مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          هدايا العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ما هي كلمات الله التي لا تتبدل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الثقة والشك بين الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          كيف التعامل مع زوج لا يتحمل مسؤوليته المالية ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 599 )           »          كيف نودع رمضان؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          من جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          المداومة على العمل الصالح لماذا وكيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أركان الإسلام والإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-12-2021, 07:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(1)


أحمد الشحات







يذكر لنا القرآن في سورة الكهف خبر بضعة نفرٍ من الشباب، لم يتجاوز عددهم السبعة على أصح الأقوال، لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، عاش هؤلاء في زمنٍ الله أعلم به، ولكنَّهم كانوا في مكانٍ يعلوه الكفر والظلم والبطش، فأما كفر قومهم فـيظهر من قولهم: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الكهف:15)، وأما ظلمهم وبطشهم فيظهر من قولهم: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ}(الكهف:16)، والظاهر أنَّ المدينة كلَّها كانت مطبقةً على هذا الظلم، مجمعةً على هذا الكفر، فلم يكن لهم ظهرٌ يحميهم أو قوةٌ يلجؤون إليها.

لذلك لم يكن أمامهم بعد إذ أظهروا دعوتهم وأنكروا على قومهم سوى الفرار، فالبقاء وسط هذا الكفر لا يُمكِّنَهُم من إقامة شعائر دينهم، فضلًا عن أن يتمكنوا من الإنكار على قومهم، ولن يرضى منهم هؤلاء الظالمون إلا الدخول في دينهم كُرهًا أو تسليمهم للقتل رجمًا.

تفاصيل القصة

قال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: (دقيانوس)، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه.

فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم ويختفي عنهم ناحية.

جمعهم الإيمان

فكان أول مَن جلس منهم وحده تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، وجعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلَّا شيء، فليظهر كل واحد منكم بأمره.

توافقوا على كلمة واحدة

وقال آخر: أما أنا فإني رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء، السماوات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله -عز وجل-، فتهددهم وتوعدهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة».

الفرار إلى كهف

وقد هدى الله هؤلاء الفتية إلى الفرار إلى كهف يبدو أنه يقع خارج حدود القرية، لكنه ليس بعيدًا عنها، دلَّ على ذلك قولهم بعد بعثهم من النوم {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (الكهف:16)، وبعد أن وصل الفتية إلى الكهف في أمان، ضرب الله عليهم النوم، وسخَّر لهم الكون ليحفظهم من كل الشرور والمضار المحتمل إصابتهم بها عن طريق البشر أو عن أي طريق آخر، ونام الفتية في الكهف مدة من الزمن تزيد على ثلاثة قرون، تغيرت المدينة فيها تغيرًا جذريًّا، فالملك الكافر قد هلك، والمجتمع قد صلح شأنه، وقد أقامهم الله من رقدتهم ليكملوا الحلقة المفقودة في القصة التي يبدو أن أهل المدينة يحفظونها جيدًا، ولكنَّهم لا يعرفون نهايتها بعد.

بعثهم بعد نومهم

فبعثهم الله من نومهم ليبرهنوا على صدق وعد الله -عز وجل- بانتصار الحق، ونصرة المؤمنين، وليُصَحِّحُوا عقيدة الناس في البعث والنشور، ويقطع الله ببعثهم حالة التشكك وعدم اليقين التي كان يتلبس بها فريق من الناس، وفور انتهاء المهمة ضرب الله عليهم النوم مرة أخرى، لينسدل الستار على القصة التي دارت أحداثها في زمن أهل الكتاب، على ظهر مدينةٍ من مدن العالم، لا ندري مكانها ولا نعرف الزمان التي حدثت فيه، ولكن كانت الرسالة فيها واضحةً جليةً.

خطاب القرآن للصحابة

فالقرآن يقول للصحابة -رضوان الله عليهم-: إذا كان الكفار أرادوا أن يفتنوكم في دينكم، وقد ألجؤوكم إلى الفرار والخروج من بلدكم مكة، فإن هناك في الدهر الأول بضعة نفر كانوا أقل منكم عددًا وعدةً وأنصارًا، واضطروا إلى أن يتركوا مدينتهم، وأن يلجؤوا إلى «كهف»، أما أنتم فستهاجرون من مدينة إلى أخرى، ومن قوم يضطهدونكم إلى قوم ينصرونكم، وكما ختمت قصة فتية الكهف بالانتصار لهم وبالهداية لقومهم، فالبشارة لكم أيضًا بانتصاركم وظهور دينكم ثم هداية قومكم، والله على كل شيء قدير.

المشهد الأول: الطليعة الواعدة

قال الله -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.

رسائل من قلب المشهد

في هذا الجزء من السورة يفتتح القرآن قصة شباب الكهف، ويوجِّه خطابه للنبي -صلى الله عليه وسلم - فيقول له: {أَمْ حَسِبْتَ}، ويقول له: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}، والمراد من ذلك: الرد على المشركين واليهود الذين أرادوا اختبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعجيزه وإحراجه بسؤاله عن أمور حدثت في الدهر الأول، لا يعلمها إلا نبي حتى يتأكدوا من صدقه في زعمهم، ومع ذلك لما أجابهم إجابة وافية شافية لم يؤمنوا!

أصول دعوة هؤلاء الفتية

وتؤكد الآيات في ثنايا عرض القصة على الأصول التي قامت عليها دعوة هؤلاء الفتية؛ إذ إن التشابه كبير بين قومهم الذين فروا منهم بدينهم وبين كفار قريش، فالكفار الذين بُعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يُسَلِّمون بوجود الخالق الرازق المدبر، ومع ذلك كانوا يصرفون العبادة لغيره، ويبدو أن شرك أهل المدينة كان من هذا النوع؛ لذلك ربط الفتية بين الأمرين، واستدلوا بتوحيد الربوبية في قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»؛ لإثبات توحيد الألوهية في قولهم: «لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}.

التشابه بين قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكهف

وكما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فكذبوه وعاندوه وأخرجوه، كذلك فعل قوم هؤلاء الفتية، لتأتي نقطة التشابه الثانية بين قوم شباب الكهف، وبين قوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكي يستخلص منها المؤمنون عبر التاريخ: أن الصراع بين الحق والباطل سنة جارية، وأن الله -عز وجل- يقدِّر وجود هذا الصراع لحِكَمٍ يعلمها، منها: أن يتضح الفرق بين الحق والباطل وضوحًا لا لبس فيه، كما قال -عز وجل-: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42)، ومنها وضوح الفرق بين الصادقين والكاذبين كما قال -عز وجل-: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3).

التثبيت من الله لقلوب المؤمنين

وتستمر الآيات لترسِّخ في نفوس المؤمنين أهمية التثبيت من الله لقلوب المؤمنين، فقدرة المؤمنين على مواجهة أعدائهم إنما تقوم في الأساس على وجود هذا الاطمئنان في القلب، ومعلوم أن هذا التثبيت وهذه السكينة هبةٌ من الله لأوليائه، لا سبيل للأعداء أن يحصلوا عليها مهما احتموا في قوتهم وحصونهم وعُدتهم.


نظائر هذا التثبيت

وتأمل نظائر هذا التثبيت في قول الله -عز وجل- عن أمِّ موسى -عليه السلام-: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (القصص:10)، وقول الله -عز وجل- عن حال المؤمنين يوم حنين، قال -تعالى-: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة:26)، وفي الغار: قال الله -تعالى-: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} (التوبة:40)، وفي الحديبية: قال -تعالى-: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح:26).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16-12-2021, 11:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(2)


أحمد الشحات










يذكر لنا القرآن في قصة شباب الكهف خبر بضعة نفرٍ من الشباب، لم يتجاوز عددهم السبعة على أصح الأقوال، لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، عاش هؤلاء في زمنٍ الله أعلم به، ولكنَّهم كانوا في مكانٍ يعلوه الكفر والظلم والبطش، فلم يكن لهم ظهرٌ يحميهم أو قوةٌ يحتمون بها، لذلك لم يكن أمامهم بعد إذ أظهروا دعوتهم وأنكروا على قومهم سوى الفرار، فالبقاء وسط هذا الكفر لا يُمكِّنَهُم من إقامة شعائر دينهم؛ فضلًا عن أن يتمكنوا من الإنكار على قومهم، ولن يرضى منهم هؤلاء الظالمون إلا الدخول في دينهم كُرهًا أو تسليمهم للقتل رجمًا.

وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تفاصيل هذه القصة وكيف فر هؤلاء الفتية إلى الكهف، ثم تحدثنا عن أصول دعوتهم والتشابه بين قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكهف، ثم ذكرنا أنَّ التثبيت من عند الله -تعالى-، واليوم نتكلم عن محور مهم ذكره القرآن في القصة، ألا وهو الحركة بالدعوة وتبليغ الحق للخلق، رغم قسوة الظروف وشدة البلاء.

التسرية عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم

فقد كان من حكمة ذكر التجربة الدعوية لشباب الكهف أن تكون القصة تسريةً عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة الذين ظلوا يدعون إلى دين الله رغم التضييق والحصار والأذى طوال ثلاثة عشر عامًا، قبل أن يأذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة، وهكذا يتقوَّى المؤمنون بإخوانهم عبر التاريخ، حتى وإن لم يروهم، فنحن نحب شباب أهل الكهف، ونشهد لهم بالإيمان كما شهد لهم القرآن، ونحب سيرتهم ونهتدي بها رغم تباعد السنين، ونسأل الله أن يجمعنا بهم في جنته إخوانًا على سررٍ متقابلين.

وقفات مع الآيات

وهذ وقفات مع الآيات التي وردت فيها القصة لنأخذ منها العبرة والعظة لعلنا نتحرك بديننا كما تحرك هؤلاء الفتية:

(1) آيات الله الدامغة

قال الله -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}، بدأت الآيات بدايةً قويةً مزلزلةً؛ لأنها جاءت في مقام الرد على تحدي المشركين واليهود؛ حيث طلب المشركون من اليهود أن يدلوهم على ما يحرجوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ظنًّا منهم أنهم سوف يُظهرون عجزه، ومن ثم يصيبون الدعوة في مقتل، فسوف تنطلق أبواقهم المشبوهة حينها لتعلن هزيمة الدين الجديد، وأنه ليس من عند الله كما يدَّعي صاحب الرسالة، وقد تمالأ اليهود مع المشركين من أجل الوصول إلى هذا الهدف، فاختاروا لهم نماذج من القصص الأول مما جرى لأهل الكتاب في الأزمان البعيدة، وقد حفظت كتبهم بعض هذه القصص، وجعلوا المعرفة بهذه القصص محلًّا للاختبار، فإذا عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم عدم شيوع العلم بها وانقضاء زمن حدوثها فهو نبيٌّ يوحى إليه.

تأخر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم

وقد تقدَّم في تفسير الآيات: أنَّ الوحي تأخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طيلة خمسة عشر يومًا كاملة، وهي مدةٌ طويلةٌ للغاية، ولا سيما وأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَعَدهم بالإجابة بعد يومٍ واحدٍ؛ لذلك حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، واغتمَّ لذلك غاية الغمِّ، فالمُترَبِّصون به وبدعوته لن يكُفُّوا عن الغَمْز والَّلمْز، ونشر الشائعات، والطعن في الرسالة.

صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدسية رسالته

وقدَّر الله أن يكون هذا التأخر شاهدًا على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدسية رسالته؛ لأنه لو كان يعتمد فيما ينقل من أخبار على الأساطير القديمة كما كانوا يدعون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان:5)؛ فلماذا لم يعكُف عليها ليستخرج منها الإجابة بدلًا من أن يُطعن في صدقه؟! ولو كان يعتمد فيما يقول على حَبْرٍ من الأحبار هنا أو هناك؛ فلماذا لم يسأله؟! كما قال الله عنهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103)، فلماذا لم يهرع إليه ليعرف منه الخبرُ اليقين؟!

مطلع الآية

لهذه الظروف التي كانت تحيط بالواقعة أراد الله أن يُقْرِع أسماعهم بهذه البداية التي تُسَفِّه مِن سعيهم، وتقلل مِن قيمة حيلتهم، فجاء مطلع الآية بهذا الاستفهام: «أَمْ حَسِبْتَ؟»، والمقصود: أحسبتَ أن أصحاب الكهف كانوا عجبًا من بين آياتنا؟! أي: أعجب من بقية آياتنا، فإنَّ إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف؛ لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم، وليس في إماتة الأحياء إبقاءٌ لشيءٍ من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم.

محل التعجب

ومحل التعجب هو قوله: «مِنْ آيَاتِنَا»، أي: مِن بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم، وهم لا يتعجبون منها، ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق، فيؤول المعنى: إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله -تعالى- كثيرة، منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف، ومنها ما يساويها، فمعنى «مِنْ» في قوله: «مِنْ آيَاتِنَا»: التبعيض، أي: ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب مِن بين الآيات الأخرى.

وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، وفيه نداءٌ على سوء نظرهم؛ إذ يُعلِّقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدرُ بالاهتمام.

المراد بقوله «من آياتنا»

والمراد بآياتنا التي ذكرها القرآن في نهاية الآية: آية من آيات الله المسموعة التي تدلنا على مآل الصراع الذي يجري دائمًا بين الحقّ والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائمًا، ولابد أن يستوعب أهل الإيمان ذلك، فلا يظن المؤمنون أنهم سيستريحون من مغالبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه؛ وذلك لأن هذه المدافعة هي سنة الله -سبحانه وتعالى- الماضية في عباده وخلقه.

وهي من آيات الله التي فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم، وفيها بشارة لعباد الله المؤمنين بما يؤول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله -سبحانه وتعالى- بآياته العجيبة التي إذا تأملها المتأمل علم عظيم سلطان الله -سبحانه وتعالى- وقدرته.

أمر في غاية الأهمية

ويبقى هنا أن نشير إلى أمرٍ في غاية الأهمية، وهو: أن الكفار الذين أرادوا اختبار صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يؤمنوا به بعد ما أيقنوا أن ما ينزل عليه وحيٌ من عند الله، وقد كان الأجدر بهم أن يقبلوا نتيجة التحدي، ولا سيما وأنهم الذين سعوا في هذا التحدي وكانت البداية من عندهم، ومع ذلك استمروا في التكذيب والعناد! وصدق الله؛ إذ يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46).

(2) الشباب اليقظ

قال الله -تعالى-: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}، كونهم أوَوْا إلى الكهف يدل على أنَّهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله -عز وجل-، وتركوا وطنهم لله -سبحانه وتعالى-، كما أمر الله -عز وجل- عباده المؤمنين بأن يُقدموا حبه، وطاعته على كل شيء، قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).

سبب فرارهم

وقد فرَّ الفتية إلى الكهف؛ لأنهم عجزوا عن إقامة الدِّين في أرضهم، ومَن عجز عن إقامة الدين في أرضٍ ما، وجب عليه أن يهاجر إلى أرض غيرها يتمكن فيها من إقامة شعائر دينه، وهذا الأمر باقٍ في كل زمان ومكان طالَما وُجد بهذه الصفة، فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض.

تعزية لعباد الله المؤمنين

وكونُهم أوَوْا إلى الكهف يدل على أنهم كانوا يريدون مكانًا يؤويهم في بلدهم، وذلك فيه من التعزية لعباد الله المؤمنين إذا شعروا بالتضييق على دعوتهم، وهذا نظير ما أنعم الله به على صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} (الأنفال:26).

أهمية مرحلة الشباب

وقد ذكر الله -عز وجل- أن فتية الكهف كانوا شبابًا، وهذا يدلنا على أهمية مرحلة الشباب في نصرة الدين، وحمل أعباء الرسالة، وقد ذكر القرآن المرحلة العمرية لهؤلاء الرجال ليكونوا أسوة حسنة للشباب في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، كما قال الله -عز وجل- عن موسى -عليه السلام-: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (يونس:83)، فما آمن مِن المسلمين في زمن موسى إلا قلةٌ من الشباب من أهل مصر، فآمنوا بموسى -عليه السلام- رغم الخوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. وهكذا كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كذَّبَه عامة الشيوخ في الوقت الذي تبعه فيه أغلب الشباب، وهذا فيه مؤازرةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة، فالقرآن يقص عليهم قصة تمثِّلهم وتشرح حالهم، وهذا من دواعي السكينة وانشراح الصدر.


معايير السعادة ليست مادية

وتأمل الراحة والسكينة التي تنبعث من لفظ الإيواء؛ لتعلم أن معايير السعادة ليست مادية، فكثيرٌ من الأغنياء يعانون مِن الأمراض النفسية المدمِّرة، وقد يلجؤون إلى الانتحار سنويًّا، في المقابل ربما تجد فقيرًا يسكن في كوخ صغير يشعر فيه بالسكينة والهدوء، ويعيش حياته راضيًا مسرورًا، وهذه حقيقة لا يختلف عليها أحد، ولكن القيم المادية للحياة المعاصرة تُعمي كثيرًا من الناس عن التدبر في حقائق الوجود.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28-12-2021, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(3)


أحمد الشحات



ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تفاصيل هذه القصة، وكيف فر هؤلاء الفتية إلى الكهف؟ ثم تحدثنا عن تأخر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا أن هذا التأخر كان شاهدًا على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكرنا حال فتية الكهف وكيف أنهم كانوا شبابًا يقظًا، وذكرنا سبب فرارهم، ثم تحدثنا عن أهمية مرحلة الشباب في نصرة الدين وحمل أعباء الرسالة، واليوم نكمل ما بدأناه.

الرحمة الخاصة

قال الله -تعالى-: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}، من الفقه الذي أنعم الله به على هؤلاء الفتية أنهم لما أوَوْا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله، ودعوه أن يُؤتِيَهم رحمةً من لدنه، أي: من عنده، وهذا أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة؛ لأنَّ الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنَّهم سألوه رحمةً خاصةً وافرةً، ولا سيما مع توقعهم وقوع الضرر عليهم، وقصدوا من ذلك الأمن على إيمانهم من الفتنة؛ ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقةً وألمًا، وألا يهينهم أعداء الدِّين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.

الثبات على الدين الحق

ثم سألوا الله أن يقدِّر لهم أحوالًا تكون عاقبتها حصول الثبات على الدين الحق والنجاة من كيد المشركين، فعبَّر القرآن عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء، وكان من مظاهر رحمة الله بهم أن ضرب عليهم هذا النوم الطويل؛ لينجيهم من بطش الظالمين بهم وتسلطهم عليهم، وهذا نظير ما ألقاه الله على الصحابة مِن النوم في غزوة بدر، قال الله -تعالى-: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (الأنفال:11)، وهذا هو الموضع الوحيد الذي ذكر الله فيه النعاس في القرآن الكريم.

ما أجمل هذا الدعاء!

وما أجمل هذا الدعاء! حين يجعله المؤمن من محفوظاته ومما يعتاده لسانه، فأي خير يمكن أن يحصل للإنسان إذا شملته رحمة الله، وإذا هداه الله إلى أرشد أمرِه؟! إن هذا الدعاء له في قلوب المؤمنين لذةٌ خاصةٌ ومنزلةٌ فريدةٌ، إذا ما ترسخ في قلوبهم حقيقته، وأبصرت عيونهم أنهار الخير المتدفقة من بين كلماته، فلذلك استجاب الله دعاءهم، وقيَّض لهم ما لم يكن في حسابهم، قال -تعالى-: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أي: ألقى عليهم النوم لمدة ثلاث مائة سنة وتسع سنين، فهل كان يظن هؤلاء الفتية أن تغشاهم الرحمة التي التمسوها مِن الله بهذه الطريقة؟! فقد حفظهم الله بهذا النوم من الخوف والقلق والاضطراب، فإذا دعوت الله فكن على يقين بأن رحمة الله واسعة، وأن خزائنه ملأى، وأن عطاياه لا تخطر على قلب بشر.

التشريف العُلوي

قال -تعالى-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، من مظاهر تشريف الله لشباب الكهف: أن الله -تبارك وتعالى- خلَّد ذكرهم، واصطفاهم على غيرهم؛ ليجعلهم محل العبرة والعظة، ولكي يبقى ذكرهم في أعظم كتاب أنزله على أكرم رسول، فما أعظمه مِن كهفٍ كان دخولهم فيه عبورًا إلى بوابة عظماء التاريخ!

التكريم الإلهي

وهذا التكريم الإلهي مما يبُثُّ الأمل في النفوس، ويُعلِّق القلوب بخالقها -عز وجل-؛ فالعزُّ والتمكين يأتي من عند الله، فقد أهلك الله الملك الظالم واختفى اسمه ورسمه، أمَّا فتية الكهف فقد حفظ الله سيرتهم، وأعلى من شأنهم، وشهد القرآن لهم بالإيمان، وستظل قصتُهم باقيةً للأجيال حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، هذا التكريم الراقي لم يدُرْ بخُلْد فتية الكهف وهم يبتهلون إلى الله أن يشملهم بعطفه ورحمته، ولكنَّ الله واسع الفضل والكرم.

{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}

وتأمل قول الله -عز وجل-: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}؛ لتعلم أنَّ الجزاء من جنس العمل، وأن الإيمان لا يأتي إلَّا بخير، فالفتية آمنوا بالله أولًا فكافأهم الله على هذا الإيمان بأن هداهم إلى أرشد أمرهم، وزادهم هدىً على هدىً، كما وصف الله حال المؤمنين في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد:17)؛ فذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، وفي مقابل ذلك: ذكر الله حال الكافرين والظالمين فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)، فسبحان الملك العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة! قومٌ يوفقهم للزيادة مِن الطاعة والإيمان، وآخرون يُمنِّيهم حتى يتوغلوا في الإثم والعصيان.

وصفهم بالفتية مدح لهم

وفي تأكيد وصفهم بالفتية مدح لهم؛ لأن غالب أحوال الفتيان اللهو والعبث، فكونهم بهذا المستوى من الثبات والإيمان يستوجب مدحهم والإشادة بهم، وهكذا كان هناك في كل أمة شباب يوفقهم الله للإيمان به وتأييد رسله، في الوقت الذي يُعرض فيه الرجال الكبار والشيوخ الحكماء، قال ابن كثير -رحمه الله-: «ذكر -تعالى- أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله -تعالى- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - شبابًا، وأما المشايخ من قريش: فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل».

الانطلاقة الفتية

قال الله -تعالى-: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، المقصود من الربط على القلب هو: تثبيت الإيمان، وعدم التردد فيه، والقيام المذكور في الآية يحتمل أن يكون حقيقيًّا، بأن وقفوا بين يَدَي الملك الكافر، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك، ويحتمل أن يكون القيام دلالةً على الإقدام والشجاعة، فقد صاروا يدًا واحدةً، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدقٍ، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يتمكنوا من عبادة الله -عز وجل.

عظيم رحمة الله بهم

وتأمل في كلمة: {وَرَبَطْنَا}؛ لتعلمَ عظيم رحمة الله بهم؛ فالله هو الذي جمع قلوبهم أولًا على التقوى والإيمان والهدى، ثم جمع قلوبهم ثانيةً على الأُلْفة والمحبة والترابط، ثم جمع قلوبهم ثالثةً على الصَدْع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجمع قلوبهم رابعةً في التصدي للكفر ومواجهته، وإقناعه بالحُجَّة والبرهان.

فالله هو الذي يربط على القلوب ويُقوِّيها، ويثبتها ويصبِّرها، ويشجعها؛ حتى لا تخاف فيه لومةَ لائم، وحتى تقوم بدعوة الحق، فيصغر الناس في نظر صاحب هذا القلب الشجاع الذي ليس عنده من أسباب الدنيا وأسباب الحماية ما عند الناس، ولا ما يدفع به عن نفسه، ولكن يربط الله -عز وجل- على قلبه فيقوم لله -سبحانه وتعالى- بحقه؛ فلا يعبأ بالخلق أمامه.

القضية مدارها على القلب

إذا علمتَ ذلك؛ فتأكد أنَّ القضية مدارها على القلب، فإذا صلحت قلوب الدعاة إلى الله -عز وجل- هيأ الله لهم من أسباب النصر والظفر ما لم يدُر في حسبانهم، وإذا صلحت قلوب العاملين من أجل الدِّين؛ فتح الله لهم قلوب العباد لكي تستجيب لهم وتؤمن بدعوتهم.

مكافأةً لهم على إيمانهم

وإذا تأملت في هذه الآية وما قبلها: تعلم أن الله ربط على قلوب الفتية مكافأةً لهم على إيمانهم وهدايتهم، فهذه القلوب التي جعلها أهلها محلًّا للإيمان والتقوى والصلاح، لابد أن يملأها الله ثباتًا وسكينةً، كما قال الله -عز وجل- عن الصحابة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح:4)، بخلاف الكافرين والمنافقين الذين تمتلئ قلوبهم شكًّا وريبةً وترددًا، قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45).

الله -عز وجل- هو مقلب القلوب

فالله -عز وجل- هو الذي يقلِّب القلوب كيف يشاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ»؛ ولذلك فالعبد المؤمن دائمًا ينظر إلى فضل الله -سبحانه وتعالى-، ويتضرع إليه بأن يُثبِّت قلبه على دينه، وأن يَربِط على قلبه، كما وصف الله -عز وجل- حال المؤمنين في غزوة بدر، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11).


فالله ربط على قلوب الصحابة حتى قويت وثبتت، فلم تنهر أو تتزلزل حين رأت الكفار، وانظر إلى الفرق بين قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- وبين قلوب المنافقين في مثل هذه المعركة وغيرها من المعارك، كما قال -سبحانه وتعالى- عن المنافقين في غزوة بدر: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:49)، فإذا أردتَ أن تزداد هدىً فأقْبِل على الله، وسوف يقذف الله في قلبك مزيدًا من الخير والصلاح والإيمان.

فقههم بقضية التوحيد
وتأمَّل في فقه هؤلاء الفتية بقضية التوحيد وطرائق إثباتها؛ فإنهم عندما أرادوا أن يقيموا الحُجَّة على قومهم بوجوب وحدانية الله، استدلوا عليهم بما هو مستقر في العقول من باب الفطرة، فالله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو ربنا وربكم شئتم أم أبيتم، ومن ثم فهو المستحق للعبادة، فكأنَّ المُقدمة هي: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهي مقدمة حتمية، ومن ثم فالنتيجة الملزمة هي: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 31-12-2021, 11:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(4)


أحمد الشحات




ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد تحدثنا في الحلقات الماضية عن المشهد الأول من تلك القصة وكان بعنوان: (الطليعة الواعدة)، وتضمن هذا المشهد عددا من الرسائل وهي، آيات الله الدامغة، والشباب اليقظ، والرحمة الخاصة، والتشريف العلوي، والانطلاقة الفتية، واليوم مع المشهد الثاني وهو: في جوف الكهف.

المشهد كما عرضه القرآن

قال الله -تعالى-: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}.

رسائل من قلب المشهد

في هذا الجزء من القصة يدور حوارٌ بين الفتية حول ضرورة الفرار بدينهم من الفتن؛ حيث عجزوا عجزًا تامًّا عن إحداث تغيير في المجتمع الذي عَلَت فيه راية الكفر الصريح، وأصبحوا غير مُمَكَّنين من إقامة شعائر دينهم، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن، أن يفر العبد خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها من الأحوال التي يرجى من ورائها تحقيق النفع ونشر الهداية.

الظاهر من سياق القصة

إنَّ واقع هؤلاء الفتية يختلف عن واقع غلام الأخدود؛ فقد كان قتل غلام الأخدود سببًا في دخول الناس في الإيمان، وقد قال الناس جميعًا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ»، عندما رأوه يُقتل بالطريقة التي أرشد الغلام الملك إليها، ولكن واقع المجتمع هنا أنَّه منغمس في الكفر؛ بحيث لا يؤثر فيه قتل بضعة نفر مرقوا عن الدين -في ظنهم- وخرجوا عن ملة الجماعة، والله أعلم هل كان فرار هؤلاء الفتية بإلهامٍ مِن الله أم باجتهادٍ منهم وفق ما عايشوه من ظروف الواقع وموازين القوى؟

ولا يخفى أن مفارقة الأهل والأوطان، والانتقال إلى العيش في كهفٍ في جوف الصحراء ليس بالأمر الهين؛ بل يحتاج إلى عزيمة قوية، وتضحية كبيرة، وثبات، وتمسك بالعقيدة، وهذا ما وفَّق الله فتية الكهف إليه.

وإذا استصحبنا ما ذكره بعض المفسِّرين من أنَّ هؤلاء الفتية كانوا أبناء ملوك أو أغنياء لعلمنا مقدار الفتنة التي أصابت هؤلاء الشباب؛ فلو لم يكن لديهم إيمانٌ عميقٌ بالله -تعالى- لما صبروا على حياة الكهوف بعد أن عاشوا حياة القصور!

ومن جميل لطف الله ورحمته بهم: أنه سلَّط عليهم النوم، فلم تذكر لنا الآيات معاناتهم في الصحراء؛ حيث لا طعام ولا شراب، ولا أمن، ولكن القرآن تجول بنا داخل الكهف ليدلل على علامات حفظ الله للفتية ورعايته لهم في أثناء نومهم، وكأن الله سخر الكون لخدمتهم وحمايتهم.

1- العزلة الاضطرارية

قال -تعالى-: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، الظاهر أن هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة بعد التأكد من عدم قدرتهم على إقامة شعائر دينهم، وعدم تمكُّنِهم من إحداث أثر في المجتمع، فلم يأخذ الفتية قرارًا بالاعتزال لمجرد أن وجدوا مِن قومهم ممانعةً لدعوتهم، فوجود الشرّ لا يسوغ للإنسان أن يعتزل المجتمع، ولكن الواجب عليه أن يعتزل ما هم عليه مِن الشرِّ؛ ذلك أن اعتزال الشر نفسه فرضٌ على كل أحدٍ، ولا عُذر لأحدٍ أن يفعل الشرَّ بزعم أنه يريد أن يكونَ مع الناس، أو أنَّ الناس يضغطون عليه، أو أنَّه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهًا.

شروط الإكراه الشرعي المعتبر

ومِن شروط الإكراه الشرعي المعتبر: أن يكون عاجزًا عن التخلُّص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهًا، كما قال الله -عز وجل-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء:140)، وقال -عز وجل-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:68)، وقد اعتزل إبراهيم عليه السلام قومه، فقال -تعالى-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم).

وكذلك اعتزل نبينا - صلى الله عليه وسلم - قريشًا لما آذوه وجَفَوه، ودخل الشِعْبَ، وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى أرض الحبشة، ثم لحقوا به الى المدينة بعد أن أعلى الله كلمته، وهذا أيضًا اعتزال عن الكفار بعد اليأس منهم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتزل المسلمين، ولا مَن توقع إسلامه مِن الكفار.

أما إذا تمكن الإنسان من نشر الخير، فلا بد أن يخالط الناس حتى يدعوهم إلى الهداية والصلاح؛ وإلَّا فلو أن كل شر ظهر في مكانٍ ما، تركه أهل الصلاح واعتزلوه، فمتى يظهر الحق؟! وعلى يد مَن تنتشر الدعوة؟!

والأنبياء جميعًا قد أقاموا زمانًا في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعليًا مستعلنًا ظاهرًا في الناس، وهم يدعون الناس إلى الله -سبحانه وتعالى- وإلى نبذ الشرك والأوثان، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أُنْقِذ أحد مِن الشرك، ولو كان الرسل أول ما واجهوا الشرك والكفر رحلوا وفارقوه، لما اهتدى أحد من أقوامهم، فلا بد أن يعيش الدعاة بين الناس حتى يبلغوهم دعوة الحق.

2- الفرار الواجب

قال الله -تعالى-: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}: نتعلم من فتية الكهف منهجية الإيواء إلى الكهف وقت اشتداد الفتن وتسلط الظالمين؛ فلم يكن الفرار في هذا الوقت نوعًا من الجبن أو الضعف، ولكنه كان مِن أجل الحفاظ على الدعوة الوحيدة من أن تُستأصل في مهدها، وقد قصَّ علينا القرآن أمر الله -عز وجل- لبني إسرائيل عندما خافوا من بطش فرعون، فقال -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس:87)، وهذا نوع من الإيواء إلى الكهف يناسب طبيعتهم وظروف بيئتهم، وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عندما تمكن من الانسحاب بالجيش في سرية مؤتة، ولم يوافق النبي -صلى الله عليه وسلم - على تسمية ما فعلوه فرارًا مذمومًا، فقال مدافعًا عنهم: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللهُ».


من هنا نعلم أنه ليس هناك في الشرع شيء يُسمَّى مواجهة الرصاص أو القوة الغاشمة بصدورٍ عاريةٍ! فالشريعة لم تشرع للناس أن يموتوا مِن أجل الموت فقط، دون إحداث نكاية أو تحقيق نصر، بل إن دماء المؤمنين غالية، ولا يجيز الشرع لأحدٍ أن يريقها بلا ثمن.

موقفان مهمان من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم

ولتتأمل في موقفين مهمين من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنستلهم منهما هذا المنطلق التأسيسي في فقه التعامل في أوقات الاستضعاف.

- أما الأول: فهو موقف سمية -رضي الله عنها- وهي تُعذَّب في صحراء مكة حتى قتلها أبو جهل بحربة في موضع عفتها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر عليها ويراها وهي تعاني من شدة العذاب والألم مع زوجها وابنها، فلا يزيد عن قوله: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ».

- أما الثاني: فهو موقف المرأة المسلمة التي كانت تبيع في سوق المدينة، فاحتال يهودي خبيث ليكشف سوأتها، فغافلها وربط طرف ثوبها حتى إذا قامت انكشفت عورتها، وقد كان رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أن جرَّد جيشًا لتأديب اليهود في غزوة بني قينقاع.

سؤال مهم

- السؤال هنا: ترى ما الفرق الحاسم والجوهري الذي جعل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في الموقف الأول لامرأةٍ ضعيفة تُعذَّب أمام عينيه: «صبرًا»، ثُمَّ جعله في الموقف الثاني يقيم حربًا، مع أن المقارنة الظاهرية تقول: إنَّ الموقف الأول أكثرُ إجرامًا وأشد ألمًا على النفس من الموقف الثاني؟!

إجابة قاطعة

الإجابة القاطعة: إنها موازين القوى المتفاوتة بين القدرة والعجز، والقوة والضعف، وإلَّا فهل يمكن لأحدٍ أن يتهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالتخاذل أو التواني عن نصرة المسلمة الضعيفة؟! كلَّا وحاشاه - صلى الله عليه وسلم .

هذا مثال للضوابط الشرعية التي يأنف منها بعض المتهورين، عندما تُكبِّلهم تلك الضوابط عن اختياراتهم السياسية أو توجهاتهم المتطرفة، مع أنها ضوابط موافقة للعقل البشري السليم، والدليل على ذلك أنهم لا يسعهم إلا التسليم بهذه الضوابط في مواقف أخرى، وهنا تبدو الازدواجية والانتقائية مع قواعد الشرع وأدلته.


منهجية الإيواء

الحياة تحتاج إلى قدرٍ مِن العزلة المؤقتة تخلو فيه بربك، وتجدد فيه إيمانك، وتحاسب نفسك على ما فات، وترتب أوراقك لما يأتي، وإلا فمشاغل الحياة كفيلة بأن تلتهم منك عمرك دون أن تشعر، حتى مَن يشغل وقته بالدعوة والحركة من أجل تعبيد الناس لربهم لابد له من خلوة يستجمع فيها أنفاسه، ويشحن فيها قلبه بالوقود الإيماني المتجدد؛ لذلك كان يحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تحقيقًا لبعض هذه الأهداف.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18-01-2022, 06:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(5)


أحمد الشحات







ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد بدأنا في الحلقة الماضية عن المشهد الثاني من تلك القصة الذي كان بعنوان: (في جوف الكهف)، وذكرنا بعض الرسائل في هذا المشهد وكان منها العزلة الاضطرارية، والفرار الواجب، واليوم نستكمل تلك الرسائل.

(3) الرحمة الواسعة

قال الله -تعالى-: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، ما أجمل شعور الإنسان وهو يحسن الظن بربه -عز وجل-، ويشعر بعظيم مننه وواسع فضله وكرمه! فرغم وجود الفتية في جوف كهف ضيق، إلا أنهم شعروا فيه بسعة وسكينة وراحة، وتأمل في كلمة: «يَنْشُرْ»؛ لتوحي لك بالاتساع والرحابة، حتى يكاد يُخيَّل إلى السامع أنهم يعيشون في قصرٍ منيفٍ، وفناءٍ واسعٍ، والكهف ضيق مظلم، فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله -سبحانه وتعالى-؛ ذلك أنَّهم لما تركوا حياتهم المُنَعَّمة لله، وعظَّموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيرًا مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيرًا منه، ونشر لهم من رحمته، ووسَّع الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة.

حال اليقين والثقة بالله

هؤلاء هم الفتية الذين ابتهلوا إلى الله قبل ذلك في دعائهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، والآن انتقلوا من حال الدعاء والطلب إلى حال اليقين والثقة بالله أنه سيفعل ذلك، ولا شك أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ويسَّر لهم كل سبب، حتى الكهف الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يُمكِن من الرعاية والتعايش؛ لذلك قال الله -تعالى-: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}.

أي: حفظهم الله من الشمس، فإذا طلعت تميل عنهم يمينًا، وعند غروبها تميل عنهم شمالًا، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها، وفي الوقت نفسه هم في مكان متسع من الكهف، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم التأذي بالمكان الضيق، ولا سيما مع طول المكث، وذلك مِن آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم.

(4) قانون الهداية

قال الله -تعالى-: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، فلا سبيل إلى نيل الهداية إلا مِن الله -عز وجل-، فهو الهادي المرشد الذي يتولى العبد ويتولى شأنه بالإصلاح، ويرشده إلى الهداية وإلى أسباب التوفيق والخير في دنياه وأخراه، فمَن أضله الله فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وهذا نظير قول الله -عز وجل- في سورة الإسراء: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} (الإسراء:97)، وهذه الآية تمثِّل قانونًا من قوانين الله في الكون؛ فالهداية مِن الله -عز وجل-، وقد جعل الله لها أسبابًا خاطب بها العباد، فمَن سلك سُبُل الهداية نال جزاء ذلك رحمة وتوفيقًا وإسعادًا، ومَن هجر طُرُق الهداية وسَلَك سبل الغواية والفساد، فقد خسر هذه الولاية وحُرم هذه الرعاية، وصار في عداد الضالّين التائهين الذين تَسَلَّط عليهم الشيطان فأبعدهم عن طريق الله، وطردهم من كنفه وتوفيقه.

الشق الأول من هذا القانون

والشق الأول من هذا القانون يتمثل في قوله -تعالى-: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}، فلا تتعال على غيرك بما مَنَّ الله به عليك، ولا تغتر أيها المهتدي بشيء من الطاعات وفقك الله إياه، وتمثَّل قول الصحابة في غزوة الخندق وهم ينشدون على لسان عبد الله بن رواحه - رضي الله عنه -:

اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا

ولا تَصدَّقنْا ولا صَلَّيْنا

فأَنزِلَنْ سَكينةً علَيْنا

وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا

الشق الثاني من هذا القانون

أما الشق الثاني من هذا القانون فيتمثل في قوله -تعالى-: «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا»، وهذا أيضًا من مواطن شكر النعمة وشهود فضل الله عليك، فالهداية ليست ذكاءً منك ولا إمكانيات ذاتية لك، فكثير مِن الخلق أكثر منك ذكاءً، وأوسع منك عقلًا ولم يُوفقوا للهداية، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف:26).

(5) العناية الربانية

قال الله -تعالى-: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، الله -عز وجل- يحفظ أولياءه بجنودٍ من عنده -عز وجل-، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس:9)، وقال -تعالى- مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وكما حوَّل العصا لموسى -عليه السلام- إلى ثعبان التقم ما فعله سحرة فرعون فقال -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الأعراف:117)، وقال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء:69)، فقوانين الكون الطبيعية يعطِّلها الله -عز وجل- إذا شاء، كرامة لعباده المؤمنين.

حفظ الله لهؤلاء الفتية

وفي هذه القصة نجد: أن الله حفظ هؤلاء الفتية بأن جعل الشمس تدخل عليهم عند الشروق وعند الغروب، فتضيء لهم الكهف دون أن تحرق أجسادهم، ثم إنه قلَّب أجسامهم يمنة ويسرة حتى لا تأكلها الأرض، وجعل الكلب على هيئته المعتادة في التهيؤ والتحفز حتى لا يقترب أحدٌ مِن الكهف، ومع كل هذا جعل هيئتهم مرعبّةً لمن يراهم، فجعل أعينهم مفتوحةً شاخصة البصر كأنهم ينظرون بحدة، والحقيقة أنهم نائمون!

خلاصة الأمر: أن الله سخَّر الكون لخدمتهم، وهيَّأ لهم مِن الظروف ما جعله سببًا في حفظهم ونجاتهم.

درس بليغ

ورغم أن الله -عز وجل- قادرٌ على تحقيق هذه النتائج بلا أسبابٍ، إلا أنه جعل لكل شيء سببًا، فجعل مَيَلان أشعة الشمس سببًا في حفظ أبدانهم من الاحتراق، وجعل تقليب أجسامهم سببًا في حفظها من التآكل، وجعل الكلب سببًا في الحراسة، وجعل في شخوص أبصارهم سببًا في وقوع الرعب لمن ينظر إليهم، وهذا درس بليغ لكل مَن يقرأ هذه القصة، فما على العبد إلا أن يأخذ بالأسباب المتاحة، والله -عز وجل- يتولى أمر النتائج.

قدرة الله -عز وجل

وقد كتب الله على هؤلاء الفتية المؤمنين هذه النومة رحمةً بهم، وإنجاءً لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة تدل الناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله -سبحانه وتعالى- على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت -سبحانه وتعالى- للناس وليبيِّن لهم مآل المتقين، وحفظه -سبحانه وتعالى- لهم من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون.

إثبات كرامات الأولياء

وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء بأنواع القدرة والتأثير، فإن الله -سبحانه وتعالى- أبقاهم هذه المدة الطويلة من غير أن تبلى أجسادهم أو تفسد، وهذا من أدلة إثبات كرامات الأولياء، والكرامة هي: ما يُكرم الله به عبده المؤمن المتَّبِع لشرعه -سبحانه وتعالى- مِن أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون إكرامُه من خوارق العادات، بل أعظم ما يكرم به العبد: أن يُكرَم بالتوفيق إلى طاعة الله -عز وجل-، وأن يلهم رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه.

