|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#91
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (91) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة الحادية عشرة: ومِن أدلة العذر بالجهل في التكفير والتعذيب: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ -وَكَانُوا أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ-، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، اجعل لنا ذات أنواط كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ! قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف: 138)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وهذا الحديث دليل ظاهر على عدم تكفير مَن وقع في شركٍ جاهلًا، وقد أقسم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن طلبهم كطلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً)، ولا نزاع أن طلبَ عبادة غير الله شركٌ أكبر ناقلٌ عن الملة، وقد بَيَّن أبو واقد الليثي رضي الله عنه سببَ قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ"، والذي غضب منه النبي صلى الله عليه وسلم وغَلَّظ عليهم فيه، وهو: أنهم حدثاء عهد بشرك، وهذا مظنة الجهل وعدم العِلْم؛ فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم لم يقولوا ذلك، ولا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشرك. وقد اختلف العلماء في هذا الحديث؛ هل ما وَقَع منهم هو مِن الشرك الأصغر أم من الأكبر، وقد ذَهَب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "كتاب التوحيد" إلى أنه مِن الشرك الأصغر، وذهب في "كشف الشبهات" إلى أنه من الشرك الأكبر، ولكن مَنَع مِن تكفيرهم: "الجهل"؛ فقال في فوائد هذا الحديث في "كشف الشبهات": "وفيه: أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في شيء مِن الشرك، وهو لا يدري؛ فإذا نُبِّه وتاب مِن ساعته لم يكفر"، وهذا ترجيح الشيخ حامد الفقي رحمه الله في أن هذا مِن الشرك الأكبر، ومنع مِن تكفيرهم: أنهم حدثاء عهد بشرك؛ أي: الجهل هو المانع. وهذا ظاهر الحديث، ولأنهم طَلَبوا ما يفعله المشركون، والمشركون إنما يتبرَّكون بها التبرك الشركي، وظاهر سؤالهم مثل سؤال المشركين، وعليه قَسَمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه مِثْلُ قولِ بني إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ). وعلى أي حال؛ فإذا ثَبَت العذر بالجهل في مسائل من التوحيد، ولو كانت من باب الشرك الأصغر -مع أن هذا خلاف الظاهر-؛ فهي دليل على العذر بالجهل عمومًا، فيدخل في ذلك مسائل الشرك الأكبر أيضًا، كما فَهِم العلماء ذلك. ومن النُّقُول في ذلك: قول الإمام الشافعي رحمه الله: "لله تعالى أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدًا مِن خلق الله قامت عليه الحجة ردُّها؛ لأن القرآن نَزَل بها، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القولُ بها فيما رَوَى عنه العدول؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه؛ فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدرَك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نَفَى عن نفسه، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)" (نَقَل هذا القول عنه ابن حجر في "فتح الباري، 13 /407"). وقال الإمام الخطابي رحمه الله -بعد أن ذكر أن مانعي الزكاة على الحقيقة أهلُ بغي-: "فإن قيل: كيف تأولتَ أمرَ الطائفة التي مَنَعَت الزكاة على الوجه الذي ذكرت، وجعلتهم أهل بغي، وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرضَ الزكاة، وامتنعوا عن أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا؛ فإن مَن أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عُذِروا لأسبابٍ وأمورٍ لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها: قُرْب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها: أن القومَ كانوا جهالًا بأمور الدِّين، وكان عهدهم بالإسلام قريبًا فدخلتهم الشبهة فَعُذِروا. وأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين عِلْم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل؛ فلا يعذر أحدٌ بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كلِّ مَن أنكر شيئًا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدِّين إذا كان علمه منتشرًا: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريمِ: الزنا، والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام؛ إلا أن يكونَ رجلًا حديثَ عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئًا منها جهلًا به لم يُكفَّر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدِّين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة: كتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدًا لا يرث، وأن للجدة السدس، وما شابه ذلك من الأحكام؛ فإن مَن أنكرها لا يكفر، بل يُعذَر فيها؛ لعدم استفاضة علمها في العامة" (نقله النووي في شرح مسلم، 1 /205). أقول: قتال مانعي الزكاة وإن كان عند الجمهور قتالَ أهل بغي؛ إلا أنهم يفارقون مَن خَرَجوا على الإمام بتأويل سائغ؛ فإن مانعي الزكاة قد قَصَّروا في طلب العلم، وليس امتناعهم مِن أداء الزكاة لأبي بكر والخروج عليه كأهل الجمل وصفين، ولا شك في ذمِّ مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج؛ فهم فُسَّاق وأهل بهت مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأما أهل الجمل وصفين وكلُّ مَن يخرج على الإمام بتأويل سائغ؛ فإنه لا يُفسَّق، ولا يجوز قتاله حتى يُسعى في الصلح؛ فإن أصرَّ على بغيه قُوتِل، فإذا انتهى القتال وَجَب الإصلاح؛ لقول الله عز وجل: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 9-10). ولا شك أن مانعي الزكاة والخوارج لم يذكرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِن بعده بلفظ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: (كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (متفق عليه)؛ فرغم أننا لا نكفِّرهم وهو قول جماهير العلماء إلا أنهم قوم بهت فساق مبتدعون، يستحقون العقوبة في الدنيا والآخرة. ولكلام الإمام الخطابي رحمه الله فوائد أخرى، نذكرها في المقال القادم إن شاء الله.
