|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#111
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (111) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (15) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): الفائدة الرابعة: الآية الكريمة تبيِّن بجلاء حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو: البراءة من الشرك وأهله، وتوجيه الوجه والقصد والإرادة لله رب العالمين لا شريك له، فالحنيفية التي صَرَّح بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- تقتضي الميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه مما يُعبَد من دونه، وهذه البراءة وهذا الإعراض عما يعبد من دون الله يهدم فكرة مساواة الملل؛ سواء كانت الملل المنسوبة إلى الأنبياء، أو تلك الأرضية التي اخترعها الناس دون انتساب إلى الرسول. ومن ذلك: الدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد، وما يحوم حولها، مثل: فكرة الأخوة الإنسانية التي تقوم عليها الماسونية وما شابهها من الدعوات، ونظرية الدِّين الموحد united religion التي يروج لها "بابا الفاتيكان الحالي"، ويحاولون جر المسلمين إليها. ولا يشك مسلم في بطلان هذه الدعاوى، بل في مناقضتها لأصل دين الإسلام، بحيث يكون مَن قَبِلها هادمًا لشهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"؛ مما يقدح في دينه ويصرِّح بردته عن دين الإسلام. قال ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا" (مراتب الإجماع). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام". وقال أيضًا -رحمه الله-: "وقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: أن مَن بلغته رسالته فلم يؤمن به فهو كافر؛ لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد؛ لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة". وقال الحجاوي -رحمه الله- في الإقناع ضمن ما يوجب الردة: "أو لم يكفِّر مَن دان بغير الإسلام: كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صَحَّح مذهبهم، أو قال قولًا يُتوصَّل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة؛ فهو كافر. وقال الشيخ -يعني ابن تيمية رحمه الله-: مَن اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يحب ذلك أو يرضاه أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة؛ فهو كافر. وقال في موضع آخر: مَن اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله؛ فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم وعرف ذلك؛ فإن أصر صار مرتدًا" (انتهى). ففكرة الدين الإبراهيمي لا بد من مقاومتها والحذر منها، وتحذير المسلمين من قبولها، خصوصًا مع ما تتضمنه من هدم القومية والوطنية -والتي قد نختلف معها في ترتيب أولويات الولاء؛ إلا أن عامتها قد استقر الأمر فيها على الالتزام بالشريعة الإسلامية كأصل وإن تأخر التطبيق-، ولا شك أن هدمها لإقامة ما يسمونه: "بالولايات المتحدة الإبراهيمية" هو هدم وتضييع للهوية العربية والإسلامية لهذه الدول وشعوبها؛ فلا يجوز إلا محاربة هذه الفكرة وتوابعها، مثلما سموه: "بيت العائلة الإبراهيمي"؛ الذي أرادوا حسب ما أعلنوا قبول عبادات الآخرين، واعتبار المسجد والكنيس والكنيسة كلها بيوت الله، وقد نقلنا -قبل هذه الفقرة- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيمَن اعتقد عن دور عبادتهم أنها بيوت الله. المسألة الخامسة: البراءة مِن الشرك تستلزم البراءة من المشركين، وليس كما يحاول بعض الناس في زماننا أن يزعم حبه للكفار، ولكنه يبغض كفرهم، محاولين التودد لأشخاصهم في ذلك! وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- وجوب بغضهم والبراءة منهم لأشخاصهم طالما ظلوا على كفرهم، قال -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4). وقال -سبحانه وتعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22). وقد اختلط على هؤلاء -أو تعاموا عنه عمدًا- الفرق بين النصح وحب الخير للناس، وحب هدايتهم، وبين حبهم مع بقائهم على كفرهم؛ فهذا الفرق لا بد منه، فإن النصح الواجب للناس وحب هدايتهم لا يعني حبهم على كفرهم! فنحن نحب الخير للناس؛ لأن الله يحب فعل الخير من جميع الناس، وإن كنا نعلم أنه قَدَّر خلاف ذلك، من وجود الكفر والكافرين؛ قدَّر ذلك لمصالح عظيمة لا تتحقق إلا بوجود الكفر والكافرين؛ فلا بد من الالتزام بالحقيقة الشرعية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني). وأما الحقيقة الكونية فنرضى عن الله -عز وجل- ربًّا مدبِّرًا، ولا نرضى عما لا يرضاه -عز وجل- من الملل والأفراد والمجتمعات الكافرة التي يبغضها -سبحانه-؛ فهو الذي خلقهم، ولكنه يبغضهم، لِمَا قام بهم من وصف الكفر. وأما إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ فإخواننا في الدين، وأما قبل ذلك فهم ليسوا إخوانًا لنا ولا أصدقاء ولا أولياء، وهذه المسألة العظيمة التي لا بد من تحقيقها في واقع الحياة حتى تظل عقيدة التوحيد واضحة ناصعة، ولا يلتبس الأمر على الناس، خصوصًا من صحح ملتهم؛ فكيف يدعوهم إلى الإسلام ويقول لهم: إن الإسلام هو الحق فادخلوا في الإسلام، وهو يقول بقاؤكم على ملتكم ينفعكم عند الله يوم القيامة، وفي الدنيا أنتم إخوان لنا على تلك الحال؟! وأما الأخوة الإنسانية فهي أخوة في النسب، لا تقتضي حبًّا ولا موالاة ولا صداقة حتى يؤمنوا بالله وحده، ولا بد من توضيح هذه المسألة للمسلمين في وسط جو فظيع من التلبيس وإفساد العقائد الذي يمهد للناس قبول هذه الفكرة الخبيثة، مساواة الملل والدين الإبراهيمي الجديد. نسأل الله أن يعيذ المسلمين من شر ذلك كله.
