الآثار السيئة للابتداع - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213449 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-01-2022, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي الآثار السيئة للابتداع

الآثار السيئة للابتداع (1)
د. محمود بن أحمد الدوسري



إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

رأس المفاسد كلها هو الابتداع في الدِّين؛ لأن حقيقة الابتداع في الدين خروج عن الدين نفسه، ومخالفة صريحة لأوامره ونواهيه وأخباره، واستهزاء به وبأحكامه وآدابه، فالمبتدعة – عمومًا – لا رادع لهم ولا وازع من خُلق أو دينٍ يمنعهم من أن يبتدعوا شيئًا ليس من الدين أو يدخلوا فيه ما ليس منه.



ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من الابتداع في الدين، والفُرقة فيه، وتُبيِّن سوء عاقبته في الدنيا؛ من التفرُّق والاختلاف، وفي الآخرة؛ من سواد الوجوه، قال الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 105-107].



والمقصود بالذين تفرَّقوا واختلفوا هم: (أهل الكتب المُنزَّلة على الأمم قبلنا، بعد ما أقام الله عليهم الحُجَج والبيِّناتِ تفرَّقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافًا كثيرًا)[1]. قال القرطبي رحمه الله: (يعني: اليهودَ والنصارى، في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأُمَّة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية؛ وتلا الآية)[2].



(ومن العجائب أنَّ اختلافهم ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ ﴾ المُوجِبة لعدم التَّفرُّق والاختلاف، فهم أَولى من غيرهم بالاعتصام بالدِّين، فعكسوا القضِيَّةَ مع علمهم بمخالفتهم أمرَ الله، فاستحقوا العقابَ البليغ، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾)[3].



ويُجمِل الشاطبي رحمه الله الآثار السَّيئة للابتداع قائلًا: (اعلموا أن البدعة لا يُقبل معها عبادة؛ من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القُربات، ومُجالِسُ صاحبِها تُنزع منه العِصمة، ويُوكَل إلى نفسه، والماشي إليه ومُوَقِّره مُعِين على هدم الإسلام، فما الظن بصاحبها! وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بُعدًا، وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسُّنن التي تُقابِلها، وعلى مُبتدعها إثم مَنْ عمل بها، وليس له من توبة، وتُلقى عليه الذِّلة والغضب من الله، ويُبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُخاف عليه أن يكون معدودًا في الكفار الخارجين عن الملة[4]، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويُسوَّد وجهه في الآخرة، ويُعذَّب بنار جهنم، وقد تبرَّأ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتبَّرأ منه المسلمون، ويُخاف عليه الفتنة في الدنيا؛ زيادةً إلى عذاب الآخرة)[5].



وقد يظن ظانٌّ: أنَّ الحديث عن البدع أمرٌ هيِّنٌ، وأنه في وقتنا المعاصر يوجد ما هو أَولى منه؛ كقضايا المسلمين المتأزِّمين في شتَّى بقاع الأرض.



ونردُّ عليهم: بأنَّ البدعة في الدين تمسُّ أصلَ الدين وجوهرَه، وقد أَمَرنا الله تعالى أنْ نُقيم الدين، فقال سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، وإقامةُ الدِّين لا تتمُّ إلاَّ بإزاحة ما علق به من البدع، وما أُدخل فيه ممَّا ليس منه، والإقامةُ تعني الاستقامةَ والعدل، وهذا لا يتحقَّق مع وجود البدع. فإذا أقمنا دينَ الله تعالى وحَفِظْناه وعَمِلنا به وطبَّقناه، فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الله تعالى يحفظنا ويحفظ ديننا ودنيانا؛ كما حَفِظْنَا دينَه، جزاءً وفاقًا.



كذلك فإن انتشار هذه البدع له من الآثار السيئة والتي تضرُّ بدين الله ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، ومن هذه الآثار السيئة للبدع ما يلي:

1- البدعة خروجٌ عن اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم:

البدعة تُنافي تحقيق شهادة "أنَّ محمدًا رسول الله"، والعبد يدخل الإسلام بشهادة "أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمدًا رسول الله" ولا يتم ذلك حقيقة إلاَّ بتحقيقها قولًا وعملًا واعتقادًا، فكيف يحقق العبد شهادة "أنَّ محمدًا رسول الله" وهو لم يتَّبع هديه وسنَّته، فكيف بمَنْ يبتدع في الدِّين ثم هو يدَّعي أنه يتَّبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله تعالى يقول لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].



كما أن البدعة تُخالِف الشهادةَ مٌخالفةً صريحة؛ إذ أنَّ مقتضى قولِنا: "لا إله إلاَّ الله" أي: لا معبود بحقٍّ إلاَّ الله، والعبودية تعني: الخضوع التَّام لله تعالى؛ لأوامره ونواهيه، وأنْ نعبده بما شاء، لا بما شئنا، فالمبتدع هنا يُخالف اللهَ تعالى؛ إذ يعبده بما شاء هو، لا بما شاء اللهُ سبحانه، وهذا خطأ فادح وأمر جلل من هذه الناحية، يُخشى معها أنْ يخرج صاحبها من الملة – بالضوابط الشرعية المعروفة في بابها - إذا أصرَّ على بدعته بعدما أبانها له أهل العلم.



2- تبرُّؤ النبي صلى الله عليه وسلم من المبتدعة:

من الآثار السيئة للبدعة وللابتداع أن النبي صلى الله عليه وسلم تبَّرأ ممَّن رغب عن سنَّته وهديه وطريقته؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)[6]. والمراد من سنته صلى الله عليه وسلم هنا: ما جاء به من الكتاب والسُّنة، أي أن من رغب عن الكتاب والسُّنة، أو عمَّا جاء في الكتاب والسُّنة، أو عن شيء مما جاء في الكتاب والسنة فإنه مذموم، وهذا أوسع معنى للسُّنة، فمن رغب عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه ودينه الذي جاء به فليس منه[7].



ولا شك أنَّ المبتدعة رغبوا عن سنته صلى الله عليه وسلم وتركوها وزهدوا فيها إلى أمور ابتدعوها وتوارثوها؛ وها هو الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما يتبرَّأ من القدرية ومن بدعتهم في القدر، وقال لِمَنْ سأله عنهم: (فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي)[8].



وهذا التَّبرؤ من النبي صلى الله عليه وسلم إنما مرجعه إلى أنَّ كلَّ ما جاء به من قرآن وسُنَّة هو عين الدِّين، فمَنْ أراد أنْ يُفرِّق بينهما فكأنه أراد هدم الدِّين بِشَقِّه نصفين، وفيه ردٌّ صريح على هؤلاء الذين يحاولون التَّفريق بينهما؛ إذ لو كانت دعواهم صحيحة لَمَا ترتَّب عليها هذا العقاب الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التبرؤ منهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرَّأ إلاَّ ممَّن خرج عن الدِّين، فليحذر هؤلاء من الخروج عن الدِّين من حيث يحسبون أنهم يدخلون فيه، فليس أمامهم إلاَّ سبيل المؤمنين، وذلك بمتابعة إمام الأنبياء والمرسلين والتوقف عن البدعة وتركها.



3- البدعة تتضمَّن الطَّعن في الإسلام:

البدعة تحمل في داخلها طعنًا في الإسلام من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: الطعن في أحكام الإسلام وتشريعاته؛ إذ يزعم المبتدع ـ بلسان حاله: أنَّ الدِّين لم يكتمل بعد، وقد أتى هو بما يُكمِّل الدِّين، فابتدع شيئًا جديدًا، واستدرك على الشريعة، ونصَّب نفسَه مُشرِّعًا مكمِّلًا للدين! والله سبحانه يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].



قال الإمام مالك رحمه الله: (مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعم أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ فما لم يكن يومئذٍ دينًا، فلا يكون اليوم دِينًا)[9].



وقال السعدي رحمه الله: (ولهذا كان الكتاب والسنة، كافِيين كلَّ الكفاية، في أحكام الدِّين، وأصوله وفروعه. فكلُّ متكلِّفٍ يزعم: أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم، إلى علومٍ، غيرِ علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعم أنَّ الدِّين لا يكمل، إلاَّ بما قاله، ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم، والتجهيل لله ولرسوله)[10].



الوجه الثاني: الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يزعم المُبتدع - بلسان حاله: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أنه قد جهل هذه العبادة المُبتَدعة، أو قد علم بها، لكنه كتمها عن أُمَّته، ولازم ذلك أنْ يكون كاتمًا للرسالة أو لبعضها! وحاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.



الوجه الثالث: الطعن في الصحابة؛ إذ يزعم المبتدع ـ بلسان حاله: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كتموا شيئًا من الشريعة، أو جهلوا هذا الأمر الذي أحدثه المتأخرون! وحاشاهم رضي الله عنهم.



4- البِدعةُ ضلالٌ مَحْض:

البدعة في حقيقتها رفضٌ لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعملٌ بمقتضى الهوى والرَّغبات، فهي بمثابة تشريعٍ جديدٍ يوازي تشريعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يحتمل إلاَّ أن يكون صاحبُ البدعة قد أُوحِيَ إليه بهذا التشريع، وهذا مستحيل، إذ أنَّ الوحي قد انقطع والرسالة قد توقَّفت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ؛ فإنَّ البدعة مهما كان بريقها أو مُبرِّرها ليست إلاَّ أُكذوبة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه لم يُشَرِّعها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُبلِّغها ولم يأت بها، فهي إذًا ضلال محض، وباطل محض، وافتراء محض، وكذب محض.



وقد بيَّن القرآن العظيم ضلالَها، عندما حصر الحقَّ فيما جاء به، وجعل ما عداه هو الضَّلال، وأشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم صراحةً إلى كونها ضلالًا محضًا لا يحتمل شكًّا ولا ريبة.



قال الله تعالى: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ﴾ [يونس: 32]؛ لأنَّ ما جاء به النبيُّ فهو الحقُّ الخالص، وضِدُّه الضَّلال. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)[11]؛ وكون كلِّ بدعة ضلالة يُبطِل كلَّ قولٍ بأنَّ هناك من البدع بدعة حسنة.



بطلان تقسيم البدعة إلى حسنة وسيِّئة:ذهب المُحقِّقون من أهل العلم إلى بطلان تقسيم البدعة إلى حسنةٍ وسيئة، أو جَعْلِها مِمَّا تجري عليه الأحكامُ الخمسة التكليفية[12]؛ لأنَّ قول النبيِّ: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)[13]، يُبطِل هذا التقسيم، وأنه ما من بدعة إلاَّ وهي ضلالة، وفي بعضِ الروايات: (وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ)[14]، فكيف يجتمع الوصف بالضلالة مع الوصف بالحُسن؟



قال ابن تيمية رحمه الله: (ولا يحِلُّ لأحدٍ أنْ يُقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ"، بسلب عمومها، وهو أنْ يُقال: ليست كل بدعة ضلالة؛ فإنَّ هذا إلى مُشاقَّة الرسولِ أقربُ منه إلى التأويل)[15].



والدين الإسلامي ما جاء إلاَّ ليهدي البشرية إلى الحقِّ ويخرجهم من الضلال، وأيُّ إحداثٍ في دين الله تعالى هي محاولةٌ لجرِّ البشرية إلى الضلال وانتكاسة بهم إلى الوراء؛ إذ ما حُرِّفت الدِّيانات السماوية السابقة إلاَّ بما أدخله فيها أصحابها من بدعٍ بأهوائهم وعقولهم، فجَرَت بأصحابها إلى الوقوع في الضلال والشرك.



قال الله تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]؛ وذلك بأنهم كانوا يُشَرِّعون لهم ما لم يأذن به الله، فيطيعونهم، وهذا حال رأس الضلالة وصاحب البدعة الداعي إليها؛ إذ إنه يُشَرِّع من دون الله، فمَنْ تابَعَه في بدعته فكأنه اتَّخَذَه ربًّا من دون الله.



وبنظرةٍ فاحصةٍ إلى الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام وآرائهم في العقيدة أو العبادة تلحظ هذا الأمر واضحًا جليًّا؛ إذ هم بما أحدثوه وأدخلوه في الدِّين قد بعدوا عنه، كلٌّ حسبما أدخل، وقَدْرَ ما بدَّل.



5- المبتدع لا يزداد من الله إلاَّ بُعدًا:

من شؤم الابتداع وعقوبته أن المبتدع كلما ازداد اجتهادًا في بدعته ازداد بعدًا من الله تعالى؛ لأنه سلك طريقًا معاكسًا للشرع، وحاله كمن يريد الذهاب إلى مكانٍ ما فيتَّخذ اتِّجاهًا معاكسًا ومغايرًا، وكلما اجتهد في السير زاد بعدًا عن هدفه؛ لأنه سلك طريقًا مغايرًا ومعاكسًا، وما حال الخوارج عنا ببعيد؛ حيث كانوا يجتهدون في العبادات – وهم على ضلال – فيمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية.



عن عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ أنه قال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ؛ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)[16].



ولذا قال الحسن البصري رحمه الله: (صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا؛ صيامًا وصلاةً إلاَّ ازداد من الله بُعدًا)[17]. ومِثلُه قال أيوب السختياني رحمه الله: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلاَّ ازداد من الله بُعدًا)[18].



6- عدم قبول عمل المبتدع:

من شؤم الابتداع في الدين أن المبتدع يُحرم أجر عمله الذي عمله في وقت أحوج ما تكون الحاجة إليه؛ وقد حُرِم أجر هذا العمل؛ لأنه تعبَّد لله تعالى بأقوال أو بأفعال أو اعتقادات لم يشرعها الله تعالى، وأيُّ عملٍ لا يُقبل حتى يتوفر فيه شرطان: الإخلاص والاتباع، قال تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 7]، فأحسن العمل هو (أخلصه وأصوبه)[19]، والمبتدع قد أخلَّ بأحد شرطي قبول العمل؛ فحُرِمَ بسبب بدعته قبول عمله، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)[20]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[21].



وجه الدلالة: كلُّ مَنْ تعبَّد لله تعالى بشيءٍ لم يشرعه الله، أو بشيءٍ لم يكن عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون فهو مُبتَدِع، مردود عليه ما ابتدعه واخترعه. وهذا أمر بدهي؛ إذ كيف يقبل الله تعالى عملًا من رجل ادَّعى لنفسه التَّشريع ونازع اللهَ سبحانه وتعالى فيما خَصَّ به ذاته الشريفة، فهو المُشرِّع ولا مُشرِّع غيره سبحانه.



7- المبتدع لا يُحالفه التوفيق:

من شؤم الابتداع في الدين ألاَّ يوفق المبتدع إلى العمل الصالح والقول السديد ويُوكل إلى نفسه؛ بسبب ابتداعه في الدين، حيث قدَّم بدعته وهواه على الشرع الحكيم، وقد ضمن الله تعالى العصمة في اتِّباع شرعه، ولمَّا ترك المبتدع اتباع الشرع وُكِل إلى نفسه ونُزعَت منه العصمة جزاءً وفاقًا، وهو غاية الخذلان والحرمان، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]. فالفتنة تحصل للمبتدع في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، جزاء ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه، فكان الخذلان حليفه، والتوفيق أبعد ما يكون عنه، إلاَّ أن يتوب فيتداركه الله تعالى برحمة منه، ولا تزال البدع والأهواء بأصحابها حتى تهلكهم وتُلقي بهم في أودية الشبهات والشهوات؛ لأنهم التمسوا الهدى في غير ما أنزل الله تعالى، ولم يُسلموا للشريعة في الأخبار والأوامر والنواهي، فخذلوا.



والمتأمل في أحوال المبتدعة وما ابتُلوا به من بدع أوردتهم المهالك؛ يلحظ أن الشبه تُحيط بهم من كل مكان؛ فالرافضة من أقل الناس عقلًا وأكذبهم في النقل، وأهل الكلام عقولهم ممتلئة بالشبه والضلالات، وغلاة المتصوفة يجهلون مقاصد الشرع في الاتباع، وقد جعلوا الهوى والذوقيات قِبلةً لهم، والمعتزلة مُعجَبون بعقولهم ومغرورون بآرائهم.



تحذير السلف الصالح من الجلوس مع المبتدعة: نهى السلف الصالح عن مجالسة المبتدعة أو مصاحبتهم حتى لا يفتن بهم الناس، وفي ذلك آثار كثيرة، ومنها: عن الحسن البصري رحمه الله قال: (لا تُجالس صاحب بدعةٍ؛ فإنه يُمرِضُ قلبَك)[22].



وعن سفيان الثوري رحمه الله قال: (مَنْ جالس صاحبَ بدعةٍ؛ لم يَسلم من إحدى ثلاث: إمَّا أنْ يكون فتنةً لغيره، وإمَّا أنْ يقع في قلبه شيء فيزلَّ به فيدخله الله النار، وإمَّا أن يقول: واللهِ ما أُبالي ما تكلَّموا وأني واثق بنفسي، فمَن أَمِنَ اللهَ على دينه طرفةَ عينٍ؛ سلبه إياه)[23].



وعن أبي قلابة رحمه الله قال: (لا تُجالسوا أهلَ الأهواء ولا تجادلوا؛ فأني لا آمن أنْ يغمسوكم في ضلالتهم، أو يُلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون)[24].



يُتبع.





[1] تفسير ابن كثير، (8/ 457).




[2] تفسير القرطبي، (4/ 166).




[3] تفسير السعدي، (1/ 142).




[4] هذا بحسب البدعة التي ارتكبها، إنْ تحقَّق فيها شروط التكفير، وانتفت عنه الموانع.




[5] الاعتصام، (1/ 141، 142).




[6] رواه البخاري، (5/ 1949)، (ح 4776).




[7] انظر: شرح سنن أبي دواد، للشيخ عبد المحسن العباد (ص 224).




[8] رواه مسلم، (1/ 23)، (ح 102).




[9] الاعتصام، (1/ 49)؛ السنن والمبتدعات، (ص 6).




[10] تفسير السعدي، (ص 220).




[11] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح 867).




[12] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، (ص 270، 274)؛ الاعتصام، (2/ 36) وما بعدها.




[13] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح 867).




[14] رواه النسائي، (3/ 189)، (ح 1578). وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (1/ 512)، (ح 1577).




[15] اقتضاء الصراط المستقيم، (ص 274).




[16] رواه مسلم، (1/ 422)، (ح 2516).




[17] البدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 16).




[18] المصدر نفسه، (ص 16).





[19] تفسير السعدي، (2/ 78).




[20] رواه البخاري، (2/ 959)، (ح 2550)؛ ومسلم، (3/ 1343)، (ح 1718).




[21] رواه مسلم، (3/ 1343)، (ح 1718).




[22] البدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 49).





[23] المصدر نفسه، (ص 29).




[24] اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1/ 134)؛ السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد (ص 1/ 137)؛ الشريعة، للآجري (1/ 436)؛ البدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 30).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21-01-2022, 09:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع

الآثار السيئة للابتداع (2)
د. محمود بن أحمد الدوسري





إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

انتشار البدع له من آثار سيئة تضرُّ بدين الله تعالى، ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، وقد سبق الحديث في (الجزء الأول) عن الآثار السيئة للبدعة للابتداع، ويتواصل الحديث عن ذلك، كما يلي:



8- لا يُوفَّق المبتدع للتوبة غالبًا:

قلَّما يتوب المبتدع من بدعته؛ لأنَّ الشيطان يُزيِّن له فعلَه؛ فينظر إليه على أنه قربة وطاعة، فكيف يتركها؟! ولذا قال سفيان الثوري رحمه الله: (الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ؛ لأَنَّ الْبِدْعَةَ لاَ يُتَابُ مِنْهَا، وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا)[1].



قال ابن تيمية رحمه الله – شارحًا قول سفيان الثوري: (وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: "إنَّ الْبِدْعَةَ لا يُتَابُ مِنْهَا": أَنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي يَتَّخِذُ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَلاَ رَسُولُهُ؛ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، فَهُوَ لاَ يَتُوبُ مَا دَامَ يَرَاهُ حَسَنًا؛ لأَنَّ أَوَّلَ التَّوْبَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّ فِعْلَهُ سَيِّئٌ لِيَتُوبَ مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّهُ تَرَكَ حَسَنًا مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ لِيَتُوبَ وَيَفْعَلَهُ، فَمَا دَامَ يَرَى فِعْلَهُ حَسَنًا - وَهُوَ سَيِّئٌ فِي نَفْسِ الأَمْرِ - فَإِنَّهُ لاَ يَتُوبُ)[2].



ويدلُّ عليه قولُ النبيِّ: (إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ[3]؛ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ[4] لِصَاحِبِهِ). وَقَالَ عَمْرٌو [راويهِ]: الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ، وَلاَ مَفْصِلٌ؛ إِلاَّ دَخَلَهُ[5].



فقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأهواءَ والبدعَ والضلالات بداء الكَلَب الذي يُصيب المريض فلا يترك فيها عرقًا ولا مفصلًا إلاَّ دخله، وهكذا أهل البدع والأهواء إذا تغلغلت فيهم البدع تغلغل هذا الداء الخطير الذي يختلط بعروقهم ومفاصل المريض فقلَّما يبرأ منه، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.



وأختم بهذه الوصية النَّفِيسة من إمام من أئمة المسلمين في تحذيره من البدع والمحدثات، وهو الإمام البربهاري رحمه الله، حيث يقول: (واحذر صِغارَ المُحدَثات من الأمور؛ فإنَّ صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كلُّ بدعةٍ أُحْدِثت في هذه الأُمَّة كان أولُّها صغيرًا يُشبِه الحقَّ، فاغترَّ بذلك مَنْ دخل فيها، ثم لم يستطع المَخرَجَ منها، فعظُمَت وصارت دِينًا يُدان بها، فخالَفَ الصِّراطَ المستقيم فخَرَجَ من الإسلام، فانظر – رحمك الله – كلَّ مَنْ سمعتَ كلامَه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجَلَنَّ ولا تدخلنَّ في شيءٍ منه؛ حتى تسألَ وتنظرَ: هل تكلَّم فيه أحدٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو أحدٌ من العلماء، فإنْ أصبتَ فيه أثرًا عنهم؛ فتمسَّكْ به، ولا تُجاوزْه لشيء، ولا تخترْ عليه شيئًا؛ فتسقطَ في النار)[6].



9- البدعة تُوقِع في الحَيرة والاضطِّراب:

إن المتتبِّع لأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته يلحظ أمرًا بالغ الأهمية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد على القرآن الكريم اعتمادًا كاملًا في كلِّ حواراته ومناظراته مع القوم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، موقفه مع عتبة بن ربيعة[7] حينما ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُثْنيه عن دعوته، فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد ما سمع منه - عن قوله: (فَرَغْتَ يا أبا الوليد؟) قال: نعم.



فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 1-5].



واستمرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ حتَّى بلغ قولَه تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]. فأمسكَ عُتبةُ على فيه، وناشده الرَّحمَ أنْ يكفَّ عنه، ثم قام عُتبةُ إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.



وكان فيما قال لهم: يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرَّجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ نبأ... قالوا: سَحَرَكَ واللهِ يا أبا الوليد بلسانه[8].



فكان لهذه الآيات وقْعٌ شديد على "عتبة بن ربيعة" حيث زلزلت كيانه وهزَّت أركانه، فعاد إلى قومه، وكان منه ما كان.



وفي هذه القصة وغيرها دليل على أنَّ أثر القرآن على سامعه أثرٌ بالغٌ، وأن الذين يدَّعون عدم قدرته على مجادلة الكفار أو المشركين أو الفلاسفة إنما هم مفترون، وأنَّ دعواهم هذه محض افتراء وضلال.



فالقرآن جاء خطابًا من الله تعالى للبشرية، فيسع البشرَ جميعًا على اختلاف ثقافاتهم وتنوعها؛ لأنه كلام خالق البشر ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، وعلى هذا، فمن ابتغى غير القرآن هاديًا ومرشدًا وقع في الحيرة والاضطراب، ومن الآثار السيئة للبدعة وللابتداع الوقوع في الشَّك والحَيرة والاضطِّراب والضَّياع والتَّخبُّط والتَّناقض الذي وقع فيه أهل الكلام والبدع والضلالات، فضلًا عن الكفار الذين تنكَّبوا الصراط المستقيم من الملاحدة وغيرهم، فلا تسل عن بؤسهم وشقائهم، فهم يعيشون في أدنى دركات الشقاء والنكد.



حتى إنه ليوجد عند عوامِّ أهل السنة من برد اليقين، وحسن المعتقد، والطمأنينة والرضا، والبعد عن الحَيرة؛ ما لا يوجد عن علماء البدع والضلالات، وحُذَّاقهم من أهل الكلام ونحوهم، ممَّن اضطربوا في تقرير عقائدهم فحاروا وحيَّروا، وتعبوا وأتعبوا[9].



ولم نجد من أهل السنة مَنْ رَجَعَ وعَدَلَ عن موقفه، وندم على ما فات من عمره، بينما وجدنا غيرَه ندم ندمًا شديدًا، وتمنَّى أن لو يعود به الزمن ليتراجع عن منهجه ويعدل عن موقفه، والأمثلة في ذلك كثيرة.





نماذج من حَيرة واضطراب حذَّاق أهل الكلام والفلسفة:

مما يدلُّ على حيرة واضطراب حذاق العلماء من أهل الكلام والفلسفة والمنطق الذين بلغوا الغاية فيه فلم يرجعوا بفائدة تُذكر، ما يلي:

أ- ما قاله ابن تيمية رحمه الله: (وقد بلغني بإسنادٍ مُتَّصِلٍ عن بعضِ رؤوسهم وهو " الخونجي "[10] صاحب "كشف الأسرار في المنطق"، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن، أنه قال عند الموت: أموتُ وما علمتُ شيئًا إلاَّ أنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْوَاجِبِ[11]. ثم قال: الافْتِقَارُ وَصْفٌ عَدَمَيٌّ، أَمُوتُ وَمَا عَلِمْت شَيْئًا)[12].



ب- وذكر أنَّ (الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يومًا فقال له: بِتُّ البارحةَ أُفكِّر إلى الصباح في دليلٍ على التوحيد سالمٍ عن المُعارِض فما وجدته)[13]، وهذا واللهِ، عينُ الضَّلال؛ إذ كيف لا يجد دليلًا على التوحيد، وهو عنده كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أنه رجع إليهما لوجد بُغيتَه وأراح نفسَه وهدأ فِكرُه، أما يكفيه قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: 13]، لِتزلزل أركانه وترتعد فرائصه فيدرك صدقها، وصدق مَنْ أخبر بها، أولم يكفه قوله تعالى: ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]، أولم يكفه قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 63، 64].



ج- وقال أيضًا: (حدَّثني مَنْ قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: أبيتُ باللَّيل، واستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأُصبِحُ وما ترجَّحَ عندي شيء. كأنه يعني: أدلَّةَ المُتكَلِّمين والفلاسفة)[14].



د- وها هو أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي، أحد أكابر علم الكلام، وكان ينوح على نفسه ويبكي قائلًا - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي "أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ":




نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ

وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلاَلُ


وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا

وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ


وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا

سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا


وكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ

فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا


وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا

رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ






لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلاَمِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلاَ تُرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الإثْبَاتِ: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]، وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]؛ ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي)[15].



هـ- وها هو الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ، يعترفُ بأنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلاَّ الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، حَيْثُ قَالَ:




لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا

وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ


فَلمْ أَرَ إِلاَّ وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ

عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ[16]






و- وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ - أحد أئمة الأشاعرة: (يَا أَصْحَابَنَا! لا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلامِ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَلامَ يَبْلُغُ بِي إِلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْتُ بِهِ. وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ، وَخَلَّيْتُ أَهْلَ الإسْلامِ وَعُلُومَهُمْ، وَدَخَلْتُ فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالآنَ فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ؛ فَالْوَيْلُ لابْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي، أَوْ قَالَ: عَلَى عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ)[17].
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21-01-2022, 09:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع


ز- ومِمَّن اعترف من أهل الكلام بالوقوع بالحَيرة والاضطراب، ابن أبي الحديد المعتزلي، وكان من كبرائهم، إذ يقول - بعد توغُّله في علم الكلام:




فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ

حَارَ أَمْرِي وَانْقَضَى عُمُرِي


سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ

فَمَا رَبِحَتْ إِلاَّ أَذَى السَّفَرِ


فَلَحَى اللَّهُ الأُلَى زَعَمُوا

أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ


كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا

خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَرِ[18]






ح- وها هو الشوكاني رحمه الله اشتغل بعلم الكلام وهو في عُنفُوانِ شبابِه؛ بُغية الحصول على فائدة تُذكر، ولكنه لم يظفر بغير الخَيبة والحَيرة؛ كما ذَكَرَ ذلك عن نفسه، ثم رجع إلى مذهب السلف، حيث روى ما حصل له فيقول: (ها أنا أُخْبِرُكَ عن نفسي، وأُوَضِّح لك ما وقعتُ فيه في أمسي؛ فإني في أيام الطَّلب، عُنفُوانِ الشبابِ شُغِلتُ بهذا العلم الذي سَمَّوه تارةً عِلمَ الكلام، وتارةً عِلمَ التوحيد، وتارةً عِلمَ أصول الدِّين، وأكببتُ على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورُمتُ الرجوعَ بفائدة، والعَودَ بعائدة، فلم أظفَرْ من ذلك بغير الخَيبة والحَيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حبَّبَتْ إليَّ مذهبَ السَّلف؛ على أني كُنْتُ قبل ذلك عليه، ولكن أردتُ أنْ أزدادَ منه بصيرةً، وبه شُغفًا، وقلتُ عند ذلك في تلك المذاهب:




وغايةُ ما حَصَّلتُه من مَباحِثِي

ومِنْ نَظَرِي من بَعْدِ طُولِ التَّدبُّرِ


هو الوَقْفُ ما بين الطَّريقين حَيرةً

فما عَلِمَ مَنْ لم يَلْقَ غيرَ التَّحيُّرِ


على أنني قد خُضْتُ منه غِمارَه

وما قَنَعَتْ نفسي بغيرِ التَّبَحُّرِ[19]








نماذج من حيرة واضطراب الكفار:

لا تسل عن بؤس الكفار الذين تنكَّبوا الصراط المستقيم؛ من الملاحدة وغيرهم، الذين يعيشون أدنى دركات الشقاء والنكد؛ لأنهم سُلِبوا الأمن والإيمان، وانتشرت فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وفتكت بهم أمراض الشذوذ الجنسي، وازدادت حالات الانتحار، بل وصل الأمر ببعض البلاد إلى فتح مستشفيات للانتحار! وهناك مواقع في الشبكة العنكبوتية مُهِمَّتُها تسهيل الانتحار في عيون المنتحر، بحيث تُقدِّم عدَّة طرق سهلة تُساعد المنتحرَ على الانتحار والتخلص من مشكلاته وحياته البائسة؛ بما يسمُّونه الموت الرحيم، أو الآمن، هكذا زعموا!



ومِمَّا يدلُّ على حَيرة واضطراب كبار الفلاسفة والملحدين الذين يعتبرهم الناس قادة المجتمع وقدواته، ما يلي[20]:

أ- الفيلسوف الألماني المشهور "فريدريك نيتشه" بعد أن كفر بالله تعالى وأنكر الإيمان به، ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يُعانيه من عذابٍ وشقاء فيقول: (إنني أعلم جيد العلم لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؛ لأنَّه هو الذي يعاني أشد العناء، فاضطره ذلك أنْ يخترعَ الضَّحك!)[21].



ب- وهذا الفيلسوف الفرنسي المُلحد الوجودي اليهودي " جان بول سارتر " عندما كفر بالله، واليومِ الآخر أصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي، فلا يرى الوجودَ كلَّه إلاَّ من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام.



وكتب في ذلك جملةَ قصصٍ ومسرحيات ضمَّنها آراءه الفلسفية الوجودية.



(وحين حضره الموتُ، سأله مَنْ كان عنده: تُرى إلى أين قادك مذهبُك؟ فأجاب ـ في أسىً عَميقٍ مِلؤه النَّدم: إلى هزيمة كاملة)[22].



ج- والفيلسوف الإنجليزي المشهور "هربارت سبنسر" الذي تُدرَّس نظرياته التربوية في كثير من بقاع العالَم؛ (لمَّا دنا من الموت، نظر وراءه يستعرض حياتَه، فإذا هي في نظرِه أيامٌ تنقضي كلُّها في كسب الشهرة الأدبية، دون أن يتمتَّع بشيءٍ من الحياة نفسِها، فضحك من نفسه وسخر، وتمنَّى لو أنه قضى تلك الأيام الدابرة في حياة بسيطة سعيدة. ولمَّا حضرته الوفاةُ كان على يقينٍ بأنه لم يعمل في حياته إلاَّ عبثًا)[23].



د- والفيلسوف الملحد المليء بالتشاؤم "أرثر شوبنهور" لمَّا كفر بالله تعالى والدار الآخرة، وأنكر حكمةَ الله تعالى في الابتلاء، نظر إلى الحياة نظرةً ملؤها التشاؤم، فهو يرى أنَّ طيبات الحياة كلِّها عبث، وأن مقاصد الناس تسير إلى الإخفاق والتعاسة والشقاء، ومن أقواله السوداوية: (إننا لو تأمَّلنا الحياةَ المُصطخبة لرأينا الناسَ جميعًا يشتغلون بما تتطلَّبه من حاجةٍ وشقاء، ويستنفذون كلَّ قواهم؛ لكي يُرضُوا حاجات الدنيا التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة)[24].



يُتبع.





[1] اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1/ 132)؛ الحجة في بيان المحجة، للأصبهاني (2/ 407)؛ ذم الكلام وأهله، للهروي (5/ 121).




[2] مجموع الفتاوى، (10/ 9).




[3] (الأهواء): المقصود بالأهواء: هي البدع التي يُتَّبع فيها الهوى، ولا تُتَّبع فيها السُّنة فينحرفوا عن جادة الصواب من الكتاب والسنة، إلى الضلالات.




[4] (الكَلَب): بفتحتين - داءٌ مَخُوف يحصل من عَضِّ الكَلْب المجنون، ويتفرَّق أثرُه بصاحبه، أي: مع صاحبه إلى جميع أعضائه، أي: مثل جري الكَلَب في العروق لا يبقى منه عِرْق، ولا مِفصل؛ إلاَّ دخله، فكذلك تدخل البدعُ فيهم، وتؤثر في أعضائهم. انظر: النهاية في غريب الحديث، (1/ 739)؛ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، (2/ 60).




[5] رواه أبو داود، (2/ 772)، (ح 4599). وحسنه الألباني في (صحيح سنن أبي دواد)، (3/ 116)، (ح 4597).




[6] شرح السنة، حسن بن علي البربهاري (ص 23).




[7] هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، كان من عتاة المشركين، وأشدِّهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين حربًا وإيذاء، كان مِمَّن دعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم. انظر: البداية والنِّهاية، (3/ 273).




[8] رواه الأصبهاني في (دلائل النُّبوة)، (2/ 220، 222) (رقم 258)؛ وأبو يعلى في (مسنده)، (3/ 350) (رقم 1818)؛ وابن أبي شيبة في (مصنفه)، (ص 3307) (رقم 36560). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (6/ 20): (فيه الأجلح الكندي، وثَّقَهُ ابنُ معين وغيره، وضعَّفه النسائي وغيره، وبقيَّة رجاله ثقات). وفي روايةٍ أُخرى: أن الذي سمع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم سورة فُصِّلت وَحَدَثت معه هذه القصَّة هو الوليد بن المغيرة. انظر: تفسير الطَّبري، (28/ 155-157)؛ الدُّر المنثور، (7/ 308).




[9] انظر: نقض المنطق، (ص 41)؛ عقيدة أهل السنة والجماعة، (ص 92).




[10] هو محمد بن ناماور بن عبد الملك الخونجى، عالم بالحكمة والمنطق، شيخ المتكلمين، فارسي الأصل، ولد سنة (590 هـ)، ثم انتقل إلى مصر، وولي قضاءها. وتوسع في ما يُسمُّونه (علوم الأوائل) حتى تفرد برياسة ذلك في زمانه، توفي بالقاهرة سنة (646 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، (23/ 271)؛ شذرات الذهب، (5/ 236).




[11] عبارة (واجب الوجود) لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، وإنما هي من مصطلحات أهل الكلام، والمناطقة الذين أعرضوا في باب معرفة الله، وإثبات وجوده وربوبيته عن الكتاب والسنة، وما درج عليه أهل العلم والإيمان من سلف الأمة، واعتمدوا في هذا الباب على مُجرَّد الأقيسة الكلامية والمُقدِّمات المنطقية. انظر: البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية، عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (1/ 41).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (تقريب التدمرية)، (ص 26): (عُلِمَ بضرورة العقل والحس أنَّ "الموجود المُمْكِن" لابد له من مُوجِد "واجب الوجود"، فإننا نعلم حدوث المُحدَثات ونُشاهدها، ولا يمكن أن تحدث بدون مُحدِث، ولا أن تُحدِث نفسَها بنفسِها؛ لقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فتعيَّن أنْ يكون لها خالق "واجب الوجود" وهو الله تعالى. ففي الوجود إذن مَوجُودان: أحدهما: أزلِيٌّ واجب الوجود بنفسه. الثاني: مُحدَثٌ مُمكن الوجود، مَوجود بغيره، ولا يلزم من اتفاقهما في مُسمَّى الوجود أنْ يتَّفقا في خصائصه، فإنَّ وجود الواجب يخصه، ووجود المُحدَث يخصه. فوجود الخالق: واجبٌ أزلِيٌّ مُمتنِع الحدوث، أبدِيٌّ، ممتنِع الزوال، ووجود المخلوق: مُمْكِنٌ، حادِثٌ بعد العدم، قابِلٌ للزوال، فمَنْ لم يُثبت ما بينهما من الاتفاق والافتراق؛ لَزِمَه أن تكون الموجودات كلُّها إما أزلية واجبة الوجود بنفسها، أو مُحدثَة مُمكِنَة الوجود بغيرها، وكلاهما معلومُ الفساد بالاضطرار.




[12] درء تعارض العقل والنقل، (3/ 262)؛ وانظر: مجموع الفتاوى، (9/ 208).




[13] درء تعارض العقل والنقل، (3/ 263).




[14] درء تعارض العقل والنقل، (3/ 263، 264).




[15] شرح العقيدة الطحاوية، (ص 177)؛ النبوات، لابن تيمية (ص 90)؛ بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية (1/ 129).




[16] شرح العقيدة الطحاوية، (ص 178)؛ مجموع الفتاوى، (4/ 73)؛ منهاج السنة النبوية، (5/ 189)؛ درء تعارض العقل والنقل (7/ 402).




[17] تلبيس إبليس، (ص 84)؛ شرح العقيدة الطحاوية، (ص 178)؛ الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (6/ 616)؛ بيان تلبيس الجهمية، (1/ 122)؛ مجموع الفتاوى، (4/ 73).





[18] إيثار الحق على الخلق، (ص 139)؛ شرح العقيدة الطحاوية، (ص 179)؛ درء تعارض العقل والنقل، (1/ 161).




[19] التحف في مذاهب السلف، (ص 75).




[20] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة، (ص 94).




[21] كواشف زيوف المذاهب الفكرية المعاصرة، لعبد الرحمن حسن الميداني (ص 560).




[22] المصدر نفسه، (ص 359).




[23] المصدر نفسه، (ص 560، 561).




[24] المصدر نفسه، (ص 561).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21-01-2022, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع

الآثار السيئة للابتداع (3)
د. محمود بن أحمد الدوسري





إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
انتشار البدع له من آثار سيئة تضرُّ بدين الله تعالى، ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، وقد سبق الحديث في (الجزء الأول والثاني) عن الآثار السيئة للبدعة للابتداع، ويتواصل الحديث عن ذلك، كما يلي:
10- ارتكاب البدع يُورِث التَّشبُّه بالكفار والمشركين:
جاءت شريعة الإسلام بالنهي القاطع عن التشبُّه بالكفار والمشركين في سائر المجالات؛ من العبادات والمعاملات والأخلاق والعادات، واللباس والهيئات والأعياد والمناسبات، ونصوص الشرع أكثر من أن تُحصر في هذا الشأن؛ لذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقصد مخالفتهم دائماً وأبداً؛ لأنَّ مخالفة الكافرين والمشركين والبراءة منهم أصل من أصول الدين، الإخلال به إخلالٌ بالدين.

وهذا النهي عن التشبه بالكفار والمشركين مَرَدُّه إلى التميز الذي ينبغي للأمة المسلمة أن تتميز به لتتمايز عن غيرها من الأمم، فالأمة المسلمة إنما أراد الله لها أن تكون متبوعة لا تابعة، قائدة لا مقودة؛ ولا تتحقَّق لها هذه المنزلة إلاَّ إذا كانت لها مكانتها الخاصة التي تستمدها من سلامة عقيدتها وصدق عبادتها وصفو منهجها وقوة تمسكها بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لذا وجب عليها مخالفة غيرها فيما هم عليه من ضلالات وانحرافات؛ لتبقى هي النموذج الذي يُحتذى والقائد الذي يتَّبع، وفي هذا تأتي الحكمة من النهي عن التشبه بالكفار والمشركين، وضرورة مخالفتهم.

ومَن اطلع على نصوص النهي عن التشبه بالكافرين اشتدَّ عجبُه من كثرتها في الكتاب والسنة، ومن ذلك:
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ). فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: (وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ)[1].

فقد (أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ أمته قبل قيام السَّاعة يتَّبعون المُحدَثات من الأمور، والبدع والأهواء المُضِلَّة؛ كما اتَّبعتها الأممُ من فارس والروم؛ حتى يتغيَّر الدِّين عند كثيرٍ من الناس، وقد أنذَرَ صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من حديثه أنَّ الآخِرَ شرٌّ، وأنَّ السَّاعة لا تقوم إلاَّ على شرار الخلق، وأنَّ الدِّين إنما يبقى قائمًا عند خاصةٍ من المسلمين لا يخافون العداوات، ويحتسبون أنفسَهم على الله في القول بالحق، والقيام بالمنهج القويم في دين الله تعالى)[2].

ب- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ)[3]. (والمراد بالشِّبر والذِّراع وجُحْر الضَّب: التَّمثيلُ بشدَّة الموافقة لهم، والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات، لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم)[4].

قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا كلُّه خرج منه [صلى الله عليه وسلم] مَخْرَجَ الخَبَر عن وقوع ذلك، والذَّم لِمَنْ يفعله؛ كما كان يُخبر عمَّا يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المُحرَّمات، فعُلِمَ أنَّ مُشابهة هذه الأُمَّةِ اليهودَ والنصارى وفارسَ والرومَ مِمَّا ذمَّه الله ورسولُه [صلى الله عليه وسلم] وهو المطلوب)[5].

حكمة النهي عن التشبه بالكفار والمشركين:الأصل في أعمال الكفار وأخلاقهم وعقائدهم الضرر والفساد والنقص؛ لذا كانت مخالفتهم منفعةً للمسلمين، بل إن التشبه بالكافرين يؤدي بالمسلم إلى تبعيتهم والخضوع لهم، وهو منهي عنه بنص كلام الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149].

والمشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة في الأخلاق والأعمال وسائر الأحوال، وإن المشاركة في الهدي الظاهر تورث نوع مودَّة ومحبَّة وموالاة في الباطن، كما أنَّ المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهو أيضاً أمر محسوس، ويؤدي كل ذلك إلى الاختلاط الظاهر بهم ويرتفع التمييز ظاهراً بين المسلمين والكافرين، حتى ينسلخ المسلمُ من دينه وهو لا يشعر، خاصة مع الإعجاب بهم وبمنجزاتهم وحضارتهم.

قال ابن تيمية رحمه الله: (إنَّ المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسُباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ مَّا في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإنَّ اللاَّبس لثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمامٍ إليهم، واللاَّبس لثياب الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع تخلُّق بأخلاقهم، ويصير طبعُه مقتضياً لذلك)[6].

وقال أيضاً: (لو اجتمع رجلان في سفر، أو بلدٍ غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب ونحو ذلك؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممَّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصِّناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة.

فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة لهم؛ فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإنَّ إفضاءها إلى نوعٍ من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تُنافي الإيمان)[7].

11- كثرة وقوع المبتدعة في الفتن:
ما ترك الناس السنة وأقبلوا على البدع إلاَّ ابتلوا بأنواع من البلاء والفتن؛ فما أكثر ما يقع المبتدعة في الفتن الظاهرة والباطنة، فلا شيء أفسد للدين وأشد هدماً لبنيانه من الابتداع فيه؛ فإن من أعظم الفتن المُضِلَّة عمل العالِم بالبدعة وتقليد الناس له، وإذا وافقت البدعةُ أهواءَ الناس وشهواتهم وغرائز نفوسهم فتلك هي الفتنة الكبرى التي لا مخرج منها، ولا سيما مع سكوت العلماء عن بيان وجه الابتداع في البدعة فيعد العامةُ سكوتَهم إقراراً منهم على ذلك. وقد حذَّر الله تعالى من الفتن؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].

وإن الابتداع في الدين ومخالفة سنة سيد الأنبياء والمرسلين، وعصيان أمره، وفتنة الناس في دينهم؛ من أخطر المصائب وأعظمها جرماً عند الله تعالى فاستحق هذا المخالف العذاب الأليم جزاءً وفاقاً: ﴿ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].

(أي: فليحذر وليخْشَ مَنْ خالف شريعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا أو ظاهرًا ﴿ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ أي: في قلوبهم، من كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعةٍ، ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي: في الدنيا، بِقَتْلٍ، أو حَدٍّ، أو حَبْسٍ، أو نحوِ ذلك)[8].


وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا؛ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)[9]. وكم باع المبتدعة الضَّالون دِينَهم، وسُنَّةَ نبيِّهم، ومنهجَه القويم بِعَرَضٍ من الدنيا!

("بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ" يعني: بالأعمال الصالحة، وهي كلُّ عملٍ كان خالِصاً لله، صواباً على شريعة الله، هذا هو العملُ الصالحُ، ثم قال: "فِتَنًا؛ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ" أخبر أنه ستوجد فِتَنٌ؛ كقطع اللَّيل المُظلِم، يعني أنها مُدْلَهِمَّة مُظلِمة، لا يُرَى فيها النور - والعياذ بالله، ولا يدري الإنسانُ أين يذهب؟ يكون حائراً ما يدري أين المخرج؟ أسألُ اللهَ أنْ يُعيذنا وإيَّاكم من الفتن.

و"الفتن" منها: ما يكون من الشبهات، وفتن تكون من الشَّهوات، فَفِتَنُ الشُّبهات: كلُّ فتنةٍ مَبينَّةٍ على الجهل، فهي فِتنةُ شبهة، ومن ذلك: ما حصل من أهل البدع الذين ابتدعوا في عقائدهم ما ليس من شريعة الله، أو أهل البدع الذين ابتدعوا في أقوالهم وأفعالهم ما ليس من شريعة الله، فإنَّ الإنسان قد يُفتن - والعياذ بالله - فيَضِلَّ عن الحق بسبب الشُّبهة)[10].

وقد سمع حذيفةُ رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم – يقول في الفتن التي تموج مَوْجَ البحر: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)[11].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-01-2022, 09:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع



والمقصود: بأنَّ القلب إذا افتُتِن بالبدع والمنكرات ومخالفة الكتاب والسنة؛ خرجت منه حُرمة المعاصي والمنكرات والبدع المُضِلَّة، وخرج منه نور الإيمان؛ كما يخرج الماء من الكوز إذا مال وانتكس، وصاحب هذا القلب الأسود والمائل عن الحق والمنتكس عن الفطرة الصحيحة تجده (لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) وهو ما يهواه قلبه الفاسد.

12- الذِّلة والصَّغار لأهل البدع في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة:
من سنن الله تعالى الماضية في خلقه أن جعل العِزَّةَ والنَّصر والتَّمكين لأوليائه في الدنيا، والنَّعيم المقيم في الآخرة، فالعزة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين المتبعين سنته وهديه صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]؛ فالمتَّبعون للسُّنة والشريعة هم الأعزاء، والمبتدعون في دين الله تعالى هم الأذلاء المُحتقَرون الصَّاغرون في الدنيا والآخرة.

ويؤيده قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10].

فمَنْ أرد العزة في الدنيا والآخرة فليطلبها بالإخلاص، وباتباع سنة وهدي سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فلا تُنال العزة إلاَّ باتباع الكتاب والسُّنة، ولا يُرفع العمل ويُقبل عند الله تعالى إلاَّ بالإخلاص ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وشريعته والبعد عن الابتداع في الدين، فبهذه الطريقة الصحيحة يعز صاحب السُّنة، ويرفع عملُه، ويقبله الله تعالى، بخلاف ارتكاب البدع؛ فإنه طريق إلى الذِّلة وإنْ أراد صاحبُ البدعة الرِّفعةَ بها، إلاَّ أنه يُمكر به، ويُكاد به؛ بسبب ارتكابه البدع والضلالات، ويعود عمله وبالاً عليه، ولا يزداد إلاَّ إهانةً ونزولاً وذلة.

وعلى قدر تمسُّك المؤمن بدينه واتِّباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وهديه ينال هذه العزة المشار إليها في الآية الكريمة، ولذلك حُرِمَ المبتدعُ من هذه العزة بقدر ابتداعه في الدين، وبُعدِه عن هدي وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.

ومن شؤم الابتداع ومخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته: الذِّلة والصَّغار في الدنيا، وغضب الله تعالى في الآخرة والعذاب الشديد؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. فكلُّ مَنْ يُخالف النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويُعانده فيما جاء به ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾ بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية، ثم هو بعد ذلك كلِّه ﴿ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي: يتَّبع غيرَ طريقِهم في العقائد والأعمال، فعند ذلك ﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ﴾ أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نُوفِّقُه للخير؛ لكونه رأى الحقَّ وعَلِمَه وترَكَه، فجزاؤه من الله – عدلاً – أنْ يبقيه في ضلاله حائراً ويزداد ضلالاً إلى ضلاله، ثم في الآخرة ﴿ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾ أي: نُعذِّبه فيها عذاباً عظيماً، ﴿ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ أي: مرجعاً له ومآلاً.

وهذا الوعيد المُرتَّب على الشِّقاق ومخالفة سبيل المؤمنين مراتب لا يُحصيها إلاَّ الله سبحانه، بحسب حالة الذنب والبدعة صِغَراً وكِبَراً، فمنه ما يُخلِّد في النار ويوجب جميع الخذلان، ومنه ما هو دون ذلك.

ويدل مفهومه الآية الكريمة: على أنَّ مَنْ لم يُشاقق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتبع سبيل المؤمنين، بأنْ كان قصدُه وجهَ الله واتِّباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهمِّ بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغَلَبَات الطِّباع، فإنَّ الله لا يولِّيه نفسَه وشيطانَه بل يتداركه بلطفه، ويمنُّ عليه بحِفْظِه ويَعصِمُه من السُّوء؛ كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، أي: بسبب إخلاصه صَرَفْنَا عنه السُّوء، وكذلك كلُّ مخلص، متَّبع هدي النبيِّ وسُنَّتَه، كما يدل عليه عموم التعليل[12].

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي)[13]. فالذلة والصغار لجميع المبتدعة – بحسب نوع البدعة – التي ارتكبوها، بنص كلام الصادق المصدوق، وكم ذكر التاريخ لنا عن ذلة المبتدعة في الدنيا ولا سيما عند موتهم بسبب مخالفتهم لأمرِ رسول الله جزاء وفاقاً، أبى الله إلاَّ أنْ يُذِلَّ مَنْ عصاه.

والمُبتدع يعيش في ذِلة وصَغار أبداً ما دام حيًّا، والمُتابع لحركة التاريخ الإسلامي يلحظ هذا الأمرَ جيداً، فكم من فترة من فترات التاريخ الإسلامي خبا فيها صوت أهل السنة وهُزِمت دولتهم، لكنها باقية أبداً لم تنتهي ولن تنتهي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، في الوقت نفسه زالت دول وإمارات كانت رأساً للبدعة ولم تقم لها قائمة؛ فأمست أثراً بعد عين، وذكرى بعد ذِكر.

13- سوء عاقبة وخاتمة المبتدع:
حال الموت هو حال انكشاف للحقائق وبيان واضح لما يُضمره الإنسان من سريرة، فالإنسان أصدق ما يكون عند موته وانقطاع الأسباب عنه؛ لذا يُخاف على المبتدع من سوء الختام؛ لأن الشيطان أشد ما تكون وطأته على الإنسان في آخر لحظات عمره عند انقطاع أنفاسه بغية أن يوقعه في المصائب العظام؛ فيخيِّل له الشيطان عند الاحتضار أن دينه كلَّه ضلال، ولربما اعتراه شك أو جحود أو إصرار على البدع فيختم له بما سبق عليه الكتاب، وقد كان رؤوس أهل البدع والأهواء يُصرِّحون عند الموت بضلال ما كانوا فيه، ولربما تقطعت بهم السُّبل وامتلأت قلوبهم أسى وحسرة على ضياع أعمارهم فيما ظهر لهم من الضلال والفساد والحرمان والخسران[14].

وإن من أعظم أسباب سوء الخاتمة إصرار العبد على البدع والضلالات، وإنْ أظهر للناس غير ذلك، وممَّا يدل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)[15].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ؛ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ؛ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: (يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ)[16].

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: (واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا يكون لِمَن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما يكون ذلك لِمَن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، ويثب عليه قبل الإنابة، ويأخذه قبل إصلاح الطوية فيصطلمه[17] الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيماً ثم يتغيَّر عن حاله ويخرج عن سننه، ويأخذ في غير طريقه، فيكون ذلك سبباً لسوء الخاتمة، وشؤم العاقبة، والعياذ بالله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11] )[18].

إذاً؛ من الآثار السيئة للبدعة وللابتداع الوقوع في سوء العاقبة وسوء الخاتمة؛ بسبب التلبس بالشرك أو النفاق أو التعلُّق بغير الله تعالى وما شابه ذلك من الصفات المذمومة، ولا سيما التعلُّق بأنواعٍ من البدع والضلالات، لذا قَلَّ أنْ يُخْتَم لمبتدع بخاتمة حسنة إلاَّ أن يتداركه الله تعالى برحمته وفضله.

وقد سبق الحديث عن حَيرة واضطراب حذَّاق أهل الكلام والفلسفة وعامة المبتدعة والكفار بما أغنى عن إعادته هنا، وليس للعبد من نجاةٍ أو ثباتٍ على الدين إلاَّ باتباعه السنة النبوية، وابتعاده عن البدع والأهواء المُضِلَّة، ولا نجاة له ابتداءً بدون توفيق الله وتثبيته حتى الممات، واللهَ تعالى وحده نسأل أن يُثبِّتنا على دينه حتى نلقاه.

يُتبع.


[1] رواه البخاري، (3/ 1478)، (ح 7405).

[2] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 366).

[3] رواه البخاري، (3/ 1478)، (ح 7406)؛ ومسلم، (2/ 1128)، (ح 6952).

[4] شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 220).

[5] اقتضاء الصراط المستقيم، (ص 44).

[6] المصدر نفسه، (ص 93).

[7] المصدر نفسه، (ص 550).

[8] تفسير ابن كثير، (6/ 90).

[9] رواه مسلم، (1/ 63)، (ح 328).

[10] شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين (1/ 105).

[11] رواه مسلم، (1/ 73)، (ح 386).

[12] انظر: تفسير السعدي، (1/ 202).

[13] رواه البخاري في (صحيحه) مُعلَّقاً، (2/ 565)؛ وأحمد في (المسند)، (9/ 123)، (ح (5114). وحسنه الحافظ في (الفتح)، (10/ 23)، والألباني في (الإرواء)، (5/ 109)، (ح 269).


[14] انظر: شرح العقيدة الطحاوية، (ص 227-230).

[15] رواه البخاري، (2/ 562)، (ح 2935)؛ ومسلم، (1/ 60)، (ح 320).

[16] رواه أحمد في (المسند)، (19/ 246)، (ح 12214)؛ وأبو يعلى في (مسنده)، (6/ 401)، (ح 3756). وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (3/ 408)، (ح 1334): (إسناده صحيح على شرط الشيخين).

[17] الاصطلام: هو الانتزاع والاستئصال والاختطاف. انظر: معجم مقاييس اللغة، (3/ 299).

[18] العاقبة في ذكر الموت والآخرة، (ص 180، 181).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-01-2022, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع

الآثار السيئة للابتداع (4)
د. محمود بن أحمد الدوسري




إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:



انتشار البدع له من آثار سيئة تضرُّ بدين الله تعالى، ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، وقد سبق الحديث في (الجزء الأول والثاني والثالث) عن الآثار السيئة للبدعة للابتداع، ويتواصل الحديث عن ذلك، كما يلي:







14- المُبتدِع عليه وِزْرُ مَن اتَّبَعَه:



من شؤم الابتداع في الدِّين أنَّ المُبتدع عليه وِزْرُ وإثمُ مَن اتَّبعه إلى يوم الدِّين؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25].





فالمبتدعة الداعون إلى بدعهم عليهم وِزرٌ وإثم عظيم؛ لأنهم يحملون وِزرَهم ووِزرَ مَن انقاد لهم إلى يوم القيامة، فبئس ما حملوا من الوزر المُثقِل لظهورهم، من وزرهم ووزر مَنْ أضلُّوه، وهذا من شؤم البدع والضلالات.





وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)[2]. وجه الدلالة: أنَّ الإحداث والابتداع في الدِّين داخل في الأمور السَّيِّئة المُحرَّمة شرعًا؛ لذا كان على المبتدع مثلُ وزرِ كلِّ مَنْ يعمل ببدعتِه وضلالِه إلى يوم القيامة، سواء ابتدعه هو أم كان مسبوقًا إليه[3].







15- البدعة تدخل صاحبها في اللعنة:



كل مَن ابتدع بدعةً ليس لها أصل في الشرع فهي مردودة، وصاحبها مستحق للوعيد، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم – فيمَنْ أحدث في المدينة: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا[4]، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ). قال ابن بطال رحمه الله: (دلَّ الحديث على أنه مَن آوى أهلَ المعاصي والبدع أنه شريكٌ في الإثم، وليس يدل الحديث على أنَّ مَنْ أحدث حدثًا أو آوى مُحدِثًا في غير المدينة أنه غير مُتوعَّد ولا ملوم على ذلك؛ لأنَّ مَن رَضِيَ فِعلَ قومٍ وعملَهم أنه منهم، وإنْ كان بعيدًا عنهم.





فهذا الحديث نصٌّ في تحذير فِعل شيء من المنكر في المدينة، وهو دليل في التحذير من إحداث مِثلِ ذلك في غيرِها، وإنما خُصَّت المدينةُ بالذِّكر في هذا الحديث؛ لأنَّ اللعنة على مَنْ أحدث فيها حدثًا أشدُّ، والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حُذِّرَ عنه، وإقدامِه على مُخالفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة التي شرَّفها الله، بأنها مَنزِلُ وحيه، ومَوطِنُ نبيِّه، ومنها انتشر الدِّين في أقطار الأرض، فكان لها بذلك فضلُ مزيِّةٍ على سائر البلاد)[5].







16- يُطرد المبتدع عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم:



وفيه ثلاثة أحاديث مشهورة:



أ- عن سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ)[6]. وفي لفظٍ: (فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا[7] لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي)[8]. وفي لفظ: (فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي)[9].





ب- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ؛ حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟! وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ). فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ! إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا[10].





ج- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ؛ فَقَالَ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا). قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ). فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ[11] أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟). قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ[12] عَلَى الْحَوْضِ، أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ! فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)[13].





قال النووي رحمه الله: (هذا مما اختلف العلماءُ في المراد به على أقوال:



أحدها: أنَّ المراد به المنافقون والمُرتدُّون، فيجوز أنْ يُحشَروا بالغُرَّة والتَّحجيل، فيناديهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم للسِّيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مِمَّا وُعِدْتَّ بهم، إنَّ هؤلاء بدَّلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.





والثاني: أنَّ المراد مَنْ كان في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتدَّ بعده، فيناديهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يكن عليهم سِيما الوضوء؛ لِمَا كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدُّوا بعدك.





والثالث: أنَّ المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام. وعلى هذا القول؛ لا يُقطع لهؤلاء الذين يُذادون بالنار، بل يجوز أنْ يُذادوا عقوبةً لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أنْ يكون لهم غرةٌ وتحجيل، ويحتمل: أنْ يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، لكن عَرَفَهم بالسِّيما)[14].







وقال ابن عبد البر رحمه الله: (كلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لا يرضاه اللهُ، ولم يأذن به اللهُ؛ فهو من المطرودين عن الحوض، المُبعَدِين عنه، واللهُ أعلم، وأشدُّهم طردًا مَنْ خالفَ جماعةَ المسلمين، وفارقَ سبيلَهم؛ مثل الخوارجِ على اختلاف فِرَقِها، والرَّوافِضِ على تبايُنِ ضَلالِها، والمعتزلةِ على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلُّهم يُبَدِّلون، وكذلك الظَّلَمةُ المُسرِفون في الجَور والظُّلم وطمسِ الحقِّ وقتلِ أهلِه وإذلالِهم، والمُعلِنون بالكبائر المُستخِفُّون بالمعاصي، وجميعُ أهلِ الزَّيغ والأهواء والبِدع، كلُّ هؤلاء يُخاف عليهم أنْ يكونوا عُنُوا بهذا الخَبَر)[15].





وهذا الجزاء للمبتدع إنما هو من جنس عمله؛ إذ إنه في الدنيا أعرض عن سُنَّته صلى الله عليه وسلم وخالف هديَه، فابتدع وسَنَّ لنفسه بنفسه أو بغيره، فكان جزاؤه في الآخرة أن يُعْرِضَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرم من ورود حوضه.
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21-01-2022, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع




17- المبتدعة متوعَّدون بالنار لكذبهم على اللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم:



المبتدعة يفترون على الله الكذب، ويقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، ويدَّعون بأن هذه "البدع" هي من عند الله تعالى، وإذا كان الكذب مذمومًا، وهو من الكبائر، فكيف بالكذب على الله تعالى وعلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على كفر مَنْ كذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم متعمِّدًا مستحِلًا لذلك[16]؛ لذا كانت عقوبته النار، جزاءً وفاقًا.





وقد توعَّد الله تعالى مَنْ افترى عليه الكذب يوم القيامة بالعذاب الشديد والأليم، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 116، 117]. وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 69، 70]. ﴿ قُلْ ءآاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [يونس: 59، 60].





وأخبر سبحانه بأنهم ظالمون: ﴿ فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 94]. وبأنَّ لهم إثمًا مبينًا: ﴿ انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 50]. وليس لهم إلاَّ النار: ﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ﴾ [النحل: 62].





وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].







قال ابن القيم رحمه الله: (وأمَّا القول على الله بلا علم؛ فهو أشدُّ هذه المحرَّمات تحريمًا وأعظمها إثمًا؛ ولهذا ذُكِرَ في المرتبة الرابعة من المحرَّمات التي اتَّفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تُباح بحال؛ بل لا تكون إلاَّ مُحَرَّمةً... ثم انْتَقَلَ منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فهذا أعظمُ المُحرَّمات عند الله وأشدُّها إثمًا؛ فإنه يتضمَّن الكذبَ على الله، ونسبتَه إلى ما لا يليق به، وتغييرَ دينه وتبديلَه، ونفيَ ما أثبته، وإثباتَ ما نفاه، وتحقيقَ ما أبطله، وإبطالَ ما حقَّقه، وعداوةَ مَنْ والاه، وموالاةَ مَنْ عاداه، وحُبَّ ما أبغضه، وبُغْضَ ما أحبَّه، ووصْفَه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المُحرَّمات أعظمُ عند الله منه، ولا أشدُّ إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أُسِّسَت البدعُ والضَّلالات، فكلُّ بدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين أساسُها القولُ على الله بلا علم)[17].





وقد حذَّر الله تعالى من التَّقوُّل عليه؛ ولو كان ذلك التَّقوُّل صادرًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم – وحاشاه أنْ يتقوَّل على ربِّه: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ[18] * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ[19] * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44-47].





فلو قُدِّرَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم -حاشا وكلاَّ- تقَوَّل على الله؛ لعاجَلَه بالعقوبة، وأخَذَه أخْذَ عزيزٍ مُقتدر؛ لأنه حكيم، على كلِّ شيءٍ قدير، فحكمته تقتضي ألاَّ يُمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أنَّ الله أباح له دِماءَ مَنْ خالفه وأموالَهم، وأنه هو وأتْباعَه لهم النجاة، ومَنْ خالفه فله الهلاك.





وهذا التَّهديد والوعيد من الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم رغم استحالة وقوعه، إنما يدل على شدة غضب الله تعالى على مَنْ كَذَب عليه، فإذا كان هذا غضبه على حبيبه وصفيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم لو وقع منه هذا – وحاشاه صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيره من البشر؟ لا شك أنه يكون أشد عذابًا وأعظم إيلامًا.





فإذا كان اللهُ قد أيَّد رسولَه صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وبرهن على صِدق ما جاء به بالآيات البيِّنات، ونَصَرَه على أعدائه، ومكَّنه من نواصيهم، فهو أكبرُ شهادةً منه على رسالته؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. فلا أعظم شهادةً من الله سبحانه، ولا أكبر، وهو يشهد لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم بصدق رسالته وصدق قوله وفعله، ولا يليق بحكمة الله تعالى وقدرته أنْ يُقِرَّ كاذبًا عليه، زاعمًا أنَّ الله أرسله ولم يُرسلْه، وأنَّ الله أمَرَه بدعوة الخلق ولم يأمرْه، وهو مع ذلك يُصدِّقه ويؤيِّده على ما قال؛ بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة، وينصره، ويخذل مَنْ خالفه وعاداه[20].





والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل شناعةً عن الكذب على الله تعالى؛ لأن مصدره من عند الله تعالى: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 78]، وإن هو إلاَّ وحي يوحى، ومن الأحاديث المُحذِّرة من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم:



قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ[21])[22]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[23].





قال النووي رحمه الله: (لا فرقَ في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حُكْمَ فيه؛ كالترغيب والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكلُّه حرام، من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح، بإجماع المسلمين الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع)[24].





وقال ابن حجر رحمه الله: (وقد اغترَّ قوم من الجهلة فوضعوا أحاديثَ في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فَعَلْنا ذلك؛ لتأييد شريعته، وما دَرَوا أنَّ تَقْوِيلَه صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْ يقتضي الكذبَ على الله تعالى؛ لأنه إثباتُ حُكمٍ من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، ولا يُعْتَدُّ بمَنْ خالف ذلك من الكرامية؛ حيث جوَّزوا وضْعَ الكذبِ في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسُّنة، واحتجُّوا بأنه كذبٌ له لا عليه! وهو جهلٌ باللغة العربية)[25].





قال أبو الفضل الهمداني – مبيِّنًا خطر المبتدعة، واختلاقهم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (مبتدعة الإسلام والواضِعون للأحاديث أشدُّ من الملحدين؛ لأنَّ الملحدين قصدوا إفسادَ الدِّين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل. فهم كأهل بلدٍ سعوا في إفساد أحواله، والملحدون كالحاضرين من خارج، فالدُّخلاء يفتحون الحِصن، فهم شرٌّ على الإسلام من غير الملابسين له)[26].







18- بُغض المبتدعة للسُّنة وأهلِها:



إنَّ الحقَّ يحمل في طيَّاته قوَّةً؛ تُزلزل أعداءه وتهزُّهم وتُخيفهم؛ لدرجة أنهم لا يتمنَّون سماعَه، وأهلُ السُّنة بما معهم من الحقِّ يُحدِثون الأثرَ في أهل البدعة، فلا يستطيعون حِجاجَهم ولا يقدرون على مواجهتهم، حتى إنهم لا يتمنَّون لقاءهم، فينعكس ذلك عليهم، فَيُكِنُّون لهم البغضاء والكراهية.





فمن أعظم الآثار السَّيئة للابتداع في الدين بُغض المبتدعة للحق ولِمَنْ جاء بالحق؛ فبسبب جفائهم عن السُّنة عاقَبَهم الله تعالى ببغضهم للسُّنة وأهلِها، فإنَّ عامة المبتدعة يُبغضون علماءَ أهل السُّنة ويغتابونهم ويلمزونهم، ويستهزؤون بهم، وينتقصون من أقدارهم، وينتقدونهم بغير حق، ويعيبون عليهم تَمسُّكَهم بالسُّنة والتزامهم بها ظاهرًا وباطنًا! وهذا يدل على خطورة البدع وآثارِها السيئة على المبتدعة، وقد نبه أهل العلم على أنَّ من علامات الاستقامة حب أهل السنة، ومن علامات أهل الأهواء والبدع بُغض أهل السُّنة والتَّنقُّص منهم، ومن ذلك:



أ- قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني رحمه الله: (وعَلاماتُ أَهلِ البدَعِ عَلى أَهلها بادية ظاهرة، وأَظهرُ آياتهم وعَلاماتِهم: شدَةُ مُعاداتهم لحمَلة أَخبار النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهُم، وتَسميتهم حَشويَّة، وجَهلة، وظاهرية، ومُشبهة؛ اعتقادًا منهُم في أَخبارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّها بمعزل عن العلم، وأَنَّ العلم ما يُلقيهِ الشيطانُ إِليهِم من نتائجِ عُقولهم الفاسدة، ووساوس صُدورهم المُظلِمَة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم؛ بل شبههم الداحضة الباطلة)[27].





ب- وقال قتيبة بن سعيد رحمه الله: (إذا رأيتَ الرجلَ يُحب أهلَ الحديث؛ مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه - وذكر قوما آخرين- فإنه على السُّنة، ومَنْ خالف هذا؛ فاعلم أنه مُبتدع)[28].





ج- وقال ابن تيمية رحمه الله: (ومن المعلوم أنك لا تجد أحدًا مِمَّنْ يردُّ نصوص الكتاب والسُّنة بقوله إلاَّ وهو يُبغض ما خالف قولَه، ويودُّ أنَّ تلك الآية لم تكن نزلت، وأنَّ ذلك الحديث لم يَرِد، ولو أمكنه كشط ذلك من المُصحف لَفَعَلَه)[29].









يُتبع.







[1] رواه مسلم، (4/2059)، (ح 1017).




[2] رواه مسلم، (2/1132)، (ح 6980).




[3] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/226).




[4] (الحَدَث: الأمرُ الحادِث المُنكَر الذي ليس بمُعْتاد ولا معروف في السُّنَّة. والمُحْدث: يُرْوَى

بكسر الدال وفَتْحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكَسْر: مَن نَصَر جانِيًا أو آواه وأجارَه مِن خَصْمه وحال بينَه وبين أن يَقْتَصَّ منه، والفتح: هو الأمر المُبْتَدَع نَفْسِه، ويكون معنى الإِيواء فيه: الرِّضا به والصبر عليه، فإنه إذا رَضِيَ بالبِدْعة وأقرَّ فاعلَها ولم يُنْكِرْ عليه فقد آوَاهُ، ومنه الحديث: "إيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور" جمع مُحْدَثة - بالفتح - وهي ما لم يكن معروفًا في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجْماع). النهاية في غريب الحديث والأثر، (1/907).




[5] شرح صحيح البخاري، (10/350).




[6] رواه البخاري، (3/1427)، (ح 7137)؛ ومسلم، (2/988)، (ح 6108).




[7] (سُحْقًا سُحْقًا): أي: بُعدًا بُعدًا، وهو دعاء عليهم بالطرد والإبعاد.




[8] رواه البخاري، (3/1332)، (ح 6664)،




[9] رواه البخاري، (3/1427)، (ح 7138).




[10] رواه البخاري، (3/1334)، (ح 6673).




[11] (دُهْمٍ بُهْمٍ): أي: سود، لم يُخالط لونَها لونٌ آخَر.




[12] (أَنَا فَرَطُهُمْ): الفَرَط: هو الذي يتقدَّم القومَ ويسبقهم؛ ليرتاد لهم الدِّلاء والأرشية.




[13] رواه مسلم، (1/123)، (ح 607).




[14] شرح النووي على مسلم، (3/136، 137).




[15] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (20/262).




[16] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (1/70).




[17] مدارج السالكين، (1/372).




[18] أي: بعض الأقاويل الكاذبة.




[19] (الْوَتِينَ): هو عِرق مُتَّصل بالقلب إذا انقطع هلك ومات منه الإنسان.




[20] انظر: تفسير السعدي، (ص 252).




[21] (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي: فَلْيَتَّخِذْ لِنفْسِه مَنزِلًا من النار، يقال: تبوَّأ الرجلُ المكانَ؛ إذا اتَّخذه مَسْكَنًا، وهو أمرٌ بمعنى الخبر، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التَّهكُّم، أو دعاءٌ على فاعلِ ذلك، أي: بوَّأهُ اللهُ ذلك. انظر: فتح الباري، لابن حجر (6/540)؛ تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/441).




[22] رواه البخاري، (1/242)، (ح 1303)؛ ومسلم، (1/6)، (ح 5).





[23] رواه البخاري، (1/29)، (ح 109).




[24] صحيح مسلم بشرح النووي، (1/70).




[25] فتح الباري، (1/199-200).




[26] الموضوعات، لابن الجوزي (1/51).




[27] عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، (ص 299)؛ الحجة في بيان المحجة، (1/194).




[28] شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي (ص 67).




[29] درء تعارض العقل والنقل، (5/217).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21-01-2022, 09:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الآثار السيئة للابتداع

الآثار السيئة للابتداع (5)
د. محمود بن أحمد الدوسري




إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
انتشار البدع له من آثار سيئة تضرُّ بدين الله تعالى، ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، وقد سبق الحديث في (الجزء الأول والثاني والثالث والرابع) عن الآثار السيئة للبدعة للابتداع، ويتواصل الحديث عن ذلك، كما يلي:
19- انتشار البدع يُفرِّق الأمة:
بيَّن الله تعالى السَّبيل، فقال: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]، فجعله سبيلاً واحداً لا ثانِيَ له، وبيَّن السَّالكين لهذا السَّبيل، فقال: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي ﴾ [الأنبياء: 92]، وفي وحدة السبيل ووحدة الأمة دليل على أهمية التَّجمُّع ونبذ الفرقة والاختلاف، ومن هنا كانت كلُّ دعوةٍ أو طريقةٍ تُخالف السَّبيلَ الذي بيَّنه الله تعالى لعباده، لا طائل من ورائها إلاَّ التفرُّق والتَّشرذم، وليس أخطر من البدعة في ثني المسلمين عن الطريق الصحيح؛ إذ أنَّ انتشار هذه البدع وكثرتها تؤدِّي إلى تشعُّب السَّبيل والخروج عن المسار المستقيم.

وكلُّ مبتدعٍ يتمنَّى نصر بدعته وتكثير سواد أهلها، ولا يتم ذلك له إلاَّ بمخالفة الكتاب والسنة والمنهج الصحيح، والوقيعة في أهل السنة والأثر وبغضهم، وباستقراء التاريخ نجد أن أهل الأهواء والبدع كانوا من أكبر أسباب تفرُّق المسلمين إلى شيعٍ وأحزاب، فهاهم الخوارج كانوا أوَّل مَن فرَّق جماعة المسلمين، ثم تبعهم سائر المبتدعة في هذا الخُلُق البغيض، ولا يزال أهل الإسلام من المبتدعة في شر مستطير؛ يلبِّسون على الناس دينهم، ويفرِّقون جماعة المسلمين، ويتحالفون مع شياطين الإنس والجن حتى يُظهِروا بدعهم وينشروها، ويتحالفون مع أعداء السنة والإسلام بغية نشر بدعهم وطمس سنة سيد المرسلين، وما فِعْل المعتزلة عنا ببعيد، ولذلك نرى أعداء الدين يتلقَّفون كلَّ مَن فارق جماعة المسلمين.

وفي فتح باب البدع على مصراعيه تفريق لأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيه تشتيت للجهود، إذْ يُصبح كلُّ حزب بما لديهم فرحون؛ كما قال سبحانه لنبيِّه الكريم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]. وجه الدلالة: توَعَّد الله تعالى الذين فرَّقوا دينهم، وتفرَّقوا فيه؛ من أهل البدع والضلال المُفرِّقين للأُمة، وأخذ كلٌّ منهم لنفسه طريقاً غيرَ طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

قال السعدي رحمه الله: (دلَّت الآية الكريمة أنَّ الدِّين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التَّفرُّق والاختلاف في أهل الدِّين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية. وأمره أنْ يتبرَّأ ممَّنْ فرَّقوا دينهم فقال: ﴿ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ أي: لست منهم، وليسوا منك؛ لأنهم خالفوك وعاندوك. ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ﴾ يُرَدُّون إليه، فيجازيهم بأعمالهم، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾)[1].

ونهى الله تعالى عبادَه المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32]. وجه الدلالة: أنَّ كلَّ فِرقة تحزَّبت وتعصَّبت، على نَصْرِ ما معها من الباطل، ونابذتْ غيرَها وحاربَتْه؛ فهي فَرِحَةٌ بما لديها من العلوم المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحكمون لأنفسهم بأنهم على الحق، وأنَّ غيرهم على الباطل.

قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من تشتُّتِهم وتفرُّقهم فِرَقاً، كلُّ فريق يتعصَّب لما معه من حقٍّ وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التَّفرُّق، بل الدِّين واحد، والرسول واحد، والإله واحد)[2].

20- في انتشار البدع هجرٌ للقرآن، وإماتةٌ للسُّنة:
من بين أنواع هجر القرآن؛ هجر الاتباع، ويكون ذلك بالابتداع في الدين ما ليس منه، وترك القرآن إلى ما سواه من الأهواء والرغبات والنزعات، فالاتباع والابتداع ضدان لا يجتمعان؛ فبقدر اتباع العباد للقرآن بقدر ابتعادهم عن البدعة، وكلما ابتعدوا عن القرآن وقعوا في البدع والضلالات، فهو أمر عكسي؛ لأنَّ المبتدع متَّبع لهواه مضاد للشرع ومعاند ومشاق له، وقد حُرم كثير من المسلمين من معرفة الحق والهدى؛ بسبب البدع المُتَّبعة، والأهواء المُضلَّة.

وحُرموا من الثواب المُترتِّب على اتِّباع السُّنن الثابتة وابتُلوا ببدع ما أنزل الله بها من سلطان، وهو يحسبون أنهم على شيء، وحُرموا - من جراء ذلك - السعادة في الدنيا والآخرة، وكلما أنشأ العبدُ بدعةً قولية أو عملية حُرِمَ في مُقابلها من سُنَّةٍ قولية أو عملية جزاءً وِفاقاً.

وعلى هذا؛ فمِنْ أعظم الآثار السيئة للبدع هو إماتة السُّنن، وإنكار الناس على مَنْ يُطبِّق سُنَّةً حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فيصبح المُتَّبعون للسُّنن غرباء عند عامة الناس، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)[3].

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ السُّنَّةَ، وَيَعْمَلُونَ بِالْبِدْعَةِ، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا). فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَدْرَكْتُهُمْ؛ كَيْفَ أَفْعَلُ؟ قَالَ: (تَسْأَلُنِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ تَفْعَلُ؟ لاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ)[4]. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (كيف أنتم إذا لَبِسَتْكمْ فتنةٌ يهرم فيها الكبيرُ ويربو فيها الصغيرُ، ويتَّخذها الناسُ سُنَّةً، فإذا غُيِّرتْ؛ قالوا: غُيِّرَت السُّنة) قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن! قال: (إذا كَثُرت قراؤكم، وقلَّت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلَّت أمناؤكم، والْتُمِسَتْ الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقِّهَ لغيرِ الدِّين)[5].

قال ابن المبارك رحمه الله: (إلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيمَ ما حلَّ بهذه الأُمَّة؛ من ذهاب العلماء، وأهل السُّنة، وظهور البدع)[6].

أمثلة (لسُنن مهجورة) و(بدع مشهورة):
استبدل الناسُ السُّنةَ بالبدعة؛ فأحيوا البدعةَ وأماتوا السُّنةَ، ومصداق ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما أتى على الناس من عام إلاَّ أحدثوا فيه بدعةً، وأماتوا فيه سُنَّة، حتى تحيا البدعُ، وتموت السُّنن)[7]. وقال التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه الله: (ما ابتدع قوم بدعةً في دينهم إلاَّ نزع اللهُ من سُنَّتِهم مِثلَها، ثم لا يُعيدها إليهم إلى يوم القيامة)[8]. ومن أمثلة (السنن المهجورة) و(البدع المشهورة):
أ- من السنن المهجورة: التوسل في الدعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وبالعمل الصالح، ومن البدع المشهورة: التوسل بالجاه والحق والحُرمة، والتوسل بذوات الأنبياء والأولياء، والتوسل بأحاديث ضعيفة، والتوسل بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأماكن المقدسة!


ب- ومن السنن المهجورة: الشُّرْب جالساً باليد اليمنى على ثلاث مرات ولا يتنفَّس في الإناء، ومن البدع المشهورة: الشرب بالشِّمال، والشُّرب من ثُلْمَة القَدَح، والنَّفخ في الشَّراب، والتنفس في الإناء، وشرب الماء مصًّا، وترك الدعاء لمَنْ سقاه.

ج- ومن السنن المهجورة: الاجتماع على الطعام، وذِكْر اسم الله عليه، والأكل من قصعة (صحن) واحدة، ومن البدع المشهورة: التفرُّق في الطعام على الموائد، وتقليل المرق وعدم إعطاء الجيران، وأكل الطعام وهو يفور، وترك اللقمة التي سقطت على الأرض وعدم أكلها، والأكل وسط القصعة، والتكلُّف للضيف، والأكل مُتَّكئاً، والزيادة على المشروع في التسمية، وترك الدعاء لمَنْ أطعمه.

د- ومن السنن المهجورة: الوصية، ومن البدع المشهورة: الوصية الجور؛ كحرمان النساء من الإرث، أو حرمان الورثة من الإرث، أو الوصية لبعض الأولاد دون بعض، ومجاوزة الثلث في الوصية، والوصية للوارث.

هـ- ومن السنن المهجورة (في الأذان): الأذان على التوقيت الشرعي، وعدم أخذ الأجرة على الأذان، واتِّخاذ مؤذن حَسَن الصوت، وقول المؤذن: "صلُّوا في رحالكم" في الليلة الباردة أو المطيرة، والالتفات بالرأس يمنةً ويسرةً عند الحيعلتين، ووضع الأصبعين في الأذنين، والأذان والإقامة لمَنْ يُصلِّي وحده، وإذا أُقيمت الصلاة فقولوا مثلما يقول.

ومن البدع المشهورة (في الأذان): قصر الأذان على التوقيت الفلكي، والصلاة قبل وقتها، والأذان المُوحَّد، وأخذ الأجرة على الأذان، واقتصار الإقامة على مَنْ أذَّن، والأذان عن طريق الراديو والمسجلات، وأذان مَنْ لا يُحسن العربية مع وجود العربي الذي يُحسن الأذان، وجهر المؤذن بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان وقبل الإقامة، وقول: حي على خير العمل؛ كما يفعله الرافضة، والاستدارة بالجسم ككل عند الحيعلتين، ووضع الكفَّين على الخدَّين، وإسدال اليدين، والالتفات بالصدر عند الحيعلتين، والدوران في المنارة، ووضع يد واحدة على الخد الأيمن أثناء الأذان، والترسل في الإقامة، وصلاة المنفرد بدون إقامة ولا أذان، وقول: "أقامها الله وأدامها" ؛ عند قول المقيم: "قد قامت الصلاة"، وقول: "حقاً لا إله إلاَّ الله" في آخر الإقامة، وتمطيط وتلحين ألفاظ الأذان والإقامة، وقول المؤذن أو الإمام بصوت عالٍ: "اللهم أحسن وقوفنا بين يديك ولا تخزنا يوم العرض عليك" حال تكبيرة الإحرام.

و- ومن السنن المهجورة (في الصلاة): إلقاء السلام على المصلَّي، ورد السلام بالإشارة لمن كان يصلي[9]، وتسوية الصفوف بالمناكب والأقدام، واتخاذ السترة في الصلاة، والصلاة في النِّعال، ووقوف المأموم بحذاء الإمام إذا كانا اثنين، والوقوف عند رؤوس الآيات، والدخول مع الإمام الصلاة في أي هيئة من الصلاة، والتأخر بالسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض، واستقبال القبلة باليدين وأصابع الرجلين في السجود، وجلسة الاستراحة، والإقعاء بين السجدتين، والعجن في الصلاة (الاعتماد على يديه إذا قام)، وتحريك الإصبع في التشهدين، والجهر بالذِّكر بعد الصلاة، والفصل بين صلاة الفريضة والسُّنة بكلام أو خروج.

ومن البدع المشهورة (في الصلاة): ترك إلقاء السلام على المصلِّي، ورد المصلِّي السلام بالرأس يميناً ويساراً أو قول: سبحان الله" وعدم الرد بالإشارة أو رد السلام بعد انتهاء الصلاة أو رد السلام في نفسه وهو في الصلاة، تسوية الصفوف بالمناكب فقط دون الأقدام، وقول الإمام للمصلين وهم يصطفُّون: "إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، واتخاذ خط كسترة للمصلي، وترك الصلاة في النعال، وقراءة الآيات العديدة بنَفَسٍ واحد، ومسابقة المأموم الإمام في السجود والركوع، والاستغفار الجماعي بعد الصلاة، والمصافحة عقب الصلاة المفروضة، وقول: "تقبَّل الله، وحرماً"، وقراءة آية الكرسي والمعوذات بصوت مرتفع عقب الصلاة، ورفع الأيدي بالدعاء بعد صلاة الفريضة، والدعاء الجماعي والتأمين عليه بصوت مرتفع.

21- إهانةُ أهلِ البدعة والفُرقة، وتكريمُ أهلِ السُّنَّة والجماعة:
اعلم أنَّ الجزاء دائماً يكون من جنس العمل، فأهل السُّنة أكرموا السُّنةَ وعظَّموها وقدَّموها على عقولهم وأهوائهم، فكان جزاءهم على ذلك تكريم الله تعالى لهم، أما أهل البدعة، فبتركهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أهانوها، فأهانهم الله تعالى وحطَّ من شأنهم جزاءً وفاقاً.

وقد كثرت النصوص الدالة على إهانة وشقاء أهل البدع والفرقة في الدنيا والآخرة، وتكريم أهل السنة والجماعة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
أ- عن ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106] قال: (يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَة، حِينَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَة)[10].

وقال ابنُ وهبٍ: سمعتُ مالكاً يقول: (ما آيةٌ في كتاب الله أشدُّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: ﴿ يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ إلى قوله: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ قال مالكٌ: فأيُّ كلامٍ أبْيَنُ من هذا؟ فرأيتُه يتأوَّلُها لأهلِ الأهواء)[11].

(يُخبِرُ تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من آثارِ الجزاء بالعدل والفَضْل، ويتضمَّن ذلك الترغيب والترهيب، الموجب للخوف والرجاء فقال: ﴿ يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ وهي: وجوهُ أهلِ السَّعادة والخير، أهلِ الائتلاف والاعتصام بحبل الله، ﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ وهي: وجوهُ أهلِ الشَّقاوة والشَّر، أهلِ الفُرقة والاختلاف، هؤلاء اسودَّت وجوهُهم؛ بما في قلوبهم من الخِزْي والهَوَان والذِّلة والفضيحة، وأولئك ابيضَّت وجوهُهم؛ لما في قلوبهم من البهجةِ والسُّرور والنَّعيم والحُبور، الذي ظهرت آثاره على وجوههم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾ [الإنسان: 11]، نضرةً في وجوههم، وسروراً في قلوبهم، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 27].

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: ﴿ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ أي: كيف آثَرْتُمْ الكفرَ والضَّلالَ على الإيمان والهدى؟ وكيف تركْتُم سبيلَ الرَّشاد وسلكْتُم طريق الغي؟ ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ فليس يليق بكم إلاَّ النارُ، ولا تستحِقُّون إلاَّ الخزي والفضيحة والعار.

﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ فيُهَنَّئون أكملَ تهنئةٍ، ويُبَشَّرون أعظمَ بِشارةٍ؛ وذلك أنهم يُبَشَّرون بدخولِ الجنَّاتِ، ورِضَى ربِّهم، ورحمته ﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ وإذا كانوا خالدين في الرَّحمة، فالجنةُ أثَرٌ من آثار رحمتِه تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من النَّعيم المُقيم، والعيش السَّليم، في جِوارِ أرحمِ الراحمين)[12].

ب- وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159]. قال السعدي رحمه الله: (يتوعَّد تعالى الذين فرَّقوا دينهم، أي: شَتَّتُوه وتفرَّقوا فيه، وكلٌّ أخَذَ لنفسه نصيباً من الأسماء التي لا تُفيد الإنسان في دينه شيئاً؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يَكْمُلُ بها إيمانُه، بأنْ يأخذَ من الشريعة شيئاً ويجعله دينَه، ويَدَعَ مِثْلَه، أو ما هو أَولى منه؛ كما هو حالُ أهلِ الفُرقة من أهل البدع والضَّلال، والمُفرِّقين للأُمَّة)[13].

ج- وقال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]. قال السعدي رحمه الله: (﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾ أي: الطُّرُقَ المخالفةَ لهذا الطريق، ﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ أي: تُضِلُّكم عنه، وتُفَرِّقُكم يميناً وشمالاً، فإذا ضَلَلْتُم عن الصِّراط المستقيم، فليس ثَمَّ إلاَّ طُرُقٌ تُوصِلُ إلى الجحيم.

﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ فإنَّكم إذا قُمْتُمْ بما بَيَّنَه اللهُ لكم عِلْماً وعَمَلاً؛ صِرْتُم من المتقين، وعبادِ اللهِ المفلحين، ووَحَّدَ الصِّراطَ، وأضافَهُ إليه؛ لأنَّه سبيلٌ واحِدٌ، مُوصِلٌ إليه، واللهُ هو المُعِينُ للسَّالكين على سلوكه)[14].

د- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ[15]؛ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ)[16]. فدل الحديث على أن المبتدعة زائغون وضالون وهالكون في الدنيا والآخرة.

هـ- وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (الْجَمَاعَةُ)[17]. وجه الدلالة: أنَّ الهالكين يوم القيامة في النار – من أمة محمد صلى الله عليه وسلم – هم المبتدعة في دينه المخالفون لجماعة المسلمين في العقيدة والمنهج والأقوال والأعمال، والناجين هم المُوافِقون لِجَماعةِ الصحابة، الآخِذُون بعقائدهم، المُتمَسِّكون بمنهجهم.

قال ابن تيمية رحمه الله: (وسُمُّوا أهلَ الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماع، وضِدُّها الفُرقة)[18]، وهذا مع تقديرٍ محذوف، وهو (المُوافِقة للحق)، إذاً يُقصد بالجماعة المُجتمِعة على الحق.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: (فإنْ قيل: وهل هذه الفِرَقُ معروفة؛ فالجواب: إنَّا نَعْرِفُ الافتراقَ، وأصولَ الفِرَق، وأنَّ كلَّ طائفةٍ من الفِرَقِ انقسمت إلى فِرَقٍ، وإنْ لم نُحِطْ بأسماءِ تلك الفِرَقِ ومَذاهِبِها، فقد ظهر لنا من أصول الفِرَقِ؛ الحَرورية، والقَدَرِية، والجهمية، والمُرجئة، والرافضة، والجبرية)[19].

[1] تفسير السعدي، (ص 282).

[2] المصدر نفسه، (ص 641).

[3] رواه مسلم، (1/ 74)، (ح 389).

[4] رواه ابن ماجه، (1/ 419)، (ح 2975)؛ وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 411)، (ح 2332).

[5] رواه الدارمي في (سننه)، (1/ 42)، (رقم 191). وصححه الألباني. وقال في (تحريم آلات الطرب)، (ص 16): (وهو موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تُدرك بالرأي، ولا سيما وقد وقع كلُّ ما فيه من التَّنبُّؤات).

[6] رواه ابن وضاح في (البدع والنهي عنها)، (ص 53).

[7] رواه ابن وضاح في (البدع)، (ص 100)، (رقم 93)؛ والطبراني في (الكبير)، (10/ 262)، (رقم 10610). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (1/ 230): (رواه الطبراني "في الكبير" ورجاله موثقون).

[8] رواه الدارمي في (سننه)، (1/ 32)، (رقم 99). وصحح إسناده الألباني في (التوسل)، (ص 46)؛ و(مشكاة المصابيح)، (1/ 41)، (رقم 188).

[9] صفة رد السلام: أن يبسط المصلِّي كفَّه؛ جاعلاً بطن الكف أسفل، وظهره إلى فوق.

[10] رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره)، (2/ 465)؛ واللالكائي في (السُّنَّة)، (1/ 72).

[11] الاعتصام، (1/ 36).

[12] تفسير السعدي، (1/ 142).

[13] تفسير السعدي، (1/ 282).

[14] تفسير السعدي، (1/ 280).

[15] (تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ): أي: تركتم على الملة والحُجَّة الواضحة التي لا تقبل الشُّبَه أصلاً.

[16] رواه ابن ماجه، (1/ 16)، (ح 43)؛ والطبراني في (الكبير)، (18/ 247)، (ح 619). وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه)، (1/ 32)، (ح 41).

[17] رواه ابن ماجه، (1/ 577)، (ح 4127). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) (3/ 307)، (ح 3241).

[18] العقيدة الواسطية، (ص 46).

[19] تلبيس إبليس، (ص 19).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 211.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 206.80 كيلو بايت... تم توفير 5.12 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]