__________________
|
#92
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (92) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (12) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة الثانية عشرة: مِن فوائد كلام الإمام الخطابي رحمه الله في مانعي الزكاة: أولًا: أحكام الشريعة تتفاوت مِن زمن إلى زمن، ومن قوم إلى قوم حسب الظهور والخفاء، فليست كلُّ أحكام الشريعة بمنزلة واحدة في كل زمن كلها ظاهرة، أو هناك منها أمور خفية، والعبرة في هذا بانتشار العلم واستفاضته في العامة، فكما كان علم وجوب الزكاة ليس منتشرًا في زمن مانعي الزكاة وقتالهم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، والآن سار منتشرًا فهناك أمور كانت منتشرة في ذلك العهد ولم تعد منتشرة في زماننا، وبناءً على ذلك: فمَن يزعم أن العذر بالجهل يكون في الأمور الخفية فقط، كبعض مسائل الفروع دون مسائل التوحيد، ولو أقرَّ بأنها الآن غير منتشرة على الأقل في كثيرٍ من أقطار المسلمين، وأن الضلالات والبدع والشركيات هي المنتشرة؛ فقد أخطأ خطأ بينًا، ولو كان منتسبًا إلى العلم والسُّنَّة. ثانيًا: الأمور المجمع عليها نوعان: أحدهما: ما انتشر علمه في الأمة، وهو الذي لا يعذر أحدٌ بتـأويل فيه، ولا يُقبل ادعاؤه الجهل به إلا بقرينة تدل على ذلك. النوع الثاني: ما لم ينتشر علمه بين عامة المسلمين، وإنما يعرفه العلماء، فيعذر المخالف فيه في عدم التكفير لا في استحقاق العقوبة؛ لأن مانعي الزكاة الموصوف حالهم عُذِروا في عدم التكفير، وهم مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بالقتال، وفي الآخرة بعقاب الله عز وجل لهم بما شاء، وإن كان معهم أصل الدِّين والإيمان فلا يخلدون في النار، على الصحيح الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جماهير الأمة. وسبب عقابهم في الدنيا والآخرة: تقصيرهم في طلب العلم الواجب عليهم، وعدم رجوعهم إلى العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا شأن كل متمكِّن من طلب العلم فلم يطلبه وقصَّر في ذلك، وخالف في أمرٍ هو مقطوع به في الدِّين، ومجمع عليه، لكنه لم يصله علمه ولم تقم عليه الحجة؛ فهو آثم بتقصيره في طلب العلم وإن لم يكن خارجًا من الملة بترك طلب العلم، وإنما الإعراض المكفِّر إذا قامت عليه الحجة؛ فسد أذنيه، وأعمى قلبه؛ لأنه لا يريد أن يسمعه من فلان أو فلان، مع أن الذي يقيم عليه الحجةَ عَالِمٌ بها يبيِّن له البيِّنات من نصوص الكتاب والسنة. وقد أخطأ خطأ بيِّنًا مَن جعل المتمكِّن من طلب العلم لا عُذْر له في التكفير، كما قاله بعض المعاصرين مِن المتكلمين والقائلين بالعذر بالجهل، لكن يجعلونه فيمَن لم يتمكَّن من طلب العلم، وبعض المشايخ يكفِّرون مَن يقعون في الشرك في بلادٍ كثيرةٍ بوجود بعض الدُّعَاة، وأنهم لو سألوا بعض الدعاة لأجابوهم! فإذ لم يسألوهم وظلوا على حالهم مِن اتباع علماء السوء، وأحبار السوء الذين يزيِّنون لهم الشرك؛ فزعم أنهم غير معذورين! وهذا القول غير سديد؛ فالخوارج قد كانوا مستحقين للعقوبة في الدنيا والآخرة، وهم كلاب النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه هو الذي ناظرهم، ثم ابن عباس رضي الله عنهما، ومع ذلك فلم يكفِّرهم علي رضي الله عنه، وسلوكه مع الخوارج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية يدل على أنه لم يكن يكفرهم، بل قال مِن الكفر فروا، وإن كانوا مستحقين للعقوبة؛ لعدم رجوعهم إلى أهل العلم وسؤالهم إياهم، مع أن الأقوال التي قالها الخوارج هي في الحقيقة هي أقوال كفرية، لكن المُعَيَّن الجاهل أو المتأول لا يُكفَّر عند الصحابة ومَن بعدهم مِن أئمة العلم، كما نقلنا كلام الخطابي عن مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج، وكذلك الرافضة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ إلا الغلاة منهم؛ فإنهم مخالفون للمعلوم من الدِّين بالضرورة، بوحدانية الله وإلهيته وعدم إلهية أحدٍ من البشر، أو نبوة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا عيسى ابن مريم عليه السلام. فقد روى البخاري معلقًا في كتاب الحدود في باب: "هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبًا عنه": أن رجلًا زنا بجارية امرأته فجلده عمر ولم يرجمه؛ فدلَّ هذا دلالة واضحة على استحقاقه العقوبة؛ لتقصيره في طلب العلم، لكنه ليس كافرًا إذ جهل أن إحلال امرأته جاريته له وهي على ملكها لا يحلها له، فمنع إقامة حدِّ الزنا وهو محصن لأجل الجهل، وجلده مائة، وهذا فيمَن كان جاهلًا بحرمة الزنا بهذه الطريقة، وليس جاهلًا قدر العقوبة كماعز، فإن ماعزًا كان جاهلًا بقدر الحد، وظن أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لن يقتله، وقال: "يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي غروني، وقالوا: إن رسول الله ليس بقاتلك"، لكنه كان يعلم الزنا وحرمته، فقال: "أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا". ثالثًا: الأصل فيما انتشر علمه بين المسلمين تكفير منكره؛ إلا أن تدل القرينة على عدم علمه، مثل أن يكون نشأ ببادية بعيدة أو بلاد لم ينتشر فيها العلم، وليس المقصود بالبادية الحصر، بل كل بلد لم ينتشر فيها العلم فيه بمسألة معينة فلا يكفَّر منكرها، وكذلك إذا كانت هناك قرينة قُرب العهد بالإسلام، وكذلك قرينة انتشار البدع والضلالات في بلاد نشأ الناس فيها عليها ولا يعرفون الحق الذي يناقض ما هم عليه؛ فهؤلاء لا يُكفَّرون قبل قيام الحجة. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: "لا خلاف بين أهل العلم في كفر مَن تركها -أي: الصلاة- جاحدًا لوجوبها إذا كان ممَّن لا يجهل مثلُه ذلك" (قلتُ: وهذا هو المهم في هذه المسألة؛ أن يكون مثله يجهل ذلك أم لا، ولم يقل: إذا كان ممَّن لا يجهل هو ذلك؛ وذلك لأن مَن تأول في المعلوم من الدِّين بالضرورة تأويلًا لا يُقبل؛ لأن مثله لا يجهل ذلك، لا يكون معذورًا). فإن كان ممَّن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يُحكم بكفره، وعرِّف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر، وإما إذا كان الجاحد ناشئًا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفَّر بمجرد جحدها" (انتهى من المغني لابن قدامة، 10/ 82). ونحب أن ننبِّه هنا: على أن مَن أنكر وجوبَ الصلوات الخمس، وقال بوجوب صلاتين فقط في اليوم اعتمادًا على إنكار السُّنَّة؛ فهو كافرٌ بلا نزاعٍ بين أهل العلم.