__________________
|
#112
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (112) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (16) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد: الفائدة الأولى: بيَّن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لقومه وجوب الإخلاص في عبادة الله، وجعل الوجه لله أي: قصده وتوجهه إليه بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص، والإخلاص روح العبادة التي تكون بدونه كالجسد الميت، قال ابن القيم -رحمه الله- في منزلة الإخلاص: قال الله -تعالى-ـ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: 5)، وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر: 2)، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الزمر: 14-15)، وقال له: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)، وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2)، قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله -تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110). وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء: 125)، فٍإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان: 23)، وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً) (متفق عليه). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ أَيْ: لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ، وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ، وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ؛ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا، وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه). وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ) (رواه مسلم). وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: "يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا". وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37)، وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: "الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي". وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ. فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ، وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ. فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ، معنى التنقي من مطالعة النفس، أي: مشاهدة فضائلها، وأنها مصدر هذا الخير؛ فهو بمعنى الإعجاب بالنفس، وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ. وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ، فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا. (المقصود من رؤية الإخلاص: أن يظن بنفسه ذلك فهذا تزكية للنفس وإعجاب بها وهذا بلا شك خطر عظيم يدل على نقص الإخلاص). وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ. وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. (معنى ترك العمل من أجل الناس، أي: أن يترك العمل الصالح؛ لأن الناس ينكرونه عليه. والعمل من أجل الناس شرك أي: أنه يعمل العمل الصالح لأجل مدحهم، والأول يكون في مجتمعات منحرفة، والثاني يكون في مجتمعات تعظم الطاعة). قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ" (انتهى بتصرفٍ يسيرٍ من مدارج السالكين). وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في استفتاح صلاته يقول هذه الجملة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا افتتح الصلاة قال: (وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، اللهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) (رواه مسلم بدون لفظ: مسلمًا في أول الدعاء). ولا شك أن هذا يدل على عظم هذا الدعاء، وهذه الكلمة التي قالها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وقالها محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- تبعًا له، فلا ينبغي أن نترك هذا الدعاء على الأقل في صلاة النافلة وقيام الليل مع ما تضمنه من الجمل العظيمة التي تؤسس قواعد التوحيد والإخلاص في قلب العبد المؤمن، وقد سبق شرحه في كتابي: "تأملات إيمانية في الأدعية النبوية.
__________________
|
#113
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (113) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (17) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد: الفائدة الثانية: استدل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- على وجوب إفراد القصد والوجهة لله، وهو توحيد الإلهية وتوحيد الله بأفعال العباد بتوحيد الربوبية؛ توحيد الله بأفعاله -سبحانه-؛ فهو الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، وهذا الاحتجاج كَثُر في القرآن، قال -تعالى- في أول أمر وَرَد في ترتيب القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 21-22). فذكر وجوب إفراد الله بالعبادة، كما انفرد -سبحانه- بالخلق والرزق، ونهى عن الشرك بناءً على ذلك. وقال -تعالى- عن المؤمن في قصة القرية المذكورة في سورة يس: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يس: 22-24). فلأنه وحده الذي فطر العباد، وهو الذي يحيهم ويميتهم، فيجمعهم إليه -سبحانه-؛ فهو وحده المستحق للعبادة، وكيف يستحق غيره العبادة، وهو لا يملك رفع الضر عن عابده إن أراده الله بضر؟! وقال -سبحانه وتعالى- في الاستدلال على وجوب إفراد الله بالعبادة: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ . أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ . أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ . أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور: 35-43). وهذه الحجة هي أوضح الحجج لدى عامة الخلق؛ لأن نظرهم يرشدهم قطعًا إلى وجود فاعل واحد لكل هذا العالم؛ صنعه وخلقه، ودبَّر أمره، ورزق أهله؛ فهو -سبحانه وتعالى- وحده الذي يستحق أن يُعبَد، إذا نظر العباد إلى ذلك. ثم هناك حجة أخرى هي أعظم عند أهل الإيمان، وهي الحنيفية؛ ولذا قال: (حَنِيفًا)، وهذه هي: الفائدة الثالثة: الحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غير الله؛ فتضمن ذلك إثبات حب الله -سبحانه-، الذي هو روح العبادة، فالحب والخضوع والذل ركن العبادة التي لا تصح بدونهم، والعبد إذا وجد قلبه في حب الله -عز وجل- عَرَف حقيقة الألوهية، كما دَلَّ على ذلك توحيد الربوبية، مثل: ماكينة فيها موضع لترسٍ، إذا وُضِعَت تروسٌ أخرى تكسرت الماكينة، وتكسرت التروس؛ فإذا وَضَع صاحبُها الترس الذي وَجد مقاسه مناسبًا، فدارت الماكينة وأنتجت أحسن إنتاج؛ تيقَّن يقينًا أعظم من القياسات التي حسبها قبل ذلك. فهذه قضية الحنيفية والميل إلى الله، فالقلب يشقى ويتعس بتوجهه لغير الله، ويطمئن ويسكن، ويجد أعظم اللذة في عبادته لله -سبحانه وتعالى-. قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشه لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطِي الدنيا وما فيها لم تُسَد تلك الفاقة أبدًا" (مدارج السالكين بتصرف يسير). فحاجة القلب في الميل إلى الله -سبحانه وتعالى- حاجة ضرورية، أعظم من حاجة البدن إلى النَّفَس، وإلى الماء، وإلى الطعام، فكما يهلك البدن بامتناع النَّفَس والهواء، والطعام والشراب، فكذلك يموت القلب إذا لم يكن حنيفًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالميل إلى الله -عز وجل- ضرورة من ضرورات حياة قلب الإنسان. نسأل الله أن يمن علينا بحياة قلوبنا". وقال أيضًا -رحمه الله-: "كلُّ حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه، وكل متحرك؛ فأصل حركته: المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا بأن تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده، كما لا وجود لها إلا بإبداعه وحده، ولهذا قال -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، ولم يقل -سبحانه-: "لما وجدتا ولكانتا معدومتين"، ولا قال: "لعدمتا"؛ إذ هو -سبحانه- قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودهما ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما، فلو كان في العالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله كان يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وتفرده دونه بإلهيته؛ إذ الشركة نقص في كمال الإلهية، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلهًا ناقصًا، فإذا قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده والمقهور ليس بإله، وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ولم يكن تام الإلهية، فيجب أن يكون فوقهم إله قاهر لهما حاكم عليهما، وإلا ذهب كل منهما بما خلق، وطلب كل منهما العلو على الآخر، وفي ذلك فساد أمر السماوات والأرض ومن فيها" (الداء والدواء). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#114
