( 94 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ليختبرنكم الله ، أيها المؤمنون ، ببعض الصيد في حال إحرامكم ، كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به ، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه ، ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه ، ويجتنبه خوف عقابه "بالغيب " ، بمعنى : في الدنيا ، بحيث لا يراه . .

وقد بينا أن "الغيب " ، إنما هو مصدر قول القائل : "غاب عني هذا الأمر [ ص: 585 ] فهو يغيب غيبا وغيبة " ، وأن ما لم يعاين ، فإن العرب تسميه "غيبا" .

فتأويل الكلام إذا : ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرمها عليه من الصيد وغيره ، بحيث لا يراه ولا يعاينه .

وأما قوله : "فمن اعتدى بعد ذلك " ، فإنه يعني : فمن تجاوز حد الله الذي حده له ، بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام ، فاستحل ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله"فله عذاب ، من الله "أليم " ، يعني : مؤلم موجع .

الجزء ال11
[ ص: 7 ] القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله " لا تقتلوا الصيد " الذي بينت لكم ، وهو صيد البر دون صيد البحر " وأنتم حرم " يقول : وأنتم محرمون بحج أو عمرة .

و " الحرم " جمع " حرام " والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد . تقول : " هذا رجل حرام " و " هذه امرأة حرام " . فإذا قيل : " محرم " قيل للمرأة : " محرمة " . و " الإحرام " هو الدخول فيه ، يقال : " أحرم القوم " إذا دخلوا في الشهر الحرام ، أو في الحرم .

فتأويل الكلام : لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة .

وقوله : " ومن قتله منكم متعمدا " فإن هذا إعلام من الله - تعالى ذكره - عباده حكم القاتل من المحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمدا .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة " العمد " الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارة والجزاء في قتله الصيد . [ ص: 8 ]

فقال بعضهم : هو العمد لقتل الصيد ، مع نسيان قاتله إحرامه في حال قتله . وقال : إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدا قتله ، فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله .

قالوا : وهذا أجل أمرا من أن يحكم عليه ، أو يكون له كفارة .

ذكر من قال ذلك :

12544 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " من قتله منكم ناسيا لإحرامه ، متعمدا لقتله ، فذلك الذي يحكم عليه . فإن قتله ذاكرا لحرمه ، متعمدا لقتله ، لم يحكم عليه .

12545 - حدثنا ابن وكيع و ابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، في الذي يقتل الصيد متعمدا وهو يعلم أنه محرم ، ويتعمد قتله ، قال : لا يحكم عليه ، ولا حج له . وقوله : " ومن قتله منكم متعمدا " قال : هو العمد المكفر ، وفيه الكفارة والخطأ ، أن يصيبه وهو ناس لإحرامه ، متعمدا لقتله أو يصيبه وهو يريد غيره . فذلك يحكم عليه مرة .

12546 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا " غير ناس لحرمه ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة . ومن قتله ناسيا ، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر .

12547 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " ومن قتله منكم متعمدا " قال : متعمدا لقتله ، ناسيا لإحرامه . [ ص: 9 ]

12548 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا الفضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد قال : العمد هو الخطأ المكفر .

12549 - حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا يونس بن محمد قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا ليث قال : قال مجاهد : قول الله : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " قال : فالعمد الذي ذكر الله - تعالى ذكره - : أن يصيب الصيد وهو يريد غيره فيصيبه ، فهذا العمد المكفر ، فأما الذي يصيبه غير ناس ولا مريد لغيره ، فهذا لا يحكم عليه . هذا أجل من أن يحكم عليه .

12550 - حدثنا ابن وكيع ، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الهيثم ، عن الحكم ، عن مجاهد : أنه قال في هذه الآية : " ومن قتله منكم متعمدا " قال : يقتله متعمدا لقتله ، ناسيا لإحرامه .

12551 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي قال : حدثنا شعبة ، عن الهيثم ، عن الحكم ، عن مجاهد مثله .

12552 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : قال ابن جريج " ومن قتله منكم متعمدا " غير ناس لحرمه ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة . ومن قتله ناسيا لحرمه ، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر .

12553 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : " ومن قتله منكم متعمدا " للصيد ، ناسيا لإحرامه " فمن اعتدى بعد ذلك " متعمدا للصيد يذكر إحرامه .

12554 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا محمد بن أبي عدي قال : حدثنا إسماعيل بن مسلم قال : كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدا ذاكرا [ ص: 10 ] لإحرامه : لم يحكم عليه قال إسماعيل : وقال حماد عن إبراهيم ، مثل ذلك .

12555 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عفان بن مسلم قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " الآية ، فسألته ، فقال : كان عطاء يقول : هو بالخيار ، أي ذلك شاء فعل ، إن شاء أهدى ، وإن شاء أطعم ، وإن شاء صام . فأخبرت به جعفرا وقلت : ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة ، ثم جعل يضحك ولا يخبرني ، ثم قال : كان سعيد بن جبير يقول : يحكم عليه من النعم هديا بالغ الكعبة ، وإنما جعل الطعام والصيام كفارة ، فهذا لا يبلغ ثمن الهدي ، والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة .

12556 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد قال : أخبرني ابن جريج قال : قال مجاهد : " ومن قتله منكم متعمدا " غير ناس لحرمه ، ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة . ومن قتله ناسيا ، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر .

12557 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه ، أو جاهل أن قتله غير محرم ، فهؤلاء الذين يحكم عليهم . فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرم ، وأنه حرام ، فذلك يوكل إلى نقمة الله ، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة .

12558 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " ومن قتله منكم متعمدا " قال : متعمدا لقتله ، ناسيا لإحرامه . [ ص: 11 ]

وقال آخرون : بل ذلك هو العمد من المحرم لقتل الصيد ، ذاكرا لحرمه .

ذكر من قال ذلك :

12559 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان .

12560 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : حدثنا ابن جريج وحدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم عن ، ابن جريج قال : قال طاوس : والله ما قال الله إلا " ومن قتله منكم متعمدا " .

12561 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرني بعض أصحابنا ، عن الزهري أنه قال : نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنة في الخطأ يعني : في المحرم يصيب الصيد .

12562 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " قال : إن قتله متعمدا أو ناسيا ، حكم عليه . وإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة ، إلا أن يعفو الله .

12563 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير قال : إنما جعلت الكفارة في العمد ، ولكن غلظ عليهم في الخطأ كي يتقوا .

12564 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .

12565 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد قال : خبرنا ابن جريج قال : كان طاوس يقول : والله ما قال الله إلا " ومن قتله منكم متعمدا " . [ ص: 12 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما بقوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد " ثم بين حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله ، ولم يخصص به المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه ، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه ، بل عم في التنزيل بإيجاب الجزاء ، كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا . وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ، ولا خبر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا إجماع من الأمة . ولا دلالة من بعض هذه الوجوه .

فإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه ، أو عامدا قتله ناسيا لإحرامه ، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا - تعالى ذكره - ، وهو : مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما .

وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما ، دون القول الذي قاله مجاهد .

وأما ما يلزم بالخطأ قاتله ، فقد بينا القول فيه في كتابنا : كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع . وليس هذا الموضع موضع ذكره ، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل ، وليس في التنزيل للخطأ ذكر ، فنذكر أحكامه . [ ص: 13 ]

وأما قوله : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " فإنه يقول : وعليه كفاء وبدل ، يعني بذلك : جزاء الصيد المقتول . يقول - تعالى ذكره - : فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول ، مثل ما قتل من النعم .

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( فجزاؤه مثل ما قتل من النعم ) .

وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) ، بإضافة " الجزاء " إلى " المثل " وخفض " المثل " .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين " الجزاء " ورفع " المثل " بتأويل : فعليه جزاء مثل ما قتل .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ : ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين " الجزاء " ورفع " المثل " لأن الجزاء هو المثل ، فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه .

وأحسب أن الذين قرأوا ذلك بالإضافة ، رأوا أن الواجب على قاتل الصيد أن يجزي مثله من الصيد بمثل من النعم . وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه ، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتول نظيره من النعم . وإذ كان ذلك كذلك ، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله - تعالى ذكره - على قاتل الصيد ، ولن يضاف الشيء إلى نفسه . [ ص: 14 ] ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه ، بالتنوين ونصب " المثل " . ولو كان " المثل " غير " الجزاء " لجاز في المثل النصب إذا نون " الجزاء " كما نصب " اليتيم " إذ كان غير " الإطعام " في قوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة [ سورة البلد : 14 ، 15 ] وكما نصب " الأموات " " والأحياء " ونون " الكفات " في قوله : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ سورة المرسلات : 25 ، 26 ] ، إذ كان " الكفات " غير " الأحياء " " والأموات " . وكذلك الجزاء لو كان غير " المثل " لاتسعت القراءة في " المثل " بالنصب إذا نون " الجزاء " . ولكن ذلك ضاق ، فلم يقرأه أحد بتنوين " الجزاء " ونصب " المثل " إذ كان " المثل " هو " الجزاء " وكان معنى الكلام : ومن قتله منكم متعمدا فعليه جزاء هو مثل ما قتل من النعم .

ثم اختلف أهل العلم في صفة " الجزاء " وكيف يجزي قاتل الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم . .

فقال بعضهم : ينظر إلى أشبه الأشياء به شبها من النعم ، فيجزيه به ، ويهديه إلى الكعبة .

ذكر من قال ذلك :

12566 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " قال : أما " جزاء مثل ما قتل من النعم " فإن قتل نعامة أو حمارا [ ص: 15 ] فعليه بدنة . وإن قتل بقرة أو أيلا أو أروى فعليه بقرة . أو قتل غزالا أو أرنبا فعليه شاة . وإن قتل ضبا أو حرباء أو يربوعا ، فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن .

12567 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن ابن مجاهد قال : سئل عطاء : أيغرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال : أليس يقول الله - تعالى ذكره - : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " ؟

12568 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا ابن جريج قال : قال مجاهد : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " قال : عليه من النعم مثله .

12569 - حدثنا هناد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " قال : إذا أصاب المحرم الصيد ، وجب عليه جزاؤه من النعم . فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، فإن لم يجد جزاءه قوم الجزاء دراهم ، ثم قوم الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما . قال : وإنما أريد بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعاما وجد جزاء .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 353.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 347.25 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]