__________________
|
#93
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (93) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (13) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية؛ إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَن خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "لكن ليس كلُّ مَن تكلَّم بالكفر يكفر حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذٍ" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "وليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "وإذا عرف هذا؛ فتفكير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يثبت بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "فإن هذا فيه تعطيل صفات الخالق وجحد كماله، ما هو مِن أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذين كفَّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا، وإن كان الواحد المعين لا يكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "ومَن قال: إن لقول هؤلاء سرًّا خفيًّا وباطنَ حقٍّ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق؛ فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال؛ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يُعَرَّف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وَجَب قتله" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا: "ونحن نعلم بالضرورة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا من الأحياء والأموات، ولا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم؛ لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبيَّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم" (مجموع الفتاوى). ومما ذكر رحمه الله تعالى في معرض جوابه عن السؤال التالي: ما تقول السادة العلماء أئمة الدِّين رضي الله عنهم أجمعين، في قوم يعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طوال الليل، ويتخذون لها مواسم يقدِمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور ويصلون عندها. قوله: "الحمد لله رب العالمين، مَن استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج، فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيدي فلان، يَستوحِيْه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره، وغير ذلك من حاجاته؛ فإن هذا ضال جاهل مشرك عاصٍ لله باتفاق المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يطلب منه شيء؛ سواء كان نبيًّا، أو شيخًا، أو غير ذلك... وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينتهِ، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يُصلَّ عليه، وأما إن كان جاهلًا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولا سيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومَن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة؛ فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر. والواجب على المسلمين عمومًا، وعلى ولاة الأمور خصوصًا: النهي عن هذه الأمور، والزجر عنها بكلِّ طريق، وعقوبة مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبة الشرعية. والله أعلم" (جامع المسائل). وقال رحمه الله تعالى: "ومنهم مَن يطلب مِن الميت ما يطلب مِن الله فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك مَن عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنه مِن الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر مَن لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15). وقال: "كذلك مَن دعا غير الله وحج إلى غير الله؛ هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقرَّبون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرَّم، فكثير مِن أنواع الشرك قد يخفى على بعض مَن دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة، قال تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)". وقال رحمه الله: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة! ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيُطلَق القول بتكفير القائل كما قال السلف: مَن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومَن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة" (مجموع الفتاوى). وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
#94
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (94) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (14) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165). نُقُول أهل العلم في شروط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير المعين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قَدَر على معرفته، لكنه لم يقدر؛ فهذا كالمجتهدين في جهة الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي، لكنها من جنس المأمور به، مثل مَن صلَّى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل: صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلاهما. ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح، كما جوزها ابن المبارك، وغير ذلك -(قلتُ: أما صلاة التسابيح؛ فقد صحح أحاديثها جماعة من العلماء، وهي ليست في الضَّعْف مثل: ألفية نصف شعبان وأول رجب؛ فإنها موضوعة بلا شك، أما صلاة التسابيح فحديثها حسنة، وإن كان غيرها أولى منها إذا كان فيها تطويل للقراءة، وأما مَن لا يحسن تطويل القراءة؛ فصلاة التسابيح مشروعة له)-. قال: فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أُثِيب على ذلك، وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تُتخذ شعارًا، ويُجتمع عليها كل عام؛ فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديثٍ لم يكن له ذلك، لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك؛ فهذا يغفر له خطؤه ويُثَاب على جنس المشروع، وكذلك مَن صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي، بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15)، لكنه وإن كان لا يعذب؛ فإن هذا لا يُثَاب، بل هذا كما قال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان: 23)، قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عُمِلَت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تُقبَل. وقال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم: 18). فهؤلاء أعمالهم باطله لا ثواب فيها، وإذا نهاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها فلم ينتهوا عُوقِبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها؛ فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها؛ فلا بد أن يُنهَى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت مِن جنس المشروع فإنه يُثَاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسَب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلًا شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه؛ لأنهم رأوه ينفع أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون، وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال" (مجموع الفتاوى، 20 / 32-32). (قلتُ: ومعنى قوله: "قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم"؛ يعني بذلك أن أهل الكتاب مع كفرهم أرجح من عُبَّاد الأوثان، وكلهم من جنس واحد في الشرك، لكن الذين يقرون بالوحدانية في الجملة وبالنبوة والكتب المنزَّلة، أرجح من جنسهم، وأهون شرًّا منهم). وقال -رحمه الله-: "ومَن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر، إذا قامتْ عليه الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى 1 /112). وقال -رحمه الله-: "وهكذا الأقوال التي يُكفَّر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن مِن فهمها، وقد يكون قد عَرَضَت لها شبهات يعذره الله بها، فمَن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان؛ سواء كان في المسائل النظرية أو العملية؛ هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفَّر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفَّر بإنكارها؛ فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم مِن أهل البدع وعنهم تلقَّاه مَن ذكره مِن الفقهاء في كتبهم" (مجموع الفتاوى 23/ 346). قلتُ: (وهذا النقل والذي قبله واضح تمام الوضوح في بيان أن العذر بالجهل في أحكام الدنيا كما هو في أحكام الآخرة؛ فهو يتكلم عن التكفير وعن العقوبة في الآخرة، وفي هذا الرد الواضح على مَن يزعمون أن العذر بالجهل يكون في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا، فيحكمون على مَن نطق الشهادتين أو وُلِد مسلمًا وثَبَت له الإسلام ووقع في أشياء من الشرك جاهلًا بأنه كافر في الدنيا ويعامل كالكفار، ويكون في أحكام الآخرة معذورًا ممتحنًا فهذا الكلام باطل يخالف ما نَصَّ عليه شيخُ الإسلام بناءً على ما ثَبَت من الأدلة التي سبق أن ذكرناها في أول هذه المسائل. ثم هو ينص على أن بدعة تقسيم المسائل في قضية العذر بالجهل وإقامة الحجة، إلى مسائل أصول ومسائل فروع، كما يقوله بعض أهل زماننا مِن أن مسائل الشرك لا يُعذَر فيها بالجهل ولو ثبت أنه لم تقم عليه الحجة، وإنما العذر بالجهل في المسائل الخفية؛ هذا القول باطل مأخوذ عن المعتزلة، ليس عند أئمة السنة. وإن كان التقسيم إلى مسائل أصول وفروع؛ لتسهيل التعلُّم، وتوضيح الأقسام، تقسيم اصطلاحي لا مشاحة فيه طالما لم يبنى عليه حكم، أما أن يبني عليه حكم فيقال هذه المسائل لا عذر بالجهل فيها، ولا تلزم إقامة الحجة الرسالية فيها؛ فهذا القول باطل محدث لا شك في بدعته). قال -رحمه الله-: "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمَن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبيِّن المراد، ولم يعرفه، مثل مَن اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرَى؛ لقوله -تعالى-: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (الأنعام: 103)، ولقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الشورى: 51)، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يدلان بطريق العموم. وكما نُقِل عن بعض التابعين: أن الله لا يُرَى وفسَّروا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22-23)، بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح، أو مَن اعتقد أن الميت لا يعذَّب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164) يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدَّم على رواية الراوي؛ لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف، أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: 52) يدل على ذلك.