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (114) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (18) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد: الفائدة الرابعة: قوله -تعالى- عن الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، تأكيد على البراءة مِن المشركين بعد أن تبرأ من شركهم في أول كلامه حيث قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، فكان فيها البراءة من الشرك، وهنا قال: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فكان فيها البراءة من المشركين؛ فالبراءة من الشرك كعقيدة ومنهج لا تكفي حتى يتبرأ العبدُ من المشركين؛ بأن يبغضهم ويعاديهم، ويكفر بهم أنفسهم، كما قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5). فتأمل في قول -تعالى- عن المؤمنين: (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ ليتضح لك نفس ما في هذه الفائدة العظيمة من قوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ ولتعلم بطلان مَن يعلن ود الكافرين ومحبتهم، ويزعم أنه لا يحب عقيدتهم وكفرَهم، وأن هذه المحبة هي مِن حسن العشرة والبر والقسط الذي أمر الله به! وهذا من الباطل؛ فإن الله -عز وجل- قال بعد آية الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه، قال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فأمر بالبر والقسط ثم نهى عن المحبة والموالاة، فقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9)، مع أن الآيات نزلت في قومٍ كان بيننا وبينهم عهد، كما جاءت أم أسماء في الهدنة التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين في الحديبية تريد زيارة ابنتها، وتريد برها وصلتها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ) (متفق عليه)، ونزلت هذه الآية. وأما الذين يريدون أن يفرِّقوا بين الشرك فيُبغَض، وبين المشركين فيُحبون ويُوادون؛ كأن الشرك شيءٌ في الهواء ليس له ارتباط بالأرض وبالأشخاص؛ فهذا مِن أبطل الباطل! كما دخل أحدهم في مداخلة هاتفية في حوارٍ كان بيني وبين أحد القساوسة، وكان يطعن في الدعوة السلفية، ويزعم أنها تأمر بقتل النصارى والاعتداء على أموالهم وكنائسهم، فدخلت في المداخلة، وقلتُ له: إن هذا الكلام كذب. فنحن لا نأمر بقتل النصارى، ولا نجيز ذلك؛ لأنهم مُعَاهَدون معصومون، ولا نعتدي على كنائسهم ولا على أموالهم، بل حمينا أنفسهم وأملاكهم ومحلاتهم أثناء الفوضى التي حَدَثَتْ بعد انهيار الشرطة في يوم 28 يناير 2011م، فتعرَّضتِ المحلات للنهب والسطو، فقلنا: أننا سنحمي بيوت وأملاك ومحلات المسلمين والنصارى ضد من يسطو عليها. فقال: دعنا من ذلك، وسأسألك سؤالًا: هل تحبني؟ فقلتُ له: لا يمكنني أن أحب مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكذب القرآن. فدخل هذا المنتسِب للعِلْم والدعوة، وهو صوفي أشعري -فيما يزعم-، فقال للقس: إني أحبك جدًّا يا أنبا فلان، وإن كنتُ لا أوافق على دينك، أو نحو ذلك! وكذا آخر كَثُرت كتابته في حبِّ جميع البشر؛ مسلمهم وكافرهم، وإنما نعتقد بطلان عقائدهم، ثم تدرَّج به الحالُ في مقتل الصحفية "شيرين أبو عاقلة"، فقال هو وغيره بأنها شهيدة، وأنه لا يلزم وصف الإسلام للحكم على شخصٍ بالشهادة، وجوزوا، بل استحبوا الترحم عليهم، مع أن الترحم أعظم من الاستغفار الذي نهى الله -عز وجل عنه- في القرآن! بل واستنكروا على المنكرين للترحم والدعاء للكفار، وقد رحلوا عن هذه الدنيا على الكفر؛ فلم يبقَ مِن الترحم إلا طلب الرحمة في الآخرة، وهذه ليس لها معنى إلا دخول الجنة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ) (متفق عليه). فالاستغفار يعني عدم المعاقبة على الذنوب وسترها، وقد قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وأما الترحم فمعناه: نيل الرحمة وليس فقط ترك المعاقبة، والجنة رحمة الله في الآخرة. وذاك الآخر الذي ترحَّم على بابا الفاتيكان حين هلك، وأثنى عليه لخدمة دينه! وكل هذا الباطل المنكر الذي وَقَع فيه هؤلاء، وغيرهم المئات أو آلاف، وتبعهم ربما ملايين؛ بسبب فصلهم بين الشرك والمشركين، واعتبارهم محبوبين لا مانع من مودتهم وموالاتهم إذا كنا نتبرأ من الشرك! وزعموا أن هذا من البر والقسط، وليس هذا من معنى البر ولا القسط؛ فإن الموافقة على الباطل ومحبة أهله هي مِن الموالاة التي نَهَى الله عنها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني). والمجمع عليه بين المسلمين: عدم جواز التوادِّ والحب، والترحم والاستغفار للمشركين؛ قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) (المجادلة: 22). فرغم وجود المودة الطبيعية بالأبوة والبنوة والأخوة، والعشيرة، ومع ذلك أوجب الله -عز وجل- على المؤمنين أن لا يودوا الكفار؛ بسبب كفرهم، وقال -سبحانه وتعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي: بموت أبيه على الكفر (تَبَرَّأَ مِنْهُ). وقال -سبحانه وتعالى- في أبي طالب لما مات على الكفر، واستغفر له النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول النهي: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56). فرغم وجود المحبة الفطرية؛ لكونه عمه، ولكونه كان يدافع عنه؛ إلا أن الله نهاه عن الاستغفار والدعاء له، وأخبر أنه من أصحاب الجحيم. ولا يتصور التفريق بين الشرك والمشركين؛ إلا في مسلم نطق الشهادتين، واعتقد التوحيد إجمالًا، ونبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إجمالًا ثم جهل، أو تأول، أو أخطأ، أو أُكْرِه على كفر أو شرك؛ فقاله أو فعله أو اعتقده؛ فهو معذور في أمر التكفير: بالخطأ، والإكراه، والنسيان، والجهل، والتأويل، وكذا الصغر، والجنون؛ لنصوص الأحاديث الصحيحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي: الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) (الأنعام: 19)، فلا بد أن يبلغه القرآن حتى يكون منْذَرًا؛ وإلا كان معذورًا بجهله؛ لعدم البلاغ. أما مَن بلغته الحجة، وانتفت عنه الأعذار؛ لاستيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه، فلا بد أن يُعامَل بناءً على ذلك الكفر، ووجبتِ البراءةُ منه، وإظهار العداوة والبغضاء أبدًا حتى يؤمنَ بالله وحده. ولا بد أن يعلمَ في هذا المقام: أن المسالمة وترك القتال حتى ولو بالدخول في سلطان الإسلام بأوثق المواثيق: بعقد الذمة وبذل الجزية؛ فضلًا عمَّا دون ذلك من العهود: كالهدنة، والأمان، والعهد المطلق؛ هذه العهود لا تنهي العداوة والبغضاء، وإنما تنهي استباحة الدماء والأموال؛ فإن قضيةَ الموالاة ليست مرتبطة بكونهم مسالمين أو محاربين، وإن كانت العداوة للمحاربين أعظم، لكن الحب والرضا، والمتابعة والطاعة، والتشبه بهم، والصداقة لا تحصل لأحدٍ حتى يؤمن بالله وحده، ويتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، مع أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ممَّن أُمِر بقتالٍ أو استباحةِ أموال الكفار، فلا يُتصوَّر أن المقصود هو ترك القتال؛ لأنه لم يكن شرع، وإنما المأمور به ترك الموالاة، وبقاء العداوة والبغضاء وإظهارها، واعتقاد الكفر فيهم حتى يؤمنوا بالله وحده، كما نَصَّتِ الآيةُ الكريمةُ. والله أعلم.