والله -سبحانه وتعالى- قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة من أنواع العلوم، ومن أنواع القدرة، وأعظم ذلك: أن يكون موفقًا بقوة من الله -سبحانه وتعالى- إلى طاعته، وهو معنى الحديث الشريف: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، وفي رواية أخرى: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»، فالله -عز وجل- يعينه بقوةٍ مِن عنده -سبحانه وتعالى-، وتكون هذه الجوارح وهذه القوة مصروفة في مرضاته -سبحانه وتعالى.



فوائد من القصة


- فتية الكهف جعل الله مِن قصتهم عبرة للأجيال بعدهم في أن التغيير بيد الله والهداية من عند الله، فالدعاة إلى الله ينالون من خلال الدعوة شرف اللقب وشرف المهمة، ولكن الله وحده هو مالك القلوب، وبيده الأمر كله.


- مفارقة الأهل والأوطان، والانتقال إلى العيش في كهفٍ في جوف الصحراء ليس بالأمر الهين؛ بل يحتاج إلى عزيمة قوية، وتضحية كبيرة، وثبات وتمسك بالعقيدة، وهذا ما وفَّق الله فتية الكهف إليه.

- من جميل لطف الله ورحمته بفتية الكهف: أنه سلَّط عليهم النوم، فلم تذكر لنا الآيات معاناتهم في الصحراء حيث لا طعام ولا شراب، ولا أمن، ولكن القرآن تجول بنا داخل الكهف ليدلل على علامات حفظ الله للفتية ورعايته لهم في أثناء نومهم، وكأن الله سخر الكون لخدمتهم وحمايتهم.


- نتعلم من فتية الكهف منهجية الإيواء إلى الكهف وقت اشتداد الفتن، فلم يكن الفرار في هذا الوقت نوعًا من الجبن أو الضعف، ولكنه كان من أجل الحفاظ على الدعوة الوحيدة من أن تُستأصل في مهدها.

- فرار فتية الكهف يعلمنا: أنه ليس هناك في الشرع شيء يُسمَّى مواجهة الرصاص أو القوة الغاشمة بصدور عارية! فالشريعة لم تشرع للناس أن يموتوا من أجل الموت فقط، بل إن دماء المؤمنين غالية، ولا يجيز الشرع لأحدٍ أن يريقها بلا ثمن.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-02-2022, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(6)


أحمد الشحات








ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة، وذكرنا منهم مشهدين، المشهد الأول: الطليعة الواعدة، والمشهد الثاني: في جوف الكهف، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث وهو: البعث بعد النوم، وفيه عدد من الرسائل وهي: الترفُّع عن الجدل، وسفير الجماعة، وأرسل حكيمًا ولا توصه، ومنهجية التلطف، والغيب المخبوء.

المشهد كما عرضه القرآن

قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، في هذا الجزء مِن القصة يحكي القرآن مشهد الفتية بعد ما قاموا من نومتهم، ودار بينهم حديث مقتضب حول المدة التي مكثوا فيها داخل الكهف، وكعادة النائم فإنه مهما يغيب في النوم؛ فإنه يتوقع أن يكون نام جزءًا من اليوم، أو اليوم كله على أقصى تقدير.

فقدان مقومات للحياة

قام الفتية من نومتهم فلم يجدوا داخل الكهف أيَّ مقوماتٍ للحياة؛ فليس معهم طعام ولا شراب، وليس أمامهم وسيلة يحصلون منها على ما يحتاجونه من الطعام سوى الرجوع إلى المدينة التي خرجوا منها فارين بدينهم، ومِن ثَمَّ انتدبوا منهم رجلًا لكي يرسلوه إلى المدينة ليشتري لهم الطعام، وقد أوصوه بوصيةٍ جامعةٍ اختصرها القرآن في قوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، وذكروا عِلَّة هذه الوصية، وهي أن قومهم متى شعروا بهم أو علموا مكانهم فلن يتركوهم حتى يعودوا إلى الكفر الذي هم عليه، أو يكون مصيرهم القتل.

1- الترفُّع عن الجدل

قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، الترفُّع عن الجدل يجب أن يكون صفةً لازمةً للدعاة إلى الله؛ لأن الجدل يحرق الأوقات بلا طائل، كما أنه يُنهِك صاحبه، ويستنفد قواه العقلية والنفسية، وأقبح أنواع الجدل: تلك المناقشات التي تغيب عنها البيِّنات والحقائق، ويكثر فيها الادّعاء بلا علم، وتنشأ جرّاء ذلك الأحقاد والضغائن؛ لذا يأتي التنبيه على ذلك في قول الله -تعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}.

الأدب في هذا المقام

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا؛ فإنه -تعالى- أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعَّف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته؛ إذ لو كان باطلًا لرَدَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطِّلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: «قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم»، فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا} أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك؛ فإنهم لا يعلمون مِن ذلك إلا رجْمَ الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويُبطَل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم».

2- سفير الجماعة

قال الله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}، ما أجمل الروح الأخوية التي تسود هذا الفريق من الشباب! فبعد أن توقَّفُوا لبُرْهة أمام مدة نومهم، انتقلوا بعدها مباشرة إلى تدبير أمور حياتهم، والنظر في شؤونهم، وكان أشد هذه الشؤون إلحاحًا هو احتياجهم إلى الطعام والشراب لكي يواصلوا العمل، وتقوى أبدانهم على البذل والعطاء، فإنَّ الفريق الذي يكثر فيه الكلام، ويشيع فيه الخلاف، يقل فيه العمل ويدبُّ إليه الفشل.

قوة هذا الفريق

وتلمح من السياق معنى آخر من معاني قوة هذا الفريق من الشباب، وهو المرونة والسلاسة والتواضع، فلم يختلفوا فيمن يذهب لشراء الطعام، فالكل في هذا الأمر سواء، فمن يقع عليه الاختيار يقوم بالمهمة دون جدل أو نقاش، ورغم أن المهمة ثقيلةٌ ومحفوفةٌ بالمخاطر؛ إلا أنَّ ذلك الأمر لم يُعره أحد منهم اهتمامًا، بل كان الامتثال وسرعة التنفيذ سمة مَن سيؤدي العمل، وهذا السلوك خير تطبيق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ».

والظاهر مِن السياق كذلك: أنَّهم قد أمَّروا عليهم أحدهم، ولا يخفى أن شريعتنا جاءت بهذا التوجيه النبويّ الراقي، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ»، وفي قولهم: «أَحَدَكُمْ»: دليل على قدرة أي أحد منهم على القيام بالمهمة، وهذا من علامات قوة الفريق؛ حيث يعطي هذا الأمر إمكانية توفر بدائل متكافئة للمهمة الواحدة، وهذا يؤدي إلى استمرارية العمل، وعدم توقفه على فردٍ بعينه.

3- أرسل حكيمًا ولا توصه

قال الله -تعالى-: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}، الأعمال الجماعية الناجحة لابد أن تعتمد على التفويض بوصفه مبدأ مهما من مبادئ العمل، والملاحظ هنا: أن الفتية اعتمدوا هذه الطريقة في التكليف؛ حيث وضَّحوا للشخص المكلف بأداء المهمة ما المطلوب منه عموما، وهو أنهم يريدون طعامًا زكيًّا، وتركوا له تقدير الكمّية، وتحديد الأنواع، وغيرها مِن الأمور الفرعية.

صناعة الرجال وتربية القادة

إن هذه الطريقة في العمل هي التي تصنع الرجال وتربي القادة، والقائد الذي لا يستخدم التفويض في إدارته للفريق يُقَزِّم من قدراتهم، ويُحِدّ من كفاءتهم، والمؤلم في ذلك أنَّه سوف يفتقدهم في المواقف المهمة التي يحتاج فيها إلى مَن يقوم مقامه، فينظر يمينًا ويسارًا فلا يجد إلا شخصيات مهتزة، لم تعتد أن تأخذ قرارًا أو تتحمل مسؤولية.

حرصهم على الرزق الحلال

وفي تأكيدهم على أن يكون طعامهم من «أَزْكَى» الطعام: دليل على حرصهم وتحريهم لطلب الرزق الحلال، وهذا أثر من آثار إيمانهم بالله وطاعتهم له، فالمعاملات والسلوك لا تنفصل عن العقائد والعبادات، فلا يليق بهم أن يكونوا في باب المعاملات مفرطين متهاونين، بينما في باب الدعوة أو العلم متقدمون، فالسلوك مرآة الفكر، والعمل ترجمة وتعبير عما في القلب.

4- منهجية التلطف

قال -تعالى-: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، اللطف هو التعامل بخفاء، وفي مثل حال أصحاب الكهف لا بد أن يستعينوا على قضاء حاجتهم بالكتمان؛ حتى لا يُفتضح أمرهم ويُردُّوا إلى قومهم، فالكتمان مطلوبٌ في هذا الموضع، وهو من الحذر الواجب، ومن الأخذ بالأسباب، وليس من الشجاعة أن يعلن قلةٌ من الضعفاء أمرَهم أمام جيشٍ مِن الأقوياء، وليس مِن الجبن أن يكونوا مختفين عن أعين الظالمين، كما قال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (القصص:21).

الكتمان وتحقيق المصالح

فالإنسان إذا كان في خطرٍ فينبغي له أن يكون متلطفًا وألَّا يُظهر نفسه حتى لا يَكشف أعداؤه أمره، وفي الكتمان من المصالح ما لا يُحصى كثرة إذا استُعمِل في موضعه، وتأمَّل وصية النبي -صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عندما أرسله ليستكشف خبر المشركين في غزوة الخندق فقال له: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، يقول حذيفة:» فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، وهذا الفعل من حذيفة - رضي الله عنه - خير تطبيقٍ لمنهجية التلطف.

5- الغيب المخبوء

قال الله -تعالى-: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، أي: أنهم إن ظهروا عليهم فهم بين أمرين: إمَّا الرجم بالحجارة، فيقتلونهم أشنع قتلةٍ، لحنقهم عليهم وعلى دينهم، وإمَّا أن يفتنوهم عن دينهم، ويردُّوهم في مِلَّتهم، وفي هذه الحال، لا يفلحون أبدًا، بل يخسرون في دينهم ودنياهم، وقد كان هذا هو مَبْلغُ علم الفتية في ذلك الوقت، ولكنَّهم لا يعلمون أن مَن يتحدثون عنهم أصبحوا أثرًا بعد عين، فلا الناس هم الناس، ولا المدينة هي المدينة، فلم يعد للظالمين ذكر ولا لمُلِكهم أثر، وهذا الأمر فيه درسٌ تربويٌ عظيم نتعلم منه كيف يكون تأدبنا مع الله، وكيف يكون اعترافُنا بضعفنا وعجزنا وقلة حيلتنا، ونتعلم كيف ينخلع الإنسان من حولِه وقوته ليكون في كنف الله ورعايته، فيشهد بقلبه قبل أن ينطق لسانه أنه: «لا حول ولا قوة إلا بالله».





فوائد من المشهد


- الترفُّع عن الجدل يجب أن يكون صفةً لازمةً للدعاة إلى الله؛ لأن الجدل يحرق الأوقات بلا طائل، كما أنه يُنهِك صاحبه ويستنفد قواه العقلية والنفسية، وأقبح أنواع الجدل تلك المناقشات التي تغيب عنها البيِّنات والحقائق، ويكثر فيها الادّعاء بلا علمٍ، وتنشأ جرّاء ذلك الأحقاد والضغائن.


- الفريق الذي يكثر فيه الكلام، ويشيع فيه الخلاف، يقل فيه العمل ويدبُّ إليه الفشل.

- إن اعتماد مبدأ التفويض المنضبط في الأعمال الجماعية هو الذي يصنع الرجال ويربي القادة، والقائد الذي لا يستخدم التفويض في إدارته للفريق يُقَزِّم من قدراتهم، ويُحِدّ من كفاءتهم، والمؤلم في ذلك أنَّه سوف يفتقدهم في المواقف المهمة التي يحتاج فيها إلى مَن يقوم مقامه، فينظر يمينًا ويسارًا فلا يجد إلا شخصيات مهتزة، لم تعتدْ أن تأخذ قرارًا أو تتحمل مسؤولية.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-02-2022, 10:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(7)


أحمد الشحات




ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة، وذكرنا منهم مشهدين، المشهد الأول: الطليعة الواعدة، والمشهد الثاني: في جوف الكهف، واليوم نتكلم عن المشهد الرابع وهو: العودة إلى الكهف، وفيه عدد من الرسائل وهي: المهمة الكاشفة، والتكريم الدنيوي، والمشيئة أولًا، والتغيير في ظل غياب الفتية.


المشهد كما عرضه القرآن

قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.

رسائل من قلب المشهد

في هذا الجزء من القصة يُنهي القرآن مشهد فتية الكهف بتقرير عقيدة البعث التي كان فريق من أهل القرية يشكك في أمرها، وها هم هؤلاء الناس يرون بأمِّ أعينهم مثالًا عمليًّا للبعث بعد النوم الطويل الذي هو أشبه ما يكون بالموت، فضلا عن تقرير القرآن لحقيقة: أنَّ النصر في الجولة الأخيرة يكون للمؤمنين، فقد زال حكم الملك الكافر، وتغيَّرت عقائد الناس، فبعد أن كان المجتمع يطاردهم ليردَّهم عن دينهم أو يطلبهم للقتل، ها هم أولاء يقفون على كهفهم ليتجادلوا في الطريقة التي يُكرمون بها هؤلاء الفتية ويخلدون بها ذكرهم.

تغيُّر المجتمع

ورغم غلبة رأي أهل السلطان في نهاية الأمر، إلا أن هذا الخلاف الدائر بين الفريقين يدل على تغيُّر المجتمع بالفعل، فلم يعد هناك حديث حول: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}، ولكن الحديث يدور هنا حول مدى مشروعية بناء المساجد على القبور من أجل تكريم أصحابها، وهذا أمر مجزوم بحرمته والنهي عنه في شريعتنا؛ أما في شريعتهم فيبدو أنه كان محرمًا أيضًا؛ لأنَّ القرآن عبَّر عن هذا الرأي الذي مال إلى بناء مسجد عليهم بأنه رأي {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}؛ هذا فضلا عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ، وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا»؛ فدلَّ ذلك على أنه كان محرمًا في شريعة اليهود والنصارى أيضًا.

عودة أهل الكهف إلى المدينة

إن عودة أهل الكهف إلى المدينة بعد هذه المدة الطويلة لتذكرنا بعودة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته إلى مكة في يوم الفتح الأعظم؛ حيث خرجوا مطاردين فارين بدينهم إلى كهفهم الجديد (يثرب)، ومكثوا فيه عشر سنوات كاملة، ثم قدَّر الله لهم أن يعودوا إلى مدينتهم القديمة منتصرين فاتحين، يحطمون الأصنام، ويكسرون عروش الكفر، ولا شك أن الله رفع صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكانة العليا والمنزلة الأسمى، فعادوا يوم أن عادوا حاملين ألوية الدعوة ونشر الدين والرسالة؛ لأن المهام الثقيلة كانت في انتظارهم منذ ذلك اليوم، وقد انطلقوا -رضي الله عنهم- في ربوع الأرض بعد ذلك حتى حكموا أغلب الأجزاء المعمورة من الأرض في سنوات معدودة.

1- المهمة الكاشفة

قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. لقد بعث الله في أجساد الفتية الحياة بعد هذا النوم الطويل؛ لا ليعمِّروا في الحياة، ولكن ليؤدوا مهمة محددة، هي: إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت، فقدَّر الله ببعثهم مِن نومهم إصلاح عقيدة الناس في أمر البعث، فأيقن هؤلاء المرتابون أنَّ وعد الله حق لا شك فيه، ولا مرية، بعد ما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومِن نافٍ لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجةً على الجاحدين، وهكذا يقدِّر الله المقادير، ويسبب الأسباب؛ إقامةً للحجة على عباده، بإظهار البراهين الواضحة والآيات الكاشفة.

بقايا الحكم الوثني

ولعل هذا الارتياب من بقايا الحكم الوثني الذي ظل جاثمًا على صدورهم مدة طويلة من الزمن، ورغم أن غالبية القوم قد آمنوا بدين الفتية السماوي الذي كان يمثله وقتها شريعة المسيح -عليه السلام-، وكانت تنص على عقيدة البعث بالطبع، إلا أن الجاهلية كانت آثارها باقية فيهم، وهذا يدلنا على أهمية التخلص مِن رواسب الجاهلية عندما يَمنُّ الله على أحدنا بالهداية؛ لأن آثارها الخفية قد تعلق بنا دون أن ندري.

قصة العزير -عليه السلام

وهذا الأمر يتشابه مع قصة العزير -عليه السلام- في قول الله -عز وجل-: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:259).

فقد مرَّ عزير -عليه السلام- على هذه القرية (وهي بيت المقدس) -على المشهور بعد أن خرَّبها بختنصر وقتل أهلها- وهي خاوية ليس فيها أحد، فوقف متفكرًا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ وذلك لما رأى من شدة خرابها، قال الله -تعالى-: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}، وقد عمرت البلدة وتكامل ساكنوها ورجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله -عز وجل- بعد موته، كان أول شيء أحياه الله فيه عينيه؛ لينظر بهما إلى صُنع الله فيه، كيف يحيي بدنه؟!

فلمَّا استقل سويًّا، قال الله له -أي بواسطة الملك-: (كَمْ لَبِثْتَ؟) (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية، ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)؛ وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما فقده، لم يتغير منه شيء! لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب تعفن.

(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) أي: كيف يحييه الله -عز وجل- وأنت تنظر؟ (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي: دليلًا على المعاد (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) أي: نرفعها، فنركب بعضها على بعض، وركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وذلك كله بمرأى من العزير، فعند ذلك لما تبيَّن له هذا كله (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: أنا عالم بهذا، وقد رأيته عيانًا، فأنا أعلم أهل زماني بذلك.

2- التكريم الدنيوي

قال الله -تعالى-: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}: حدث خلاف بين القوم حول الطريقة التي يتعاملون بها مع هؤلاء الفتية، فريق منهم رأى أن يبنوا عليهم بنيانًا لتنتهي قصتهم وتُدفن معهم أسرارهم، ولا يصبحون مثارًا للجدل والنقاش، وفريق آخر: رأى أن يجعلهم ظاهرين بارزين ببناء مسجدٍ عليهم، وهؤلاء عبَّر عنهم القرآن بقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}.

المقصود بـ«الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ»

والمقصود بـ«الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ» هنا: ولاة الأمور بالمدينة، ويبدو أنهم رأوا أن يكون البناء مسجدًا ليكون إكرامًا لهم، ولكي يدوم تذكر الناس لهم، وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من الانحراف الذي طرأ على عقيدة النصارى، ونهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ذريعة إلى عبادة صاحب القبر، وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات؛ لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يُتناسَى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميت.



شريعتنا نهت عن اتخاذ القبور مساجد

فهؤلاء المذكورون في القصة مذمومون على فعلهم ذلك، وإن كانوا من أهل الصلاح في الجملة فلا يلزم من ذلك أن يكون كل ما صنعوه مشروعًا لهم، فضلًا عن أن يكون مشروعًا لنا، وقد جاءت شريعتنا بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: «لَوْلاَ ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ»، أي: لولا ذلك لأبرز قبره للناس وصار غير مختفٍ في الحجرة، ولكن خشي الصحابة -رضي الله عنهم- أن يأتي الناس لزيارة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فيصلون بجوار القبر فيُتخذ القبر مسجدًا، فرأوا أن يدفنوه في حجرته ليكون القصد أصلًا إلى مسجده؛ لأن الناس يأتون بطريقة معتادة إلى المسجد ليؤدوا الصلوات فلم يتخذوا القبر مسجدًا، بخلاف ما ظنه المتأخرون من أن وجود القبر الآن في مسجده هو مِن دلائل جواز اتخاذ القبور مساجد، بل إنما دفن - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان لكيلا يُتخذ القبر مسجدًا.


واتخاذ القبر مسجدًا إنما يحصل بأن يُبنى عليه مسجد، أو أن يُقصد بالصلاة بأن يجعل كالقبلة، أو أن يُصلَى بجواره، أو أن يدخل إلى القبر للصلاة عنده؛ فكل هذه الصور من اتخاذ القبور مساجد، وكلها ليست حاصلة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن المسجد مبني قبل القبر بسنين، ولما احتاج الناس إلى التوسع ظلوا يتوسعون من جميع الجهات إلى أن وسعوا من الجانب الذي فيه القبر، فاتسع المسجد من حول القبر ولم يشمل القبر، والناس لا يتمكنون من الدخول إلى الحجرة ليصلوا في داخلها.


والغرض المقصود من ذلك هو: تغير المجتمع في نظرتهم للفتية من كونهم آبقين مارقين إلى عدهم أولياء صالحين، وكعادة أهل الكتاب في الميل إلى الإفراط، أرادوا أن يعظموهم، ويكرموا مقامهم بتشييد مسجدٍ على قبرهم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26-02-2022, 10:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(8)


أحمد الشحات

ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة وذكرنا منهم مشهدين، وهما: الطليعة الواعدة، وجوف الكهف، والمشهد الثالث وهو البعث بعد النوم، واليوم نستكمل الحديث عن المشهد الرابع وهو: العودة إلى الكهف، وذكرنا من رسائله: المهمة الكاشفة، التكريم الدنيوي، واليوم نتكلم عن المشيئة أولا، والتغيير في ظل غياب الفتية.



4- المشيئة أولًا

قال الله -تعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}.

كما هي عادة كثيرٍ مِن الناس في التعامل مع الأمور المبهمة والقضايا المُشكلة، النقاش الطويل والجدال العقيم، مع أنَّ الأدلة قد تكون منعدمة، والمعلومات غائبة، والقرائن غير كافية، ومع ذلك يتجادل الناس لأجل أنهم مدفعون في الأغلب بشهوة الكلام، والرغبة في الإدلاء بالرأي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى؛ وإلا فعلى أي شيءٍ استند مَن قال: إن مجموعهم أربعة أو إنهم ستة أو ثمانية، الكثير منهم يُدلي برأيه كما وصف القرآن: «رَجْمًا بِالْغَيْبِ».

الأدب المطلوب تطبيقه

ثم أرشدنا القرآن الكريم إلى الأدب المطلوب تطبيقه في مثل هذه الأحوال، وهو: الترفُّع عن المراء والجدل؛ لأن عمرَ الإنسان وجهده أعظم من أن يُنفَق في مناقشات جدلية لا طائل من ورائها، فوقت المسلم أغلى وأثمن من ذلك، ثم أرشد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله -عز وجل-؛ فإنَّه: «لما أبرَّ الله وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذي وعده المشركين أن يبيِّن لهم أمر أهل الكهف، فأوحاه إليه وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذنٍ مِن الله.

وأمره أن يذكر نهي ربه، ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى، ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم، والمعنى: وقل لهم: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ».

تعليم وتأديب للنبي - صلى الله عليه وسلم

وفي هذا الموطن تعليم وتأديب للنبي الكريم ألا يجزم بحصول شيء من علم الغيب دون أن يقدم المشيئة بين يدي كلامه، وفي صلح الحديبية: بشَّر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة بالعمرة مع تقديم المشيئة، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (الفتح:27)، لذلك ورد النهي بألا يعزم الإنسان بالفعل في الأمور المستقبلة دون أن يسبقه بمشيئة الله؛ وذلك لما فيه من الكلام على المستقبل الذي لا يدري: هل يفعله أم لا؟ وهل يدركه أم لا؟ كما أن في الجزم بالفعل دون تقديم المشيئة ردًّا للفعل إلى مشيئة العبد دون التنبه إلى أن المشيئة كلها لله، فضلًا عما في ذِكْر المشيئة من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه.

5- التغيير في ظل غياب الفتية

قال الله -تعالى-: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}: قدَّر الله -عز وجل- أن يتغير المجتمع إلى الأصلح في ظل غياب أصحاب الرسالة؛ ثلاثة قرون غاب فيها الدعاة، ليس نفيًا خارج البلاد، ولا حبسًا خلف جدران السجون، ولكنهم غابوا عن الحياة بما تحملها مِن مظاهر، غابوا حسيًّا ومعنويًّا، ومع ذلك قيَّض الله دعاة آخرين حملوا مشعل الإصلاح ورسالة الدعوة.

درس بليغ

إنه درس بليغ لكل مَن يرى مِن نفسه محورًا أو ركنًا من الأركان التي لا يُستغنى عنها، ولا ينبغي أن تظل مكانها؛ فإن إبراهيم -عليه السلام- نادى في الصحراء -كما أمر ربه تبارك وتعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (الحج:27)، ولم يكن حوله أحد، ولم تقم عنده حياة، ولكنه أدَّى ما عليه، وحمل الله عنه هذا النداء، فأسمعه لمَن شاء مِن خلقه.

ومرت السنون؛ وإذ بالصحراء التي نادى فيها إبراهيم -عليه السلام- تكتظ عن آخرها، وتمتلئ بالوفود التي لا تنقطع على مدار الساعة، فمَن أسمَعَ هؤلاء؟! ومَن الذي ألقى في روعهم حب هذه الأماكن التي يأتون إليها مِن أماكن بعيدة، ويبذلون مِن أجلها كرائم أموالهم؟! إنه الله -عز وجل.

أيها الداعية لا تحزن

فلا تحزن أيها الداعية إذا لم يستجب لك الناس، وإذا أداروا لك ظهورهم، فإن دعوتك باقية، وسيحملها الله عنك إلى مَن يسمعها ويتأثر بها؛ ذلك: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12)، كما أنه يجب عليك أن تتحلى بالصبر الجميل، فأعمار الدعوات والأمم ليست بالفترات القصيرة، وربما انقضى عمرك وانتهى أجلك، وأنت ما زلت في طور التمهيد للدعوة والتأسيس لها، فلا تجزع إذا طالت بك المسيرة، ولم تنعم برؤية ثمارها.

وتذكر أن قوم أهل الكهف استغرقت رحلةُ التغيير معهم أكثر من ثلاثة قرون، وتذكر أن قوم نوح -عليه السلام- استغرقت رحلة تغييرهم أكثر من تسعة قرون، ومع ذلك لم تكن النتيجة النهائية على المستوى المرجو والمتوقع، فانشغل بتصحيح نيتك وتصويب عملك، ودَع عنك أمر النتائج.





فوائد من المشهد

- بعث الله في أجساد الفتية الحياة بعد هذا النوم الطويل؛ لا ليعمروا في الحياة، ولكن ليؤدوا مهمة محددة، هي: إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت، فقدَّر الله ببعثهم من نومهم إصلاح عقيدة الناس في أمر البعث.

- قدر الله -عز وجل- أن يتغير المجتمع إلى الأصلح في ظل غياب أصحاب الرسالة ثلاثة قرون غاب فيها الدعاة عن الحياة بما تحملها مِن مظاهر؛ فغابوا حسيًّا ومعنويًّا، ومع ذلك قيَّض الله دعاة آخرين حملوا مشعل الإصلاح ورسالة الدعوة، وفي هذا درس بليغ لكل مَن يرى مِن نفسه محورًا أو ركنًا من الأركان التي لا يُستغنى عنها، ولا ينبغي أن تظل مكانها.

- ليس مِن لوازم النصر أن يحضر الداعية مشاهد الانتصار الختامية، بل يكفيه فقط أن يموت على الطريق حتى ولو مات في الكهف.

- إن النصر له أجل مكتوب ووقت مقدَّر، كما أن للأفراد أجلًا مكتوبًا، وعمرًا محددًا، وقد يتوافق هذا الأجل مع ذاك القدر وقد لا يتوافق، فنوح -عليه السلام- مكث في قومه داعيًا إلى الله لما يقرب من ألف عام، ومع ذلك لم تُقر عينه بإيمانهم، قال -تعالى-: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.

- لا تحزن أيها الداعية إذا لم يستجب لك الناس، وإذا أداروا لك ظهورهم، فإن دعوتك باقية، وسيحملها الله عنك إلى مَن يسمعها ويتأثر بها؛ ذلك {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}، كما أنه يجب عليك أن تتحلى بالصبر الجميل؛ فأعمار الدعوات والأمم ليست بالفترات القصيرة، وربما انقضى عمرك وانتهى أجلك، وأنت ما زلت في طور التمهيد للدعوة والتأسيس لها، فلا تجزع إذا طالت بك المسيرة ولم تنعم برؤية ثمارها.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-08-2022, 12:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف


مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(9)


أحمد الشحات

ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وما زلنا في استعراض مشاهد القصة، واليوم مع المشهد المشهد الخامس وهو: ميزان العقيدة، ويتضمن هذا المشهد رسائل عدة، وهي: التمسك بالمنهج والثبات على الحق، والرفقة الصالحة، والزمرة الفاسدة، والحق الأبلج، والجزاء العادل.


المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا الجزء من القصة يعرض القرآن الكريم طرائق الوقاية والعلاج من الفتنة الأساسية التي تعرَّض لها الفتية، وهي: الفتنة في الدين؛ لذلك تحدث القرآن عن التمسك بالوحي بوصفه محورا مهما ورئيسا في مواجهة هذه الفتنة؛ لأن التمسك بالوحي يخلق لدى صاحبه العزة والقوة، ويعطيه المنعة والشوكة.
أهمية الرفقة الصالحة
والمحور الثاني الذي أرشدتنا إليه الآيات هو: أهمية الرفقة الصالحة؛ فالثبات على الطريق في أوقات الفتن يحتاج إلى صحبةٍ صالحةٍ، تُعين الإنسان على عقبات الطريق المختلفة، وعلى الضد مِن ذلك فإنَّ صحبة الغافلين المفرِّطين لا تزيد الإنسان إلا وحشةً وغربةً، حتى ولو توهَّم أنَّ فيها السعادة والسرور.
ربط ما يدور في الدنيا باليوم الآخر
والمحور الثالث الذي ختمت به الآيات، هو: ربط ما يدور في الدنيا من خير وشر، ومن هزيمة ونصر باليوم الآخر؛ لأن هذه العقيدة تجعل المؤمن يسير في الدنيا مرتاح البال، مطمئن النفس، فالله -عز وجل- قال عن نفسه: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}؛ فكيف يضطرب فؤاد عبد وهو يعلم أن هناك يومًا تجتمع فيه الخصوم عند الله، ويقتص الله فيه للمظلوم من الظالم؟!
وهذه العقيدة تُهوِّن على المؤمنين مصائب الدنيا؛ لأن الله حكم عدل، وسوف يقف العباد كلهم أمامه ليجازيهم على أعمالهم في الدنيا، وهو -عز وجل- لا تغيب عنه غائبة ولا تخفى عنه خافية، والمؤمن إما أن يُحصِّل ظَفرًا ونصرًا في الدنيا، فينكسر الباطل أمام عينيه ويندحر الظلم أمام ناظريه، وإمَّا أن يدخر الله له أجره مضاعفًا في الآخرة.
نموذجان متضادان
ولتوضيح ذلك ذكرت الآيات نموذجين متضادين: نموذج الإيمان، وجزاؤه الجنة بما فيها من نعيم دائم متجدد، لا يفنى ولا يزول، قال الله عنه: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}، ونموذج الكفر، وجزاؤه النار بما فيها مِن عذابٍ وشقاءٍ، وألمٍ وغمٍّ، قال الله في وصفه: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.
1- التمسك بالمنهج والثبات على الحق
قال الله -تعالى-: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}، والمقصود مِن هذا التوجيه الإلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الرد على المشركين الذين كان ديدنهم أنهم لا يُبيَّن لهم شيئا إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر؛ فسألوا عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، ثم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم، فنزل القرآن ليقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض ما أوحي إليك، واتلُ جميع ما أوحي إليك؛ فإنه لا مبدل له.
العقيدة لا مجاملة فيها
وكأن الرسالة التي يريد القرآن أن يرسخها في وجداننا، أن العقيدة لا مجاملة فيها، ولا مجال لاسترضاء الكفار بالتنازل عن شيء منها، أو الالتقاء معهم في منتصف الطريق، فالقضية واضحة لا تحتمل حيدة، ولا تنازلًا ولا ترقيعًا؛ فليس مِن حقِّ أحدٍ أن يبدِّل دين الله أو أن يغير شريعته؛ إرضاءً لأحدٍ كائنًا من كان.
وبما أن المساومة في مثل هذه الحالات تكون شديدة، والتهديد يكون أشد، جاءت تلك الجملة الجامعة الكافية الشافية، وهي قول الله -عز وجل-: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي: لن تجد مِن دون الله ملجأ يحميك ويحوطك وينصرك، مهما خوفوك أو أرهبوك؛ فالله حاميك وحافظك، ومهما كادوا بك وسَعَوا في إيقاع الضرر بك، فالله ناصرك ومنجيك من شرورهم وبطشهم.
2- الرفقة الصالحة
قال الله -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، نزلت هذه الآية في أشراف قريش، حين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد فقراء المؤمنين مِن أمثال: بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود -رضي الله عنهم-، أو أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس هؤلاء النفر؛ لأن عليهم جبابًا تفوح منها رائحة العرق، فتؤذي السادة من كبراء قريش! وقد حدَّث النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه في ذلك طمعًا في إيمانهم، فأنزل الله -عز وجل-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ...}.
الدعوة أعز وأشرف
فالدعوة أعز وأشرف مِن أن يشترط السادة والكبراء شروطًا جائرة حتى يدخلوها؛ لأنها تقوم على إعلاء قيمة التقوى وهو المعيار الذي يتفاضل الناس على أساسه، وقد هدم الإسلام في نفوس أتباعه أيَّ أمور جاهلية جعلها الكفار معيارًا للتفاضل بين الناس، وهذا الانحراف الجاهلي قد وَرِثته الحضارة الغربية اليوم، ففرَّقت بين الناس على أساس أمورٍ لا دخل لهم بها، ولا قدرة لهم على تغييرها، مثل: الجنس، والعِرق، واللون، بينما أهملت عن عمدٍ معيار العقيدة، رغم أنه يخضع لاختيار الإنسان وإرادته.
ركيزة أساسية
وتأكيدًا على الضد مِن مراد أكابر قريش، أمر الله -عز وجل- نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر نفسه مع عباد الله المؤمنين؛ وذلك لأهمية الرفقة الصالحة، فهي ركيزة أساسية في مسيرة الدعوة إلى الله -عز وجل-، وفي هذه الآية تعريضٌ بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة، وأهملوا الاعتبار بالحقائق، فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والإيمان؛ بسبب كبرهم وغرورهم، وتعاليهم على غيرهم مِن الخلق.
إن الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- لابد فيها من رفقة صالحة، حتى ولو كانوا أقل حالًا ومنزلةً وعلمًا من غيرهم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم وهو أعلى الخلق منزلة، وأقربهم إلى الله عز وجل، وأشدهم علمًا به سبحانه-، أمره الله بأن يصبر نفسه معهم؛ وذلك لأنهم يخلصون نيتهم لله -عز وجل-، والقرب من أمثال هؤلاء هو النعيم واللذة.
كَدَر الجماعة خيرٌ من صَفو الفرد
وتأمل في قول الله -عز وجل-: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}؛ لتعلم أن كَدَر الجماعة خيرٌ من صَفو الفرد، وإن الإنسان مهما ناله أذى بسبب وجوده في هذه الرفقة الطيبة، فإنه يحتمل ذلك حسبة لله -عز وجل-؛ لأن البديل عن ذلك: إما أن تكون رفقة غير صالحة، يجد فيها الإنسان الكدر الذي يمكن أن يجده في أيّ تجمع بشري، وإما أن يكون المصير إلى الانفرادية والتمحور حول الذات، وهذا الأمر يجر على الإنسان أنواعًا شتى من أمراض القلوب التي يجد الشيطان لها البيئة المناسبة، فيغذيها وينميها في داخل هذا المنفرد فتعظم نفسه في عينه، وتتسرب إليه أمراض إبليس دون أن يشعر.

ثمرات الجماعة
إن الجماعة -رغم ما قد يكون بها مِن كدرٍ- إلا أنها تُعلِّم هضم النفس، وتنزع عنها أردية الكبر والغرور والتعالي، كما أنها تُعلِّم الصبر والتعاون، وتُنمِّي في النفس روح التواضع وخفض الجناح، والتسامي على حظوظ النفس، وكلما كان التجمع نظيفًا يمتلك العزم والإرادة ويسعى للصلاح والإصلاح، كان أقدر على التأثير الإيجابي في نفوس مَن سيوجدون في هذا التجمع.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 08-11-2022, 11:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (10)
- قـصـة صاحب الجنتين (4)
المشهد الثاني: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة




قصة صاحب الجنتين هي إحدى قصص سورة الكهف؛ حيث يبين لنا ربنا -سبحانه وتعالى- فيها الصراع بين الحق والباطل، وطرفا الصراع هنا رجلان: أحدهما كافر: وهو الذي نعته القرآن بـ(صاحب الجنتين)، والطرف الآخر: مؤمن، وهو الذي يمثِّل جانب الحق، والخير والصلاح، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: العطية الإلهية والحوار الكاشف، والمشهد الثاني: البوار الكامل، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة.

رسائل مِن قلب المشهد

لما كانت الفتنة الأساسية التي قامت عليها قصة صاحب الجنتين هي فتنة التعلق بالدنيا، كان مِن المناسب أن يعرض القرآن حقيقة الدنيا مقارنةً بمشاهد يوم القيامة، وهو اليوم الذي تتضح فيه الحقائق، وتتكشف فيه الأسرار، فكما أعرض صاحب الجنتين عن سماع الحق واتبع هواه، ثم ندم وتحسر بعد أن أهلك الله له بستانه وثمره، كذلك يفعل المجرمون والكافرون يوم القيامة، فإنهم يعضون أناملهم من الغيظ ويتحسرون على فوات الطاعة، ولكنه ندم لا يفيد؛ لأنه بعد فوات الأوان، وكأنَّ القرآن ضرب لنا مثل صاحب الجنتين ثم انتقل بنا إلى مشهد ندم الكافرين يوم القيامة؛ لكي يحذرنا مِن أن يؤول بنا الحال إلى هذا المصير.

(1) الحياة الذابلة

قال الله -تعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يقول -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولمَن قام بوراثته بعده تبعًا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.

وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب.

كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه؛ إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله.

يوم يعض الظالم على يديه

هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرَّط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحال، ويقول لنفسه: قدّري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي؛ فأي: الحالين تختارين: الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟! فبهذا يُعرف توفيق العبد مِن خذلانه، وربحه من خسرانه».

مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وهذه الآية نظير قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).

درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل

قال القرطبي -رحمه الله-: «قالت الحكماء: إنما شبَّه -تعالى- الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحدٍ؛ ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا؛ ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى؛ ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها؛ ولأن الماء إذا كان بقَدَرٍ كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر»، وهذا درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل، والركون إلى زينة الدنيا الظاهرة، فإن الأمور سرعان ما تتبدل وتنقلب من حالٍ إلى حالٍ، فالله هو الذي بيده مقادير الخلائق، وهو القدير الذي لا يعجزه أحد، فلا تغتر بكثرة مال فقد يذهب المال، ولا بكثرة أنصار فقد ينصرفون عنك، ولا بالجاه والسلطان، فقد تتبدل المواقع، ويصير المحكوم حاكمًا، والحاكم مسجونًا، والقصص في تبدُّل حال الدنيا وتنكرها لأهلها كثيرة ومؤلمة، فإياك أن تكون واحدًا من هؤلاء الضحايا، بل علِّق قلبك بالله وثق به، واحتمِ بجنابه؛ يحفظك الله مِن فتن الدنيا، وسوء عواقبها».

(2) المتاع الزائل والأمل الباقي

قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، اختصرت الآية السابقة الحياة بكل ما فيها مِن زينةٍ وزخرفٍ في جملةٍ واحدةٍ، وفي خطواتٍ سريعةٍ متلاحقةٍ: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ» ف»اخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ» ف «أَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ»؛ هذه هي صورة الحياة، يعرضها القرآن بهذا الاختزال، وهذا الاختصار ليكشف عن جوهرها وحقيقتها، فكما ينزل الماء فينبت الزرع ثم لا يلبث أن يبور ويهلك، كذلك الإنسان يولد ثم يعيش حياة قصيرة ثم يموت.

فتن الحياة وملذاتها

ولكن في الحياة فتن وملاذ تتزين للناظرين، وتتزخرف في أعين المغترّين، فأخبرنا -تعالى- أنَّ المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، وأنَّ الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره في آخرته هو الباقيات الصالحات، وهذا يشمل الطاعات الواجبة والمستحبة جميعها من حقوق الله، وحقوق عباده، مِن: صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كما قال -عز وجل- في موضع آخر: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (مريم:76).


الإسلام يعطي المتعة القيمة التي تستحقها

مع أنَّ الإسلام لا ينهى عن الزينة الحلال، ولا يمنع مِن المتع الطيبة المباحة، ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها؛ فلا يسمح الإسلام لأتباعه أن تختل لديهم الموازين، أو أن يضطرب في حسهم ترتيب الأولويات، فتصبح الزينة والمتاع هي معيار التقييم والتفاضل بين الناس، أو أن يحتل الانشغال بالدنيا المرتبة المتقدمة على غيرها من واجبات الدين، أو أن يصبح اللهو -مع كونه مباحًا- أصلًا وركيزةً يُنفق عليها الإنسان وقته أو ماله أو جهده، فكل هذه انحرافات عن القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.

الرد على المشركين

والآية ترد على المشركين الذين ظنوا أن في استكثارهم من الأموال والأولاد في الدنيا نجاة لهم من عذاب يوم القيامة، وهذه هي النظرة المادية التي تحكم معتقدات الكفار في كل زمان ومكان، فجاء القرآن ليصحح هذه النظرة المنحرفة وليقول لهم: إن كل هذه المظاهر التي يتفاخرون بها إنما هي زينة دنيوية لا علاقة لها بالميزان الأخروي، فالميزان عند الله هو ميزان الأعمال الصالحات، وهذا هو الأمل الحقيقي الذي يجب على العباد أن يعلِّقوا قلوبهم به، أما غير ذلك فهي آمال زائلة، لا تستقر ولا تدوم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 208.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 201.95 كيلو بايت... تم توفير 6.11 كيلو بايت...بمعدل (2.94%)]