__________________
|
#95
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (95) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (15) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165). ونستكمل في هذا المقال النقول عن أهل العلم في مسألة وجوب إقامة الحجة الرسالية، والعذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -عن طوائف من أهل البدع: كالخوارج، والرافضة، وغيرهم-: "وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يُعلَم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. وقد بسطتُ هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ)، مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفِّر العلماء مَن استحل شيئًا مِن المحرمات؛ لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير مِن هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفِّر مَن قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره. والله أعلم" (مجموع الفتاوى 28 /500-501). (قلتُ: وهذا دليل واضح على العذر بالجهل في مسائل التكفير في أحكام الدنيا والعذاب في الآخرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله). وقال -رحمه الله-: "والتكفير هو مِن الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا. وكنتُ دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ). فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغُفِر له بذلك" (مجموع الفتاوى 3/ 231). وقال أيضًا في الرد على البكري: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال" (الرد على البكري 2/ 494). وبهذه النقول الواضحة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مسائل من أصول العقيدة، وفي توحيد الألوهية، والأسماء والصفات تعرف خطأ مَن قال: إن العذر بالجهل مقصور على المسائل التي قد تخفى، مثل: مسائل المعاملات، وبعض شئون الصلاة! وكذلك مَن يجعل الناسَ في نحو مجاهل إفريقيا وغيرها ممَّن دخل في الإسلام وأتي بشيء من الشركيات معذورًا؛ بمعنى أن حكمه حكم أهل الفترة الذين يُمتحَنون في القيامة، كما قد يُفهَم مِن بعض فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية قديمًا، فالظاهر، بل المنصوص عليه مِن كلام أهل العلم: التفرقة بين مَن دخل في الإسلام وصَدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالًا ونطق الشهادتين، وبين مَن لم يدخل فيه أصلًا ممَّن لم تبلغه الدعوة ولم يأتِ بـ"لا إله إلا الله وأصل التوحيد"؛ فالذي دَخَل في الإسلام ونطق الشهادتين وصدَّق الرسولَ صلى الله عليه وسلم إجمالًا عنده أصل الإيمان والدين، والثاني كافر معذور لعدم بلوغ الرسالة؛ فلا يصح أن يجعل الأول من أهل الامتحان وهو قد آمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما وقع فيه مِن الشرك؛ فإن حكمه يسقط في حقه؛ لعذره بعدم بلوغ الحجة الرسالية، ولو كان مُقَصِّرًا في طلب العلم -مع تمكُّنه من ذلك-؛ لكان آثمًا، لكن لا يُعَامَل معاملة الكافر. وأما قضية الخفاء والظهور التي اشترطها بعض مشايخ الدعوة النجدية -كالشيخ: أبي بطين غفر الله له-؛ فإن الظهور والخفاء أمر نسبي، فما يظهر لهؤلاء القوم يكون خافيًا عند آخرين، وما يظهر في هذا البلد يكون خافيًا في بلد أخرى وما يظهر لقوم نشأوا في وسط أهل البدع يختلف عن الذي ظهر لقوم نشأوا في وسط أهل السنة، وإن كنا لا نقصد بأن هذا الأمر نسبي: أن كلَّ الأمور كذلك، فلا يكون فيها مطلق، بل هناك ما يقطع ويقطع كل أحدٍ بانتشاره بين المسلمين، والذي لا يقبل دعوى الجهل فيه إلا بقرينة -كما سبق أن بيَّنَّا-، وذلك مثل: تعظيم القرآن، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الدين عند الله الإسلام، ونحو ذلك مما انتشر علمه بين المسلمين؛ فمن كان ناشئًا اليوم في بلادنا ثم جحد وجوب الصلاة مثلًا أو بعضها -كمَن يفتي بأن الصلوات الخمس ليست واجبة، وإنما تجب صلاة في الصباح وفي المساء-؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأنه مخالف للمعلوم للدِّين بالضرورة الذي انتشر علمه بين المسلمين. وكذلك مَن قال عن أحكام الإسلام في الجلد والرجم والقطع: إنها من نفايات القرون الوسطى الوحشية! أو قال بأن الزنا واللواط طالما كانا بالتراضي؛ فهو من حقوق الناس يجوز لهم أن يفعلوهما إذا تراضوا عليها؛ فلا شك في ردة مَن قال ذلك مِن ساعته؛ لأن الحجة بمثل ذلك قائمة على كلِّ أحدٍ، ولا يتصور خفاؤها. وفي بعض بلاد المسلمين التي انتشرت فيها دعوة التوحيد، والتحذير من شرك عبادة القبور، تكون هذه المسائل منتشرة في تلك البلاد؛ أما في غيرها، فكثير من بلاد المسلمين اليوم ينتشر فيها الجهل والتلبيس بالباطل مِن علماء سوء الذين يلبِّسون على العوام، وخاصة في مسائل الغلو في الصالحين، فيلتبس الأمر عندهم بحب الصالحين بالغلو فيهم وصرف العبادات لهم من دون الله، وكذلك قضية الحكم بالشريعة دون القوانين الوضعية؛ هناك في بعض البلاد -أو كثير منها- تلبيس على الناس في هذا الأمر، ونحو ذلك مما يشك فيه مَن خالط هؤلاء الناس، فلا يمكنه تكفير