__________________
|
#115
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (115) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (19) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد: الفائدة الأولى: قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) تضمَّن أنهم جادلوه في توحيد الله وبطلان عبادة آلهتهم؛ يريدون إثبات أن آلهتهم خير من إلهه وأولى بالعبادة منه، وقد جادلهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحجة؛ رغم غرابة محاججتهم عن عقيدة باطلة، يظهر لكلِّ عاقل بطلانها، واستفهامه عن محاججتهم إياه للإنكار والتعجب! وبالفعل والله إنه لأمر عجيب أن تجدَ مَن يجادل عن الباطل، ويطلب إقامة الحجة على عبادة الأصنام المنحوتة بأيديهم التي لا تنطق، وهم يعلمون أنها لا تنطق، ولا تهدي سبيلًا! ولا أرجل لهم يمشون بها، ولا أيدي لهم يبطشون بها، ولا أعين لهم يبصرون بها، ولا آذان لهم يسمعون بها، ثم يخوِّفونه بها أن تصيبه بسوءٍ وأذى كخبلٍ أو جنونٍ، أو مرض، أو قتل، وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شيئًا، كما قال قوم هود -عليه السلام- له: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (هود:54-56). وكلما مَرَّ المرء على هذا الموضع، يتعجب فعلًا من مجادلة أهل الباطل عن باطلهم في كلِّ زمان مع وضوح الأمر، ولكنه الخذلان، وعدم التوفيق وعدم الهداية من الله، والطبع على القلوب والعقول حتى تظن الحق باطلًا والباطل حقًّا إلى هذه الدرجة! وإلى يومنا هذا يجادلُ أهلُ الباطل عن باطلهم -رغم البيان التام-؛ فالملحدون يجادلون عن إلحادهم، رغم أن قضيةَ إثبات فعلٍ بلا فاعلٍ، أو لجمادات الطبيعة التي يشاهدون كلَّ لحظة عجزها أشد من جهالة قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في عبادة أصنامهم، مع أن الباحثين عن الآثار لو وجدوا تمثالًا مدفونًا في الأرض؛ لقالوا: بالتأكيد نحته الفراعنة، أو اليونان، أو الرومان، ولم يقولوا نحتته الطبيعة! فكيف بهذا الخلق العظيم؟! (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وكيف بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس؟! وعُبَّاد البقر: يجادلون إلى يومنا هذا عن فضل الأبقار واستحقاقها للعبادة؛ رغم أنها موجودة في الجاموس والإبل، وربما منافع فيهما أكثر، ومع ذلك يذبحون الجاموس، ويذبحون مَن ذبح البقرة، ويمنعون المسلمين من الصلاة في مساجدهم! رغم أن الهند كلها كانت مملكة للمسلمين، حتى جاء الاحتلال البريطاني فغيَّر وبدَّل ومكَّن الهندوس، مع أن بعض بلاد المسلمين أسسوا لهم معابد هندوسية شركية؛ لإظهار التسامح المزعوم مع الشرك بالله وعبادة غيره، بل يجامل أحدهم ويداهن في الدِّين بأن يوشوش البقرة المقدسة -بزعمهم!- كما وشوشتها المرأة التي تطلب منها ما تريد، وتدعوها من دون الله! ففعل الضال فعلها مداهنة لهم، ومجاملة للباطل! واليهود: يجادلون عن باطلهم في تكذيب عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم-، وأن الأمة اليهودية فقط هي المستحقة للدِّين، وباقي البشر يجب أن يكونوا عبيد العبيد لهم؛ رغم أن المسلمين العرب ساميون مثلهم، وأدلة نبوة عيسى وموسى -صلى الله عليه وسلم- أعظم الأدلة، وهي موجودة عندهم في التوراة والإنجيل، ويقرأون أن الله -عز وجل- يستعلن من جبال فران، وجبال فران هي جبال الجزيرة العربية التي نزل نور الوحي فيها على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في مكة أولًا ثم المدينة، وأجدادهم قد أتوا إلى يثرب فرارًا من بختنصر انتظارًا للنبي الموعد الذي يعلن كلَّ الحقائق عن الله -عز وجل-، وكمال الشريعة الإسلامية؛ عقيدة وعبادة ومعاملة، وأخلاقًا وسلوكًا، وتطهيرًا للقلوب من أمراضها، وإحياءً لها: بمعرفة الله ومحبته، وعبادته، وخوفه ورجائه، لا ينازع فيها عاقل، بالمقارنة إلى كل الكتب السابقة. والنصارى: يجادلون عن باطلهم في ألوهية المسيح والروح القدس؛ رغم أنهم يقرأون نصوص التوراة والإنجيل، بل وأقوال المسيح نفسه إلى الآن في أناجيلهم بعد التحريف، بإثبات التوحيد وبطلان الشرك، ولعن المصلوبين، وقبول الله توبة التائبين قبل نزول المسيح دون ذبيحة إلهية، ودون ارتكاب جريمة أعظم من كلِّ خطايا البشر ابتداءً من الأكل من الشجرة -بزعمهم!- بصلب الإله ابن الإله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ رغم أنهم سمعوا وقرأوا قول المسيح -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل: "أي الوصايا هي أول الكل؟ قال: الرب إلهنا رب واحد، كما هو مكتوب، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب". ومع كل ذلك يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويهمون بأهل الحق كي يأخذوهم، ويوشك الله أن يأخذهم، كما أخذ مَن أرادوا أن يطفئوا نور الله في دعوة الرسل، بأخذ الرسل أو قتلهم، أو أسرهم، أو إخراجهم؛ لإبطال دعوتهم؛ فأخذهم الله؛ فكيف كان عقابه لهم؟! ومع كل هذا، فنحن مأمورون بالجدال بالتي هي أحسن؛ إقامة لحجج الله على عبادة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46). فالدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس؛ مِن أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165)، ولأنه -عز وجل- عزيز حكيم؛ فهو يحب العذر، ولا يعذِّب أحدًا إلا بعد بلوغ الحجة وثبوت المحجة، ويقوم بإظهار الحجة والمجادلة بالتي هي أحسن ورثة الرسل مِن العلماء الأتقياء، الصالحين المصلحين. الفائدة الثانية: قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الآية الكريمة: (وَقَدْ هَدَانِ): فيه شهود فضل الله ونعمته العظيمة على عبده المؤمن بالهداية؛ هداية التوفيق والإسعاد بمعرفة التوحيد وبطلان الشرك، وإثبات النبوة والرسالة للأنبياء، ولا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا وهو شاهد لهذه الهداية، قال تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 42-43). وقد تكرَّر هذا المعنى من كلام إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الرسل، قال -تعالى- عن إبراهيم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 75-80)، الآيات. وقال -سبحانه وتعالى- عن الرسل في مجادلتهم لقومهم: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 10-12). وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161). وهذا الشهود لفضل الله بالإيمان تحقيق للإيمان بالقدر، فالاهتداء الذي هو فعل العبد، قد خلقه الله فيه بفضله ومنِّه، والعبد فاعلٌ الاهتداء والله فاعلٌ للهدى، الله هداه، فالله خَلَق الهدى في قلب عبده المؤمن، وخلق الضلال في قلب الضال الكافر، وهو أعلم بالشاكرين وهو أعلم بالظالمين، ولولا أن الله أضلهم ما حاجوا أنبياءهم ورسلهم في أوضح اليقينيات. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#116
