فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 27 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سعد بن عبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الدرة المصونة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          من أسرار اللغة في الكتاب والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          دليل المعلم المجيد في علوم القرآن والتجويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          رمضانيات المرأة التقية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          وصية الأهل لعروسهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          كيف نستمر في اصلاح نفوسنا بعد الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          خواطر شاردة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ما سلم حتى ودع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الفتن والنجاة منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         
[حجم الصفحة الأصلي: 271.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 265.80 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #261  
قديم 06-05-2024, 10:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 261)

من صــ 111 الى صـ 125

وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا كَفَّرَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ مِثْلِ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ مَا يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ دِينِهِمْ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَلَا فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ شَرَائِعِهِمْ كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.
ويقال لهم: أين ما معكم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا اختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر.
فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل.
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا: إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك؟.

وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد تكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها.
وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة.
ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين.

(فصل)
(سئل شيخ الإسلام عن كتاب ظهر بين الناس فيه أباطيل تخالف ما في كتاب الله)
ما تقول السادة العلماء - أئمة الدين وهداة المسلمين -:

في كتاب بين أظهر الناس زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في منام زعم أنه رآه؛ وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله من كتبه المنزلة وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة؛ فمما قال فيه: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر. وقال في موضع آخر: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. وقال في قوم نوح عليه السلام إنهم لو تركوا عبادتهم لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر: لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء. ثم قال: فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة: كالأعضاء في الصورة المحسوسة. ثم قال في قوم هود عليه السلام بأنهم حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها وكانوا على صراط الرب المستقيم.

ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا؟ أو يرضى به منه أم لا؟ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلا بالغا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا؟ أفتونا بالوضوح والبيان كما أخذ الميثاق للتبيان فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال والله المستعان وعليه الاتكال أن يعجل بالملحدين النكال؛ لصلاح الحال وحسم مادة الضلال.

فأجاب:الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة المنكورة: كل كلمة منها هي من الكفر الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل من المسلمين؛ واليهود والنصارى؛ فضلا عن كونه كفرا في شريعة الإسلام. فإن قول القائل: إن آدم للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر: يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس وبعض منه وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه؛ وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم وهو معروف من أقوالهم. الكلمة الثانية: توافق ذلك وهو قوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. ولهذا قال في تمام ذلك: فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة {فانظر ماذا ترى} {يا أبت افعل ما تؤمر} والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه ففديناه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش: من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة؛ لا بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} فما نكح سوى نفسه.

وقال في موضع: وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته. وقال: ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو وعن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه - وهو المسمى أبو سعيد الخراز - وغير ذلك من أسماء المحدثات. إلى أن قال: فالعلي لنفسه: هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟ وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما هي صفات المحدثات حق للحق وأمثال هذا الكلام. فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم؛ مذهبهم الذي هم عليه: أن الوجود واحد؛ ويسمون أهل وحدة الوجود ويدعون التحقيق والعرفان وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبيح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم: عين الخالق وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا؛ بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله. فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم لأنه ما عندهم له غير؛ ولهذا جعلوا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} بمعنى قدر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه؛ إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته فكل عابد صنم إنما عبد الله. ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب: عباد العجل مصيبين وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل. وقال: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبدوا إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع؛ فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتباعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء.
ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين المحققين وأنه كان مصيبا في دعواه الربوبية. كما قال في هذا الكتاب: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه جار في العرف الناموسي لذلك. قال: {أنا ربكم الأعلى}أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما: فأنا الأعلى منهم؛ بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم. ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله: لم ينكروه؛ بل أقروا له بذلك وقالوا له: {فاقض ما أنت قاض} فالدولة لك فصح قول فرعون: {أنا ربكم الأعلى} وأنه كان عين الحق. ويكفيك معرفة بكفرهم: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا؛ بريا من الذنوب كما قال: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بالله؛ بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره وطغيانه وعلوه: أعظم مما ذكر عن فرعون.
وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب فإن لفظ آل فرعون: كلفظ آل إبراهيم وآل لوط وآل داود وآل أبي أوفى؛ يدخل فيها المضاف باتفاق الناس فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس أو من هو من أعظم أعدائه: فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله: علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى فكيف بسائر مقالاتهم؟.

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها: على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك. فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟. واتفق سلف الأمة وأئمتها: أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته. ولا في أفعاله وقال: من قال من الأئمة من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن هؤلاء غاية كفرهم: أن يجعلوه مثل المخلوقات. لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بهما كل كافر وكل فاجر وكل شيطان وكل سبع وكل حية من الحيات فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. والله تعالى ينتقم لنفسه ولدينه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم.

وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم؛ حيث قالوا: {إن الله هو المسيح} فكلما قالته النصارى في المسيح: يقولونه في الله وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء. ولما قرءوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم؛ قال له قائل: هذا الكتاب يخالف القرآن. فقال: القرآن كله شرك. وإنما التوحيد في كلامنا هذا: يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد؛ فقال له القائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذا؟ قال: لا فرق لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم إنها كفر: لم يفهم هذا اللفظ حالها فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة بل كفر كل كافر جزء من كفرهم؛ ولهذا قيل لرئيسهم أنت نصيري. فقال: نصير جزء مني وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهؤلاء شر من أولئك الجهمية فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان وهؤلاء قولهم أنه وجود كل مكان؛ ما عندهم موجودان؛ أحدهما حال والآخر محل. ولهذا قالوا: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين وقد علم المسلمون واليهود والنصارى؛بالاضطرار من دين المرسلين: أن من قال عن أحد من البشر إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل إذ النصارى لم تقل هذا
- وإن كان قولها من أعظم الكفر - لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي جزء الخالق ولا أن الخالق هو المخلوق ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه.

وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق: بقدر ما تركوا منها: هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام وكفروا من يفعل ذلك وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام وكل معبود سوى الله كما قال الله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}. وقال الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال الخليل: {لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال الخليل - وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله - {يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}. وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من. اليهود والنصارى - فضلا عن المسلمين -


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #262  
قديم 07-05-2024, 12:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 262)

من صــ 126 الى صـ 140

مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِنَصِّ خَاصٍّ فَمَنْ قَالَ: إنَّ عُبَّادَ الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها؟ مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. وقال الله تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون}. وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله ثم يعبدون غيره وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}. وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره وأن الأصنام من الله؛ بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان وبمنزلة قوى النفس من النفس؛ وعباد الأصنام: اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب: كانوا مقرين بأن للسموات والأرض ربا غيرهما خلقهما وهؤلاء ليس عندهم للسموات والأرض وسائر المخلوقات رب مغاير للسموات والأرض وسائر المخلوقات بل المخلوق هو الخالق.

ولهذا جعل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم وجعلهم في عين القرب وجعل أهل النار يتمتعون في النار كما يتمتع أهل الجنة في الجنة. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله وأنهم معذبون في الآخرة وأن الله لعنهم وغضب عليهم فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم: فهو أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه. وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم فإنهم من جنس القرامطة الباطنية والإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري لما اجتمع بابن عربي - صاحب هذا الكتاب - فقال: رأيته شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله.

وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام - لما قدم القاهرة وسألوه عنه - قال: هو شيخ سوء كذاب مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا فقوله: يقول بقدم العالم؛ لأن هذا قوله وهذا كفر معروف فكفره الفقيه أبو محمد بذلك ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله وإن العالم صورة الله وهوية الله فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم الذين يثبتون واجب الوجود ويقولون إنه صدر عنه الوجود الممكن. وقال عنه من عاينه من الشيوخ: إنه كان كذابا مفتريا وفي كتبه - مثل الفتوحات المكية وأمثالها - من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب - هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين ومن القونوي والتلمساني وأمثاله من أتباعه فإذا كان الأقرب بهذا الكفر - الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى - فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام؟ ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر. ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون وانتسبوا إلى التشيع فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم. ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا.
وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا. وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو أو من قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين: أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم فضلالهم وإضلالهم: أعظم من أن يوصف وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولة التتار ويختارون انتصارهم على المسلمين إلا من كان عاميا من شيعهم وأتباعهم فإنه لا يكون عارفا بحقيقة أمرهم. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه ويجعلونهم على حق كما يجعلون عباد الأصنام على حق وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر ومن

كان محسنا للظن بهم - وادعى أنه لم يعرف حالهم - عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم. وأما من قال لكلامهم تأويل يوافق الشريعة؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى فمن لم يكفر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلا كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد. والله أعلم.
(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)

[فصل: دعوة أهل الكتاب إلى الحكم بما في كتبهم من الألفاظ الصحيحة]
والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله - تعالى -: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم} [المائدة: 41]
إلى قوله: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} [المائدة: 43] فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فيها حكم الله.
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن قيل: أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه، والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ، كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ، وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب ; كما قال - تعالى -: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وذلك أن اليهود قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.

وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال - تعالى -: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها.
وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله - تعالى -: في الإنجيل {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ " وليحكم أهل الإنجيل " بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي، فإنه تعالى قال {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47]
فإذا قرئ " وليحكم " كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذلك الإنجيل.
وأما قراءة الجمهور {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة: 47] فهو أمر بذلك، فمن العلماء من قال: هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله - تعالى -: " وليحكم " أمر لهم قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال: آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال - تعالى -:{ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم - سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل} [المائدة: 41 - 46] فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله، ثم تولوا عن حكم الله وقال: بعد ذلك {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل، والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال - تعالى -: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48].
فجعل القرآن مهيمنا. والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48] وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا: نفضحهم ويجلدون فقال: عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما».

وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا: نسود وجوههما ويطاف بهما قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] قال: فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا: صدق فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما فرجما».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #263  
قديم 07-05-2024, 12:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 263)

من صــ 141 الى صـ 155


وأخرج مسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: «مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم} [المائدة: 41] إلى قوله: فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال: هي في الكفار كلها».

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: «رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أسلم ورجلا من اليهود».
وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب، ثم ذكر قصة الرجم».

وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «زنى رجل من اليهود بامرأة فقال: بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا: نبي من أنبيائك قالوا: فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟.
قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما، ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساكتا أنشده فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما».
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية.
قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر».
فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - «قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]» والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50] قال: أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون.

وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول، فقد أخبر الله - عز وجل - أن في التوراة الموجودة بعد المسيح - عليه السلام - حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثاني:.
وهذا من التبديل الثاني: الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل.
ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن، فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه، فإنه يحكم به.

ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة.
قال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين - ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين - ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم - إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 48 - 56].

فقد أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال - تعالى -: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50] وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا، وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد، فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس، ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله - عز وجل -.

وكذلك موسى - عليه السلام - كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله - عز وجل - والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله - عز وجل - فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ ; كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ، بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله - عز وجل - ومما يوضح هذا قوله - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68] فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما قرره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني.
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع.
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله، والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني، فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك ; كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات، هل هو المسيح ابن مريم - عليه السلام - أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك.

وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول أنه لم يبدل شيء من ألفاظها، فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم الحق من الباطل، فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما.
والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع.

وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل، فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها، وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين ضعف تلك.
بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها، مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة، فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار ; كما قد بسط في موضعه، والقرآن يدل على غلط هذا، ويبين أن الخلق في ستة أيام، وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد.
وكذلك ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -، «صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة».

فإن الثابت المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك، وضعف الشافعي والبخاري وأحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه، وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط، والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط ; كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #264  
قديم 07-05-2024, 12:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 264)

من صــ 156 الى صـ 170





فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها، فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك، كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال: يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر - رضي الله عنه - بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها.

والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما ما أنزله الله - عز وجل - والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا، والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب، فإن عند السامرة نسخا متعددة.

وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود - عليه السلام - وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة.
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها؟ قيل: النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه.
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول ; لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول، وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني: وهو القرآن، كما قال - تعالى -: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91] فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال - تعالى -: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183] وقال - تعالى -: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] وقال - تعالى -: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون - قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48 - 49] وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني: وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول ; كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإذا كان من قول السلف: إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة؛ كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: كفروا كفرا لا ينقل عن الملة وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.
عن ابن طاووس عن أبيه قال: قلت لابن عباس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فهو كافر. قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.
عن عطاء قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
قال محمد بن نصر: قالوا: وقد صدق عطاء قد يسمى الكافر ظالما ويسمى العاصي من المسلمين ظالما فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل. قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.

حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.

قال محمد بن نصر: وكذلك " الفسق فسقان ": فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال: {ففسق عن أمر ربه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وسمي الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام. قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} وقال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فقالت العلماء في تفسير الفسوق هاهنا: هي المعاصي. قالوا: فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين كذلك الكفر كفرانأحدهما ينقل عن الملة) و (الآخر لا ينقل عن الملة) وكذلك الشرك " شركان ": شرك في التوحيد ينقل عن الملة وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الطيرة شرك}.
قال محمد بن نصر: فهذان مذهبان هما في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث حكى الشالنجي إسماعيل بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}. يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام ومن نحو قوله: {لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن} ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فقلت له: ما هذا الكفر؟ فقال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} لا يكون مستكمل الإيمان يكون ناقصا من إيمانه قال: وسألت أحمد بن حنبل عن " الإسلام والإيمان " فقال: الإيمان قول وعمل والإسلام إقرار. قال: وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبي شيبة لا يكون الإسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام.
(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)
[فصل: الرد عليهم في زعمهم أن الإسلام عظم إنجيلهم الذي بين أيديهم]

فصل
قالوا وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} [المائدة: 48] وقال: في سورة آل عمران: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس} [آل عمران: 1 - 4]. وقال: في سورة البقرة {الم - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون - أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1 - 5]. فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه، ثم اتبع بالقول {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما آتى به وما أتى من قبله وقال: في سورة المائدة {وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] وقال في سورة آل عمران: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.

وقال: أيضا: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94].
فثبت بهذا ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
والجواب: بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]. أن يقال: أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان.
قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 84 - 85]

وقال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177]
وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286] وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48].

وقال - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع.
وأما تأويلهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] أنه الإنجيل و {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]عنى بهم النصارى فهو من تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله ; كما فعلوه في قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} [آل عمران: 85] وفي قوله: بإذني أي باللاهوت وفي قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل، فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه ; كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها ; كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه؟.
وهؤلاء غرهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل.
فيقال: لهم هذا كقوله: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية، وقوله: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10]

وقوله: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2] ومثله قوله - تعالى -: بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [يوسف: 102] وقال أيضا: لما ذكر خبر مريم: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} [آل عمران: 44] ; كما قال: لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49] وقال: {الر - تلك آيات الكتاب المبين - إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 1 - 2] وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى القرآن ومنه قوله: {الر - تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1] وقوله: {طس - تلك آيات القرآن وكتاب مبين} [النمل: 1] ومنه قوله: {طسم - تلك آيات الكتاب المبين} [القصص: 1 - 2] ومنه قوله: {حم - عسق - كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} [الشورى: 1 - 3] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} [الشورى: 7] وقوله: {المر - تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 1] الآية.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #265  
قديم 07-05-2024, 12:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 265)

من صــ 171 الى صـ 185




ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله: {ذلك الكتاب - تلك آيات الكتاب} [يونس: 2 - 1] ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه ; كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار إليه ; كما يشار إلى الحاضر ; كما قال - تعالى -: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50]
ولهذا قال: غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال {هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2 - 3] وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب.
قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال - تعالى -: لما ذكر المسيح {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم - أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 37 - 38] وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] ونهى عن موالاتهم فقال {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون - إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} [الجاثية: 18 - 19]
فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه ; لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال - تعالى -: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] وأيضا فإنه قال - تعالى -: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3]

وهي الصلاة التي أمر بها في قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] وقد قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» والنصارى يصلون بغير طهور.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهم لا يقرؤونها. والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها.
ثم لو قال اليهودي المراد بقوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] التوراة وبالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل ; لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل، فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} [هود: 17] وقوله - تعالى -: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وقد قالت الجن لما سمعت القرآن {قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} [الأحقاف: 30] وقال: النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران.
وقال - تعالى -: قالوا: {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} [القصص: 48] أي: التوراة والقرآن. وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون.

قال الله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] فقد بين أنه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن.
وقال - تعالى -: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} [الأنعام: 91 - 92].

وأما قوله - تعالى -: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا، ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله. والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله - تعالى -: {سبح اسم ربك الأعلى - الذي خلق فسوى - والذي قدر فهدى - والذي أخرج المرعى - فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 1 - 5] والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله - تعالى -: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم - الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون - والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون - والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} [الزخرف: 9 - 12] ومثله قوله: {قد أفلح المؤمنون - الذين هم في صلاتهم خاشعون - والذين هم عن اللغو معرضون - والذين هم للزكاة فاعلون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم على صلواتهم يحافظون - أولئك هم الوارثون - الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 1 - 11].
فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله: {إن الإنسان خلق هلوعا - إذا مسه الشر جزوعا - وإذا مسه الخير منوعا - إلا المصلين - الذين هم على صلاتهم دائمون - والذين في أموالهم حق معلوم - للسائل والمحروم - والذين يصدقون بيوم الدين - والذين هم من عذاب ربهم مشفقون - إن عذاب ربهم غير مأمون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم بشهاداتهم قائمون - والذين هم على صلاتهم يحافظون - أولئك في جنات مكرمون} [المعارج: 19 - 35].
وقد فسر قبل قوله: يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب.
وعلى هذا القول: هؤلاء غير هؤلاء، لكن هذا ضعيف، فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب. فكل من الإيمانين واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا.
وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى - عليه السلام - وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي - عليه السلام -، فإن صورة النبي ليست من الغيب، فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله، وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم.
والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه.
فصل
وأما قوله: في سورة المائدة {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه ; كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} [المائدة: 41] أي: قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله.

فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب.
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال: فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه.
فقوله: سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق.
وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون ; كما قال: في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال: إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال: سماعون لهم هم الجواسيس، فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه.
قال - تعالى -: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} [المائدة: 41] أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 41] والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم.
ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل.
قال - تعالى -: {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42]، ثم قال {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 43 - 45] فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها {هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]

وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل، فإنه قال: في الإنجيل {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46] وقال فيه: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47] وقال: في التوراة {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل.

كما قال - تعالى -: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا - صلى الله عليه وسلم -وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى، فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ، واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى، والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل. فعلم اتفاق أهل الملل كلها: المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ، فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ.
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)
[فصل: رفض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بين أيديهم]

قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
فيقال: كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل، فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه، فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #266  
قديم 07-05-2024, 12:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 266)

من صــ 186 الى صـ 200




وقال - تعالى -: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} [آل عمران: 1 - 4] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]
وقال - تعالى -: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} [النساء: 47] وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وقال: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} [فاطر: 31] وقال: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} [البقرة: 101] وقال - تعالى -: {آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} [النساء: 47] وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض، فقال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]

وقال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا - والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 150 - 152] فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]
فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال - تعالى -: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55] وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب، فإن تاب وإلا قتل.

ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به ; كما يصدقون بما أخبر به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين، ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب ; كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به ; كما أمرهم نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وبهذا أمرهم المسيح - عليه السلام - فقال: الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه.
فصل
وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم: أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم ; كما قال - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31]

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] قال: عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم.
قال «أنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم».
فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله.

وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه ; كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا.
وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما، ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله - تعالى -:{ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 156 - 158] وقال - تعالى -: يخاطب النصارى {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 171 - 173]

وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] وقال - تعالى -: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] أخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وقال - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77] فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله.

وقال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى.
قال - تعالى -:{ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير - إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم - انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون - ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين - لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} [التوبة: 38 - 48].
فصل
فتبين أن قولهم: فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق.

وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء - عليهم السلام - قبله فهذا باطل.
وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين.
فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها ; كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها.

وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا ; كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم، فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام.
فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم.
وحينئذ فليس شهادة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته للمسيح - عليه السلام - ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح - عليه السلام - والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند اليهود، فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها.
وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر».
فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق ; لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى.
وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل.
فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشرع القرآن؟.

وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به، بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 - 151] وقال - تعالى -:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85] وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له ; كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف حالهم عنده - صلى الله عليه وسلم -.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #267  
قديم 07-05-2024, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 267)

من صــ 201 الى صـ 215




[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَفَرَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ شَاهِدًا بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ يُكَفِّرُ جَمِيعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُلَّهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَرَّفَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمُ الَّذِي شَهِدَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مُبَدَّلٌ مَنْسُوخٌ وَأَهْلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ.
وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ لِنُبَيِّنَ تَنَاقُضَهُ حَيْثُ صَدَّقَهَا وَهِيَ تُنَاقِضُ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَوْ لِنُبَيِّنَ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ يُنَاقِضُ خَبَرَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا جَاءَ بِهِ.
أَجَابَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذَا بِعِدَّةِ طُرُقٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا أَمَّا مُنَاقَضَةُ بَعْضِ خَبَرِهِ لِبَعْضٍ ; كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ كِتَابَهُ يَمْدَحُ أَهْلَ الْكِتَابِ مَرَّةً وَيَذُمُّهُمْ أُخْرَى وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ تَارَةً وَيَذُمُّهَا أُخْرَى فَهَذَا قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا مَدَحَ مَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَالْمَسِيحَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ.
وَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ فَقَدْ كَفَّرَهُ.
فَأَمَّا دَعْوَاهُمْ مُنَاقَضَةَ خَبَرِهِ لِخَبَرِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: هُوَ مُصَدِّقٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فَمَا أَخْبَرُوا بِهِ.
وَأَمَّا مَا بُدِّلَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا بِالتَّرْجَمَةِ أَوْ فُسِّرَ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَثْبُتُ بِمِثْلِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّاتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَبِأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَأَنَّهُ مَا مِنْ طَرِيقٍ يُعْلَمُ بِهَا نُبُوَّةُ غَيْرِهِ إِلَّا وَنُبُوَّتُهُ تُعْلَمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَبِأَعْظَمَ مِنْهَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نُبُوَّتُهُ وَطَرِيقُ ثُبُوتِهَا إِلَّا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته ; كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة.

وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع ; كما قال - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] وقال - تعالى -: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51 - 53] وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع ; كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من إخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال: لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.

فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ.
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب، فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.

وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر.
وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا.
فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات.
أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كاذب.
والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.

والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم: أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين، إجابة المسلم بوجوه.
منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بإخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر أصله صحيحا أو فاسدا، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير.
وكذلك إذا قال: له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل.
قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله - تعالى -: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 156 - 157] الآية.
وقال - تعالى -: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] إلى أمثال ذلك.
فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.
ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.
ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين، ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه، ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين ; لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية، والأدلة العلمية لا تتناقض.
الطريق الثاني: أن يقول المسلمون: ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات.
أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والثانية: أنهم قالوا: هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم.
والثالثة: أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم ذلك.
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا اجتمعت.
وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.
الطريق الثالث: طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.
الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت،ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.
الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها.
وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها.
(فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ... (48)

فأمره أن يحكم بما أنزل الله على من قبله لكل جعلنا من الرسولين والكتابين شرعة ومنهاجا أي سنة وسبيلا فالشرعة الشريعة وهي السنة والمنهاج الطريق والسبيل وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته والثاني وإن كان حكما غير الحكم الذي أنزل نهى له أن يترك شيئا مما أنزل فيها عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله وإن لم يكن من أهل الكتاب الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه.
(ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)
(فصل في ذكر أشياء من منكرات دين النصارى)
قال الشيخ - رضي الله عنه -:

ونذكر أشياء من منكرات دين النصارى لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله. وقد بلغني أنهم يخرجون في الخميس الحقير. الذي قبل ذلك أو السبت أو غير ذلك إلى القبور. وكذلك يبخرون في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع مضرة ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة حتى إن الأسواق تبقى مملوءة أصوات النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر. وقد ألقي إلى جماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا: كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينسب إلى فقه ودين قد شاركهم في ذلك ألقي إليهم أن هذا البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهواء.

ويصورون صور الحيات والعقارب. ويلصقونها في بيوتهم زعما أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة. ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب باب البيت. ويخرج خلق عظيم في الخميس الحقير المتقدم وعلى هذا يبخرون القبور ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر أو بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار. ومما يفعله الناس من المنكرات: أنهم يوظفون على الفلاحين وظائف أكثره كرها؛ من الغنم والدجاج واللبن والبيض يجتمع فيها تحريمان: أكل مال المسلم والمعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع ويطبخون منه ويصطبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن. الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر. وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء لبركة نزول مريم عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حبة من الإيمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى. لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح.
وأصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم فيوم الخميس هو عندهم يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير. ولما كان عيدا صاروا يصنعون لأولادهم فيه البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن وبيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه. وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يرى الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا. وكل ما خصت به هذه الأيام من أفعالهم وغيرها فليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه. ومن ذلك أيضا أنهم يكسون بالحمرة دوابهم ويصبغون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج.

وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وبقي عادة مطردة. وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم {لتتبعن سنن من كان قبلكم} وإذا كانت المتابعة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح. كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعمد في المعمودية. وقول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية أو اليهودية المبدلين المنسوخين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة. وأصل ذلك المشابهة والمشاركة. وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية. وبعض حكم ما شرع الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة الأمور؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #268  
قديم 07-05-2024, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 268)

من صــ 216 الى صـ 230



فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}. وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء. ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}. وروي أيضا: {هلكت الرجال حين أطاعت النساء} وقد {قال صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر: إنكن صواحب يوسف}. يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما قال في الحديث الآخر: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن}. {ولما أنشده الأعشى - أعشى باهلة - أبياته التي يقول فيها: وهن شر غالب لمن غلب جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول: وهن شر غالب لمن غلب} ولذلك امتن الله سبحانه على زكريا حيث قال: {وأصلحنا له زوجه} قال بعض العلماء ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم {من تشبه بقوم فهو منهم}. وقد روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم؛ والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم - عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه " لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". فهذا عمر قد نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف من يفعل بعض أفعالهم؟ أو قصد ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من موافقتهم في اللغة؟ أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك.

ثم قوله: " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم وقال ابن عمر في كلام له: من صنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم. وقال عمر: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصارى واحتج بقول الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال الشعانين وأعيادهم. وقال عبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك في كلام له قال: فلا يعاونون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره: لم أعلم أنه اختلف فيه.
وأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهيته بل هو عندي أشد: وقد سئل أبو القاسم عن الركوب في السفن التي ركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم. الذي اجتمعوا عليه وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم} فيوافقهم ويعينهم {فإنه منهم}. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال: قلت لعمر: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} ألا اتخذت حنيفيا قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
وقال الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال مجاهد: أعياد المشركين وكذلك قال الربيع بن أنس. وقال القاضي أبو يعلى (مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: عيد المشركين وبإسناده عن سنان عن الضحاك {والذين لا يشهدون الزور} كلام المشركين. وروى بإسناده عن ابن سلام عن عمرو بن مرة {والذين لا يشهدون الزور} لا يماكثون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم. وقد دل الكتاب وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع أهل العلم عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم. . . (1) إيقاد النار والفرح بها من شعار المجوس عباد النيران. والمسلم يجتهد في إحياء السنن. وإماتة البدع. ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون} وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. والله سبحانه أعلم.
وسئل:
عمن يفعل من المسلمين: مثل طعام النصارى في النيروز. ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس والميلاد وخميس العدس وسبت النور ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئا من ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
وأما إذا أصابه المسلمون قصدا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف.

وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء. بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من [تأسى] (*) ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: {نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم} فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبا حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار وقال: {لا وفاء لنذر في معصية الله}.

فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية. فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونها سرا في مساكنهم. فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم. فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} قالوا أعياد الكفار فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} وفي لفظ: {ليس منا من تشبه بغيرنا} وهو حديث جيد. فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان من العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟!.
وقد كره جمهور الأئمة - إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه - أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا دما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك. فكيف على ما هو من شعائر الكفر. وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك والله أعلم.
[النهي عن موالاة الكفار ومودتهم]
وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقال سبحانه: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} [المجادلة: 14] يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود. . . إلى قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أولئك حزب الله} [المجادلة: 22].
وقال تعالى:
{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] إلى قوله: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73]
إلى قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [الأنفال: 75].
فعقد سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة.
والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة.
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة تميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات، وإنما عقد الموالاة لمن جمع الوصفين، وهم أمة محمد حقيقة.

وقال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 55 - 56] ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا - الذين هم حزبه وجنده - ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم.
والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة - كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة - ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال:
لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله " ولما دل عليه معنى الكتاب: وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع؛ لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط، فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة: إما علة مفردة أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة
من الشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه. بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل؛ فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا، لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، كما لو قيل للضيف: أكرمه، بمعنى أطعمه، أو للشيخ الكبير: وقره، بمعنى اخفض صوتك له، أو نحو ذلك.
[وجوه الأمر بمخالفة الكفار]

وذلك لوجوه:
* أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان المعنى علة للحكم، كما في قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]
وقوله {فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني» وهذا كثير معلوم.
فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه؛ كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم، فيكون مطلوبا بطريق الأولى.
* الوجه الثاني: أن جميع الأفعال مشتقة، سواء كانت مشتقة من المصدر، أو كان المصدر مشتقا منها، أو كان كل منهما مشتقا من الآخر، بمعنى: أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى، لا بمعنى: أن أحدهما أصل والآخر فرع، بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين، ونحو ذلك.
فعلى كل حال: إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر، مقصودا له كما في قوله: اتقوا الله و {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] و {آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] و {اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 72] و {فعليه توكلوا} [يونس: 84].
فإن نفس التقوى، والإحسان، والإيمان، والعبادة أمور مطلوبة مقصودة، بل هي نفس المأمور به.
ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة، وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة للآمر، لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به؛ إلا مع أمور معينة له، فإنه إذا قال: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين: من سواد، أو بياض، أو طول، أو قصر،
أو عربية، أو عجمية، أو غير ذلك من الصفات، لكن المقصود: هو المطلق المشترك بين هذه المعينات.
وكذلك إذا قيل: اتقوا الله وخالفوا اليهود؛ فإن التقوى تارة تكون بفعل واجب: من صلاة، أو صيام، وتارة تكون بترك محرم: من كفر أو زنا، أو نحو ذلك، فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره، فإذا رئي رجل على زنا فقيل: له اتق الله؛ كان أمرا له بعموم التقوى، داخلا فيه خصوص ترك ذلك الزنا؛ لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه. كذلك إذا قيل: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " كان أمرا بعموم المخالفة، داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية؛، لأنه سبب اللفظ العام.
وسببه: أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سبب يوجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه - وإن قيل: إن اللفظ العام يقصر على سببه - لأن العموم هاهنا من جهة المعنى - فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي.

فإن قيل: الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما، وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين؟.
قلت: هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين.
أحدهما: أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه؛ فإن العموم ثلاثة أقسام:
1 - عموم الكل لأجزائه: وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام، ولا أفراده على جزئه.
2 - عموم الجميع لأفراده: وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده.
3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه: وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده.

فالأول: عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه.
وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل: صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق وكذلك إذا قيل: أكرم هذا الرجل. فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوءه.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له؛ لانتفاء أجزاء الإكرام، ولا يقال: الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل بإطعام لقمة كذلك إذا قال: خالفوهم. فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء، أو في أكثرها على طريق التساوي؛ لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر، ولا يقال: إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة، كما لا يقال: إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة.
وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا.
فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها؛ كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة.

وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد.
فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا. ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد: أكرم الضيف بإعطاء هذا الدرهم. فهذا إكرام مقيد، فإذا قلت: أكرم الضيف. كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا
لا تحصل بحصول إعطاء درهم فقط.
، وأما القسم الثاني من العموم فهو عموم الجميع لأفراده كما يعم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] كل مشرك.
والقسم الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» جميع أنواع القتل والمسلم والكافر.
__________
Q (1) بياض بالأصل
Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 266): المشهور هو: بنى

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #269  
قديم 07-05-2024, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 269)

من صــ 231 الى صـ 245




إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها، إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان، بل الحكم للغالب وهذا تحقيق جيد، لكنه مبني على مقدمة وهو أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق، يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة، فإن خفي هذا في هذا الموضع المعين فخذ في:
الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة، فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة، كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول، وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] وغير ذلك من الأفعال.
وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهو أبلغ إذا صح.
ثم نقول: هب أن الإجزاء يحصل بما يسمى مخالفة، لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة؛ إذا كان الأمر مطلقا كما في قوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ونحو ذلك من الأوامر المطلقة.
الوجه الثالث في أصل التقرير أن عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كعدوله عن لفظ: أطعمه. إلى لفظ: أكرمه. وعن لفظ: فاصبغوا إلى لفظ: فخالفوهم لا بد له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل.
الوجه الرابع: أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص، والقصد العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص، فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر، وعلمت أن النبيذ مسكر، كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا، أو مالا مطلقا، وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده.
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأول لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به.
ففي قوله: أكرمه. طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به الفعل المطلق؛ وذلك؛ لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق، وهذا معنى صحيح، إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء؛ انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة.
بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور، فما زاد على ذلك لا حاجة إليه. قلت: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض؛ لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي.
وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم؛ لأن من قصد
مخالفتهم بحيث أمر بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا، ولا قصدنا كيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها.
الوجه الخامس: أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا على أنه علة له من غير وجه حيث قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير: اصبغوا؛ لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع، وهو المطلوب يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين:
أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب
المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط، فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرا بأمر الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا لمخالفة فيه صلاح لنا.

وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب وأشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشبه
مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم.
وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها.
ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام، لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى.
فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، لا يتشبه بأهل الكتاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب».
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي
: يا أبا هاشم اخضب ولو مرة واحدة، أحب لك أن تخضب، ولا تشبه باليهود.
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود.». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هشام بن عروة عن عثمان بن
عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود» ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي: كلاهما ليس بمحفوظ.
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا.
وهذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه يكون محرما بخلاف الأول.

وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى». رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال: «أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [البقرة: 49] فهذا الذبح والاستحياء هو سوء العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقدم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه، وحادثه. فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت.
والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفوهم. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس».

فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى،
أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه علة تامة؛ ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس.
وقال المروذي سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه. فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي.
وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة
كراهيته وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس.
قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة.
وقال أحمد أيضا: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة.
وقد روى عنه ابن منصور قال: سألت أحمد عن حلق القفا فقال: لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردا يرقوس وذكر الخلال هذا وغيره.
وذكره أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال: حف القفا من شكل المجوس.
وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه. قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم.
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبيه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا
اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» رواه أبو داود.
وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له: {فاخلع نعليك} [طه: 12].
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» رواه مسلم في صحيحه.
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون».
وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى.
وإذا كان مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة.
وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا
المغرب إلى أن تشتبك النجوم» ورواه ابن ماجه من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد.
وقد جاء مفسرا تعليله: لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم مضاهاة لليهودية، ويؤخروا الفجر إلى
محاق النجوم مضاهاة للنصرانية.
قال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن أبي عبد الرحمن الصنابحي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية ولم يكلوا الجنائز إلى أهلها».

وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى
امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: «إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا». وقد رواه أحمد في المسند.
فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها.
وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا
حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا
فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» رواه مسلم.
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه.
ومجانبة الحائض: لم يخالفوا في أصله بل خولفوا في وصفه حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الباب - باب الطهارة - كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى
إنهم لا ينجسون شيئا، بلا شرع من الله فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن أبي أمامة عن «عمرو بن عبسة قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال أرسلني الله. فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني. قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة. فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت يا رسول الله، أتعرفني قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة. قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: صل
صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار» وذكر الحديث رواه مسلم.

فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار.
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق، ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام ويعظم الكواكب، ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه، ويسجد لها وينحر ويذبح.
وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين.
فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا، تحققت حكمة الشارع
صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، سدا للذريعة وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها، مما يكون كفرا أو معصية بالنية، ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة.
ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا.
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا، فإن القبلة
شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
وأيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده». رواهن أبو داود.
ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم.
وأيضا فروى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره
أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال: «نهى عن الخصر في الصلاة» وفي لفظ: «نهى أن يصلي الرجل مختصرا.» قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين
عن أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم في صحيحه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن زياد بن صبيح قال: «صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا». رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث
عن أبي الزبير عن جابر. .
ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانقطعت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا. قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا. قال: فلما قضى الصلاة. قال: إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها» وأظن في غير رواية أبي داود «ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا».
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم، في قيامهم وهم قعود.
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا
تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، كالنار ونحوها.
وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا. فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية.

ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة؛ لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، وأما المشابهة الصورية إذا لم تسقط فرضا كانت تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمة عن معارض أو نسخ؛ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد من أن يكون غيرها ترجح عليها وقت الناسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف، والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونهم علموا صلاته في مرضه.

وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا والصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول
هذه الصلاة في قوله. وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع.
وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خالفوهم. رواه أبو داود وابن
ماجه والترمذي وقال: بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت، وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا.
وإن كان القول بهما ممكنا؛ لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره، أو ناسخا لغيره وقد علل المخالفة ومن لا يقول به يضعفه، وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة.
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت. مرتين فقد استدل من كره القيام بأنه كان من فعل الجاهلية وليس ال غرض هنا الكلام في عين هذه المسألة.
وأيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة» وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أحمد وابن ماجه وفي رواية لأحمد: «والشق لأهل
الكتاب.» وهو مروي من طرق فيها لين لكن يصدق بعضها بعضا.
وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر.
(ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... (54)
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هو خطاب لذلك القرن كقوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}. ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن الذين دخلوا في الإسلام لما ارتد من ارتد من العرب: ويدل على ذلك أنه في آخر الأمر لا يبقى مؤمن. قيل: قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لكل من بلغه القرآن من المؤمنين كسائر أنواع هذا الخطاب كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} وأمثالها. وكذلك قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم}. وكلاهما وقع ويقع كما أخبر الله عز وجل.

فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتى الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} - إلى قوله - {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة. ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة. وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #270  
قديم 07-05-2024, 04:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,214
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 270)

من صــ 246 الى صـ 260



بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فيتولون المؤمنين دون الكفار ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كما قال في أول الأمر {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}. فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه - لا يضرون الإسلام شيئا. بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة. وأهل اليمن هم ممن جاء الله بهم لما ارتد من ارتد إذ ذاك. وليست الآية مختصة بهم ولا في الحديث ما يوجب تخصيصهم. بل قد أخبر الله أنه يأتي بغير أهل اليمن كأبناء فارس لا يختص الوعد بهم. بل قد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وهذا أيضا خطاب لكل قرن وقد أخبر فيه أنه من نكل عن الجهاد المأمور به عذبه واستبدل به من يقوم بالجهاد. وهذا هو الواقع.
[فصل البرهان الخامس والعشرون " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الخامس والعشرون: قوله تعالى:
{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] قال الثعلبي: إنما نزلت في علي، وهذا يدل على أنه أفضل، فيكون هو الإمام ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب على الثعلبي، فإنه قال في تفسيره [في] هذه الآية: " قال علي وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه. وقال مجاهد: هم أهل اليمن ". وذكر حديث عياض بن غنم: أنهم أهل اليمن، وذكر الحديث: " «أتاكم أهل اليمن» ". فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
وأما أئمة التفسير، فروى الطبري عن المثنى، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن أبي روق، [عن الضحاك]، عن أبي أيوب، عن علي [في قوله: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} [سورة المائدة: 54] قال: علم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم [من] المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا، فقال: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله}: المرتدة في دورهم، {بقوم يحبهم ويحبونه}: بأبي بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -.

وذكر بإسناده هذا القول عن قتادة والحسن والضحاك وابن جريج، وذكر قوم أنهم الأنصار، وعن آخرين أنهم أهل اليمن، ورجح هذا الآخر وأنهم رهط أبي موسى، قال: " ولولا صحة الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان القول عندي [في ذلك] إلا قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه " قال: " لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر - رضي الله عنه -.
الثاني: أن هذا قول بلا حجة، فلا يجب قبوله.
الثالث: أن هذا معارض بما هو أشهر منه وأظهر، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه، الذين قاتلوا معه أهل الردة. وهذا هو المعروف [عند الناس] كما تقدم. لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله.
وحدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ أعرفه، وكان فيه دين وزهد وأحوال معروفة لكن كان فيه تشيع. قال: وكان عنده كتاب يعظمه، ويدعي أنه من الأسرار، وأنه أخذه من خزائن الخلفاء، وبالغ في وصفه. فلما أحضره، فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن، وقد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري ومسلم جميعها في فضائل أبي بكر وعمر ونحوهما جعلوها لعلي. ولعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين، فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام، وكانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله.

ومثل هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديث التي في البخاري ومسلم إنما أخذت عن البخاري ومسلم، كما يظن مثل ابن الخطيب ونحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال، وأن البخاري ومسلما كان الغلط يروج عليهما، أوكانا يتعمدان الكذب، ولا يعلمون أن قولنا: رواه البخاري ومسلم علامة لنا على [ثبوت] صحته، لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما من العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.

وإنما قولنا: رواه البخاري ومسلم كقولنا: قرأه القراء السبعة. والقرآن منقول بالتواتر، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول، وكذلك في عصرهما وكذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة، نحو عشرين حديثا، غالبها في مسلم، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ، وهذه
المواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما فيها، وطائفة قررت قول المنتقدة.
والصحيح التفصيل ; فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب، مثل حديث أم حبيبة، وحديث خلق الله البرية يوم السبت، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر.
وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد.
وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم، فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة، ومع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة، فهذا إمام في صنعته. والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر.
والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح، والله - سبحانه وتعالى - هو الكفيل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].
وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري والتنبيه والخرقي والجلاب، غالب ما فيها إذا قيل: ذكره فلان، علم أنه مذهب ذلك الإمام، وقد نقل ذلك سائر أصحابه، وهم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر.
وهذه الكتب فيها مسائل انفرد بها بعض أهل المذهب، وفيها نزاع بينهم، لكن غالبا هو قول أهل المذهب. وأما البخاري ومسلم فجمهور ما فيهما اتفق عليه أهل العلم بالحديث، الذين هم أشد عناية بألفاظ الرسول وضبطا لها ومعرفة بها من أتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم، وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول [في ألفاظه] من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم، والنزاع بينهم في ذلك أقل من تنازع أتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم.

والرافضة - لجهلهم - يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك، وجعلوا فضائل الصديق لعلي، أن ذلك يخفى على أهل العلم، الذين حفظ الله بهم الذكر.
الرابع: أن يقال: إن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة. قد قيل: كانوا نحو مائة ألف أو أكثر، وقاتل طليحة الأسدي، وكان قد ادعى النبوة بنجد، واتبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله، ادعت النبوة سجاح، امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب، فتزوج الكذاب بالكذابة.

وأيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام، ولم يتبع متنبئا كذابا.
ومنهم قوم أقروا بالشهادتين، لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة. وقصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة.
والمقاتلون للمرتدين [هم من الذين يحبهم الله ويحبونه]، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم والفرس. وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم. ولهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء، فأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال: " هم قوم هذا ".
فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة: أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة، وقاتلوا المرتدين والكفار، هم داخلون في قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [سورة المائدة: 54].
وأما علي - رضي الله عنه - فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا * كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم * مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم
الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.

وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم، فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم، * فيجعله الله أو شريكا لله، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من * جعله معصوما منصوصا عليه، ومن خرج عن هذا فهو كافر، ويجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء.
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان.
والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا، مقصوده إفساد [دين] الإسلام. ولهذا [صار] الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم.

وأول الفكرة آخر العمل، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد
دين الإسلام، ونقض عراه، وقلعه بعروشه آخرا، لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وهذا معروف عن ابن سبأ وأتباعه، وهو الذي ابتدع النص في علي، وابتدع أنه معصوم. فالرافضة الإمامية هم أتباع المرتدين، وغلمان الملحدين، وورثة المنافقين، لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين.
الوجه الخامس: أن يقال: هب أن الآية نزلت في علي، أيقول القائل: أنها مختصة به، ولفظها يصرح بأنهم جماعة؟ قال تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] إلى قوله: {لومة لائم}. أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا، فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب: لا حقيقة ولا مجازا.
ولو قال: المراد هو وشيعته.
لقيل: إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة، فلا ريب أن أهل اليمن، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون السابقين الأولين.
فإن قيل: الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن.
قيل: والذين قاتلوه أيضا كان كثير منهم من أهل اليمن. فكلا العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا، وأكثر أذواء اليمن كانوا مع معاوية، كذي كلاع وذي عمرو، وذي رعين، ونحوهم. وهم الذين يقال لهم: الذوين.
كما قال الشاعر:
وما أعني بذلك أصغريهم ... ولكني أريد به الذوينا.
الوجه السادس: قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} لفظ مطلق، ليس فيه تعيين. وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي. وإذا لم يكن مختصا بإحداهما، لم يكن هذا من خصائصه، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة.
بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد [عن الدين] إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون هؤلاء المرتدين.
والردة قد تكون عن أصل الإسلام، كالغالية من النصيرية والإسماعيلية، فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة، وكالعباسية.
وقد تكون الردة عن بعض الدين، كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم. والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه، ويجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين، أو عن بعضه، في كل زمان.
والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه، الذين يجاهدون المرتدين [وأتباع المرتدين]، ولا يخافون لومة لائم.
(فصل في الرد على من قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ومن قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة؟ ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة} ". فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به ومحبة النظر إليه تبع لمحبته فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعما بمعرفته ولذة وسرورا بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: {حبب إلي من دنياكم النساء والطيب - ثم قال - وجعلت قرة عيني في الصلاة} وكان صلى الله عليه وسلم يقول {أرحنا بالصلاة يا بلال} وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم سبحانه وتعالى وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.

فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه وحبه ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين فكان حبه للمؤمنين تبعا لحب نفسه. فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك} وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال {لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه}. {وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد} فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 271.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 265.80 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]