أعيانهم حتى تبلغهم الحجة الرسالية التي يكفر منكرها. والحجة الرسالية تنقسم إلى أقسام؛ فهناك الحجة التي انتشر علمها فهي مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه يكفر مخالفها، وهناك حجة رسالية قطعية غير معلومة من الدين بالضرورة كالتي انتشرت عند العلماء، لكن لم تبلغ عامة الناس؛ فهذه يضلل مَن خالفها ويبدع ويأثم؛ لأنه خالف أهل العلم وترك سؤالهم وقصر، وهناك حجة رسالية لم يُجمَع عليها وليست قطعية ككثير من مسائل الأحكام، وكل فريق يحتج بحجة رسالية بفهمه لنصوص الكتاب أو السنة، ومع ذلك فلا يضلل ولا يبدع المخالف؛ لأن هذه الحجة ليست قطعية ولا منتشرة العلم، وإنما هي محل اجتهاد. فالمقصود بالحجة الرسالية التي يكفر منكرها: النوع الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، والنوع الثاني إذا علمه صاحبه وأقر بعلمه؛ فهذا الذي يعامل بناءً على ذلك. والله أعلم. وللحديثة بقية إن شاء الله.
__________________
|
#96
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (96) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (16) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165). نستكمل النقول في عن أهل العلم في مسألة شرط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير الشخص المعين إن وقع في شرك أو كفر، إذا لم يكن معلومًا من الدِّين بالضرورة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان -في وجوه تفاضل الإيمان-: "وهؤلاء، يعني مَن معهم إيمان مجمل يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مجملًا، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه مَلَك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصَّل به ولكن لا بد من الإقرار بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صادق في كلِّ ما يخبر به عن الله" (كتاب الإيمان مجموع الفتاوى، 7/ 270). فتأمل -أيها القارئ الكريم-: كيف افترض شيخ الإسلام هذا الفرض البعيد للغاية الذي لا يكاد يوجد حتى في الكفار، وهو: عدم المعرفة بنزول جبريل صلى الله عليه وسلم أو بوجود القرآن؛ فضلًا عما يحتويه القرآن من العقائد والأعمال، فأخبر أن مَن أقرَّ مجملًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدَّقه يُثَاب على ذلك. وقال أيضًا: "وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة؛ مَن كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومَن لم يكن منافقًا، بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن وإن أخطأ التأويل كائنًا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة مِن شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار" (مجموع الفتاوى، 7 /218). وهذا النقل عنه رحمه الله يؤكِّد: أن الثنتين وسبعين فرقة، كلها مِن فِرَق الأمة ومِن أهل القبلة، يُعَاملون كمسلمين حتى الروافض والخوارج؛ إلا مَن غلا مِن الرافضة فألَّه أحدًا دون الله: كالنصيرية الذين يؤلِّهون علي بن أبي طالب، والدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله، أو القائلين بنبوة أحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم: كالبابية والبهائية، أو القائلين بتحريف القرآن! وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله -في وجوه تفاضل الإيمان أيضًا-: "بل قلبه جازم أنه -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك أو يفسَّر له معناه، أو يظهر له بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكِرًا؛ هذا تصديق جديد وإيمان جديد، ازداد به إيمانًا، ولم يكن قبل ذلك كافرًا، بل جاهلًا. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -في كتاب: "كشف الشبهات" تعليقًا على حديث ذات أنواط-: "وهذه القصة تفيد أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التَّعَلُّم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل: "التوحيد فهمناه!"؛ من أكبر الجهل، ومكائد الشيطان. وتفيد أيضًا: أن المسلم المجتهد إذا تكلَّم بكلامِ كفرٍ، وهو لا يدري؛ فنُبِّه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفَّر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم. وتفيد أيضًا: أنه ولو لم يكفر؛ فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (انتهى من كشف الشبهات). وهذه الأخير هو معنى قوله على هذا الحديث في كتاب التوحيد في المسألة السابعة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم"؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وليس المقصود عدم العذر في تكفيرهم، بل عدم العذر في التغليظ عليهم". فهم مقصِّرون يستحقون التغليظ وإن لم يكفَّروا، وظاهر قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات أنه يجعل مسألة التبرك بالأحجار والأشجار -التي طلبها بعض حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة في غزوة حنين- مِن الشرك الأكبر، وهم لم يكفروا؛ لأنهم جهال، وحدثاء عهد بالشرك، وهذا الذي رجَّحه الشيخ حامد الفقي، وهو الصحيح الظاهر حتى لو كان طلبًا