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (116) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (20) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد: الفائدة الثالثة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، فيه دليل على حرمة الخوف من غير الله، فإن كان ما يُخَوَّف به العبدُ من الطواغيت والآلهة التي يعبدها المشركون، وهي في ظاهر حسِّ الإنسان وعقلِه مع أدلة الشرع لا تملك شيئًا، ولا تصنع شيئًا، فمَن يخافها يخافها بخوف سري وطاعة باطنة، ويتقرَّب بالخوف منها إليها؛ فهو خوف شركي ينافي أصل الإيمان. قال -تعالى-: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، فدل على من خاف هذه الآلهة لم يكن مؤمناً وقال -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)، فلا أضل مِن خوف عبدٍ مِن طواغيت وآلهة وأصنام، لا تملك له شيئًا؛ قد أضله الله -عز وجل- فاعتقد خوفهم! وهذا يدخل فيه: الخوف من القبر وصاحبه؛ أن يصيبه بأذى أو ضر، إذا لم يذهب لزيارته وتعظيمه، والطواف حوله، والذل بين يديه، ودعائه، وطلب قضاء الحاجة منه! وللأسف: هذا ينتشر بين كثيرٍ مِن عُبَّاد القبور المنتسِبين للإسلام؛ بجهلهم، واتباعهم لأحبارهم ورهبانهم وعلماء السوء الذين صوَّروا لهم أن هؤلاء المقبورين هم الذين يدبِّرون الكون، ويملكون الضر والنفع، والشفاء والمرض، والفقر والغنى، والهزيمة والنصر، والإهلاك والحفظ، وكل ذلك مِن شرك الربوبية الذي أدَّى إلى شرك الألوهية بحصول الخوف من دون الله، دون أسبابٍ ظاهرهٍ، وعادة غالبة، وهم يخوِّفون مَن يخالفهم بأن أصحاب القبور سوف يؤذونهم؛ لأنهم ينهون عن سؤالهم وعبادتهم، وكذلك مَن يخوِّفون الناس من الجن، ويدفعونهم إلى طاعتهم المزعومة بالتقرُّب إليهم بالذبح والنذر، والتذلل والتضرع، وتسميتهم أسيادًا، ودعائهم، وطلب دفع الضر ورفعه عنهم، ومقاتلة أعدائهم من الجن أو غيرهم! وقد يستجيبون لهم في مطالب كفرية، يطلبها أولياء الشيطان وعُبَّاد الطواغيت من السحرة والكهنة، كأن يكتبوا القرآن بالنجاسة: كالبول والمني؛ مما يسمونه: السحر السفلي، وكالسجود للجن، وكرفع الصليب على رأسه وصدره؛ ليحققوا له ما يريد مِن الأمن وقضاء الحاجات! ووالله، إن هذا الذي يفعله السحرة والكهنة والدجالون، وما يفعله الناس عندهم؛ لهو من جنس ما يفعله عباد الأوثان الذين حكى الله لنا حالهم بقوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن: 6)، وقد كان أحدهم إذا نزل منزلًا يقول: "أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه"؛ فإن لم يفعل أخذوا متاعه، وربما ألقوه هو شخصيًّا بعيدًا، فزادهم ذلك التعظيم من الإنس إرعابًا للإنس وتلاعبًا بهم، وإرهاقًا لهم، بل والله إن ما يحدث عند السحرة والدجالين في زماننا؛ لهو شر من ذلك؛ فإنهم يطلبون منهم ما هو عبادة صريحة، ويطلبون منهم ما هو كفر صريح -والعياذ بالله-، وقد أبدلنا الله -عز وجل- الذِّكر الحسن العظيم من هذه التُّرهات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) (رواه مسلم). وهذا لأن اللجوء والاستعاذة إنما تكون إلى الله -عز وجل- وبالله، وبأسمائه وصفاته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وكثيرٌ من الناس -للأسف- يعلِّم أولاده الخوف من العفاريت وأنواع الجان، فينشأ الأولاد على هذا الخوف الوهمي الخطير الذي إذا اقترن بالطاعة الباطنة والتعظيم الباطن والتقرُّب إليهم، كان شركًا أكبر -والعياذ بالله- إذا فعلوه بعد البلوغ. وأما الخوف بسبب الأمور الظاهرة: كحرب عُبَّاد الأوثان والطواغيت، ومكرهم وكيدهم؛ فإن هذا الخوف إذا انعقدت أسبابه وظهرت، كان خوفًا طبيعيًّا لا عباديًّا، ككلِّ خوفٍ مِن الأعداء، وما يؤذي من الحيوانات المفترسة، والدواب والهوام السامة، وغيرها، وهذا لا يكون شركًا، بل وقد لا يكون محرمًا، بل قد وَقَع من الأنبياء شيء منه، لكنه لا يستقر في القلب بقوة التوكل على الله، واللجوء إليه -سبحانه-، قال -تعالى- عن موسى وهارون: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 45-46)، فعلَّمهما الله -عز وجل- إذهاب ذلك الخوف باستحضار معية الله -عز وجل-، وأنه -سبحانه- الذي يسمع كلامهما وكلام أعدائهما، ويرى أعمالهما وأعمال أعدائهما، ويعلم أنهما إنما قاما لنصرة دينه، وأن أعداءه يحاربون دينه، وكما قال -سبحانه وتعالى-: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 67-69)، وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). فدلَّ على أنه قد يقع في القلب ابتداءً مع كمال الإيمان، وقد أرشد الشرع إلى التوكل على الله؛ لدفع ضرر مَن يُخْشَى ضرره، وحَذَّر مِن استقراره في القلب ونهى عنه؛ حتى لا يترك الإنسانُ اتباعَ رضوانِ الله، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 173-175). فإذا نقص توكل العبد حتى استقر الخوف في قلبه من أعدائه؛ كان جبنًا مذمومًا، ثم لو أدَّى إلى ترك واجبٍ: كترك الجهاد بالفرار من الزحف، أو فعل محرم دون إكراهٍ معتبر شرعًا؛ كان خوفًا محرمًا، فإن كانت هذه المعصية كفرًا ولم يكن هناك إكراه معتبر؛ كان خوفًا كفريًّا، وفعله الكفر كفرًا، كمَن يتصور أن أعداءه من الظالمين يريدون منه تركَ الإسلام وسبَّ الدِّين ليتركوه دون أذى، فيعلن كفره ويسب الدِّين، ويقرِّب الذباب لأوثانهم ولو لم يعرضوه على إكراه! لحقارة النفس، وانهيار الإيمان في القلب، وانعدام التوكل على الله -والعياذ بالله من ذلك-. اللهم إننا نجعلك في نحور الظالمين، ونعوذ بك من شرورهم. والله المستعان. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#117
