وظيفة الاستحسان في الفكر الأصولي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          "المواقف المصيرية - والأمراض القلبية - وسوء الخاتمة!" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 294 )           »          منهاج السنة النبوية ( لابن تيمية الحراني )**** متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 150 - عددالزوار : 66254 )           »          مَحْظوراتِ الْإِحْرامِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 31 )           »          اغتنام وقت السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          الملل آفة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 32 )           »          الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 33 )           »          عظمة الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          في انتظار الفرج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-11-2020, 08:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,472
الدولة : Egypt
افتراضي وظيفة الاستحسان في الفكر الأصولي

وظيفة الاستحسان في الفكر الأصولي
د. كمال القصير











الاستحسان ذو وظيفةٍ مقاصدية ظاهرةٍ، من خلال تتبُّع أنواعه وتطبيقاته، كما لا نبالغ إذا قلنا: إن الاستحسان يعتبر أهمَّ وظيفةٍ أصولية بعد القياس؛ من حيث قدرتُه على إيجاد المخارج للأقيسة والقواعد العامة جوابًا على القضايا المستجدَّة والنوازل.







يمثل الاستحسان الجانبَ المنهجيَّ في المنظومة الأصولية، ويُقدِّم حلولًا للعَلاقات بين مكونات أصول الفقه، بين العموم والخصوص، والقواعد والاستثناءات، والموازنة بين أنواع الأقيسة، وإظهار دقيقها وخفيِّها، قويِّها وضعيفها، في عملية استنباط الأحكام.







وهو لا يشبه باقي الأدلة الأصولية؛ فهو غير خاضع لتعريف ينسجمُ مع منطق الحدود والتعريفات التي استقرَّت عليها باقي مفردات علم أصول الفقه وغيره من العلوم الأخرى؛ من حيث وجود حدٍّ جامعٍ مانع لهذا المصطلح، وهذا سبب كافٍ للجدل التاريخيِّ الذي صاحَبَ الاستحسان، وبذلك فإنه يقترب من أن يكون طريقًا ومنهجًا للتعامل مع الأدلة أكثرَ من كونه دليلًا بذاته، وباعتباره طريقًا ومنهجًا للتعامل مع الأدلة، فإن فرص تجديد أصول الفقه من بوابة الاستحسان ذاتُ قيمة.







عندما يُواجِه القياسُ - بمعنى القواعد الكلية والأصول العامة - عقباتٍ تجعَلُ توظيفه غير مؤدٍّ إلى مراد الشارع ومقصوده، ومن ثَم تحقق المصالح المرجوَّة - يأتي دور الاستحسان؛ ولذلك نجد هذه الثنائية الأصولية المعروفة: "القياس كذا، والاستحسان أن يكون كذا"، لكن الاستحسان في هذه الحالة لا يكون مضادًّا للقياس، بل يمثل مخرجًا وحلًّا لصعوبة توظيف الأقيسة بأنواعها.







الاستحسان قاعدةٌ ذات خصوصية التمدُّد من حيث ارتباطُها بالكثير من الأدوات الأصولية الأخرى؛ ولذلك نجدُ الاستحسانَ للمصلحة، والاستحسان للعُرف، والاستحسان مراعاة للخلاف، والاستحسان بالإجماع، والاستحسان بقاعدة رفع الحرج والمشقة، والاستحسان بعمل أهل المدينة لدى المالكية، وكذلك الاستحسان بالقياس.







ومِن خلال دراسة مكونات هذه الأداة وطريقة توظيفِها يظهر وجودها وتمدُّدها عبر كثيرٍ من الأدوات الأصولية الأخرى، وارتباطها بها بشكل من الأشكال، ويظهر سرُّ هذه الأداة في تعدُّد التعريفات التي وُضعت لبيان مكونات الاستحسان وماهيته التي خلقت جدلًا كبيرًا في تاريخ علم أصول الفقه، الذي عرف تطبيقًا مكثفًا لهذا الدليل، رغم الاختلاف المشهور بدايةً حول مشروعيته، والذي استقرَّ في النهاية على توظيف الأصوليِّين والفقهاء له على نطاق واسع.







ومن المعاصرين لخَّص العلامة عبدالله بن بيه المعانيَ المختلف فيها بين العلماء حول الاستحسان في أربعة معانٍ، كلها تكشف خاصية التمدد لهذه الأداة:



أولًا: العدول بالمسألة عن نظائرها لدليل خاصٍّ بها.



ثانيًا: اعتبار العُرف في التعامل مع مسألة خالفت القياس.



ثالثًا: مخالفة القياس رعيًا للمصلحة.



رابعًا: دليل ينقدح في ذهن المجتهد، لكنه لا يعبر عنه، وهو التعريف المنقول عن الحنفية[1].







قال الشاطبي (ت 790 هـ) عن الاستحسان عند مالك:



"وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالكٍ ينبني على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسَل على القياس؛ كما هو مذكور في موضعه"[2].







• وأضاف: "ومما ينبني على هذا الأصلِ قاعدةُ الاستحسان، وهو في مذهب مالك الأخذُ بمصلحة جزئيةٍ في مقابلةِ دليل كليٍّ، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسَل على القياس، فإن مَن استحسن لم يرجع إلى مجرَّد ذوقه وتشهِّيه؛ وإنما رجع إلى ما علم مِن قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة؛ كالمسائل التي يقتضي القياسُ فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فَوْت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك"[3].







وفي حديثِه عن المساحة التي تعكس القيمة العلمية للاستحسان، أورَدَ مقولةً مذهبية في كون "الاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس، قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان"[4].







يبدو أن خاصية التمدُّد والوجود - من خلال كثير من الأدوات الأصولية - من بين الأسباب التي دفعت عددًا من الأصوليين إلى القول بأن الاستحسان تقصُرُ عنه عبارة المجتهد.







قال علي بن السبكي (ت 756 هـ) في "الباب الثاني في المردود في الاستحسان، قال به أبو حنيفة، وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصُر عنه عبارته، ورُدَّ بأنه لا بد من ظهوره؛ ليتميَّز صحيحه من فاسده.







وفسَّره الكرخي (ت 340 هـ) بأنه قطعُ المسألةِ عن نظائرها لما هو أقوى؛ كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: مالي صدقة، بالزكاة؛ لقوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103]، وعلى هذا فالاستحسان تخصيصٌ.



ولأبي الحسين البصري (ت 436 هـ) بأنه ترك وجهٍ من وجوهِ الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لأقوى"[5].







ويظهر مِن قول أبي الحسين: إنه "غير شامل شمول الألفاظ" - أن ارتباط الاستحسان بعدد من الأدوات يجعلُ تعريفَه مقارنةً بالأدوات الأصولية الأخرى صعبًا، بل والقول أحيانًا بأنه دليل لكنه ينقدح في الذهن دون القدرة على التعبير عنه باللفظ لتعدد صوره وتشعُّب عَلاقاته بباقي الأدلة، وهو ما يظهر خاصيةً أخرى للاستحسان، تتمثَّل في كونه جسرًا للتشبيك والربط بين الأدلة، فعندما لا يُفضِي توظيفُ القياس الظاهر إلى المقصود، يصبح توظيف المصلحة أو العُرف أو التخصيص أو اللجوء إلى القياس الخفيِّ - كلُّ ذلك استحسانًا، رغم أن توظيف ما يطلق عليه "القياس الخفي" لم يلقَ معارضة مثل تلك التي لقيها "الاستحسان"، الذي هو تسعة أعشار العلم؛ كما قال مالك، وهي النسبة التي تُظهِر مدى تمدُّد هذه الأداة في المنظومة الأصولية والمساحة التي تشغَلُها.








خاصية التشبيك والربط بين الأدلة بما يجعَلُ المستنبِط يشتَغِلُ ضمن منظومة أصولية مترابطة - إحدى الخصائص الهامة التي وقف عندها ابن رشد الحفيد (ت 595 هـ) في تعريف معنى الاستحسان عند مالك؛ حيث قال: "وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالكٌ كثيرًا، فضعَّفه قوم، وقالوا: إنه مثل استحسان أبي حنيفة، وحدُّوا الاستحسان بأنه قولٌ بغير دليل، ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمعٌ بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك، فليس هو قولًا بغير دليل"[6].








يُشبِه الاستحسانُ بالنسبة للاستخدام الأصولي مفهومَ "صلاحية التقدير للقاضي"، التي تفيد تنظيمَ النص للقضية بخطوطها العريضة، وترك تعيين بعض التفاصيل للفقيه / للقاضي؛ مثل تقدير مقدار النفقة.







وفي الاجتهاد الاستحساني، فإن الفقيه ليس بحاجةٍ إلى إيجاد حل، بل الحل موجود، ولكنه بحاجة إلى العدول عن الحل الموجود في ظروف القضية المعروضة؛ لدليل خاص يُوجِّهه إلى ذلك العدول، بالإضافة إلى أن المنهج الذي يسمى بـ"المنهج الانتقادي" في عمل مناهج الحقوق يستهدف اختبار الصحة المنطقية والأخلاقية، والصحة الثقافية والاجتماعية للحقوق.







وإذا نظرنا إلى الموضوع من هذا المنظار، نستطيع القول بأنَّ الحنفية - والذين يرون مثل رأيهم - يُطبِّقون المنهج الانتقاديَّ، سواء للصحة المنطقية أو الأخلاقية أو الثقافية / الاجتماعية، لفقههم بدون تسميات خاصة، وباكتفاء استخدام مفهوم الاستحسان"[7].







يُمثِّل الاستحسان "روح أصول الفقه" اقتباسًا وتشبيهًا بما اصطلح على تسميته "روح القانون"، الذي لا يُعبَّر عنه، لكنه في الوقت نفسه مطلوب موافقته في الحكم؛ فالاستحسان روح أصول الفقه التي تتجوَّل بين أدلته، مع حاجة مَن يُوظِّفه إلى مَلَكة ودُرْبة زائدة، تشبه تلك التي تجعل القاضيَ يُفرِّق بين ما تقتضيه النصوص وما يقتضيه روحها.







وقد أورد الشاطبي قولَ الفلاسفة: إن "حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق؛ من حيث تدل على صانعها، ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات، فهذه وجوه تدل على عموم الاستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم"[8].







وقد تنبَّه الطُّوفي (ت 716 هـ) إلى مسألة المَلَكة والدُّرْبة في تناوُلِه الاستحسانَ، بما يظهر خاصية مُهمَّة لهذه الأداة الأصولية، وتتمثَّل في كونها تعكس قدرة المجتهد على الجواب، والإشراف على الوقائع المستجَدَّة من خلال نافذة أصولية متعدِّدة الأبعاد، تحتاج فعلًا أن تُعطَى أكثر من تعريف اصطلاحي واحد؛ فهي غير مرتبطة بالدليل الذي تنبنِي عليه فحسب، بل ترتبطُ بمدى تطوُّر قدرة المجتهد وارتقاء إمكاناته الاجتهادية التي تجعل الدليل ينقدح في ذهنه.







وقد ذكر الآمدي هذا التعريف للاستحسان، وقال: "لا نزاع في جواز التمسُّك بمثل هذا إذا تحقَّق المجتهد كونَه دليلًا شرعيًّا، وإن عجز عن التعبير عنه، وإن نُوزع في إطلاق اسم الاستحسان عليه، عاد النزاع إلى اللفظ، قلت: رجع الأمر في هذا إلى أنه عمل بدليل شرعي، ولا نزاع في العمل به كما قال، لكن من المعلوم بالوجدانِ أن النفوس يصير لها فيما تُعانيه من العلوم والحِرَف ملكاتٌ قارَّة فيها، تُدرك بها الأحكام العارضة في تلك العلوم والحِرَف، ولو كلِّفت الإفصاح عن حقيقة تلك المعارف بالقول لتعذَّر عليها، وقد أقرَّ بذلك جماعةٌ من العلماء؛ منهم ابن الخشاب في جواب المسائل الإسكندرانيات، ويسمِّي ذلك أهلُ الصناعات وغيرهم: دُرْبةً، وأهلُ التصوف: ذوقًا، وأهلُ الفلسفة ونحوهم: مَلَكةً"[9].








وذكر الشاطبي (ت 790 هـ) ما يشير إلى الوظيفةِ التي يُقدِّمها الاستحسان للقياس ومعضلاته: "وقد بالَغَ أصبغ في الاستحسان حتى قال: إن المُغرِق في القياس يكاد يفارق السُّنة، وإن الاستحسان عمادُ العلم، والأدلةُ المذكورة تعضُد ما قال، ومِن هذا الأصل أيضًا تُستمد قاعدة أخرى، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفَتْها من خارجٍ أمورٌ لا تُرضَى شرعًا، فإن الإقدامَ على جلب المصالح صحيحٌ، على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج"[10].







الاستحسان منهجٌ وأداة أصولية صعبةُ المنال، قادرة على توجيه دفَّة القياس، ومن ضمنها المواضع التي يُبنَى فيها الاستحسان على قياس خفيٍّ لمعارضة قياس جليٍّ.







وقد نقل الشاطبي أن الاستحسان يأتي حلًّا لقياس يؤدي إلى غلوٍّ في الحكم، و"عرَّفه ابن رشد فقال: الاستحسان الذي يكثُرُ استعماله حتى يكون أعم من القياس هو: أن يكون طرحًا لقياسٍ يُؤدِّي إلى غلوٍّ في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنًى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضعُ"[11].







ولنضرِبْ أمثلةً على ما يُقدِّمه الاستحسان عند المالكية من حلول لمعضلات القياس الذي لا يُقصد به دائمًا قياسُ الفرع على الأصل، وإنما يُقصد به القاعدةُ الكلية، وكذلك العدول ببعض المسائل عن أصولها، والاستحسان بوابةٌ لتحقُّق المصالح كما يظهر في مذهب المالكية، وقد أورد القرافي (ت 684 هـ) بعض الأمثلة لذلك: "وقد قال به مالك رحمه الله في عدة مسائل في تضمين الصناع المؤثرين في الأعيان بصنعتِهم، وتضمين الحمَّالين للطعام والإدام دون غيرهم من الحمَّالين، وهو الذي قاله أبو الحسين، (ترك وجه من وجوه الاجتهاد)؛ وهو ترك عدم التضمين الذي هو شأن الإجارة، (غير شامل شمول الألفاظ)؛ لأن عدم التضمين قاعدةٌ لا لفظ، (لوجه أقوى منه)؛ إشارة إلى الفرق الذي لُوحِظ في صورة الضمان، اعتباره راجح على عدم اعتباره، وإضافة الحكم إلى المشترك الذي هو قاعدة الإجارة وعدم التضمين، وهذا الفرق في حكم الطارئ على قاعدة الإجارات، فإن المستثنيات طارئاتٌ على الأصول، وأما أحد القياسين مع الآخر، فليس أحدهما أصلًا للآخر حتى يكون في حكم الطارئ عليه"[12].







وأورد الشاطبي (ت 790 هـ) أمثلةً كذلك بقوله: "إن نفي جميع الغررِ في العقود لا يُقدَر عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات وهو تحسيم أبواب المفاوضات، ونفي الضرر إنما يطلب تكميلًا ورفعًا لِمَا عسى أن يقع من نزاع، فهو من الأمور المكملة، والتكميلاتُ إذا أفضى اعتبارُها إلى إبطال المكملات سقطت جملة؛ تحصيلًا للمهم، حسبما تبيَّن في الأصول، فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفكُّ عنها؛ إذ يشق طلب الانفكاك عنها، فسُومِح المكلَّف بيسير الغرر لضيق الاحتراز، مع تفاهة ما يحصل من الغَرَر، ولم يُسامَح في كثيره؛ إذ ليس في محل الضرورة، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر، لكن الفرق بين القليل والكثير غيرُ منصوص عليه في جميع الأمور، وإنما نُهي عن بعض أنواعه مما يعظُم فيه الغرر، فجُعلت أصولًا يُقاس عليها غيرها، فصار القليل أصلًا في عدم الاعتبار وفي الجواز، وصار الكثير أصلًا في المنع، ودار في الأصلين فروع تجاذَبَ العلماء النظر فيها، فإذا قل الغرر، وسهل الأمر، وقل النزاع، ومست الحاجة إلى المسامحة، فلا بد من القولِ بها، ومِن هذا القبيل مسألةُ التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث"[13].







وكذلك "مِن جملة أنواع الاستحسان مراعاةُ خلاف العلماء، وهو أصل في مذهب مالكٍ ينبنِي عليه مسائلُ كثيرة؛ منها أن الماء اليسير إذا حلَّت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغيِّر أحد أوصافه، أنه لا يتوضأ به، بل يتيمَّم ويتركه، فإن توضَّأ به وصلَّى أعاد ما دام في الوقت، ولم يُعِدْ بعد الوقت، وإنما قال: يعيد في الوقت؛ مراعاةً لقول مَن يقول: إنه طاهر مطهر، ويرى جواز الوضوء به ابتداءً، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدًا؛ إذ لم يتوضَّأ إلا بماء يصحُّ له تركه، والانتقال عنه إلى التيمم"[14].







إن قوة وأهمية الاستحسان تتمثَّلُ في خاصية الربط بين الأدلة الأصولية بما يجعل منها منظومة متكاملة من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو بمكوناته يربطُ الأدلةَ الأصولية بمقاصد الشريعة من ناحية أخرى، فالاستحسان لأجل العُرف أو لأجل المصلحة، أو الاستحسان بالنص أو الإجماع، أو العمل بالاستثناء من القواعد العامة - إنما يؤدي إلى تحقُّق مقاصد الشريعة ورفع الحرج عن المكلَّفين، وفي الآن ذاته يمثل مخرجًا لتجاوُزِ صعوبات إعمال الأقيسة والأصول.









[1] عبدالله بن بيه، أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، ص: 469.




[2] الشاطبي، الموافقات، بتحقيق عبدالله دراز، 1/ 40، ط المعرفة.




[3] المصدر السابق، 4/ 206.




[4] نفس المصدر، 4/ 209.




[5] علي بن السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، 3/ 188.




[6] ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، 1/622.




[7] إبراهيم كافي دونماز، الاستحسان وتقييم وظيفة الإجماع.




[8] الشاطبي، الموافقات، 1/ 52.




[9] الطوفي، شرح مختصر الروضة، 3/192.




[10] الشاطبي، الموافقات، 4/ 210.




[11] الشاطبي، الاعتصام، 2/ 139.




[12] القرافي، شرح تنقيح الفصول، 2/ 200.




[13] الشاطبي، الاعتصام، 2/ 144.




[14] نفس المصدر، 2/ 145.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 71.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.86 كيلو بايت... تم توفير 1.52 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]