من غير فعل؛ لأن طلبَ الكفر والعزم عليه في المستقبل كفر، ولو لم يفعله، وإن كان فعله أشد من مجرد الطلب، ولقد حَلَف النبي صلى الله عليه وسلم على مساواة هذا القول، بقول مَن قال: "اجعل لنا إلهًا"، ولا شك أن هذا القول كفر أكبر. والحقيقة: أن الطلبَ كفر، والعمل كفر، وشرك أكبر، لكن منع مِن تكفير المعينين أنهم حدثاء عهد بالإسلام كما دَلَّ عليه الحديث، حيث قال: "خرجنا إلى حنين ونحن حدثاء عهد بشرك". وهذا النقل الصريح عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يوضِّح لنا مذهبه في مسألة العذر بالجهل، وهو عدم التكفير إذا كان الشخص مثله يجهل ذلك، حتى في مسائل التوحيد؛ خلافًا لمَن يتوهم خلاف ذلك عنه، ويزعم أنه لم يكفِّرهم، ولكن لم يحكم بإسلامهم. وهو قد قال رحمه الله: "وفيه أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواعٍ مِن الشرك لا يدري عنها"، وهذا يدل على أنه يحكم لهم بالإسلام؛ خلافًا لبعض أتباعه ممَّن يزعم أنه لم يحكم بإسلامهم، ونسبوا إليه مسألة مبتدعة لم يقل بها عَالِم؛ أن يُتوقف عن تكفير إنسان ثَبَت إسلامه، وفي نفس الوقت نمتنع عن إثبات حكم الإسلام له؛ فليس بمسلم ولا بكافر؛ فهذا قول محدث باطل، لا يقول به أحدٌ مِن أهل العِلْم. وكذلك صَرَّح في بعض رسائله بالعذر بالجهل حيث قال: "وإذا كنا لا نكفِّر مَن عبد الصنم الذي على قبر البدوي مِن العوام؛ لأجل جهلهم، وعدم مَن ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَن لم يكفِّر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!" (نقلًا عن منهاج أهل الحق والاعتدال، في المجلد الرابع من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود). وهذا الكلام الواضح في أنه لا يكفِّر، ولا يُقَاتِل إلا بعد قيام الحجة، وقد زاد ذلك توضيحًا، فقال رحمه الله: "تكفير مَن بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونَفَّر الناس عنه، وجاهد مَن صَدَّق الرسول فيه، ومَن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِث بإنكاره، وأقر بذلك ليلًا أو نهارًا، ثم مدحه وحسَّنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون؛ لأنهم السواد الأعظم! وأما ما ذكره الأعداء عني: أني أكفِّر بالظن وبالموالاة أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله" (رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 6/ 1-25). وقال رحمه الله: "وأما التكفير، فأنا أكفِّر مَن عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّه ونهى الناس عنه، وعادى مَن فعله؛ فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك" (المصدر السابق، ص 38). وقال رحمه الله: "وإنما نكفِّر مَن أشرك بالله في إلهيته بعد ما نبيِّن له الحجة على بطلان الشرك" (المصدر السابق، ص 60). ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "والشيخ محمد رحمه الله مِن أعظم الناس توقفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر؛ حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له مَن ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها". وهذه النقول كلها تؤكِّد بطلان ما نسبه البعض للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مِن أنه يكفِّر الأمة منذ قرون، أو أنه سببٌ في نشر فكر التكفير بين الناس، وأنه وَقَع فيما وَقَع فيه الخوارج؛ فهذه الأقوال الباطلة لا بد مِن ردِّها عن الشيخ، وكتبه مليئة ببيان مذهبه الموافق للسلف في هذه المسألة؛ فليتقِ الله مَن يطعن في الشيخ بزعم أنه الذي نَشَر فكر التكفير! مسألة مهمة: هل الخلاف في العذر بالجهل: خلاف في العقيدة أم خلاف في أصول الفقه؟ الجواب: أن هذه المسألة يترتَّب عليها تكفيرُ عددٍ هائلٍ مِن المسلمين؛ فهي مِن مسائل الاعتقاد بلا شك، كما أن أصلَ المسألة مأخوذ عن المعتزلة الذين يقولون بعدم وجوب الحجة الرسالية طالما قامت الحجة العقلية، وإن غَيَّر اللفظ بعض المعاصرين فقالوا: "دليل الفطرة!"، وبعضهم يقول: "دليل ميثاق الذر!"؛ فلا يشترطون الحجة الرسالية، ولا شك أن هذه المسألة فرع على التحسين والتقبيح العقليين التي قال بها المعتزلة، وحاكموا الناس إليها دون رجوع إلى ما ثَبَت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذا فالمسألة خطيرة، وليست مجرد خلاف في أصول الفقه في قضايا عوارض الأهلية -كما زعمه البعض!-؛ فإن هذا ليس كذلك، بل هي مسألة عقدية حول تكفير المخالفين مِن أهل البدع، وكذا تكفير مَن وقع في الشرك جاهلًا أو مخطئًا؛ لذلك لا بد من الحذر كما أن التطبيق العملي الذي وَقَع مِن جماعات التكفير لما ظنوه مذهبًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب أو بعض أتباعه؛ أدَّى إلى انتشار فكر خبيث مدمِّر، سُفِكَت به الدماء، وانتهكت به الحرمات؛ فكيف يهوَّن مِن شأن هذه المسألة الخطيرة بزعم أنها ليست من مسائل العقيدة، بل هي كذلك منها، وهي مِن ميراث فكر الخوارج والمعتزلة من الوعيدية. ونكتفي بهذه النقول في هذه المسألة المهمة؛ لعل أن يكون فيها عِبْرَة لمَن اعتبر، وموعظة لمَن تجرأ على تكفير المسلمين.