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (117) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (21) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). في قوله -تعالى-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فوائد: الفائدة الرابعة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، الاستثناء هنا منقطع عند جمهور المفسِّرين، والمعنى: لا أخاف ما تشركون به؛ إلا لو شاء الله أن يصيبني بضر أو شيء؛ فهو الذي يكون، وليس للآلهة الباطلة صنع فيه، فيكون دالًّا على كمال التعلُّق بالله وصدق التوكل عليه في جلب المناقع ودفع المضار؛ لأن كلَّ مَن سواه لا يملك شيئًا؛ لا ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا؛ لا لنفسه ولا لغيره، كما قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 17-18)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 106- 107). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -سبحانه-: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) (الفرقان: 3). وهناك قول آخر في تفسير الآية ذكره القرطبي وغيره، فقال -رحمه الله-: "والهاء في (بِهِ) يحتمل أن تكون لله -عز وجل-، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) يعني أن الله -تعالى- لا يشاء أن أخافهم. وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا، اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، أَيْ: لَكِنْ أَخَافُ مَشِيئَةَ رَبِّي شَيْئًا مِمَّا أَخَافُهُ، فَذَلِكَ أَخَافُهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ لِقَوْمِهِ إِذْ كَانَ لَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ فِي حِينِ أَنَّهُ يَخْشَى رَبَّهُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْخَشْيَةِ أنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يَعْتَرِفُونَ بِرَبٍّ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مُفْرَغًا عَنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَوْقَاتٍ، أَيْ: لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ: بِأَنْ يُسَلِّطَ رَبِّي بَعْضَهَا عَلَيَّ فَذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّي بِوَاسِطَتِهَا لَا مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَيَّ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحْوَالًا عَامَّةً، أَيْ: إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْهَا". وهذا المعنى المحتمل هو مثل ظاهر قوله -تعالى- عن شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف: 89). قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول جلَّ ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه مِن قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، وتخرَّصنا عليه من القول باطلًا إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ونترك الحق الذي نحن عليه (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذٍ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا. (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فإن يكن سبق لنا في علمه أنَّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فلا بد مِن أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فنحن غير عائدين في ملتكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ثم ذكر بسنده عن السدي في الآية: يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا" (انتهى). قلتُ: وقوله: إن الله لا يشاء الشرك، أي: شرعًا، مع أن لفظ المشيئة لم يرد في معنا الإرادة الشرعية، وإنما ورد في الإرادة الكونية، وقد كثر ذلك في كتاب الله -عز وجل-، وقال -عز وجل-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149)، وقال -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) (الأنعام: 107). وهذا المعنى من معاني التوكل على الله في الثبات على الدِّين، وشهود نفوذ مشيئة الله في إيمان المؤمن وكفر الكافر، وشهود العلم والمشيئة من الله ربنا -سبحانه وتعالى- في تدبير أعمال قلوب عباده وعقائدهم، وتقليب قلوبهم، واجب من واجبات الإيمان، فنحن لا نثق في أنفسنا في الثبات على الدين إلا بالله -عز وجل-، (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وكما قال الصحابة والنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ) (متفق عليه)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكان أكثر قَسَمِه -صلى الله عليه وسلم-: "لا ومقلب القلوب"، وكان يقول: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم). وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، فالعبد يأخذ بالأسباب من العمل الصالح بالاستجابة لأمر الله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، في الطاعات واجتناب المعاصي، ولكنه لا يتوكل على عمله، بل على ربِّه الذي وَسِع كل شيء عِلْمًا؛ فهو وحده الذي يحول بيننا وبين الكفر والفسوق والعصيان، وكم مِن أناسٍ عَمِلوا بالطاعة ثم انقلبوا، قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266). وهذا مَثَل ضربه الله للفساد بعد الصلاح، وللحور بعد الكور؛ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوله في دعاء العودة من السفر، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) (متفق عليه). وهذا المعنى وإن لم يُشِر إليه أكثر المفسرين في تفسير قول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)؛ إلا أنه معنى صحيح في نفسه، عظيم الأهمية في حياة المؤمن، وفي نظره لنفسه، وخوفه من أن يقدِّر الله عليه الكفر والردة، وسوء الخاتمة، وهو يزيل العجب بالعمل، وتوهم الكمال فيه، وتزكية النفس المذمومة، كما قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء: 49). فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك.
