الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 10 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #91  
قديم 08-01-2022, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (91)
صـ23 إلى صـ 33

المسألة الثانية :

قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ قد مر أنها موضوعة [ ص: 24 ] لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة ، هذا محصول العبادة ، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة .

وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك ، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات ، وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته [ ص: 25 ] ومقدار وسعه ، وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [ الحديد : 7 ] .

وإليه يرجع قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ البقرة : 30 ] .

وقوله : ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 129 ] .

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم [ الأنعام : 165 ] .

والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال : الأمير راع والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير [ ص: 26 ] مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة ، فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه ، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها ، وهذا بين .
فصل

وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام ، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب ، إذ مر هنالك خمسة أوجه ، منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف ، فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله .
[ ص: 27 ] المسألة الثالثة

كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض [ ص: 28 ] الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل .

أما أن العمل المناقض باطل فظاهر ، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .

وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، فالدليل عليه أوجه :

أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ، فإذا جاء الشارع [ ص: 29 ] بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه ، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد .

فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه ، فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع ، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا ، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا ، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة .

والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن ، وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن ، وهذه مضادة أيضا .

والثالث : أن الله تعالى يقول : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] الآية .

وقال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والأخذ في خلاف مآخذ [ ص: 30 ] الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة .

والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة; لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا ، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به .

والخامس : أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها [ ص: 31 ] في الأمر والنهي ، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد ، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة ، بل قصد قصدا آخر ، جعل الفعل أو الترك وسيلة له ، فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه .

والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها ، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون [ التوبة : 65 ] .

والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم ، والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية ، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ، والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا ، والسلف ليجر به نفعا ، والوصية بقصد المضارة للورثة ، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ، وما أشبه ذلك .

وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء :

منها ما تقدم في المسألة الأولى; كنكاح الهازل وطلاقه ، وما ذكر [ ص: 32 ] معهما ، فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما ، وقد تقدم جوابه ، ومن ذلك المكره بباطل ، فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر ، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك ، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه ، إلى مسائل من هذا النحو .

ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك - مقصود به خلاف ما قصده الشارع ، مع أنها عند القائل بها صحيحة ، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا .

والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ، ثم يصححه; لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي ، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء ، فكيف يقال : إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع ، هل هذا إلا عين المحال .

وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا ، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد ، بل الشريعة لهذا [ ص: 33 ] وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل ، فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه ، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب ، وفي سائر المصالح العامة والخاصة ، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة ، فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع ، خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #92  
قديم 08-01-2022, 09:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (92)
صـ34 إلى صـ 52

المسألة الرابعة :

فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته . فالجميع أربعة أقسام :

أحدها : أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها ، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه ، وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال ، فلا إشكال في صحة هذا العمل .

والثاني : أن يكون مخالفا ، وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك ، فهذا أيضا ظاهر الحكم .

والثالث : أن يكون الفعل أو الترك موافقا ، وقصده المخالفة ، وهو ضربان :

أحدهما : أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا .

والآخر : أن يعلم بذلك .

فالأول كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر ، فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة " من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل " وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل ; لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد ، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة ، فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطئ زوجته لم يختلط [ ص: 35 ] نسب من خلق من مائه ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة ، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة ، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل ، فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة .

فإن قيل : فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة ؟ فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه ، وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان في حقه ، لكنه عاص باتفاق ، هذا خلف ، وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر ، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر ، فكان يجب الحد على الواطئ ، والزجر على الشارب ، وشبه ذلك ، لكنه غير واجب باتفاق أيضا ، هذا خلف .

فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين ، فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة ، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي ، فهو عاص في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل ، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي; كالغاصب لما يظن [ ص: 36 ] أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه ، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد .

ولا يقال : إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله ، أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره; لأن المتوقع من ذلك غير موجود ، فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده ، خاصة لأنا نقول : لا يصح ذلك لأن هذا العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة ، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر ، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب ، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة ، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه ، وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد [ ص: 37 ] تعاطيا السبب على كماله ، فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد ، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم ، وأما الإثم فعلى وفق ذلك .

وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا ؟ هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ها هنا .

والثاني : أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ، ومثاله : أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك ، فهذا القسم أشد من الذي قبله ، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد - وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها ، فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى ، وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا ، فلا يصح جملة ، وقد قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ النساء : 145 ] وقد تقدم بيان هذا المعنى .

والقسم الرابع : أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا ، فهو أيضا ضربان :

أحدهما : أن يكون مع العلم بالمخالفة .

والآخر : أن يكون مع الجهل بذلك ، فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات [ ص: 38 ] المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة ، والموضع مستغن عن إيراده ها هنا ، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] .

وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] .

وفي الحديث : كل بدعة ضلالة وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر .

فإن قيل : إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة ، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم ، وأما المكروه فليس الذم فيه بإطلاق ، وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا ، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه ، والمباح حسن باعتبار .

فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول : إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع ، بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على المصحف العثماني والتجميع في قيام رمضان في المسجد ، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على [ ص: 39 ] حسنها ، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع; لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق ؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة ، خلاف المدعى .

فالجواب : أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه ، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع . وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال . بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين ، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما [ ص: 40 ] وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وفيه قال عليه الصلاة والسلام لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر .

[ ص: 41 ] فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد ، فلم يكن فيها مخالفة ، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة ، وهو باطل باتفاق ، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين ، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا ، كيف وهو يقول : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع ، فقد خرج هذا [ ص: 42 ] الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع ، وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك ، وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله .

وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان :

أحدهما : كون القصد موافقا ، فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ، ونية هذا العامل على الموافقة ، لكن الجهل أوقعه في المخالفة ، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا ، فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق .

والثاني : كون العمل مخالفا ، فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال ، فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل; لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه ولا طابق القصد العمل ، فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا ، فلا يحصل الامتثال .

[ ص: 43 ] وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح ، فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا المحل غامضا في الشريعة ، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه ، وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد ، عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته ، وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا ، فهو كالعبث ، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق; لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد .

فإن قلت : إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت في شرع بعد .

[ ص: 44 ] قيل لك : إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد ، فإن قلت باعتبار القصد كيف كان لزم ذلك في الأعمال ، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد ، وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها ، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح ، فإن قيل قوله عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال ، وإن خالفت قد تعتبر ، فإن المقاصد أرواح الأعمال ، فقد صار العمل ذا روح على الجملة ، وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل ، أو خالفا معا ، فإنه جسد بلا روح ، فلا يصدق عليه مقتضى قوله : الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل .

قيل : إن سلم فمعارض بقوله - عليه الصلاة والسلام - : كل عمل ليس [ ص: 45 ] عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره - عليه الصلاة والسلام - فلم يكن معتبرا ، بل كان مردودا .

وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد; لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة ، فهي في حكم العدم ، فبقيت النية منفردة في حكم عملي ، فلا اعتبار بها ، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا ، ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق ، وأبطلوا كل عبادة ، أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف ، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ، ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور .

أحدها : أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة [ ص: 46 ] القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ، ومخالفة الفعل; لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة ، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل ، وعدم الاعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا ، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه .

فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها ، فقد [ ص: 47 ] فاتت بمقتضى فتوى عمر ، ومعاوية والحسن وروي مثله عن علي رضي الله عنهم ، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها ، والثاني أولى بعد دخوله بها ، وفيما بعد العقد ، وقبل البناء قولان ، وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل [ ص: 48 ] باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها ، وعلى هذا يجري [ ص: 49 ] [ ص: 50 ] باب السهو في الصلاة ، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها .

والثاني : أن عمدة مذهب مالك ، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال ، أو الأقوال جهلا على حكم الناسي ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ، ومن وافقه وليس الأمر كذلك ، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا ، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج ، وغير ذلك من العبادات ، وكذلك في كثير [ ص: 51 ] من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة ، وغيرها .

ولا يقال : إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد; لأنا نقول : الحكم في التضمين في الأموال آخر; لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها .

والثالث : الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .

وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .

وفي الحديث : قال قد فعلت .

وقال : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

وفي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه .

وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه ، وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا ؟ فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح ، فإذا كان كذلك ظهر أن كل [ ص: 52 ] واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك ، والله أعلم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #93  
قديم 13-02-2022, 07:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (93)
صـ53 إلى صـ 63


المسألة الخامسة :

جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :

أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .

والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :

أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .

والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .

والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :

[ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .

والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :

أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .

والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .

والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .

والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :

فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .

وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :

وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .

وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .

وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .

وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .

[ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .

وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .

ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .

ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .

فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .

فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .

وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .

وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .

وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .

هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :

أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #94  
قديم 13-02-2022, 07:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (94)
صـ64 إلى صـ 85


وفي مسلم عن أبي سعيد قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل يصرف بصره يمينا ، وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .

[ ص: 64 ] وفي الحديث أيضا : إن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة ، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق ، وهو لا يقتضي استبدادا ، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع ، أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه [ ص: 65 ] ضررا ناجزا ، وإنما هو متوقع ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره ، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله : - عليه الصلاة والسلام - : المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله : المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه [ ص: 66 ] وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى ، وأسبابه ، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه ، أو أقل لخرج عن اعتداله ، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض ، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة ، وترك الفرقة ، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء ، وأشباهها مما يرجع إليها .

والوجه الثاني : الإيثار على النفس ، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين ، وإصابة لعين التوكل ، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله ، وهو من محامد الأخلاق ، وزكيات الأعمال ، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .

وقالت له خديجة : إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على [ ص: 67 ] نوائب الحق ، وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله ، فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف البشر في وجهه ، وقال : بهذا أمرت ذكره الترمذي ، وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . وهذا كثير .

[ ص: 68 ] وهكذا كان الصحابة ، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان : 8 ] ، وما جاء في الصحيح في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] ، وما روي عن عائشة ، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ ، وهو ضربان :

إيثار بالملك من المال ، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح .

[ ص: 69 ] وإيثار بالنفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت ، وهو معلوم من فعله - عليه الصلاة والسلام - ; إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه ، وهو يقول : لن تراعوا ، وهذا فعل من آثر بنفسه ، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم; إذ عزم الكفار على قتله مشهور .

[ ص: 70 ] وفي المثل السائر .


والجود بالنفس أقصى غاية الجود
، ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ يوسف : 51 ] فآثرته بالبراءة على نفسها .

قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ، ونحوه من أمور الدنيا ، وحظوظ النفس بخلاف القربات ، فإن الحق فيها لله .

وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ، ومن عمر النصف ورد أبا لبابة ، وكعب [ ص: 71 ] بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر ، وعمر . هذا ما قال .

وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي ، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس [ ص: 72 ] بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر ، وإما لأمر آخر ، أو لغير شيء فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء ، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي; لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر ، وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث ، وهو الحظ ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ . هذا تمام الكلام في القسم الرابع ، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ .

وأما القسم الخامس ، وهو أن لا يلحق الجالب ، أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران :

نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .

ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار; لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر .

وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين :

إما تقصير في النظر المأمور به ، وذلك [ ص: 73 ] ممنوع ، وإما قصد إلى نفس الإضرار ، وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدي ، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة ، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ، ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي [ ص: 74 ] صحيحا ، ويكون عاصيا بالطرف الآخر ، وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ، ومن قال : هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة .

وأما السادس ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن; لأن المصلحة إذا كانت غالبة ، فلا اعتبار بالندور في انخرامها ; إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية .

والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه ، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة ، وكذلك إعمال خبر الواحد ، [ ص: 75 ] والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب .

وأما السابع ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف ، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس ، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما ، وإن كان التخلف نادرا ؟ ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :

أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا .

والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] [ ص: 76 ] فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك ، فنزلت .

وفي الصحيح : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكف عن قتل المنافقين; لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ، ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا [ البقرة : 104 ] مع قصدهم الحسن لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله ، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه .

والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه ، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه [ ص: 77 ] فالأصل الجواز من الجلب ، أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للقصد أو مظنة للتقصير ، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه : هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا ؟ هذا نظر إثبات الحظوظ ، وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس ، فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة .

وأما الثامن ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي ، وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان; إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع ، وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة ، وغيرها عن كونها موجودة ، أو غير موجودة .

وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب ، أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن; لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما ، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا ، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه; لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في [ ص: 78 ] الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة ، وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة; لأنها مجال القصد ولهذا أصل ، وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم .

وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر ، فإنه مشروع للزجر ، والازدجار به كثير لا غالب ، فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل ، فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به ، وإيلامه ، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن ، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر ، وخرج عن [ ص: 79 ] الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع .

وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة ، فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك .

وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الخليطين ، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث ، [ ص: 80 ] وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها ، وبين - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس [ ص: 81 ] لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة ، وإن كثر وقوعها .

وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، وعن الصلاة إليها ، [ ص: 82 ] وعن الجمع بين المرأة ، وعمتها ، أو خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا [ النساء : 3 ] ، وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ، ونكاحها ، [ ص: 83 ] وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة ، وسائر دواعي النكاح ، وكذلك الطيب ، وعقد النكاح للمحرم ، [ ص: 84 ] ونهى عن البيع والسلف ، وعن هدية المديان ، وعن ميراث القاتل ، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم ، أو يومين ، وحرم صوم يوم عيد الفطر ، وندب إلى تعجيل الفطر ، وتأخير السحور [ ص: 85 ] إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة ، بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري ، أو حاجي ، أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #95  
قديم 13-02-2022, 07:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (95)
صـ86 إلى صـ 91

المسألة السادسة

كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار والدليل على ذلك أوجه :

أحدها : أن المصالح إما دينية أخروية ، وإما دنيوية ، أما الدينية ، فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها; إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد ، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها ، فإذا فرضنا أنه مكلف بها ، فقد تعينت عليه ، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا .

والثاني : أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا المكلف ولا كان مطلوبا بها ألبتة; لأن المقصود حصول المصلحة ، أو درء المفسدة ، وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين ، هذا خلف لا يصح .

والثالث : أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين ، وإما على الكفاية ، وعلى كل تقدير فغير صحيح ، أما كونه على التعيين فكما تقدم ، وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة ، وهو محال [ ص: 87 ] اللهم إلا أن تلحقه ضرورة ، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح ، أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون ، وغسل الموتى ، ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم ، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها ، فعلى هذا يقال : كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر ، فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه ، والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده ، وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] الآية .
[ ص: 88 ] المسألة السابعة

كل مكلف بمصالح غيره ، فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا ، أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها ، فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه ، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجميع ، وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف ، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح; لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وأيضا فما تقدم في المسألة قبلها جار هنا ، ومثال ذلك السيد والزوج والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد ، والزوجة والأولاد ، فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ، ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به ، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح في هذا التقرير ، وإن لم يقدر على ذلك ألبتة ، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف ، فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة ، أو عامة ، فإن كانت خاصة سقطت ، وكانت مصالحه هي المقدمة; لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم في القسم الرابع من المسألة الخامسة ، فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه ، فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا .

[ ص: 89 ] وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة ، أو تزيد عليها ، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف : لا بد لك من القيام بما يخصك ، وما يعم غيرك ، أو بما يخصك فقط ، أو بما يعم غيرك فقط والأول لا يصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق ، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا .

والثاني أيضا لا يصح; لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه ، فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع في المسألة ، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة ، فذلك واجب عليهم ، وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة ، وهو باطل بما تقدم من الأدلة ، وإذا وجب عليهم ، تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة ، وهو الثالث من الأقسام المفروضة .
فصل

إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر .

[ ص: 90 ] وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح; إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت ، وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين; إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم ، وضرر على المقوم لهم .

أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات ، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول .

وقالت جماعة : إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك ، وأصله قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة ، وما ذاك إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه ، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب ، هذا وجه ، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام - أن يأخذوا من [ ص: 91 ] الخصمين ، أو من أحدهما أجرة على فصل

الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها - عليه الصلاة والسلام - من الغلول الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب .

وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين ، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت ، أو في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب ، أو على الأموال ، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها; إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر [ الشعراء : 109 ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ سبأ : 47 ] قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ]

إلى سائر ما في هذا المعنى ، وبالوجه الآخر علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين ، وهذا كله في غاية الظهور ، والله أعلم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #96  
قديم 13-02-2022, 07:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (96)
صـ92 إلى صـ 100

فصل

[ ص: 92 ] هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ، ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره .

فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره ، فهي مسألة الترس ، وما أشبهها فيجري فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا ، وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه ، فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف .

وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ ، فقد يترجح جانب المصلحة العامة ، ويدل عليه أمران :

أحدهما : قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها ، فمثل هذا داخل تحت حكمها .

والثاني : ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وقوله نحري دون نحرك ، ووقايته له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في [ ص: 93 ] مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به ، فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر; لأنه كان كالجنة للمسلمين .

وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين ، وأهله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عدمه فتعم مفسدته الدين ، وأهله ، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدم إلى السياف ، وقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة . في القصة المشهورة .

[ ص: 94 ] وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا ، فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا ، أو لا .

فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير; لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا; لأن الحرج ، وتكليف ما لا يطاق مرفوع ، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع .

وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كمالا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات ، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه ، وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه ، وينظر فيها بحكم الغلبة ، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش ، وهو في الصلاة ، ومن نحو هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني [ ص: 95 ] لأسمع بكاء الصبي الحديث ، وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع ، فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه ، وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا ، كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب ، وحب الرياسة ، وكذلك السلطان ، أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به ، أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ؟ فالقول هنا بتقديم العموم أولى; لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه ، أو ما يشق عليه ، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات; لأنها مجرد ترك ، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله ، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب ، وهو يسير ، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه ، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر; لأنه أمر قد تعين عليه ، فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى; إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة ، أو الجهاد عينا ، أو الزكاة ، فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب ، وما أشبه ذلك ، وإن فرض أنه يقع به ، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع .

فإن قيل : كيف هذا ، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك ، فصار كالمتسبب [ ص: 96 ] لنفسه في الهلكة ، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه ؟

فالجواب : أنه لو كان كذلك ، وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات ، وذلك باطل باتفاق .

نعم ، قد يقال : إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم ، أو غصب ، أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة ، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف ، وإنما حاصل هذا أنه واقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته ، وهو على تلك الحال .

وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها ، فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض ، وقد يرجح جانب المصلحة العامة ، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء ، فلا ينحتم عليه طلب ، وبين من له قوة في إقامة المصلحة ، وغناء ليس لغيره ، وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم ، أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة ، فما رجح منها غلب ، وإن استويا كان محل إشكال ، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة ، أو مساوية .
فصل

وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة ، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع .

حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة [ ص: 97 ] فلما وصل كتابه إليهما قال : الشيخ ابن مجاهد ، وبعض أصحابه : هؤلاء قوم كفرة فسقة; لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال : إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصا لله لنهضت .

قال القاضي ابن الطيب : فقلت لهم : كذا قال المحاسبي ، وفلان ، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق لا نحضر مجلسه ، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر ، وتبين له ما هم عليه بالحجة ، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ، ويقولوا بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وها أنا خارج إن لم تخرج ، فقال الشيخ : إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج . إلى آخر الحكاية .

فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد ، فلا يكون لها اعتبار ، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد ، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 98 ] المسألة الثامنة

التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد; لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد; إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه ، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد ، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية ، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها ، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد .

وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر ، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي; إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا : لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم ، فإذا لم يثبت الحصر ، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره .

والثاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه ، أو لم [ ص: 99 ] يطلع عليه ، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد ، والقصد إليه في التعبد ، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد ، فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر ، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد ، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق ، أو الوجاهة عنده ، أو نيل شيء من الدنيا ، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر ، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه ، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد .

والثالث : أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة ، أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم .

أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ، ومملوكا ملبيا; إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر .

وأيضا فإنه لما امتثل الأمر ، فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة ، وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض ، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض .

[ ص: 100 ] وأما كونه أسلم ؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة ، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد ، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح ، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ، ومصالحهم ، وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه ، وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي ، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل ، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #97  
قديم 13-02-2022, 07:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (97)
صـ101 إلى صـ 119

المسألة التاسعة

كل ما كان من حقوق الله ، فلا خيرة فيه للمكلف على حال ، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة .

أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة ، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد ، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس ، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى ، أو حق الغير من العباد ، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان .

جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت ، أو صلاة من الصلوات المفروضات ، أو زكاة ، أو صوما ، أو حجا ، أو غير ذلك لم يكن له ذلك ، وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها ، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلا من غير ذكاة ، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك ، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق ، أو الربا ، أو سائر البيوع الفاسدة ، أو إسقاط حد الزنا ، أو الخمر ، أو الحرابة ، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه ، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه ، وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله ، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله .

[ ص: 102 ] فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا : إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده ، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا ، فإن قلت : لا ، وهو الفقه كان نقضا لما أصلت; لأنه حقه ، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه ، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك ، وإن قلت نعم خالفت الشرع; إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله ، فقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ثم توعد عليه ، وقال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية .

وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه ، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة ، وحجر على مبذر المال ، ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن إضاعة المال ، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة; لأنا نجيب بأن إحياء النفوس ، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد ، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك ، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه ، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به ، فلا يصح للعبد إسقاطه ، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه ، وفات بسبب [ ص: 103 ] ذلك نفسه ، أو عقله ، أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد; إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه; لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون ، فإن شاء استوفاه ، وإن شاء تركه ، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ]

وقال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] ، وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه ، أو جسده ، فإن حق الله قد فات ولا جبر له ، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات ، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب ، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه ، وقد قال تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [ البقرة : 280 ] بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه ، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع ، فلا ، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب .

وأما تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وما أشبهه فمن حق الله تعالى; لأنه تشريع مبتدأ ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم; إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به ، أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة .

فإن قيل : فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به ، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه ، [ ص: 104 ] فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا ، فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد .

فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم; لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل ، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب ، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق .

فأما ما هو لله صرفا ، فلا مقال فيه للعبد ، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جهة أنه مستقل بالاختيار ، وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها مما هو حلال له ، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق .

فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من [ ص: 105 ] غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات ، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 106 ] المسألة العاشرة

التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر ، أو غير سائغ على إسقاط حكم ، أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط ، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين :

إحداهما : قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر .

والأخرى : جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان - وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا ؟

وهو محل يجب الاعتناء به ، وقبل النظر في الصحة ، أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال .

وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء ، وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج ، وأشباه ذلك ، [ ص: 107 ] وكما حرم الزنا والربا والقتل ، ونحوها ، وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب ، وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك ، وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب ، أو المسروق ، وما أشبه ذلك ، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه ، أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر ، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا .

فهذا التسبب يسمى حيلة ، وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر ، أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها ، وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة ، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل ، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه ، أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج ، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها ، وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك ، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها ، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة [ ص: 108 ] ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل ، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح ، وحفر البئر ، ونحو ذلك ، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال ، أو إتلافه ، أو جمع متفرقه ، أو تفريق مجتمعه ، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام ، وإسقاط الواجب ، ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج ، أو الضرة لتحرم عليه ، أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين .

وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع .
[ ص: 109 ] المسألة الحادية عشرة

الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة ، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة ، لكن في خصوصيات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع .

فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر [ البقرة : 8 ] إلى آخر الآيات .

فذمهم ، وتوعدهم ، وشنع عليهم ، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم ، وأموالهم لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار ، وتصديق قلبي ، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار ، وقيل فيهم : إنهم يخادعون الله والذين آمنوا [ البقرة : 9 ] .

وقالوا عن أنفسهم : إنما نحن مستهزئون [ البقرة : 14 ] لأنهم تحيلوا بملابسة الدين ، وأهله إلى أغراضهم الفاسدة .

وقال تعالى في المرائين بأعمالهم : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب [ البقرة : 264 ] الآية .

وقال : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ النساء : 38 ] .

وقال : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142 ] فذم ، [ ص: 110 ] وتوعد; لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه ، وقال تعالى في أصحاب الجنة : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 17 - 20 ] لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم .

وقال : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] الآية ، وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره .

وقال تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها [ ص: 111 ] بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ، ثم يرتجعها ، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة ، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها .

وقد جاء في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة : 228 ] إلى قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] أن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ، ثم يطلقها ، ثم يرتجعها كذلك قصدا .

فنزلت الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] ، ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه .

وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله ، وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث ، أو يوصي لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة .

وقال تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ النساء : 6 ] ، وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [ النساء : 19 ] الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .

[ ص: 112 ] ومن الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب ، أو تقليله .

وقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل .

وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن تسبق فهو قمار .

وقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ، وأكلوا أثمانها .

[ ص: 113 ] وقال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير .

ويروى موقوفا على ابن عباس ، ومرفوعا : " يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت [ ص: 114 ] بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع " .

وقال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .

[ ص: 115 ] [ ص: 116 ] وقال : لعن الله المحلل والمحلل له .

وقال : لعن الله الراشي والمرتشي .

[ ص: 117 ] ونهى عن هدية المديان فقال : إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه ، أو حمله على الدابة ، فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه ، وبينه قبل ذلك .

[ ص: 118 ] وقال : القاتل لا يرث .

وجعل هدايا الأمراء غلولا ، ونهى عن البيع والسلف .

وقالت عائشة : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] إن لم يتب .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز ، وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #98  
قديم 13-02-2022, 07:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (98)
صـ120 إلى صـ 132

المسألة الثانية عشرة

لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .

فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .

فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .

وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .

أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 124 ] فصل

فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها ، وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا ، وناقض مصلحة شرعية .

فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة ، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام :

أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .

والثاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها ، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك ، إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق ، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق; إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع ، فكان باطلا ، ومن هنا جاء في ذم النفاق ، وأهله ما جاء .

وهكذا سائر ما يجري مجراه ، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع .

[ ص: 125 ] وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض ، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول ، أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه .

فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه ، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز ، أو مخالف فالتحيل ممنوع ، ولا يصح أن يقال : إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع ، بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه ; لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى ، وعلماء الدين نفعنا الله بهم .

كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها ، وبالله التوفيق .

فمن ذلك نكاح المحلل ، فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، فقد نكحت المرأة هذا المحلل ، فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده ، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية .

وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك [ ص: 126 ] ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني : ذوق العسيلة ، وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه - عليه الصلاة والسلام - ولأن كونه حيلة لا يمنعها ، وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه ، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق ، فإذا ثبت هذا ، وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع .

وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة; لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين; إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد ; لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق ، وهو كنكاح النصارى ، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة ، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك .

وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة ، فهي طالق على رأي مالك فيهما ، وفي نكاح المسافر ، وغير ذلك .

هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال : بجواز الاحتيال هنا ، وأما تقرير [ ص: 127 ] الدليل على المنع فأظهر ، فلا نطول بذكره ، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة ، فإليك النظر فيه .

ومن ذلك مسائل بيوع الآجال ، فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل ، لكن بعقدين ، كل واحد منهما مقصود في نفسه ، وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع ; لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ، ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة ، فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح ، وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة ، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد ، وإنما مقصوده الثاني ، فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل ، وهذا منها ، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه ، وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق ، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل ، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل ، [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه في قوله - عليه الصلاة والسلام - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع ، لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد ، وعاقدين; إذ لم يفصل النبي - عليه الصلاة والسلام - .

