أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4413 - عددالزوار : 850999 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3944 - عددالزوار : 386988 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 225 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28455 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60077 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 848 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 08-10-2021, 11:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد







دور الخطباء في المجتمع





ظهرت في الآونة الأخيرة وجهات نظر في بعض عالمنا الإسلامي تؤيد فكرة إقامة دور للمسنين تقوم برعايتهم والعناية بهم، وجزء من هؤلاء المسنين ربما كان من الأمهات اللائي أنفقن ما أنفقن في سبيل رعاية وتربية الأولاد ذكورًا وإناثًا بقدر ما أوتين من القدرة على التربية والرعاية.

ويقول البعض: إنه ليس من الضرورة أن تكون دور المسنين لأولئكم الذين رزقوا بالأولاد، وإنما هي دور ترعى هؤلاء الذين لم يبقَ لهم في المجتمع إلا اللجوء إلى مؤسسات اجتماعية يبحثون فيها عن الستر والصون، وأعلم أن هناك شيخًا ضريرًا مسنًّا تقطعت به الأسباب المادية، ولكنه كان قوي العلاقة مع الله سبحانه وتعالى فيرزقه تعالى من يقدم إليه من مكان بعيد ويحمله معه في منزله وبين أولاده ويتردد به على الأطباء والمستشفيات، ولسان حال هذا الشيخ يلهج بالدعاء لابن الحلال حتى توفاه الله، فما خسر صاحبنا شيئًا، بل لعله فاز فوزًا لا يقدر بالجهد الذي بذله في سبيل العناية بهذا الشيخ الكبير.

وهذا هو منطلقنا في هذا المجتمع بخاصة وفي المجتمع المسلم عمومًا تجاه المسنين، ومنهم الأمهات، ومرة أخرى لن أعمد في هذا الحديث لأبين فضل الأم وما ورد في مقامها من آيات وأحاديث وأقوال للعلماء، فتلكم مهمة مؤكدة، فلقد درسنا في السنوات الأولى من الابتدائية: "كل ما في البيت عندي.. لا يفي أمي الجزاء".. ولا أدري هل لا تزال هذه القطعة في كتاب "المحفوظات" أم لا؟

ومرة أخرى كذلك أضع الأئمة والخطباء ورجال العلم مجالًا للحديث فيما يتعلق بموقف المجتمع عمومًا من الأم وموقف الأبناء - ذكورًا وإناثًا - منها، ولا بد من التأكيد هنا على هذا القانون العجيب في حياة الأمم الذي اختصر في عبارة جميلة: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، وقد ذكره العامة بعبارة أخرى، مؤداها أن المرء إذا عمل للآخرين عملًا سيعمل له الآخرون كما هذا العمل، (ما سويت سوي بك)، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الآخرون هم بأنفسهم مَن تلقوا المعاملة من الشخص، فالذي يعق والديه مثلًا يعقه أبناؤه، وتتردد قصص عربية وشعبية تؤيد هذا التعادل.

والرجال عمومًا أكثر خوفًا من العقوق لأمهاتهم؛ نظرًا لارتباطهم بزوجاتهم، ونظرًا لما يحصل من عدم انسجام بين الأم التي تتوقع شيئًا من الانتباه الأكثر من ابنها فِلذة كبدها، وبين الزوجة التي تشعر أن أم زوجها تنافسها في حبه في كثير من الأحيان وفي كثير من المواقف، كل ذلكم يمكن أن يتطور ويصل إلى حدود غير مرغوب فيها، إن لم يكن للوازع الديني أثر في هذه العلاقة، ولم يكن للابن "الزوج" أثر في توضيح العلاقة بينه وبين والدته وبينه وبين زوجه.

والأم حتمًا هي العامل المؤثر الأول في العلاقة، وتبقى مؤثرات أخرى تحدد العلاقة بين الأم وأبنائها، قد تكون علاقة الزوج بزوجته أو بأبنائه، أو بهما معًا، كما أن عامل الشباب لدى الأبناء له أثره على هذه العلاقة التي أوجبها الدين الحنيف حيال الأم حتى يتزوج الابن ويرزق بالأبناء، حينذاك يمكن أن يكون إدراكه أكثر واقعية، وقد يتجاهل البعض الآخر أن يكون هناك علاقة، ولعلنا سمعنا بما قيل من أن واجب الأم يتوقف عندما يصل الابن إلى درجة يستطيع فيها أن يعتمد على نفسه، ولنلاحظ أن هناك إيحاءً من قبل كثير من منظري علوم الاجتماع في الغرب وفي الشرق بأن ما تقوم به الأم إنما هو واجب عليها تجاه أبنائها، ولكننا قد لا نلحظ بالمقابل أي إيحاء بأن ما يجب أن يقوم به الأبناء تجاه أمهاتهم إنما هو من واجباتهم تجاه هذه الأمهات.

كيف يستطيع الخطباء ورجال العلم أن يركزوا فكرة "البر" بالوالدين في المجتمع؟ هل العصر يفرض أسلوبًا آخر أو شكلًا آخر من أشكال ترسيخ فكرة البر؟ هل يكفي أن يقف الخطباء ورجال العلم من موقف الأبناء من أمهاتهم موقف المدافع؟ فيبينون فضل الأم وما يجب لها من حقوق على أبنائها مع التعرض من قريب أو بعيد للمجتمعات الأخرى التي كثرت فيها مؤسسات رعاية المسنين، فأصبح المسنون آلة أو أداة ووسيلة للرزق، بل وللتجربة، وأصبح المسنون مجالًا للإيحاء بالمنَّة عندما تربت على أكتافهم الممرضة أو الاختصاصية الاجتماعية أو تتبسط معهم مديرة الدار، إن أمثلة العقوق كثيرة جدًّا، صبغت بأصباغ مختلفة، ولكن الجوهر واحد ينصب في مفهوم العقوق، وللعقوق جزاؤه عاجلًا وآجلًا، ولعل من المطلوب تبيانه أن الحياة - المؤقتة - لا يمكن أن تصفو لشخص ما دام يمارس في حياته طرقًا تتنافى أو تتعارض مع سنة هذه الحياة ومع سنة الله في تسيير هذا الكون.

ولا يريد أن يصل المرء إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين إنما هي دليل صريح على كثرة العقوق في المجتمع، والذي يبدو أن المرء يكن أن يصل إلى هذا الافتراض وهو مطمئن، بل وربما ذهب إلى أكثر من هذا، بحيث يصل إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين في بلاد الغرب والشرق إنما هي سبب في كثرة النوائب والنوازل التي تحل بتلك المجتمعات على مستوى الأفراد والجماعات، ولعل الخطباء ورجال العلم يستطيعون الربط بين هذا وذاك، كما استطاعوا الربط بين قلة المطر والإحجام عن دفع الزكاة، وكما استطاعوا الربط بين قدرة الخالق سبحانه وتعالى وبين النوازل الأخرى التي تحل بالعالم بالأمس واليوم وربما غدًا، بدلًا من التفسير المادي "العلمي" لهذه النوازل، وذلكم أيضًا مفهوم عام يحتاج إلى وقفة أخرى تناقش فيها فكرة "التفسير العلمي" عندما يراد به تفسيرًا ماديًّا للظواهر في مقابل التفسير الديني لها، وكأن هناك فصلًا قويًّا بين التفسير العلمي والتفسير الديني، بينما القدرة الإلهية هي الأساس المكين لكل مكتسبات الإنسان في هذا الكون، ولعقوق الوالدين أثر كبير في الوصول إلى تفسير النوازل.

إن مسؤولية العلماء والخطباء لا تتوقف عند ذكر الدليل، ولكنها تتطلب من هؤلاء الذين رضُوا بحمل هذه الأمانة أن يدخلوا إلى العقول والقلوب، فيرسخوا المفاهيم الإسلامية التي شملت وتشمل كل شيء، ولهذا الهدف مقوماته التي تعين على الوصول إليه، منها: قدرة الخطيب على الإحاطة الكاملة بعلوم الدين ومستجدات الحياة، وكان الله في عون الجميع!

___________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة

















__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 05-12-2021, 06:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

الوعظ والإرشاد
هبة حلمي الجابري


الوعظ لغة: النصح بالترغيب، أو الترهيب، أو بهما معًا؛ ليلين قلب الإنسان.

وفي الاصطلاح: القول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانًا وهداية.



والموعظة الحسنة مظهر من مظاهر الحكمة، وجزء منها، ولها شروط لا بد منها، وهي:

1- أن تكون صادرة عن إخلاص.



2- أن يكون لها مقتضى يقتضيها من حال المدعو؛ لا أن تكون مجرد حب للقول، وتظاهر بالفصاحة والحكمة دون داع .



3- أن يصاحبها إقناع المدعو بأنها صادرة عن روح الإخاء، وحب الخير له قبل كل شيء.



4- إذا كانت الدعوة خاصة بفرد أو أفراد معينين، فيحسُن أن تكون بعيدة عن التشهير والتجريح الذي يُثير الشر أكثر مما ينشر من الخير .



5- أن تكون القدوة بالداعي أحد عناصرها، فإن العظة بالقدوة من أنجح أساليب الوعظ.



ومن هنا فالموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة، التي تخرج من فم الداعية بإخلاص لتصل إلى عقول الناس، فيجدون فيها الخير والسعادة، ويحسون من خلال كلمته أنه صادق وحريص على جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم .



متى تكون الموعظة مؤثرة:

حتى تكون الموعظة الحسنة مؤثرة في نفس المدعوين لا بد أن يكون فيها ما يلي:

1- أن تكون ذا موضوع؛ فتتحدث عن أمر معين، ويكون لها هدف يريد أن يصل الداعية إليه من خلالها.



2- أن يدعمها الواعظ بالحجة النقلية من القرآن والسنة، والحجة العقلية التي يقتنع بها السامع مع التلطُّف في القول، والرفق في المعاملة.



3- العلم بالكتاب والسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والسلف الصالح، وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، ثم العمل بذلك كله، فرُبَّ حالٍ أبلغ في التأثير من ألف مقال.



4- أن يتجمَّل الواعظ بالعِفَّة واليأس مما في أيدي الناس.



5- أن يعالج الواعظ بالموعظة واقعًا يعيش فيه الناس، وأن يجعل منها توجيهًا يُصلِح شأنهم جميعًا.



6- أن يحسن الواعظ عرض موعظته، بأن يُقسِّمها إلى أجزاء متصلة، ثم يصوغها بأسلوب جميل سهل.



7- أن يتخلَّق الواعظ بما يقول مظهرًا ومخبرًا، فبمقدار إخلاصه في القول والعمل ينتفع سامعوه .



8- أن يهتم بحسن مظهره.



9- أن يكون الواعظ مُلِمًّا بثروة كلامية يختار منها أفضل الأساليب التي يمتلك بها قلوب السامعين من جمال التصوير، وطرافة المعنى، وحداثة الموضوعات، مع ضرورة الإجادة في الإلقاء.



10- أن يعلم الواعظ أحوال الناس من حيث الطباع والتاريخ والأخلاق، مع الإلمام بقدر المستطاع ببعض الدراسات في علم النفس وعلم الاجتماع والتعرُّف على لغة القوم؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4].



11- أن يكون ذا فراسة، يتعرف حال سامعيه، ويعاملهم بما يناسبهم ويؤثر فيهم.



ومع ما للوعظ والإرشاد من فائدة عظيمة، وأثر طيب ظاهر في تهذيب النفوس وسعادة البشرية؛ لكن أنكره جماعة من المتشائمين، وقالوا عن الوعظ: إنه عبث؛ لأن الأخلاق مبنية على غرائز لا تتحوَّل، وطِباع لا تتبدَّل! وقال بعض الفلاسفة عن الوعظ والإرشاد: إنه لا قيمة له؛ حيث إن الناس يولدون أخيارًا أو أشرارًا، وأن الحسن والقبيح شيء طبيعي في الإنسان، وأن الشعور بالمسؤولية ليس إلا نوعًا من الخداع .



فهل كلامهم صحيح؟ بالطبع غير صحيح؛ وللرد على هذه الآراء:

لو نظرنا نظرة فاحصة لهذه الآراء السابقة، لوجدنا أنها لا تقوم على أساس، وباطلة في دعواها ومنقوضة بالشرع والعقل والتجربة والملاحظة:

أما الشرع: فإن الله عز وجل يقول: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: عرفناه طريق الخير والشر، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]؛ أي: بينَّاه له، ووضَّحناه، وبصَّرناه به، ويقول عز من قائل: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7]، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8]؛ أي: بيَّن لها طريق الخير والشر.



وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ وينصِّرانِهِ ويمجِّسانِهِ، كما تُنتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحسُّونَ فيها من جدعاءَ؟))؛ رواه مسلم. [وجمعاء؛ يعني: سالمة من العيوب، وجدعاء: مقطوعة الأذن] .



أما من ناحية العقل: فإن الله تبارك وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل من أجل إصلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ورسالة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم كانت وعظًا وإرشادًا وتوجيهًا إلى طريق الهداية، كانوا بالوعظ ينبهون القلوب من غفلتها، ويضيئون النفوس بضياء الحق، ويبعدونها عن الرذائل، ويبصرون أتباعهم بما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم.



فالإنسان خُلِق مستعدًّا للخير والشر، فإن تيسَّرت له التربية الصالحة والبيئة الصالحة نشأ على الإيمان الخالص والأخلاق الفاضلة، وحب الخير والفضيلة، وأما إذا كان العكس، فلم تتيسَّر له التربية الصالحة والبيئة الصالحة، فإنه ينشأ على الكفر والأخلاق المنحلَّة وحب الشرِّ والرذيلة.