__________________
|
#97
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (97) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). إن الدعوة إلى الله، وتوحيده وعبادته، والبراءة مِن كلِّ ما يُعبَد مِن دونه هي تكميل واجب لعقيدة المؤمن؛ طالما قدر على شيء من هذه الدعوة، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وهذا المعنى العظيم قد وضَّحه وبيَّنه كلُّ الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في دعوتهم وقيامهم بهذه المهمة العظيمة؛ التي بها يحافظون على أنفسهم ودينهم وهويتهم مما يُرَاد بها مِن تلبيس وطمس وتغيير؛ يريده الشيطان وأتباعه، كما توعَّد بني آدم فقال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119). وأشد هذا التغيير: تغيير الملة من الحنيفية إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ... ) (رواه مسلم). وقد قام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب في جميع مراحل حياته، وفي كلِّ مكان نَزَل به؛ فمنذ كان فتى شابًا؛ دعا أباه وقومَه إلى الله وحده، وعبادته، وأظهر البراءة مِن ضلالهم وشركهم، وعبادتهم غير الله، ثم لما ذهب إلى مصر دعا إلى الله عز وجل، ولما ذهب إلى الشام وأقام بها في القدس دعا إلى الله عز وجل، ونشَّأ أولاده وأحفاده وأهله على توحيد الله سبحانه وتعالى. ولما أمره الله عز وجل أن يعمِّرَ مكة، عمَّرها على توحيد الله سبحانه وتعالى والبراءة من الشرك، وبنى بيته الحرام على ذلك، ووَرَّث أبناءه هذا الإسلام الذي جدَّده الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمله الله عز وجل لنا وارتضاه لنا دينًا، فاللهم لك الحمد كما تقول وخيرًا مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وإلى تفسير الآيات ثم فوائدها. قال ابن كثير رحمه الله: "قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارح. رواه ابن أبي حاتم. (قلتُ: هذا أثر ضعيف منقطع؛ فإن الضحاك لم يلقَ ابن عباس). وروى بسنده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني بآزر: الصنم، وأبو إبراهيم اسمه: تارح، وأمه اسمها: مَثَانِي، وامرأته: اسمها سارة، وأم إسماعيل اسمها: هاجر، وهي سرية إبراهيم. وهكذا قال غير واحد من علماء النَّسَب: إن اسمه تارح. وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم. قلت: كأنه غلب عليه آزر؛ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم. وقال ابن جرير: وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه: معوج" ولم يسنده ولا حكاه عن أحدٍ. وقد قال ابن أبي حاتم: ذُكِر عن معتمر بن سليمان، سمعتُ أبي يقرأ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال: بلغني أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم -عليه السلام-. ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النَّسَّابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثيرٍ مِن الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. (قلتُ: ونحن لا يلزمنا قول النَّسَّابين الذين لا يعتمدون على أسانيد بينهم وبين زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإنما هي حكايات أخذوها عن أهل الكتاب الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما لم يَرِد فيه عندنا عِلْم من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس منه؛ لأن الكتاب قد نَصَّ على أن إبراهيم قد كَلَّم أباه آزر في المواضع المختلفة، فيجب التسليم لذلك، وعدم معارضته بقول النَّسَّابين). واختلف القراء في أداء قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني، أنهما كانا يقرآن: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرُ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) معناه: يا آزرُ، أتتخذ أصنامًا آلهة؟! وقرأ الجمهور بالفتح؛ إما على أنه عَلَم أعجمي لا ينصرف، وهو بدل من قوله: (لِأَبِيهِ) أو عطف بيان، وهو أشبه. وعلى قول مَن جعله نعتًا لا ينصرف أيضًا: كأحمر وأسود؛ فأما مَن زعم أنه منصوب؛ لكونه معمولًا لقوله: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا) تقديره: يا أبت، أتتخذ آزر أصنامًا آلهة؛ فإنه قول بعيد في اللغة، فإن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله؛ لأن له صدر الكلام، كذا قرَّره ابن جرير وغيره. وهو مشهور في قواعد العربية. والمقصود: أن إبراهيم عليه السلام وَعَظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها، ونهاه فلم ينتهِ، كما قال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) أي: أتتأله لصنمٍ تعبده من دون الله؟! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) أي: السالكين مسلكك (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: تائهين لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيِّنٌ واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ سليمٍ. وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 41-48)، فكان إبراهيم عليه السلام، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبيَّن إبراهيم ذلك؛ رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114). وثبت في الصحيح: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم (يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ -ضبع- مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ). وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
#98
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (98) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: نبيِّن له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل، في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، كقوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يُونُسَ: 101)، وَقَالَ: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الْأَعْرَافِ: 185)، وَقَالَ: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سَبَأٍ: 9). فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعَطاء، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا -وَاللَّفْظُ لِمُجَاهِدٍ-: فُرِجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ -وَزَادَ غَيْرُهُ-: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِبَادِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيَدْعُوَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، عَنْ مُعَاذٍ، وَعْلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فَإِنَّهُ -تعالى- جَلا لَهُ الْأَمْرَ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَرَدَّهُ اللَّهُ -كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ- فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ، حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: (أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ … ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وَقَوْلُهُ: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: "الْوَاوُ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الْأَنْعَامِ: 55). وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيْ نُرِيهِ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَالِمًا وَمُوقِنًا. وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَيْ: تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ (رَأَى كَوْكَبًا) أَيْ: نَجْمًا، (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أَيْ: غَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: "الْأُفُولُ" الذَّهَابُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ يأفلُ ويأفِل أُفُولًا وأفْلا إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُها نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ قَالَ: (قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ) قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) أَيْ: طَالِعَا (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ: هَذَا الْمُنِيرُ الطَّالِعُ رَبِّي (هَذَا أَكْبَرُ) أَيْ: جِرْمًا مِنَ النَّجْمِ وَمِنَ الْقَمَرِ، وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً. (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أَيْ: غَابَتْ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أَيْ: أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. (حَنِيفًا) أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ، حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ النَّمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ، لَمَّا أنْ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُودٍ يَكُونُ ذَهَابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عامئذٍ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا، ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ -كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ-. وَالْحَقُّ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ؛ فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى، وَزُحَلُ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ؛ فَبَيَّنَ أَوَّلًا: أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الْأَعْرَافِ: 54)" (انتهى من تفسير ابن كثير). قلتُ: والذي اختاره ابن كثير -رحمه الله- مِن أن إبراهيم عليه السلام كان مُنَاظِرًا لقومه، يقيم عليهم الحجة وليس ناظرًا باحثًا عن ربه -سبحانه-؛ هو الصواب؛ فهو كان يقول ذلك تعريضًا لإقامة الحجة على قومه. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
#99