وقول القائل : إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا ، [ ص: 131 ] فإن الذرائع على ثلاثة أقسام :

منها ما يسد باتفاق ، كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى ، وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب ، فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه ، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها ، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها .

ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه ، أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده ، بل كسائر التجارات ، فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها .

ومنها ما هو مختلف فيه ، ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه .

وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة ، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها ، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله; إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب ، وكذلك كتب الشافعية ، وغيرهم من أهل المذاهب ، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا ، وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم ، وتقدمهم في [ ص: 132 ] الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع ، وفهم أغراضه ، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #99  
قديم 13-02-2022, 07:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (99)
صـ133 إلى صـ 142

فصل

هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا ، وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير ، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان ، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله ، فإن للقائل أن يقول : إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع ، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له ؟

والجواب : أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يقال : إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي ، إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال ، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح ، وإن وقعت في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام ، أو غير معروف [ ص: 133 ] ألبتة ، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس ، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا ، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله ، فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا .

والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان :

الأول : دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها ، وإنما المقصود أمر آخر وراءه ، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع ، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة ، وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء .

فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول ، وهو الضرب الثاني ، بأن يقال : إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق ، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح ، وقدم المعنى النظري ، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق ، أو على عدم الوجوب ، لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية ، وهو رأي المتعمقين [ ص: 134 ] في القياس المقدمين له على النصوص ، وهذا في طرف آخر من القسم الأول .

والثالث : أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع .

فنقول ، وبالله التوفيق : إنه يعرف من جهات : إحداها :

مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي ، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل ، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع ، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل ، أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له ، وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده ، فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح ، وهو الأصل الشرعي .

وإنما قيد بالابتدائي تحرزا من الأمر ، أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني .

فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا والزنا مثلا ، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به ، وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في [ ص: 135 ] الدار المغصوبة .

وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر ، أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء ، فإن النهي والأمر ها هنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول; إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر ، أو النهي المصرح به .

فأما إن قيل بالنفي فالأمر أوضح في عدم القصد ، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به ، المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به .

فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي .

والثانية : اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر ؟

والعلة إما أن تكون معلومة أو لا ، فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد ، أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الازدجار ، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه ، فإذا تعينت علم أن [ ص: 136 ] مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل ، أو عدمه ، ومن التسبب ، أو عدمه ، وإن كانت غير معلومة ، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا ، وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر .

أحدهما : أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين ، أو السبب المعين; لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل ، وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا; لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل .

والثاني : أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي; لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي; إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ، ووضع له مسلكا ، ومسالك العلة معروفة ، وقد خبر بها محل الحكم ، فلم توجد له علة [ ص: 137 ] يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع .

فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا; إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ، ويمكن أن لا يكون مقصودا له ، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ، ويحكم به علما ، أو ظنا بأنه غير مقصود له; إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود ، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ، ثم يطلع بعد على دليل ينسخ جزمه إلى خلافه .

فإن قيل : فهما مسلكان متعارضان; لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه ، وهما في النظر سواء ، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما ، فلا يبقى إلا التوقف ، وحده فكيف يتجهان معا ؟

فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل ، فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين ، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين ، أو مجتهد واحد في وقتين ، أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ، ومسلك النفي في مسألة أخرى ، فلا تعارض على الإطلاق .

[ ص: 138 ] وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات ، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد ، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق ، وفي رفع الأحداث النية ، وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه ، أو ما ماثله .

وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه : إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك ، وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه ، وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ، ومسلك التوقف متمكن في العادات .

وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الحنفية ، والتعبدات في باب العادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما [ ص: 139 ] تقدم ، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة .

والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

مثال ذلك : النكاح ، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ، ويليه طلب السكن والازدواج ، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه ، وعلى أولاده منها ، أو من غيرها ، أو إخوته ، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين ، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد ، وما أشبه ذلك ، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح ، فمنه منصوص عليه ، أو مشار إليه ، ومنه ما علم بدليل آخر ، ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص ، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ، ومقو لحكمته ، ومستدع لطلبه ، وإدامته ، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل ، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ، ومواصلة أرفع البيوتات ، وما أشبه ذلك ، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ ، وأن قصد التسبب له حسن .

وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق [ ص: 140 ] من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا ، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط; إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق ، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل ، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك .

وهكذا العبادات ، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود ، وإفراده بالقصد إليه على كل حال ، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة ، أو ليكون من أولياء الله تعالى ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول ، وباعثة عليه ، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم ، أو لينال من أوساخ الناس ، أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين ، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام ، بل هو مقو للترك ، ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه ، فإن بعد عليه تركه ، قال الله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] الآية .

فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله ، وإن كان [ ص: 141 ] مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد ، فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد ، يحصل له حفظ الدم والمال ، ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام ، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع .

فإن قيل : هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفى فيها بكونها لا تقتضي الموافقة ؟

وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا ، فلا يصح; لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة ، أو لأخذ مالها ، أو ليوقع بها ، وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة - مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي المخالفة عينا; إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح ، أو الحكم على الزوج ، أو زوال ذلك الخاطر السببي ، وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا .

فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها ، وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا ، فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد ، وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر ، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد ، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة ، وكنكاح التحليل عند من يصححه ، فإن هنا وجهين من النظر ، فإن القصد ، وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة ، فمن ترجح عنده جانب [ ص: 142 ] عدم الموافقة منع ، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ، ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة ، فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع .

فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه ، وهو في البقاء ، أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق فمن اعتبر هذا المقدار منع ، ومن لم يعتبره أجاز .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #100  
قديم 13-02-2022, 07:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (100)
صـ143 إلى صـ 152

فصل

وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا .

أما في العادات فهو ظاهر ، وقد مر منه أمثلة ، وأما في العبادات ، فقد ثبت ذلك فيها .

فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه ، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه ، وتذكير النفس بالذكر له ، قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] .

وفي الحديث : إن المصلي يناجي ربه .

ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها [ ص: 143 ] من أنكاد الدنيا ، في الخبر أرحنا بها يا بلال ، وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وطلب الرزق بها قال الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

وفي الحديث تفسير هذا المعنى ، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة ، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهي الفائدة العامة الخاصة ، وكون المصلي في خفارة الله .

في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ، ونيل أشرف المنازل قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود .

وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة ، في الحديث : من استطاع منكم الباءة فليتزوج .

ثم قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء [ ص: 144 ] وقال : الصيام جنة ، وقال : ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .

وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية ، وهي العامة ، وفوائد دنيوية ، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية ، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم ، وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها ، وسواها ، وهي تابعة فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم .

فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام ، أو الخاص ، وضده كطلب المال والجاه ، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي ، بل هو على خلاف ذلك .

والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام ، وسائر [ ص: 145 ] ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ ، وينبغي تحقيق النظر فيها ، وفي الثاني : المقتضي لعدم التأكد ، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا ، وما لا يقتضيه عينا .

وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع ، وحلى يحليه بها ، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته; كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب; لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له ، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء ، فقد مر الكلام عليه ، ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد ، أو يعظم ، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم .

وأيضا فإن عمله على غير أصالة; إذ لا إخلاص فيه فهو عبث ، وإن فرض خالصا لله ، لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله ، بل هو مقو لترك الإخلاص .

اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء ، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس ، فلا إشكال في صحة هذا ، فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ، ومقو له ، وأصله قول الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] .

[ ص: 146 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية .

فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله ، وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي ، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته ، وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه ، وعدم من يقوم ذلك المقام ، فلا بأس به عندهما; لأنه قائم بما أمر به ، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس ، أو الإمامة ، أو نحو ذلك ، فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة; لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة .

ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية ، أو العلم ، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ، ودليل الجواز قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] ، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا ، وكذا .

[ ص: 147 ] وانظر في مسألة العتبية ترى أن اختلاف مالك ، وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين .

ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة ، وخوارق العادات ، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية ، وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول : إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز ، وسائغ; لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية ، وأن يكون من خواص الله ، ومن المصطفين من الناس ، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق .

وقد يقال : إنه خارج عن نمط ما تقدم ، فإنه تخرص على علم الغيب ، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك ، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة; لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11 ] .

كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة ، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين ، وقد روي أن [ ص: 148 ] بعض الناس سمع بحديث : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له [ ص: 149 ] بابها ، فبلغت القصة بعض الفضلاء ، فقال : هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله ، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ، ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور ، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه .

وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ، ثم يصير إلى حالته الأولى ؟ فنزلت : [ ص: 150 ] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال; لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه .

ولا يقال : إن المعرفة بالله ، وبصفاته ، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ، ومن جملتها العوالم الروحانية ، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى; لأنا نقول : إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات ، وما في عالم الشهادة كاف ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل ، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، فإن الجواب عن ذلك من وجوه :

أحدها : أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه ، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء ، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية ، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله ، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه ، فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل [ ص: 151 ] لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد ، فكيف يجعلان مثلين ؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل .

والثاني : أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات ، وأذل المخلوقات ، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه ، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [ الأعراف : 185 ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت [ الغاشية : 17 - 18 ] إلى آخرها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 241.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 235.06 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.52%)]