__________________
|
#118
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (118) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (22) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد: الفائدة الأولى: لما كان المؤمن يخاف مِن الله وحده؛ فإن الله يؤمِّنه مِن كلِّ مَن سواه فهو يعيش في أمن مع الإيمان؛ فالأمن والإيمان قرينان، والشرك والظلم والخوف قرينان، فالمؤمن في دنياه آمن حتى لو انعقدت أسباب الخوف الطبيعي، فإن الله يدفعها عنه بالتوكل، فيعيش -بفضل الله- آمنًا، وكذلك يكون آمنًا عند احتضاره: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 30-32). وقد ورد في تفسيرها أنها تتنزل على المؤمن عند الاحتضار، وهذا الذي رجحه ابن جرير، وورد أيضاً أنها تتنزل على المؤمن عند خروجه من القبر، والصحيح أن الآية تتضمن الموضعين. قال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ذكر أقوال القائلين بأنها عند الاحتضار وعند القيامة: "وقال زيد بن أسلم: يبشِّرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم. وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع". وكذلك يكون المؤمن آمنًا في قبره، قال الله -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27). وأعمال المؤمن الصالحة تدفع عنه كل أسباب الخوف والضرر. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ؟ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ، فَتَجْعَلُ نَسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27). قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ؟ فَيُقَالُ: الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، فَلَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ قَالُوا قَوْلًا، فَقُلْتُ كَمَا قَالَ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني). وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في صفة بالمدينة، فقال: إني رأيت البارحة عجبًا! رأيت رجلًا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاء ذكر الله فطير الشياطين عنه. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلًا من أمتي يلهث عطشًا، كلما دنا من حوض مُنع وطُرد، فجاءه صيامه شهر رمضان فأسقاه وأرواه. ورأيت رجلًا من أمتي ورأيت النبيين جلوسًا حلقًا حلقًا، كلما دنا إلى حلقة طُرد ومُنع، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلًا من أمتي من بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، وهو متحير في ذلك، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور. ورأيت رجلًا من أمتي يتقي وهج النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترًا بينه وبين النار وظِلًّا على رأسه. ورأيت رجلًا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المؤمنين، إنه كان وَصًولًا لرحمه، فكلِّموه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة. ورأيت رجلًا من أمتي جاثيًا على ركبتيه، وبينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده فأدخله على الله -عز وجل-. ورأيت رجلًا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قِبَل شماله، فجاءه خوفه من الله -عز وجل- فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه. ورأيت رجلًا من أمتي قد خف ميزانه، فجاءه أفراطه -(أي: أولاده الذين ماتوا صغارًا)- فثقلوا ميزانه. ورأيت رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله -عز وجل-، فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلًا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية الله -عز وجل- فاستنقذته من ذلك. ورأيت رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط، يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله -عز وجل- فسَكَّن رعدته ومضى. ورأيت رجلًا من أمتي يزحف على الصراط، يحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته. ورأيت رجلًا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة وغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة: "أن لا إله إلا الله" ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة"، وهذا الحديث قد ضعَّفه غيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ إلا أن له شواهد كثيرة في أحاديث متعددة؛ ولذا استحسنه رغم ضعف الإسناد جماعة من أهل العلم؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن جدًّا"، وقال في الوابل الصيب نحوًا من ذلك. وكذلك يكون آمنًا يوم القيامة من ساعة قيامه من قبره، كما ذكرنا القول بذلك في تفسير قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)، وقد قال -تعالى-: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت: 40)، وقال -تعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل:89). وأعظم أمان يأمنه المؤمن: أمان ربِّه -عز وجل-، حين ينادي عبادَه المؤمنين: (يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف: 68-70). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#119
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (119) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (23) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد: الفائدة الثانية: أن الظلم وأعظمه الشرك؛ إذ هو الظلم الأكبر، فهو سبب الخوف في الدنيا، وفي القبر، وفي الآخرة، فأما في الدنيا: فحتى لو توفرت أسباب الأمن؛ فإن المشرك والظالم في خوفٍ بقدر ظلمه؛ لأن مَن لم يخف مِن الله أخافه الله من كلِّ شيء، قال الله -عز وجل-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 151). فتأمل كيف ذكر الله -عز وجل- أن سبب الخوف والرعب الفظيع الذي ألقي في قلوبهم هو الشرك بالله، وختم الآية بما يدل على أن الظلم هو السبب! فدَلَّ ذلك على: أن كلَّ ظالم له مِن الخوف بقدر ظلمه نصيب، والمشركون لما كانوا ظالمين أنفسهم الظلم الأكبر، كان لهم النصيب الأكبر من الخوف؛ فهو الرعب الذي هو أشد الخوف، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (الأنفال: 12)، والله -عز وجل- قد نَصَر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بالرعب، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) (متفق عليه). ولقد أخبرني مَن أثق بهم عن أحد الظلمة الذي كان مشهورًا بظلم الناس وتعذيبهم، وإدخال الرعب عليهم في بيوتهم أنه أتى إليهم في الصحراء البعيدة، فنام عندهم، فلما استيقظ قال: "هذه أول ليلة أنام بغير منوم منذ ثلاث سنين!". نسال الله العافية. هذا البلاء بسبب الظلم، أفظع وأشد مما يدخلونه في قلوب الناس من الخوف والرعب؛ رغم أن أسباب الأمن متوفرة، والحراسات عظيمة، ومع ذلك؛ فإن الشعور بالأمن إنما هو أمرٌ يقذفه الله -عز وجل- في القلب مع الإيمان، وأما مع الشرك فيكون الرعب والخوف من عند الله -عز وجل-؛ هو الذي يلقيه في القلوب، نعوذ بالله من ذلك. وأما في القبر: فهو في أعظم فزعٍ مِن المَلَكَيْن اللذين يسألانه، وحين يقول: "لا أدري"؛ يضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابًا، وأيضًا هو في فزع من الأصم الأعمى الذي يضربه، ومن الرجل السيئ الوجه الذي يأتيه، فيقول: "أنا عملك السيئ! أبشر بما يسوؤك". روى الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، (وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟) قَالَ هَنَّادٌ: قَالَ: (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ -زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ-: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عز وجل-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) (إبراهيم: 27)، الْآيَةُ ثُمَّ اتَّفَقَا- فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ) قَالَ: (وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ» قَالَ: (وَإِنَّ الْكَافِرَ) فَذَكَرَ مَوْتَهُ، قَالَ: (وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ) قَالَ: (فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا) قَالَ: (وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: (ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا) قَالَ: (فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَيَصِيرُ تُرَابًا) قَالَ: (ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ فهذا أعظم الرعب والخوف الذي يصيب الكافر والظالم في قبره. وأما في الآخرة: فقد قال -عز وجل-: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل: 87)، ففزع يوم القيامة أعظم الفزع، والخوف فيه أعظم الخوف، وهذا للمشرك والكافر؛ خوف لا ينتهي ولا يتوقف! نعوذ بالله مِن ذلك، ونسأل الله العافية. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#120
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (120) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (24) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد: الفائدة الثالثة: روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الذي شَقَّ عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه، هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء لمَن لم يظلم نفسه فشق لك عليهم، فبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله -تعالى-، وحينئذٍ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمَن يلبس إيمانه بهذا الظلم". وهذا لا يمنع أن يؤاخذ أحدٌ بظلمه لنفسه بذنبٍ إذا لم يتب منه، كما دَلَّت عليه أدلة القرآن والسنة في أصحاب الكبائر، بل الذنوب جميعًا؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن: 23)، والآية وإن وردت في الشرك الأكبر أيضًا بدليل قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)؛ فهي تدل على خطر المعصية مطلقًا. وقال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 12)، وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279). وقال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان: 68-70)؛ فدَلَّ ذلك على استحقاق الزاني وقاتل النفس والمشرك لعذاب الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أنه لا يُخَلَّد في النار خلودًا أبديًّا إلا مَن مات على الشرك، كما دَلَّت عليه آية النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48). وقال -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا . وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء: 31-33)، إلى آخر السورة؛ فإن فيها عذاب أصحاب الذنوب، وتحمُّلهم الآثام بقدر ذنوبهم. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث في عذاب القبر: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) (متفق عليه). وأحاديث إخراج عصاة الموحِّدين من النار متواترة، وهي تتضمن دخول بعض الموحدين النار ثم خروجهم منها؛ لذا نقول: إن مَن سَلِم مِن أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومَن لم يسلم مِن ظلمه لنفسه كان له مطلق الأمن والاهتداء؛ بمعنى أصل الأمن، لا الأمن الكامل، أي: أنه لا بد أن يدخل الجنة، لكن قبل ذلك يحصل له مِن نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص مِن إيمانه بظلمه لنفسه. فالظلم التام المطلق وهو الشرك، رافع لمطلق الأمن والاهتداء، ومزيل لأصلهما، ومطلق الظلم أي: ما دون الشرك رافع للأمن المطلق والاهتداء المطلق، أي: الكاملين التامين، والشرك ظلم العبد لنفسه بوضعها في غير موضعها في أعظم أمرٍ خُلِق من أجله، وهو عبودية الله -عز وجل-؛ فبدلًا من عبوديتها لله جعلها تَعْبُد مَن سواه، ولا يصح أن يُقَال: إن الشرك الأكبر ظلم لله، فالله أعلى وأعز من أن يَقْدِر العباد على ظلمه أو ضره أو نفعه، كما قال -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) (رواه مسلم). فعقائدهم الفاسدة لا تغيِّر من الحق شيئًا؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة: 57)، وهذا الأمن والاهتداء لأهل الإيمان الخالص من الشرك يكون في الدنيا والآخرة؛ (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28). وهذه الآية -مع الحديث الشريف في سبب نزولها-: دليل على صحة العمل بمفهوم المخالفة؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- ظنوا أن مفهوم الآية: أن الذين آمنوا ولبسوا إيمانهم بظلم، أولئك ليس لهم أمن ولا اهتداء، فبيَّن لهم -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا مِن العام الذي أُرِيد به الخاص؛ أن لفظة الظلم وَرَدَتْ في سياق النفي فهي في صيغة العموم، لكن أُرِيد به الخاص، وهو الظلم الأكبر بدلالة السُّنة، وهذا يتضمَّن أيضًا العمل بالعموم حتى يأتي المخصص أو يأتي الدليل الذي يدل على أنه عام أريد به الخاص. ولا يجوز ادِّعَاء أن هذا العموم أُرِيد به الخصوص، أو أنه مخصص إلا بالدليل، وهذا الدليل ثابت من السنة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أقرهم على العمل بالمفهوم، وأقرهم على العمل بالعموم حتى بيَّن لهم -صلى الله عليه وسلم- أنه أُرِيد به الخاص، ويبقى الاحتجاج على عذاب أصحاب الذنوب مستفادًا من دليل آخر، كما ذكرناه في بعض أدلة عذاب أصحاب الذنوب، وهي أكثر مِن أن تُحْصَى أو تُجمَع في هذا السياق. وفي هذه الآية -مع هذا الحديث أيضًا-: دليل على أن القرآن لا يجوز تفسيرة إلا بالرجوع إلا السنة؛ فلو فُهِم بمقتضى اللغة العربية وحدها؛ لقلنا: إن أي ظلم للنفس يمنع الأمن والاهتداء بالكلية، وهذا باطل، وإنما هو على مذهب الخوراج، ولكن دَلَّت أدلة السنة بأن هذا -كما ذكرنا- من العام الذي أريد به الخاص، وكذلك دلت أدلة الكتاب والسنة على عذاب بعض أصحاب الذنوب دون أن يُخَلَّدوا في النار، فالذين يقولون: إن القرآن يفسَّر بمقتضى اللغة العربية دون رجوع إلى آيات القرآن وإلى أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ودون أقوال الصحابة، على شفا خطر عظيم، بل على بدعة ضلالة، لا بد وأن يفسَّر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، وما اختلفوا فيه بعد ذلك فيرجَّح بمقتضى اللغة العربية، وليس أنه يُرجَع إلى تفسير القرآن إليها بمجردها دون نَظَرٍ في الأدلة الأربعة. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |