تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 22 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4435 - عددالزوار : 870394 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3966 - عددالزوار : 402698 )           »          على طريق النصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          تربية الأبناء الواجب والتحديات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          احفظ لسانك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          الأثيم في الاحتفال بشم النسيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          الصلاة والاهتمام بها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          الإسراف خطره وصوره (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          شرح النووي لحديث ابن الزبير: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          شرح الننوي لحديث: لكل نبي حواري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #211  
قديم 12-08-2022, 06:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(197)
الحلقة (211)
صــ 169إلى صــ 175





2226 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم قال : لما صرف رسول الله صلى الله [ ص: 169 ] عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ! فنزلت : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

2227 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة . فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .

2228 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، صلاتكم .

2229 - حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال : أخبرنا المؤمل قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على أن "الإيمان " التصديق . وأن التصديق قد يكون بالقول وحده ، وبالفعل وحده ، وبهما جميعا .

فمعنى قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة - : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه السلام ، بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره ، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي .

قال : "وإضاعته إياه " جل ثناؤه - لو أضاعه - : ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ، ويصير باطلا كهيئة "إضاعة الرجل ماله " ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . [ ص: 170 ]

فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملا وهو له طاعة ، فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .

فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟

قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم . لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب - أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب . فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : "فعلنا بكما وصنعنا بكما " ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا : "فعلنا بهما " ، وهم يخاطبون أحدهما ، فيردوا المخاطب إلى عداد الغيب .

القول في تأويل قوله تعالى ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 143 ) )

قال أبو جعفر : ويعني بقوله جل ثناؤه : "إن الله بالناس لرءوف رحيم " : أن الله بجميع عباده ذو رأفة . [ ص: 171 ]

و"الرأفة " ، أعلى معاني الرحمة ، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ، ولبعضهم في الآخرة .

وأما " الرحيم " : فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، على ما قد بينا فيما مضى قبل .

وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عز وجل أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها ، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم - أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس - ، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي ؛ ولا تحزنوا عليهم ، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة ، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم ، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله .

وفي "الرءوف " لغات . إحداها "رؤف " على مثال "فعل " ، كما قال الوليد بن عقبة :


وشر الطالبين - ولا تكنه - بقاتل عمه ، الرؤف الرحيم
[ ص: 172 ]

وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة . والأخرى "رءوف " على مثال "فعول" ، وهي قراءة عامة قراء المدينة ، و "رئف " ، وهي لغة غطفان ، على مثال "فعل " مثل حذر . و"رأف " على مثال "فعل" بجزم العين ، وهي لغة لبني أسد .

والقراءة على أحد الوجهين الأولين .
القول في تأويل قوله تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء .

ويعني : ب"التقلب " ، التحول والتصرف .

ويعني بقوله : "في السماء" ، نحو السماء وقبلها .



وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة ، كما : -

2230 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء ، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة ، حتى صرفه الله إليها .

2231 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها . [ ص: 173 ]

2232 - حدثنا المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، يقول : نظرك في السماء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يهوى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .

2233 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " الآية .

ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .

قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا!

ذكر من قال ذلك :

2234 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" ، - وانقطع قول يهود : [ ص: 174 ] يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر ، . فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .

2235 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته - يعني ابن زيد - يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "فأينما تولوا فثم وجه الله " . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله - لبيت المقدس - ولو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" الآية .

وقال آخرون : بل كان يهوى ذلك ، من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام .

ذكر من قال ذلك :

2236 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية . [ ص: 175 ]

فأما قوله : "فلنولينك قبلة ترضاها " ، فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس ، إلى قبلة "ترضاها " : تهواها وتحبها .

وأما قوله : "فول وجهك " ، يعني : اصرف وجهك وحوله .

وقوله : "شطر المسجد الحرام " ، يعني : ب"الشطر" ، النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :


إن العسير بها داء مخامرها فشطرها نظر العينين محسور


يعني بقوله : "شطرها" ، نحوها . وكما قال ابن أحمر :


تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة ، قد كارب العقد من إيفادها الحقبا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #212  
قديم 12-08-2022, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(198)
الحلقة (212)
صــ 176إلى صــ 183



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

2237 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : "شطر المسجد الحرام" ، يعني : تلقاءه .

2238 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "شطر المسجد الحرام" : نحوه .

2239 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، نحوه .

2240 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

2241 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاء المسجد الحرام .

2242 - حدثنا الحسين بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال : نحو المسجد الحرام . [ ص: 177 ]

2243 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاءه .

2244 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : "شطره" ، نحوه .

2245 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "فولوا وجوهكم شطره" قال : قبله .

2246 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "شطره" ، ناحيته ، جانبه . قال : وجوانبه : "شطوره " .



ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .

فقال بعضهم : القبلة التي حول إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعناها الله تعالى ذكره بقوله فلنولينك قبلة ترضاها ، حيال ميزاب الكعبة .

ذكر من قال ذلك :

2247 - حدثني عبد الله بن أبي زياد قال : حدثنا عثمان قال : أخبرنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : "فلنولينك قبلة ترضاها" ، حيال ميزاب الكعبة . [ ص: 178 ]

2248 - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : "فلنولينك قبلة ترضاها" قال : هذه القبلة ، هي هذه القبلة .

2249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم - بإسناده عن عبد الله بن عمرو ، نحوه - إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذه القبلة التي قال الله لنبيه : "فلنولينك قبلة ترضاها " .

وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 179 ]

2250 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت - يعني التي فيها الباب .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : "فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، فالمولي وجهه شطر المسجد الحرام ، هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتم بإمام فإنما عليه الائتمام به ، وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر ، عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به ، مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصل ومتوجه إليها ببدنه ، غير أنه متوجه إليها . فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها ، فهو مستقبلها ، بعد ما بينه وبينها ، أو قرب ، من عن يمينها أو عن يسارها ، بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه ، كما :

2251 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عميرة بن زياد الكندي ، عن علي : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال : شطره ، قبله . [ ص: 180 ]

قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه ، كما : -

2252 - حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصباح قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب ، فقال : هذه القبلة ، هذه القبلة .

2253 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد قال : خرج النبي صلى [ ص: 181 ] الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة ، فقال : هذه القبلة مرتين .

2254 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .

2255 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله . قال : قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصل حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين ، وقال : هذه القبلة . [ ص: 182 ]

قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه .

و"الهاء" التي في "شطره" ، عائدة إلى المسجد الحرام .

فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين ، فرض التوجه نحو المسجد الحرام [ ص: 183 ] في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى .

وأدخلت "الفاء " في قوله : "فولوا" ، جوابا للجزاء . وذلك أن قوله : "حيثما كنتم " جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم )

يعني بقوله جل ثناؤه : "وإن الذين أوتوا الكتاب" أحبار اليهود وعلماء النصارى .

وقد قيل : إنما عنى بذلك اليهود خاصة .

ذكر من قال ذلك :

2256 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وإن الذين أوتوا الكتاب " ، أنزل ذلك في اليهود .

وقوله : "ليعلمون أنه الحق من ربهم" ، يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد ، الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده .

ويعني بقوله : "من ربهم" أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحق من عند ربهم ، فرضه عليهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #213  
قديم 12-08-2022, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(199)
الحلقة (213)
صــ 184إلى صــ 191





[ ص: 184 ] القول في تأويل قوله تعالى "وما الله بغافل عما يعملون" ( 144 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون ، في اتباعكم أمره ، وانتهائكم إلى طاعته ، فيما ألزمكم من فرائضه ، وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساه عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده ، حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض )

قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك اسمه : ولإن جئت ، يا محمد ، اليهود والنصارى ، بكل برهان وحجة - وهي "الآية" - بأن الحق هو ما جئتهم به ، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة ، إلى قبلة المسجد الحرام ، ما صدقوا به ، ولا اتبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك - قبلتك التي حولتك إليها ، وهي التوجه شطر المسجد الحرام .

قال أبو جعفر : وأجيبت "لإن" بالماضي من الفعل ، وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب "لو" ، فأجيبت بما تجاب به "لو" ، لتقارب معنييهما . [ ص: 185 ] وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى . وأجيبت "لو" بجواب الأيمان . ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة ، لأن الجزاء مشابه اليمين : في أن كل واحد منهما لا يتم أوله إلا بآخره ، ولا يتم وحده ، ولا يصح إلا بما يؤكد به بعده . فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء ، صارت "اللام" الأولى بمنزلة يمين ، والثانية بمنزلة جواب لها ، كما قيل : "لعمرك لتقومن" إذ كثرت "اللام" من "لعمرك" ، حتى صارت كحرف من حروفه ، فأجيب بما يجاب به الأيمان ، إذ كانت "اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان ، دون سائر الحروف ، غير التي هي أحق به الأيمان . فتدل على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة ، ولا تدل سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان . فشبهت "اللام " التي في جواب الأيمان بالأيمان ، لما وصفنا ، فأجيبت بأجوبتها .

فكان معنى الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا - : لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .

وأما قوله : "وما أنت بتابع قبلتهم " ، يقول : وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم . وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها ، وأن النصارى تستقبل المشرق ، فأنى يكون لك السبيل إلى إتباع قبلتهم . مع اختلاف وجوهها ؟ يقول : فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها ، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها .

وأما قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، فإنه يعني بقوله : وما اليهود بتابعة [ ص: 186 ] قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها ، كما : -

2257 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . قال : وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة ، قالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم : "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " إلى قوله : "ليكتمون الحق وهم يعلمون " .

2258 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" ، مثل ذلك .



وإنما يعني جل ثناؤه بذلك : أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة ، مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم . فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، فإنه أمر لا سبيل إليه . لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم . من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى ، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود ، فدع ما لا سبيل إليه ، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه ، من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة ، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ( 145 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولإن اتبعت أهواءهم " ، ولإن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، فاتبعت قبلتهم - يعني : فرجعت إلى قبلتهم . [ ص: 187 ]

ويعني بقوله : "من بعد ما جاءك من العلم" ، من بعد ما وصل إليك من العلم ، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل ، وعلى عناد منهم للحق ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجه نحوها ، "إنك إذا لمن الظالمين " ، يعني : إنك إذا فعلت ذلك ، من عبادي الظلمة أنفسهم ، المخالفين أمري ، والتاركين طاعتي ، وأحدهم وفي عدادهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه " ، أحبار اليهود وعلماء النصارى : يقول : يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود ، والعلماء من النصارى : أن البيت الحرام قبلتهم وقبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك ، كما يعرفون أبناءهم ، كما : -

2259 - حدثنا بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يقول : يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة .

2260 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قول الله عز وجل الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني : القبلة . [ ص: 188 ]

2261 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، عرفوا أن قبلة البيت الحرام هي قبلتهم التي أمروا بها ، كما عرفوا أبناءهم .

2262 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني بذلك : الكعبة البيت الحرام .

2263 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء ، كما يعرفون أبناءهم .

2264 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : اليهود يعرفون أنها هي القبلة ، مكة .

2265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : القبلة والبيت .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ( 146 ) )

قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب - وهم اليهود والنصارى . وكان مجاهد يقول : هم أهل الكتاب .

2266 - حدثني محمد بن عمرو - يعني الباهلي - قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بذلك . [ ص: 189 ]

2267 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج مثله .

2268 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح مثله .

قال أبو جعفر : وقوله : "ليكتمون الحق " ، - وذلك الحق هو القبلة التي وجه الله عز وجل إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم . يقول : فول وجهك شطر المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم يتوجهون إليها . فكتمتها اليهود والنصارى ، فتوجه بعضهم شرقا ، وبعضهم نحو بيت المقدس ، ورفضوا ما أمرهم الله به ، وكتموا مع ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . فأطلع الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته على خيانتهم الله تبارك وتعالى ، وخيانتهم عباده ، وكتمانهم ذلك ، وأخبر أنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيره ، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافه ، فقال : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، أن ليس لهم كتمانه ، فيتعمدون معصية الله تبارك وتعالى ، كما : -

2269 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، فكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم .

2270 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" قال : يكتمون محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . [ ص: 190 ]

2271 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، يعني القبلة .
القول في تأويل قوله تعالى ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 147 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : اعلم يا محمد أن الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى .

وهذا خبر من الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : عن أن القبلة التي وجهه نحوها ، هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومن بعده من أنبياء الله عز وجل .

يقول تعالى ذكره له : فاعمل بالحق الذي أتاك من ربك يا محمد ، ولا تكونن من الممترين .

يعني بقوله : "فلا تكونن من الممترين " ، أي : فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره ، كما :

2272 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" ، يقول : لا تكن في شك ، فإنها قبلتك وقبلة الأنبياء من قبلك . [ ص: 191 ]

2273 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "فلا تكونن من الممترين" قال : من الشاكين قال : لا تشكن في ذلك .

قال أبو جعفر : وإنما "الممتري " "مفتعل " ، من "المرية" ، و"المرية " هي الشك ، ومنه قول الأعشى :


تدر على أسوق الممترين ركضا إذا ما السراب ارجحن


قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوكان النبي صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحق من ربه ، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره ، حتى نهي عن الشك في ذلك ، فقيل له : "فلا تكونن من الممترين" ؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #214  
قديم 12-08-2022, 06:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(200)
الحلقة (214)
صــ 192إلى صــ 199





قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره ، كما قال جل ثناؤه : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ سورة الأحزاب : 1 ] ، ثم قال : ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ ص: 192 ] [ سورة الأحزاب : 2 ] . فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له ، والمراد به أصحابه المؤمنون به . وقد بينا نظير ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولكل وجهة هو موليها )

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : "ولكل" ، ولكل أهل ملة ، فحذف "أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه ، كما : -

2274 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "ولكل وجهة" قال : لكل صاحب ملة .

2275 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة هو موليها" ، فلليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمة للقبلة التي هي قبلته .

2276 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لكل أهل دين ، اليهود والنصارى . قال ابن جريج ، قال مجاهد : لكل صاحب ملة .

2277 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، ولكم قبلة . يريد المسلمين .

2278 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 193 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولكل وجهة هو موليها " ، يعني بذلك أهل الأديان : يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجه الله تبارك وتعالى اسمه حيث توجه المؤمنون . وذلك أن الله تعالى ذكره قال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 115 ]

2279 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ولكل وجهة هو موليها " ، يقول : لكل قوم قبلة قد ولوها .

فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية : ولكل أهل ملة قبلة هو مستقبلها ، ومول وجهه إليها .

وقال آخرون بما : -

2280 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "ولكل وجهة هو موليها" قال : هي صلاتهم إلى بيت المقدس ، وصلاتهم إلى الكعبة .

وتأويل قائل هذه المقالة : ولكل ناحية وجهك إليها ربك يا محمد قبلة ، الله عز وجل موليها عباده .

وأما "الوجهة" ، فإنها مصدر مثل "القعدة " و"المشية " ، من "التوجه " . وتأويلها : متوجه ، يتوجه إليه بوجهه في صلاته ، كما : -

2281 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وجهة " قبلة . [ ص: 194 ]

2282 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

2283 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة " قال : وجه .

2284 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وجهة " ، قبلة .

2285 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : قلت لمنصور : " ولكل وجهة هو موليها " قال : نحن نقرأها ( ولكل جعلنا قبلة يرضونها ) .

وأما قوله : "هو موليها" ، فإنه يعني هو مول وجهه إليها ومستقبلها ، كما : -

2286 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "هو موليها " قال : هو مستقبلها .

2287 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

ومعنى "التولية" هاهنا الإقبال ، كما يقول القائل لغيره : "انصرف إلي" بمعنى : أقبل إلي . "والانصراف" المستعمل ، إنما هو الانصراف عن الشيء ، ثم يقال : "انصرف إلى الشيء" ، بمعنى : أقبل إليه منصرفا عن غيره . وكذلك يقال : "وليت عنه " ، إذا أدبرت عنه . ثم يقال : "وليت إليه" ، بمعنى أقبلت إليه موليا عن غيره . [ ص: 195 ]

والفعل - أعني "التولية" - في قوله : "هو موليها " لل "كل" . و"هو " التي مع "موليها" ، هو "الكل" ، وحدت للفظ "الكل" .

فمعنى الكلام إذا : ولكل أهل ملة وجهة ، الكل منهم مولوها وجوههم .

وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها : "هو مولاها " ، بمعنى أنه موجه نحوها . ويكون "الكل " حينئذ غير مسمى فاعله ، ولو سمي فاعله ، لكان الكلام : ولكل ذي ملة وجهة ، الله موليه إياها ، بمعنى : موجهه إليها .

وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك : "ولكل وجهة" بترك التنوين والإضافة . وذلك لحن ، ولا تجوز القراءة به . لأن ذلك - إذا قرئ كذلك - كان الخبر غير تام ، وكان كلاما لا معنى له . وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه .

والصواب عندنا من القراءة في ذلك : " ولكل وجهة هو موليها " ، بمعنى : ولكل وجهة وقبلة ، ذلك الكل مول وجهه نحوها . لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك ، وتصويبها إياها ، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره . وما جاء به النقل مستفيضا فحجة ، وما انفرد به من كان جائزا عليه السهو والغلط ، فغير جائز الاعتراض به على الحجة .
[ ص: 196 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فاستبقوا الخيرات )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فاستبقوا" ، فبادروا وسارعوا ، من "الاستباق" ، وهو المبادرة والإسراع ، كما : -

2288 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "فاستبقوا الخيرات " ، يقول : فسارعوا في الخيرات .

وإنما يعني بقوله : "فاستبقوا الخيرات " ، أي : قد بينت لكم أيها المؤمنون الحق ، وهديتكم للقبلة التي ضلت عنها اليهود والنصارى وسائر أهل الملل غيركم ، فبادروا بالأعمال الصالحة ، شكرا لربكم ، وتزودوا في دنياكم لآخرتكم ، فإني قد بينت لكم سبل النجاة ، فلا عذر لكم في التفريط ، وحافظوا على قبلتكم ، فلا تضيعوها كما ضيعتها الأمم قبلكم ، فتضلوا كما ضلت ؛ كالذي : -

2289 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فاستبقوا الخيرات" ، يقول : لا تغلبن على قبلتكم .

2290 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "فاستبقوا الخيرات " قال : الأعمال الصالحة . [ ص: 197 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ( 148 ) )

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، في أي مكان وبقعة تهلكون فيه ، يأت بكم الله جميعا يوم القيامة ، إن الله على كل شيء قدير ، كما : -

2291 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا" ، يقول : أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة .

2291 م - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، يعني : يوم القيامة .

قال أبو جعفر : وإنما حض الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزود في الدنيا للآخرة ، فقال جل ثناؤه لهم : استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم ، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه ، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالف قبلتكم ودينكم وشريعتكم جميعا يوم القيامة ، من حيث كنتم من بقاع الأرض ، حتى يوفي المحسن منكم جزاءه بإحسانه ، والمسيء عقابه بإساءته ، أو يتفضل فيصفح .

وأما قوله : "إن الله على كل شيء قدير" ، فإنه تعالى ذكره يعني : إن الله تعالى على جمعكم - بعد مماتكم - من قبوركم إليه ، من حيث كنتم وكانت قبوركم وعلى غير ذلك مما يشاء ، قدير . فبادروا خروج أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليوم بعثكم وحشركم .
[ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ( 149 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "ومن حيث خرجت " ، ومن أي موضع خرجت إلى أي موضع وجهت ، فول يا محمد وجهك - يقول : حول وجهك . وقد دللنا على أن "التولية " في هذا الموضع شطر المسجد الحرام ، إنما هي : الإقبال بالوجه نحوه . وقد بينا معنى "الشطر" فيما مضى .

وأما قوله : "وإنه للحق من ربك" ، فإنه يعني تعالى ذكره : وإن التوجه شطره للحق الذي لا شك فيه من عند ربك ، فحافظوا عليه ، وأطيعوا الله في توجهكم قبله .

وأما قوله : "وما الله بغافل عما تعملون " ، فإنه يقول : فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم ، ولا بغافل عنها ، ولكنه محصيها لكم ، حتى يجازيكم بها يوم القيامة .
[ ص: 199 ]

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام من أي مكان وبقعة شخصت فخرجت يا محمد ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وهو شطره .

ويعني بقوله : "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم " ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده .
القول في تأويل قوله تعالى ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني )

قال أبو جعفر : فقال جماعة من أهل التأويل : عنى الله تعالى ب "الناس" في قوله : "لئلا يكون للناس" ، أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

2292 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة" ، يعني بذلك أهل الكتاب . قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #215  
قديم 12-08-2022, 06:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(201)
الحلقة (215)
صــ 200إلى صــ 207





2293 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 200 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

فإن قال قائل : فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟

قيل : قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك . قيل : إنهم كانوا يقولون : ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، على وجه الخصومة منهم لهم ، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل الغباء من المشركين .

وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه ، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه ، إنما هي الخصومات والجدال . فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم ، وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام . وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني ب "الناس " ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت .

وأما قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، فإنهم مشركو العرب من قريش ، فيما تأوله أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

2294 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 201 ]

2295 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هم المشركون من أهل مكة .

2296 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "إلا الذين ظلموا منهم " ، يعني مشركي قريش .

2297 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " قال : هم مشركو العرب .

2298 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش .

2299 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : هم مشركو قريش - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء .

فإن قال قائل : وأية حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة ؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه - حجة ؟

قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه . وإنما "الحجة " في هذا الموضع ، الخصومة والجدال . ومعنى الكلام : لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطل غير مشركي قريش ، فإن لهم عليكم دعوى باطلا وخصومة بغير حق ، بقيلهم لكم : "رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى [ ص: 202 ] ديننا " . فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة ، هي "الحجة " التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره "الذين ظلموا " من قريش من سائر الناس غيرهم ، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

2300 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد : يقول : حجتهم ، قولهم : قد راجعت قبلتنا!

2301 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال : قولهم : قد رجعت إلى قبلتنا!

2302 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قالا : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة : قد رجع إلى قبلتكم ، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل : "فلا تخشوهم واخشوني " .

2303 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش . يقول : إنهم سيحتجون عليكم بذلك ، فكانت حجتهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله [ ص: 203 ] تعالى ذكره في ذلك كله .

2304 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

2305 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما يذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة ، بعد صلاته إلى بيت المقدس ، قال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه! فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني " .

2306 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " قال : قالت قريش - لما رجع إلى الكعبة وأمر بها : - ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حجتهم ، وهم "الذين ظلموا" - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء ، فقال مجاهد : حجتهم ، قولهم : رجعت إلى قبلتنا! [ ص: 204 ]

فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، عن صحة ما قلنا في تأويله ، وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف ، الذي ثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبله . كما قول القائل "ما سار من الناس أحد إلا أخوك " ، إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس . فكذلك قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطل عليه وعلى أصحابه ، بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش ، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلا بأن يقولوا : إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا ، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل .

وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل ، فبين خطأ قول من زعم أن معنى قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " : ولا الذين ظلموا منهم ، وأن "إلا " بمعنى "الواو " . لأن ذلك لو كان معناه ، لكان النفي الأول عن جميع الناس - أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة بوجوههم - مبينا عن المعنى المراد ، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك : "إلا الذين ظلموا منهم " إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه أو يوصف به .

هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت "إلا " إلى معنى "الواو " ، ومعنى [ ص: 205 ] العطف من كلام العرب . وذلك أنه غير موجودة "إلا " في شيء من كلامها بمعنى "الواو " ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها . كقول القائل : "سار القوم إلا عمرا إلا أخاك " ، بمعنى : إلا عمرا وأخاك ، فتكون "إلا " حينئذ مؤدية عما تؤدي عنه "الواو " ، لتعلق "إلا " الثانية ب "إلا " الأولى . ويجمع فيها أيضا بين "إلا " و"الواو " فيقال : "سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك " ، فتحذف إحداهما ، فتنوب الأخرى عنها ، فيقال : "سار القوم إلا عمرا وأخاك - أو إلا عمرا إلا أخاك " ، لما وصفنا قبل .

وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أن "إلا " في هذا الموضع بمعنى "الواو " التي تأتي بمعنى العطف .

وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك : إلا الذين ظلموا منهم ، فإنهم لا حجة لهم ، فلا تخشوهم . كقول القائل في الكلام : "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك " ، فإن ذلك لا يعتد بعداونه ولا بتركه الحمد ، لموضع العداوة . وكذلك الظالم لا حجة له ، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادعى من التأويل في ذلك . وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها .

وظاهر بطول قول من زعم : أن "الذين ظلموا " هاهنا ، ناس من العرب [ ص: 206 ] كانوا يهودا ونصارى ، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما سائر العرب ، فلم تكن لهم حجة ، وكانت حجة من يحتج منكسرة . لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته : "إن لك علي حجة ولكنها منكسرة ، وإنك لتحتج بلا حجة ، وحجتك ضعيفة " . ووجه معنى : "إلا الذين ظلموا منهم " إلى معنى : إلا الذين ظلموا منهم ، من أهل الكتاب ، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة .

ووهي قول من قال : "إلا " في هذا الموضع بمعنى "لكن " .

وضعف قول من زعم أنه ابتداء بمعنى : إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم .

لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم : أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا ، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة - وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ، ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة .

2307 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : قال الربيع : إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال : إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس . فقال أبو العالية : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام . قال : قال : فبيني وبينك مسجد صالح ، فإنه نحته من الجبل . قال أبو العالية : قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام . قال الربيع : وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذي القرنين ، وقبلته إلى الكعبة .

وأما قوله : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يعني : فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أن محمدا صلى [ ص: 207 ] الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يقدروا لكم على ضر في دينكم أو صدكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ، ولكن اخشوني ، فخافوا عقابي ، في خلافكم أمري إن خالفتموه .

وذلك من الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين ، بالحض على لزوم قبلتهم والصلاة إليها ، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها . يقول جل ثناؤه : واخشوني أيها المؤمنون ، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام .

وقد حكي عن السدي في ذلك ما : -

2308 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يقول : لا تخشوا أن أردكم في دينهم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #216  
قديم 12-08-2022, 06:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(202)
الحلقة (216)
صــ 208إلى صــ 215




القول في تأويل قوله تعالى ( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ( 150 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولأتم نعمتي عليكم " ، ومن حيث خرجت من البلاد والأرض ، وإلى أي بقعة شخصت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث كنت ، يا محمد والمؤمنون ، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره ، [ ص: 208 ] واتخذوه قبلة لكم ، كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش - حجة ، ولأتم بذلك - من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام ، الذي جعلته إماما للناس - نعمتي ، فأكمل لكم به فضلي عليكم ، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم . وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه .

وقوله : "ولعلكم تهتدون " ، يعني : وكي ترشدوا للصواب من القبلة . و "لعلكم " عطف على قوله : "ولأتم نعمتي عليكم " ، "ولأتم نعمتي عليكم " عطف على قوله : "لئلا يكون " .
القول في تأويل قوله تعالى ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 151 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "كما أرسلنا فيكم رسولا " ، ولأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية ، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام ، فأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 128 ] ، كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ، ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) [ ص: 209 ] [ سورة البقرة : 129 ] ، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل ، أن أبعثه من ذريتهما .

ف "كما " - إذ كان ذلك معنى الكلام - صلة لقول الله عز وجل : "ولأتم نعمتي عليكم " . ولا يكون قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، متعلقا بقوله : "فاذكروني أذكركم " .

وقد قال قوم : إن معنى ذلك : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم . وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، فأغرقوا النزع ، وبعدوا من الإصابة ، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف ، وسوى وجهه المفهوم .

وذلك أن الجاري من الكلام على ألسن العرب ، المفهوم في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض : "كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن " - أن لا يشترطوا للآخر ، لأن "الكاف " في "كما " شرط معناه : افعل كما فعلت . ففي مجيء جواب : "اذكروني " بعده ، وهو قوله : "أذكركم " ، أوضح دليل على أن قوله : "كما أرسلنا " من صلة الفعل الذي قبله ، وأن قوله : "اذكروني أذكركم " خبر مبتدأ منقطع عن الأول ، وأنه من سبب قوله : "كما أرسلنا فيكم " بمعزل .

وقد زعم بعض النحويين أن قوله : "فاذكروني " - إذا جعل قوله : "كما أرسلنا فيكم " جوابا له ، مع قوله : " أذكركم " - نظير الجزاء الذي يجاب بجوابين ، كقول القائل : إذا أتاك فلان فأته ترضه " ، فيصير قوله : "فأته " و "ترضه " جوابين لقوله : "إذا أتاك " ، وكقوله : "إن تأتني أحسن إليك أكرمك " . [ ص: 210 ]

وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجه إليه من اللغات ، الأفصح الأعرف من كلام العرب ، دون الأنكر الأجهل من منطقها . هذا ، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل .

ذكر من قال : إن قوله : "كما أرسلنا " ، جواب قوله : "فاذكروني " .

2309 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، كما فعلت فاذكروني .

2310 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

قوله : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، فإنه يعني بذلك العرب ، قال لهم جل ثناؤه : الزموا أيها العرب طاعتي ، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها ، لتنقطع حجة اليهود عنكم ، فلا تكون لهم عليكم حجة ، ولأتم نعمتي عليكم ، وتهتدوا ، كما ابتدأتكم بنعمتي ، فأرسلت فيكم رسولا منكم . وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم : محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -

2311 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : "يتلو عليكم آياتنا " ، فإنه يعني آيات القرآن ، وبقوله : "ويزكيكم " ويطهركم من دنس الذنوب ، و "يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان ، يعني : أنه [ ص: 211 ] يعلمهم أحكامه . ويعني : ب "الحكمة " السنن والفقه في الدين . وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده .

وأما قوله : "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " ، فإنه يعني : ويعلمكم من أخبار الأنبياء ، وقصص الأمم الخالية ، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها ، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فاذكروني أذكركم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفي ما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم ، كما : -

2312 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : "فاذكروني أذكركم " قال : اذكروني بطاعتي ، أذكركم بمغفرتي .

وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح .

ذكر من قال ذلك :

1313 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " ، إن الله ذاكر من ذكره ، وزائد من شكره ، ومعذب من كفره . [ ص: 212 ]

2314 - حدثني موسى قال : حدثني عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "اذكروني أذكركم " قال : ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله . لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب .
القول في تأويل قوله تعالى ( واشكروا لي ولا تكفرون ( 152 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام ، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي ، "ولا تكفرون " ، يقول : ولا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم ، ولكن اشكروا لي عليها ، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم ، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي ، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته ، ومن كفرني حرمته وسلبته ما أعطيته .

والعرب تقول : "نصحت لك وشكرت لك " ، ولا تكاد تقول : "نصحتك " ، وربما قالت : "شكرتك ونصحتك " ، من ذلك قول الشاعر :


هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل


وقال النابغة في "نصحتك " :


نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
[ ص: 213 ]

وقد دللنا على أن معنى "الشكر " ، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة ، وأن معنى "الكفر" تغطية الشيء ، فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( 153 ) )

قال أبو جعفر : وهذه الآية حض من الله تعالى ذكره على طاعته ، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " على القيام بطاعتي ، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي ، والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي ، وأنقلكم إليه من أحكامي ، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه ، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه - وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل ، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به ، أو نقص في أموالكم - وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي ، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم ، واحتمال عنائه وثقله ، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي ، فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي ، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي ، وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصي ، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم ، حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قبلي . [ ص: 214 ]

وقد بينت معنى "الصبر " و "الصلاة " فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادته ، كما :

2315 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "واستعينوا بالصبر والصلاة " ، يقول : استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله ، واعلموا أنهما من طاعة الله .

2316 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " ، اعلموا أنهما عون على طاعة الله .

وأما قوله : "إن الله مع الصابرين " ، فإن تأويله : فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله ، كقول القائل : "افعل يا فلان كذا وأنا معك " ، يعني : إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ( 154 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم ، وترك معاصي ، وأداء سائر فرائضي عليكم ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : هو ميت ، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه ، فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيما ، فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي ، أحياء عندي ، في حياة ونعيم ، وعيش هني ، ورزق سني ، فرحين [ ص: 215 ] بما آتيتهم من فضلي ، وحبوتهم به من كرامتي ، كما : -

2317 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "بل أحياء " عند ربهم ، يرزقون من ثمر الجنة ، ويجدون ريحها ، وليسوا فيها .

2318 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

2319 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " ، كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم سدرة المنتهى ، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير : من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا .

2320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " قال : أرواح الشهداء في صور طير بيض .

2321 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، في صور طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها ، يأكلون من حيث شاءوا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #217  
قديم 12-08-2022, 06:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد






تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(203)
الحلقة (217)
صــ 216إلى صــ 223



2322 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عثمان بن غياث . قال : سمعت عكرمة يقول في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " قال : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة . [ ص: 216 ]

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم ، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى الجنة يشمون منها روحها ، ويستعجلون الله قيام الساعة ، ليصيروا إلى مساكنهم منها ، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها ، وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار ينظرون إليها ، ويصيبهم من نتنها ومكروهها ، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ، ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة ، حذارا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها ، مع أشباه ذلك من الأخبار . وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي خص به القتيل في سبيل الله ، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة ، وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك ، وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان ؟

قيل : إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك ، وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره ، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر ، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه . فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم ، والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخبر عنهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) [ سورة آل عمران : 169 - 170 ] ، وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

2323 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة [ ص: 217 ] بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشهداء على بارق ، نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء - وقال عبدة : في روضة خضراء - يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا .

2324 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي ، عن ابن بشار السلمي - أو أبي بشار ، شك أبو جعفر - قال : أرواح الشهداء في [ ص: 218 ] قباب بيض من قباب الجنة ، في كل قبة زوجتان ، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثور وحوت ، فأما الثور ، ففيه طعم كل ثمرة في الجنة ، وأما الحوت ففيه طعم كل شراب في الجنة .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غير موجود في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، وإنما فيه الخبر عن حالهم ، أموات هم أم أحياء .

قيل : إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم ، إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص به الشهداء في قوله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ سورة آل عمران : 169 ] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك ، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، نهي خلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى ترك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم .

وأما قوله : "ولكن لا تشعرون" ، فإنه يعني به : ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به .

وإنما رفع قوله : "أموات " بإضمار مكني عن أسماء "من يقتل في سبيل الله " ، ومعنى ذلك : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات . ولا يجوز النصب في [ ص: 219 ] "الأموات " ، لأن القول لا يعمل فيهم ، وكذلك قوله : "بل أحياء " ، رفع ، بمعنى : هم أحياء .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) )

قال أبو جعفر : وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وكما امتحن أصفياءه قبلهم . ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ سورة البقرة : 214 ] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيره يقول .

2325 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " ، ونحو هذا ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال : "وبشر الصابرين " ، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته ، لتطيب أنفسهم فقال : ( مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) . [ ص: 220 ]

ومعنى قوله : "ولنبلونكم " ، ولنختبرنكم . وقد أتينا على البيان عن أن معنى "الابتلاء " الاختبار ، فيما مضى قبل .

وقوله : "بشيء من الخوف " ، يعني من الخوف من العدو ، وبالجوع - وهو القحط - يقول : لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسنة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة ، وتتعذر المطالب عليكم ، فتنقص لذلك أموالكم ، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار ، فينقص لها عددكم ، وموت ذراريكم وأولادكم ، وجدوب تحدث ، فتنقص لها ثماركم . كل ذلك امتحان مني لكم ، واختبار مني لكم ، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه ، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم ، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب .

كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما :

2326 - حدثني هارون بن إدريس الكوفي الأصم قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وإنما قال تعالى ذكره : "بشيء من الخوف " ولم يقل بأشياء ، لاختلاف أنواع ما أعلم عباده أنه ممتحنهم به . فلما كان ذلك مختلفا - وكانت "من " تدل على أن كل نوع منها مضمر "شيء " ، فإن معنى ذلك : ولنبلونكم بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع ، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر "الشيء " في أوله ، من إعادته مع كل نوع منها .

ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم ، وامتحنهم بضروب المحن ، كما : -

2327 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 221 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات قال : قد كان ذلك ، وسيكون ما هو أشد من ذلك .

قال الله عند ذلك : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .

ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به ، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه ، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي ، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به ، القائلين إذا أصابتهم مصيبة : "إنا لله وإنا إليه راجعون " . فأمره الله تعالى ذكره بأن يخص - بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد - أهل الصبر ، الذين وصف الله صفتهم .

وأصل "التبشير " : إخبار الرجل الرجل الخبر ، يسره أو يسوءه ، لم يسبقه به إلى غيره
القول في تأويل قوله تعالى ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وبشر ، يا محمد ، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني ، فيقرون بعبوديتي ، ويوحدونني بالربوبية ، [ ص: 222 ] ويصدقون بالمعاد والرجوع إلي فيستسلمون لقضائي ، ويرجون ثوابي ، ويخافون عقابي ، ويقولون - عند امتحاني إياهم ببعض محني ، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها - إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون - تسليما لقضائي ورضا بأحكامي .
القول في تأويل قوله تعالى ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( 157 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الصابرون ، الذين وصفهم ونعتهم - "عليهم " ، يعني : لهم ، "صلوات " ، يعني : مغفرة . "وصلوات الله " على عباده ، غفرانه لعباده ، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

2328 - "اللهم صل على آل أبي أوفى " .

يعني : اغفر لهم . وقد بينا "الصلاة " وما أصلها في غير هذا الموضع .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #218  
قديم 12-08-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(204)
الحلقة (218)
صــ 224إلى صــ 231






وقوله : "ورحمة " ، يعني : ولهم مع المغفرة ، التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها ، رحمة من الله ورأفة . [ ص: 223 ]

ثم أخبر تعالى ذكره - مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه ، تسليما منهم لقضائه ، من المغفرة والرحمة - أنهم هم المهتدون ، المصيبون طريق الحق ، والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب .

وقد بينا معنى "الاهتداء " ، فيما مضى ، فإنه بمعنى الرشد للصواب .

وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

2329 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " قال : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ، ورجع واسترجع عند المصيبة ، كتب له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه .

2330 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 224 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، يقول : الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا .

2331 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير قال : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ، ألم تسمع إلى قوله : ( يا أسفى على يوسف ) [ سورة يوسف : 84 ] .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله )

قال أبو جعفر : "والصفا " جمع "صفاة " ، وهي الصخرة الملساء ، ومنه قول الطرماح :


أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
[ ص: 225 ]

وقد قالوا إن "الصفا " واحد ، وأنه يثنى "صفوان " ، ويجمع "أصفاء " و"صفيا ، وصفيا " ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز


كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي


وقالوا : هو نظير "عصا وعصي [ وعصي ، وأعصاء ] ، ورحا ورحي [ ورحي ] وأرحاء " .

وأما "المروة " ، فإنها الحصاة الصغيرة ، يجمع قليلها "مروات " ، وكثيرها "المرو " ، مثل "تمرة وتمرات وتمر " ، قال الأعشى ميمون بن قيس : [ ص: 226 ]


وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح


يعني ب "المرو " : الصخر الصغار ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :


حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع


ويقال " المشقر " .

وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : "إن الصفا والمروة " ، في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه ، دون سائر الصفا والمرو . ولذلك أدخل فيهما "الألف واللام " ، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين ، دون سائر الأصفاء والمرو .

وأما قوله : "من شعائر الله " ، فإنه يعني : من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها ، إما بالدعاء ، وإما بالذكر ، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها . ومنه قول الكميت :


نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
[ ص: 227 ]

وكان مجاهد يقول في الشعائر بما : -

2332 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : من الخبر الذي أخبركم عنه .

2333 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر ، إنما هو جمع "شعيرة " ، من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة ، وما عليهم في الطواف بهما . فمعناه : إعلامهم ذلك .

وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم ، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، فإنه مراد به الأمر . لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، فقال له : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ سورة النحل : 123 ] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده . فإذ كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج ، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله [ ص: 228 ] عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده ، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه ، فعليهم العمل بذلك ، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فمن حج البيت أو اعتمر )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "فمن حج البيت " ، فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء . وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو "حاج إليه " ، ومنه قول الشاعر :


لأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
[ ص: 229 ]

يعني بقوله : "يحجون " ، يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته . وإنما قيل للحاج "حاج " ، لأنه يأتي البيت قبل التعريف ، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف ، ثم ينصرف عنه إلى منى ، ثم يعود إليه لطواف الصدر . فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له : "حاج " .

وأما "المعتمر " ، فإنما قيل له : "معتمر " ، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه . وإنما يعني تعالى ذكره بقوله : "أو اعتمر " ، أو اعتمر البيت ، ويعني ب "الاعتمار " الزيارة . فكل قاصد لشيء فهو له "معتمر " ، ومنه قول العجاج :


لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر


يعني بقوله : "حين اعتمر " ، حين قصده وأمه .
[ ص: 230 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما .

فإن قال قائل : وما وجه هذا الكلام ، وقد قلت لنا ، إن قوله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما ؟ فكيف يكون أمرا بالطواف ، ثم يقال : لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما ؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج ؟ والأمر بالطواف بهما ، والترخيص في الطواف بهما ، غير جائز اجتماعهما في حال واحدة ؟

قيل : إن ذلك بخلاف ما إليه ذهبت . وإنما معنى ذلك عند أقوام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية ، تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما ، فقالوا : وكيف نطوف بهما ، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله ، شرك ؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحرج ذلك ، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما ، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #219  
قديم 12-08-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(205)
الحلقة (219)
صــ 232إلى صــ 239





فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، [ ص: 231 ] يعني : إن الطواف بهما ، فترك ذكر "الطواف بهما " ، اكتفاء بذكرهما عنه . وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه : من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر ، "فمن حج البيت أو اعتمر " فلا يتخوفن الطواف بهما ، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا ، وتصديقا لرسولي ، وطاعة لأمري ، فلا جناح عليكم في الطواف بهما .

و"الجناح " ، الإثم ، كما : -

2334 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : ليس عليه إثم ، ولكن له أجر .

وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين .

ذكر الأخبار التي رويت بذلك :

2335 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن الشعبي : أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى "إسافا " ، ووثنا على المروة يسمى "نائلة " ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين . فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان ، قال المسلمون : إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال : فأنزل الله : إنهما من الشعائر ، "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

2336 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : كان صنم بالصفا يدعى "إسافا " ، ووثن بالمروة يدعى "نائلة " ، [ ص: 232 ] ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه ، قال : فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا .

2337 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد ، وزاد فيه - قال : فجعله الله تطوع خير .

2338 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرني عاصم الأحول قال : قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية ؟ فقال : نعم كنا نكره الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ، حتى نزلت هذه الآية إن الصفا والمروة من شعائر الله

2339 - حدثني علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة ، فقال : كانتا من مشاعر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما ، فنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " . [ ص: 233 ]

2340 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبو الحسين المعلم قال : حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عمرو بن حبشي قال : قلت لابن عمر : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله ، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . فأتيته فسألته ، فقال : إنه كان عندهما أصنام ، فلما حرمن أمسكوا عن الطواف بينهما ، حتى أنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 234 ]

2341 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وذلك أن ناسا كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فأخبر الله أنهما من شعائره ، والطواف بينهما أحب إليه ، فمضت السنة بالطواف بينهما .

2342 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : زعم أبو مالك ، عن ابن عباس : أنه كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام وظهر ، قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة ، فإنه شرك كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 235 ]

2343 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : قالت الأنصار : إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره : " إن الصفا والمروة من شعائر الله "

2344 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

2345 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما قال : كان أهل الجاهلية قد وضعوا على كل واحد منهما صنما يعظمونهما ، فلما أسلم المسلمون كرهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين ، فقال الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، وقرأ : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ سورة الحج : 32 ] ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما .

2346 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس : الصفا والمروة ، أكنتم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نهيتم عنها ؟ قال : نعم ، حتى نزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

2347 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : أخبرنا عاصم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن الصفا والمروة من مشاعر قريش في الجاهلية ، [ ص: 236 ] فلما كان الإسلام تركناهما .

وقال آخرون : بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ، في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوفونه في الجاهلية .

ذكر من قال ذلك :

2348 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية ، فكان حي من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فأخبرهم الله أن الصفا والمروة من شعائر الله ، وكان من سنة إبراهيم وإسماعيل الطواف بينهما .

2349 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

2350 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير قال : سألت عائشة فقلت لها : أرأيت قول الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ؟ وقلت لعائشة : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار : كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة ، الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلل ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين [ ص: 237 ] الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما . [ ص: 238 ]

2351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجال من الأنصار ممن يهل لمناة في الجاهلية - و "مناة " صنم بين مكة والمدينة - قالوا : يا نبي الله ، إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" . قال عروة : فقلت لعائشة : ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة ! قال الله : "فلا جناح عليه " . قالت : يا ابن أختي ، ألا ترى أنه يقول : "إن الصفا والمروة من شعائر الله "! قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال : هذا العلم! قال أبو بكر : ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة ، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية كلها ، قال أبو بكر : فأسمع أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، في من طاف وفي من لم يطف . [ ص: 239 ]

2352 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #220  
قديم 12-08-2022, 06:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد






تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(206)
الحلقة (220)
صــ 240إلى صــ 247



فأما قوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي ، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية ، على ما روي عن عائشة . [ ص: 240 ]

وأي الأمرين كان من ذلك ، فليس في قول الله تعالى ذكره : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، الآية ، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما ، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ، ثم جعل الطواف بهما رخصة ، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت ، ثم رخص فيه بقوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه . فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه ، كما لا يجزي تارك الطواف - الذي هو طواف الإفاضة - إلا قضاؤه بعينه . وقالوا : هما طوافان : أمر الله بأحدهما بالبيت ، والآخر بين الصفا والمروة .

ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية ، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الصدر وما أشبه ذلك ، مما يجزي تاركه من تركه فدية ، ولا يلزمه العود لقضائه بعينه .

ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوع ، إن فعله صاحبه كان محسنا ، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء .

ذكر من قال : إن السعي بين الصفا والمروة واجب ولا يجزي منه فدية ، ومن تركه فعليه العود . [ ص: 241 ]

2353 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لعمري ما حج من لم يسع بين الصفا والمروة ، لأن الله قال : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

2353 م - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك بن أنس : من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة ، فليرجع فليسع ، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرة والهدي .

وكان الشافعي يقول : على من ترك السعي بين الصفا والمروة حتى رجع إلى بلده ، العود إلى مكة حتى يطوف بينهما ، لا يجزيه غير ذلك .

2354 - حدثنا بذلك عنه الربيع .

ذكر من قال : يجزي منه دم ، وليس عليه عود لقضائه .

قال الثوري بما : -

2355 - حدثني به علي بن سهل ، عن زيد بن أبي الزرقاء ، عنه ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن ، وإن لم يعد فعليه دم .

ذكر من قال : الطواف بينهما تطوع ، ولا شيء على من تركه ، ومن كان يقرأ : ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) .

2356 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا ابن جريج قال : قال عطاء : لو أن حاجا أفاض بعدما رمى جمرة العقبة ، فطاف بالبيت ولم يسع ، فأصابها - يعني : امرأته - لم يكن عليه شيء ، لا حج ولا عمرة ، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود : "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " . فعاودته بعد ذلك فقلت : إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ألا تسمعه يقول : "فمن تطوع خيرا " ، فأبى أن يجعل عليه شيئا ؟

2357 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، [ ص: 242 ] عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .

2358 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سمعت أنسا يقول : الطواف بينهما تطوع .

2359 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا عاصم الأحول قال : قال أنس بن مالك : هما تطوع .

2360 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

2361 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : فلم يحرج من لم يطف بهما .

2362 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا أحمد ، عن عيسى بن قيس ، عن عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : هما تطوع . [ ص: 243 ]

2364 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس بن مالك : السعي بين الصفا والمروة تطوع ؟ قال : تطوع .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب ، وأن على من تركه العود لقضائه ، ناسيا كان ، أو عامدا . لأنه لا يجزيه غير ذلك ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس ، فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما .

ذكر الرواية عنه بذلك :

2365 - حدثني يوسف بن سلمان قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ابدأوا بما بدأ الله بذكره . فبدأ بالصفا فرقي عليه .

2366 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ابن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، فأتى الصفا فبدأ بها ، فقام عليها ، ثم أتى المروة فقام عليها ، وطاف وسعى . [ ص: 244 ]

فإذ كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة - أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، وعمله في حجه وعمرته وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نص الله في كتابه ، وفرضه في تنزيله ، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه ، لازما العمل به أمته ، كما قد بينا في كتابنا "كتاب البيان عن أصول الأحكام " - إذا اختلفت الأمة في وجوبه ، ثم كان مختلفا في الطواف بينهما : هل هو واجب أو غير واجب كان بينا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر ، لما وصفنا .

وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلفا فيما على من تركه ، مع إجماع جميعهم على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم ، إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة ، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه ، إذ كانا كلاهما طوافين : أحدهما بالبيت ، والآخر بالصفا والمروة . [ ص: 245 ]

ومن فرق بين حكمهما عكس عليه القول فيه ، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما .

فإن اعتل بقراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .

قيل : ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين ، غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها . وسواء قرأ ذلك كذلك قارئ ، أو قرأ قارئ : ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ سورة الحج : 29 ] ، "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا به " . فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف ، كانت الأخرى نظيرتها ، وإلا كان مجيز إحداهما - إذا منع الأخرى - متحكما ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

وقد روي إنكار هذه القراءة ، وأن يكون التنزيل بها ، عن عائشة .

2367 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما! فقالت عائشة : كلا! لو كانت كما تقول ، كانت : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة - وكانت مناة حذو قديد - ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة . فلما جاء الإسلام ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج [ ص: 246 ] البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

قال أبو جعفر : وقد يحتمل قراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، أن تكون "لا " التي مع "أن " ، صلة في الكلام ، إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها ، وهو قوله : ( فلا جناح عليه ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره : ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 12 ] ، بمعنى ما منعك أن تسجد ، وكما قال الشاعر :


ما كان يرضى رسول الله فعلهما والطيبان أبو بكر ولا عمر


ولو كان رسم المصحف كذلك ، لم يكن فيه لمحتج حجة ، مع احتمال الكلام ما وصفنا . لما بينا أن ذلك مما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، على ما ذكرنا ، ولدلالة القياس على صحته ، فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، ومما لو قرأه اليوم قارئ كان مستحقا العقوبة لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه ؟
[ ص: 247 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( 158 ) )

قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : "ومن تطوع خيرا " على لفظ المضي ب "التاء " وفتح "العين " . وقرأته عامة قراء الكوفيين : "ومن يطوع خيرا " ب "الياء " وجزم "العين " وتشديد "الطاء " ، بمعنى : ومن يتطوع . وذكر أنها في قراءة عبد الله : "ومن يتطوع " ، فقرأ ذلك قراء أهل الكوفة ، على ما وصفنا ، اعتبارا بالذي ذكرنا من قراءة عبد الله - سوى عاصم ، فإنه وافق المدنيين - فشددوا "الطاء " طلبا لإدغام "التاء " في "الطاء " . وكلتا القراءتين معروفة صحيحة ، متفق معنياهما غير مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل . فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب .

[ والصواب عندنا في ذلك ، أن ] معنى ذلك : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه ، فإن الله شاكر له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه ، فمجازيه به ، عليم بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع به .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 281.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 275.18 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]