ومن هنا فالوعظ والإرشاد له أثر كبير في هداية النفس الإنسانية، والأخذ بها إلى الصراط المستقيم، وصيانة القلوب من المخاطر، وتهذيب النفوس، واستنارة البصائر بنور الطاعة.



أما من ناحية التجربة والملاحظة: من الملاحظ في عالم الإنسان أن إنسانًا ما عاش طويلًا في بيئة الضلال والفساد، وبلغ فيه الإجرام والشقاء كل مبلغ، وقد أذاق المجتمع من وبال شروره وآثامه، وإذا برفيق صالح، أو مُربٍّ مؤثِّر، وداعية مخلص، نقله من الشقاء إلى السعادة، ومن بيئة الإجرام إلى عالم الكرام البررة، فيصبح بعد هذا الشقاء الطويل من كبار الأتقياء.



والدليل على ذلك ما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لا أُحَدِّثُكُمْ إِلا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ((إِنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ! قَالَ: فَانْتَضَى سَيْفَهُ، فَقَتَلَهُ بِهِ، فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، اخْرُجْ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا، قَالَ: فَخَرَجَ يُرِيدُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، قَالَ: فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَوْلَى بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ، قَالَ: فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا))؛ رواه مسلم.



فالرجل عاش في بيئة كلها فساد، وإذا بهذا الواعظ يأخذ بيده من هذا الوباء الذي يعيش فيه، وينقله إلى بيئة العبادة والتقوى، وما ذلك إلا بالموعظة الحسنة التي قدمها له، وعرَّفَه بأن أرضه أرض سوء وفساد، فلا يرجع إليها مرة أخرى.



ولننظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف كان قبل الإسلام؟! وكيف أصبح بعده؟! وما كان هذا إلا بعظة عابرة غير مقصودة وقعت في قلبه، فحوَّلته من الشدة إلى الرقة والرأفة والعطف.



وإذا نظرنا إلى عالم الحيوان نجد أن الإنسان بخبرته غيَّرَ كثيرًا من طباع الحيوانات من النفور إلى الأُلفة، ومن الصعوبة إلى الانقياد، ومن الاعوجاج إلى الاعتدال، فما بالك بالإنسان وهو أسلس قيادة وأعظم مرونة؟



روى مسلمٌ عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله - وهو في الصلاة - قال: فرماني القوم بأبصارهم - جعل المصلون ينظرون إليه بطرف عيونهم - فقلت: وا ثكلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ - وهو في الصلاة - قال: فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكنت - يعني: عجبتُ لماذا يصمتونني؟! هل هناك مشكلة في الصلاة؟ - فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهى صلاته - فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا قبله، ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني؛ لكنه قال: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّا؛سِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)).




وجاء في كتاب (العقد الفريد) قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أنصحك بعظةٍ فيها الغلظة فاحتملها - احتمل النصيحة؛ لأنني سأشدد عليك - فقال له الرشيد: كلا، لا تنصحني، إن الله أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ مني، فقال لنبيه موسى عليه السلام إذ أرسله إلى فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].




فهل عرفت لماذا نجحت النصيحة الأولى، ولم تنجح الثانية؟ لماذا آتت النصيحة الأولى أُكلها، ولم تؤتِ النصيحة الثانية أُكلها؟





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 05-12-2021, 06:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

الخلاف وآدابه
الشيخ د. عبد الله بن محمد الجرفالي




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:
فهذه مذكرة مختصرة تتحدث عن موضوع في غاية الأهمية وهو (الخلاف وآدابه).
وقد جمعتها على عجل في قرابة سبع ساعات؛ ليتم تدارسها في دورة علمية أُقيمت في مكة المكرمة من 21/ 10/ 1439 - 22/ 10/ 1439هـ، ما بين صلاتي العصر والعشاء.

أسأل الله أن يبارك فيها وينفع بها.

أولًا: تعريف الخلاف، وفيمَ يكون؟
الخلاف والاختلاف والمخالفة في اللغة بمعنًى واحد.

قال في المصباح المنير: "خالفته مخالفة وخلافًا، وتخالف القوم واختلفوا: إذا ذهب كل واحدٍ إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهو ضد الاتفاق".

ولا يختلف المعنى الشرعي للخلاف عن المعنى اللغوي، إلا أنه مقصور على الاختلاف في المسائل الشرعية، فالعلاقة بين المعنيين هي علاقة عموم وخصوص مطلق، ذلك أن علماء الشريعة يطلقون الخلاف على المسائل الشرعية التي لم يجمع عليها، فالخلاف ضد الإجماع[1].

ونعني بالخلاف هنا ما هو أشمل من الخلاف في المسائل الفقهية الاجتهادية، فيدخل في ذلك المخالفة في المسائل الاعتقادية؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105].

فمن أمثلة الخلاف في العقيدة:
أ- ما يكون من المخالفة بين المسلمين والكافرين:
فالكفار باختلاف مِللهم ونِحلهم واعتقاداتهم، يختلفون مع المسلمين في أصل الأصول، إما في وجود الله سبحانه، أو باعتقاد وجوده، لكنهم يشركون معه غيره.

ب- ما يكون من خلاف أهل الأهواء والبدع لأهل السنة؛ كخلاف الخوارج، والمعتزلة، والرافضة، فهذان الخلافان ينظر لهما من جهتين:
من جهة خلاف المسلمين للكافرين، فهو خلاف سائغ مقبول، في أعلى درجات القبول، بل هو من الخلاف الواجب على المسلمين، وكذلك خلاف أهل السنة لأهل البدع فهو كذلك.

من جهة خلاف الكافرين للمسلمين، فهو خلاف غير سائغ مردود، في أقوى درجات الرد، بل يجب على الكافرين أن يوحِّدوا الله ويعبدوه، وأن يكونوا مع المسلمين، وكذلك الواجب على أهل الأهواء والبدع ترك ما هم عليه واتباع أهل السنة، وخلافهم لأهل السنة مردود غير مقبول ولا عذر لهم فيه.

ثانيًا: أنواع الخلاف وأمثلة عليه:
ينقسم الخلاف إلى قسمين رئيسين:
الأول: الخلاف السائغ (المحمود).
وهو الاختلاف في المسائل الظنية، وهذا كثير جدًّا، يظهر ذلك جليًّا لمن تتبع خلاف الفقهاء في مسائل الفقه من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الإقرار، ومن أمثلته: الاختلاف في أقسام المياه، ونجاسة الكلب، ومدة المسح على الخفين، وأمد الحيض، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وصلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي، وما يجب تغطيته من المرأة، ووقوع طلاق الثلاث واحدة... إلخ.

فمثل هذه المسائل يسوغ فيها الخلاف إذا لم يكن عن تعصُّب وهوى، وإنما عن اجتهاد وتحرٍّ، لِما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم على اختلافهم في الاجتهاد في صلاة العصر في غزوة بني قريظة، والحديث في الصحيحين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك، كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها، واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت؛ تمسكًا بظاهر لفظ العموم، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك.

وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي، وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلمربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ"[2].

الثاني: الخلاف غير السائغ (المذموم):
وهو عكس الخلاف المحمود، وذكر بعض أهل العلم أنه يكون في حالات أربع رئيسة.
الحالة الأولى: الاختلاف في مسائل العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة، وهذا اختلاف مذموم؛ لأن العقيدة ثابتة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليها الصحابة، فلا يصح أن يكون فيها اختلاف بين المسلمين.

الحالة الثانية: الاختلاف في الأدلة القطعية:
والمقصود بها المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة؛ مثل: وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الخمر...إلخ.

فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ؛ لأنه لو قبل الخلاف فيها لما بقِي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد.

الحالة الثالثة: الاختلاف الناشئ عن تعصبٍ أو هوى لا عن حجةٍ وبرهان:
فقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في آياته بغير حجة ولا برهان، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر: 56].

الحالة الرابعة: مخالفة ما أجمعت عليه الأمة[3]:
ففي هذه الحالات الأربع يكون الاختلاف مذمومًا، وهو ما يطلق عليه الشارع الافتراق، كما في حديث الافتراق المشهور الذي رواه عوف بن مالك رضي الله عنه وغيره من الصحابة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون فرقة في النار، والذي نفسي بيده لتفترقنَّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: مَن هم يا رسول الله، قال: الجماعة"[4]، وفي رواية قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية قال: "هم السواد الأعظم".

ثالثًا: أسباب الخلاف:
أسباب الخلاف كثيرة جدًّا، منها ما يكون للهوى، ومنها ما يكون لأجل حظوظ النفس، ومنها ما يكون لأجل قلة العلم وعدم الاطلاع، ومن تلك الأسباب:
1 ــ اتباع الهوى:
فصاحب الهوى يصعب إقناعه، واتباع الهوى على صنفين:
الأول: الكفرة المردة الجحدة الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89].
وقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].

والصنف الثاني: المبتدعة المنحرفة عن طريق السلف، وفَهمهم في تطبيق السنة, فهؤلاء ابتدعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله، ولم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلاف مع هؤلاء خلاف صعب للغاية؛ لأنهم يرون أنهم على حق، وخلافهم مبني على الهوى.

2- أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف:
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم.

ومن أمثلة ما وقع بين الصحابة من هذا النوع:
الأول: ما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباءً وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين.

وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًامنه"، فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.

مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدُّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر، لم تنقض العدة عندهما، وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل، بقيت في عدتها حتى تضع الحمل؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4]، ويقول: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234].

وبين الآيتين عموم وخصوص، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس رضي الله عنهما، ولكن السُّنَّة فوق ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال، فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق، وهي عموم قوله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

واليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.

3- أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله:

ومن أمثلة ذلك ما ثبت في قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عندما طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير، وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى؛ وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 6].

لكن عمر رضي الله عنه خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟!

وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل.

4- أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه:
من أمثلة ذلك ما ثبت في الصحيحين من قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر رضي الله عنهما، حينما أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر.

أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر رضي الله عنه فلم يصل، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا"، وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه.

وكان عمار رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وقبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا"، ولكن عمر لم يذكر ذلك، وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّمن طاعتك ألا أُحدِّث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت؛ يعني فحدِّث به الناس.

فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة، كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وحصل بينه وبين أبي موسى رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ - يعني آية المائدة - فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثًا أصغر يتيمَّم.

والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولًا يكون به معذورًا، لكن مَن علِم الدليل فليس بمعذور.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 05-12-2021, 06:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد


5- أن يكون بلَغه وفهم منه خلاف المراد:
ويُضرَب لذلك مثالان، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43].

حيث اختلف العلماء رحمهم الله في معنى: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ، ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون أن المراد به اللمس المثير للشهوة، وفهم آخرون أن المراد به الجِماع.

ومن تأمَّل الآية يجد أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع؛ لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء: طهارة الحدث الأصغر والأكبر، ففي الأصغر قوله: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6]، وأما الأكبر فقوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر، وقوله: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.

ومن السُّنَّة: ما ثبت في الصحيحين عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل، فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرُج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال: "لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة".

وقد اختلف الصحابة في فَهم هذا الحديث، فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج؛ حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها، ومنهم مَن فهم أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا إلى بني قريظة، فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها، وإن كان الأقرب للصواب هم الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه، وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم.

6- أن يكون قد بلغه الدليل لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ:
ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234].

وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].

ومن السنة: نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة، ونسخ التطبيق بين اليدين، ووضعهما بين الركبتين إلى وضعهما على الركبتين، وثبت في الصحيحين أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.

7- أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع:
يمكن أن يمثل لذلك برأي ابن عباس رضي الله عنهما في رِبا الفضل؛ حيث ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"، وثبت في صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت وغيره: أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة، وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة، أما ابن عباس فبقي على رأيه بأن الربا يكون في النسيئة فقط، كما لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد، فعند ابن عباس لا بأس بذلك؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط، وإذا بعت دينارًا من الذهب بدينارين من الذهب يدًا بيد، فعنده ليس ربا، لكن إذا أخَّرت القبض ولم يعطك البدل، فقد وقع الربا، والصحيح أن الربا قسمان، فلا بد من المثلية والتقابض في المجلس إذا بادلت الشيء بجنسه، بشرط أن يكون مما يجري فيه الربا.

8- أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالًا ضعيفًا[5]:
وهذا أمثلته كثيرة جدًّا؛ كاختلاف العلماء في الدعاء عند الفراغ من قضاء الحاجة: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، وكاختلافهم في جلد الميتة إذا دبغ، ومدة المسح على الخفين، وفي صلاة التسبيح، والرمي قبل الزوال...إلخ.

رابعًا: آداب الخلاف:
هناك عدة آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف؛ منها:
1- الإخلاص لله والتجرد من الأهواء:
فأحيانًا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل علمية، أو قضايا فكرية، وباطنها حب الذات، واتباع للهوى.

2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف:
فالتعصب يعمي البصر، ويطمس البصيرة.

3- الإنصاف والعدل: قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8].

4- الرجوع إلى الحق عند تبيُّن ذلك وثبوته:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: "ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك، فهُديت فيه إلى رشدك - أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل".

وفي الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

وعند أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58].

5- إحسان الظن بالآخرين.
6- الحوار بالتي هي أحسن، واختيار أرق التعبيرات وألطفها.
7- التركيز على الأصول قبل الفروع ونقاط الالتقاء والخلاف.

خامسًا: أمثلة على اختلاف السلف الصالح:
من ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب رأى طلحة ملقًى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلًا في الأودية، وتحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري"[6].

وقد اختلفت عائشة رضي الله عنها مع ابن عباس رضي الله عنه في رؤية النبي لربه، وفي الرضاع فرأى ابن عباس أن الرضاع بعد السنتين لا يحرم، بينما رأت عائشة خلافه، ومع ذلك لم يمنعهما هذا الاختلاف من التواصل والتراحم، فقد روى البخاري عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: "يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر"[7].


وقد تمثل السلف هذا الخُلق من بعدهم، فقد أخرج القاضي عياض قال الليث بن سعد: لقيت مالكًا في المدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك، قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري، ثم لقيت أبا حنيفة وقلت له: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك، فقال أبو حنيفة: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام يعني مالكًا[8].

وعن الشَّافعي رضي الله عنه: "إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يديك، وإذا جاء الأَثر فمالك النَّجْم، وعنه: مالك بن أنس معلمي وعنه أخذنا العلم"[9].



سادسًا: واجب العلماء والعامة عند ظهور الاختلاف:
الواجب على العلماء عند وجود الخلاف: أن يردوا العوام إلى الكتاب والسنة، وأن يتمسكوا بالدليل متى ما صحَّ، وكان في موضع النزاع، فرد الناس إلى الأدلة الشرعية نجاة المفتي والمستفتي، ودليل على الرسوخ في العلم، ولا يجوز الخروج عن دلالة النص الواضحة إلا بدليل، كنص يخصص عامًّا، أو يقيد مطلقًا، أو ينسخ آخر، وأما مراعاة المصالح والمفاسد، فمرد ذلك إلى الراسخين في العلم.

والواجب على عوام الناس: ألا يأخذوا دينَهم إلا عمن يُوثَق به ممَّن يدعو إلى الله على بصيرة، وليسمعوا لهم ويُطيعوا، إن أرادوا لأنفسهم الخيرَ والسعادة، وليعلموا أن العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، يهتدي بهم الحيران في الظَّلماء، وأن الحاجة إليهم أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأن طاعة أمرهم واجب؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].


سابعًا: كيفية التعامل مع المخالف:
أولًا: المخالف خلافًا سائغًا.
1- لا يجوز الحط من قدره؛ لأنه مجتهد ينشد الحق فهو على خير.
2- لا تجعل المسائل المختلف فيها اختلافًا سائغًا سببًا للنزاع والفرقة، والولاء والبراء[10].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الاختلاف في الأحكام، فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"[11].

ثانيًا: المخالف خلافًا غير سائغ، فهو على حالتين:
الأولى: أن يكون من أهل العلم المشهود لهم بالخير، واتباعه للسنة، يناصح، ولا تنشر زلته، ولا يقلد فيها، ويحذر منها نصحًا للأمة، ولا يعتد بقوله ذلك في الخلاف بين العلماء[12].

الثانية: أن يكون من أهل الأهواء والبدع، أو المتجاسرين على الفتيا، فيناصح، ويُبين أمره للناس، ويهجر، ويحذر منه، ويعزر من قبل الحاكم بما يراه مناسبًا[13].

ثامنًا: من أهم الكتب التي صنفت في فن الخلاف:
1- التعليقة لأبي زيد الدبوسي الحنفي.
2- عيون الأدلة لأبي القصار المالكي.
3- المنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي المالكي.
4- المآخذ للغزالي الشافعي.
5- رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي.
6- الخلاف بين العلماء لابن عثيمين.

وهناك كتب معاصرة في غاية الأهمية، ككتابي العصيمي والشبيلي المشار إليهما أعلاه.

[1] القاموس المحيط ص 1045، والمصباح المنير ص69، وأصول الفقه الإسلامي لوهبه الزحيلي ص 492، ومفردات ألفاظ القرآن ص294.

[2] مجموع الفتاوى 19/ 122.

[3] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 156 ــ 168، وفقه الخلاف وأثره، للشبيلي ص 4 ــ 12.

[4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أكثر من خمسة عشر صحابيًّا بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، ولذا عدَّه بعضهم من الأحاديث المتواترة.

[5] ينظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية ص 11 ــ 52، والخلاف بين العلماء لابن عثيمين ص 9 ــ 27.

[6] سير أعلام النبلاء (1/ 36)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 258).

[7] أخرجه البخاري برقم 3560.

[8] الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لابن عبدالبر (ص16).

[9] عمدة القاري (1/ 149)، وترتيب المدارك (3/ 179).

[10] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 107 ــ 108.

[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية (124/ 173 ــ 174).

[12] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 214 ــ 2120.

[13] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 177.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 12-12-2021, 10:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

الأمن الفكري.. واجب الخطباء


يوسف سليمان الهاجري



تتنوع معاني الأمن التي يحتاجها المجتمع، فهناك الأمن النفسي والاستقرار الأسري، وهناك ما يسمى بالأمن الغذائي وأمن الصحة الوقائي، وكذلك الأمن البيئي والزراعي؛ مما يوفر حياة سليمة من الأمراض المعدية، وعلى صعيد آخر هناك الأمن العقدي، والدعوي، والفكري، والعقلي، والعلمي، والاقتصادي، وكذلك الأمن العسكري، والسياسي. فالحاجة إلى الأمن بكافة صوره وأشكاله من أهم الحاجات الفطرية التي لا يمكن أن يكون سلوك الإنسان سويا بدونها، وكما أنه لا حياة للبدن إلاّ بإشباع حاجاته الفطرية، كذلك لا حياة ولا سرور ولا قرار ولا استقرار للقلب والنفس والروح إلا بهذا الأمن.



نعمة الأمن

بيد أن هذا الأمن نعمة وعد الله تعالى بها عباده الذين يعبدونه ويوحدونه ويذبون عن دينه ويحمون حماه؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، كما أن رسول الله [ حرص على بيان هذا المعنى فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله [: «من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».



قواعد الإيمان

ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب لإرساء قواعد الإيمان الصحيح الذي يقوم على سلامة الاعتقاد والقول والعمل، ولا يكون ذلك إلا بسلامة القلب الذي هو بيت الفكر والإرادات والمشاعر وسلطان الجوارح، ولن يكون القول سليماً مرضياً ولا العمل صحيحاً مقبولاً إلاّ إذا كان القلب سالماً لله عز وجل، سليماً من الآفات والعلل ورديء الهمم والعزائم؛ قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم} ورسول الله [ يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».



الأمن الفكري

إن الأمن الفكري حالة تُشعر الفرد والمجتمع بالطمأنينة على ثقافته ومعتقداته وأعرافه ومكونات أصالته ومنظومته الفكرية المستمدة من الكتاب والسنة من أن يصيبها التشويه أو التشويش أو الاختراق أو الضبابية أو التعتيم، وإن الأمن الفكري هو السبيل الوحيد لبلوغ الأمة عزها ومجدها وإحرازها خيريتها واستخلافها وتمكينها أيما تمكين؛ فوحدة الفكر على عقيدة الإسلام تثمر وحدة الشعور بالمسؤولية والواجب، وتحيي الضمائر وتدفع إلى المعالي؛ فيتحقق للأمة سعادتها وفلاحها وعزها وكرامتها، وإذا كان الشباب هم عماد النهضة وأمل المستقبل فبالأمن الفكري نحميهم ونصونهم من الشبهات وضبابيات الأفكار المنحرفة.



دور الخطيب

وواجب تعزيز الأمن الفكري بالمجتمع على الجميع من علماء ودعاة وخطباء ومعلمين ومربين ومصلحين وأولياء الأمور...إلا أنني أخصص بحديثي هنا الخطيب ودوره في جانب تعزيز هذا الأمن الفكري؛ حيث يحظى الخطيب بمكانة كبيرة بين أوساط المجتمع المسلم، ويرتبط المسلمون معه كل أسبوع باستمرار ويستمعون إليه بإنصات بالغ؛ ولذلك كان لابد له من بذل جهد مضاعف في تحقيق هذا الهدف في المجتمع ولاسيما الشباب؛ فينبغي على الخطيب أن يختار بعناية فائقة موضوع خطبته وعناصرها مع كيفية توصيل هذا الموضوع إلى الناس في هذا الوقت الوجيز، ولا يغفل طريقة المعالجة بشكل صحيح؛ لكيلا يقع الناس في الفهم غير الصحيح أو الناقص.



القيم الدينية

كما ينبغي على الخطيب أن يحرص حرصا شديدا على غرس القيم الدينية والعقدية والفكرية والأخلاقية في نفوس الناس؛ لكي تكون لديهم مناعة ذاتية ضد أي انحراف أو لوثة تقابلهم أو تصادفهم، ولاسيما في هذا الزمن الذي انفتحت فيه وسائل الإعلام على الناس من كل صوب، ومن المهم مراعاة جميع الانحرافات من إفراط أو تفريط وغلو أو تساهل، ثم معرفة القيم التي تعالج هذه الانحرافات.

ويجب أن يراعي الخطيب الظروف التي تمر بالمجتمع وتحتاج منه إلى وقفة تجاهها كالتفجيرات والأعمال التخريبية والمفسدة أو قضايا المخدرات والقتل وغيرها، فيعالجها مباشرة ولا يتأخر، ويبين للناس المنهج الصحيح في مثل هذه القضايا، مع ذكر الأدلة الصحيحة الشرعية، والخطيب الموفق هو الذي يأسر قلوب الناس بنصحه الصادق وكلماته الواضحة وأدلته القاطعة وبيانه الساطع وعلمه الواسع.


أسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ ولاة أمرنا ووطننا من كل سوء ومكروه، والله يرعاكم.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 29-12-2021, 10:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك


محمد بن صالح العثيمين



♦ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا))؛ رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا فصلا، يفهمه كل من يسمعه))؛ رواه أبو داود.

قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف - النووي رحمه الله تعالى-: (باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك)؛ والمعنى أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بيِّن لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئًا في شيءٍ ويكون حقه الإظهار، بل يكون كلامه فصلا بينا واضحًا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفةفبعض الناس تجده في الكلام ويأكل الكلام حتى إن الإنسان يحتاج إلى أن يقول له: ماذا تقول؟ فهذا خلاف السنة، فالسنة أن يكون الكلام بينًا واضحًا، يفهمه المخاطب وليس من الواجب أن يكون خطابك باللغة الفصحى.

فعليك أن تخاطب الناس بلسانهم وليكن بينًا واضحًا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه فقوله: (حتى تفهم عنه) يدل على أنها إذا فهمت بدون تكرار فإنه لا يكررها، وهذا هو الواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نسمع عنه أحاديث كثيرة يقولها في خطبة وفي المجتمعات ولا يكرر ذلك، لكن إذا لم يفهم الإنسان بأن كان لا يعرف المعنى جيدًا فكرر عليه حتى يفهم أو كان سمعه ثقيلا لا يسمع أو كان هناك ضجة حوله لا يسمع فهنا يستحب أن تكرر حتى يفهم عنك.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا؛ معناه أنه كان لا يكرر أكثر من ثلاث، يسلم مرة فإذا لم يجب سلم الثانية فإذا لم يجب سلم الثالثة فإذا لم يجب تركه. وكذلك في الاستئذان كان صلى الله عليه وسلم يستأذن ثلاثًا؛ يعني إذا جاء للإنسان يستأذن في الدخول على بيته يدق عليه الباب ثلاث مرات فإذا لم يجب انصرف، فهذه سنته عليه الصلاة والسلام أن يكرر الأمور ثلاثًا ثم ينتهي.

وهل مثل ذلك إذا دق جرس الهاتف ثلاث مرات؟ يحتمل أن يكون من هذا الباب، وأنك إذا اتصلت بإنسان ودق الجرس ثلاث مرات وأنت تسمعه وهو لم يجبك، فأنت في حل إذا وضعت سماعة الهاتف ويحتمل أن يقال: إن الهاتف له حكم آخر وأنك تبقى حتى تيأس من أهل البيت لأنهم ربما لا يكونون حول الهاتف عند اتصالك، فربما يكونون في طرف المكان ويحتاجون إلى خطوات كثيرة حتى يصلوا إلى الهاتف؛ فلذلك قلنا باحتمال الأمرين.

ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه فصلًا؛ يعني مفصلًا، لا يدخل الحروف بعضها على بعض ولا الكلمات بعضها على بعض، حتى لو شاء العاد أن يحصيهلأحصاه من شدة تأنيه صلى الله عليه وسلم في الكلام، وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يكون كلامه متداخلًا؛ بحيث يخفي على السامع لأن المقصود من الكلام هو إفهام المخاطب، وكلما كان أقرب إلى الإفهام كان أولى وأحسن ثم إنه ينبغي للإنسان إذا استعمل هذه الطريقة يعني إذا جعل كلامه فصلا بينًا واضحًا وكرره ثلاث مرات لمن لم يفهم، ينبغي أن يستشعر في هذا أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل له بذلك الأجر وإفهام أخيه المسلم، وهكذا جميع السنن اجعل على بالك أنك متبع فيها لرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لك الاتباع.


المصدر: «شرح رياض الصالحين» (4/64-67)










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 22-01-2022, 01:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

مواصفات المقدمة الجيدة وأساليب الدخول إلى الموضوع

الشيخ عبدالله محمد الطوالة




الحمدُ للهِ كثيرًا كثيرًا، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا..
أمَّا بعدُ: فطالما تأملتُ الفرقَ بين افتِتاحِيَّةِ الكلامِ عندَ خطباءِ المسلمينَ وعند غيرِهِم، فإذا هيَ عندَ المسلمينَ حمدٌ وشكرٌ وثناءٌ على الله بما هو أهلهُ، مع توشِيحِيها بشيءٍ من آيات الذِّكرِ الحكيمِ، وأقوالِ سيِّدِ المرسلينِ عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ.. فهي إذن بدايةٌ ثابتةُ (الغرضِ)، متجددةٌ المعاني واللفظِ.. بينما هي عندَ غيرِ المسلمينَ بدايةٌ مُبهمةٌ وغيرُ محددةٍ، لا يدري المتكلمُ من أين يبدأُ، ولا بأيِّ شيءٍ يستفتِحُ.. ولذا فبدايةُ الكلامِ عندهم هي أصعبُ مراحِلهِ، حتى قال أحدُ خُطبائِهم المشهورين: «قبل دقيقتينِ من بِدء خطابي أُفضلُ لو أنَّني أُجلدُ على أن أبدأ، وبعد دقيقتينِ من البدءِ أُفضلُ أن أُقتلَ على أن أتوقف».. يقولُ ذلك لأنهُ يحمِلُ همًَّا خاصًا لافتتاحيَّةِ الكلامِ.. بينما الخطيبُ المسلمُ قد كُفيَ هذا الهمَّ تمامًا، بل وتحولت المقدِّمةُ عندهُ إلى نُقطةِ تميزٍ وقوةٍ، ومصدرِ اطمئنانٍ وثقةٍ، تجعلُهُ ينطلقُ بلا تردُدٍ ولا وجلٍ، خصوصًا إذا أَحسنَ إِعدادها، وبذلَ عنايةً خاصَّةً في تجهيزها..

يقول ديفيد بيبولز: «أنت مجهولٌ لمدة دقيقتين، ثمَّ سيُفَسرُ كلَّ ما ستقولهُ لاحقًا بناءً على الانطباع الذي تمَّ تكوينهُ عنك في هذه البداية»..

إذن فالمقدِّمةُ الجيدةُ لها أثرٌ فعَّالٌ في جذب الانتباهِ لما بعدَها، وفي إثبات براعةِ المتكلمِ، وكسبِه لثقةِ السامعينَ منذُ البدايةِ، وجعلِهم يتفاعلونَ معهُ بشكلٍ أفضلَ.. بل هي مناطُ الحُكمِ على المتكلمِ، حيثُ أنَّ السامعَ في أول الخطبةِ مُتهيئٌ للنقدِ، مُتحفزٌ للحُكم على ما يسمع، حتى إذا ما بهرهُ الخطيبُ ببراعةِ استهلالهِ، وقوةِ بيانهِ، وكانت مُقدمتهُ مُحكَمةَ مؤثرة.. فإنَّ السامعَ حينها سيُرخِي لهُ عِنانهُ، وينجذبُ لسحرِ بيانه، ويتشوقُ لبقية الموضوع.. وبذلك يتمكَّنُ الخطيبُ من الاستمرارِ بكلِّ ثقةٍ وثباتٍ.. ولذلك فالخطيبُ اللبيبُ هو من يعرفُ للافتتاحيةِ أهميتَها الكبيرة، فيُعِدُّ لها إعدادً جيدًَا، ويبذلَ لها جُهدًا مضاعفًا.. وهذا ما لا يفعلهُ الكثيرون، بل إن البعضَ (وفقهم الله) غالبًا ما يَسْتفتحونِ خُطبَهُم بألفاظٍ مكْررَةً، يداومون عليها في كلِّ مرةٍ، حتى أصبحت مُقدِماتُهم عاديةً مألوفة، لا تُثِيرُ فُضُولًا، ولا تجذِبُ انتباهًا، بل رُبما سَببتِ مللًَا وسرحانًا..

والمقدمةُ المتكامِلةُ عادةً ما تبدأُ بالحمد والثناءِ على الله تعالى، ثمَّ شهادةُ التوحيدِ وشيءٌ من تعظيم الربِّ جلَّ وعلا، ثم الصلاةُ على رسولهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه، والترضي عن صحابتهِ الكرامِ، ثمَّ الوصيةُ بتقوى الله جلَّ وعلا، وشيءٌ من الحِكم والمواعظِ والتوجيهاتِ والرقائق، تُختتمُ بآيةٍ مُناسبةٍ..

ثم المدخلُ إلى الموضوع، وهو الجزءُ الأخيرُ من المقدمة، وغرضهُ الأساس التشويقُ واثارةُ الفضولِ وجذبُ الانتباهِ للموضوع..

وله أساليبَ متنوعةٍ، من أشهرها ما يلي:

1) أسلوبُ اللغز:
وهو أن يبدأ الخطيب حديثهُ عن أمرٍ مُبهمٍ غامِضٍ كاللغزِ، يثيرُ الفضولَ وحبَّ الاستطلاع، ويجذبُ الانتباه..

مثاله: عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ.. الخ الحديث..

مثال آخر: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إن عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ.. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ..


2) أسلوبُ العنوانِ الغامِض:
وهو قريبٌ من الأسلوبِ الأولِ، وهو أن يقدمَ الخطيبُ لموضوعة بعنوانٍ غامضٍ مبهمٍ، يحارُ السامعُ في تفسيرهِ، ويتطلعُ لمعرفته، ثم يبدأُ هو في توضيح الحقيقةِ شيئًا فشيئًا..

مثالهُ: وبعد: فحديثنا اليوم عن القاتل رقم واحد.. إنه القاتلُ الأكثرُ ضحايًا على مستوى العالم ِكُلهِ، بل على مستوى التاريخِ اجمع.. لستُ أعني الحروبَ، فالحروبُ وإن فتكت بملايين البشرِ فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الأمراضَ، فالأمراضُ على كثرةِ ضحاياها، فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الحوادثَ، فحوادثُ السياراتِ والطائراتِ وجميعِ وسائلِ المواصلاتِ، ليست هي القاتل رقم واحد.. ولستُ أعني الجوعَ والفقرَ، ولستُ أعني الحرائقَ وحوادثَ البيوتِ، ولستُ أعنى الزلازلَ والبراكينَ، وجميعَ الكوارثِ الطبيعيةِ، فكلُ ذلك ليس هو القاتل رقم واحد..

أتدرونَ من هو القاتل رقم واحد على مستوى العالم كُلهِ: إنَّهُ التدخينُ يا عباد الله..


3) أسلوبُ الأوصافِ العامةِ:
وهو قريبٌ من الاسلوبين السابقينِ أيضًا، وهو أن يبدأَ الخطيبُ كلامهُ بتقديم أوصافٍ عامةً عما سيتحدثُ عنه، لدرجةٍ يحارُ معها السامِعُ في تحديدِ الموضوعِ بدقةٍ، حتى يكونَ الخطيبُ هو الذي يُفصِحُ عن ذلك، وفي هذا من جذبِ الانتباهِ، وشدّ المتابعينَ ما فيه..

مثالهُ: حديثنا اليوم عن خُلقٍ عظيمٍ من أخلاقِ الإسلامِ الراقيةِ؛ وصِفةٍ عظيمةٍ جامِعةٍ لمكارِم الأخلاقِ، ضابطةٍ لحسنِ السّلوكِ..

خلُقٌ جميلٌ، فيه سَلامةُ العِرضِ، وراحةُ الجسَدِ، واجتلابُ المحامدِ..

صفةٌ كريمةٌ، تدلُ على أصالةِ النفسِ، وطيبِ المعدنِ، وحُسنِ التربيةِ..

صِفةٌ طالما تحدَّثَ الناسُ عنها، ومدحوها واستحسنوها، ولكنّها السلوكُ الغائبُ، والخلُقُ المفقودُ لدى الكثيرين..

خُلقٌ يحبه الله ورسوله، ويقولُ عنه المصطفى ﷺ: "مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه"..

أظنكم عرفتموه.. إنه الرّفقُ يا عباد الله..


4) أسلوبُ طرحِ الأسئلةِ:
من الافتتاحياتِ المميزةِ والجذابةِ، أن يبدأَ الخطيبُ حديثهُ بطرح سؤالٍ أو أكثر لاستدراجِ الجمهورِ إلى التفكيرِ في كنهِ موضوعهِ، وشدِّ انتباهِهم لمتابعتِه للإجابةِ على تلك الأسئلةِ، حتى وإن كانت إجاباتُ تلك الأسئلةِ معروفةً عند الكثيرين..

والسنةُ النبويةُ مليئةٌ بالأمثلةِ على هذه الافتتاحياتِ الجذابةِ..

أتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ..

أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإنّ أكثرَ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ الأجوفانِ: الفرجُ والفمُ، أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ الناسَ الجنّةَ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ، قال: فإن أكثرَ ما يُدخلُ الناسَ الجنةَ تَقْوى اللهِ وحُسْنُ الخلقِ.

أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ.



5) أسلوبً القصةِ المثيرةِ:
الكلُّ يُحبُ سماعَ القصصِ ويتابعُ أحداثها بتلهُفٍ وشغفٍ، ولذا فلو بدأ الخطيبُ حديثهُ بقصةٍ مُشوقةٍ، تكونُ كالمدخلِ لما يُريدُ الحديثَ عنهُ، فسيضمنُ انجذابَ المتابعينَ لهُ وتفاعُلِهم معهُ.. اليكم المثال التالي:
معاشر الإخوة الكرام: في غرفةٍ رثةٍ مُتهالِكة، ليس لها سقفٌ، وإن كان لها ما يشبهُ الباب، عاشت أرملةٌ فقيرةٌ مع طفلِها الصغير.. وفي ليلةٍ شتويةٍ مُلبدةٍ بالغيوم، هطلَت أمطارٌ غزيرةٌ، لا عهدَ لهم بمثلِها.. نظرَ الطفلُ إلى أُمهِ نظرةً حائِرةً، فقد تبللت ثيابُهُ وأخذَ ينتفِضُ كالعصفور العاجزِ.. أسرعت الأمُ إلى بابِ الغرفةِ فخلعتهُ، ثم وضعتهُ بشكلٍ مائلٍ على أحدِ الجدرانِ، واسرعت تختبئُ تحتهُ هي وطفلِها الصغيرِ.. وعندما ذهبت روعةُ الموقفِ، نظرَ الطفلُ إلى أمهُ وعلى محياهُ ضِحكةٌ صافيةٌ، وقال يا أمـاه: الحمدُ للهِ أنَّ عندنا باب.. تُرى ماذا سيفعلُ الفقراءُ الذين ليس عندهم باب، إذا نزل عليهم مثل هذا المطرِ الغزير..

أيها الأحبة الكرامُ: حدثنا اليومَ عن الرضا....


6) أسلوبُ ضربِ الأمثالِ:
ضربُ الأمثالِ ايضًا يثيرُ الأذهانَ، ويزيدُ من تفاعلِ المستمعين.. انظر إلى هذا المثالِ النبويِ الكريمِ: إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً..

وكذلك قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم، يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درَنهِ شيءٌ. قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيءٌ. قال: فكذلك مثلُ الصلواتِ الخمسِ، يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا"..


7) أسلوبُ (الإجمالِ قبل التفصيل):
من المقدمات الناجحة أن يقدمَ المتحدثُ لمستمعيهِ عرضًا مُجملًا لعناصر الموضوع، فيه من الغموض ما فيه، ثم يشرعُ في التفاصيل، فتكون المقدمة تهيئةً وتحفيزًا لأذهان المستمعين، وإثارةً لفضولهم.. مثالهُ من القرآن الكريم: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾..
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾..




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 29-01-2022, 06:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي تحضير الخطبة بطريقة سهلة وسريعة وفعالة..

تحضير الخطبة بطريقة سهلة وسريعة وفعالة..
الشيخ عبدالله محمد الطوالة




الحمدُ للهِ كثيرًا كثيرًا، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا، أما بعد:
فلا شكَّ أنَّ الخطابةَ هي أهمُّ وأسرعُ وأقوى وسائلِ الدعوة، وأكثرها تأثيرًا في المدعوين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]، ولقد اهتمَّ الإسلامُ بالجمعة وخُطبتِها غايةَ الاهتمام، فهيئَ لها مكانًا خاصًا، ورتَّبَ عليها من الثواب والعقاب، ما لم يُرتبهُ على غيرها من العبادات، فرغَّبَ كثيرًا في النظافةِ والتجمُّلِ والتطيُّبِ من أجلها، والتبكيرِ في الوقتِ عند الخروجِ لها، والدُّنوِ من الإمام، والإنصاتِ التَّام، وعدمِ مسِّ الحصى فضلًا عن الكلام.. وفي القرآن الكريمِ أمرٌ مؤكدٌ بالسعي إليها، وتركِ كلَّ ما يُشغِلُ عنها، ووعدٌ بالخير الوفيرِ لمن يحرِصُ عليها، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9]، وفي الحديث الصحيح: "كان له بكل خطوةٍ (يعني للجمعة) عملُ سنةٍ أجرُ صيامِها وقيامِها".


والخطيبُ هو اللسانُ المعبرُ عن الدين والمجتمع، ولا يكادُ يُدانيهِ في ذلك أحد.. وخطبةُ الجمعةِ تُلامِسُ كُلَّ جوانبِ الحياةِ ومناشِطها، وتجولُ في أعماق الإنسانِ ووجدانهِ وعقلهِ، فتشكِّلُ قناعاتهِ، وتضبِطُ مشاعرهُ، وتهذِّبُ أخلاقهُ، وتصِلُهُ بالخالق العظيمِ.. كما أنَّها سلاحٌ فعَّالٌ في ردِّ كيدِ الأعداء، وتفنيدِ شُبهِ المظلين، قال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18].


ألا أنَّ هناك ضعفًا ملحوظًا في الاداء الخطابي لدى كثيرٍ من الدعاةِ والوعاظِ والخطباءِ وفقهم الله.. بل إنَّ البعضَ فاقدٌ للكثير من المهاراتِ الأساسيةِ لفنونِ الإلقاءِ والتَّحضير..


وقد قدمتُ ما تيسرَ حولَ فنياتِ الإلقاءِ في مقال: (الصفاتِ الفنيةِ للإلقاء) وهو منشورٌ في جزئين.. وفي هذا المقالِ نفصِّلُ القولَ حولَ الإعداد والتَّحضير بإذن اللهِ.. ومنهُ تعالى نستمدُ العونَ والتَّسديد..


وقبلَ أن ندخلَ في التفاصيل لا بدَّ أن نُدركَ جيدًا: أهميةَ الإعدادِ والتَّحضير..

فعندما يستشعرُ الخطيبُ أنَّ أُناسًا فرَّغوا أنفسهُم من أجله، وجاؤهُ مُتطهرينَ مُتطيبين، مُنصتينَ مُتأدبين، فلا أقلَّ من أن يحترمَ حضورهم، ويُقدِّرَ سعيهم، وأن لا يُسمعهم من الكلام إلا الفائقَ الرَّصِين، والجيدَ المتين..


وما لم يكن الخطيبُ شديدَ القناعةِ بأهمية ما يفعل، قويٌّ الشُعورٌ بالمسؤولية، موطِنًا نفسهُ على الصبر وتحمُلِ الأذى، يملكُ رغبةً صادقةً في خِدمة دينهِ، وتبليغِ دعوته، حريصًا على هدايةِ الناسِ ونفعِهم، فيتفاعلَ بقوةٍ مع موضوعه، ويُلمَّ بكُلِّ جُزئياتهِ وفُروعهِ، ويُعطيهِ ما يلزم من جُهدٍ ووقتٍ وتركيز، حتى يفرغَ من إعداده وطباعتهِ، وإلَّا فلا يمكنُ لهُ أن ينجحَ بالشكل المأمول..

وأولُ خُطواتِ التَّحضِيرِ الجيَّد هي: حُسنُ اختيارِ الموضوع:
فحُسنُ اختيارِ الخطيبِ لموضوعه، مظنَّةٌ من فقههِ، وعلامةٌ على خِبرتهِ وعلوِ كعبِه، ودليلٌ على عُمقِ معرفتهِ بما يُناسبُ المدعوين.. ولأنَّ بعضَ المواضيعِ أهمُّ من بعضها، بل إنَّ بعضَ المواضيعِ لا يصلحُ طرحهُ على المنبرِ أصلًا.. لذا فإنَّ اختيارَ الموضوعِ هو روحُ الخطبةِ وسِرُّ نجاحِها.. وبناءً عليهِ يزيدُ أو يقِلُ أثرها، ومدى الاستفادةِ منها، فعلى الخطيبِ أن يستعينَ بالله تبارك وتعالى، ويسأَلهُ التوفيقَ والسَّداد لحُسنِ اختيارِ الموضوعِ أولًا..


ثمَّ عليه أن يُراعي الأمورَ التالية:-
1- وحدةُ الموضوع: أي أن تكونَ جميعُ العناصرِ والأفكارِ تدورُ حولَ غرضٍ واحدٍ..
2- أن يخدمَ الموضوعُ هدفًا مُهمًَّا من أهداف الدِّين، وأن يكونَ عامَّ النفعِ لجميع السامعين..
3- أن يكونَ الموضوعُ مُشوقًا جذابًا.. يرتبطُ بحياة النَاس، ويحقِّقُ تطلُعاتهم، ويُعالجُ القضايا التي تهمُهم وتُلامِسُ احتياجاتهم.. وهذا يتطلبُ من الخطيب أن يكونَ مُلمًّا بأحوال المخاطبين، خبيرًا بواقِعهم، دارِسًا لبيئتهم..
4- أن يكونَ الموضوعُ مُناسبًا لمستوى عُقولِ المخاطبين وثقافتِهم.. ففي صحيح مسلمٍ عن ابن مسعود t أنه قال: "ما أنتَ بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلُغهُ عُقولُهم إلا كان لبعضِهم فتنة"..
5- أن يكونَ الموضوعُ محلَّ اتفاقٍ بين أهلِ العلم، فيتجنَّبُ مسائلَ النزاعِ ومواضيعَ الخلافِ، فإنَّ منبرَ الجمعةِ يجمعُ ولا يُفرق، ويُسكِّنُ ولا يُنفِر..
6- أن يتوافقَ الموضوعُ مع أهدافِ الخطيب، فذلك أدعى لتفاعلِه مع الموضوعِ بشكلٍ أكبر..
7- أن يتمَّ اختيارُ الموضوعِ قبلَ فترةٍ كافيةٍ من إلقاءه، (ليتسنى تحضيرهُ بشكلٍ جيد)..
8- أن تكونَ المعلوماتُ اللازمةُ للموضوع مُتوفرةً، ويمكنُ الحصولُ عليها..
9- بعضُ المواضيعِ الطارئةِ تفرضُ نفسها، كحدثٍ خطيرٍ، أو خطبٍ عاجِل، وحينها فلا ينبغي تأخيرُ البيانِ عن وقته..
10- أنَّ يتجنبَ التِّكرارَ الممِل، فيُجدِّدَ المواضِيعَ، ويُنوِّعَ في الطَّرح، وحتى إن اضطُرَ لتكرار موضوعٍ ما، فينبغي أن يُعالجهُ بطريقةٍ جديدة..


الخطوةُ الثانية: جمع المعلومات..
فبعدَ أن يستقرَ الخطيبُ على موضوعٍ معين، فإنَّ عليه أن يقومَ بجمع أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المعلومات عن الموضوع..


وتعتبرُ محركاتُ البحثِ على الإنترنت هي أسهلُ وأفضلُ وأسرعُ وسيلةٍ لذلك.. إذ أنها تُوصِلُ الباحثَ لكلِّ ما يحتاجهُ من معلوماتٍ بشكلٍ دقيقٍ، وبكمياتٍ هائلةٍ، وفي غضونِ ثوانٍ معدودة، وبدونِ مقابل، كما أنها (في الغالب) توفرُ عليه عناء النَّسخِ والكتابة..


وحيثُ أنَّ هناك الكثيرَ والكثير من المواقع المتخصصةِ التي تحتوي على مئات الآلافِ من الكتب، وعشراتِ الآلافِ من الدروس العلميةِ والخطب، والتي سيجدُ الباحثُ فيها بُغيتهُ وزيادة.. فإنَّ على الخطباء وطلبةِ العلمِ أن يعرفوا قيمةَ هذه النِّعمةِ العظيمةِ، والوسيلةِ السَّهلةِ المتاحةِ للجميع، وأن يُحسنوا استثمارَ وتوظيفَ هذه الكنوزِ العلميةِ الهائلة، وأن يتعلموا (بإتقان) كيفيةَ الوصولِ إلى المعلومات المنشودةِ بكلِّ دقةٍ، وذلك من خلال اتقانِ مهارةِ بناءِ السؤالِ المناسبِ..


فكلَّما كان بناءُ السؤالِ مُتقنًا، فإنَّ نتائجَ البحثِ ستكونُ أكثرَ دِقةً وملائمةً..


إذا عُلم هذا، فإن هناك العديدَ من محركات البحثِ المتنوعة، لكن أفضلها وأقواها هو: google


أخي الخطيب: لنفترض أنك تُعِدُ خطبةً عن الزكاة مثلًا..


فاكتب التالي في محرك البحث: خطبة عن الزكاة، وستخرج لك النتائج على شكل قائمةٍ طويلةٍ بالـ(روابط) وأسماءِ المواقعِ التي تطابقُ بحثك..


اختر الاسمَ الأوفقَ لموضوعِك، ثم قُم بالنقر عليهِ وفتحهِ، وأقرأ محتوياتهِ قراءةً سريعةً، فإن أعجبك شيءٌ من الفقرات فقم بتحديده وقصِّةِ، ثم قم بلصقة في وثيقة وورد (WORD) خاصةٍ، سمِّها مثلًا: سجل خطبة الزكاة.. وأجمع في هذه الوثيقةِ كُلَّ ما يُعجبُك من النَّصوص التي مررتَ عليها في بحثِك وقراءاتِك عن الزكاة.. ولا تنسَ أن تضعَ مع كُلِّ نصٍ تنقُله، شيئًا يُميزهُ، كاسم صاحبِ الموضوع، أو اسم الموقع، أو عنوانًا مناسبًا يدل عليه، (فربما تحتاجُ لأن تعودَ لمصدر المعلومة).. ولا تنسَ كذلك أن تفصِلَ بين كلِّ نصٍ وآخرَ بترك سطرينِ فارغين..


وإذا كان لديك موقعٌ مُعينٌ تُفضلُ أن تُكثِّفَ البحثَ فيه.. كموقع الألوكةِ، أو المنبِر، أو ملتقى الخطباءِ، أو صيدُ الفوائدِ... إلخ، فاكتب اسمَ الموقعِ بعد اسمِ الموضوع.


هكذا مثلًا: خطبة عن الزكاة الألوكة.


وللبحث بشكلٍ أدق، أكتب اسمَ الموضوعِ أو كلماتِ البحثِ بين قوسي اقتباس:


هكذا: خطبة عن " الزكاة "..


وإذا كان لديك أكثرُ من كلمة بحثٍ مفتاحيةٍ فضع بينها علامة +
هكذا مثلًا: خطبة عن "فضل الزكاة" + "حكم الزكاة" + "شروط الزكاة".


كما يمكنك تحديدُ أسئلةِ بحثٍ أدق، باستخدام ما يناسبُ موضوعك من القائمة التالية:
ما تعريف الزكاة
ما أهداف...
ما أهمية...
ما حُكم...
ما خصائص...
آيات وأحاديث عن...
قصة عن...
أخبار عن...
إحصائيات عن...
فتاوى عن...


وإذا كنت تُريدُ التَّأكدَ من صحة المعلومةِ، أو البحثِ في المواقع العلميةِ الموثوقة، ومراكزِ الابحاثِ المعتمدة، أو في الرسائل الأكاديميةِ والمقالاتِ الموثَّقةِ، فاستخدم (موقع الباحث العلمي) scholar.google.com أو أمثالهِ من محركات البحثِ المتخصصة..


استمرَ في عملية البحثِ والقراءةِ والقصِّ واللصقِ حتى يتكونَ لديك في (سجل خطبة الزكاة) ما لا يقلُ عن عشرين صفحةً A4 متنوعةً الأفكارِ والعناصرِ والمعلوماتِ كُلها عن الزكاة، (لكنها بالطبع غير مُرتبة)..


وفيما يتعلقُ بالمقدمات والخواتيم، فاقترحُ عليك أن تُنشئَ لها وثيقةً خاصةً سمِّها مثلًا: مقدمات وخواتيم خطبة الزكاة.. وانقل فيها ما يروق لك من المقدمات والخواتيم: (صفحتين أو ثلاث من المقدمات المختلفة، ومثلها أو أقل للخواتيم)..


وفيما يتعلقُ بالحِكم والأمثالِ والأشعارِ، وأقوالِ العلماءِ والخبراءِ، والأقوالِ الجميلةِ التي تمرُّ عليها وتُعجبك، ولها علاقةٌ بالموضوع، فإني اقترحُ عليك أن تضعها في وثيقةٍ خاصةٍ سمِّها مثلًا: أقوال وحكم خطبة الزكاة.. (سأخبرك لاحقًا متى تستخدِمها)..


وللحصول على المزيد من الحِكمِ والأقوالِ الجميلةِ، عُد لمحرك البحثِ وأكتب مثلًا: حِكم عن الزكاة، أو أقوال جميلة عن الزكاة، أو أشعار عن الزكاة، أو أمثال عن الزكاة، ونحو ذلك من أسئلة البحث..


الخطوةُ الثالثةُ: الاختيار والتصفية:
فبعد أن تشعرَ بالرضا عمَّ جمعتهُ من معلوماتٍ (للملفات الثلاثة)، عُد إلى وثيقتك الأولى: (سجل خطبة الزكاة)، واقرأهُ من البدايةِ قراءةً مُتأنية، بغرضِ اختيارِ أفضلِ وأنسبِ ما فيه من مقاطعَ وفقرات (الخلاصة)، وانقلِها إلى وثيقةٍ أخرى جديدةٍ سمِّها مثلًا: وثيقة خطبة الزكاة على ألا يزيدَ عددُ صفحاتِ هذه الوثيقةِ الجديدةِ عن عشرِ صفحاتٍ (A4 مقاس الخط 20)..
وبعد ذلك قم بإغلاق الوثيقة الأولى: (سجل خطبة الزكاة) فقد انتهى دورها..


الخطوةُ الرابعةُ: الخلاصة المبدئية:
وذلك بدمجِ واختصارِ وتصفيةِ نصوصِ وفقرات: (وثيقة خطبة الزكاة)، مع تنسيقِ وتعديلِ وإعادةِ صياغةِ ما يحتاجُ إلى أيٍّ من ذلك، للخروج بخلاصةٍ مبدئيةٍ للموضوع، وبحيثُ لا يزيدُ الطولُ النهائي للوثيقةِ عن خمسِ صفحات A4، وبحيث يكونُ كل عُنصرٍ من العناصر في مقطعٍ وحدَه، (يُفضلُ أن لا يزيدَ طولُ العنصر كاملًا عن صفحة)..


الخطوةُ الخامسةُ: ترتيبُ العناصرِ:
قم بترتيب العناصر المتبقية في (وثيقة خطبة الزكاة) ترتيبًا منطقيًّا مناسبًا، فهذا سيساعد السامع على فهم ومتابعة الموضوع بسهولة، (يمكنك أن تكتفي بوضع رقمٍ يدلُ على ترتيب العُنصرِ، ولا حاجةَ لنقله من مكانه)..


الخطوةُ السادسةُ: بناءُ المقدمةٍ والخاتمة، فالمقدمةُ القويةُ مهمَّةٌ جدًا.. حيثُ أنَّ السامِعَ في أولِ الأمرِ مُتحفزٌ للنقد ومتهيئٌ للحُكم على ما يسمع، فإذا ما بهَرهُ الخطيبُ ببراعة استهلالهِ، وروعةِ بيانه، وكانت مُقدِمَتهُ قويةً مُحكَمةَ.. فإنَّ السامعَ سيتشوقُ لمتابعة بقيةِ الموضوع، ممَّا يمكنُ الخطيبَ من الاستمرار بكلِّ ثقةٍ وثبات..


وعادةً ما تشتملُ المقدمةُ على الأركان الشرعيةِ الأربعةِ للخطبة وهي: حمدُ اللهِ والثناءِ عليه، وشهادةُ التوحيد، والصلاةُ على النبي ﷺ، والوصيةُ بتقوى اللهِ جلَّ وعلا مع آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن الأفضل أن يلي ذلك مدخلٌ تشويقيٌ للموضوع، (انظر مقال: مواصفات المقدمة الجيدة وأساليب الدخول للموضوع)..


وامَّا (الخاتمة) وهي آخرُ ما يُسمعُ من كلام الخطيب، فميزتها أنَّ لها الأثرُ الباقي، وأنَّها تُعطي الخطيبَ فرصةً أخرى لتعزيز ما طرحهُ من أفكارٍ رئيسيةٍ طوالَ الخطبةِ، ولذلك يُنصحُ أن تكونَ الخاتمةُ بألفاظٍ جديدةٍ بليغةٍ، تُلخِصُ العناصرَ بإيجازٍ، مع إعادةٍ مُركزةٍ وقويةٍ للتوجيهات والتوصِيات، مع الحثُ والتَّحفيزُ على تبني هذه التوجيهاتِ والعملِ بها..


وأمَّا الجزءُ الأخيرُ من الخاتمة، فيشتمِلُ على ما يُوحي بقرب النهايةِ، من وصايا مُكرَّرةٍ، وأدعيةٍ جامِعةٍ، وثناءٍ على الله بما هو اهلُهُ، وصلاةٍ على المصطفى ﷺ.. إلخ.


ولبناء المقدمة والخاتمة، فعليك أن تصنعَ بوثيقة: (مقدمات وخواتيم خطبة الزكاة) التي جمعتها، ما فعلته بـ(وثيقة خطبة الزكاة) من دمجٍ وتنسيقٍ وتعديلٍ وإعادةِ صياغةِ، بحيثُ تحصلُ في النهاية على مقدمتينِ وخاتمتينِ مُناسبتينِ للموضوع، المقدمةُ الأولى للخطبة الأولى (ليكن طولها نصفَ صحفةٍ تقريبًا)، والأخرى كمقدمةٍ للخطبة الثانية، (لتكن ربعَ صفحةٍ تقريبًا)، والخاتمةُ الأولى للخطبة الأولى (لتكن ربعَ صفحةٍ تقريبًا)، والخاتمةُ الثانيةُ مع الدعاء (لتكن نصفَ صفحةٍ تقريبًا).


الخطوةُ السابعةُ: افتح وثيقةً ثالثةً سمِّها بالاسم النَّهائي للخطبة مثلًا: (خطبة الزكاة)، وقُمْ بنقل المقدمةِ الأولى، ثم أنقل ثلثي النَّصوصُ والفقرات (حسبَ الترتيب الذي حدَّدته ورقمته)، ثمَّ الخاتمةُ الأولى، ثمَّ المقدمةُ الثانية، ثمَّ بقيةُ الفقرات، ثم الخاتمةُ الثانيةُ مع الدعاءِ..


ما ستحصلُ عليه هي خطبةٌ ابتدائية.. لا تزالُ بحاجةٍ إلى الكثير من التعديلات.. مثلًا قد تحتاجُ إلى تفسير بعضِ الآياتِ، وقد تحتاجُ إلى معرفة درجةِ صحةِ بعضِ الأحاديثِ أو شرحِ معناها..


وهنا عليك الرجوعُ إلى محرك البحثِ، وكتابةُ كلمةِ: (تفسير) ثمَّ الآيةُ التي ترغبُ في الحصولِ على تفسيرها.. أو كلمة (تخريج) ثم الحديثُ الذي ترغبُ في معرفة درجةِ صحتهِ.. أو كلمة: (شرح) ثمَّ نصُّ الحديثِ المرادِ معرفةُ شرحهِ..


هكذا مثلًا: تفسير ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا

أو هكذا مثلًا: تخريج (الزكاة قنطرة الإسلام)، أو هكذا مثلًا: شرح حديث (ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين).


الخطوةُ الثامنةُ: الاستفادةُ من الحكم والأمثال والتي جمعتها، عُد لوثيقة: (أقوال وحِكم الزكاة).. واختر (قص) منها ما يروقك، وما يصلُحُ للاستشهاد وترى أنه سيُثري الموضوع، ويزيدهُ قوةً وتميزًا.. ثم ضعهُ (لصق) في الأماكن المناسبةِ من وثيقة الخطبةِ النهائية..


الخطوةُ التاسعةُ: المراجعةُ الشاملة.. حيثُ ينبغي لك أن تُعيدَ قراءةَ الموضوعِ كاملًا ما لا يقلُ عن خمسِ مراتٍ، وذلك لتصحيح الأخطاء، وتحسينُ صياغةِ الفقرات الركيكة، ونقلِ ما يحسُنُ نقلُهُ إلى مكانٍ أنسب، واختصارِ ما يمكنُ اختصارهُ ليكونَ الطولُ الكلي للخطبتين مناسبًا، والتأكدُ من أن الانتقالِ بين الفقرات والعناصرِ يتمُّ بشكلٍ سلسٍ ومُتناغِم.. وكذلك لوضع الفواصِلِ وعلاماتِ الترقيمِ المناسبة، وتشكِيلِ ما يحتاجُ إلى تشكيل.. الخ


الخطوةُ العاشرة: التنسيقُ للطباعة..
إذا لم تكن متعودًا على طريقةٍ مُعينةٍ في تنسيق طباعةِ الخطبة، فإني اقترحُ عليك التالي:
من الأنسب أن يكونَ ورقُ الخطبةِ صغيرًا قدر الإمكان (نصف ورقة A4 بالعرض).. ويمكنُ فعلُ ذلك من خلال الطباعةِ بالعرض (عمودين) ثم قطعِ كُلِّ ورقةٍ لنصفين.. وذلك على النحو التالي:
اختر نوعًا من الخطوط ترتاحُ لقراءتهِ.. واختر مقاسًا للخط يُسهِّلُ عليك القراءةَ بوضوحٍ.. مثلًا: خط (ترادشينال) مقاس 22..
تحكَّم في حجم الهوامشِ واجعلهُ صغيرًا (توفيرًا للورق).. اذهب إلى (تخطيط الصفحة) ثم إلى (هوامش مخصصة) واجعل جميعَ الهوامشِ الأربعةِ بمقاس: 2 سم
للتأكد أنَّ حجم الورقةِ هو A4.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم (الحجم) ثم A4..
لجعل اتجاه الورقة بالعرض.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثمَّ اختر (الاتجاه) ثمَّ اختر الخيار الثاني
لجعل عمودين في الصفحة الواحدة.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم اختر (الأعمدة) ثمَّ اختر الخيار الثاني (اثنان)..
لجعل المسافات بين الاسطر والفقرات متساوية.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم (تباعد) ثم اجعلها كلها قبل: وبعد: ( 0 نقطة)..
أخيرًا تأكد من شكل الوثيقة وكيف ستبدو قبل طباعتها، من خلال خيار: (معاينة قبل الطباعة).. ثم اطبع على بركة الله..
اخواني الكرام: أتمنى أن أكونَ قد قدمت لكم تجربةً نافعةً، وطريقةً سهلةً فعَّالةً لتحضير الخطبة أو غيرها من المواضيع والمقالات، وبالله التوفيق..
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾..



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 04-02-2022, 09:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

فن اختيار الوقت في الموعظة



يُشكِّل اختيارُ الوقت ومناسبته للحال عاملاً مهمًّا في نجاح الواعِظ في دروسه مِن نواحٍ عدَّة، منها:
1- اختيار الوقت المناسِب للوعْظ والإرشاد، فليس كلُّ وقت يصلح لوعْظ الناس وإرشادهم.
2- ومِن ناحية الموضوع ومناسبته للحال، فليس كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كلُّ ما يُقال يناسِب الحال.
3- ومِن ناحية استعداد المدعُوِّين نفسيًّا لسماع ما يُلقَى عليهم مِن دروسٍ ومواعظَ، لا بدَّ مِن مراعاة ذلك، مِن خلال التفرُّس في وجوه مَن يَحضُرون الدرس.

ولهذا سنبيِّن - أولاً - منهجَ الرسول الداعي الأوَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - في استغلاله لعامِل الوقْت في الدعْوة إلى الله في مناسبات عِدَّة، تتعلَّق بمعاش العِباد، وأمور حياتهم ومعادهم، وما كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتَّبعه مِن أساليبَ في إيصال الحقِّ إلى الناس، ثم نبيِّن ما على الداعي إلى الحقِّ من أساليبَ ناجحة، تُمكِّنه من أن يؤثِّر فيمن يدعوهم ويعلِّمهم، ومِن الله التوفيق والسداد.

منهج الرسول في اختياره للوقت في الدعوة:
ويكمن ذلك المنهج السديد في نِقاط عدَّة، منها:
1- عدم إطالة الموعِظة؛ خشيةَ الملل والسآمة:
وهو ممَّا كان يحرِص عليه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏- صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏كانَ ‏يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا"[1]، ولم يكن مِن هديه إعطاءُ دروسٍ في جميع الأيام؛ ذلك لأنَّ دعوته تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً بالقول، وأخْرى بالسلوك والقُدوة الحسنة.

2- استغلال الحَدَث والموقِف في التعليم والتربية:
فقد جاء في الحديثِ عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: "خرجْنا مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر، فجلَس رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجلسْنا حوله، كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكت به في الأرض، فرفَع رأسه فقال: «استعيذوا بالله مِن عذاب القبر..»[2]، والموعظة عندَ القبر كان يفعلُها - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحيانًا.

وجاء في حديث قدوم تجَّار البحرين، حيث رأى مِن حرْصهم، فاستغلَّ الموقف في توجيه نصيحةٍ تربوية انطوتْ على تحذيرٍ من فِتنة الدنيا، وتبشير للأمَّة بالرخاء المادي، فقال: «فأبشِروا وأمِّلوا ما يَسرُّكم، فواللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا، كما بُسطِت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أَهْلكتهم»[3].

3- إطالة الموعظة أحيانًا لطارئٍ أو حادثٍ مهم:
وممَّا يدلُّ على ذلك موعظتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أمور جِسام ستَقع في الأمَّة، حتى طالتْ موعظتُه فوقَ العادة، ففي صحيح مسلم عن عمرِو بن أخطبَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: "صلَّى بنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الفجرَ، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاة الظهر، ثم نزَل فصلَّى بنا الظهر، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاةِ العصر، ثم نزَل فصلَّى العصر، ثم صعِد المنبر فخطبَنا حتى المغرب، فما ترَك شيئًا مما يكون إلاَّ أخْبر به أصحابَه، حفِظَه مَن حفِظه، ونسِيَه مَن نسيه، يقول: فأعْلَمُنا أحفَظُنا"[4].

4- تحيُّن الموعظة عندَ إقبال السامِع وفراغِه ونشاطه، وتَرْكها عند انشغالهم، فهو أدْعَى إلى القَبول:
ومِن ذلك: أمرُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدعوين بالانصراف إلى أهلِهم؛ لما رأى من تشوُّقهم إليهم؛ فعن أبي سليمان مالكِ بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: "أتَيْنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن شبَبَةٌ متقاربون، فأقمْنا عندَه عشرين ليلة، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقْنا أهلنا؛ فسَألْنا عمَّن تركْنا من أهلنا، فأخبرْناه، فقال: «ارْجعوا إلى أهلكم، فأقيموا فيهم، وعلِّموهم وبرُّوهم، وَصَلُّوا كذا في حين كذا، وصلُّوا كذا في حين كذا؛ فإذا حضرتِ الصلاة فليؤذِّن فيكم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبرُكم»[5]

5- مناسبة المقال لمقتضَى الحال:
فقد كانت مواعِظُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - واختياره الأمثل لمقتضَى الحال، مما له أبلغُ الأثر في المدعوِّين في حالة الفَرَح أو الحزن وغيرها مِن الأحوال في عامَّة مواعظِه وإرْشاده - صلَّى الله عليه وسلَّم.

6- توجيه الأنظار للتدبُّر والتفكُّر:
كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستغلُّ عامِل الوقت والزمن؛ لأجْل صرْف العقول للتدبُّر في خلْق الله، وعجائب قدرته، مثْل وقت كسوف الشمس، وخسوف القمر وهبوب الرِّياح، فقد قال عندما وقَع الكسوف: «إنَّ الشمس والقمر آيتان مِن آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوِّف بها عباده»[6].

7- أوقات إقبال القلْب على ربِّه أدْعى لقَبول النُّصح والإرشاد، خاصَّة بعد صلاة الفجْر، وفي الحديث عن أبي نَجيح العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - موعظةً بليغة، وجلتْ منها القلوب، وذرفَتْ منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنَّها موعظة مودِّع، فأوصِنا، قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسَّمْع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة»[7]، وكان ذلك بعدَ صلاة الفجْر، وهو وقتٌ تكون فيه النفوس بعيدةً عن الشواغِل والملهيات.

8- الترغيب في العمل الصالِح في أوقات ومناسَبات معروفة؛ مثل: صيام يوم عاشوراء ورمضان، وشوَّال وذي الحجَّة، وصلاة الاستسقاء، وما يناسِب تلك الحال مِن موعظة وإرشاد.


9- الحثّ على التوبة في وقْت الاحتضار:
وهي لحظةُ انتقال الإنسان إلى عالَم جديد، يتقرَّر فيه مصيرُه؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَرِض، فأتاه يعوده، فقعَد عند رأسه، فقال له: «أسْلِم»، فنَظَر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «الحمد لله الذي أنْقذَه مِن النار»[8].

لقد حقَّقت دعوة الرسول الكريم انقلابًا عجيبًا في كيان الإنسان، بفضْل ما كان يمتلكه من وسائلَ فعَّالة ناجحة في الدعْوة إلى الله، فقد تحوَّل ذلك الإنسانُ مِن محبٍّ عاشِق للدنيا يموت ويحَيا مِن أجلها، لا يُفكِّر أبعد مِن شهوته وبطنه، إلى إنسانٍ يفكِّر ويجول نظره في الكون الفسيح، إلى ما وراء ذلك مِن الشوق إلى نعيمِ الآخِرة ولذَّتها، يحمل هَمَّ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وإخراج مَن حوْله مِن البشر مِن ظُلم العباد إلى عدْل الإسلام ومساواته، ومِن عبادة الحجَرِ والبشر إلى عبادة الديَّان الذي لا يموت.

وما في قصص الصحابة الأوائل مما عجَز التاريخُ عن تفسيره، إلا بفِعْل الإيمان والتربية الحقَّة التي تلقَّوْها من المربِّي الأول، والمعلِّم الكريم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ما ينبغي على الداعي مراعاته:
ينبغي على الداعي أن يُراعيَ عامِلَ الوقت؛ حتى يكونَ ناجحًا في مواعظه، وإلا ملَّتْه النفوسُ، وسَئِمت مِن سماعه، ومن ذلك:
أولاً: ليس كلُّ وقت يصلُح لوعْظ الناس وإرشادهم، فليس مِن الحِكمة - مثلاً - موعظةُ الناس بعْد صلاة الظهر، وهو وقتُ انشغال الناس بأعمالهم وأمور معاشِهم، أو وقت انصرافِ الناس إلى نومِهم وراحتهم في اللَّيْل، وهو مِن أخطاء بعض الوعَّاظ، يُريد أن يُلْقي مواعظَه دون إعطاء أهميَّة لحالِ مَن يدعوهم، وكأنَّه لا يخاطِب بشَرًا، لهم مشاعِرُ وأحاسيس.

ثانيًا: مناسبة الموعظة للحال، والبعض منهم يُلقي دروسًا في الصبر على البلاء، والفِتن الواقعة في الأمَّة، وتحمُّل المصائب والنكبات في يومِ فرَح الناس وأعراسهم، حتى يُحوِّل الفرح إلى عزاء ومصيبة، ومِن الحكمة استغلالُ تلك المناسبة في موعِظة عن الشُّكر، وبيان هَدْي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الأعراس والمناسبات.

ثالثًا: على الداعي أن يتفرَّسَ في وجوه الحاضرين، ومدَى استعدادهم لتلقِّي ما يُقال لهم، فالموعظةُ الغرضُ منها هو أن يستفيدَ الحاضرون، والبعضُ من الوعَّاظ يرى تملْمُلَ الناس من درْسه وترْكهم لمجلسه، ومع ذلك تراه يستمرُّ في درسه ووعْظه، ويطيل الكلام ويُكرِّر الموعظة، وكأنه يطلب إعادةَ الثقة به، وهذا له نتائجُ عكسية تمامًا، وقد كان مِن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يُحدِّث بالحديث لو عدَّه العادُّ لأحصاه؛ لذا فمِن الحكمة قطعُ الموعظة إن لم يكن فيها مرغِّب أو مشوق آخر.

رابعًا: عدم توفُّر الوقت الملائم لإلْقاء الموعظة، وليس مِن الضروري إلْقاء الموعظة وكأنَّها حِمْل على كاهله يريد التخلُّص منه، بل الموعظة دُررٌ وفوائدُ أثمنُ مِن المال، لا بدَّ من تحيُّنِ فرصة مناسبة؛ ليُنتفعَ منها، وتقعَ موقعها في النفوس، فتدعوهم للعمل الصالح، وترْك ما أَلِفوه من المنكرات، ويحصُل ذلك عندما يتهيَّأ الداعي إلى إلْقاء موعظته، فيحدُث أمرٌ مفاجئ؛ لذا عليه أن يدَّخِر الموعظة لوقتٍ مناسب آخر.

خامسًا: خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ: إنَّ إطالة المواعِظ لتتعدَّى أحيانًا ساعة وأكثر، هي مشكلةُ بعض الوعَّاظ، وليعلمْ هؤلاء أنَّ طاقة ذهْن الإنسان محدودةٌ لا يمكن في العادة أن تتابعَ الكلام بتركيز وانتباه لأكثرَ مِن رُبع ساعة، وبعدَها يُصاب الذِّهن بالشرود والتعب؛ ولهذا مِن الأفْضل على الواعظ أن يتَّخذ بعضَ التدابير، مثل: تدوين رؤوس الدرس والخطوط العامَّة منه في ورقة صغيرة؛ لئلاَّ يتحرَّج فيخلط في الكلام، أو يستطرد في أمْر لا علاقة له بصُلب الموضوع، كما يُشاهَد على بعض القنوات الفضائية مِن مواعظَ تتجاوز مدتها الزمنية السَّاعة والساعتين.

ومِن الأخطاء أيضًا في هذا الجانب أنَّ بعض الوعَّاظ يضع له مواعظَ مُقسَّمة على الأيام والشهور، وكأنَّها قوالِب لوضع المستمعين والمدعوين فيها، وهو خطأٌ منهجي في الدعوة، والمنهجُ السليم أن تكون الموعظةُ مما يتلاءَم مع حال المدعوين، فينظر الداعي أيَّ مرَض أو آفة اجتماعية تغلُب على قومِه أو مجتمعه، فيتحدَّث فيها، ويُحذِّر منها، وقد قيل في تعريف الحِكمة هي: فِعْل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.[9]

إلقاء الدرس قبْلَ وبعْد صلاة الجمعة:
سُئِل عن ذلك فضيلةُ العلاَّمة الألْباني، فأجاب - رحمه الله تعالى -: "الذي نعتقِده ونَدين الله به أنَّ هذه العادة التي سَرَت في بعض البلاد العربية، وهي: أن ينتصبَ أحدُ المدرِّسين أو الخُطباء ليلقيَ درسًا، أو كلمةً، أو موعظةً، قبل أذان الجمعة بنِصْف ساعة أو ساعة من الزَّمان، هذا لم يكن مِن عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم - هذا مِن جهة.

ومِن جهة أخرى، فمن المعلوم لدَى علماء المسلمين قاطبةً أنَّ هناك أحاديثَ صحيحةً تأمُر المسلمين بالتبكير للحضور إلى المسْجد الجامع يومَ الجمعة، كمثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَن راح في الساعة الأولى فكأنَّما قرَّب بَدنةً، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنَّما قَرَّب بقَرةً...، وهكذا حتى ذكَر الكبش والدجاجة والبيضة»، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حَضَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين على التبكير في الرواح يومَ الجمعة إلى المسجد الجامع ليس هو لسماعِ الدَّرْس وإلْقائه، وإنَّما هو للتفرُّغِ في هذا اليوم لعبادة الله - عزَّ وجلَّ - ولذِكْـره، وتلاوة كتابه، وبخاصَّة منه سورة الكـهف، والجلوس للصـلاة على النبـيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحقيقًا لقوله في الحديث الصحيح، والمروي في السُّنن وغيرها ألاَ وهو قوله - عليه السلام -: «أكْثِروا عليَّ مِن الصلاة يومَ الجمعة؛ فإنَّ صلاتَكم تبلُغني»، قالوا: كيف ذلك وقد أَرِمْت؟! قال: «إنَّ الله حَرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء.....».

أما بعْدَ الصلاة، فقد قال - رحمه الله تعالى -: "إنْ كان أحدٌ يريد أن يُدرِّس فبعْدَ الصلاة؛ حيث يتفرَّغ الناس لسماع مَن شاء منهم، ومَن شاء القضاء، أمَّا أن ينتصبَ المدرس قبلَ صلاة الجمعة فيَفْرِض نفسه على الناس فرضًا، وفيهم المصلِّي والتالي والذاكر، فهذا هو الإيذاءُ للمؤمنين، فلا يجوز"[10].

أمثلة على ما مَرَّ:
الأمثلة في هذا الباب كثيرة، وعلى الداعي أنْ يتعود تدبر سيرة المصطفى والأحوال والظروف التي مر بها[11]، وهديه في موعظة الناس وإرشادهم؛ ليكون على بصيرة من دعوته.

ثم الاستفادة من تجارب الآخرين؛ ليضيف إلى رصيده في الدعوة إلى الله، وهذه أمثلة عامة تناسب أحوال عامة:
1- في بداية شهر رمضان يناسب إلقاء موعظة عن أحكام الشهر الفضيل، وما يَجوز وما ينبغي تجنبه، وفي شهر ذي الحجة ما يتعلق بأحكام الحج وأركانه، والترغيب فيه، وفي ليلة العيد - الأضحى والفطر - ما ينبغي فعله للمسلم من سنن وأعمال صالحة من صِلَةِ رحم وغير ذلك، مع تقديم الدروس مقرونة بالترغيب والترهيب، وفي ليلة الجمعة ما ينبغي على المسلم عمله للحصول على أجر وثواب الجمعة.

2- يناسب في أيام الأفراح والأعراس التحدُّث عن الترغيب في الزواج، وبيان فضائله، وشكر نعمة الله على نعمة العِفَّة والإحصان، وفضل إدخال السُّرور على قلب المسلم، والصلح بين الإخوان.

3- في يوم العزاء وفَقْد الأحبة الحث على الصبر، وتحمُّل المصائب، وثواب الصابرين، وما يترتب عليه من أجر وأهمية الإيمان بالقدر والقضاء، وأن الموت يَجري على كل نفس، وبيان عظم الجزاء للصابرين، والحذر من الجزع والتسخط، وأنَّه لا يأتي بنتيجة، بل يستوجب غضب الله ومقته، وبيان أهمية مواساة المسلم في المصيبة.

4- في وقت حدوث نزاع أو قتال أهمية الصلح بين المسلمين، وأنَّه أفضل درجة من الصيام والقيام، وأن الساعي إليه من أفضل عباد الله، وأن المسلمين إخوة متحابون، وأن الساعي للفتنة من شر عباد الله، وخاصَّة الفتنة بين الزوجين والأحبة، والتفريق بينهما، وأنه من أقرب الناس للشيطان.

5- في وقت احتلال بلاد الإسلام، وانتهاك دياره وحرماته، وسلب خيراته - الحث على الجهاد - النفس والعدو - وأنَّه عز المسلمين وسبب لنصرهم، وأنَّ التخاذُل يوجب تسلط الأعداء، والواجب على كل مسلم إعانة المجاهدين، ولو بالكلمة، وأن من لم يحدث بالغزو مات ميتة جاهلية، ويتم ذلك وَفْقَ مشورة أهل العلم والرأي الصائب؛ كي تؤتي ثمارها.

6- في وقت انشغال الناس بالدنيا وملذاتها، وغفلتهم عن معاني الآخرة وأهوالها، والاستعداد لها - التذكير بأحوال الموتى، وما يلاقيه كل من المؤمن والكافر من نعيم أو عذاب في القبر، وربطه بمعاني التوحيد والعقيدة الإسلامية، وما بعد الموت من نعيم مقيم أو عذاب أليم، والحساب على الصغيرة والكبيرة وَفْقَ ميزانٍ دقيق لا يظلم فيه أحد من عباد الله، والاستشهاد الجيد بالآيات، والأحاديث، والتنوع ما بين حديث وآية وشعر، وقول مأثور، وحكمة جليلة.

7- في وقت وقوع الزلازل والكوارث، ووقوع القتل والفتن، وتكالب الأعداء - الحث على الاعتصام بحبل الله والتوبة، والخروج من المظالم، والتضرع إلى الله، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ما يقع هو بسبب ذنوب بني آدم وفسادهم، والواجب على كل مسلم التوبة والرُّجوع وعدم التسويف، بل المبادرة والإقلاع عن المعاصي.

8- في وقت الحاجة والفقر، وانتشار العوز في بلاد الإسلام - الحث على الإنفاق في سبيل الله، وأنَّ المال هو وديعة بيد المسلم، وأنَّ الواجب تقديمُ الدعم المادي لإخوة الإسلام في أيِّ مكان مهما اختلفت أشكالُهم وألوانهم، وكذا في وقت نشر الأفكار الهدَّامة ودعمها من قبل المؤسسات الغربية، وغيرها، الواجب تذكير الأمة بأهمية التصدي للباطل، إما بالكلمة أو بالمال؛ لئلا يستشري الباطل، وتضل الأمة عن الطريق القويم، وأنَّ من لم يقم بواجبه فلا يَلومَنَّ إلا نفسه.

9- في وقت خروج الفئات الباغية على شرع الله، ومنازعة أولي الأمر، وقيامهم بأعمال تضر بالمجتمع المسلم من قتل للأبرياء، وسَفْكٍ للدماء - الواجب التحذير منهم ومن أفعالهم، وبيان ما يعتقدونه من أفكار باطلة، وأنه الواجب طاعة أولي الأمر؛ لئلا ينفلت وتكون فوضى في بلاد الإسلام؛ مما يوجب العبث، وتسلُّط الكفرة على ديار المسلمين، ومثله التصدي لأفكار من ينتسب إلى الإسلام في الظاهر وهو يُخالفه في الاعتقاد كالرافضة، فالواجب بيان عقائدهم وضلالهم، وأنَّهم يستعملون التقيَّة في نشر الباطل، فالواجب الاعتصام بين المسلمين، والتصدي لترويج باطلهم وإفكهم.

10- في وقت يرى فيه الداعية أنَّ المسلمين قد هجروا كتاب ربهم، وتدبر آياته، والعمل به - لا بُدَّ من بيان فضل تلاوته، وأنَّه حبل الله المتين، ونجاة المسلم في الدنيا والآخرة، وأنَّه يشفع لقارئه، وأنَّ هجرانه يعني ظلام القلوب والبيوت، والبُعد عن رحمة الله، وبيان فضائله من الآيات والأحاديث، وهذا مِمَّا ينبغي التذكير به في كل مناسبة.

جامع ينبغي التذكير به دومًا:
ينبغي ربط كل موعظة وإرشاد بالأصل العظيم، وهو طاعة الله وطاعة رسوله، وأن نجاة المسلمين وسعادتهم في كل زمان ومكان تكمُن في تحقيق هذين الأمرين، وأي موعظة تخلو من التذكير بهذا الأصل القويم سيكون تأثيرها مؤقتًا، وتصل الموعظة إلى القلوب هامدة ميتة؛ ولهذا ينبغي التذكير بالهدف والغاية التي خلق من أجلها الخلق، ألاَ وهي عبادة الله وحدَه لا شريك له والعمل على مرضاته، وطاعة رسوله الكريم، والتطلع إلى ما عند الملك الكريم من الجزاء العاجل في الدنيا من الاطمئنان، والسعادة الحَقَّة وفي الأجل من الفوز بنعيم الجنة، وما أعَدَّ الله لأهلها من الكرامة والنعيم المقيم، وقد أخبر الله أنَّ أهلَ طاعة الله وطاعة الرسول هُم من أهل الرحمة؛ قال - تعالى -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وفي الدار الآخرة أخبر بما أعده للمؤمنين والمؤمنات من الخيرات، والنعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، فقال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72].

وصَلَّى الله على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ
[1] "صحيح البخاري"، (يتخول): يتعاهد، (السآمة): الملل والضجر.
[2] أخرجه أبو داود وغيره مطوَّلاً ومختصرًا من حديث البراء - رضي الله عنه.
وللأخ بلقسام عبدالدائم بحثٌ حول الموعظة عند القبر، وقد خلص إلى ما أشرْنا إليه، تجده على موقِع أهل الحديث.
[3] حديث صحيح أخرجه الشيخان. ‏
[4] رواه مسلم ح (2892).
[5] أخرجه البخاري (5661).
[6] متفق عليه.
[7] العرباض بن سارية في سنن الترمذي - رقم (2676)، وهو حسن صحيح.
[8] الحديث رواه البخاري في صحيحه، وفي رواية للبيهقي: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)).
[9] مدارج السالكين (2/479).
[10] من كتاب "الأنباء بأخطاء الخطباء" (ص: 60 - 78) بقلم سعود بن ملوح سلطان العنزي، قدَّم له الشيخ سُلَيم بن عيد الهلالي.
[11] كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"، لابن القيم، وكتاب "الرحيق المختوم" بحث في السيرة النبوية من أفضل الكتب التي تفيد الواعظ، وتجعله مهتديًا مقتديًا بسنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

__________________________________________________ ____
الكاتب: مرشد الحيالي










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 04-02-2022, 06:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

مواصفات التعبير الخطابي الجيد..
الشيخ عبدالله محمد الطوالة




يقصد بالتعبير الخطابي: طرق وأساليب الإنشاء والبيان التي يستخدمها الخطيب في بناء خطبته، فما مواصفات التعبير الخطابي الجيد؟
بداية، فالأسلوب الخطابي يعتمد في استمالة الجمهور على أمرين: الإقناع، والإثارة.

فـ(الإقناع): مخاطبة العقل من خلال الشواهد والأدلة، والبراهين العقلية والمنطقية.

و(الإثارة): هي تحريك العواطف والمشاعر وتحفيز الهمم، والنهوض بالعزائم، وذلك بالبيان القوي والأسلوب البليغ.

والخطابة هي مزيج من النوعين، يستهدف إقناع العقل وإثارة العاطفة، لينفذ منهما إلى الإرادة؛ فيدفع بها نحو تغيير السلوك إلى الأفضل والأكمل (أخذًا أو تركًا).

وفيما يتعلق بالمدخل الأول: الإقناع، فالمقصود به استخدام الأدلة والشواهد والبراهين الممكنة؛ لتغيير موقف السامعين تجاه أمر ما، وله طرق وأساليب متنوعة، كما أن هناك أنواعًا مختلفةً من الشواهد والأدلة والبراهين؛ ومنها: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار وأخبار السلف الصالح، والإجماع والقياس، والمقارنات، والعرف والعادات والذوق العام، والبراهين العقلية والمنطقية، والمصالح المرسلة، والقصص والحكم، والأمثال والأشعار، والإحصائيات، والأبحاث والدراسات، وأقوال المتخصصين والخبراء، وغيرها.

وأما أساليب الإقناع والمنطق، فكثيرة؛ ومنها:
الاستدلال المباشر (بالآية أو الحديث أو غيرهما)، وبيان الحكمة والعلة، والبرهان العقلي والمنطقي، والمقابلة والمقارنة، والقياس والتشبيه، والتفنيد وإزالة الشبهة، وغيرها من أساليب الإقناع.

وعلى الخطيب أن يدعم عناصره ويؤيدها بما يكفي من الأدلة والشواهد والبراهين، ولْيحرِصْ أن تكون هذه الأدلة والشواهد هي:
1 - الأنسب للموضوع وأهدافه.
2- الأقوى من حيث الدلالة والصحة.
3 - الأقرب والأسهل للفهم والاستيعاب من قِبل السامعين.
4 - التنويع قدر الإمكان.

وفيما يتعلق بأساليب الإثارة والبيان:
فهي الأساليب البلاغية التي تجعل الكلام سهلًا واضحًا، وفي نفس الوقت قويًّا مؤثرًا، يهز الوجدان، ويحرك المشاعر، وإن من البيان لَسحرًا.

والكلام البليغ: هو الكلام الذي بلغ الغاية والروعة في التعبير عن المراد، وجمع بين اللفظ الفصيح، والمعنى المليح.

إنه مزيج من المعاني التصويرية الجامعة، والألفاظ الجميلة الرائعة، يُركَّب في قالب بياني محبوك من الأساليب البديعية الماتعة، بعيدًا عن التكلف والأخطاء اللغوية الشائعة.

أما أهم مواصفات التعبير الخطابي الجيد، فكما يلي:
1- الوضوح: فيحرص الخطيب على أن يكون كلامه واضحًا سهلَ الفهم من أول مرة، فمستمع الخطبة ليس له إلا فرصة واحدة لسماع الكلام، ولا يمكنه طلب الإعادة ليفهم ما غمض عليه؛ ولذا فعلى الخطيب أن يختار الكلمات الواضحة، والتعابير السهلة المباشرة التي لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، وإلا كان سببًا في أن يفقد المستمع تركيزه وانتباهه؛ بسبب غموض بعض كلامه.

وليس المقصود أن يكون المعنى مبتذلًا سطحيًّا ركيكًا، بل المقصود ألَّا يكون المعنى صعبًا مبهمًا يَحارُ السامع في فهمه وتفسيره.

2- سهولة النطق: أي: كَون ألفاظ وتراكيب الخطبة سلسلة النطق، متناغمة الحروف، واضحة المخارج، مستعذبة في السمع، فبعض الكلمات قد يصعب نطقها، وذلك حين يتجاور حرفان لهما نفس المخرج، فقد تتداخل الحروف، وقد يتغير النطق الصحيح، مما قد يسبب حرجًا للخطيب أثناء الإلقاء، كما أن مثل هذه الكلمات والتعابير الصعبة يثقل وقعها على السامع، ولا تستسيغها أذنه، وتنفر منها نفسه؛ ولذا ينبغي على الخطيب أن يتجنبها.

3- قِصر الجمل والتراكيب: فالتعبير الخطابي يتميز بقصر الجمل والعبارات؛ حيث إنها أسهل في الفهم والاستيعاب من قِبل المستمعين، وهي كذلك أسهل على الخطيب في الإلقاء، كما أنها تعطيه الفرصة الكافية للتحكم في طريقة الإلقاء، وتطبيق ما يريد من مهارات التلوين الصوتي، وزيادة النبرة، دون أن يشعر بالإجهاد أو انقطاع النفس، بعكس الجمل الطويلة التي تستهلك نفسه وتجهده، ولا تمكنه من تلوين صوته بالشكل الفعَّال، كما أن الجمل القصيرة عادةً ما تكون أكثر بلاغةً، وأقوى تعبيرًا من الجمل الطويلة؛ ومن أقوال العرب المشهورة: البلاغة الإيجاز.

4- تناسب الألفاظ والتراكيب مع نوعية الموضوع: فاللغة العربية تمتاز بكثرة المترادفات، وهي الكلمات المختلفة حروفًا المتشابهة معنًى، فعلى الخطيب أن يحسن اختيار ألفاظه وتراكيبه اللغوية بما يتناسب مع نوعية موضوعه جزالةً وفخامةً، أو رقةً وعذوبةً، والمقصود أنه كما يعتني الخطيب باختيار المعنى والفكرة المناسبة، فكذلك عليه أن يعتني باللفظ والتركيب المناسب لنوعية الموضوع الذي يعالجه، فالمواضيع الحماسية كالمعارك والرد على الأعداء، وأهوال القيامة، ونحوها - ينتقي لها الألفاظ الفخمة الضخمة، القوية في معناها، الجزلة في مبناها، فلو كان الموضوع عن الجهاد مثلًا، فستكون الألفاظ على النحو الآتي: النقع، الوطيس، صلصلة، حمحمة، الكماة، القراع، الكر والفر؛ إلخ، وعند المواضيع الهادئة كالرحمة والمحبة، والجنة والتوبة، ونحوها يختار الألفاظ الشائقة الرائقة، ذات الإيقاع المشرق الرقيق، فلو كان الحديث عن الإيمان مثلًا، فستكون الكلمات على النحو الآتي: حلاوة، طلاوة، بُحْبُوحة، الأنس، نفحات، نسائم؛ إلخ، وهكذا، وعلى هذا يُقاس، فللفرح إيقاع، وللحزن إيقاع، وللترغيب إيقاع، وللترغيب إيقاع، والخلاصة أنَّ لاختيار الألفاظ المناسبة (حسب نوع السياق) دورًا مهمًّا في زيادة قوة المعنى، وروعة التأثير أثناء الإلقاء؛ فتأمل.

5- تنوع الأساليب البيانية والبلاغية: فالأساليب البيانية والبلاغية في اللغة العربية كثيرة ومتنوعة جدًّا، ومن سمات الخطبة الناجحة أن يتلون أسلوب بيانها، وأن تتنوع ضروب التعبير فيها، فمن آية إلى حديث، ومن أثر إلى خبر، ومن قصة إلى حوار، ومن نداء إلى تكرار، ومن قَسَم إلى استنكار، ومن أمر إلى نهي، ومن تعجب إلى استفهام، ومن تشبيه إلى كناية، ومن مجاز إلى استعارة، ومن جناس إلى طباق، ومن سجع إلى تورية، إلى غير ذلك من أساليب البلاغة والبيان، فعلى الخطيب أن يحسن توظيف هذه الأساليب ليجعل السامعين ينجذبون لسماعه، ويستمتعون بروعة بيانه.

يقول الشيخ عايض القرني: "الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، ويرسم في العقول صورًا من براعة التعبير، ويبني في النفوس صروحًا من روائع التصوير"، إلى أن يقول: "لأن الخطيب يُقبِل ومعه الآية الآمرة، والموعظة الزاجرة، والقصة النادرة، والحجة الباهرة، والقافية الساحرة، فتعيش معه في دنيا من الصور والألوان، وفي عالم من المشاهد والبيان، كأنك في إيوان أو بستان أو ديوان"؛ [انتهى].

وإذا أراد الخطيب أن يرتقي بأسلوب بيانه، ويقوي تعبير خطابه، فعليه أن يهتم كثيرًا بالأساليب البيانية والبلاغية، والمحسنات البديعية، وذلك بإدمان المطالعة في كتب البلاغة والأدب، ومتابعة كل ما يمتُّ لذلك بصلة أو نسب، ككتب السير والقصص والخطب، وعليه بكثرة المران والتدرب الجاد، كتابةً وتأليفًا، وقراءةً وتحديثًا.

نسأل الله أن يجعل كل أعمالنا صالحة، وأن يجعلها لوجهه الكريم خالصة، وألَّا يجعل لأحد غيره فيها شيئًا؛ ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 219.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 213.14 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.78%)]