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (99) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (3) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قال ابن كثير رحمه الله بعد أن رجَّح أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان مُنَاظِرًا لقومة، وليس ناظرًا باحثًا عن الله: "وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ . إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (الأنبياء:51-52) الآيات؟! وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123)، (قلتُ: الاحتجاج بالآيتين ظاهر؛ لأن الله نَفَى عن إبراهيم أن يكون كان مِن المشركين؛ فَدَلَّ ذلك على أنه مِن أول أمره على رُشْدٍ، ولم يكن مِن المشركين قط على عموم الآية)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161). وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ)، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -تعالى-: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ)، وقال الله في كتابه العزيز: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: 30)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (الأعراف: 172)، ومعناه على أحد القولين كقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) -كما سيأتي بيانه- (قلتُ: القولُ الذي ذكره ابن كثير في أمر الميثاق أنه الفطرة؛ ليس صحيحًا، بل الصواب -الذي عليه السلف جميعًا-: أنه هناك ميثاق أخذه الله عز وجل على جميع بني آدم حين أخذهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأخذ عليهم أن لا يشركوا به شيئًا، ومِن ضمنهم إبراهيم كما دَلَّ عليه العموم، وأَثَر هذا الميثاق هو الفطرة، وليس أن الميثاق هو الفطرة؛ لمخالفة ذلك لظاهر القرآن والسنة، بل لنصهما). قال: فإذا كان هذا في حقِّ سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم- الذي جعله الله (أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ناظرًا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا شك، ولا ريب. ومما يؤيِّد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرًا: قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 80). يقول -تعالى- عن خليلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين جادله قومُه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بِشُبَه من القول أنه قال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بَصَّرَني وهداني إلى الحق، وأنا على بينةٍ منه؟! فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟! وقوله: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: ومِن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه: أن هذه الآلهة التي تعبدونها؛ لا تؤثِّر شيئًا، وأنا لا أخافها، ولا أباليها؛ فإن كان لها صنع، فكيدوني بها ولا تُنظِرون، بل عاجلوني بذلك. وقوله -تعالى-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) استثناء منقطع؛ أي: لا يضر ولا ينفع إلا الله -عز وجل- (قلتُ: (إِلَّا) بمعنى لكن، أي لكن إن شاء ربي شيئًا مِن الضرر؛ فعندئذٍ يقع ذلك). (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أي: أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا يخفى عليه خافية. (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: فيما بيَّنته لكم، فتعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود -عليه السلام- على قومه عاد، فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:53-56)، وقوله: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) أي: كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدون من دون الله، (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قال ابن عباس وغير واحد من السلف: أي: حجة، وهذا كقوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (النجم: 23). وقوله: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)أي: فأي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد مَن بيده الضر والنفع أو الذي عبد مَن لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟! أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة؟! قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا؛ هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. روى البخاري عن عبد الله، قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) (قلتُ: أي: نزلت أن يجيبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالآية التي كانوا يعلمونها قبل ذلك، كما دَلَّت عليه الروايات الأخرى في الصحيحين، وغيرهما). وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ على الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ كما تظنون، إنما قال لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وروى عن عبد الله بن مسعود: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فنزلت: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (رواه البخاري)، وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: (ليس بالذي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ)، ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعًا قال: (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال: "بشرك". وقال وروي عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأُبَي بن كعب، وسلمان، وحذيفة، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغير واحد، نحو ذلك. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
#100
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (100) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (4) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال ابن مردويه بسنده عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قيل لي: أنت منهم" (قلتُ: هذه فضيلة عظيمة لابن مسعود -رضي الله عنه-). وروى الإمام أحمد بسنده عن جرير بن عبد الله قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا -(قلتُ: أي: يسرع نحونا)-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ. فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أريدُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَدْ أَصَبْتَهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ: ثُمَّ إن بَعِيرَه دَخَلَتْ يَدُهُ فِي جُحْرِ جُرْذَان، فَهَوَى بِعِيرُهُ -(قلتُ: أي: في جحر فئران فسقط بعيره)- وَهَوَى الرَّجُلُ، فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُبِضَ الرَّجُلُ! قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ أَخَاكُمْ. قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ، فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِير الْقَبْرِ، فَقَالَ: الْحِدُوا وَلَا تَشُقُّوا، فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا"، ثم رواه أحمد بنحوه، وقال فيه: "هذا ممَّن عَمِل قليلًا، وأجر كثيرًا". وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ سَارَهُ، إِذْ عَرَضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَتِلَادِي وَمَالِي لِأَهْتَدِيَ بِهُدَاكَ، وَآخُذَ مِنْ قَوْلِكَ، وَمَا بَلَغْتُكَ حَتَّى مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِر الْأَرْضِ، فاعْرِضْ عَلَيّ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَبِلَ، فَازْدَحَمْنَا حَوْلَهُ، فَدَخَلَ خُفُّ بَكْرِهِ -(أي: بعيره)- فِي بَيْتِ جُرْذَان، فَتَرَدَّى الْأَعْرَابِيُّ، فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَدَقَ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَتِلَادِهِ وَمَالِهِ لِيَهْتَدِيَ بِهُدَايَ وَيَأْخُذَ مِنْ قَوْلِي، وَمَا بَلَغَنِي حَتَّى مَا لَهُ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِي عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا هَذَا مِنْهُمْ! أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُمْ. وفِي لَفْظٍ قَالَ: "هَذَا عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا". وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ. وَسَكَتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَهُ؟ قَالَ: (أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). وَقَوْلُهُ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) أَيْ: وَجَّهْنَا حُجَّتَهُ عَلَى قَوْمِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)؛ قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ)، وَبِلَا إِضَافَةٍ (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ -(قلتُ: أي: فيها أيضًا القراءتان بالإضافة وبالتنوين)-، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، (عَلِيمٌ) أَيْ: بِمَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ يُضِلُّهُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) (يونس: 96، 97)؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). ثم ذكر -تعالى- أنه وَهَب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ "سَارَةُ" مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هُودٍ: 72، 73)، فَبَشَّرُوهما مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وَعَقِبَا، كَمَا قَالَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصَّافَّاتِ: 112)، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هُودٍ: 71) أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ"، الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَحَ عَنْهُمْ وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (مريم: 49)، وَقَالَ هَاهُنَا: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا)" (تفسير ابن كثير، 3/ 297).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |